ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-6- نوري عبدالدائم
**************************

” القويري ” يتحدث عن العقربي ” ….
” لم يهدأ (محمد العقربي ) كان دائماً يبحث عن الأرض التي تقبل بذرة الفن ”

بقلم / عبدالله القويري

سمعت عنه ولم أكن من قبل رأيته قالوا بأنه يخرج مسرحية (أهل الكهف) لإحدى الفرق واصطحبت أحد الأصحاب معي ليدلني على مكان الفرقة وهناك جلست مع الشباب الذين يمثلون المسرحية أنتظره ولم يمض كثير من الوقت حتى أتى قدموني له ولكنه لم يجلس يحادثني إذ سريعاً ما قال:
الفصل الثالث مرة أخرى.
وبدأ الممثلون الناشئون في أدائهم وكان يصلح لهم أخطاءهم دون ملل ويعودون فيخطئون ويعود ليصلح الخطأ وكثيراً ما قام ليؤدي ذلك المقطع منفعلاً .. يشدهك بأنك تحسبه في أول الأمر لا يستطيع الحركة ولكن ما أن تهتز الحبال الصوتية حتى تحس به حركة مشتعلة لا يستطيعها شاب الحركة المسرحية لم تكن في يوم من الأيام حركة ظاهرية ولكنها حركة داخلية تهزك وأنت تحسبها مجرد كلمات ولكن ما أن تراها تخرج من فم فنان حتى تدرك أن الكلمات تحولت إلى شيء عميق رجعت إلى أصلها الذي يتمثل في بلورتها الأخيرة بلورتها التي استقطبت تاريخاً إنسانياً طويلاً تركز في الكلمة فكان على الفنان أن يعيدها من جديد يعيدها حركة تشعر معها بذلك التاريخ الطويل.
وجلست أشاهد وأسمع لم أقل كلمة فقد أخذتني تلك اللحظة الباهرة التي تمسك بكل إنسان تهزه وتحدث الضجة في أعماقه ولا تتركه إلا هنيهات بسيطة يسترد فيها أنفاسه لتعود بعدها تهزه من جديد وتترك في أعماقه ما يتساءل بعده كثيراً ولكن التمكن لا يترك التساؤل ليتحول إلى كلمات جوفاء أو مغالطات التمكن يجعل من التساؤل إمكانية أخرى تفجر إمتاع الفن وإعجازه الدائم وتود لحظتها أن تقوم لتقف على المسرح فتقول كلمات أو لتتحرك ولكن لا تستطيع فتجلس مكانك تهتز كابتاً تلك الإمكانية إلا أنك تسعد عندما ترى غيرك يؤديها فيغنيك عما تريد أن تفعله تسعد بالراحة بعد ساعة من التواجد الفني والإبداع والفنان يكشف نفسه في كل ومضة يكتشفها ويكتشف عالماً غير مرئي ويستطيع أن يقدم ذلك في إيماءات وإيحاءات بعد معاناة طويلة قد تبدو لك مجرد لحظة وهي في واقعها تاريخ طويل من التجربة ومن دقائق ما تحويه التجربة.
قد يبدو لك أنه مجرد هزة من يد أو تحريك أصبع أو تغير في ملامح الوجه قد يبدو لك هذا وكأنه أتى عفوياً في لحظة بسيطة ليس وراءها من شيء ولكن الواقع أن مثل هذه الحركات البسيطة تحمل وراءها ثقافة طويلة وتجربة عريضة ومراساً دائماً.
إن التمثيل تقديم ما هو غير عادي كأنه العادي وهو في نفس الوقت لا بد أن يدهشك بالمعتاد .. هو فن الاقتدار على أن تضع المعقد في قالب بسيط وفي نفس الوقت تعطينا أحساساً بعمقه وبعدم بساطته ولقد جلست أشاهد الفنان (م،ع) وهو يعاني كيف يصب في نفوس ناشئة ما لديه من خبرات وما عنده من إمكانات وما يحويه وجدانه من الاحساس بأهمية اللحظة الفنية وما في ذهنه من ثقافات متنوعة تهتم بالحديث والكلاسيكي ويدرك دلالة الكلمة القديمة في الوقت الذي يتصور فيه حركتها كان يجاهد من أجل أن ينقلهم إلى هذا المستوى دون ملل ولم أتململ طوال جلوسي أشاهد فصلاً واحداً يخضع للإعادة وللتصويب الدائم بل كانت فرصة فريدة أحسست فيها بأهمية أن يعيش فنان لحظة الإبداع دون أن يصدر عنه ما يدل على التعب.
عجبت داخل نفسي وأنا أشاهده كيف يستطيع انسان وصل إلى هذه السن أن يتحرك حركة نشطة تحسبها حركة شباب في العشرين كيف يستطيع إنسان أن يتحمل انفعالات الموقف مرات ومرات دون أن يقلق وأن يحس بالخمود؟
كيف يستطيع رجل فنان كبير له تجربته الطويلة أن يتحمل أخطاء شبان وتكرار خطئهم المرة بعد المرة دون أن يغضب أو يضيق ذرعاً بمثل ذلك ولكم سألت نفسي كثيراً محاولاً الوصول إلى مفتاح ذلك فلم أجد غير الفن وغير الصدق الفني.
كان (م،ع) إذا ما وقف أو تكلم يعيش لحظة الصدق الفني التي تجعله قادراً على حركة ربما عجز شاب عن إتيانها وكان لا يمل من التصويب لأنه يدرك أن التعب الذي يبذله وراء ذلك لايداني لحظة بارعة يأتيها وقد اقتدر على تلك اللحظة إنها سعادة غامرة يعيشها أستاذ عندما يروي أنه استطاع إيصال تلك الشرارة إلى نفس.
هي شرارة تجعل من هذا الشيخ شاباً تجعله وقد تمكن من إبداع فني يهز النفس ويرج الأعماق ثم يصعد ذلك إلى آفاق لا يستطيع أن يصعد إليها أحد ما لم تضر به تلك الشرارة.
وانتظرت ما يزيد على ساعة ونصف أنظر إليه يعيش بين شباب يعلمهم الفن ويحاول أن يغرس ذلك السر المقدس في نفوسهم ثم جاء الرجل ليجلس أمامي وليبدأ الحديث كأنه يعرفني منذ زمن طويل وتحدثنا عن الفن والمسرح وكأنه له رأي وافقته عليه وأمضيت نصف ساعة في حديث معه ثم ودعته وانصرفت.
وبمرور الأيام تعددت لقاءاتنا وعرفت نفس الفنان الحقيقي الذي لا يعرف مواقف وسطا وكنت أشاركه مواقفه كما كان يشاركني مواقفي كان لا يفرق بين إنسان وإنسان في موقف إذ يسيطر عليه الرأي وكان يتصرف بعيداً عن منطلقات الخوف كان يرى أن الفن لا يعرف مجاملة ولا يعرف النواحي الشخصية الفن عنده فوق كل طرق المجاملات.
الفن عنده أصول ودراسة وثقافة وموهبة ولقد أعجبت كثيراً بأنه يفرق بين شيئين تعارف شخصي فهذا يدفعه إلى رقة في الحاشية وإلى سلوك مهذب مجامل وتعارف أو معرفة فنية وهذه تدفعه إلى التمسك بالفن وأصوله دون أن يقيم وزناً لأي شيء آخر.
لم يكن الفن عنده مجاملة في حين أن من يصل إلى سنه يميل كثيراً إلى الهدوء وإلى عدم إثارة المعارك أما هو فقد كان يميل إلى المعارك طالما كان وراءها دفاع عن الفن وأصوله وعن شيء جوهري لا يجب أن يمس.
وقد يعجب شخص من فنان أن يكون ذلك سلوكه ولكن العجب أن يكون هناك فنان أصيل ولا يكون هذا سلوكه ذلك أن الفنان هو معلم .. هو معلم وأستاذ اتخذ سبيله إلى النفوس بواسطة أدوات ما أصعبها على من لم يوطن نفسه عليها فهي تطلب منه دائماً أن يكون في حالة تواجد فني وفي نفس الوقت يكون في حالة التأهب لمعركة يتخذ لها أسبابها وهي ليست معركة تثور في وقت ثم تخفت إنها معركة مستمرة لا تهدأ أبداً وكم كان لكثير من الشباب عندنا تمردهم عليه وكم كان له تشبته بالأصول والأسس والقيم الفنية ربما رأى بعض شبابنا أن الفن أمر سهل كبقية ما يرونه في حياتهم أما هو فقد كان الفن عنده أمراً صعباً يتطلب مراساً طويلاً وتمكناً كان على كبر سنه لا يهدأ ويناقش وكانوا على صغر سنهم يريدون الحياة هادئة وأن لا داعي للنقاش كان يريد أن يزرع في نفوسهم تلك البذرة الخالدة وكانوا لا يريدون أكثر من أن يعرفوا إشارات وتلويحات من الأيدي وتهريجات في الصوت ليقولوا عن أنفسهم بأنهم ممثلون لم يهدأ (م،ع) كان دائماً يبحث عن الأرض التي تقبل بذرة الفن وكم كان الكثيرون عندنا جاحدين لإمكاناته.
كان يقول الكلمة في حدة الفنان الذي يريد أن يقدم ويعمل فما كان أسرعهم إلى عدم فهمها وتأويلها وإخراج ردود الفعل السريعة تجاهها.
وكثيراً ما التقيت بشباب وقلت لهم:
قبل أن يكون عندكم استعداد للفن يجب أن يكون عندكم استعداد للتلمذة ولن تصبح أستاذاً يوماً ما لم تكن تلميذاً عاش بروح التلميذ فترة طويلة ، قد يصل التلميذ إلى التمرد على أستاذه ولكن لا يتمرد حتى يحس بأن عنده ما يقدمه وأن سنه وتجربته وثقافته قد أوصلته إلى مرحلة كبيرة من النضج إذ يصبح وفي إمكانه أن يقدم شيئاً.
لقد كان عندنا سوء فهم لكل إنسان يريد أن يفيد وسريعاً ما نطلق أحكامنا ونسعى في حركات عفوية عشوائية نحطم ولا ندري أننا نحطم أنفسنا لقد عاش (م،ع) في ليبيا ما يقرب من ثلاث سنوات أقول لكم الحق إننا لم نستفد منه كثيراً رغم إلحاح على أن يفيد ويعطي من صحته وجهده وأعصابه ووقته وثقافته ما يعجز عنه عدد من الرجال كنا سريعاً ما نرفض الأستاذية وندعي أننا ملكنا كل شيء وليس عند غيرنا أحسن مما عندنا فتكون النتيجة أن ليس عندنا شيء وأن من أراد أن يفيدنا قد رجع وبنفسه غصة وفي قلبه حزن.
قالت نفسي:
والآن أراك تتذكر تلك القصة المنسية .
قلت:
ألا نقرأها معاً من جديد وبعدها لنقرأ مرة أخرى قصة كتبتها منذ زمن.
قالت:
وما هي غايتك من ذلك؟ أم أنك ستترك المعنى في بطنك!!
قلت:
هذا ما فعله شعراؤناالأقدمون أما الفن الحديث فهو بقدر ما يقترب من البطن بقدر ما يبتعد عنها على كل حال دعينا من ذلك الآن فله حديث طويل يأتي في حينه ولنقرأ (الوطن الجديد) ثم بعد ذلك (لحظة لم يقتلها أحد).
قالت:
ألا تذكر تاريخ كل منهما؟
قلت:
معك حق فلذلك دلالته ولا شك كتبت الأولى في أواخر سنة ١٩٥٦ أما الثانية فقد كتبتها في أواخر سنة ١٩٧١.

 

 

 

 

من almooftah

اترك تعليقاً