​​​​​​​​​​​​​​​​​
ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008 م”أو هكذا تكلم المسرحيون -2-66 – نوري عبدالدائم
*****************​​​​*********************​​​​​

 

الغزالات ..
هيثم يحي الخواجة

(إن الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه يريد أن يثبت فى مسرحيته مقولة هامة فى حياتنا وهى أن هذا التقدم العلمى
الكبير الذى توصلت إليه أوروبا لا يمكن أن ينجح إذا خلا من القيم)

تمهيد
أصبح بديهيا الإيمان بتلاقح الثقافة العربية ، لأن وحدة الفكر العربى ضرورة هامة فى تحقيق الوحدة
الشاملة . وهذا لا يتأتى إلا بالاطلاع على إنتاج الأدباء العرب وقراءته وتمثله ونقده . . . ولئن كنت سألقى الضوء
فى هذه الدراسة على مسرحية ” الغزالات ” للكاتب الليبى الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه فذلك يعود لأمرين :
الأول : إن كاتب هذه المسرحية واحد من أهم كتَّاب الرواية والمسرح فى الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية
الشقيقة .
والثاني : هو محاولة لتحقيق ما جاء فى مقدمة هذه الدراسة حول وحدة الفكر العربى .
مقدمة المسرحية
يولى كتَّاب المسرح ونقاده أهمية كبيرة على مقدمة المسرحية (البرولوج PROLOGUE) ذلك لأن وظيفتها كبيرة فهى
بمثابة لوحة تعريف واستعلام حول شخوص المسرحية ، وهى المدخل الأول لأحداث الدراما: وعلى الرغم من تنوع أشكالها
واختلاف الكتاب فى طريقة كتابتها فإن أهميتها تأتى من اعتبارها الحدث التمهيدى الذى يدهش المشاهد ويشده نحو
العمل المسرحى . وليس غريبا القول: إن كتَّاب المسرح اليونانى كانوا يولون المقدمة المسرحية أهمية خاصة (
يوريبيدس) ، ويجب ألاَّ ننسى شيخ المسرح الإنكليزى شكسبير الذى ركز عليها معتمدا على المونولوج فى صياغتها من
خلال ممثل رئيس (مثال ذلك ريتشارد الثالث وغيره) والسؤال كيف تكون مقدمة المسرحية ناجحة؟ وهل استطاع الفقيه
أن يحقق صفات المقدمة الناجحة فى مسرحيته (الغزالات)؟ . إن توصيل الخيوط الهامة فى العرض المسرحى للجمهور يقع
على عاتق المقدمة ، وعلى الأغلب تكون الخيوط كثيرة ومتشابكة ولذا فإن نجاح المقدمة يتحدد فى مسك النظارة رؤوس
هذه الخيوط ـ من خلال المقدمة ـ دون إكراه أو ملل ، وضمن شحنة درامية معقولة لأن المقدمة ـ كما يقول لاوسون ـ
هى حدث مسرحى قائم بذاته . وهنا تكمن براعة المؤلف فى اعتماد السرعة للدخول من بوابة العرض دون استئذان أو
حواجز تجعل المشاهد يدير ظهره للعرض من الوهلة الأولى . . . لقد استطاع الفقيه أن يحقق صفات المقدمة الناجحة
فى مسرحية (الغزالات) إذ نجده فى المشهد الأول يسعى جاهداً كى يثير انتباه القارئ ويدفعه إلى التفكير فى كثير
من الأمور المجهولة التى تحتاج إلى حلول أو التى تحتاج إلى تفسير:
هيلينا : (من تحت الأغطية وهى تدفع الرجل عن نفسها) هل فقدت عقك ؟
فيكتور : نعم فقدته
هيلينا : إنه الصباح
فيكتور : وماذا يعني ؟
هيلينا : سوف يرانا الرجل
فيكتور: أنت أمام الجميع زوجتى . دعينى أحاول مرة أخرى ، إننى على ثقة من النتيجة هذه المرة .
هيلينا :لا تكن أحمقا ، إن أمامنا ليالى كثيرة فى الصحراء
(تدفعه عن نفسها ضاحكة حتى ليكاد يسقط من فوق السرير ، يرتدى بسرعة بنطاله ، ويلتحف بأحد الأغطية اتقاء لبرد
الصحراء ، تقفز هى رشيقة كالفراشة بملابس السفارى تذهب إلى وعاء الماء المثبت بالجزء الخلفى من السيارة . تضع
الماء على وجهها وتبدأ بتمشيط شعرها ، وتنظر بانبهار إلى الأفق الذى يشتعل بنار الصبح ) .
فالوقت فى المسرحية الصباح الباكر قبل شروق الشمس ، والمكان الصحراء . . سيارة تقف فى قلب الصحراء . هيلينا
وفيكتور يتحدثان ضمن هذا المشهد . . كل ما تقدم يثير الاندهاش ويجعل المرء يبحث ، ويستفسر ، وينتظر جوابا لما
يدور .
مضمون المسرحية
فى الفصل الأول يدرك القارئ أن فيكتور يحب هيلينا ، ويعتبرها غزالة حبه المنتظر ، كما يدرك أنه وعد هيلينا
باصطياد غزالات من الصحراء . وقد لبت هيلينا دعوته التى جرت أثناء لقائهما فى الحفل الذى أقيم على شرف فريق
العمل المسؤول عن اكتشاف أحد حقول النفط وها هى مع فيكتور فى الصحراء تأتى من لندن راضية لتقضى بعض الوقت
وتحقق حلمها فى اصطياد الغزالات . لقد اعتبرت هيلينا الصحراء المقابل لكل ما كرهته فى المدينة الكبيرة ، أما
جابر فهو دليل فيكتور فى رحلته داخل الصحراء لأن فيكتور ، يعمل باحثا عن النفط فى الصحراء ، ويدرس باطنها ،
ويكشف عن معدنها . . وسرعان ما يكتشف جابر أن هيلينا ليست زوجة فيكتور فيشعر بالضيق ، ولم لا ؟ ، وهو ابن
الصحراء ، ومن الذين لا يعترفون بعلاقة مع المرأة خارج دائرة الزوج والزوجة فذلك ـ فى رأيه ـ عهر ودعارة .
ويستغل الكاتب هذه الفكرة ليبرز المفارقة بين الحضارة والتصحر تفكيرًا وأسلوب معيشة ، ويحاول أن يبين ميزات
ابن الصحراء ، وميزات ابن الحضر الذى تأثر بالحضارة الحديثة ومفاهيمها ، كما يحاول إبراز سلبيات المجتمعين
فيطرح بعض القضايا الهامة كقضية تعدد الزوجات فى الريف ، قضية عدم ارتباط الابن بأسرته فى المدينة كما يبرز
أثر الحضارة فى نشوء العلاقة المادية الواضحة بين الابن وأسرته :
هيلينا : هل حدث لك شخصيا أن طلقت لتتزوج مرة أخري
جابر : طبعا إحدى عشرة امرأة أغلب من عقدت عليهن . كن بكارى والله
هيلينا : إحدى عشرة ؟ ظننتك رجلا عاقلا . دعنى ألتقط لك صورة لعلى أفوز بجائزة من إحدى الصحف عندما أرسلها لهم
باعتبارك الرجل الذى ضرب الرقم القياسى فى الزواج
جابر : يعتبروننى فى القرية الرجل الذى ضرب الرقم القياسى فى قلة عدد الزوجات ، يحدث ذلك لأنه لا حق لمن يبغى
أن يتزوج أن يرى فتاته أو يتحدث إليها قبل الزواج فلا حل سوى أن يتزوجها كى يعرفها ثم يطلقها إن لم تعجبه لكى
يتزوج امرأة أخرى حتى يعثر على من يرضاها وترضاه شريكة عمره وشريك عمرها
جابر : إذن فأنت تدركين أن إرضاء الوالدين هو أعظم ربح
هيلينا : لا أقصد هذا النوع من الربح ، أقصد ربحا آخر
جابر : رضاء الضمير
هيلينا : متى تفهم ؟ أقصد الواحد بالمائة
جابر : واحد بالمائة ماذا ؟
هيلينا : عمولة
جابر : عمولة لك أنت ؟
هيلينا : طبعا ؟
جابر : من أمك ؟
هيلينا : وما الضرر فى ذلك ؟ تحصلت منها على واحد بالمائة من ثمن البيت وحصلت أمى على القرض وهى سعيدة
جابر : إن هذه أشياء تملأ قلبى هلعا . لا تفزعنى هذه الصحراء ولكن تفزعنى الصحراء الأخرى .
ينتهى الفصل الأول بالرحيل باتجاه عمق الصحراء لاصطياد الغزالات . . وفى الفصل الثانى يدرك القارئ أنه مضت ستة
أيام من بداية الرحلة ، ويبدو المشهد جزءا آخر من الصحراء فالنفط كاد ينتهى فى خزان السيارة ، وجميع الشخوص
تغطى رؤوسهم وألبستهم ، ووجوههم الأتربة دليل العاصفة التى مروا بها . . أربعة أيام وهم يدورون فى حلقة مفرغة
دون أن يستطيعوا صيد غزالة بالرغم من الجهد المبذول من قبل فيكتور ، والدم الذى نزف من جبينه . . القلق
يسيطر على الجميع . . ، والطعام غدا قليلا ، والبحث عن نقطة يتزودون منها بالوقود والمؤونة يمضى بلا جدوى . .
الهم لا يفارقهم فضلا عن المعاناة من شدة الحر ووحشة الصحراء ، والخوف من المصير شبه المحتوم . . وينتهى الفصل
بنداء جماعى يمتلئ حرقة ولوعة . . .
وفى الفصل الثالث يصبح المنظر جزءا آخر من الصحراء . فالأرض صخرية وعرة ، والوقت قبيل مغيب الشمس . . الإعياء
بدا على الجميع ففيكتور بدأ يرى أحلاما مخيفة . وأهل الصحراء يطاردونه . أما هيلينا فقد وصلت إلى درجة عالية
من الإرهاق الشديد . وجابر الشخصية الوحيدة التى ما زالت متماسكة ، ومحافظة على قواها . . لقد نفد كل شيء ،
ولم تعد الصرخات فى الليل والنهار تجدى . . لقد تشققت الشفاه والألسنة ويبست الحلوق فتركوا السيارة باحثين عن
الخلاص الذى أصبح سرابا . . لقد عارض جابر ترك السيارة لأنها تحميهم من الحر إلا أن إصرار فيكتور وهيلينا جعله
يقبل بما يريدان . هذا فيكتور يفقد قواه ، وها هى هيلينا تعانى سكرات الموت . . هذا الموقف الصعب دفع فيكتور
لأن يطلب من جابر السير وحده لعله يصل إلى مكان آهل يستطيع من خلاله إنقاذهما لكن جابر يرفض الفكرة رفضا قاطعا
.
التطور الدرامي
تقدر قيمة المسرحية بتطورها الدرامى الذى يظهر فى الأحداث . فالشخوص تمارس الفعل ، وتنقل أحداث المسرحية من
تطور إلى آخر ، وإن انعدام التطور الدرامى أو ضعفه يفقد المسرحية رواءها ، وتصبح مجرد حكاية لا يمكن تجسيدها
ولذا فالكاتب المسرحى الناجح يركز على العوامل المساعدة للدراما (التعقيد ـ الصراع ـ الذروة ـ التشابك . . )
ليحقق هدفه فى هذا التطور كما أن الكاتب المسرحى الناجح هو الذى يدرك ـ تماما ـ كيف يصوغ ، وكيف يشكل ، وكيف
يربط لحظات الدراما من خلال الفعل ورد الفعل ، والسبب لرد السبب ليعلو الحدث ، وتتصاعد الدراما ولا ريب أن
الاصطناع فى التطور الدرامى يسئ إلى الدراما ويجعلها باهتة مسطحة وغير مقنعة فهل نجح الفقيه فى تطوير الدراما
فى مسرحيته ـ الغزالات ـ؟ إن أول ظاهرة تتسم بها هذه المسرحية تكثيف الأفكار إذ نلحظ ذلك منذ المشهد الأول وهذا
فى ـ رأيى ـ ما أثر على التطور الدرامى فيها ، وقلل من الفعل المسرحى ورد الفعل فيها ، وجعلها أقرب إلى
المسرحية الذهنية فى بعض المشاهد . إن قارئ المسرحية يشعر بالأفكار المتزاحمة التى اختزنتها ذاكرة الكاتب كما
يشعر أن أدواته الفنية خانته لكبح جماح هذا السيل الجارف من المعلومات . . وحتى ننصف الكاتب نقول إن بعضها
جاء موظفا بشكل جميل ورائع ولكن بعضها أيضا جاء معلقا متأرجحا وغير مقنع . . وعلى الرغم من نجاح المقدمة فى
المسرحية ـ كما أسلفنا سابقا ـ نجد أن ما يلى المقدمة فى الفصل الأول جاء فاترا باردا ، ويكاد يخلو من الفعل
المسرحى ، ولم يتصاعد الحدث الدرامى إلا فى الفصل الثانى ثم فى الفصل الثالث ولكن بمقدار أيضا . . إن فكرة
المسرحية ، ورموزاتها غنية تشد القارئ ، والمشاهد على السواء ولا نستطيع نكران ذكاء المؤلف فى اقتناص الفكرة
المناسبة ، وتوظيف الكثير من القضايا من أجل خدمة النص المسرحى . فمن رموزه ـ مثلا ـ (الجمل ـ إله النيل ـ
إله عزريل ـ العصا ـ أجاممنون ـ الصحراء ـ الغزالات ـ النهر ـ الطيور الخضراء ـ الجدائل الذهبية ـ بقعة الضوء
ـ . . . الخ . . . )
أما عن الأفكار فسأحاول الوقوف على أهمها :
إن الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه يريد أن يثبت فى مسرحيته مقولة هامة فى حياتنا وهى أن هذا التقدم العلمى
الكبير الذى توصلت إليه أوروبا لا يمكن أن ينجح إذا خلا من القيم كما لا يمكن أن يحقق شيئا إذا تخلت البشرية عن
إنسانيتها:
جابر : (معلقا على الدخان) إنك تفسد الهواء فى صحرائنا بعادم سيارتك .
فيكتور : هيا وإلا تركتكما للصحراء وذهبت
جابر: قلبى لا يتمنى إلا هذا ، اتركنا واذهب
إن ابن الصحراء ـ أى الأرض العربية ـ هو أحق الناس بأرضه ، ولن ينجح تقدم أو تطور دون الاعتماد على صاحب الأرض
ودون أن يكون صاحب الأرض فاعلا ومنفعلا فيها . . إن تقدما خاليا من الإنسانية ، وحضارة فارغة من القيم لا يمكن أن
تنجح أو يكون لها شأنها وقيمتها فالإنسان العربى قادر أن يصير ابن الحضارة الحديثة ، وقادر أن يطور أرضه ،
وأن يكشف مكنوناتها ، ومخزوناتها . . . وإذا كان يحمل بعض السلبيات فهى سلبيات فرضتها عادات وتقاليد بالية
فى زمن ما . . وإذا كان العربى فى أول سلم الحضارة فإن عليه أن يغذ السير فى صعود درجات السلم بسرعة ليواكب
حضارات الأمم ، كما عليه أن يتخلص من عاداته البالية ، وتقاليده المهترئة ليحقق هدفه فى التقدم والازدهار ـ
وهو قادر على ذلك ـ إن فقدان فيكتور وهيلينا الأمل فى العيش فوق الصحراء دليل قاطع على أن أبناءها هم
المطالبون بالارتباط بها ، واستنباط ثرواتها ، وحمايتها ، وما السعى لقتل الغزالات إلا إشارة واضحة على وحشية
الإنسان الأوروبى ، وما لعنة الغزالات إلا رفضا لما يفعله الأوروبى فى أرضنا ، وما موت ابن جابر إلا رمز لغضب
الصحراء على الإنسان العربى الذى تنكر لأرضه ، وحاول أن يبدّد مكوناتها .
الشخصيات
تتألف المسرحية من ثلاثة أشخاص (فيكتور ـ جابر ـ هيلينا) بمعنى أن المؤلف حقق النظرية القائلة: إن من سمات
المسرحية الناجحة قلة عدد الشخوص . . والسؤال الملح هنا هل استطاع الكاتب أن يتبع الأنموذج الدرامى المنطقى
والصحيح فى شرح الشخصيات المسرحية؟ أى هل أظهر ملامحها الخاصة والعامة؟ ، وشرح بنيتها ، ودقق فى تصنيفها ،
وجعلها تأخذ صفتها من حيث الفعل والطباع والسلوك؟ هل تدخل فى حركاتها وتفكيرها وتصرفاتها؟ أم تركها مستقلة
تتصرف بموجب طبيعة الحياة ومنطقية الأحداث المتفجرة فى النص المسرحي؟
ولكى ننصف المؤلف نقول إن المؤلف وصل إلى حد معقول فى جعل الأشخاص رموزا ذات دلالات وسمات حققت هدفه فى إيصال
أكبر قدر ممكن من الأفكار التى أراد طرحها والتركيز عليها فى المسرحية . . ففيكتور رجل يعمل فى البحث
والتنقيب عن النفط فى الصحراء . لقد اندفع هذا الباحث نحو عمله وعلمه غير آبه بالمعانى الإنسانية لوجوده فوق
أديم الأرض حتى حبه لهيلينا وظفه ضمن بوتقة عمله . . ولقد غره الجانب المخادع والبراق للحياة الحضارية فانغمس
فى وجه الحضارة الزائف وهذا أدى إلى نهاية مأساوية ، وهذا أيضا جعل الصحراء تنتقم منه:
فيكتور : إن لدى أسبابا أفضل من ذلك بكثير لعل إحداها أننى مثل الحجر المتدحرج . لم أعرف لى يوما مكانا
أستقر به ، وإنى لست كثير الشوق إلى امرأة فى بيتى ، لا هم لها إلا أن تسأل أين ؟ وكيف ؟ ومن ؟ ومتى ؟ ولماذا
؟ أما أكثر أسبابى أهمية فهو أننى لو كنت تزوجت لضاعت يا هيلينا فرصة أن ألقاك ، وأن آتى معك فى نزهتنا
الصحراوية . . .
وأما هيلينا فهى المرأة الأوروبية التى تطبعت بطباع البيئة الإنكليزية ولذلك فقد حملت صفات هذه البيئة فهى لا
تهتم إلا بعملها ، وليس فى حياتها إلا سعادة نفسها وتحقيق الربح الأكبر . إنها ترتبط بمادية الحياة لا بقيمها
ومعانيها الإنسانية . وإذا كنا نلحظ حوارا يعبر عن اخضرار قلبها ونداوته فإنه ينطلق من ذكريات ذاتية ، ومن
دوافع غريزية لا تصب فى الفعل الحياتى وانعكاساته (ص126 ـ 127)
لقد ضاعت هذه المرأة فى غياهب الحضارة الحديثة وهذا ما دفعها إلى البحث عن أمل يغذى قلبها فاندفعت لتزور
فيكتور الرجل الذى التقت به لقاء عاديا دون أن تكترث بموعد زواج أو بحياة أسرية سعيدة . . كل ما وعدها به
اصطياد الغزالات من الصحراء .
جابر: وهل وافق أبواك بسهولة على سفرك لزيارة أحد الغرباء ؟ يالهما من أبوين عجيبين!
هلينا : أبواي ؟ يوافقان ؟ لماذا ؟ ما دخلهما ؟ إنى أحبهما لكنى منذ ثلاثة أعوام لم أذهب لزيارتهما فهما
يعيشان بعيدا عن لندن ما يقرب من ساعة بالقطار ، لكنى رأيت أمى مرة بالمحطة فقلت لها أهلا . . .
هيلينا : لا أقصد هذا النوع من الربح ، أقصد ربحا آخر
جابر : رضاء الضمير
هيلينا : متى تفهم ؟ أقصد الواحد بالمائة
جابر : واحد بالمائة ماذا ؟
هيلينا : عمولة
جابر : عمولة لك أنت ؟
هيلينا : طبعا ؟
جابر : من أمك ؟
هيلينا : وما الضرر من ذلك . . .
أما عن شخصية جابر فتعتبر ـ فى رأيى ـ أدق الشخصيات فى هذه المسرحية . لقد أحاط المؤلف بهذه الشخصية سلوكا ،
وتصرفا ، وفكرا ، مما جعلها تتطور ، وتتفاعل مع الأحداث بأسلوب عفوى جميل وعميق . .
تمثل شخصية جابر الإنسان العربى الذى يحمل نقاء الصحراء ، وطهر الأرض . . إن جابر هو ذلك العربى الذى يحمل
صفاء الإنسان ، والذى لم يتلوث بالوجه الزائف فيها . إنه رمز الأصالة العربية التى بقدر ما تتطلع إلى الحضارة
بقدر ما تحافظ على قيمها النبيلة من صدق ، ووفاء ، وشهامة ورجولة . . إنه رمز الإنسان العربى الذى يعشق أرضه
، ويأمل بالحياة الكريمة والمستقبل الإنسانى السعيد :
جابر : لقد فكرت فى العار الذى سيلحق بأولادى . عندما يعلم أهل القرية أنى فى لحظات الشدة تركت رفاقا كنت
دليل رحلتهم فى الصحراء ، وذهبت أحاول أن أنجو بنفسى (صمت) ها قد جاء الليل فلا تحرمنى من متعة أن أتكئ هنا ،
أنظر للأنجم وأسبح اللّه حتى يغشى عينى النوم .
إنه رمز العقيدة الصلبة التى تمرست على الصبر ، وتحمل الصعاب ، ليكن قلبك عامرًا بالإيمان فى حضرة هذه الصخور
التى قد تطول عندها إقامتنا . لا أدرى إن كنا سنقوى على المشى بأكثر مما مشينا . .
لقد كشف الكاتب صفات هذه الشخصية من خلال الفعل ورد الفعل ومن خلال المونولوج فعرفنا على جزئيات كثيرة ودقيقة
فى حياتها دون تناقض أو تماثل مع الشخصيات الأخرى أو خيال يبعدها عن الواقع . . ومما يسجل للكاتب فى هذا
المجال اهتمامه بعنصر التشويق فى رسم شخصياته وعلى الأخص جابر فهو لا يدعنا نفهم الشخصية مرة واحدة وإنما
بالتدريج ـ وهذا هو الفن ـ إذ كلما توغلنا فى الحوار وتصاعدت الأحداث تعرفنا على الشخصيات أكثر ، واكتشفنا
أشياء جديدة فيها . . لقد بدأ المؤلف ـ منذ الصفحات الأولى ـ برسم شخصية جابر وبقية الشخصيات . وظل يكشف
ويعمق هذه الشخصيات حتى الصفحة الأخيرة من المسرحية: جابر : يختلف شكل الصحراء عندما يأتى الليل ، إنى أكرهها
نهارا وأعشقها ليلا . كنت أجد نفسى وحيدا فى الصحراء فانتظر الليل لكى يأتى ، أوقد نارا فى حجم القصر ، أتدفأ
وأبدد من حولى الوحشة ، ثم أعد الشاى وأتكئ لا أفعل شيئا سوى أن أشرب أكواب الشاى وأنظر للأنجم أحاول أن
أحصيها . .
الحوار
لا يختلف اثنان على أهمية عنصر الحوار فى العمل المسرحى إذ هو أداة التوصيل التى يستخدمها الكاتب ليوصل ما
يريد إلى الجمهور من أفكار ومشاعر وأحاسيس وقضايا كثيرة أخرى . . ويمكن حصر أهم الأخطاء التى يقع بها كتَّاب
المسرح فى صياغة الحوار بأمرين:
الأول: تحميل الشخصية حوارًا أكبر منها فتحدث الهوة بين المشاهدين وبين الأحداث والشخصيات بسبب انعدام الثقة ـ
فى مثل هذه الحال ـ بين ما تقوله الشخصية فى حوارها ، وبين المعرفية المسبقة المتكونة قبلا حول الشخصية التى
تمثل نمطا معينا فى واقع الحياة .
الثاني: عدم معرفة الوقت المناسب لاستخدام الحوار البرقي(الموجز ـ القصير ـ المركز) والحوار الطويل
لقد استخدم الفقيه الحوار البرقى والطويل فى مسرحيته وما يؤخذ عليه أنه لم يتناسب ـ أحيانا ـ مع المواقف فى
المسرحية ففى حين كان فيه الحدث يتوتر ويتصاعد نجد الكاتب يميل إلى الحوار الطويل الذى يسبب أحيانا فتور
الحدث إذا لم يكن دقيقا ومثيرا ومشوقا:
هيلينا : (ترفع رأسها فترى فيكتور ، تتشبث به ، وتضع ذراعيها حول عنقه وكأنها عثرت عليه فجأة ) لا أريد أن
أموت ، لا أريد أن أموت يا فيكتور ـ تبكى ـ
فيكتور : ما كان ليحدث هذا كله لولا تلك اللحظات الخارجة عن كل النواميس الهاربة من الزمان والمكان ، تلك
اللحظات العجيبة عندما كنت أندفع مبهورا ، مسلوب العقل والإرادة خلف تلك الغزالة ، وكأن قوى خفية مجهولة
تحركنى ، أذكر الآن أننى رأيت وكأنها تقودنى إلى تلك الينابيع التى أتى منها الضوء ، إلى أرض جديدة غريبة
كأنها جزر المرجان مسقوفة بسماء زاهية الألوان ، يضوع فيها المسك ، ويرتفع فيها الإنشاد الملائكى وتشهد عرسا
كبيرا يتواصل أبد الدهر ، حيث تغتنى الروح ، ويجد القلب سلامه الدائم ، ويصير الإنسان شفافا كالماء . كنت أعرف
أننى أراهن بعمرى للذهاب إلى تلك الأرض ، ولكن أنتما ما ذنبكما . . . .
الحوار الموجز المركز يتناسب مع تصاعد الأحداث المتسارعة ، والحوار الطويل يتناسب مع المونولوج الداخلى ، وكل
له مكانه ، وكل يتناسب مع الحدث والموقف والفكرة المرادة هذا ولا يجوز الخروج بالحوار قصيرا كان أو طويلا قيد
أنملة عن الفكرة فى المسرحية التى يجب أن تتطور دائما وأن يوظف كل شيء من أجل التصاعد الدرامى . فالحوار فى
بعض المشاهد ـ فى رأيى ـ يسئ لتطور الحدث ولا يضيف شيئا ذا بال سوى وصف خارج عن دائرة الحدث الأصلى وهذا ما
جعله جافا فارغا لا وظيفة له .
اللغة المسرحية لغة صعبة لأنها لغة النظارة بمختلف ثقافاتها ، وإدراكاتها ، ومعارفها ولا يمكن اعتبار اللغة
الإنشائية لغة مسرحية لأنها تسيء إلى المسرحية وتضعف فنيتها ولا ننكر أن هذه اللغة سيطرت ـ فى بعض الحوار ـ
سيطرة واضحة :
هيلينا : (ما زالت تكتب فى المفكرة) إنها رسالة واحدة أجلس لأدقها على الآلة الكاتبة يوما وراء الآخر ، منذ
شروق الشمس ـ هذا طبعا إن شرقت ـ حتى مغيبها ، وإلى أن صارت أحرف تلك الرسالة كأنها حبال تمتد لتكتيفى ، أو
قطرانا أسود يتجمع من حولى ويغرق جسمى حتى يصل إلى عنقى ، أصرخ فإذا بالساعة قد صارت واحدة ، أذهب لتناول
شيء فى المقهى على عجل وأعود إلى تلك الآلة ، حتى إذا ما كاد قطران الملل يغطى وجهى يأتى موعد الانصراف فيتأجل
موعد خنقى إلى اليوم التالى .
ويلحظ عدم تطابق الحوار مع الشخصية وهذا يجب ألاَّ يقع به كاتب مسرحى على مستوى الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه ،
وليعذرنى المؤلف إذ ذكرت بعض الأخطاء النحوية التى لا يمكن اعتبارها أخطاء مطبعية (إحدى حقول البحر) (واحد
اثنين ثلاثة) (لوحدها) (يجده ملئ) (حتى تجدون) (ثلاث أعوام) (بإحدى أركان) (ثمة سريرين) (ثم يطهيها ويأكلها)
(أيتها البحر الممتد) . . إلخ . . . .
كلمة أخيرة
تبقى مسرحية الغزالات من المسرحيات الجادة والجديرة بالقراءة والعرض ، وهذا يجعلنى أؤكد ثانية على التواصل
الثقافى العربى ليكتمل المشهد الثقافى ، وليتعرف الأدباء على نتاجات بعضهم والدرجة التى وصل إليها المبدعون .
ومن خلال ذلك يترسخ التلاقح الثقافى المنشود ، وتتعمق الوحدة الفكرية ، ويزول الجهل بأدبائنا العرب .

من almooftah

اترك تعليقاً