​​​​​​​​​​​​​​​​​
ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008 م”أو هكذا تكلم المسرحيون -2-70- نوري عبدالدائم
*****************​​​​*********************​​​​​

أحمد إبراهيم الفقيه ودراما التمرد على الرتابة
بقلم / د. حسن عطية

“تتميز هذه المسرحية بقدرتها على صياغة رؤية صريحة لموقف الكاتب من مجتمعه وميراثه الثقافي والسياسي ،
كما تتجلى فيها ثقافته الغربية ، خاصة فيما يتعلق بالاداب والاساطير الاغريقية”
تشكل اعمال الكاتب الليبي د. احمد ابراهيم الفقيه ثورة ضد الرتابة بكل اشكالها ، بداية من رتابة
الحياة الزوجية اليومية المتكررة السلوك والممارسات ، ورتابة الحياة الوظيفية ، مملة الافعال ، مرورا برتابة
العادات والتقاليد التي تخضع المنصاع لها للموت البطيء داخل شرنقة مجتمعية شارك هو في صنع خيوطها، وصولا
لرتابة الكتابة ذاتها في بنيات مسرحية متشابهة الصياغة منمطة الحركة والنهايات .
لذا لا نجد في اعماله المسرحية صيغة واحدة ثابتة يعبر من خلالها عن افكاره ، بل هو دائم التنوع بين
المسرحية القصيرة والطويلة ، بين المونودراما والمسرحية متعددة الشخصيات ، بين الدراما التقليدية والاوبريت
والقصيد المسرحي ، بل انه لا يكتفي بهذا بل تتعدد نصوصه الدرامية بين اعمال ذات شخصيات واجواء عربية – وهذا
طبيعي لكونه كاتبا عربيا – واعمال ذات اجواء وشخصيات اوروبية ، انجليزية في الاساس، وهو ما يثير الجدل حول
طبيعة هذه الاعمال ومبررات كتابتها ، فالعيش في انجلترا لسنوات طوال ، هل يبيح للكاتب العربي ان يكتب نصوصا
على غرا ر اعمال هارولد بينتر ، ولويز بيج ، وغيرهما من ابناء المملكة المتحدة لتعرض على مسارح لندن العتيقة
، ام الجمهور الانجليزي بحاجة ، والغربي عامة ، بحاجة لكي يرى ، اذا واتته الفرصة لكي يرى ، على مسرحه اعمالا
يعبر بها كاتبها العربي عن هموم مجتمعه العربي ، او على اقل تقدير عن همومه كعربي في بلاد الضباب ، وعلاقة
التجاذب باعماقه بين ميراثه الخاص وميراث حاضر المجتمع الذي يعايشه ويقدم اعماله في فضاء مسرحه ؟
تتراوح ايضا نصوص د. احمد الفقيه الدرامية من حيث اماكن سريان وقائع احداثها بين غرف المكاتب الخاصة
والعامة ، غرف الاستقبال ، خاصة في النصوص الدائرة في انجلترا ، والحقول والخلاء الصحراوي في النصوص التي تدور
احداثها في المنطقة العربية ، اتساقا في كل منها بطبيعة كل مجتمع وعاداته الخاصة ، كما انه ، أي المكان ،
يرتبط بالضرورة بطبيعة الحدث الدرامي الجاري داخله ، والذي يتخلق بسببه ، فثمة علاقة وثيقة بين الحدث الدرامي
ومكان حدوثه ، تجعل للموضوع و حدثه ، بناءه المكاني الخاص به.
مفتاح الشفرة
من الممكن اعتبار نص ( صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئا) المكتوب في صيغة المنولوج الدرامي ، الحامل لرؤية
شخصيته الوحيدة ، احادية الصوت ، في تناغم تام بين البنية والمحتوى ، من الممكن اعتباره مدخلا لعالم الكاتب
ومفتاح فك شفراته ، فهو يكتب في هذا النص عن نفسه ، في الوقت الذي سعى جاهدا للانفلات من ذاته لتعميم شخصياته
وهمومه ، يذكر اسمه كبطل لهذا النص ، الذي يختلط فيه الحلم بالوهم ، لحساسة الموضوع المطروح وشفافية احالته
الى الواقع المعيش ، يمنح الكاتب الاصلي اسمه لشخصيته المبتدعه في مفارقة ساخرة ، فهو لا يجعل شخصيته
المبتدعة في الظاهر بوقا له Raisonneur او ممثلا شخصيا له يمجد خصاله ويمتدح افعاله ، بقدر ما يسخر في
الظاهر منه ويخبيء في سخريته اللاذعة رأيه في هذا الجدل الذي دار في الوطن العربي عقب فوز” نجيب محفوظ”
بجائزة نوبل للاداب عام 1988وانفجار الحلم لدرجة الهوس بحصول عربي آخر على هذه الجائزة ، وتمتد سخريته من
المهووسين على خط يبدأ من الشخصية المبتدعة ، والمسماة باسم مبدعها ، والتي لا تصل لقامة محفوظ ، لكونه وفق
ما يذكر عنوان النص ذاته “كاتب لم يكتب شيئا ” ، ويصل الخط في امتداده لشخصية شاعر يلقبه الكاتب المبتدع
باسم ” كعبورة ” ويصفه بانه “رجل لا امان له” و” اسمه في الصحافة العربية لا يذكر الا مقرونا بهذه الجائزة ”
التي يصر على الحصول عليها باية طريقة ، وكاتبنا الاصلي لا يترك امر الابداع الساخر من تعلق بعض من المنتسبين
الى مجاله بالجائزة الدولية ، فيقوم بجلد النقاد انفسهم بسوطه اللاذع ، فيسخر بلسان شخصيته المبتدعة من ناقد
يكتب بحثا عن اعماله من منظور سيكلوجي ، كشف فيه كمون عقدة او مركب اوديب في لاوعي كاتب تلك الاعمال ، مما
يحرم كاتبنا المبتدع من رضاء والديه ، ويكشف في الوقت ذاته عن ان سخرية الكاتب الاصلي من شخصيته المبتدعة ،
ليست الا سخرية ظاهرية وقناعا خارجيا يتماهى خلفه في شخصيته المبتدعة، فهي بعض منه ، تحمل رؤيته للعالم وتجسد
وضعيته ككاتب عربي على ارضه ووسط ميراثه الثقافي ، وان عملية منح اسمه للشخصية المبتدعه ليست الا من قبيل درء
هجوم زملاء المهنة الذين سيتهمونه بالتجاوز والسخرية من مبدع مثله يرى ان له الحق قبل او مع او حتى بعد نجيب
محفوظ ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، فعملية منح الاسم الحقيقي للشخصية المبتدعة ، بل وصفات تاريخية
وحياتية منها ، تساعد على تحقيق عملية نقد حادة للمجتع في صورة نقد ساخر للذات ، ويبدو العنوان الذي تحمله
المسرحية ، كما سنرى حالا ، ليس اتهاما للكاتب بقصور موهبته عن الابداع ، بل اتهاما صريحا للمجتمع الذي حاصر
هذا الكاتب وفرض عليه بعاداته وتقاليده ومنظوره الرقابي ، العجز عن الابداع ، ومن ثم يبدو العنوان مضللا او
ناقصا لكلمة ترادف العجز او عدم القدرة ، كأن نقول ” صورة جانبية لكاتب لم يستطع ان يكتب شيئا ” ومن ثم يتم
توسيع مساحة الادانة لتشمل الكاتب المقموع والمجتمع القامع له .
تدور وقائع الحدث الدرامي لهذا النص داخل بناء احادي الصوت ، يتمحور حول شخصية كاتب تمت مصادرة
حريته في التواصل ـ عبر الكتابة ـ مع مجتمعه ، يتخيل عالما وهميا ويستدعي امامنا شخصيات ابتدعها او عرفها في
الحياة، ملونة برؤيته هو ، ومجسدة عبر مخيلته ، وتجري الوقائع داخل غرفة مكتبة هذا الكاتب الذي يعيش بمفرده
بشقة متواضعة ، يعمل بالنهار، حينما كان يعمل موظفا بوزارة الاوقاف ، تيمنا بنجيب محفوظ ، ويطارده بالليل
هاجس الحصول على جائزة نوبل مثله ، وينام على اريكته بتأثير البحث المستغلق الذي كتبه ناقد عن اعماله ،
ويستيقظ على رنين جرس التليفون ، وحينما يرفع سماعته ينبهه الطرف الاخر بحصوله على الجائزة في دورةعام الاحداث
، يرتعب من هذا الخبر الذي قد يجلب عليه المتاعب ، لعدم فوز الشاعر كعبورة بها ، الذي يمثل به الكاتب الاصلي
، كل من ادعى ،على غير الحقيقة ، احقيته في الجائزة الدولية ، فضلا عن الاحالة الى شخصية شاعر حقيقي اثار ضجة
وقتداك حول الجائزة ، ورعبا من الموقف المثير يلقى الكاتب بنفسه من النافذة، لنفاجأ بعد قليل انه ما زال
نائما على اريكته ، وان ما سبق لم يكن اكثر من كونه حلما ، يستيقظ منه ليعيشنا في عالم وهمي لا يختلف كثيرا
عن سابقه ، بل ويعترف انه يملك ” خدما وهميين ، وشخصيات وهمية ، واتعامل مع عالم وهمي لا وجود له الا فوق
الورق ” وهو وهم اجبرته الايام على صنعه ، غيرانه سرعان ما ينفض عنه وهم الخدم بالقيام بنفسه باعداد ما
يحتاجه ، ووهم الجائزة بالتسائل عما اذا كانت قد انتهت كل المشاكل ولم تبق الا اوهام جائزة نوبل ، مؤكدا على
ان على الكاتب ( العربي ) اساسا ” ان يؤلف كتبا (ذات قيمة) قبل ان يحلم بالفوز بهذه الجائزة” لكن كيف له ان
يكتب هذه الاعمال ذات القيمة في مجتمع مصادر لكل ابداع حقيقي ، وخالق الرعب في افئدة مبدعيه ، هنا يبدأ مسار
البوح في التغير ، عبر نزع قناع السخرية من الذات بهدف نقد المجتمع ، فقد تعلم كاتبنا في مدرسة داخلية ذات
قواعد صارمة ، ونما وعيه في ظل نظام له عيونه المراقبة ، خاصة فيما يتعلق بالرأي ، ولا يسمح بالكتابة العلنية
، حينما يدخل مجال الابداع ، الا في مجال الاغاني الوطنية الحماسية ، فهرب بداية للكتابة السرية بعيدا عن
العيون ، ثم رضخ للامر الواقع فابتعد عن معالجة الواقع وقضاياه ، ليتعلق بالاساطير الاغريقية ، يحاكم في سديمها
آلهة الاولمب بدلا من محاسبة الهة وطنه ، فتصير الكتابة عن الاخر ، تعويضا ابداعيا عن عدم القدرة على الكتابة
عن بؤس الواقع ، ويضحى الابداع في النهاية بؤسا كالعدم ، والعدم بالتالي لا ياتي باية جائزة دولية ، وهو عدم
لم يات نتيجة لغياب موهبة بقدر ما هو نتاج تربية مجتمعية تصادر فيها السلطة لمرتعبة كل ابداع لا يسير على
قضبان عرباتها، وتقف في وجه كل مثقف يريد ان يتحدى واقعه بخلق واقع افضل ويوتوبيا اكثر تنويرا وعدالة ، يقهر
بها ” عالم العادة والروتين والبشر الملتصقين بالارض ” ولذا يضعنا مونولوج المسرحية الطويل امام حادثة ذات
دلالة ، يسردها امامنا الكاتب ليكشف عن دلالتها شديدة القسوة ، وذلك حينما حاسبه احد الرقباء على كتابته
عنوانا مثيرا هو الشفق الاحمر لاحدى قصصه ، وكانت اول مرة يعرف فيها عواقب مغامرة الكتابة ، ويحاسب على عشقه
لفن الكتابة كفن مغامرة لتحدي ظلمة العالم وطرح افكار مغايرة لما هو سائد ومتسيد ، وهو لا يعارض الرقيب ،
فقد تعلم مراوغته ، بل يطلب منه ان يمنحه لائحة بما هو مقبول ومرفوض ، او حتى يوافق على ان يلتزم الصمت ،
والرقيب يرفض لانه يعرف انه كاتب مراوغ ، فهو يقول عن نفسه انه مهادن للواقع ، ومع ذلك يعلن انه محروم من ”
رضاء النقاد والحكام والرقباء والمخبرين ” واضعا الكل في سلة واحدة ، هي سلة سلطة الانظمة والقواعد المقننة
المناوئة لابداعه المتمرد عليها ، وما ان يغيب الرقيب المتخيل حتى يواجه الكاتب نفسه معلنا ان مشكلته ليست
مع رقيب قائم خارجه ، وانما مع ميراث القمع الذي يحمله بداخله ، وموافقته السابقة عليه جعلته يمارس اذلال
ذاته ويؤسس الرقيب باعماقه ، ويقبل رتابة الحياة وافكارها لمتخثرة دون ثورة .
يلد الحلم وهما يحاصره ، وتخلق الشخصية المبتدعة شخوصا تحاكمها ، فتهبط على الكاتب احدى شخصيات اعماله
الابداعية ، هي جميلة بطلة عمله حقول الرماد ، امراة طاردتها قريتها التي ” تأكلها املاح الصحراء ، وتملاها
اكداس القبح ، وتجلدها رياح القبلي ” لجمالها الفاتن ، واحبها فتى وسيم خططت للهروب معه ، غير ان الكاتب ،
خالق هذه الشخصية ، ابى ان ينقذها ، وكشف خطة هروبها ، فكيف له الخلاص وهي بعض منه ، بعض متميز وكأنها جالاتيا
التي صاغها بيجماليون ، كما كان يود ان تكون كل نساء العالم ، فوقع في غرامها ، وبدلا من ان يحررها من اسر
مجتمعها ، منع عنها كل الرجال في القصة ، فتجلت له في واقعه المتخيل ، لذا قرر ان يمتلكها بالزواج ، واقام
لها بخياله عرسا بدويا ، لكنها تفر منه كواحدة من بنات افكاره، ويعاود الرقيب الظهور ، فيعلن كاتبنا رفضه له
، ويقدم مرافعة عن نفسه لهيئة محكمة وهمية ، ضد الرقيب ، ممثل ” القوانين والاعراف والتقاليد والقيم التي
عينه المجتمع حارسا عليها وفرض على الكاتب عدم الحديث في السياسة والدين والجنس وعدم التعرض لقضايا الصراع
المختلفة وقبل هو هذا ، ورضي بان يكون تابعا للرقيب ، ولم يتمرد عليه في مجال الكتابة ، بل قرر ان يتمرد
فقط لحظة تدخله في حياته الشخصية ، ورفضه للزواج بالشخصية الوهمية التي ابتدعها ، لذا وقف يترافع امام
المحكمة الوهمية ، لكن سرعان ما يقذف به خارج القاعة ، لينال عقابه على التمرد ، ويعود قابلا لشروط السلطة ،
ان يكتب ممجدا لها ، سارقا اشعار غيره ، ومحورا اياها كي تتلاءم مع الشروط الموضوعة خارجه ، الا ان بعضا من
شخصيات قصصه التي ابتدعها تهاجمه ، خجلة من الانتساب اليه ، ومتهمة ايه بانه جعلها في موضع السخرية من
الشخصيات القصصية الاخرى ، وانه لم يتصد للرقيب ، لذا فهو يصرخ فيها انه كاتب احب وطنه ، ولكن قوى الظلام وقفت
له بالمرصاد ، وانه سيكشف لهم عن اسماء الذين يديرون المؤسسة الظلامية ، مغتالة العقل ، وقاتلة الفكر والابداع
، ولكن ما ان يبدأ في ذكر اول الاسماء حتى تعلو ضجة الموسيقى ، وتخف الاضاءة وتبدا الستارة في الانغلاق ، فيهرب
من تلك القوى التي تمتلك المسرح الذي يقدم عليه شهادته ، الى الجمهور المشاهد ، طالبا منه عدم الخوف ،
والوقوف معه ليكشف هذه المؤسسة الظلامية ، غير ان المتوقع من هذا الجمهور المتلقي ، وفق تربيته الجمالية
والمجتمعية ، ان يتركه وحده في ظلمة المسرح ، عائدا لبيته ، مفكرا فيما آل اليه حال نموذج لكاتب مثقف ، قبل
ما سن له ، فسقط بين براثنها .
تتميز هذه المسرحية بقدرتها على صياغة رؤية صريحة لموقف الكاتب من مجتمعه وميراثه الثقافي والسياسي ، كما
تتجلى فيها ثقافته الغربية ، خاصة فيما يتعلق بالاداب والاساطير الاغريقية ، بينما يحاول في مسرحيته التالية (
لعبة الرجل والمرأة) المكتوبة بالعامية المصرية ، ان يختبر مدى تأثير المصادر الثقافية الشعبية المصرية على
موضوعه وعمق نظرته اليه “ومن ثم يجري وقائعها بغرفة مكتب بادارة السجل المدني باحد احياء القاهرة ، وفيما
بين تسجيل المواليد والوفيات ، في الزمن الصعب ، تظهر شخصية متمردة اخرى على واقعها المتختر ونظام حياتها
الرتيب ، انه ” اشرف ” المتزوج من ” امينة ” والذي يعمل معها بنفس مكتب تسجيل المواليد بالسجل المدني ،
وكسرا لملل الحياة الممتد من البيت الى العمل ، يتفقان على(تخيل) ان كلا منهما مجرد زميل للآخر ، ولكل منهما
حياته العائلية المختلفة ، بل ان اشرف يبيح لنفسه الحديث عن (الزوجة) باعتبارها هما لابد له من الخلاص منه
بسبب رتابة الحياة معها ، وان يتزوج عقب طلاقه منها من زميلته بالعمل ، والتي هي في الحقيقة زوجته في الواقع
، لكنها لعبة الخيال لتجاوز روتين الواقع ، فهو يرفض الخضوع ل ” هوس التقاليد القديمة وتقديس القوالب
الجامدة باسم العقل والمنطق والحكمة” يفكر في ان يكون للناس ( يوم للجنون ) ويوما يتحرر فيه الانسان من كل
قيد ، وهو كاتب قصص ـ ايضا ـ غير مقبولة في مجتمعه ، يرى ان الكتابة هي ” تعويض مرضي عن الحياة الحقيقية
اللي بنعرفش نعيشها” وان الاحلام هي ” تعبير عن الرغبات اللي بنكتمها ونقفل عليها جوانا ” لذلك يفضل ان يحول
حياته العملية لحلم كبير ، ولا يكتفي بالاتفاق مع زوجته للعب دور الزميلة المعشوقة في مقر العمل ، بل يتفق
ايضا مع امرأة تأتيه كل يوم ليستخرج لها شهادة ميلاد لابن وهمي لم تلده ، كي تتيح له فرصة مغازلتها امام
زميلته / زوجته ، غير ان موت زميلهما المختص بتسجيل الوفيات ، واسناد هذه المهمة اليهما ، يؤدي لتغيير نظرة
الزوج ” اشرف ” للحياة واللعبة التي يلعبانها في المكتب ، فيقرر انهاء دور المرأة الباحثة عن شهادة ميلاد
لابنها الوهمي ، ليجعلها تطلب له شهادة وفاة بسبب وفاته في الحرب ، كم يبدأ مع ” امينة ” لعبة عكسية ، يعرض
فكرة ان تتزوج هي من آخر ، صاحب شركة استيراد فراخ ، ويتزوج هو مرة اخرى ، ارملة شابة تترددعلى المكتب بعد
ان ورثت عمارة من زوجها الكهل المتوفى ، بدلا ايضا من فكرة الطلاق القديمة بينهما ، لينتقلا لحياة اجتماعية
ارقى واكثر ثراء مما هي عليه حياتهما الان ، فتجديد زواجهما الان لا يعني سوى تجديد نفس الاوضاع الاقتصادية
المتردية التي يعيشان فيها، اما اللعبة الجديدة ، فهي تنقلهما لحياة افضل ، يعيش كل واحد منهما سنوات داخلها
، حتى يملا رتابتها فينفصل كل واحد منهما عن رفيقه ، ويعاودان الزواج في وضع اكثر استقرارا ، بعد ان يحصلا على
غنيمة الشركة والعمارة ، ولكنهما فجأة يكتشفان انهما لم ينجبا بعد ـ وغياب الاولاد لا يجعل لمغامرة الطلاق دلالة
قوية ـ فيقررا ممارسة الحب في المكتب ، ولكن تدخل عليهما مجموعة تريد استخراج شهادة ميلاد لولي من اولياء الله
قد ولد وجاء ليصلح حال الدنيا بعد ان انتشر فيها الفساد، واخرى تريد شهادة وفاة لمهندس كباري قد مات بعد ان
عمر المدن ، تتعارك المجموعتان، ويهرب اشرف وامينة عبر النافذة لبيتهما لانجاب الطفل ، بعيدا عن هذا العالم
الذي ماتت فيه الحضارة الهندسية وبزغت فيه انوار الفكر الميتافيزيقي .
اجواء انجليزية
بالتناظر مع هذا العالم المغلق على ذاته ، المحتضن للوهم في العالم العربي ، يجري د. احمد الفقيه ، وقائع
مسرحياته الانجليزية البناء الدرامي ، صياغة وموضوعات وشخصيات ، الانسانية الدلالة ، داخل حجرات الاستقبال
المغلقة بدورهاعلى شخصيات تعيش ايضا العزلة والوهم ، تنتظر مصيرها الذي صنعته بايديها ، فالارملة ” اليزابيث
” التي تترأس مجلس ادارة شركة اسسها زوجها رجل الاقتصاد ، وتشرف على ملاجيء ايتام ، وتعيش مع ذلك بمفردها مع
خادمتها الوحيدة ” مارثا ” في بيتها القريب من شاطيء البحر ، تتوقع كل مساء ، داخل غرفة الاستقبال منذ نحو
العام ، الرجل الذي يطرق باب بيتها دون ان تفتح له ، غير انها قررت هذا المساء ان تحطم سياج الانتظار ، وان
تفتح بابها له للاحتقال بيوم ميلاده الموافق لهذا اليوم االذي تدور فيه وقائع المسرحية ، فتأمر خادمتها بازالة
التراب عن شجرة عيد الميلاد وانارة مصابيحها المبهجة ، كما تضع السيدة بنفسها زهورا جديدة بالمزهرية ،
انتظارا لهذا الطارق اليومي على بابها ، كلما حلت الظلمة ، والذي تتابع معرفة المعلومات المتوقعة عنه بقراءة
صفحة الحظ في جريدة المساء يوميا ، فهي تعرف انه مجرم تطارده سلطات الامن ويبحث عن مخبأ ، وحينما تستقبله
بمفردها ، نعرف انها تعرفه جيدا ، انه الفتى دونالد الذي تلقته رضيعا بعد موت امه ، وارضعته من صدرها ، ثم
القت به للحياة الصعبة حينما حل موعد فطامه ، فحوله الشارع لمجرم يقتل الابرياء ويصنع الايتام للطيبة الحنون ،
فهو صنيعها المؤتمر باوامرها ، لذا فقد اتي هذه الليلة ليقتلها مثل الاخريات ، فاللعبة العبثية العابثة تأكل
لاعبيها ايضا.
وفي مسرحيته التالية ( صحيفة الصباح) يقدم لنا عائلة انجليزية اخرى ، تتكون من زوج وزوجة عجوزين ، يعيشان
داخل عزلتهما الاجتماعية والنفسية بغرفة استقبال تقليدية ، وفي اجواء باردة ، يحاولان ان ينتصرا عليها باشعال
مدفأة الحائط القديمة التي تعمل بالحطب ، ورغم ان الرجل يتمرد على تناول طعامه بشكل روتيني ، رغم ان هذا
الطعام كان وجبتهما اليومية المفضلة في بداية حياتهما الزوجية ، فانه يمارس روتينا آخر دون ملل، وهو قراءة
صحيفة الصباح في الموعد نفسه وبالترتيب نفسه ، والذي نكتشف انه روتين التمسك بالماضي الذي ضاع في ظلمة النظر
الضائع ، والحرص على تثبيت الفعل القديم في ذاكرة الحاضر بشكل عبثي ، فالرجل ضرير منذ خمسة عشر عاما ، ومع
ذلك فهو مصر على ان يقرأ الجريدة يوميا ، فلا تملك الزوجة غير استعادة النسخة التر قرأها، واعادة وضعها في
نفس المكان المعتاد امام عتبة الباب ، ليلتقطها وهو يعيد قراءتها دونما انتباه لكونها النسخة نفسها ، حتى
تخطيء الزوجة ذات يوم وتخبره في لحظة عابثة انه كان يقرأ الجريدة بالمقلوب ، لانها اخطات عن غير عمد في
وضعها بالشكل المعتاد في المكان التقليدي ، مما يثير غضب الزوج فيمزق نسخة الجريدة ، وتقوم الزوجة بالقاء
القصاصات الممزقة في اتون المدفأة المشتعلة ، كدلالة على انتهاء الوهم ويرين الصمت دون معرفة لماهية البديل
لهذا الوهم الذي استمر لخمسة عشر عاما .
وهم آخر تعيشه الشخصية الرئيسية للنص الدرامي الذي يحمل اسم هارولد ، والذي يقدم لنا موقفا اشبه بالمواقف
الكافكاوية الشهيرة ، حيث يدخل شاب مكتب مدير مؤسسة تشتغل بالغوص البحري بمدينة انجليزية ، يؤكد الشاب انه
ايرلندي الاصل ، ويدعى ” الن ” وهو مرسل من الوكالة العالمية للاعمال البحرية ، كي يعمل بالمؤسسة ، يخاطبه
المدير مصرا على ان اسمه “هارولد ” ويذكره بالمخاطر الكثيرة التي يتعرض لها العاملون في هذه الحرفة ، ويعد
الموافقة على العمل ، يكتشف “الن ” ان كل الاوراق والوثائق التي يحملها هو نفسه تحمل اسم ” هارولد ” وليس ”
الن ” فيشعر بالاختناق وتنتهي
المسرحية .
لحظات مسروقة
بعيدا عن الاماكن المغلقة ، سواء عربية ام غربية ، فان اكثر من عمل من اعمال د. احمد الفقيه ، تدور في الاراضي
الصحراوية الخلوية ، وان لم تتخل عن دورانها في فلك العلاقات الانسانية ، وموات الحب في حضن رتابة التقاليد
والعادات ، فنجد في نصه (غناء النجوم ) الحدث الدرامي ييتفجر داخل ارض خلاء ، بعيدا عن العمران ، حيث ينفلت
اليها ذات مساء رجل وامرأة ، جاءا بالصدفة ، في مغامرة عاطفية ، هروبا من المدن الملوثة لحضن الطبيعة البكر
، وكل منهما متزوج من آخر ، حقيقة هذه المرة ، وليس بالتخيل كما في نص ( لعبة الرجل والمرأة ) واختارا الخلاء
ك” دعوة للتحرر والانعتاق من كل الاعتبارات والشروط والقيود والتقاليد التي تراكمت عبر العصور حتى صارت اسوارا
تحجب عن عقولنا وقلوبنا ونفوسنا الضوء والهواء ” ومن ثم جاءا ليعيشا ” لحظات مسروقة من عمر الزمن الروتيني ”
كسرا لملل الحياة الزوجية النمطية المقولبة .
تقابل هو معها في منتدى ، وكان بحاجة لها ولحبها ، ويحثها على ترك زوجها ، للاقتران به ، وهي لا تكره زوجها
ولا بيتها ولا عملها ، هي فقط تكره الروتين ، وخرجت لهذه المغامرة فقط لانعاش الروح والعودة اكثر قدرة على
مغالبة ملل الحياة مع زوج تحبه ولا تريد ان تتركه ، تخدعه وتخونه مرة في الشهر فقط من اجل ان تستمر الحياة
متجددة معه ، فهي تعرف ايضا ان لزوجها بدوره علاقات غرامية ، يغيب عن البيت من اجلها ، لذا فهي لا تعاني ”
احاسيس الاثم ” بسبب ما تفعله ، فهي صفقة سرية متبادلة ، بل ان مغامرتها العابرة هذه هي ايضا صفقة سرية
متبادلة ، فالعشيق على علاقة بامراة اخرى ثرية يهفو لمالها كي ” يطفو على سطح الدنيا” وهو لم يخرج معها لحبه
لها ، وانما لمجرد نزوة او سعي وراء سراب الحب الوهمي . غير ان هذا الحب المتدفق في مقدمة الصورة ، بعيدا عن
اية قيود اخلاقية ، يكشف في خلفية الصورة عن يد اقوى تتحكم في علاقات البشر على هذه الارض وداخل مجتمعاتها ،
ففي الصباح التالي لليلة حب رقيقة ، يسمعان صوت رجل من بعيد ، يخبرهما انهما يقفان على حقل الغام مهجور من
ازمنة الحرب ، مما يغير من دلالة الصورة العاطفية ، ويعيد المنفلتين لارض الواقع وانظمته الصارمة ، فليس
امامهما غير الانتظار والموت المحدق بهما والفضيحة حينما تأتي الشرطة لانقاذهما ، لقد لعبا فوق الالغام دون ان
يحدث شيء ، والان يخشيان الحركة حتى لا تتفجر تلك الالغام ، والمعرفة تفجر احاسيس الخوف ، والارض التي تصورا
انها سقطت من ذاكرة البشر ، اكتشفا ان الموت مخبأ تحت سطحها ، وفي لحظات الانتظار للخروج من هذا الجحيم ،
يبدأ الشجار ، ثم الاعيب كشف الاخر ، حتى تداهمهما كتيبة من رجال الاعلام ، تستفزهما وتدفعهما للغناء متحركين
خارج دائرة وجودهما ، مما يهدد المكان بالتفجر ، فيعلو الصراخ والغناء معا ، غناء النجوم .
في مسرحيته الطويلة ” الغزالات ” يعاود الكاتب دفع شخصياته لعالم الخلاء الصحراوي ، بدلالاته المتعددة
باعتباره ارض التيه وفضاء المعرفة وعالم التامل ، جنبا الى جنب ساحة الغزو الخارجي بحث عن النفط وتدنيسا
للطبيعة البكر ، لذلك نجد نموذجي الرجل والمراة في نص (غناء النحوم) قد جاءا بطبيعة العلاقة بينهما الى هذه
الصحراء ، ولكن بعد ان حملا جنسيات اجنبية ، هو الامريكي “فيكتور” في الخمسين من عمره ، باحث دولي في شئون
النفط مل روتين حياته المتكرر ، وعانى لسنوات ثلاث من العجز الجنسي ، فدعاها لرحلة صيد بالصحراء الكبرى ، عله
بالمرأة ومغامرة الصحراء يستعيد نشاطه الحسي ، وهي الانجليزية ” هيلينا” ، سكرتيرة بجمعية اسكان بلندن ، ملت
بدورها كتابة الرسائل نفسها يوميا ، وعافت الحياة في المدن الاسمنتية ، ولبت دعوة العاشق بحثا عن غزالة شاردة
في عالم صحراوي لا محدود ، في الوقت الذي يصطحبان معهما دليلا وتابعا هو البدوي “جابر” كاره الصحراء ، رغم
معرفته بها ، والمتعلق بحلم العيش في المدن النظيفة والمكيفة الهواء ، وان بدأ احتكاكه بهذين الاجنبيين ،
يكشف له عن صحراوات اخرى افظع من صحرائه ، يعيش فيها صاحبيه ، صحراوات خالية من القيم الاجتماعية والاخلاقية .
كما استيقظ الرجل والمراة في النص السابق ، وعقب ليلة حب مكتملة ، ووجدا انفسهما في تيه الصحراء
والغامها المخبوءة ، يستيقظ “فيكتور” و “هيلينا” هنا على بقعة اخرى من الصحراء ، وبعد ليلة حب غير مكتملة ،
يبدأون في البحث عن الغزال الشارد القافز في الفلوات كاطياف لا يمسك بها غير الممتلك لليقين الكامل ، ويشرعان
مع تابعهما في البحث عنه ، وعندما يلحظه “فيكتور” يجد في طلبه دون وعي ، حتى يدخل بالاخرين لعالم لامتناه من
الرمال السوداء والافق المغلق عليهما ، ينفد وقود سيارتهم ، وشحن طعامهم ، وتمزقهم العاصفة الهوجاء ، وتلوح
النهاية ، فيدرك معها البدوي انه ضيع طريقه حينما نحر جمله وصنع منه وليمة لقوافل سيارات الغرب الباحثة عن
النفط ، ويتأكد للغربيين ان الدنيا كانت بالنسبة لهما اكذوبة وان الكل باطل وقبض الريح ، ولا يملك الثلاثة
مفرا غير الحلم بالامل المفقود ، وتنتهي المسرحية وبصيص ضوء غائم مبهم معلق بالافق الغامض .
على منوال قصة الحب المسفوحة على طاولة التقاليد والعادات الاجتماعية ، منذ قيس وليلى حتى حسن ونعيمة ،
ينسج د. احمد الفقيه ، اوبريتا غنائيا باسم ( هندا ومنصور ) ينفلت عبره من اسر الحجرات المغلقة ، والصحراوات
الخالية ، الى الوادي الاخضر ، بشفقه الارجواني ، واغنامه السارحة على صوت ناي الفقير “منصور” العاشق للجميلة
“هند ” ابنة شيخ القبيلة ، وفي المقدمة يتجلى كورس صداح يحكي لنا الحكاية ويكشف لنا خباياها ، خاصة وان
العاشق قد تمكن بمساعدة صديقه “سعدان” من مقابلة معشوقته عند البئر والتعاهد معها على الزواج ، ولم يكتف
بهذا اللقاء ، بل راح ــ كسميه قيس ــ يشبب بها ، وكنظيره ” حسن ” يتغني بجمالها ، بل وحكى للكل ما حدث بينه
وبينها عند البئر ، فيتلقف خيال القرية الحكاية الصغيرة ، ليحولها لملحمة كبرى ، يتحول ” منصور” معها الى
ذئب اكل الحمل الوديع ، ويقتل شيخ القرية ابنته ، وتسوء حالة “منصور ” ، ويلتاث عقله ، وتتجلى له في الافق
طيفا برداء ابيض تسحبه نحوها ، لتنتهي معه حياة كانت ، وتبدأ معه ، حكاية تحكى للصبايا عن الحب المغتال بيد
تقاليد قرية ظالمة .

من almooftah

اترك تعليقاً