ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-4- نوري عبدالدائم
**************************

رحلة التأليف المسرحي في ليبيا
بقلم / خليفة حسين مصطفى

من الواضح أن آفاق المسرح غير محدودة سواء في الإطار الزمني، أو في تجاوب المسرح مع الواقع والتجربة الإنسانية إجمالاً، أو في رؤيته وتحليله لحقائق التاريخ في مسيرته النبيلة التي تشكل حجر الزاوية في البناء الاجتماعي الذي لا يمكن أن ينهض ويتحقق إلا بتمثله لروح العدالة والقيم الإنسانية، فتكون أحلام الإنسان في صنع غد أفضل مجسدة لحقه في أن ينهض ويتحرر في كل أشكال وصور الهيمنة والتسلط المعنوي والمادي. سواء أكانت متضمنة لذلك الموروث الضخم من الأفكار والعادات والتقاليد الاجتماعية التي هي في شكل ممارسة آنية متخلفة وانتهازية تحد من قدرة الانسان على التنفس مادام هناك هواء غير نقي وتحدد من قدرته على الرؤية وتحديد طريقة ما دام معصوب العينين وفي كل الأحوال فإن المسرح لا يدعي لنفسه الوصاية على المجتمع ، ولكنه بطبيعته لابد أن يتصدى لهموم الواقع كيفما كانت وتناولها في احتفاليات درامية أو ساخرة ، ولكن ليس على أنها قدر من صنع قوى غيبية أو على أنها أشياء للذكرى يمكن تحويلها إلى مادة للتسلية وقتل الوقت فنجد المتفرج يغرق في الضحك وهو لا يدري أنه يضحك على نفسه ويجتر خيبة أمله ، فقد كان المسرح ، ومنذ أن ظهر إلى الوجود وعرف طريقه إلى الناس، مثقلاً بأعباء الصراع الأبدي بين قوى الخير وقوى الشر، وحتى عندما كان في أول نشأته فقد تحدد دوره في أنه ذلك الفن الشعبي الذي يحمل ويبشر برسالة الحلم والأمل ، وليكافح مع الناس ضد الظلم والقهر والعبث والفساد الاجتماعي والسياسي.
لقد وعي المسرحيون في ليبيا هذا الدور وكان إحساسهم به يتنامى باطراد ويعود ذلك على نحو ما إلى أنه كان الصوت الوحيد المسموع لدى الجماهير ، وكان قوياً ومفهوماً في وقت كانت فيه أشكال التعبير الفنية الأخرى غائبة أو شبه معدومة، بالنظر إلى أن الأمية كانت هي قدر الشعب الليبي في مراحل تاريخه المتعاقبة بدءا من العهد العثماني الذي حفل طوال قرون بالخرافات والتقاليد المتزمتة والاستبداد والجهل، ولاحقاً عندما جاء الاستعمار الإيطالي الذي شن على الشعب الليبي حرب إبادة جماعية تواصلت على ما يقرب من عشرين عاماً بازاء المقاومة العنيفة الرافضة للخضوع والاحتلال الأجنبي، وحتى عندما استقرت الأوضاع وعمّ الهدوء عقب انهيار المقاومة في الجبل الأخضر بإعدام البطل الشهيد عمر المختار ، فقد انصب اهتمام الطليان على إعادة تعمير البلاد لصالح أحكام سيطرتهم وصبغ البلاد بصبغة أوروبية ، ولذلك فقد فتحت المدارس التي كانت غايتها نشر وتعميم الثقافة المسيحية وفرض المنظمة للقضاء على اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وحتى هذا الصوت الوحيد ، أي صوت المسرح فقد عمد الطليان إلى تحجيمه ومحاربته بكل الوسائل ، وليس أدل على ذلك من أن فرقة مدرسة الفنون والصنائع التي كان يديرها الشاعر أحمد قنابة تقدمت إلى السلطات الإيطالية لمنحها ترخيصاً باسم الفرقة الوطنية للتمثيل ولكن هذا الطلب رفض، وهو ما يعني أن سياسة القبضة الحديدية كانت موجهة إلى المسرح لإسكاته ومنعه من الاتصال بالناس. ومع ذلك فقد ظل المسرح الليبي بالرغم مما كان يعانيه من الرقابة والاضطهاد في العهد الإيطالي ممثلاً لروح المقاومة غير المسلحة في مواجهة الهيمنة الاستعمارية الفاسية وسياستها العنصرية وطابعها الصليبي. وبخروج الطليان من البلاد في أعقاب هزيمتهم المدوية في الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاسية ، ثم مجيء الإدارة البريطانية ظل المسرح الليبي يراوح مكانه، ولكنه ما لبث أن اتخذ منحنى آخر في مواجهة التركة الاستعمارية الثقيلة من الفقر والأمية. وفي مواجهة الحكام الجدد الذين حلوا محل الجنرالات الانجليز في إدارة البلاد عام 1951م. جاؤوا من وراء الستار بأقنعتهم وأنانيتهم لخدمة مصالحهم الشخصية كتروس في عجلة الاستعمار وخدمة له، وهم الذين كانوا من موظفيه وأتباعه ، وهكذا تبلور الوضع الحديد في صورته النهائية معبراً عن أحلام النخبة الحاكمة في الإثراء والرفاهية على حساب الأغلبية المسحوقة. لقد أخذ المسرح في هذه المرحلة في رفع صوته محتجا ورافضا لما يجري وحافظ في نفس الوقت على موقفه المتقدم في صفوف المعارضة للنظام الملكي في ظل الاوضاع المتردية على جميع المستويات كان لابد من ايقاظ روح الشعب ومحاسبتها وتوعية الناس بحقوقها المشروعة في الحياة الكريمة وفضح الفساد من الإثراء غير المشروع إلى الوساطة والمحسوبية والانتخابات المزورة واضطهاد القوى الوطنية المنادية بالحرية والعدالة كانت مرحلة قلق وترقب وما كان قول الحقيقة بالشيء السهل أو الممكن ولذا فقد لجأ فنانو المسرح إلى التحايل والرمز لتمرير افكارهم والقفز على قيود الرقابة التي فرضت على المسرح وكل الأجناس الأدبية الأخرى فكان أن عرضت بعض الأعمال المسرحية التي يمكن أن نتعرف على مضامينها الاجتماعية والسياسية من خلال عناوينها من مثل مسرحيات شيخ المنافقين/ العسل المر/ الحمير والبردعة/ دوختونا/ صوت العمال/ النفوس الظالمة/ أولاد الفقراء/ السماسرة/ اللي أظنه موسى يطلع فرعون/ لو تزرق الشمس. وغيرها من النصوص التي تكشف عن الزيف والقبضة البوليسية. وما كانت أجهزة الأمن لتغفل عن ذلك ففي سنة 1954م كما أغلقت فرقة العهد الجديد ولم يعد فتحها إلا في عام 1956م كما أغلقت أبواب الفرقة الشعبية بعد أن قدمت مسرحية واحدة هي مسرحية “نضال الأحرار” والمفارقة العجيبة أن هذه المسرحية تعرض لكفاح الشعب الجزائري للخلاص من الاستعمار الفرنسي. واذا كانت تلك العروض والمسرحيات قد انشغلت بالهم السياسي والاجتماعي وقضايا الفقر والأمية وفساد الضمير فان كتابها يحاولون الرقي بفن المسرح والنهوض ليكون في مستوى رسالته العظيمة من الناحية الفنية فقد كانت تلك المسرحيات في مجملها تنتمي إلى نموذج المسرح الشعبي الذي يفتقر إلى شكل فني محدد كما لم يكن من السهل تمييز بعضها عن البعض الآخر فإذا عدنا إلى الاطلاع على عدد من تلك النصوص التي طبعت في كتب فسوف نجد انها متشابهة إلى حد كبير سواء في بنائها الدرامي أو في شخصياتها الفنية وكذلك حوارها المكتوب بمفردات عامية وبصياغات تبتعد عن الحوار الدرامي لتقترب من حديث الشارع فهي تبتعد عن الحوار المسرحي الناضج الذي يبقى في الذاكرة. ويسهم أو يجب أن يسهم في تصعيد الحدث الدرامي ورسم أبعاد الشخصية الاجتماعية والنفسية وحتى خلفيتها الثقافية لقد كانت كلها ذات سمات واحدة أو مشتركة ومباشرة في معالجتها للقضايا المطروحة كما لم يحاول أحد الاستفادة من تقنيات المسرح الحديث عن القيم الفنية والجمالية في مسرح الخمسينيات والستينيات برغم تعدد الفرق والنصوص المؤلفة في جزء منها والمقتبسة من التراث أو من المسرح العالمي في جزئها الآخر ولذا فهي تظل تمثل البعد التاريخي للمسرح الليبي لاغير..
المسرح الجديد
وبقيام الثورة في اليوم الأول من شهر الفاتح 1969م أخذت قواعد المجتمع القديم في التخلخل والانهيار وكان السؤال هو من أين نبدأ؟
ولم يكن هذا السؤال مطروحا على العاملين بالمسرح من مؤلفين وممثلين ومخرجين وحدهم بطبيعة الحال لكن المسرح يظل هو الأكثر قدرة على إعادة صياغة تلك الأسئلة وطرحها وتقديم إجابة لها وهو كذلك فن جماعي لابد له من فنانين وفنيين حتى يحقق وجوده على أرض الواقع لقد شهدت السنوات الخمس الأولى لقيام الثورة نهضة مسرحية بشكل ما تمثلت في ظهور أربع عشرة فرقة مسرحية جديدة أعطت لفن المسرح الأمل في الازدهار والانتشار ثم أنشئت في العام 1974م الهيئة العامة للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية التي كان من ضمن اختصاصها النهوض بالحركة المسرحية ورسالتها الاجتماعية والثقافية ودعمها معنويا ولكن للأسف فان هذه الهيئة لم تهتم بدورها المرجو كما لم تستمر طويلا وفيما بعد غاب المسرح عن الخشبة ليزدهر في النصوص الدرامية التي طبعت في كتب فعندما تأسست الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان تعاملت مع الكتاب المسرحي على قدم المساواة مع بقية اصداراتها الثقافية في مجالات القصة القصيرة والشعر وأدب الأطفال والدراسات الأدبية والعلمية.
كنا نقف على أبواب مسرح جديد من خلال الجيل الثاني من كتاب المسرح اضافة إلى الكتاب الرواد أو القدامى من الذين لايزال المسرح يجري في عروقهم فلم يتوقفوا عن الكتابة له والانصار في بوثقته وقد تمثل هذا الجيل في البوصيري عبدالله عبدالكريم الدناع ومنصور أبوشناف علاوة مساهمة بعض كتاب القصة في التأليف للمسرح ومن هؤلاء أحمد ابراهيم الفقيه الذي صدرت له مسرحية “الغزالات” ونصوص أخرى متفرقة وكتب محمد عبدالجليل قنيدي مسرحية “الأقنعة” كما صدرت الأعمال المسرحية الكاملة للأستاذ مصطفى الأمير في ثلاثة مجلدات وصدر للشاعر عبدالحميد بطاو مسرحية شعرية بعنوان “الجسر” وعبدالكريم الدناع ايضا أعماله الكاملة كما ألف الشاعر مفتاح العماري بالاشترك مع مجاهد البوسيفي مسرحية “السور” . وأما الأستاذ الراحل عبدلله القويري الذي يتنمي إلى جيل الرواد فقد وزع جهوده الأدبية بين القصة القصيرة والمسرح ولكن مسرحه بالرغم من تعدد نصوصه ظل يدور في اطار ذهني جامد كان يطرح الأسئلة الكبيرة حول الوجود والعدم ومصير الإنسان والغنى والفقر والحرية بأبعادها التاريخية والعدالة وبالرغم من أهمية هذه الأسئلة واتساعاها إلا أن اجابة القويري عليها لم تكن مقنعة ولا وافية في سياقها المسرحي فكريا وفنيا فظلت أسئلته معلقة في الهواء .
ذلك لأن القراءة الأولى في أعمال القويري المسرحية التي طبعت في كتب توضح أنه لم يكن هاجسه جمالية النص ولامعماره الفني فهو لم يوجه أي قدر من اهتماماته إلى الشكل الفني كما أنه لم يكن يفكر بمدى صلاحيتها أو ملاءمتها للتمثيل على الركح فقد كان الحوار هو كل مادته المسرحية أما ما تبقى من عناصر التأليف الدرامي الناجح والمتماسكة فنيا فيبدو أنها لا تعنيه في شيء من قريب أو بعيد..
ضمن سلسلتها الشهرية التي تعني بتقديم نماذج من الابداع الليبي الحديث والمعاصر أصدرت مجلة “المؤتمر” خلال هذا العام مسرحية “الخن” تتكون من أربع لوحات اطلق عليها المؤلف اسم “ليالي” باعتبار ان الأحداث الدرامية تقع خلال الفترة الليلية حيث اعتاد ان يلتقي اشخاص المسرحية في بقايا بيت عتيق وينهض بهذه الليالي الثلاث أربع شخصيات استعارها المؤلف من التراث الحكائي الشعبي ألا وهي شخصيته “زعيط / معيط/ نقاذ الحيط/ الحاجة القديرية” إلا أن الشخصيات منا ذات سحنة عبثية تدير حوارها بلهجة عامية استوعبت مفردات الشارع الليبي الأمر الذي اعتبره الأستاذ الهادي حقيق الذي كتب مقدمة مختصرة ومركزة لهذه المسرحية زيادة في تعميق وتأصيل واظهار الميلاد والبطاقة الشخصية وجواز السفر في آن واحد للمفردات والتعابير الشبابية التي كانت تتسرب للهجتنا بخجل شديد من السبعينيات وحتى الآن مشيرا إلى “أن هذه المفردات والتعبيرات قد نضجت وتعمقت وصارت لها دلالتها النفسية والعاطفية والفكرية..”
أما الأستاذ عبدالكريم الدناع وهو أحد الذين اسهموا في الكتابة للمسرح وتفرقوا له فقد وجه عنايته لكتابة النص المسرحي الذي يستمد أصوله من التراث كما لو أن الحاضر هو امتداد الماضي في ممارسته وأهوائه وأنه صورة منسوخة عنه وكأن الكاتب باستلهامه واستنطاقه لرموز شخصيات معينة في التراث العربي انما يوحي لنا لاشيء قد تغير فمازال الوضع فيما يتعلق بالقضايا القومية وحرية الفكر والاستبداد السياسي والعلاقة بين المثقف والسلطة إلى غير ذلك من القضايا التي تمرس بها مسرحيا لقد تميز مسرح الدناع بالجدية وكان يمكنه أن يطور أدواته المسرحية ويمضي في تجربته المسرحية إلى نهايتها ولكنه بدلا من ذلك نجده يتوقف عن الكتابة للمسرح إلا في فترات متباعدة وكأنه يعود إليه بدافع الحنين الذي ما يلبث أن يتبدد..
وفي يقني ان الكاتب المسرحي الوحيد في ليبيا الذي أخلص للمسرح وكأنه المحراب الذي قرر ان يتعبد فيه وحتى النفس الأخير هو البوصيري عبدالله فلم يتطرق اليأس إلى نفسه بالرغم من كل الاحباطات التي يمكن ان يواجهها المرء وهو يدلف من بوابة المسرح فالمرء لا يمكن أن يتخيل أن مدينة في اتساع مدينة طرابلس وكثافتها السكانية لا يوجد بها إلا مسرح واحد ومع ذلك يأتي من يتغنى بالمسرح وبرسالته الثقافية والاجتماعية ومع ذلك فإننا نجد أن البوصيري عبدالله يواصل نسج أحلامه متجاوزا أزمة الكاتب الذي يكد ويتحرق للوصول بمسرحه إلى الناس فلا يواجه إلا بالنكران والجحود ويعاني من اهدار حقوقه المادية والمعنوية ومع ذلك فهو يستمر وهل قناعات البوصيري الشخصية برسالة المسرح هو ما يدفعه إلى مقاومة كل عوامل الاحباط والانكسار..
لقد نجح هذا الكاتب الموهوب في ان يؤسس لمسرحه بعمل دؤوب لم يعطله عنه شيء وسجله المسرحي الحافل بالنصوص الابداعية يشهد بغزارة انتاجه وإذا كانت الغزارة لاتعد مقياسا أو مؤثرا على الابداع والتألق فان البوصيري عبدالله لم يكن يكتب ليضيف رقما جديدا في سلسلة كتبه المسرحية وانما كان هاجسه على الدوام تطوير مسرحه والارتقاء به فجاءت رؤيته تحمل دائما طابع الجدة والمغامرة وانطلاقه الخيال إلى ابعد حدوده وفي هذا السياق نجده يقترب من المسرح التجريبي كما في مسرحيته الجميلة ” تفاحة العم قريرة” فالبطل الحقيقي في هذه المسرحية تفاحة وهي في نفس الوقت عقدة النص اللعبة التي تغري وحالة والاشتهاء التي تستبد بمجوع الناس عند رؤية التفاحة ثم ذلك العرض التاريخي لدور التفاحة منذ القدم وعلاقتها بآدم وحواء بالعلم وتطوراته ثم العودة إلى تفاحة العم قريرة التي هي محور النص كل ذلك يأتي في اطار المفارقات الصغيرة التي تصب في مواقف ضاحكة فلم يكن العم قريرة يدري انه سوف يدخل في حقيبته جلبها معه من الخارج ولم يكن يدري انه سوف يثير من حوله كل هذه الضجة وكأنه أحضر معه مفتاح الجنة..
وبالرغم من أهمية هذه المسرحية كتجربة جديدة في المسرح الليبي والعربي فهي مازالت في حاجة الناقد المسرحي الذي يدرس ابعادها الفكرية والجمالية بموضوعية ووعي..
وفي اعتقادي ان مسرح البوصيري عبدالله في مجمله يحتاج إلى وقفة طويلة وإلى دراسة متأنية لابراز خصائصه ومعانيه الفكرية والفنية..

 

من almooftah

اترك تعليقاً