محمد حسنين هيكل مع كتاب وصحفيين فى عيد ميلاده تصوير مجدى ابراهيم

محمد حسنين هيكل مع كتاب وصحفيين فى عيد ميلاده تصوير مجدى ابراهيم

خالد أبو بكر

• أول صحفى مصرى يغطى معارك الحرب العالمية الثانية من الميدان

• محمد التابعى جذبه إلى الصحافة العربية بعد نجاحه فى تغطية معركة العالمين لصحيفة الجازيت

• مصطفى أمين كتب فى أخبار اليوم عن مشروع معاهدة صدقى بيفن عنوانه (نوقعها ونلعنها) فرد هيكل فى «آخر ساعة»: لماذا نوقعها إذا كنا سنلعنها

• فاز بجائزة الملك فاروق للصحافة 3 مرات فقرر عدم التقدم إليها مرة أخرى

• قدمه القصر الملكى للمحاكمة بتهمة «العيب فى الذات الملكية» وانقذته ثورة 23 يوليو من السجن

• حول الأهرام من صحيفة على وشك الإفلاس إلى واحدة من أكبر 10 صحف فى العالم

• رفض الوزارة 4 مرات وقبلها فى الخامسة بسبب حرب الاستنزاف

• السادات أصدر قانون «العيب» لمحاكمة الكاتب الكبير فأطلق عليه البعض «قانون هيكل»

• حذر من مخطط توريث الحكم فى عهد مبارك ففتح على نفسه أبواب جهنم

عندما تتأمل الموكب الجنائزى للكاتب الصحفى الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى «دار العودة» حيث يرقد جثمانه فى مشهده الأخير الذى أصر على أن يطل فيه على المنطقة التى أحبها وارتبط بها قلبه ووجدانه منذ سنوات طفولته الباكرة فى حى «سيدنا الحسين» ــ تشعر بأن الرجل يمضى فى نهاية رحلته بثقة واطمئنان كبيرين.. على الفور تستدعى الذاكرة سؤال الأستاذة سناء البيسى لـ«الأستاذ» عن هذه اللحظة بالضبط فى حوارها الذى أجرته معه قبل عدة سنوات لمجلة «نصف الدنيا»: «هل تخاف الموت؟»، وترن فى أذنيك تلك الإجابة التى انطلقت من دون تردد: «ليس فى الموت ما يخيف.. أظن أننى اقتربت من الوقت الذى يمكن أن أفكر فيه فى هذا الموضوع.. ولا أظن أن الفكرة تفزعنى.. لقد كتبت ظرفا مقفولا مع زوجتى وفيه نعيى وراسم فيه جنازتى.. الموت لا يخيفنى.. عندما تعملين فى الحياة وتنظرين خلفك من غير غضب تشعرين بالرضا وتقولين: ماذا صنعت فى حياتى؟ فبقدر ما استطعت جربت وبقدر ما جربت نجحت أو لم أنجح.. لكن فى النهاية الحمد لله أنا راض».

فى هذه الإطلالة البانورامية على محطات رئيسية فى حياة «الأستاذ هيكل» التى تركها خلفه راضيا قرير العين، سنجد أن خطا مستقيما موصولا وممتدا معه طوال حياته المهنية التى جاوزت العقود الستة.. العنوان الأول لهذا الخط المهنى، هو عشق السير على حواف الجمر.. المضى من دون اعتبار للخطر ما دام لأجل أن يأتى الخبر.. وينضج التحليل.

حسم الرجل قضيته منذ اللحظة الأولى التى انقبض فيها قلبه لأول مرة ــ وربما آخر مرة ــ فى ميادين القتال عندما أرسله «هارولد إيرل» رئيس تحرير «الإيجيبشيان جازيت» لتغطية حرب العلمين سنة 1942.. من وقتها لم تعد تهمه نوعية الأخطار.. سواء أكانت وباء يغطيه وينقل أخباره للناس.. أو حربا ضروسا خارج الحدود هناك فى فلسطين أو أوروبا وآسيا ومجاهل إفريقيا، أو صراعات سياسية داخلية فى عديد من البلدان، أو أن يقف فى وجه حاكم ليقول له «لا» لأن مساره انحرف إلى غير ما يراه فى مصلحة الوطن.. أو نباح الصغار على مر العصور الذى ظل طيلة حياته الحافلة بالإبداع والتفرد والإدهاش والإبهار مترفعا عنه فى كبرياء وشمم من يحلق من أعلى عليين.

تعود جذور محمد حسنين هيكل إلى ديروط الشريف التابعة لمركز ديروط بمحافظة أسيوط، كان الجد الأكبر يشتغل بالتجارة.. كانت له مراكب شراعية تجرى فى النيل، وتنقل المحاصيل من الصعيد إلى شمال القاهرة عند «باسوس» بالقرب من قليوب، وكان للجد الأكبر «وابور طحين» ومحلج قطن صغير وشونتان لتخزين الغلال والحبوب فى روض الفرج وأثر النبى، وهما الموانئ النيلية القريبة من القاهرة.. وفى أجواء روحانية من الهدوء والسكينة عاش جزءا من طفولته فى حى «سيدنا الحسين»، حفظ فيه القرآن، وحصل على مكافأة الجد لمن يتم حفظ كتاب الله من أطفال العائلة، وهى «جنيه من الذهب».

قبل أن يداعب عامة التاسع عشر هفت روحه وعقله إلى طرق أبواب بلاط صاحبة الجلالة، فكان على موعد مع ضربة البداية فى دهاليزها، والتى حكى عنها فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» قائلا: «قضيت فترة التكوين المهنى الأولى (1942ــ 1944) فى جريدة «الإجيبشيان جازيت» (الناطقة باللغة الإنجليزية) وكانت أكبر الصحف التى تصدر فى مصر عن شركة الإعلانات الشرقية التى تملكها أسرة (فينى). وكان التحاقى للتدريب بها فرصة أتاحها لى ولثلاثة غيرى من الشباب الناشىء واحد من خيرة محرريها سكوت واطسون، كنا بين الجالسين أمامه فى محاضرة عن (عناصر الخبر) وإذ به يتطرق من موضوع محاضرته إلى ذكرياته أيام كان مراسلا فى الحرب الأهلية الإسبانية، وكنا نستمع إليه فى انبهار وشبه خشوع، فلقد طاف بنا فيما يشبه الملحمة بين تضاريس ومعالم تلك الحرب التى انقسمت أوروبا بسببها بين الفاشية والديمقراطية. وحين ختم محاضرته كانت دعوته لمن يريد منا أن يتدرب عمليا أن يلقاه فى اليوم التالى بمكتبه فى «الإجيبشيان جازيت». وفى اليوم التالى وقبل أن يصل هو إلى مكتبه كنا نحن الأربعة قد سبقناه إليه ننتظر.

وهكذا وجدت نفسى فى جو الصحافة العملية لأولى مرة أعمل بين رجلين كان لهما تأثير واضح على نشأتى الصحفية الأولى: سكوت واطسون نفسه، وكان إلى جانب كفاءته المهنية مثقفا يساريا صاغته تجارب الحرب الأهلية فى إسبانيا بكل عناصرها الفكرية والإنسانسة العظيمة، ثم هارولد إيرل، رئيس تحرير (الجازيت)، وكان صحفيا كلاسيكيا قديرا يعمل فى نفس الوقت مراسلا لجريدة (المانشستر جارديان) فى مصر.

ولقد بدأت مساعد مخبر صحفى فى قسم الحوادث، وظللت فيه قرابة سنة حتى جاءنا، إيرل باقتراح مثير. دعانا إلى مكتبه يوما نحن الشبان الأربعة، ليقول لنا إن هناك حربا تجرى على أرض مصر، ومع ذلك فإن أحدا لم يصفها بعين مصرية ولم يكتبها بقلم مصرى. ثم سألنا هل فينا من هو مستعد للمخاطرة فى تجربة جديدة، وهى مسئوليته وحدها. وتحمست للتجربة، ولعلنى فى ذلك كنت متأثرا بإعجابى بواطسون وتجربته فى الحرب الأهلية الإسبانية. وهكذا بعد شهرين وجدتنى فى العلمين شاهدا مصريا على الحرب العظمى الثانية، وأعترف أن تجربة العمل كمراسل حربى قد استهوتنى».

ينقل سمير صبحى فى كتابه «الجورنالجى» عن هيكل المزيد من الذكريات عن تجربته فى تغطية الحرب العالمية الثانية، بقوله «كنت المصرى الوحيد الذى وافق على الذهاب للعلمين. أخذونا إلى معسكر تأهيل بمنطقة الدخيلة قرب الإسكندرية، حيث تعلمنا ما هى حقوقنا كمراسلين عسكريين طبقا لاتفاقيات جنيف.. عملت فى البداية مع كتيبة هندية بمنطقة الرويثات، شرقى العلمين، ولكن يوم وصولى تعرضت الكتيبة لقصف عنيف من جانب الألمان، واضطرت إلى إخلاء موقعها، فطلبت الذهاب إلى موقع آخر، ولم أكن قد رأيت شيئا عن الحرب، فأخذونى إلى كتيبة استرالية كان حظها أحسن قليلا من الهندية».

هيكل بجوار البطل أحمد عبد العزيز في حرب فلسطين

كان لتجربة العلمين عظيم الأثر فى تكوين «الأستاذ» صحفيا، ذلك أنه التقى لأول مرة بخطوط النار وجبهات القتال التى وقع فى غرامها، رغم ما بها من مخاطر وأهوال، أدرك مبكرا جدا أن الخبر الطازج والتحليل الرصين لابد له من معلومة صحيحة، والمعلومة الصحيحة لابد من الوصول إليها حتى لو كانت فى مواجهة قصف المدافع وأزيز الطائرات ولعلعة الرصاص.

بعد عودته من العلمين دعاه الكاتب الصحفى الكبير محمد التابعى للقائه فى مكتبه بمجلة «آخر ساعة»، وسأله: كيف ترى مستقبلك؟ فقال «أتصور أن عملى فى الجازيت يكفينى»، لكن التابعى قال له «صحفى مصرى مجاله فى الصحافة المصرية باللغة العربية وبقرائه فيها.. هذا هو المستقبل»، وبالفعل انتقل إلى «آخر ساعة» وعمل مع التابعى الذى يعتز جدا بأستاذيته، لدرجة أنه قال «إننى رحت فى البداية أقلد أسلوبه الرشيق فى الكتابة»..

لم يكن الانتقال من صحافة ناطقة بالإنجليزية إلى العربية سهلا على الأستاذ لعدة أمور يقول فيها: «فى حين أن رئيسى الأول (هارولد إيرل) كان يرى أن الجريمة والحرب هما مجال التكوين الأصلح والأمثل لصحفى، فإن رئيسى الثانى (التابعى) كان يرى المسرح والبرلمان هما المجال الأنسب والأوفق. ولبضعة أسابيع وجدت نفسى فى كواليس مسارح القاهرة بدلا من ميادين القتال، ثم وجدت نفسى فى شرفة مجلس النواب بدلا من مبنى محافظة القاهرة التى تصب فيها أخبار كل جريمة تحدث فى مصر».

يرى «الأستاذ» أن التابعى «ربما كان على حق على الأقل فيما يتعلق بمجلس النواب، فقد أتاح لى مقعد آخر ساعة فى شرفة المجلس أن أقترب من من أجواء السياسة المصرية».

تكاد تتلمس فى حديث هيكل عن هذه المرحلة سرا كبيرا من أسرار أسلوبه، «كانت تلك الفترة، مهنيا فترة العثور على توازن معقول بين ثلاثة تأثيرات واضحة تجاذبتنى: عقلانية هارولد إريل ورومانسية سكوت واطسون ثم حلاوة أسلوب محمد التابعى».

باع التابعى «آخر ساعة» إلى مصطفى وعلى أمين صاحبى «أخبار اليوم» التى كانت فى أوج تألقها خلال هذه الفترة، وانتقل هيكل للعمل مع الملاك الجدد، ارتاح على الفور لعلى أمين، فيما حدث فى بدايتها احتكاكات بينه ومصطفى أمين، لاسيما فى كيفية تغطية مفاوضات صدقى ــ بيفن «كان هو يتمنى نجاحها، ولم يكن ذلك مناى.. وتعقدت الأمور بعض الشىء فيما أظن حينما كتب الأستاذ مصطفى أمين فى (أخبار اليوم)مقالا عن مشروع معاهدة صدقى بيفن عنوانه (نوقعها ونلعنها) وإذ بـ(آخر ساعة) تصدر بعد ثلاثة أيام بافتتاحية عنوانها (إذا كنا سنلعنها فلماذا نوقعها؟)».

• المحقق •

فى سنة 1947 يقرر هيكل تغيير اتجاهه المهنى «بدت لى التغطية الإخبارية فى السياسة المحلية جهدا عقيما وفكرت أن أعود إلى التحقيق الصحفى. وهنا يجد نفسه مرة أخرى فى مواجهة الأخطار، لكن هذه المرة ليس على خطوط النار، بل فى مواجهة وباء «كان وباء الكوليرا قد تفشى فى مصر. وغادرت القاهرة مع الأستاذ محمد يوسف كبير مصورى (أخبار اليوم) وذهبنا لنقيم فى منطقة ظهور الوباء (قرية القرين) فى محافظة الشرقية، وتقرر عزل المحافظة عن بقية أنحاء مصر ونحن فيها. وكانت رسائلنا تصل كل أسبوع إلى (أخبار اليوم) تنقل إلى قرائها صورة شاملة إنسانية للحياة فى ظلال الموت.. عدت مرة أخرى إلى الحياة مع الخطر كما كنت أفعل فى الجازيت. كان الخطر هناك فى الحرب، والخطر الآن هو الوباء».

تحقيق من الشرقية عن وباء الكوليرا سنة 1947

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يقوم فيها «الأستاذ» بتغطية وباء يضرب مصر أو بقعة فيها، ذلك أنه أثناء عمله فى «الجازيت» أرسله رئيس التحرير هارولد ايرل لتغطية «وباء الملاريا» الذى ضرب محافظة أسيوط سنة 1943. لقد تحدث باستفاضة عن هذا الأمر فى برنامجه «مع هيكل.. تجربة حياة» فى حلقة 25 ديسمبر 2006 على قناة «الجزيرة» تتدخل فى الشئون الداخلية لمصر كما كان يراها بعد ثورة 25 يناير: «ذهبت لأسيوط.. بمجرد نزولى توجهت لمكتب الصحة.. من حسن حظى أنى وجدت طبيبا اسمه دكتور موريس، كان المسئول الأول عن مكافحة الوباء.. تجولت معه فى منطقة ظهور الوباء من المنيا شمالا إلى جنوب أسيوط، كنت أجد صورا مخيفة.. قرى بكاملها تقريبا راحت فى الوباء.. ولا أحد يتكلم عنها فى القاهرة التى أنا قادم منها».

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يعانق فيها «الأستاذ» المجد والخطر فى آن واحد، فى أسيوط، ففى 17 أغسطس 1947 عاد مرة أخرى للبلد الذى تنحدر منه جذور عائلته، لإجراء تحقيق صحفى عن مقتل «خط الصعيد»، وهو لمن يقرأه اليوم بيانا عمليا عن كيف يكون التحقيق الصحفى من جهة المعلومات والإثارة وروعة الكتابة، والذى نشر تحت عنوان «طاغية الصعيد ذو الشعر الأصفر والعيون الزرق»، وصدرته «آخر ساعة» بالعبارة التالية: «لقد قتل الخط.. هذا هو نص الإشارة التليفونية التى تلقتها آخر ساعة.. وبعد ساعات قلائل كانت سيارة من طراز جيب تشق طريقها إلى منفلوط، ومن منفلوط فى عرض الوادى إلى حضن الجبل.. مارة بالقرى والنجوع والكفور التى كان الخط يتخذها مسرحا لأيامه الأخيرة. وكان فى سيارة الجيب الأستاذ محمد حسنين هيكل، المحرر فى آخر ساعة والأستاذ محمد يوسف كبير مصورى دار أخبار اليوم».

لم يقنع طويلا «الأستاذ» بالتحقيق الصحفى داخل مصر، عاوده الحنين مرة أخرى إلى ميادين القتال ورائحة البارود والعيش فى الخنادق، فيقنع على أمين بأن يفتح أمامه باب التحقيق الصحفى خارج الحدود، «أشهد أنه تحمس، وأعتقد أنه لم تكن هناك دار صحفية أخرى فى مصر وقتها على استعداد للمجازفة بمثل هذه الفرصة لأحد محرريها غير أخبار اليوم».

و«هكذا وجدتنى باحثا عن المتاعب فى كل مكان أغطى الحوادث الساخنة فى الشرق الأوسط وحوله، من الحرب الأهلية فى اليونان وقد شملت البلقان، إلى حرب فلسطين من أولها لآخرها، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية فى سوريا، إلى عمليات الاغتيال الكبرى فى المنطقة من اغتيال الملك عبدالله بن الحسين فى القدس إلى اغتيال رياض الصلح فى عمان إلى قتل حسنى الزعيم فى دمشق، إلى ثورة مصدق فى إيران. ثم اتسعت المسافات فإذا أنا أغطى المشكلات الملتهبة فى قلب أفريقيا، ثم حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولى».

وحين استقر بى المقام فى القاهرة بعد خمس سنوات (سنة 1951) كنت قد حصلت على جائزة فاروق الأول للصحافة ثلاث مرات، قررت بعدها ألا أتقدم للجائزة وأتركها لغيرى، كما تم تعيينى رئيسا لتحرير «آخر ساعة»، ومساعدا لرئيس تحرير «أخبار اليوم».

ويواصل حديثه عن مرحلة ما بعد العودة من الخارج قائلا: «اكتشفت ــ بعرفان شديد وتواضع أشد ــ أن كثيرين قد أصبحوا يهتمون بما أكتب، ثم أننى أصبحت على معرفة وثيقة بأحوال شعوب المنطقة ومعرفة شخصية بكل ساساتها وحكامها، وعلى صلة بجيلى من الصحفيين فى العالم الواسع، فقد جمعتنا ميادين القتال ومواقع الأحداث على طول المسافة الممتدة من شواطئ المحيط الهادئ إلى شواطئ الأطلنطى.. وأهم من ذلك كله أن أبواب السياسة المصرية تفتحت أمامى على مصرعيها».

تحقيق خط الصعيد

خلال حديثه المستفيض عن هذه الفترة من حياته تلتقط سر مدرسة هيكل الصحفية القائمة على الاعتداد بالذات وبالصحافة، «كان ساسة مصر وقتها قد تعودوا على مجموعات من الصحفيين يقفون على أبواب الرئاسات والوزارات يسألون الداخلين والخارجين عن الأخبار. وكان من حسن حظى أننى لم أقف على باب أحد، ولم أسأل أحد فى شىء أثناء مروره فى ردهة أو نزوله على سلم خروج. ولقد سبب لى ذلك حساسيات مع البعض.. ومع الأسف لم أستطع إقناعهم أن الحياة مع الخطر هى التى فتحت لى الأبواب وأعفتنى من الوقوف على الأعتاب.

وأتذكر على سبيل المثال أنى حين عدت من فلسطين لأول مرة بعد أن كتبت سلسلة تحقيقات بعنوان «النار فوق الأرض المقدسة» تلقيت دعوة من رئيس الوزراء فى ذلك الوقت محمود فهمى النقراشى باشا يطلبنى إلى مقابلته ليسألنى عما رأيت ويدقق فى سؤالى، ولم تكن مصر قد قررت دخول الحرب بعد».

وتضمنت تحقيقات «النار فوق الأرض المقدسة» التى نشرت فى الفترة ما بين مارس وأبريل 1948 (مصر دخلت الحرب يوم 15 مايو 1948) تحقيقا عن تسليح عصابات «الهاجناه» الصهيوينة، التى تحولت إلى «جيش الدفاع الإسرائيلى» بعد قيام إسرائيل، قال فيه إنه يوجد بمستعمرة «الخضيرة» بمنطقة الجليل مصنعا لإنتاج العربات المصفحة، وإنه استطاع أن يحصى منها 147 مصفحة.

وسعى هيكل إلى تغطية تحرك قوات المتطوعين المصريين فى فلسطين بقيادة القائم قام (العقيد) أحمد عبدالعزيز، فاستقل الطائرة ومعه المصور محمد يوسف إلى العاصمة الأردنية عمان، ثم بالسيارة إلى حى «باب العمود» بالقدس، ومنه سيرا على الأقدام إلى بيت لحم وإلى الخليل بمعاونة «دليل» من أهالى المنطقة. وكان هيكل ويوسف الصحفيين الوحيدين اللذين نجحا فى مقابلة عبدالعزيز، وحصلا على صور لقواته.

بمزيد من الاعتزاز يروى هيكل محصلة تجربته مع أحمد عبدالعزيز «أثناء حرب فلسطين الناس فى مصر لم تكن تعرف من هو البطل أحمد عبدالعزيز، وما هى صورته. استطعنا مع محمد يوسف أن ننقل صورته إلى الناس فى بلاده، وعرفوه بالرغم من أنه مات بفلسطين، ولم تكن له جنازة شعبية ولا عسكرية فى القاهرة إلا أنه ارتبط فى ذهن الناس بسبب كتاباتنا فى الصفحة الأولى فى أخبار اليوم كل أسبوع.. وأصبح اسمه على كل لسان بعد أن أصبح هناك شارع رئيسى باسمه فى الجيزة».

• عبدالناصر و23 يوليو •

ما يربط عبدالناصر بهيكل هو الجذور الصعيدية.. فجذور ناصر تعود إلى قرية «بنى مر» التى تبعد 4 كيلومترات من أسيوط، وجذور هيكل ترجع إلى ديروط الشريف التى تقع بنحو 75 كيلو شمال أسيوط.

أول لقاء بينهما كان فى حرب فلسطين وبالتحديد فى «عراق المنشية»، التى شهدت معارك شرسة بين الجيش المصرى والصهاينة، «قابلته ليلا.. كان ينام فى الخندق.. وقد وضع البطاطين فوق بعضها ليصنع منها سريرا.. كان مجهدا وعائدا من معركة.. لكننى شعرت أننى مع ضابط دمه ثقيل.. فقد كان مستاء للغاية مما تنشره الصحف، وكان يشكو من أن هذه الصحف تذيع أسرارا عسكرية».

تكررت اللقاءات على خطوط النار فى الأرض المقدسة، وحتى بعد العودة إلى مصر «التقيت عبدالناصر وسط الدخان فى حريق القاهرة (26 يناير 1952) الذى نزلت كى أتابعه، بعد العودة من فلسطين، زارنى فى مكتبى أكثر من مرة فى ايام تصادف وجودى فيها بالقاهرة: مرة يسألنى عن الانقلابات العسكرية السورية وما يجرى فيها، ومرة ليطلب نسخة كتاب صدر لى وقتها عن أزمة تأميم البترول فى إيران بعنوان (إيران فوق بركان)».

ورصد هيكل فى هذا الكتاب قصة تأميم حكومة محمد مصدق لصناعة البترول فى إيران، وتمردها على الشاه رضا بهلوى، ما دفع بزوج ابنة الشاه الجنرال زاهدى إلى تدبير انقلاب ضد مصدق وإعادة الشاه الذى كان قد هرب إلى روما. وفى هذا الكتاب أورد هيكل المناقشات التى جرت فى البرلمان الإيرانى والتى تتضمن تهجما شديدا على الشاه فاعتبر الكتاب «عيبا فى الذات الملكية»، على اعتبار أنه يسىء إلى كل الملوك بمن فيهم الملك فاروق، ولذلك تم تقديم هيكل للمحاكمة، التى استمرت إلى أن قامت ثورة 23 يوليو 1952، وأطاحت بالملك فاروق. وفى أول جلسة بعد الثورة نظر القاضى فى التهمة وتعجب وشطب القضية.

هيكل وعبدالناصر

كانت الأيام الخمسة السابقة على قيام 23 يوليو 1952 أياما لا تنسى فى حياة الأستاذ فيقول عنها «يوم 18 يوليو التقيت مصادفة بالبكباشى جمال عبدالناصر والصاغ عبدالحكيم عامر، ودار بيننا نقاش ساخن حول ما يجرى فى البلاد ودور الجيش فيه، وتحمست أثناء المناقشة وقلت لعبدالناصر ما معناه (أن الجيش عاجز عن رد كرامته إزاء عدوان الملك عليه)، ورد عبدالناصر بالتساؤل عما يمكن أن يفعله الجيش.. أو ليست أى حركة من جانبه يمكن أن تؤدى إلى تدخل بريطانى يعيد فيه الملك فاروق تمثيل دور الخديو توفيق ويعيد فيه الجيش إلى مأساة عرابى؟، وتطوعت وقلت إن الانجليز لن يتدخلوا لأنهم لا يملكون وسائل التدخل، وأحسست أن عباراتى رنت جرسا فى رأس عبدالناصر لأنه التفت إلى وسألنى عن الاسباب التى تدعونى إلى القول بذلك.. كيف أستطيع أن أقطع على هذا النحو بأن الانجليز لن يتدخلوا».

وراح الأستاذ يشرح وجهة نظره التى كانت بمثابة «تقدير موقف استراتيجى» من رجل حاور الجنرالات على جبهات القتال، واطلع مبكرا على كتابات عتاة الاستراتيجية من «كلاوس فيتز» إلى «ليدل هارت»، «ليس لدى الانجليز إلا فرقة واحدة فى قناة السويس، وهى لا تستطيع السيطرة على كامل الأراضى المصرية وأقرب خطوط إمدادهم إلى مصر بعيدة جدا، ثم إن المناخ الإقليمى فى المنطقة لا يسمح لبريطانيا ــ وهى تواجه مشكلة فى ايران بسبب تأميم البترول ــ بأن تدخل معركة مسلحة فى مصر، فذلك قد يؤدى بالمنطقة كلها إلى انفجار لا تحمد عواقبه. أضف إلى ذلك أن السفير البريطانى وقائد القوات البريطانية فى القناة فى إجازة، ومعنى ذلك أن شبكة الاتصالات بين لندن والقاهرة ليست مفتوحة عند القمة» استمع ناصر إلى هذا الكلام باهتمام شديد، ولم يكن هيكل يدرى أن ذلك الضابط الطويل القامة ينوى التحرك فى غضون ساعات للإطاحة بالملك.

يوم 20 يوليو عاد هيكل من زيارة سريعة للإسكندرية التقى فيها نجيب الهلالى باشا الذى كلف بتشكيل الوزارة.. و«فى الساعة الثانية والنصف من صباح يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 كنت فى مقر هيئة أركان الجيش، وكان قد أصبح مقرا لقيادة حركة جديدة قامت بها مجموعة من الضباط الشبان للاستيلاء على السلطة فيه، وباستيلائهم على السلطة فيه فإنهم استولوا على السلطة فى الوطن كله. بدأوا تحركهم فى منتصف الليل، وبعد ساعتين اثنتين كانوا قد حققوا ما أرادوه وبعد دقائق كنت فى وسطهم». ولعبت دور الوسيط عبر التليفون بين الضباط والهلالى.. الذى امتثل لأوامرهم بتقديم الاستقالة.

عبدالناصر وهيكل

وهكذا بدأت قصة هيكل وعبدالناصر.. كان اللقاء الأول على أرض فلسطين، وامتد بصورة غير منتظمة، إلى ليلة 23 يوليو 1952. والمهم أن نلاحظ أن عبدالناصر هو الذى اختار هيكل منذ البداية وراهن عليه، إلى حد أن جعله المدنى الوحيد الذى كان حاضرا فى القيادة فى أحرج الأوقات لحظة تقرير مصير الثورة، ونلاحظ أيضا أن عبدالناصر بدأ فى تكليف هيكل بمهام لخدمة الثورة فى هذه الليلة الطويلة التى كانت لحظة فاصلة فى التاريخ، وأيضا لحظة فاصلة فى حياة ومستقبل مصر والثورة وعبدالناصر وهيكل، بتعبير الأستاذ رجب البنا.

استمرت الصداقة بين عبدالناصر وهيكل، وطلب الأول منه رئاسة تحرير «الجمهورية»، لسان حال الثورة فاعتذر عن ذلك. وتمضى الحوادث، ويحتفظ هيكل بعلاقة نادرة بين حاكم وصحفى، يقول عنها «الأستاذ» «كنت قريبا من عبدالناصر.. وكانت بيننا صداقة وثيقة.. وكانت العلاقة من نوع متميز بين شخص يقود وشخص إلى جانبه يتكلم أو يفكر، وقد حرصت أن أبتعد عن المناصب والأوضاع الرسمية، وكنت دائما متمسكا بالصحافة والكتابة وأفضلها عن أى منصب رسمى، وقد ذكرت ذلك لعبدالناصر مرات عدة.. قلت له أفضل الاحتفاظ بصفة الصديق الذى يتحدث إليك باستمرار بدون وساوس أو إحراج.

وكانت العلاقة بيننا قبل الثورة وحتى 28 سبتمبر 1970 (يوم وفاة عبدالناصر) علاقة حوار مستمر، وأعتقد أن ثقته الكاملة بى هى التى شجعت على ذلك، وأحيانا كان يضيق بهذا الجدل لكنه كان يسمع ويناقش باستمرار، وعندما كان يشعر بالضيق أحيانا فلأن كلامى كان فى اعتقاده نوعا من الإحراج لأطراف أخرى، وعلى سبيل المثال كان يشعر بهذا الضيق وأنا أكتب عن البيروقراطية المصرية أو أناقش فيها، لأن كلامى فيه إحراج لوزراء يعملون معه، وعندما كنت أنتقد الاتحاد الاشتراكى لم يكن يتضايق إلا أنه كان يشعر بأن بعض معاونيه يمكن أن يضيقوا بهذا النقد، وكان يأخذ فى الاعتبار مشاعر الذين يعملون معه.

وقد كتبت الكثير حول قضايا لولا الثقة التى بيننا لكان الأمر يختلف.. كتبت مثلا عن ضرورة اندماج المثقفين فى الثورة وفى النظام لينتهى دور (أهل الثقة) وطالبت بأن يكون (أهل الخبرة) هم أهل الثقة. وكتبت أنه لابد أن يقوم أهل الثقة وأهل الخبرة بتوسيع دائرة معارف عبدالناصر، وناديت بالمجتمع المفتوح.. وبالديمقراطية.. وكتبت ضد تجاوزات بعض أجهزة السلطة وفى مقدمتها المخابرات.. وكتبت فى موضوع الحراسات وضرورة أن يظل الهدف هو تصفية امتيازات الطبقة وليس تصفية أفراد الطبقة.. كتبت عن عدوان البيروقراطية فى الجهاز الحكومى والبيروقراطية الجديدة فى القطاع العام.. وكتبت عن ضرورة أن يلعب التكنوقراط دورهم فى التطوير.. وكنت قلقا وأنا أكتب عن خشيتى من أن يطوى أهل البيروقراطية القديمة أهل البيروقراطية الجديدة بدلا من أن يطوى الجدد القدامى، وهذا ما حدث فعلا حيث ابتلع القدامى الجدد.. ومثل هذه الكتابات كانت تسبب لى بعض المشكلات لكن جمال عبدالناصر لم يضق بها».

• صناعة مجد «الأهرام» •

حانت لحظة تغيير الوجهة الصحفية، بخوض تجربة جديدة بعيدا عن «أخبار اليوم»، التى لخص محصلة تجربته فيها بالقول «كانت السنوات العشر التى قضيتها فى أخبار اليوم (1946ــ 1956) سنوات خصبة، وفيها وضعت الأساس لأى شىء يمكن أن أصل إليه مهنيا، وفيها عرفنى الناس وقرأوا لى، وفيها وصلت بالفعل إلى مكان الرجل الثالث بعد صاحبيها».

الأول من أغسطس 1957م كان أول أيام هيكل فى «الأهرام»، التى صدرت فى ذلك اليوم حاملة العدد رقم «26 ألفا»، وقبول «الأستاذ» لرئاسة تحرير هذه الصحيفة العريقة التى كانت على وشك الإفلاس فى هذه الفترة جاء بعد أن اعتذر عن هذه المهمة قبل ذلك بعام، لاعتبارات نفسية منها «ارتباطه بصداقات اعتز دوما بها فى أخبار اليوم» لكنه حسم أمره حيالها.

فى يومه الأول رئيسا لتحرير «الأهرام» فاجأته تحدياته، فهو فى الثالثة والثلاثين من عمره بينما قيادات الصحيفة العريقة تجاوز أغلبهم الخمسين، وهو قادم من «أخبار اليوم» وهى تجربة صحفية تناقض ما اعتادته «الأهرام» من تقاليد رسخت وأساليب فى كتابة الأخبار والتحقيقات والعناوين وترتيب الصفحات وتوضيبها.. وهذه مسألة حساسة لوحدها بغض النظر عن ميله الطبيعى إلى النهج المهنى لـ«الأهرام».. لكنه استطاع تجاوز فجوة الأعمار وجفوة المدارس. كما يرويه عنه الكاتب الصحفى الأستاذ عبدالله السناوى.

لمدة شهر كامل، تابع حركة العمل فى الصحيفة، ترك كل شىء يمضى بالطريقة المعتادة.. «لا أمليت تصورات مهنية متعجلة ولا أقدمت على تغيير الخط التحريرى العام».. و«أخذت وقتى فى التعرف عن قرب على الكفاءات والمواهب التى يمكن الاعتماد عليها فى أى خطط تطوير مستقبلية لاكتساب قارئ جديد».. «أخذت ما أحتاج إليه من وقت للتفكير فى خطط التطوير نفسها».. «عندما استكملت خططى بادرت بتغيير شامل فى الأهرام محاولا أن أضفى على موادها التحريرية حيوية تفتقدها مع الحفاظ على شخصيتها الرصينة».. وكان «تقديرى أن الاتصال بمصادر الأخبار بالطريق الصحيح واللائق مسألة حاسمة للانفراد الصحفى ودقة ما ينشر»، فـ«كل صحيفة تغطى أولا ما يغطيه غيرها من أخبار، وتنافس ثانيا فى متابعة تلك القصص الإخبارية واستقصاء خلفيات جديدة، ثم تحاول ثالثا أن تنفرد بأخبار تسجل أمام قارئها قدرتها على إشباع احتياجاته من المعلومات أكثر من غيرها».

عبدالناصر والسادت وهيكل

«لم أسمح لنفسى فى أى لحظة لأى سبب أن استدعى أحدا من كبار الأدباء والمفكرين الذين احتواهم الدور السادس إلى مكتبى فى الدور الرابع.. أنا الذى أذهب إلى مكاتبهم محاورا عندما يتوافر عندى وقت.. أنت تتحدث عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود ولويس عوض وبنت الشاطئ وصلاح طاهر وهم حجر الأساس وقتها فى بنية الثقافة المصرية وقوة مصر الناعمة فى محيطها».

«أردت توفير مناخ للإبداع بدون ضغوط أو شواغل أخرى وتركت القيمة تتجلى وفق ما يرى أصحابها».. مثلا: «قلت لنجيب محفوظ لا أريد منك أن تفعل شيئا غير أن تهتم بفنك الروائى، كل ما أتمناه أن تنشر كل عام رواية جديدة على حلقات».. وكان من بينها رواية «أولاد حارتنا»، التى أثارت جدلا وصخبا وأدت بعد سنوات طويلة إلى محاولة اغتيال الروائى العالمى «نجيب محفوظ»، لكنه أصر على استمرار النشر وتحمل مسئوليته.

«أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار فى قلب المشهد يتابعون ما يجرى فيه ويكتبون عن معرفة».

ظل هيكل رئيسا لتحرير «الأهرام» طيلة 17 سنة، وصلت خلالها إلى أن أصبحت واحدة من الصحف العشرة الأولى فى العالم. ويتضاعف توزيعها عددة مرات، ففى عام 1957 بلغ 70 ألف نسخة، ويرتفع هذا الرقم ليصل فى عام 1967 فى اليوم العادى إلى 350 ألف نسخة، وفى العدد الأسبوعى يوم الجمعة يقفز الرقم إلى 750 ألف نسخة، وكل ذلك وعدد سكان مصر لم يكن قد ناهر الـ40 مليون نسمة وقتها، وإذا خصمت نسبة الأمية منهم ستجد أن شريحة واسعة جدا ممن كانوا يجيدون القراءة فى مصر يقرأءون «الأهرام».

• الوزارة وحائط الصواريخ •

كان هيكل يرفض بشدة تولى أى موقع رسمى، لاعتزازه الشديد بكونه صحفيا «عبدالناصر فاتحنى فى أمر تعيينى وزيرا أربع مرات، وفى كل مرة كنت أعتذر، المرة الأولى سنة 1956 فى أول حكومة تألفت برئاسته، والثانية بعد الوحدة سنة 1958، والثالثة بعد الانفصال، والمرة الأخيرة بعد النكسة، وتفهم رغبتى فى أن أستمر فى عملى الصحفى، ولكن عندما صدر القرار سنة 1970 فقد أوضح لى بعدها أننا كنا فى حرب استنزاف، وكانت حركته دقيقة جدا، قتال فى الجبهة.. وغارات فى العمق.. ووجود سوفيتى فى مصر.. وتحرك سياسى.. ودلائل على قبول مبادرة روجرز.. ودلائل أخرى على إعلان وقف النار ترافقها دلائل على استعداد الجيش للعبور بعد انتهاء مهلة وقف النار التى حددت بثلاثة أشهر. وشعر عبدالناصر بأن تلك المرحلة التى تتسم بمزج العمل السياسى بالعمل العسكرى تحتاج إلى إعلام دقيق ومركز يتولاه شخص محيط بالموقف الرسمى وبأسلوب تحركه ويستطيع أن يعبر عنه دون العودة إليه» ومن هنا قبل تعيينه وزيرا للإرشاد القومى (الإعلام) بعد أن أعلن عبدالناصر ذلك دون الرجوع إليه.

بجانب ذلك تولى وزارة الخارجية بالنيابة لمرض الوزير محمود رياض، وقت أن كانت تتم ملحمة إنشاء حائط الصواريخ، على جبهة قناة السويس، ووقت المفاوضات على قبول مبادرة روجرز فى أغسطس 1970، وفى هذا يقول فى كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»: «قام روجرز بمفاجأة، فقد اقترح بالاتفاق مع جروميكو (وزير خارجية الاتحاد السوفيتى) على وقف إطلاق النار فى نفس المواقع فى الساعة العاشرة بتوقيت جرينتش يوم 6 أغسطس.. واتصل جمال عبدالناصر بهيكل على تليفون مأمون ليقول لى:

ــ «لا أعرف كيف تفعلها، ولكنى أريدك أن تكسب ست ساعات لفوزى (يقصد الفريق محمد فوزى وزير الحربية آنذاك) لإدخال مجموعة بطاريات صواريخ إلى الجبهة قبل أن يسرى وقف إطلاق النار. هناك أيضا دمى بطاريات صواريخ، وسوف يتم استبدالها ببطاريات حقيقية.

وكانت المهمة عسيرة بالفعل، فإن روجرز اتصل بهيكل تليفونيا من واشنطن ليتأكد من سريان وقف إطلاق النار فى المواقع فى الموعد المحدد، وجرى إبلاغه بأن كل شىء يسير وفق ما اتفق عليه، وإن كانت هناك مشكلة واحدة يحاول تذليلها الآن، ذلك أن جبهة البحر الأحمر يقودها ضابط كبير مندفع وهو اللواء سعد الشاذلى، وهو الآن على الخطوط الأمامية مشترك فى بعض العمليات بنفسه، وهو يحاول الاتصال معه بكل وسيلة ليبلغه بقرار وقف إطلاق النار حتى يتأكد التزامه والتزام قواته فلا يواصل عمليات يعتبرها الآخرون استمرارا لإطلاق النار.

وعاد «روجرز» يتصل تليفونيا، ويقول إن الجنرال «ديان» معه على الخط الآخر، وأنه يريد أن يستوثق من التزام مصر بوقف إطلاق النار فى الموعد المحدد؟ وتم الرد عليه بأن «محاولة الاتصال بسعد الشاذلى فى المواقع المتقدمة على وشك أن تتم الآن، ومع استغلال سعد الشاذلى، الذى كان بالفعل خارج مقر قيادته يتابع مسار عمليات لقواته، أمكن كسب ساعات ثمينة وغالية، وسرى وقف النار متأخرا عن موعده المقرر».

• خلافات مع السادات •

بعد رحيل عبدالناصر وتولى السادات حكم مصر رأى هيكل أن يتعاون مع الرئيس الجديد، وفى هذا يقول فى «استئذان فى الانصراف»، «…ومرت سنوات عصيبة تفجر فيها صراع مراكز القوى ‏(‏وكان مثل عواصف الخماسين ثارت أوائل صيف ثم انصرفت‏)‏ وتعقدت الصلات مع الاتحاد السوفيتى ‏(‏ فقد استحكم التوتر ‏ــ‏ وكان يمكن تفاديه‏)‏ وتشابكت العلاقات مع الولايات المتحدة ‏(‏وكان متاحا إدارتها باقتدار يستغنى عن‏ «الرهان‏») ــ‏ وكان الأهم من ذلك كله أن شمس أكتوبر‏ 1973‏ طلعت أخيرا وعلت وسطعت‏!‏

وفى تلك الظروف وقفت بكل جوارحى إلى جوار‏ «أنور السادات»‏ وليس فى سمعى غير النداء الغلاب للمعركة محاولا‏ ــ‏ ومدعوا‏ ــ‏ إلى خدمة التخطيط الإعلامى لها والتحضير السياسى قبلها وأثناءها وبعدها وبلغ اعتزازى مداه حين عهد إلى «أنور السادات‏» بكتابة التوجه الإستراتيجى الصادر عنه بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية ــ‏ إلى القائد العام المشير «أحمد إسماعيل على» ــ‏ يبلغه رسميا ومعه هيئة أركان الحرب بالمطلب الاستراتيجى المراد تحقيقه بقوة السلاح ابتداء من الساعة الثانية بعد ظهر يوم السبت‏ 6‏ أكتوبر‏ 1973، ومرت الأيام والساعات مشحونة وفى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت‏ 6‏ أكتوبر‏ 1973ــ‏ انطلق الشباب والرجال على جسور العبور‏».

السادات وعبدالناصر وهيكل

وفى كتابه «بين الصحافة والسياسة» يعدد هيكل بعض القضايا التى كانت محل خلاف مع السادات فيقول: «ومرت شهور.. ومرت بعد الشهور سنونا.. وطرأت على علاقتى بالرئيس السادات مشاكل، وظهرت بيننا خلافات تعقد بعضها ووجدنا له حلا، واستحكم بعضها الآخر بغير حل.. اختلفنا فيما قاله عن سنة 1971 باعتبارها «سنة الحسم» (…) واختلفنا فى الطريقة التى عالج بها مظاهرات الطلبة أواخر سنة 1971، ولم أكن أرى أن العنف وسيلة للتعامل مع الشباب.. واختلفنا فى الطريقة التى عالج بها موضوع الفتنة الطائفية.. فقد كان يرى تفجير المشكلة وكنت أراها مشكلة لا تصلح فيها سياسة الصدمات الكهربائية، وإنما لابد من علاج حذر لأسبابها وعوارضها، ولجذورها قبل الفروع.. واختلفنا فى الطريقة التى راح يجرى بها اتصالات خفية مع الولايات المتحدة الأمريكية، واختلفنا حول الطريقة التى جرى بها طرد الخبراء السوفييت من مصر.

فى هذا كله كنت أحرص على أن يظل الخلاف فى حدوده.. فهو رئيس الدولة وصاحب القرار ــ ولى الحق أن أبدى رأيى ــ ولكنه المسئول وحده أولا وأخيرا.

ثم جاء الخلاف الأكبر حول الإدارة السياسية لحرب أكتوبر. وكنت أرى أن نتائج الحرب تضيع واحدة بعد الأخرى. ورحت أكتب رأيى بصراحة لا لبس فيها فى مجموعة مقالات امتدت من أكتوبر 1973 إلى أول فبراير 1974».

الثانى من فبراير 1947 كان يوم خروج هيكل من الأهرام بعدها «رحت منذ سنة 1975 أكتب من مصر مقالات منتظمة تنشرها مجموعة من الصحف العربية خارج مصر.. كانت أولها سلسلة ظهرت فى كتاب عنوانها «لمصر لا لعبدالناصر.. ثم تبعتها سلاسل أخرى كانت من بينها مجموعة مقالات صدرت فى شكل كتاب تحت عنوان حديث المبادرة.. وبدأ الرئيس يعد قانون «العيب» وبدأ بعض مستشارى مجلس الدولة المكلفين بمراجعة صياغة القانون يسمونه قانون هيكل.

وحاول فى هذه الفترة أن يدفعنى إلى الهجرة من مصر. وخاف كثير من أصدقائى، ولم أهاجر، بل ولسنة كاملة لم أسافر من مصر على الإطلاق حتى أكون تحت تصرف أى قانون حتى ولو كان مفصلا من أجلى.

وقرر الرئيس السادات سنة 1978 أن الفرصة قد واتته ليضرب وأحالنى إلى المدعى الاشتراكى ومنعنى من السفر، وجرى التحقيق معى صيفا بأكمله، والصحف تكتب قبل كل جلسة أنه يحقق معى «لأننى أسأت إلى مصر فيما كتبت خارجها». ولم أسئ لمصر علم الله بحرف، وإنما كنت أنتقد سياسة رئيسها واعتبرها هى التى تسىء لمصر. وانتهى التحقيق، وانتظرت التصرف فيه، لكنهم تركوه معلقا، وقررت نشر محاضرة كاملة فى كتاب بعنوان «وقائع تحقيق سياسى أمام المدعى الاشتراكى فى مصر».

السادات ومبارك

وخلال هذا كله كانت حملات التحريض مستمرة على، ثم كان أن شملتنى اعتقالات 5 سبتمبر سنة 1981، ولم تظهر كلمة دفاع واحدة عن الحرية ــ بل حدث العكس مع الأسف ــ وقتها رغم ضربة القمع التى شملت كل القوى السياسية فى مصر!.

«ثم جرى ما جرى على منصة الاستعراضات العسكرية فى مدينة نصر ظهر يوم 6 أكتوبر 1981م.

وخرجنا جميعا من السجن بعد ثلاثة أشهر. خرجنا من قصر رئاسة الجمهورية وبعد لقاء مع الرئيس الجديد الذى قال للكل يومها: أريد أن ننسى ما حدث، وأريد صفحة جديدة وأريد تعاون كل القوى فى مصر».

• «حرب الثلاثين سنة» •

فى أوائل عام ١٩٨٥ التقى محمد حسنين هيكل «أندريه دويتش»، ممثل مجموعة الناشرين الدوليين، التى تملك حق نشر كتبه فى العالم لبحث موضوع كتابه الجديد. وطرح «هيكل» فكرة كتاب يتناول الصراع على الشرق الأوسط، وأثناء شرح فكرته قاطعه «دويتش» قائلا: «العام المقبل ١٩٨٦ ذكرى مرور ثلاثين عاما على حرب السويس ١٩٥٦، ودور النشر فى لندن ونيويورك وباريس تستعد بكتب عنها لا يقل عددها عن عشرين كتابا»، وسأل «هيكل»: «كيف تكون شاهدا على حرب السويس من الناحية العربية وتتخلف عن المناسبة؟».

انتهى اللقاء على وعد من «هيكل» بالتفكير فى الموضوع، وفى لقائهما الثانى كان الأستاذ قد طور الفكرة، وقال لـ«دويتش»: «أرى أن حروب ١٩٥٦، و١٩٦٧، و١٩٧٣ هى فى حقيقة أمرها حرب واحدة مستمرة فى الصراع على الشرق الأوسط، والحروب الثلاث بؤر ساخنة فى هذه الحرب المستمرة التى امتدت ثلاثين عاما، وبعد حرب أكتوبر بدا أن مرحلة بكاملها فى الشرق الأوسط قد وصلت إلى نهايتها لتبدأ مرحلة جديدة».

من هنا جاءت فكرة كتب حرب الثلاثين، يقول عنها فى مقدمة «ملفات السويس»، الجزء الأول من هذه السلسلة قائلا: «هى مجموعة من أربعة مجلدات هى فى الواقع كتاب واحد، موضوعه حرب الثلاثين سنة، وتلك هى الفترة الواقعة بين سنة 1955 (حين خرجت مصر تقاوم إنشاء حلف بغداد باعتباره طوقا يقيد شعوب الأمة ويربطها بهيمنة الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية) ـ وحتى سنة 1985 (حين وقعت مصر اتفاق فك الاشتباك الثانى مع إسرائيل تحت إشراف ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك تأكيد أنه صلح منفرد مصرى ــ إسرائيلى، وكذلك تبدَلت الأحوال وتغيرت التوجهات).

وعليه فإن هذه الكتب الأربعة تتابع تلك السنوات الثلاثين، وتوثق لها، وتستعيد بالتفصيل وقائعها، وتتعرض للمواقف ودخائلها، وتتحرى أدوار الرجال إلى أبعد حد ممكن من الاقتراب، وكانت عناوين هذه المجلدات الأربعة:
1 ـ ملفات السويس (من 1955 إلى 1957).
2 ـ سنوات الغليان (من 1957 إلى 1966).
3 ـ الانفجار (من 1966 إلى 1967).
4 ـ أكتوبر: السياسة والسلاح (من 1967 إلى 1973 وإلى سنة 1985).
وكذلك فإن هذه المجلدات تروى قصة واحدة ــ كاملة ــ ممتدة على مساحة هذا العدد من السنين».

• معارضة لنظام مبارك •

شهدت علاقة هيكل بمبارك ونظامه حالة من الفتور، وإن تخللتها بعض القاءات والمكالمات التليفونية العابرة بين «الأستاذ» و«الرئيس»، ولكن ذلك لم يمنع هيكل من الوقوف أمام هذا النظام الذى وصفه مبكرا جدا بأنه «شاخ على مقاعده»، وتعود قصة هذا التصريح إلى اللحظة التى تضامن فيها «الأستاذ» مع الصحفيين عام 1995 فى رفضهم القانون رقم 93، بتغليظ العقوبات فى النشر وأرسل لمجلس النقابة رسالته الشهيرة التى قال فيها عن نظام مبارك شاخ على مقعده، والمضحك فى الأمر أنه تعرض لحملات عنيفة من بعض أنصار مبارك.

ويعلق الأستاذ عن هذه الواقعة وغيرها فى كتابه «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان الصادر بعد ثورة 25 يناير»، «لقد أصبح تعبير سلطة شاخت فى مواقعها على كل لسان، بل أصبح شعار كل المعارضين لسياسة مبارك، وظل كذلك حتى لحقته قضية التوريث، ثم جاءت محاضرة لى فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة نوفمبر 2002، تحدَثت فيها عن احتمالات التوريث، ونبَهت إلى مخاطره، وثارت عواصف الغضب فى الرئاسة، وفى الحزب، وفى دوائر السلطة والحكم، وكان داعى الغضب فجائيا: من ناحية لأن السر تفجر فى العلن، ومن ناحية أخرى لأن تفجير السر وقع على غير انتظار، كما أن من يعنيهم الأمر كانوا مشغولين عما يجرى فى القاهرة باحتفالات افتتاح مكتبة الإسكندرية، وكانت احتفالات أسطورية ذكرت كثيرين بمهرجان افتتاح قناة السويس أيام الخديو إسماعيل وقصص الإمبراطورة الفرنسية يوجينى (التى كانت ضيفة ذلك المهرجان ولخيمته الكبرى بقرابتها فرديناند دليسيبس مهندس مشروع حفر قناة السويس)».

هيكل ومبارك

فى 2003 كتب «الأستاذ» سلسلة مقالات عنوانها «استئذان فى الانصراف.. رجاء ودعاء وتقرير ختامى»، ولكنه كان يكتب بين حين وآخر عن رحلة أو تجربة فى صحف ومجلات منها «وجهات نظر» بالتوازى مع تركيز الاهتمام فى برنامج «مع هيكل.. تجربة حياة» على مدى سنوات فى قناة «الجزيرة».

فى سنة 2009 اقترح هيكل فى حواره لإحدى الصحف المصرية إنشاء «مجلس أمناء للدولة والدستور فى مصر» على ان يضم من 10 إلى 20 شخصية مصرية مطروحة الآن داخل الأوساط السياسية والثقافية للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، منهم عمرو موسى ومحمد البرادعى وأحمد زويل ومجدى يعقوب وحازم الببلاوى ومنصور حسن وغيرهم، على ان تكون مهمة مجلس الامناء هذا هى التفكير للوصول إلى كيفية عمل استفتاء عام على دستور جديد وعقد اجتماعى جديد، ثم ترتيب انتقال السلطة وتشكيل وزارة مسئولة ومجلس تشريعى ونظام رئاسى للحكم على ان يشرف الرئيس مبارك بنفسه على هذه المرحلة الانتقالية وتكون تلك آخر وأهم خدمة يقدمها للبلد.

على ان ينهى مجلس الأمناء مهمته ويرحل خلال فترة انتقالية تصل إلى 3 سنوات يطرح فيها دستور جديد يكون بمثابة عقد اجتماعى شرعى. وتطرق هيكل فى شرح فكرته عن مجلس الأمناء لإنقاذ مصر من «فوضى سوداء»، على حد تعبيره.

ثم قامت ثورة 25 يناير، التى ظل يطل خلالها وفى السنوات التى تلتلها عبر التلفزيون محللا الأحداث، ومعبرا عما يرى أنه يصب فى مصلحة الوطن.

من almooftah

اترك تعليقاً