مــا بعـــد الحداثـة والسينما إعــادة قراءة! علاء عبد العزيز السيد

شكل مصطلح* “ما بعد الحداثة” أحد أهم الاشكاليات البحثية في الدراسات النقدية والفلسفية والفنية على مستوى العالم خلال الثلث الأخير من القرن المنصرم، فأي مصطلح يستلزم وجود مجموعة من المقدمات التي تؤدي إلى بزوغه، ومن ثم تكونه، ثم انتشاره وذيوعه فيما بعد. ولقد أثرت ظاهرة “ما بعد الحداثة” تأثيراً هاماً في مختلف الدراسات المتنوعة على مستوى العالم في أواخر القرن العشرين، إلا أن هذه الوضعية لا يجب أن تجعلنا نتغافل عن أن بدايات ظهورها كانت في الحضارة الغربية، ثم أصبحت فيما بعد مبثوثة في كافة أرجاء العالم، حيث طال تأثيرها كافة المجالات بما فيها الفنون.

وتعد محاولة تحديد ملامح وسمات “ما بعد الحداثة” نوعاً من الإمساك بمعنى مرواغ، ويرى البعض أنها تعبير عن حالة الإخفاق التي لحقت بالمفاهيم والنظريات الحداثية الكبرى المفسرة للعالم، ويرى آخرون أنها قد جاءت كنتيجة لتداعيات المجتمع الذي سيطر على الحضارة الغربية. وقد أعتبرت ما بعد الحداثة أحد أهم الإشكاليات البحثية سواء في العلوم الإنسانية أو الفنون أو النظريات المعرفية سواء من حيث التعريف، أو التصنيف.
وهذا ما يفرض علينا أن نتناول الظاهرة الـ “ما بعد حداثية” في إطار مصطلح من خلال المنظور التزامي أي دراسة تكونها وتأثيراتها وتجلياتها المعرفية والاجتماعية بشكل أفقي/عرضي من أجل رصد توغلها في كافة المجالات والأنساق الحياتية الإنسانية الكائنة في هذا العصر، كما سيتم دراستها أيضاً من خلال المنظور التعاقبي الذي يتيح لنا إمكانية تتبع جذورها ونشأتها، أي البحث عن بنيتها التاريخية العميقة.
لقد ارتبطت “ما بعد الحداثة” في وجودها على المستويين التنظيري والنقدي بحركة “الحداثة” إلا أن هذا الارتباط بينهما لم يكن يقتصر فقد على كلمة “حداثة” بل ينسحب أيضاً على مستوى التتابع الزمني لكلتيهما إذ أن الحداثة تسبق ما بعد الحداثة في الظهور والتجلي كمصطلح. فكتابة التاريخ علماً تجد في هذه الحركة منه أساسها، لأن علم التاريخ في النهاية هو التحليل، هو استخراج القوانين العامة.
فجوهر عملية “التاريخ” يعتمد على رصد التحولات الحادثة في الأبنية الاجتماعية والمعرفية من أجل فهم مختلف الأسباب والظواهر المؤدية والمصاحبة لتلك التحولات.
وأدت تلك الوضعية العارفة والفاهمة من قبل المؤرخين والمنظرين، وكذا سرعة حدوثها على المستوى الزمني والمكاني، وقد يتم التغير ببطء شديد بسبب عزلة المجتمع. إذ أن التتابع الزمني لكلتيهما هو أحد الضرورات الأساسية واللازمة لفهم مجمل العوامل والظروف التي أدت لظهور “ما بعد الحداثة”، فقد بزغت كظاهرة واكتملت عبر الزمن، فشكلت نمطاً إنتاجياً.
“ومنذ بدأ التاريخ البشري في الزمن وهو عملية حلول جيل محل جيل أخر بشكل متصل، وتشكيل اجتماعي اقتصادي آخر. وكل من هذه التشكيلات له بداية ونهاية، ويمر عبر عملية نشوء وتحول، عملية تطور واكتمال.
كما قد يؤدي إلى وجود حالة صراع فيما بين الأجيال المتعاقبة، وتتجلى تحولاتها وجوانبها الصراعية بوضوح في الجوانب الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية.
إلا أنها تؤدي في نهاية الأمر إلى حدوث عدد من التحولات الجوهرية التي لم تكن قائمة من قبل في تلك المجتمعات، عندها تمس كل شي بالتغيير بما في ذلك الفنون.
لقد كانت الأفلام تقسم نقدياً إلى نوعين رئيسيين، أولهما: الأفلام ذات المستوى الفني والفكري المرتفع، أي الأفلام النخبوية، وثانيهما: الأفلام التجارية المعنية بتحقيق المكاسب المادية في المقام الأول، أي الأفلام الجماهيرية على اعتبار أن الجماهير لن تستوعب تلك الرؤى الفنية التي تقدم من خلال النوعية الأولى.
الحداثة – ما بعد الحداثة
(مقاربة منهحية)

أولاً: مقومات العالم الحداثي:
لقد ظهرت “الحداثة” في الحضارة الغربية نتيجة للعديد من الأسباب والموضعات التاريخية، على الرغم من وجود بعض الأراء التي ترى أنها حركة متمردة على التاريخ، سواء في الانتماء إليه أو التواصل معه، أي أنها تنفي عنها البعد التاريخي!
وبذلك أصبحت الحداثة تستقي مرجعيتها من القيم التي نتجت عن واقعها وليس من أي مرجعية سابقة عليه.
ونسوق في هذا الصدد عدداً من التواريخ المتنوعة التي يمكن أن تشكل مجموعة من المفصلات التاريخية التي يمكن أن تكون قد تسببت في وجود المنظومة “الحداثية”، ومن هذه التواريخ: عام 1786: الذي دشنت فيه “الثورة الصناعية” التي أدت إلى حدوث حالة تبدل ضخمة في كافة العلاقات الاجتماعية، نتيجة لتغير البني الاقتصادية والمعرفية.
وفي عام 1859: ظهر كتاب “أصل الأنواع” لـ “تشارلز دارون” الذي طرح من خلاله مفهوم نزع القداسة عن الكائن الإنساني.
وفي عام 1867: ظهر كتاب “رأس المال” لـ “كارل ماركس” الذي طرح مفهوم الصراع الطبقي ووضع الجانب الاقتصادي والصراعات الناجمة عنه تحت دائرة الضوء.
وإذا كانت “الحداثة” تمثل نوع من الانقطاع المعرفي على مستوى تاريخ البنية الثقافية للحضارة الغربية، إلا أنها لم تتقطع حال تكونها عن التاريخ وجدليته.

ما بعد الحداثة
(المصطلح، المفهوم)
– الطبيعة الملغزة لمصطلح ما بعد الحداثة:
يطلق الإنسان المسمى على الظاهرة أو المصطلح من أجل تحديدهما. أو الإشارة إليهما حال الحديث يصدد أي منهما، وتستخدم هذه التسمية حال ظهورها أو تجلي أي منهما في المجتمع، أما التعريف فهو لاحق على التسمية بطبيعته، إذ أنه يرتبط بضرورة فهم الظاهرة أو المصطلح، عبر تحديد المقومات والخصائص.
كما أن التعريف يضع الظاهرة / أو المصطلح في حالة من التلبس المادي وذلك على مستوى الإدراك الذهني، أما فعل التحليل فيعتمد على منطلق أخر.
فعندما يسعى الإنسان إلى إيجاد تعريف ما، فإنه يبغي في حقيقة الأمر وضع معنى يحدد طبيعة الظاهرة أو المصطلح، أي أنه يحاول إيجاد منطق يمنحه القدرة على فهم ما يحدث أمامه من ظواهر.
ينهض السؤال – على احتياج الإنسان للفهم، فالإحساس بوجود ثغرات في مفهوم الاكتمال المعرفي تحتاج دوماً لملئها.
وتشكل عملية المروحية بين السؤال والجواب في حقيقي الأمر نوع من الجدل ما بين الفراغ والامتلاء، ويمثل هذا الجدل حالة أبدية ومستمرة.
ولكن أتت ما بعد الحداثة لتوجد فراغاً جديداً ولتفجر المزيد من الأسئلة فهي ليست مجردة مسمى أتى ليحل مكان مسمى أخر سبق زمناً، بل هي حالة عامة مختلفة عما سبقها، كما أنها شملت حياة بكاملها.
يعمد المؤرخون والباحثون إلى استخدام التعاقب الزمني بعرض خلق خطة تاريخية للظواهر والوقائع من أجل وضع كل واحدة منها في سياق مبرر ليتمكنوا في النهاية في الإمساك بالتلابيب الظواهر زمنياً ومكانياً.
ويعد مصطلح “ما بعد الحداثة” واحداً من أكثر المصطلحات المراوغة في التعريف كما تمتد تلك المراوغة إلى محاولة تحقيبها في إطار فترة زمنية محددة من أجل تمكيننا من حصر ظهورها فيها.
لقد تعددت التعريفات ما بعد الحداثة فـ “داينال تشاندلر” يرى أن ما بعد الحداثة هي: “مصطلح زئبقي مراوغ، وذلك لأنه يشير، كما يبدو من الناحية الظاهرية، إلى عصر تاريخي تالياً لما يسمى بالحداثة. ويعتبر هذا المصطلح وثيق الصلة تماماً، من الناحية الفلسفية.

ما بعد الحداثة وتمثلات الصورة
– الواقع والواقع الفيلمي:
لم يبزغ الواقع الافتراضي في عالم الوجود البشري فجأة، بما أتى عبر المتغيرات التي حدثت بين الفرد والمجتمع، فالعلاقة بينهما تشكل علاقة جلية لا يمكن التغافل عنها أو عن الآثار الناجمة عنها، وبالرغم من خصوصية كل طرف منهما، إلا أن تفاعلهما كان هو المكون الأساسي للوجود البشري في إطاره المجتمعي، فتفاعلهما كان هو المكون الأساسي للوجود عن ذلك ((الواقع)) الذي يعيش فيه البشر.
ومن هذا المنطلق يمارس الزمن دوراً هاماً في تفعيل العلاقة بين الفردي والجمعي، فالذات الفردية لا تتحقق إلا عبر الوجود الجمعي الذي يلفها ويحيط بها من كافة الجوانب.
وعلى هذا الأساس لم يكن المجتمع الصناعي مهتماً بعمليات التجديد والتغيير، إلا في الإطار الذي يحقق المزيد من المكاسب الاقتصادية للقوى المهيمنة عليهن ومن هنا تمت عملية الترويج لفكرة أن المجتمعات الغربية الحداثية التي يعيش فيها البشر هي النموذج المثالي.
تسببت التغييرات الهيكلية التي حدثت في الحقبة الـ “ما بعد حداثية” والـ “ما بعد صناعية” في وقوع آثار لم تكن متوقعة في حسبان المهيمنين على هذه المجتمعات الغربية، فقد أدت الثورة المعلوماتية –من حيث وفرتها – إلى تحطيم بنية المفاهيم الاقتصادية والسياسية التي أوجدتها الحداثة.
وهكذا أصبح العالم أكثر اختلافاً عن ذي قبل بعد أن ظهرت أجهزة الكومبيوتر ونظم الاتصالات المرتبطة به، فعملية نقل المعلومات تتم عبر وسائط ووسائل تختلف كلية عن كل ما سبقها من نظم نقل مادية، فوجود الكتاب لم يعد قاصراً على شرائه من المكتبات أو من باعة الكتب والجرائد.
وقد أثر هذا التحول على كافة نظم الإنتاج والتسويق في العالم الجديد.
فدائماً كل جديد يهدد كل ما هو قديم، لذا تبدأ الحرب تجاه الجديد واصمة أياه بالتخريب والتدمير وأزالة كل ما كان مستقر عليه قبل وفوده، إلا أن هذا التوصيف لا يمكن القبول به على إطلاقه، فهناك جديد بيني ولا يهدم، كما أن العلاقة الجدلية بين الجديد والقديم تنشأ مكونات وأوضاع لم تكن تخطر ببال أحد قبل حدوثها، ويقودنا هذا الوضع بطبيعة الحال إلى ضرورة التفرقة بين مفهوم “الثورة العلمية” و “الثورة الفنية”.
على مستوى الإنتاج والاستهلاك، بحاجة إلى أن تتقاس بالمرجعية الأساسية للحقيقة، أو حتى ببساطة أن تقاس بمعيار الصدق الذي يهيمن منذ قرون على الفاعلية العلمية، ومن غير الوارد حتى اليوم التخلي عنه، بقول أخر في الفنون لا توجد قيمة أساسية بالوضوح ذاته وباليفين ذاته، يمكن الاستناد إليها توصيف التعديلات والتحولات بوصفها تقدم أو تراجع.

تمهيد
الفصل الأول: الحداثة – ما بعد الحداثة (مقارنة منهجية)
أولاً: مقومات العالم الحداثي
ثانياً: مقدمات تشكل عالم ما بعد الحداثة
ثالثاً: تحولات المجتمع الأمريكي في ستينات القرن العشرين
رابعاً: إعادة النظر في القدرة المطلقة للعلم
الفصل الثاني: ما بعد الحداثة: المصطلح، المفهوم
أولاً: الطبيعة الملغزة لمصطلح ما بعد الحداثة
ثانياً: تحولات ما بعد الحداثة
ثالثاً: سيادة الثقافة الجماهيرية في العالم ما بعد حداثي
رابعاً: ما بعد الحداثة والتداخل بين الأنواع
خامساً: الرؤى الفكرية والفلسفية والعلمية الـ “ما بعد حداثة”
الفصل الثالث: ما بعد الحداثة وتمثلات الصورة
أولاً: الواقع الافتراضي والواقع الفيلمي
ثانياً: جذور ما بعد الحداثة في التاريخ الفيلمي
ثالثاً: (أثر ما بعد الحداثة على البناء الفيلمي)
أ‌- الشخصيات الفيلمية
1- شخصيات بلا تاريخ
2- شخصيات مغتربة
3- شخصيات فصامية
4- شخصيات افتراضية
ب‌- البناء الزماني والمكاني للفيلم ما بعد الحداثي
1- البدايات الفيلمية
2- تدمير بنية الفيلم الزمكانية
3- طبيعة البناء السردي للفيلم ما بعد الحداث

من almooftah

اترك تعليقاً