ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-17- نوري عبدالدائم
**************************

علاقة جميلة كهذه..
.” تخاريف قديمة عن مسرح حقيقي وعشاق حقيقيين ”
بقلم / عبدالله الزروق

إن النسيج الدرامي الذي يختاره المخرج هو الفيصل وهو الأساس وعليه توضع جميع الأحداثيات وهو الذي يحدد درجة الوعي والمعرفة من خلال معركة أولية يحدد فيها المخرج نقاط التماس والاختراق لذلك النسيج عبر محاولات التطويع والذوبان أو التوازي فكثيراً ما يقف النسيج الدرامي صلباً عنيداً غير قابل للاختراق أو التطويع أو التفاهم عندها يكون الإخراج موازياً يحارب ويناضل من أجل قيمة يريد أن يحقن بها ذلك النسيج حتى يحدث التلاقح وفق قراءتين متوازيتين.. ولم أعرف زمن الستينيات فارساً حقيقياً يحاول فك طلاسم تلك الأنسجة إلا الفنان الراحل الأمين ناصف.. الذي كان عاشقا حقيقيا تفتحت مداركه منذ زمن الخمسينيات على المسرح العالمي.. هرباً من القوالب التقليدية وفراراً من الغرفة الإيطالية.. وفي عام ١٩٦٩ مسيحي، قدم على مسرح الغزالة مسرحية رائعة من المسرح الياباني وهي “راشومون” هذه المسرحية التي هزت الأمين ناصف هي نفس المسرحية التي حولها المخرج الياباني الشهير “أكيرا كيرومساوا” إلى شريط سينمائي هز العالم وحصد أغلب الجوائز بما فيها الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، وهي ومضات إنسانية لحياة الساموراى ذلك المقاتل الفذ والولوج لأعماقه.. وعرضت هذه المسرحية في عام ١٩٦٩ مسيحي، أيضاً في مهرجان الجزائر للمسرح وأثنى عليها النقاد والفنانون واعتبروها طفرة حقيقية للمسرح الليبي.. وكانت هذه المسرحية من تمثيل سعاد الحداد.. محمد شرف الدين عبد الحفيظ أبو سبولة، أحمد الغزيوي، علي القبلاوي، سالم الشريف.
كانت فرقة المسرح الليبي تعرض في ذلك الوقت مسرحية “زهرة المدائن” من إخراج عاشق آخر من عشاق المسرح له مذاق آخر وتجربة أكثر عمراً المرحوم الأزهر أبو بكر حميد.. الذي أخرج هذه المسرحية وأعدها عن “أفول القمر” “لجون شتاينبك” وكنت ممثلاً فيها وكانت من بطولة عياد الزليطني وعبد الله الشاوش والأزهر حميد.. ومفتاح شبشاب وعلي الرقيعي ومحمد الغرياني وغيرهم من الزملاء.. فاجتمعت هاتان المسرحيتان في عام ١٩٦٩ مسيحي، كما أقامت فرقة المسرح الليبي حفلاً بمناسبة النجاح الباهر لمسرحية “راشومون” وكان هذا أول لقاء حقيقي لي مع الأمين ناصف.. عرفت فيه أنه يرغب في إخراج مسرحية “سجناء الطونا” لجان بول سارتر.. واستمرت لقاءاتنا بعد أن بدأ في التدريبات على مسرحية “زهرة من دم” للكاتب سهيل إدريس.. وكان الراحل الأ زهر حميد متحمساً للاستفادة من انفتاح الراحل الأمين ناصف.. وقد كنت أحد الممثلين في هذه المسرحية رفقة عبد الله الشاوش وعياد الزليطني وعثمان إسماعيل وغيرهم.. ولكن هذه المسرحية لم تكتمل إذ توقفت التدريبات بقيام ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة.. ووسط فرحة الشباب وحماسهم استطاعت الفرقة أن تقدم مسرحية “وتحطمت الأصنام” في تاسع أيام الثورة ووسط حظر التجول وهي من تأليف وإخراج الأزهر أبو بكر حميد.. وأنا عندما أتكلم عن هذه المسرحيات لا أنفي جهود الفرق المسرحية الأخرى وهي فرق رائدة.. فقد كانت خشبة مسرح الخضراء “الحمراء” سابقا وأود في هذه السانحة أن أؤكد أن تسمية مسرح ” الهمبرا” المقصود بها قصر الحمراء وليس اللون الأحمر.. كانت هذه الخشبة تحتضن الفرقة القومية في مسرحية “حلم الجيعانين” تأليف وإخراج الراحل مصطفى الأمير.. وذلك الدور الرائع لفنان الشعب محمد شرف الدين والفنان القدير مختار الأسود.. والعزيز البوصيري عبد الله الذي كنا نسميه شكري سرحان ليبيا.. وذلك التطور التقني الذي ظهر في هذه المسرحية عبر سينوجرافيا فريدة في مشهد القبور حيث استجلب المخرج مصطفى الأمير أزياء عليها هياكل عظيمة من إيطاليا.. وعند إضاءتها بالأشعة فوق البنفسجية لم تظهر إلا الهياكل التي يلبسها الممثلون وكانت تطوراً نوعيا لابد من الإشارة إليه.. وكنت ملقنا في هذه المسرحية وممثلا في مسرحية “زهرة المدائن” وأدت الراحلة فتحية القمودي وهي من الممثلات الجيدات دوراً متميزاً.. وما دمنا تكلمنا عن السينوغرافيا لابد لي أن أذكر ذلك الديكور الرائع للفنان علي عثمان وهو منظر الغابة.. فقد قسم المسرح بخلفية من “الشيفون” لكي يضمن ضبابية الغابة وكذلك مكياج سالم الشريف ومحمود زميط.. وكانت الفرقة الوطنية قد أنهت مسرحيتها “حسناء قورينا” تأليف د. علي فهمي خشيم.. وإخراج الأستاذ خالد مصطفى خشيم التي عرضت في مهرجان المنستير للمسرح عام ١٩٦٨ مسيحي.. وكذلك الحضور الرائع للمسرح الشعبي ببنغازي في “بيت الله الحرام” على مسرح الغزالة.. من إخراج عمر الحريري وفيها الرائعون فرج الربع ومنصور فنوش الذي لن أنسى مسرحيته الرائعة “البخيل” ومحمد بن حريز وغيرهم من الأعزاء.
أعود مرة أخيرة إلى الأمين ناصف الذي لم نستطع أن نستثمره والذي لم يطرق بابه أحد تلك الطرقات التي تعيد إليه الحنين وتفتح أبواب قلبه.
عندما بدأت في الإخراج عام ١٩٧٢ مسيحي، كان اختياري لمسرحية “الحضيض” للكاتب الروسي الكبير مكسيم جوركي صعباً ففي زمن سطوة الأعمال الواقعية لن نستطيع النفاذ بسهولة.. ولن ترضي مهما فعلت أذواقهم.. ولن نستطيع أن نتكلم عن المذاهب المسرحية ولا تحطيم الحائط الرابع.. الذي كان مقدساً.. ومتينا، أشبه بسور الصين أو سور برلين أو حائط المبكى.
وفي يوم الافتتاح على مسرح الكشاف كان الراحل الأمين ناصف أول الحاضرين وأول المهنين.. كان ذلك عام ١٩٧٣ مسيحي، نفس السنة التي عرض فيها مسرحيته “الزير سالم” للكاتب العربي ألفريد فرج الذي قال عند مشاهدة المسرحية وفي كتبه فيما بعد بأن القراءة الليبية كانت أقرب القراءات.. كان عملا متكاملا برز فيه الفنان لطفي بن موسى ولطفية إبراهيم وعمران المدنيني وحميدة الخوجة.. وغيرهم من الزملاء وقدم الأمين ناصف في هذا العمل مسرحية من أهم المسرحيات الليبية.. وعندما تقدمت لإخراج مسرحية “سور الصين” للكاتب المسرحي “ماكس فريش” بالمسرح الوطني وبدأت تدريباتها.. وبعد ذلك أوقفت ولا أعلم إلى حد الآن لماذا أوقفت؟، كان الأمين ناصف هو المساند الحقيقي.. بل إنه أخذ مقدمة مسرحية “الزير سالم” من مقدمة مسرحية “ماكس فريش” سور الصين وأشار إليها في كتيب الدعاية.. وباشر بعد ذلك في إخراج مسرحية “السندباد” للمسرح الوطني.. ولكن خلافاً حدث حول الموسيقا التصويرية بعد نهاية الحركة والديكورات أوقفت بسببه المسرحية، وكانت آخر علاقة له بالمسرح.. استدعي في آخر سنوات عمره مرة عضواً في لجنة التحكيم، وكانت محاولة أخيرة قبل وفاته بقليل لإخراج مسرحية بالمسرح الوطني.
هذه تخاريف قديمة عن مسرح حقيقي وعشاق حقيقيين.. ملأوا خشبات المسارح بتجاربهم المخرج القدير محمد القمودي ومسرحيته “كاليغولا” لألبيركامو.. و”الضفادع ” لاريسطوفان .. ومحمد العلاقي.. والطاهر القبائلي في مسرحية “وطني عكا”.. التي مازلنا نتذكر صوت الممثل العملاق شعبان القبلاوي وهو يصيح وطني عكا.. عكا يا وطني.. وعلي أبو جناح وعبد الفتاح الوسيع وعلي ناصر وعلي الجهاني.. ومحمد إدريس.. وأتى بعدهم جيل جديد أصبح الآن يمتلك مقدرات المسرح بدخول الدراسة والتحصيل.. واضعين على عاتقه آمالنا وأحلامنا في قيام مسرح حقيقي.. حقيقي.. حقيقي.

من almooftah

اترك تعليقاً