​​​​​​​
ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -2-62 – نوري عبدالدائم
*****************​​​​*********************​​​​

“عبد السميع في الزمن البديع ”
محاولة للفهم والاستفهام
بقلم / أحمد بللّو
في الفن يصعب التقييم ، فلكل خصوصيته ، شطحاته ، قدرته على التعبير ، غموضه وضوحه ضبابيته نصاعته ..قتامته
،ولوجود كل هذه الاختلاف وجد مبدأ الحرية .
في الفن هناك جهد ، مثابرة ، سعى متواصل نحو المثال .. نحو تحقيق المثال ،ولكن أين هو المثال ، إنه هناك
وليس هناك ، إنه ذلك الشيء الذي سنظل نطارده ونطارده ..هل ندركه أم لا ؟؟ لست أدرى .. ولكن الذي أعرفه أنه
سيظل يتجدد .. ويتحول … ويتطور .. ويطلب المزيد من الجهد والمعاناة ، في المسرح في الشعر ، في الرواية ..
وباقى الآداب والفنون .. وقبل هذا وذاك في الحياة ، في جميع نشاطات الإنسان الطيبة .
عذراً ..كنت أود أن أقول ، إننا بصدد جهد طيب ، ومثابرة طامحة ، جهد تحلق حوله كل المشتركين فيه .. وأمدوه
بالدفء والنشاط والحنو والحرص حتى خرج من بيضته العدمية .. ليبدأ صراعه المشروع نحو التحقيق . وهكذا هي
المسرحية .. تقدم لنا هذا السعى المتواصل … للتحقق .. تحقق الكينونة المختارة .. والمشتهاة ..سؤال هاملت
القاطع أكون أو لا أكون .. تلك هي المسألة .. الحلم الطائر أمامنا بأجنحة من نور .. وعذوبة .. وعنفوان ” ضعوا
كل شيء موضع الشك ” هكذا يقول المداح .. وهكذا هي الحياة ، تاريخ الحياة ، ذاكرتها المتوقدة فينا .. عرافة
كل الأزمنة .. ومعيار كل العصور ” ليس مهما أن نخلق العجائب ، المهم أن نجد من يفهم العجائب وليس مهماً أن
يكون لنا رأس وقدم ولكن ” أين الرأس ..أين القدم ؟” تنقيب عن الأسئلة الجوهرية في حياتنا ودفع إلى الأمام ”
استيقظوا أيها النائمون ” فطروادة سقطت وأتضح الخواء ..إن حياتنا جديرة بالرثاء .. وواقعنا الإنساني مدفوع
على قطار جحيمي نحو الكارثة .. فلست أدرى كيف هذه المراوح تدور وأبوابنا مقفلة ؟؟ نحتاج الهواء والشمس ” أما
أنا فسأخرج .. هجرت أغلالى وسلاسلي ومن الدفء في قلبه ..لا يخاف البرد أنا في كل أرض وفي كل مكان كنت في روما
.. باريس … كنت في بغداد ، أغني للحياة في زمن الموت … للسلام في زمن الحرب … للحب في زمن الكراهية ”
إذن هي رحلة الإنسان في كل مكان وزمان ألم تقل الخامسة وعبد السميع في بداية المسرحية ” كل الأزمان مختصرة ”
والمكان يتسع لكل الأمكنة .. ومازلت أحمل شوقاً للتناسق والفرح .. لن أعيد أخطائي السابقة ” لن أقيد الأحداث
والكلمات .. يكفيني أن أوجد حلما ” “الصعاليك ، الشنفري ، تأبط شراً عروة … أسماء لرجل واحد .. رفضه شرع
أعمى .. أعور .. أعرج ” ” رأوني في الوحل .. فقالوا أنت الوحل .. لذا هربت من كل لافوق .. لاأسفل المرض ،
الفقر ، الحروب الظلم ” هربت نحو الحلم الفرح ..” ضد التيار ” ضد الممنوع ..ضد الوأد “كل شيء أصبح فاسداً ”
الأفكار الأحجام ، الأشكال ، الناس .. ” ضيعت زمن الحلم يوم ضيعت طفولتي ” لهذا سأخرج ، سنخرج .. هذه بعض
المقاطع التي وردت على ألسنة شخصيات المسرحية .. عبد السمع أبي مسكين ..المداح ..الخامسة .. والتي يقوم
بتشخصيها ..” عبد الحق الزروالى” ..و” منية الورتاني “، ولا أرى أي تناقض بينها – فكلها شخصيات تسعى للتحقق
، وصراعها مع الواقع – مع الوأد .. الوأد في التاريخ وفي الواقع .. واقع المرأة وواقع الرجل ..الفكر .. الفن
، الأدب ، الوأد كظاهرة حدثت في الماضي .. وظلت تكرر نفسها ..فإن هي حدثت على المرأة بالذات إلا أنها ظلت تحدث
على الكل وفي جميع المجالات وعلى جميع المستويات .. العربي والإنساني .. الفردي والجماعي .. الواقعي والحلمي
وهي إذ تقدم ما هو كائن .. فتعريه وتفضحه .. وتضعه في الركن الصعب ليتم اجتثاثه .. وبتر ما تعفن فيه .. وضخ
الدم الجديد فيما ظل يقاوم ويحدق دون مواربة أو خجل أو وجل نحو الأمام لكنها تقدم النقيض .. الحلم .. من خلال
عملية الهدم .. تبدو عملية البناء والخلق ..ومنذ البداية نجد أنفسنا أمام جدار يسقط مع الخامسة .. وهي تحطم
الحاجز الذي يحنط العلاقة بين الخشبة والصالة .. إلغاء الفاصل الزماني والمكاني يبن الفن والواقع ..وبين
الواقع والرؤية .. وكأننا بالخامسة تقول لاشيء يجيز هذا الفصل التعسفي فنحن نقوم بعملية هدم وبناء فليشترك
فيها الجميع ..نحن لم نأت لنسليكم ..بل جئنا لنعيش معاً هذه المساحة المختصرة ومعاً فوق المساحات الأوسع ..ومن
ثم لننتشر .وبعد ذلك تبدأ المسرحية في عمليات الهدم ..هدم العلاقة المميتة يبن عبد السميع وواقعه ..والعلاقة
المريضة بين الخامسة وعبد السميع بين الواقع والتاريخ المزور ..وبين الحلم والواقع المتردي .. وهكذا هذه
العلاقات التي تعفنت ..فلم يعد يمكننا إخفاء ماكان مخفيا ..إنطلاق إلى الأعلى … وإلى الأمام .. وهدم الماضى ..
وتعريته ..هدم الحاضر من أجل المستقبل ..هدم الحدود … هذه الحدود ..التي رسمت بالطباشير .. والأسلاك الشائكة
، والعصى – وهذه الحدود التي تسرطنت وانتشرت حتى داخل الإنسان نفسه .. ومادام الأمر كذلك – فطبيعي أن توجد
حدود بين الخامسة وعبد السميع .. وبين عقل الخامسة وعقل عبد السميع بين جسديهما .. وكلماتهما ..بين عبد
السميع وجسده وقلبه وعقله بين الخامسة وعقلها وجسدها وقلبها ..بين الرؤى والطموحات .. ولهذا وحينما تختنق
الأنفاس ..لابد من أن يمزق الإنسان نفسه ..لابد أن يخرج حبة القلب ويزيح عنها التراب لتتنفس ..ويفتح صندوق عقله
ويخرج منه المصباح .. ليعيد إشعاله … وتزويده بالزيت لابد أن تهدم الجدران .. أن يحطم عبد السميع بيته
وقلبه ليبحث عن فضاء أوسع ..خلاء خال من كل القواعد والأوامر المفروضة بالسوط والعصى .. والسيف ..من كل الشروط
المسبقة .لابد من الهدم لنبني من جديد ..وهذا ما يحدث بالفعل .. تتشظى علاقة عبد السميع بالخامسة فيهدم عبد
السميع نفسه ..عبد السميع الآسن ..عبد السميع الذي طحنته العادة ..والدوار اليومي ..ليبحث عن عبد السميع
الآخر .. المتفتح ..المتوقد .. المشرع على فضاءات أوسع ..ومع الآخرين وهنا تجد الخامسة نفسها أمام نفسها …
ومن ثم أمام خامسة أخرى فتهدم الخامسة الجديدة الخامسة القديمة..وتخرج من القبر .. لتولد من جديد .. وتعيد
صياغة خامسة أخرى .. غير تلك التي تشرخت وشاخت وتكتشف أن لا وجود للواحد المنفرد في الحياة ..ولا وجود لعلاقة
سوية بين عبد وسيد يبن قاهر ومقهور .. فتزيح آثار الواد .. وتنطلق لتجد الواحد الكل .. والكل الواحد .. دون
فقدان السمات .. والتميز والتنويع .. لذا نجد الخامسة تعلن بعد أن وصلت إلى يقينها الجديد القائل أن الحب لا
يولد إلا بين ذاتين واعيتين .. والولادة لا تتم إلا في زمن الخصب المتبادل ..والمشترك .. إلا في زمن التطلع إلى
الأعلى وإلى الأمام ..ليس وجوداً فردياً .. ولاولادة فردية ..لأن الآخرين هم الهواء .
أيها الناس
أيها الناس
من رأى منكم عبد السميع ضائعاً
فليرده إلىَّ
من رآه جائعاً
من رآه مقهوراً فليرفع صوتى محتجاً .

إنها لم تعد مقهورة ..ولا قاهرة ..لكنها عادت إلى حقيقتها أما ولوداً وأرضا خصبة..وفضاء يتسع ليشمل الكل – هذا
الكل الذي خرج عبد السميع يبحث عنه..وليولد فيه – تخرج من رمزها المحدد ..وإلى رمزها المتسع .. الواعد ..
الموعود .هذا بإيجاز عن النص .. وإن كنت لا أحب الفصل في هذا العمل بالذات بين النص والعرض .. بين التأليف
والإخراج .. وبين الإخراج والتمثيل فما كان على المسرح – هو تفاعل هذه العوامل مجتمعه كان الهدم يتم في النص
وفي الإخراج وفي التمثيل – وكان الأداء جيداً .. فالتماسك والتوتر الايقاعى … وتناغم العناصر المشتركة فيه ..
بضبط إخراجي وحس واع .. ابتعاده عن الحذلقات المشوهة .. تلقائيته الواعية ومع أن المسرحية معنية بفعل الهدم
والبناء ..ونحن نعرف ما يصاحب هذا من ضجيج وفرقعة – إلا أن الهدم يتم بشكل غنى راق – المخرج يقود عملية
الهدم بدون انفجارات طائشة أو استهلاك مأزوم وبتصويب جد محكم .. ودقيق ..إنه يقدم فنه بثقة .. ورصانة .. ومرح
مشروع ..وعنفوان زاخر .أما التمثيل فقد امتاز بفاعلية فذة .. وتجسيد لدراما العمل .. تحطيم كل الكليشيهات
..كسر التابوات .. واللاءت الكابحة .
الجسد يوجد دون خجل حريمى – دون طاووسية ذكرية، دون الإحساس بالعار .. الجسد يتجوهر عند ” منية الورتاني ”
ويخرج من إطار الدمية ..المومياء ..إلى دوره الطبيعي .. ليس كوسيلة للتعبير فقط ..ولكن ككيان له الحق في
التعبير عن جوهريته .. وتخليه عن سكونيته واستلابه كأداة للمتعة ..وساحة للتنفيس .
الصوت يعود إل إمكانياته ..إنسانيته .. إيقاعه الحقيقي .. قدرته على التأثير .. والتوصيل لكل ما يموج داخل
الكيان الإنساني الطامح لإعادة الاعتبار لذاته المهشمة ..دون علك الكلام ..وسط الدعارة ..أو الصراخ السمج ..
وقرقعة التنك الفارغ ..
التناسق بين المشتركين دون تعد على أحقية الآخر في الوجود فوق الخشبة وفي الواقع ..
الاختلاف التكامل .. والتكامل الخصب والنماء .
وكثيرة هي الومضات .. والإشراقات ..التي تحتاج لوقت أطول .. ومجال أوسع ، ودراسة متمهلة .. وكان عدم توفر
النص عائقا أمام استشهادات أكثر شمولية ،وأكثر دراية بمكنونات المسرحية وليست هذه سوى وقفة سريعة ، أمام جهد
طموح ، وتجربة جيدة من أجل كسر الحدود ..ولم الشمل ،والوصول إلى أرضية مشتركة من أجل تفاعل عري مشترك ،
ووثاب .
شكراً لكل من شارك في هذه التجربة ، مع الأمل في أن نرى محاولات أخرى ..

من almooftah

اترك تعليقاً