ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-3- نوري عبدالدائم
**************************

بواكير النقد المسرحي في ليبيا …
” مولود قابلته الصحافة ”
بقلم / البوصيرى عبد الله ” 1 ”

المسرح والصحافة فى ليبيا شقيقان جميلان شقيان تمخض عنهما العهد العثماني الثاني بعدما برأ من عقمه وشفى من سقمه ، ولد الأول تلو الثانية وعاشا معا ومات .. بل قتلا معا ، عاشا وترعرعا، واشتد عودهما بجرعة قوية من ترياق الحرية وقتلا برصاص من رصاصات الغدر الامبريالي، وليس هذا من قبيل تنميق الحديث ولا من باب تزويق الكلام وإنما هو واقع موثق وماض مكتوب على جبين ثقافة هذا الوطن.
ولد المسرح الليبي ، كما اسلفنا ، سنة 1908م. والصحافة كذلك (1) كتوأمين بصدور قانون الحريات ( المشروطية ) ولكنهما ما عتما ان قتلا تحت انقاض مباني الطموحات التى دمرتها البوارج الايطالية عند بداية رحلة الموت سنة 1911م. التى قررت روما ان تعيد بها أمجادها الغابرة . وبين لحظة الميلاد، وارتعاشة الموت زمن قصير ، قد لا يمكّن الوليد من تعلم كيفية المسير ، ناهيك عن تعلم لغة الحضارة .
حدثان ، كما يقول الأستاذ المصراتي ، الأول فيه فرح وبهجة ورنة ، والأخر فيه زلزلة ورجة وبين هذين العهدين كانت نقلة هامة وتطور سريع نحو الرقي والنهوض.(2)
ان ما نرمي إليه من وراء هذا الاستهلاك المثير للشجون هو تبيان المؤثرات السياسية والمعطيات الحرفية لتجربة الصحافة الليبية والمسرح معا خلال العهد العثماني الثاني ، ومن ثم اثر هذه العوامل والمؤثرات على علاقة بعضها ببعض أملا فى الوصول الى تقويم هذه العلاقة تقويما يتسم بقليل من الموضوعية . ان لم ندرك الكمال مع علمنا ان الكمال خاصية ربانية وليست إنسية .
عندما ظهرت أولى تجارب المسرح الليبي فى أكتوبر 1908 م. كانت تصدر فى طرابلس ، آنذاك .خمس صحف هى : السلنامة ، طرابلس الغرب ، الترقي ، الفنون ، ابو قشة ، ولكننا لم نجد صدى هذه التجربة الفنية المحلية غير المسبوقة إلا فى صحيفتين اثنتين ونعنى بهما جريدة ( الترقي) التى أحسنت الاستقبال ، وتابعت جمعية التشخيص متابعة دقيقة بواسطة الخبر والإعلان والنقد والمقالة . وجريدة (طرابلس الغرب) التى خصت هذه الجمعية بأحد أعدادها فأوردت فيه خبرين يكتنفهما الكثير من الغموض، احدهما بعنوان ( مقاطعة ) والأخر بعنوان ( خبر ) ..
ثم تواصلت الحركة المسرحية فى البلاد واشتد أوار الإبداع فيها خلال الثلاث السنوات اللاحقة فتوزعت فاعليتها على ثلاثة محاور: تمثل المحور الاول فى الفرق الأجنبية ، وتمثل المحور الثاني فى الفرق العربية الزائرة ، وتمثل المحور الثالث فى جمعية التشخيص الليبية . ورغم ذلك فلم نر متابعة الصحافة الوطنية لهذه الحركة المسرحية الوليدة إلا من ست صحف هى : طرابلس الغرب ، الترقي ، المرصاد ، الرقيب ، ابو قشة ، واستنادا الى بشير عريبي يمكننا إضافة جريدة ( تعميم حريت) من أصل عشرة صحف عربية كانت تصدر خلال هذه الفترة يقدر ما حصلنا عليه فى هذه الصحف بسبعة عشر نصا ، اى بواقع ستة نصوص تقريبا فى السنة الواحدة ، تختلف هذه النصوص الصحفية من حيث الطول والقصر ، وتتباين من حيث جنسها الأدبي بين خبر ومقالة او نقد موزعة على النحو التالي:
أ – الترقي : تسع نصوص :
1- التشخيص .
2- حب الوطن.
3- فن التشخيص .
4- استفدنا.
5- جوقة التمثيل الادبى
6- جوق التمثيل.
7- لمنفعة مكتب الفنون.
8- هل التمثيل مهان.؟
9- خبر ( نقلا عن كتاب : تاريخ المسرح فى الجماهيرية (
ب- طرابلس الغرب : ثلاث نصوص
10- المقاطعة .
11- الخبر.
12- رسالة التشكر.
ج- المرصاد : نص واحد
13- الى ذوى الغيرة والمروءة.
د- الرقيب : نصان
14 – جوق التشخيص .
15- الجوق المصرى .
هـ ابو قشة : نص واحد
16- التمثيل ( نقلا عن كتاب : ابي قشة (
و- تعميم حريت : نص واحد
17- خبر ( نقلا عن كتاب : الفن والمسرح فى ليبيا(.
اما جنس هذه النصوص الصحفية ، وحظ كل جريدة منها فنقترح تبيانه فى هذا
:الجدول:

 

الجريدة خبر اعلان مقالة نقد المجموع
طرابلس الغرب 3 3
الترقي 3 3 2 1 9
الرقيب 1 1 2
المرصاد 1 1
ابو قشة 1 1
تعميم حريت 1 1
المجموع 7 5 3 2 17

*****************

ان هذا الرصد الببليوغرافي لا يوضح لنا حميمية العلاقة بين المسرح والصحافة كالتي نلمسها فى الصحف العربية الأخرى مثل جريدة (الأهرام) القاهرية ، او (التقدم) التونسية او حتى الصحف الليبية فى الأربعينيات بل انه يكشف عن تقصيرها وسلبيتها تجاه نظيرها وشقيقها فى الطموح برقي البلاد ، وتنوير العباد ، فهذا الكم المبتسر لا يعكس حقيقة النشاط المسرحي على ارض الواقع خاصة فى السنة الأخيرة التى سبقت الاحتلال الايطالي حيث شهدت طرابلس زخما من العروض .. بل شهدت صراعا فنيا، ولا مبالغة ، وتنافسا فى لغة الإبداع المسرحي بين جوقين عربيين هما جوق (الياس فرح ) وجوق ( محمد ابو العلا) المنشق عنه . كما شهدت البلاد فرقا عربية أخرى ، مثل الجوق المصري ، وجوق إبراهيم حجازى،وجوق التمثيل الأدبي حملت معها أفضل المسرحيات المستعارة . أصلا. من برامج كبريات الاجواق العربية .
إذا كان هذا هو موقف الصحافة من المسرح على الصعيد الكمي ، فما هو موقفها ، إذن على الصعيد الفكرى ؟ ما هى نظرة الصحافة الليبية الى المسرح فى ما نشرته من إعلانات وأخبار ومقالات ؟. ثم هل قالت صحافة ذلك العهد ، من خلال هذا الكم المبتسر شيئا ذا بال؟. ربما ان الكم فى مجال الفكر ليس فى كل الحالات . نقيصة .. ومن يدرى فقد يبرز الكثير من القليل، ورب عي جاء بما لم يأت به مفوه.
ان هذه الأسئلة تهيئ لنا الدخول فى روح النصوص على نحو يقظ غير متحمسين ولا مبتسرين . غير متحمسين لها بحيث نعطيها أكثر من حقها ، وغير مبتسرين لجهدها فنجحد فضلها . لكن قبل ذلك كله نود ان ننوه بملاحظة هامة نشير فيها الى عدم التزام هذه النصوص بحدود جنسها الأدبي ، او الصحفى وهذا أول انطباع نخرج به من قراءة هذه النصوص. فالخبر – هنا – لا يلتزم بحدوده كخبر بل نراه يتوسع . ويتمطى حتى يصير مقالة كما هو الحال فى مقالة ( التمثيل) المنشورة فى جريدة ( ابو قشة ) والنقد .. أحيانا هو عبارة عن إعلان . مجرد إعلان اقتضت صياغته الدخول فى تفاصيل العرض فصار نقدا .. او شيئا شبيها بذلك ، كما هو الحال فى الإعلان المنشور بجريدة ( الرقيب) الذى يحمل عنوان ( جوق التشخيص ) وغير ذلك مما سنراه فى السطور اللاحقة .
أولا : الإعلانات
من طبيعة الإعلان ان يهتم بأكبر قدر ممكن من التفاصيل بشرط ان يتضمن جملة من المعلومات الأساسية التى تتمثل . بالنسبة للمسرح فى ذكر مكان العرض المسرحي ، واسم الجوق الذى سيقوم بتشخيصها . وليس للإعلان الصحفى صيغة ثابتة يمكن اعتبارها أنموذجا مثاليا ينبغى الاقتداء به ، وإنما المسألة تركت للجهد الخاص ، ولقد كان لهذا الجهد الخاص إبداعات وافانين لا تخلو من طرافة ولعل الإعلان المسرحي فى الوطن العربي يعد أكثرها طرافة اذ انفرد عن غيره من صيغ الإعلانات المعروفة فى العالم بسمة خاصة فرضتها عليه مظاهر العزوف عن المسرح. وهى سمة يمكن تسميتها بـ ( ملح الإعلان) تجعل للإعلان طعما مستحبا، وتضفي عليه نكهة مميزة ، وذلك بان تكيل الجريدة لنجم الجوق او للجوق نفسه سيلا من ألفاظ المديح تعدد فيها مناقبه وكفاءاته بغية حث الجمهور على الحضور لتلك الرواية المعلن عنها او لترغيب الناس فى تعاطي الفن المسرحي بصفة عامة . وأنت لا تعرف متى يضاف هذا ( الملح) .أحيانا نجده فى استهلال الإعلان ، وأحيانا يختتم به الإعلان ، كهذا الإعلان الذى نشر بجريدة المؤيد فى 17/ أكتوبر / 1906. يحمل عنوان الشيخ سلامة حجازى . فى الإسكندرية جاء فيه ( إجابة لطلب محبي فن التشخيص بالإسكندرية سيمثل جوق حضرة المشخص الفريد رواية مغاور الجن مساء يوم الأحد 21/ أكتوبر بتياترو زيزينا) فبعد ان أشار الإعلان الى العناصر الأربعة الأساسية للإعلان نراه يضيف شيئا من الأسلوب المستملح : ( وهى الرواية البديعة التى أتقن تمثيلها هذا الجوق الذى حاز رضاء الجمهور سيما حضرة مديرها النشيط الذى سيمثل أهم دور فى هذه الرواية الكثيرة الألحان الجميلة المناظر )(3)
أما فى النموذج التالي الذى نشرته جريدة (الأهرام) فى شهر يونيه / 1884م. فنرى ( ملح الإعلان ) يسبق المادة الإعلانية ، ويهيأ لها عبارات ترفع من شأن المعلن عنه يقول الإعلان ( قدم الى تغرنا من القطر السوري جوق من الممثلين للروايات العربية يدير أعماله حضرة الفاضل الشيخ ابو خليل القباني الدمشقي الكاتب المشهور، والشاعر ، وقد التزم للعمل فى قهوة دانوب ، المعروفة بقهوة سليمان بك الرحمي ، وفى جوار شادر البطيخ القديم والجوق مؤلف من مهرة المتفننين فى ضروب التمثيل وأساليبه وبينهم زهرة من المنشدين والمطربين تروق أسماعهم الأذان ، وتنشرح الصدور ، فنحث أبناء الجنس العربي ان يتقدموا الى عضد المشروع بما تعودوا من الغيرة) .
وبعد هذا التملح المستطاب يأتى الإعلان بزبدة القول ، او بما تسميه الصحافة (بصلب الخبر) الذى يلتزم دائما بذكر العناصر الأساسية الأربعة للإعلان ، وها هو يقول : ( التمثيل سيبدأ به هذه الليلة ، غرة رمضان المبارك عند الساعة الثانية بعد الغروب اى بعد الإفطار بساعتين ) (4) وسيتتالى فى كل ليلة حتى نهاية الشهر ، وأول رواية تشخص ( انس الجليس) وهى رواية بديعة مسرة . وأوراق الدخول تباع فى باب المحل بأثمانها المعينة ، وهى 5 فرنكات للدرجة الأولى ، و2 بالدرجة الثانية و1 للدرجة الثالثة وهى قيمة زهيدة فى جنب الفوائد المكتسبة .(5 )
فى النموذجين السابقين نلاحظ ثلاثة عناصر هامة ارتفع عليها صرح الإعلان هي : الاستفاء ، والتوثيق والحرارة . اما الاستفاء فتجلى فى كون الإعلان مستوف للشروط من حيث إشارته الى العناصر الأساسية الأربعة، وأما التوثيق فتلاحظه خاصة فى النموذج الثاني الذى ارتقي الى مستوى الوثيقة لما عرضه من معلومات طبوغرافية ، وأسعار الدخولية ، علاوة على تسجيله مقدم القباني الى القاهرة ، أما العنصر الثالث فتعبر عنه تلك الحرارة فى الحث على تعاطي المسرح والترغيب فى متابعة عروضه ، وانه لمن دواعي الأسف ان نقول : ان هذه العناصر الثلاثة مفقودة بالكامل فى الصيغ الإعلانية التى تقابلنا فى الصحف الليبية الصادرة فى العهد العثماني الثاني وأفضل وسيلة للتليل على هذا الرأى هو ان اعرض أمام القارئ الكريم نماذج من تلك الإعلانات المنشورة فى صحفنا الليبية .. واليك هى :
النموذج الأول :
ويحمل عنوان ( الجوق المصرى) نشر بجريدة الرقيب .العدد الصادر فى 12/ربيع الأول /1329هـ الموافق لسنة 1911م. جاء فيه (سيمثل ليلة الجمعة القابلة رواية صلاح الدين الأيوبي ، وهى رواية بديعة تاريخية من أحسن ما انشىء فى هذا الفن، ويعلم منها من هو صلاح الدين وكيف كان .. فنحث العموم على حضورها ).
النموذج الثاني :
إعلان فى سطرين ورد فى جريدة الترقي فى عددها الصادر بتاريخ 11/جمادى الآخر /1329هـ ( = 8/يونيه /1911م) بعنوان ( جوق التمثيل الأدبي) تياترو امبراج حسان تقول فيه : سيمثل هذه الليلة رواية اوتيللو وهى رواية أدبية ذات خمسة فصول فنحث أرباب الذوق والغرام على حضورها )
النموذج الثالث :
ورد ايضا فى جريدة الترقي العدد الصادر فى 17/رجب (= 13/ يوليو/ 1911م) بعنوان ( جوق التمثيل ) تقول فيه : سيمثل فى هذه الليلية فى تياتورا امبراخ رواية ( شهيد الحرية ) وهى رواية ادبية غرامية ذات فصول مدهشة فنحث ارباب الذوق والغرام على حضورها .
النموذج الرابع :
وهو إعلان طويل . نسبيا نشرته جريدة ( المرصاد) فى عددها الصادر بتاريخ 18/جمادى الثاني/1329هـ ( = سنة 1911م) تحت عنوان ( الى ذوى الغيرة والمروءة ) تقول فيه :
(يعلن محمد ابو العلا افندى وإخوانه أنهم انفصلوا عن جوق مرى لأسباب ستعلم للعموم ، ولقد عزموا ان يقدموا مساء اليوم الساعة الثانية عربي بتمثيل رواية (صلاح الدين الأيوبي) التى تتجلى فيها الشهامة العربية والمروءة الإسلامية بكامل معانيها وحضرته يدعو الأدباء لحضور تمثيل الرواية المذكورة ثم يحكمون بعد ذلك ما لهم وعليهم ، ويؤكد لحضراتهم أنهم يرون ما يشرح صدورهم ويسر خواطرهم).
وإذا ما أردنا ان نخضع هذه النماذج الأربعة للدراسة فان أول ما يثير انتباهنا هى تلك القواسم المشتركة بين بعضها البعض . وتتمثل فى الجوانب التالية:
ألف: الاختزال الشديد الى حدّ تغييب او تناسي المعلومات الأساسية فى صيغة الإعلان كما نلاحظ فى النموذج الأول والرابع حيث أهملا كلاهما اسم مكان العرض . وبذلك فقد الإعلان ركنا أساسيا فيه.
باء : ان دوافع الحث على المشاهدة تنصب غالبا . على الجوانب الأدبية . وليس الفنية اى ان مصدر الإثارة يكمن فى مضمون المسرحية وليس فى شكلها الفني . كما نتبين من قول النموذج الرابع وهو يعلن عن تمثيل رواية صلاح الدين بقوله (تتجلى فيها الشهامة العربية والمروءة الإسلامية بكامل معانيها ) وهو قول كرره النموذج الأول حيث قال ( وهى رواية بديعة تاريخية من أحسن ما انشىء فى هذا الفن .. ويعلم منها من هو صلاح الدين وكيف كان ؟).
ان هذه النغمة التى تقابلنا فى إعلانات الصحافة الليبية كأنها تهدف الى تغليب الجانب التربوي فى المسرح على الجانب الترويحي فيه وهذا على غير ما درجت عليه العادة فى الصحف المشرقية حيث نلاحظ ان التركيز على الجانب الفني يحتل الصدارة فى الإعلان .. كهذا الإعلان ( الجوق مؤلف من مهرة المنشدين والمطربين تروق لسماعهم الأذان وتنشرح الصدور..)(6).
جيم : أما السمة التى تتفق فيها كل هذه الإعلانات فهى سمة ( البرودة) .. وثقل الدم . حيث اتسمت جميعها بجفاف وغلاظة ، ان كل شيء فى هذه الإعلانات يدل على ذلك ابتداء من صياغتها التى تعوزها الإثارة ، أو ما أسميناه بـ ( ملح الإعلان) وانتهاء بالزوايا المخصصة لها ، مما يمدنا بانطباع على قلة حماس هذه الصحف للمسرح وفنونه.

********************

بواكير النقد المسرحي في ليبيا
الخبر المسرحي ” بين الصمت والإهمال ”
بقلم / البوصيرى عبد الله ” 2 ”

اذا اردنا ان نتحدث عن الخبر حديثا يتسم بالمنهجية فلابد ان نعََّرفه ، ونستطلع بعض خواصه مهتدين – في ذلك – برأي احد المتخصصين مثل الدكتور محمد حسن عبد العزيز الأستاذ بكلية دار العلوم الذى وضع كتابا فى ( لغة الصحافة المعاصرة) وهو كتاب ، وان كان صغير الحجم بسيط الأسلوب ، إلا انه غني بالمعارف ، دقيق فى ألفاظه وقد عرف الخبر بقوله:
انه وصف او تقرير غير متحيز للحقائق الهامة حول واقعة جديدة تهم القراء. وللخبر خمس خواص يرتبها الدكتور عبد العزيز على النحو التالي:
إيثار الجمل القصيرة على الطويلة .
إيثار الفقرات القصيرة على الفقرات الطويلة .
الحرص على استعمال الألفاظ المألوفة للقارئ.
اصطناع الألفاظ والتراكيب التى يألفها القراء .
لا يجوز للخبر الصحفي ان يستعان فيه بالأشعار والحكم والأمثال(7)
لا تعنينا هذه الخواص كثيرا فى الواقع لأنها تبحث فى مبنى الخبر .. وخاصيته الفنية ، بينما نحن معنيين بمعنى الخبر ، لكن لا بأس من الإشارة الى التزام الصحافة الليبية بهذه الخواص الخمس فيما أوردته من أخبار على ان هذا الالتزام قد اعتراه الخلل والتصدع من جراء استغنائه عن الركائز الثلاث التى ينهض عليها تعريف الخبر الا وهى ، حسب تسلسلها المنطقى : الحرص على ذكر وقائع جديدة ، دقة الوصف ، عدم التحيز. وعلى ضوء هذه الركائز سينهض – أيضا- تقويمنا لهذه النصوص الإخبارية.
يقينا ان نشأة جمعية التشخيص بإدارة المواطن الليبي محمد قدرى المحامي كانت احدى اهم الوقائع الثقافية التى برزت على سطح مجتمعنا فى تلك الفترة التاريخية الحرجة ، باعتبارها إيذانا بتدشين المسرح الليبى . وكانت هذه الواقعة مؤهلة بان تزود الصحافة بسبق صحفى مثير ، وتغذيها بنوع جديد من المعارف وتشيع فيها روحا ثقافية تنويرية نحسب ان المجتمع كان فى مسيس الحاجة لها خاصة ان هذه الواقعة المسرحية انطلقت أصلا لتعبر عن أحاسيس فياضة تجاه مسألة الحرية وخلاص الوطن .
وهذه الواقعة الكبرى انشطرت الى جملة من الوقائع الأخرى ؛ فإقدام محمد قدرى المحامي على تأليف مسرحية فى موضوع ( محاكمة المستبدين ) (8) هى – بلا شك – واقعة ثقافية جديرة بان تصير خبرا صحفيا مثيرا إذ تعتبر اول نص مسرحي ليبي ، وزيارة ( جوق الياس فرح) هى أيضا واقعة، وانفصال جوق( محمد ابو العلاء) عنه واستعانته ببعض العناصر الوطنية هو واقعة ، وزيارة جوق ( ابراهيم حجازي) واقعة . وهذه الوقائع المسرحية المتعددة انشطرت بدورها الى جزئيات صغيرة تمثلت فى سلسلة المسرحيات التى قدمتها على ارض بلادنا.
ان كل هذه الأعمال المسرحية هى فى الحقيقة وقائع جديدة تهم جمهور القراء لا ريب ولكن صحافة المرحلة نكفت عن رسالتها تجاه هذا الوليد الجديد ، لم تبهرها محاولته ولم تستهوها بدايته حتى أنها تجاهلت العرض الأول لمسرحية ( وطن) الذى لم نعثر له على اثر فيما اطلعنا عليه من صحف المرحلة .
وإذا كانت الصحافة تتنفس برئة الوقائع الجديدة فلا نظن ان الصحف كان عليها ان تنتظر مجيء رسل هذه الوقائع الى مكاتبها حتى يزودوها بما لم تزود به من الأخبار ، لكن هذه الظن يبدو انه كان ماثلا فى ذهن صحفنا الليبية التى اتسمت بالتقوقع والمكتبية ، وفقدان الديناميكية . فلم تجر خلف الخبر المسرحي ، ولم تلاحقه الملاحقة الجادة التى تجعل منه حدثا واضحا فى ثقافة المرحلة . وهكذا كانت متابعاتها محدودة وغير شاملة مما أدى الى غياب أخبار ووقائع مسرحية عامة ، مثل عرض مسرحية حمدان ، واوتيللو، ،وعايدة ،وشهيد الحرية . ولولا ورود ذكر هذه المسرحيات فى بعض المقالات او فى الإعلانات المدفوعة الأجر لانقطع خبرها ولأصبحت نسيا منسيا .
وكدليل على ان صحفنا لم تسع لاستثمار الوقائع المسرحية كمادة خبرية صحفية نذكرهنا بموقفها تجاه الاجواق العربية الزائرة ، التى اعتبرت زياراتها بالنسبة لجميع البلدان العربية التى استهدفتها تلك الزيارات ، وقائع فنية كبيرة بل مهرجانات عظيمة امتزج فيها الفن بالأدب وعانق عندها الشعر الموسيقى والطرب الجميل فيما نهضت صحافة هاتيك البلدان بتغطية أخبار تلك الوقائع المسرحية ، قالت كل شىء عنها فأجادت وبلغت فأوعت فكان موقفها على النقيض تماما من موقف صحافتنا التى لم تحسن استقبال تلك الاجواق الزائرة لربوع بلادنا حين ضنت عليها بالحفاوة التى حظى بها نظراؤها فى البلدان العربية الأخرى ، غير مراعية لتقاليد الضيافة التى عرف بها المجتمع الليبي عبر التاريخ ، وغير مقدرة – أيضا – لما فى هذه الزيارات من فوائد صحفية جمة . ثم ثنت هذه الصحف فاستهانت بإبداعات تلك الاجواق بواسطة مؤامرة الصمت .. والصمت اشد أعداء الفنان لو كانوا يعلمون .
وإذا ما خرجت الصحافة عن صمتها ، واكتسبت بعض الديناميكية باتخاذها قرار التجوال والزيارات الميدانية بغية اصطياد حفنة من الأخبار الفنية كي تنوع بها مواد صفحاتها ، فماذا ترونها قائلة .؟
هنا علينا ان نستند الى الركيزة الثانية من الركائز التى ينهض عليها تعريف الخبر . ونعني بها دقة الوصف التى نراها حقيقة ماثلة أمامنا فى نص واحد إلا وهو نص (حب الوطن) وهو نص نصنفه – فى الواقع – كنص نقدى بيد ان الخاصية المائية لهذه النصوص سمحت لها ان تسيل على بعضها البعض كأمواه الجوابي المهملة حتى انشطر هذا النص شطرين فجاء أوله خبر وأخره نقد.
أما بقية الأخبار فتعوزها الدقة ، وتفتقد الى الوصف المفيد. والمحيط بأطراف الموضوع المخبر عنه ؛ فالخبر الذى يحمل عنوان ( التشخيص ) مثلا نراه يحتوى على ثلاثة أخبار دفعة واحد كل منها حري به ان ينهض كخبر مستقل بذاته على نحو ما نرى .
الخبر الأول : يفيد استعداد محمد قدري المحامي فى إحضار ما يلزم لتشخيص الرواية التى ألفها فى موضوع ( محاكمة المستبدين ) .
والخبر الثاني : يفيد إعادة مسرحية ( وطن) التى سيخصص قسم من أيراها لإعانة الحريق بدار السعادة وقسم لصالح مشروع نشر المعارف بواسطة جمعية الاتحاد والترقي .
أما الخبر الثالث : فيفيد قبول الآنسة ( استريز داليا بالقيام بالدور النسائي فى مسرحية ( وطن) دون مقابل .
ان هذا الكم الهائل من الأخبار يعطي انطباعا على مدى حذق المخبر الصحفي وشطارته فى اصطياد كل هذه المعلومات الهامة . على ان صياغتها فى خبر واحد .. فى نفس واحدة لا ارى فيها شيئا من مواصفات الدقة ، بل أراها إجهاضا لهذه الأخبار الثلاثة . وكان لجريدة (الترقي ) ان تدرك هذه الدقة لو فصلت هذه الأخبار عن بعضها البعض . وتوسعت فى الإبانة وأمدتنا بالمزيد من الوضوح عن مسرحية قدرى المحامي الجديدة كان تذكر لنا عدد فصولها وشخوصها وشيئا عن مجريات أحداثها.
وكان يمكن ان تفعل عين الأمر بالنسبة للخبر الذى يتصل بالآنسة الكريمة التى قبلت القيام بتشخيص الدور دون مقابل وذلك بواسطة وضع ترجمة مقتضبة يتعرف القراء من خلالها عن حقيقة هذه السيدة ، ان فعلت جريدة (الترقي) هذا لأسدت إلينا خدمة جليلة ، ولأمدتنا بوثيقة عظيمة القيمة بالنسبة لبحثنا.
والكتمان مظهر من مظاهر انعدام الدقة التى تقابلنا فى صحف المرحلة .. وأقول الكتمان . ولا أقول الصمت ذلك لان الصمت نتيجة لعدم المعرفة او عدم الرغبة فى المعرفة بينما الكتمان هو ان تصمت وأنت مزود بالمعرفة ، هذه نقيصة كبيرة بالنسبة لمهنة الصحافة وقعت صحافتنا الليبية فى شراكها من حيث تدرى او لا تدرى ، ففى النص الذى يحمل عنوان ( الى ذوى الغيرة والمروءة) وهو نص ينوس بين الخبر والإعلان فيه إشارة صريحة الى ان جريدة المرصاد علمت بأسباب انفصال جوق محمد ابو العلاء عن (جوق الياس فرح) وتأسفت كثيرا لذلك ورغم هذا فقد ابت ان تزودنا بالتفاصيل . بل تمادت فى كتمانها بحجبها اسماء الاعضاء الذين انضموا الى جوق محمد ابو العلاء.
وجريدة ( طرابلس الغرب ) تلقت اخبارا تفيد تأسيس جمعية الضباط للتمثيل (9) ولكنها تكتمت عن ذكر التفاصيل وهكذا كان موقف جريدة (الترقي ) تجاه ( جوق الياس فرح).
ويصل انعدام الدقة فى كيفية نقل الخبر الى حد تشويش المعلومة . وفقدان صلاحيتها كوثيقة تاريخية وهو ما نلاحظه فى فحوى الخبرين اللذين نشرتهما جريدة ( طرابلس الغرب) (10) حيث نقرأ خبرا يفيد ان ( تعميم حرية ) هو عنوان لرواية قامت جمعية التشخيص بعرضها ووزع صافي دخلها على عمال الميناء .. ثم نقرأ خبرا آخر ، وعلى نفس الصفحة ، يفيد ان (تعميم حرية) اسم لجمعية تشخيص وليس عنوانا لرواية .. فاين تكمن الحقيقة .. يا ترى .؟
ومما يلاحظ ايضا ان اخبار المسرح الواردة فى الصحف الليبية جاءت لتخدم اغراضا مذهبية او افكارا اجتماعية تشيعها هذه الصحف او تروج لها دون اعتبار للاغراض الفنية والثقافية التى ينهض بها العرض المسرحي ، فجريدة ( الترقي) كانت تدين بالولاء لجمعية الاتحاد والترقي التى يعتبر الشيخ محمد البوصيرى – صاحب الجريدة – احد اعضائها المبرزين وهى جمعية ذات نزعة اصلاحية وغايات اجتماعية ، وقد استهلت برنامجها – ميدانيا – بجمع التبرعات الى المحتاجين ، وفتح مدارس لمحو الامية، والمناداة بعمل الخير والاحسان ، وغير ذلك من الاعمال التى كانت تراها وسيلة من وسائل الاصلاح والرقي . وبذلك حرصت على نقل المسرح ليس باعتباره منهلا من مناهل الادب والفن وانما باعتباره وسيلة تخدم الاهداف الاجتماعية التى كانت تنادي بها الجمعية التى تدين لها بالولاء ، بينما كانت جريدة ( طرابلس الغرب) وهى جريدة رسمية وتشيّع سياسة الدولة وتروج لها تنظر الى المسرح على انه مجرد اداة لدعم موقف حكومتها السياسي .
اعلم ان فى هذا الرأى شيئا من المغامرة الفكرية ولكي نتبرأ منها ينبغي علينا الظهور من هذا التجريد والتعمميم لنقف امام المثال الحي والبرهان الصحيح ، وهذان امران تفصح عنهما الاخبار التالية .
لقد اوردت صحيفة الترقي ثلاثة اخبار عن المسرح اتصلت جميعها بأهداف اجتماعية ففى خبرها الذى يحمل عنوان ( التشخيص) ركزت الجريدة فى صياغة خبرها على تخصيص جزء من ايراد المسرحية ( لاعانة الحريق بدار السعادة ) والجزء الاخر ( لمشروع نشر المعارف بواسطة ) جمعية الاتحاد والترقي . بتوزيع ايراد المسرحية ( على الفقراء والمحتاجين من الذين احاط بهم الزمان) وفى خبرها الثالث اشارت الى ان عرض مسرحية صلاح الدين سيكون ( لمنفعة مكتب الفنون) .
وليست جريدة ( طرابلس الغرب) بأقل جرأة من جريدة الترقي فى التعبير عن موقفها السياسي فى اسلوب صياغة اخبارها حيث اوردت هى الأخرى ثلاثة اخبار اتصلت بأهدافها السياسية :
ففى خبرها الذى يحمل عنوان ( المقاطعة ) تأتى على ذكر العرض المسرحي باعتباره انعكاسا للحدث السياسي الا وهو احتجاج عمال الميناء على الدولة النمساوية لنقضها للعهود ، فانبرت جمعية التشخيص وقدمت عرضا مسرحيا خصص ايراده لصالح اؤلئك العمال تعويضا لهم عن الخسائر الناتجة عن موقفهم الاحتجاجي . والخبر نفسه نقلته جريدة ( تعميم حريت )( 11). وفى خبرها الذى يحمل عنوان ( الخبر) تأتى جريدة (طرابلس الغرب ) على ذكر المسرح ضمن حدث سياسي اخر ، الا وهو ( زيارة القائمقام شولتز الى القلعة ) حيث ( أدبت لشرفه مأدبة حافلة ومثلت لجنابة رواية وطن).
اما خبرها الثالث فهو الذى نقرأه فى رسالة التشكر التى بعث بها الضباط الاتراك الى الوالي رجب باشا معلنين فيها انهم اسسوا ( جمعية تمثيل ) بمناسبة ترقيتهم بمناسبة الاحتفال بعيد العرش السلطاني . هكذا نرى الكيفية التى تم بها ربط الاخبار المسرحية بالمواقف المذهبية والسياسية .
والواقع ، ليس ثمة ما يشين ارتباط المسرح بالاهداف الاجتماعية او الغايات السياسية ، بل ان ذلك مدعاة للفخر والاعتزاز لما يعكسه هذا الاتباط من إلتحام الواقعة المسرحية بالواقائع الأخرى التى تجرى على أرضية المجتمع . اما ان يكون ذلك شرطا من شروط العناية بفاعليات المسرح فذاك هو الخلل الذى نعتبره ضربا من ضروب التحيز والمزاجية المذهبية فى انتقاء الخبر وصياغته ، الامر الذى لا تجيزه الاعراف الصحفية .

************************************

بواكير النقد المسرحي في ليبيا ” 3″
النقد: بين الانطباعية والتطبيقية
بقلم / البوصيرى عبد الله

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن تصنيف هذه النصوص الخجولة على أنها نصوص نقدية فيه الكثير من التجاوز لحدود المصطلح ، وينطوي على مخالفة منهجية واضحة ، وإنما هى – فى حقيقة أمرها – مجرد انطباعات ذاتية ، ووجهات نظر شخصية لا تستند إلى أية خلفية ثقافية تتصل بمفهوم النقد ووظيفته الجمالية . وأول دلائل غياب المنهجية فيها هو ورودها ضمن نصوص إعلانية وإخبارية قصد متابعة الحدث المسرحي .
ويطالعنا هذا النمط من النقد المسرحى – إذا جاز لنا القول – فى نصين اثنين . أحدهما نشر بجريدة (الترقي) تحت عنوان ( حب الوطن) والثاني نشر بجريدة (الرقيب ) بعنوان ( جوق التشخيص ) وكلاهما غفلا عن التوقيع .
كان نص الترقي يهدف أصلا إلى وصف الحفل المسرحي الذى شهدته مدينة طرابلس وبذلك فهو أقرب إلى الغاية النقدية من نظيره المنشور فى جريدة (الرقيب) وإن اتسم الأخير بروح نقدية أشمل ، وعبر عن خلفية ثقافية أوسع رغم أنه لم يكن يهدف إلى النقد وانما كان يهدف إلى إيراد خبر.
كما تقابلنا بعض الشذرات النقدية الأخرى مبثوث هنا وهناك . وهذه فى الغالب تقتصر أحكامها على مضمون الرواية دون غيره . ونعثر على هذه الشذرات فى الإعلانات الصحفية التى تقتضى صياغتها إظهار عبارات الاستسحان والإعجاب تجاه الرواية المعلن عنها فذلك شرط أساسي من شروط لعبة الإعلان ، وبذلك لا ينبغى علينا أن ننظر إلى ما جاء فى هذه الشذرات الاعلانية على أنها أحكام تستند إلى صدق الرأي ، وإنما هى عبارات تلقى جزافا لإرضاء الجهة المسؤولة عن البضاعة، مادة الإعلان.
والنقد المسرحي الذى يقابلنا على صفحات صحفنا الليبية هو نقد ينتمي – افتراضا – إلى ما يسمى بالنقد التطبيقي ، وهو نقد ينطلق من خصائص النص الركحي ، لا من خصائص النص الأدبي فقط . وبذلك فهو معني بلغة العرض المسرحي بكل ما فيها من شمول وتنوع بهدف تحليل مفردات هذه اللغة من إضاءة ، وموسيقى تصويرية ، ومناظر مسرحية ، ومكملات ، وأزياء مما يؤدى إلى فهم علاقة هذه المفردات بمضمون المسرحية ، وهو فهم يقودنا – فيما بعد – إلى اكتشاف كيفية الترجمة الإبداعية التى قام بها مخرج المسرحية .
إنها لمهمة شاقة .. لا ريب .. ولم تكن صحافتنا الليبية ولا العربية بصفة عامة مؤهلة موضوعيا للنهوض بهذه الوظيفة العظيمة للنقد التى تستوجب تجلية كل الأسرار الإبداعية الكامنة فى أعماق ما يعرض أمام أنظارها من أعمال درامية . لذا اقتصرت مهمة النقد المسرحي – الصحفي على مفردين اثنين من مفردات لغة العرض المسرحي ونعني بهما : نص الرواية والتمثيل . فكيف عالجت الصحافة هذين المفردين ؟.
أ- نقد الروايات :
كان طلائع النقد التطبيقي فى الوطن العربي مولعين كثيرا بتلخيص الروايات التى يشاهدونها على خشبات المسرح ، فيتوسعون فى ذلك ، ويستطردون حتى يطغى التلخيصُ على رأي الناقد . ولا يأخذنك الظن ياصاح فتظن أن هذا التلخيص إنما كان يهدف إلى تحليل النص الأدبي ، أو أنه يسعى إلى كشف المستور فيما بين السطور ، أو تعرية ما اندس بين ثنايا النص . وإنما هو عبارة عن سرد تفصيلي لمجريات الأحداث قصد به إعلام جمهور القراء بموضوع الرواية ومدهم بفكرة عنها. فكانت سانحة ارتأى فيها الناقد مجالا للتعبير عن مواهبه البلاغية واللغوية . فكثر فيها الكلم وغاب الرأي.
لكن .. مهما قيل عن هذا الأسلوب النقدى فإن له بعض الفضل علينا بما زودنا به من وثائق حفظت لنا الكثير من الأعمال الدرامية من الضياع ، فأمست مرجعا يعود إليه الدارسون والباحثون كلما دعت الحاجة . وهذا ما عجزت عنه صحافتنا إذ لم نجد على صفحاتها شيئا يفيدنا فى تكوين فكرة عن تلك النصوص التى قدر لها أن تعرض أمام أنظار أسلافنا حيث نهجت صحافتنا نهجا مغايرا لما كان شائعا فى كثير من الصحف الشرقية . فجاء تلخيصا للروايات مختصرا إلى حد الابتسار . فجريدة (الترقي ) التى أمدتنا بأطول وأقدم نص نقدي حمل عنوان ( حب الوطن) لخصت لنا موضوع المسرحية فى سطر واحد قالت فيه ( وهذه الرواية تمثل حبَ الوطن ِ ، والدفاع عنه(
إن هذا التلخيص ، المفرط فى القصر والتقليص ، العاري من أية دلالة يجعلنا ننظر إلى التلخيص الذى أمدتنا به جريدة ( الرقيب ) على أنه جهد خارق ، مع أنه – فى حقيقته – لا يتعدى خمسة سطور عدا . بيد أن فى جهد الرقيب ثمة ما يحتاج إلى الثناء إذ نراها تكشف عن بعض الإلمام بموضوع مسرحية ( استير) التى تعرضت لها بالنقد . حيث حددت لنا مصدر المسرحية ، وأشارت إلى الفترة التاريخية التى شهدت جريان حوادثها .. بل إن الجريدة سعت إلى التعريف ببعض شخوصها الدرامية . فانظر إلى قولها هذا الذى اختزل كل هذه المعاني:-
( وهى < اى المسرحية > تاريخية مذكورة فى التوراة عن الملكة استير ، وما جرى من أمرها (.
ثم تحاول الجريدة تحليل شخصية هامان ، وهو أحد الشخوص الدرامية بقولها:-
هو أحد الوزراء البارعين فى الدهاء) وتضيف ( كان الوزير الأول لملك من ملوك الفرس الذين حكموا مصر قبل 2350 سنة(
أرى أن محرر الرقيب كاد يزرع بذرة النقد فى بيدرنا الثقافى باقترابه من وظيفة النقد التثقيفية والتحليلية . لكن محاولته – للأسف – كانت أشبه ببيضة الديك.
وعلى غير منوال الرقيب سارت بقية الصحف الأخرى فيما أوردته من شذرات إخبارية أو إعلانية قدمت من خلالها تلخيصات مختصرة لبعض الروايات من بينها رواية (صلاح الدين) التى نقرأ تلخيصا لها فى جريدة ( المرصاد) جاء فيه :
) رواية صلاح الدين التى تتجلى فيها الشهامة العربية ، والمروءة الإسلامية بكامل معانيها(
وهو نفس المعني الذى كررته جريدة ( أبو قشة) عندما حاولت تلخيص مسرحية (حمدان) فقالت : ( رواية حمدان وهى تمثل شهامة العرب فى أبهى مناظر) .
واحيانا تتجاوز الجريدة التلخيص المباشر ، وتلجأ إلى إصدار أحكامها على هذه الروايات ، كما نلاحظ فى النص الذى يحمل عنوان ( جوق التشخيص) الذى سبق أن أشرنا إليه حيث تقول جريدة ( الرقيب) (رواية أدبية أخذت بمجامع القلوب) ثم تضيف (والرواية مشتملة على كثير من الأشعار والأناشيد مما ترتاح إليه النفوس).ويبدو أن مسرحية صلاح الدين قد نالت الإعجاب والاستحسان ، وأخذت بألباب المتفرجين مما حدا ببعض الصحف إلى إصدار أحكام إيجابية بشأنها .. بل إن جريدة ( الرقيب) تراها من أحسن ما ألف فى مجال المسرح ، وذلك من خلال إعلانها عن الجوق المصرى فتقول:
وهى رواية بديعة .. تاريخية من أحسن ما أنشئ فى هذا الفن
ب- نقد التمثيل :
أما نقد الممثلين فقد انقسم هو الآخر إلى قسمين ، بعضه اختص بالأفراد ، فأثنى عليهم ثناء خاصا دون تحديد الأوجه التى استوجبت الثناء والإطراء ، وبعضه اختص بالجماعة فكان الثناء شاملا دون تمييز أحد عن أحد ، وفى كلا القسمين كان النقد خالياَ من الاسترشاد ، ومفتقدا إلى الرأى الذى يثقف الجمهور ، ويبصره بمواطن الإجادة أو الإخفاق .
وجملة الممثلين الذين تناولهم النقد ليس كثيرا ، على أية حال ، إنهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة ، وهؤلاء الممثلون هم :
اليوزباشى خيرى الذى لعب دور اسلام بك فى مسرحية ( وطن(
استريز خانم التى لعبت دور زكية خانم فى مسرحية ( وطن)
الست عليا التى لعبت دور الملكة استير فى المسرحية التى تحمل اسمها .
جبران ناعوم الذى لعب دور الوزير هامان فى مسرحية ( استير)
عبد الرحمن راشد الذى لعب دور الملك فى المسرحية نفسها.
لنبحث الآن عن مبررات وأسباب هذا التميز الذى حظي به هؤلاء الممثلون حتى شرفتهم صحافتنا بذكر أسمائهم ، وبنقشها على ذاكرة تاريخ مسرحنا.
تقول جريدة ( الترقي) فى معرض نقدها لمسرحية ( وطن)
( وكان بطلها والقائم بأهم أدوارها هو اليوزباشى خيرى افندى ، فقد أظهر بأعماله وتمثيلاته ما تكنه نفسه من الشجاعة والإتقان)
ثم تضيف الجريدة معلومة مهمة حول شخصية المنقود ، ولكنها معلومة لا تتصل بمناحي الإبداع فيه فتقول:
( ومن عجيب الصدف أن المومي اليه من اهالى سليسترا التى يمثل الدفاع عنها فى التشخيص فلا غرابة إن كانت الحماسة قد استولت على عموم حواسه .. فإن حب الوطن من الإيمان)
ومما يلاحظ هنا أن جريدة ( الترقي) قد حددت سبب الإتقان ، ومبعث الإبداع الفنى ، وحددت كذلك وسيلته . فأما سببه فيكمن – فى رأيها – فى وحدة الانتماء والهوية بين الممثل وبين الشخصية الدرامية التى يشخصها . اما وسيلته فهى الحماسة والشجاعة وهذا رأي ، فى عمومه ، فاسد وسقيم فمن ناحية السبب فإننا لا نرى أية صلة للانتماء العرقي او الجنسي او الديني باللعبة الإبداعية ، ودرجة التجويد أو الإخفاق فيها ، وإنما هى مسألة منوطة بالموهبة والاستعداد والصقل الفنى والثقافي، وحجتنا هنا تقوم على تلك النجاحات التى حققها ممثلون كثر فى أدوار لا تربطهم بها أية صلةٍ مادية أو روحية . ويمكننا أن نسوق نجاح الفنان ستانسلافسكى الروسي ونجاح السيد لورانس اوليفي الانجليزى فى تشخيصهما لدور عطيل المغربي كمثال عظيم على ذلك .
أما من ناحية الوسيلة فإننا نستبعد أن تكون الشجاعة والحماسة وسيلتان من وسائل الاتقان فى فن التمثيل ذلك لأن التمثيل ليس خطابة ولا حماسة تستولى على الحواس وإنما هو عرض هادئ ومحايد لوجهة نظر تلتزم حرفية معينة تمكنه من التوصيل والإقناع بهدف إشاعة المتعة الحسية والروحية عند المتلقي .
ومثلما رأت ( الترقي) فى توحد الانتماء بين الممثل وبين الشخصية الدرامية التى يمثلها سببا من أسباب الإتقان الفنى فإنها – فيما يبدو – قد رأت أيضا فى توحد المهنة بين اليوزباشى خيرى واسلام بك هو وسيلة ذاك الإتقان . وبهذا يكون الناقد قد ألبس اليوزباشى خيرى حلة المقاتل ، وأسبغ عليه مقومات المحارب . ولكنه – فى الوقت نفسه – قد جرده من مقومات الممثل الفنان.
والاسم الثاني الذى ذكرته جريدة ( الترقي ) هو اسم الممثلة ( استريز خانم) ولابد لهذه الممثلة أن تسترعي الانظار وتشد الانتباه ، ليس لأنها أول ممثلة تظهر على خشبة المسرح الليبي فحسب . بل لأنها تقوم بدور مركب وجميل ، أجاد المؤلف نامق كمال فى رسمه ، وتحديد أبعاده النفسية ، فهى عاشقة متيمة ، وهى مناضلة فى آن واحد فحبها – اذن – حبان ، حب للوطن وحب لإسلام بك رفيقها فى النضال والدفاع عن الأرض والعرض . ومن ناحية ثانية ، هى امرأة تذوب رقة وعشقا ولكنها ترتدي ملابس الرجال ، وتحاكي سلوكهم كى تخفي شخصيتها ، وتخفي أيضا عشقها . كان على جريدة ( الترقى ) ان تكتشف هذه التركيبة الدرامية فى شخصية زكية خانم التى نهضت بتمثيلها الممثلة ( استريز خانم) وعندما تعسر عليها الأمر عبرت عن إعجابها بجملة فعلية مجانية اعتاد النقاد على توزيعها على جميع الممثلين كلما عجزوا عن سبر أغوار إبداعاتهم لذا اكتفت ( الترقي) بالقول :
( وظهرت الممثلة “إستريز” خانم فقامت بتمثيل دورها بغاية الإتقان) أما اوجه هذا الإتقان وأسبابه فقد استرخي ، حتى نام فى بطن الناقد ، كما نام قيصر فى بطن أمه. اذا كانت جريدة ( الترقي) قد جاملت ( استريز خانم) بجملة إطراء مجانية فإن جريدة (الرقيب) قد اجتهدت كي تلقي حزمة من الضوء على موهبة الشخصية النسائية التى تناولتها بالنقد ، ونعنى بها الممثلة ( عليا) التى شخصت دور الملكة استير . حيث أشادت بقدراتها قائلة :
( وقد قامت الست عليا بدور الملكة استير ، ورغما عن حداثة سنها وابتدائها فى هذا الفن الجليل فإنها مثلت رقة الملكة وعواطفها الخصوصية نحو شعبها) لم تستعمل الرقيب فى هذا الصدد كلمات مثل : أجادت ، أتقنت – أوفت ، وإإإإنما استعملت كلمة ( مثلت ) وهى كلمة تتسم بالدقة فى هذا الموضوع ، إذ أنها توحى بالاعتراف للممثلة بالإتقان ولكن بقدر نسبي فالناقد يراها قد حققت قدرا من التوصيل والإقناع من خلال ما أبدت من رقة ، ومن مشاعر وطنية جعلته يثني عليها ثناء اتسم بشىء من الموضوعية النسبية مردها أمران:
الأول هو صغر سن الممثلة بالنسبة إلى سن الشخصية الدرامية وهذه فعلا مسؤولية محفوفة بالمخاطر لا يتعداها بسلام إلا الفنان الحاذق.
والسبب الثاني هو حداثة التجربة الفنية لهذه الممثلة الشابة التى أسندت إليها مهمة القيام بدور البطولة فى مسرحية تاريخية . ملأى بالأغاني والأناشيد والأشعار . وهذه – لعمرى – لمسوولية فنية لا تقل خطورة عن سابقتها . وهاتان ملاحظتان ذكيتان بالنسبة لجريدة ( الرقيب) التى لمست مواطن الخطورة التى تحيط بهذه الممثلة الشابة .
ومن طرائف هذا النقد ، ودلائل عدم منهجيته هو إتيانه على لسان العموم .. وكأن الناقد قد تجشم عناء الاستفتاء لأخذ رأى الجمهور فى خصائص ومقومات العرض المسرحي ، وهذه ظاهرة شائعة حاليا، ولكنها كانت بعيدة عن تصورات صحافة ذلك الزمان وإنما كانت مجرد صيغة اعتادت أقلام النقاد أن تجريها على الورق . ومما عثرنا عليه من هذا . قول جريدة الرقيب:-
وقد أعجب العموم من إتقان الملك عبد الرحمن راشد ، ووزيره هامان (جبران ناعوم) دوريهما .
أما بقية الممثلين ممن سقطت أسماؤهم – سهوا أو عمدا – من ذاكرة النقاد ، وهم كثر فى الواقع ، فقد كانت الصحف تعبر عن إعجابها بهم بصفة جماعية . وتمنحهم قدرا متساويا من الإعجاب والثناء ، وهو ما يمكن تسميته بـ ( المديح بالجملة) ومن نماذجه ما جاء فى جريدة أبو قشة :-
وقد قدم للمركز زمرة من الممثلين والممثلات الشاطرات ، وقد ابتدؤوا وقاموا بتمثيل عدة روايات عظيمة مثل صلاح الدين وغيرها وأتقنوها غاية الإتقان.
وتقابلنا صيغة التعميم المتصلة بالجميع على قدر متساو بوضوح أشد فى النص النقدي لجريدة ( الترقي) حيث نرى نظرة المساواة فى درجة الإتقان بين الممثلين فنقول:
( واستمر الممثلون فى تطبيق الرواية فأوفوها حقها من الإتقان )أو قولها الذى اختتمت به نصها السالف الذكر.
وانفض الجميع والكل يلهج بالثناء على حضرات الممثلين . وهى خاتمة قد راقت لجريدة ( الرقيب) فيما يبدو ، ففضلت أن تستعيرها كخاتمة لنصها النقدي حيث قالت ( إننا نثني على جميع الممثلين والممثلات ، ونتمنى لهم الرواج من العموم)
إن هذا النمط من الآراء لا يعدو كونه ضربا من العبث النقدي . اذ ليس فى الإبداع مساواة . ليس ثمة جهد يعادل جهدا ، فالممثلون يختلفون ظهورا وحضورا ، ويتفاوتون فى درجة المعاناة ، وتتباين أساليبهم فى توكيد ذواتهم على خشبة المسرح بتباين الشخوص الدرامية ذاتها ، وبذلك ليس مهمة النقد أن يساوي بين الأطراف وإنما مهمته ورسالته أن يعدل فيما بينها وذلك بأن يعطى لكل ذى حق حقه الذى يستحق.

***************************
المراجع والهوامش
1. الواقع أن الصحافة فى ليبيا تأسست قبل هذا التاريخ بكثير ولكنني اتحدث هنا وفى ذهني التجربة الصحفية الشعبية المتمثلة فى صدور جريدة ( الترقي) وحتى هذه التجربة هى أسبق من هذا التاريخ غير أنها كانت تجربة قصيرة ما لبثت أن ماتت فى مهدها ، وبنشور جريدة الترقي وولادة شقيقاتها الأخريات تحققت القفزة الفعلية للصحافة الليبية . وكان ذلك بفضل صدور قانون الحريات سنة 1908م.
2. المصراتي ، على مصطفى : صحافة ليبيا فى نصف قرن . نشر دار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان – الطبعة الثانية : الحرث – اكتوبر 2000م. ص 125.
3. عيد ، السيد حسن : تطور النقد المسرحي فى مصر . نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر . الدار المصرية للتأليف والترجمة – لا.ط – لا- ت- ص. 93.
4. والشرح من لدن محرر الخبر
5.المصدر السابق – ص : 93
6. نفس المصدر – نفس الصفحة .
7. عبد العزيز . محمد حسن : لغة الصحافة المعاصرة السلسلة الثقافية . نشر المركز العربي للثقافة والعلوم .لا.ط- لا.ت.
8. جريدة الترقي ، العدد الصادر فى 30 شعبان 1326 هـ الموافق 13 / ايلول 1324 مالية( 26 سبتمبر 1908 م.)
9. جريدة طرابلس الغرب : العدد الصادر فى تاريخ /13 / شعبان/1323 هـ الموافق 13/اكتوبر /1905م.
10. جريدة طرابلس الغرب . العدد الصادر فى تاريخ 13/ ذى القعدة /1326هـ الموافق 24/ نوفمبر 1324مالية( 7 ديسمبر 1908 م.)
11. جريدة تعميم حريت : العدد الصادر فى 1/ شعبان/1326نقلا عن كتاب الفن والمسرح فى ليبيا ص222.

 

من almooftah

اترك تعليقاً