ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-18- نوري عبدالدائم
**************************

عبدالله القويري .. الصمت الصاخب
بقلم / جمال التركي
ترى لماذا خاض عبدالله القويري فعل الكتابة المسرحية؟ واستجابة لأي نداء ؟ ثم لماذا توقف عن كتابة النص المسرحي ولم يستمر بحيث تتموضع تواريخ نصوصة ضمن فترة وجيزة تقع بين 1963-1965 هذا إذا استثنينا مسرحية عمر المختار التي كتبها في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ولم تتضمنها المجموعة الكاملة لمسرحياته، ربما لضغطها الفني قد تبدو هذه الأسئلة ساذجة واعتباطية بعض الشيء إلا أنها تظل الأكثر حضوراً بالقدر الذي تستحيل فيه الإجابة عنها ، ولأن أية مقاربة نقدية تعني أساساً بالنص المحايد وتعتبر ما عدى ذلك هو اختصاص لفروع أخرى فمناقشة الوضع النفسي للكاتب يخص علم النفس بشكل رئيس وتحليل التفاعلات الاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية المصاحبة لعملية الكتابة تقع ضمن مدرات علوم الاجتماع، والاقتصاد، والتاريخ إلا أنني أعتقد أن فعل الكتابة لدى القويري هو بشكل كبير محاولة للحوار مع الآخر الآخر الذي يخصه والذي يخاصمه ويحبه ذلك الآخر، الذي يفترض بنا استحضاره نحو محيط الكتابة ومقياسه المساحات الدالة بينه وبين ذات الفاعل والنص. ولعل ذلك يحيلنا إلى تفصلين ومقاربة فنتكئ أولاً على أن الكتابة المسرحية عند القويري – في مقابل الاجناس الأدبية الأخرى – هي وحدها في اعتقاده الأكثر قدرة على النفاذ نحو الآخر، وهي الفضاء الممكن للحوار لكونها الجنس الأدبي الوحيد الذي يتم استقباله بشكل جماعي خلال العرض، ويعود التمفصل الثاني إلى محاولة ردم الهوة المفاهميه والمرجعية والقيمية بين الذات وبين البنية الثقافية والاجتماعية السائدة للمجتمع آنذاك فهو وفي معظم أعماله يحاول أن يكشف نفسه للآخر وأن يستدرجه نحو بقعة الضوء الإنساني.
وتأتي مقاربة فترة الكتابة تاريخياً في كونها من أكثر سنوات القلق في التاريخ الوطني الحديث ، فمع بداية التسعينيات ظهرت الطفرة النفطية ، وما رافقها من تغييرات درامتيكية لبنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحدوث هذه التغيرات دفعة واحدة وبشكل مفاجئ وانتقال المجتمع من نمط اقتصادي بدائي إلى نمط اقتصادي ربحي مصحوباً باحتياج لشركات تجسد أقصى ما توصلت إليه الرأسمالية ، ويبدو هنا المشهد درامياً بالكامل حيث تتجاور ثقافتان على طرفي نقيض في مكان واحد وفي لحظة واحدة وفي دورة اقتصادية واحدة ، ربما هذا ما كان ” القويري ” يحاول أن يرصده، فتأتي مسرحياته محملة بالأسئلة الميتافيزيقية موشاة بالقلق واللاجدوى والرفض المجهض والتمرد المخنوق ، تثيرها شخصيات أشكالية على حد تعبير لوكاش تحظى في مشروعها مع معرفتها المسبقة بفشله ، حيث الانتظار بلا جدوى ، ومعالجة الخيبة بالصمت ، وليبدو الفقد نسيجا تحيكه الشخصيات بشكل متوتر يزيح كل تطهير ممكن نحو توتر دائم وقلق ، فيظهر اللاتواصل مهيمنا على مجمل النصوص ، هناك شخصيات تريد أن تتذكر وشخصيات تريد أن تنسى وشخصيات تريد أن تنيب عنها الأخرين للتذكر أنها محاولة لترويض الذاكرة المثقلة باسمال الذهول والمحبوسة في الطلال التى يتلاشى فيها كل شىء وينتصر الموت إنه يكتب بمعنى أنه يرى الآخر بين الكلمات ، يرصد الأحداث الواضحة في حياة شخصياته ثم يفرغها بهدوء من معطاها اليومي ، ويعيدها كتراجيديا تحفر في ذاكرة المسكوت عنه ، تراقب التآكل الإنساني أمام اللهاث المحموم للحفاظ على الذات.
إن الإبقي بالنسبة للكاتب هو ذلك التساؤل عن معنى الأشياء وذلك الرصد الحثيث للخيبة الإنسانية ، فما يلح لديه هو ذلك الشعور بأن هناك خطرا ما، قدراً ما يسوق البشر إلى مصير لم يختاروه وليسوا مسؤولين عنه ، ولكنه يقودهم إلى حتفهم ، فالشخصيات لم تعد هي السيد ، أصبحت موضعاً للتدقيق ولإعادة التعرف إنها تحيك حكايتها الصغيرة بشكل عصابي يزيح كل تطهير ممكن حسب المفهوم الأرسطي نحو توتر دائم يفتقد التواصل ، ليصير الحوار مجرد تشكيل للعلاقات بين الذات وموضوعاتها الحقيقة والهوامية ، فتنزاح هذه الذات عن مركز النص وتتحرك متوزعة بين الشخصيات ، وهي لا تفتأ في تقويض مقولات الخطاب المتطابق مع مقتضياته الاجتماعية ، لتدفع به نحو مناطق الصمت ، بحيث يعجز هناك عن اصدار أحكامه وفرض إجراءاته التي لا تتعدى ثنائيات الخير / والشر أنه يفهم الكتابة على أنها نداء ، يحثه على السير منفرداً ومعاكساً ويثنيه عن كل رغبة في الاستقرار يقول سعدالله ونوس إن المسرح هو الرجوع إلى الحوار ، حوار متعدد ، مركز وشامل ، حوار بين الأفراد ، وحوار بين الجماعات وقد توقف عبدالله القويري عن فعل المسرح ربما لأنه شعر أن هذا الحوار هو مجرد منولوج في منودراما الممثل الواحد .

 

من almooftah

اترك تعليقاً