أخر الاخبار
أنت هنا: الرئيسية 2 حوارات ومقالات 2 لقاء الأديب السوري:ممدوح عدوان.. المجرب المجتهد في شتى فنون الكتابة..حوار: علي ديوب

لقاء الأديب السوري:ممدوح عدوان.. المجرب المجتهد في شتى فنون الكتابة..حوار: علي ديوب

لا بد من الشعر: فصل من كتاب «دفاعًا عن الجنون» لممدوح عدوان

منذ عام النكسة وممدوح عدوان يكتب الشعر، بلا انقطاع، ومن غير أن يوقف نتاجه لهذا الفن؛ لقد كتب المسرحيات – تأليفا واقتباسا- والمقالات الصحفية، والنقل الأدبي – ولعله شغل الصف الاول في هذين الفنين، طوال عقد السبعينات. كما كتب السيناريو والأغنيات، لافلام سينمائية  ليجرب (؟) الرواية، في آخر مشاريعه (صدرت له رواية حديثا، عن دار الريس، بعنوان أعدائي- ترصد، من النافدة الخلفية للقرن العشرين، أحوال البلاد والعباد، أواخر العهد التركي). وحيث يعمل مدرسا، في المعهد العالي للفنون المسرحية، تداولنا هذا الحوار:

* ممدوح عدوان مجرب مجتهد في شتى فنون الكتابة؛ أكان ذلك بتأثير المشاريع الفكرية الكليانية؟ أم نتيجة صراع مع خارج شديد التعقيد والغرابة؟ أم هو مجرد فوران طاقات يشدك في كل اتجاه؛ سيما وأن حب النجومية راودك لأن تخوض تجربة التمثيل؟

– أبدأ من النهاية: لم أحب التمثيل بسيب النجومية، بقدر ما أحببت التمثيل كأول نشاط مارسته في حياتي، خارج نشاط تلميذ في المدرسة. منذ عام 1958 قمت بدراسة التمثيل بالمراسلة. في (59-60) كنت أقدم مسرحياتي في مصياف (بلدتي)، في أعياد الوحدة، كنت أكتب نصوصا مسرحية وأقدمها بنفسي: الى الآن هذه الرغبة مختزنة في. وقد صرفت في اتجاهين: الأول القاء الشعر، والثاني رسم الشخصيات بشكل جيد في الدراما. سواء كانت الدراما مسرحية، أو تليفزيونية.. وأخيرا روائية. وأنا أكتب أحس دائما، أنني أمثل الأدوار كلها، بما فيها الأدوار النسائية! أما عن تنوع وغزارة المشاريع والتجارب، فباختصار: أحس أنني ابن هذا العالم؛ وأريد أن أتدخل في كل ما فيه، لذلك أنا أشتبك مع العالم يوميا. ويأخذ هذا صيفا متعددة.. أحيانا أعانقه، أحيانا اشتمه، أحيانا أضربه بالحجارة.. وبالتالي أحيانا أكتب المسرح وأحيانا الشعر وأحيانا الصحافة؟ فهي رغبة في التفاعل مع العالم.

* ألا يحدث لديك، هذا التوزع بين فنون الكتابة نوعا من الفصام في التعبير عن التجربة، بدلا من تشكيل رؤية مركزة عن العالم بواسطة جنس فني واحد؟ أم أنك تشفق على هذا التنوع الذي يطبع الوجود، من رؤية واحدية؟

– أنا أعتقد أن كل كاتب يكتب بنسبة 70% عن نفسه، و30% بأفكاره. وبالتالي كل كاتب – اعترف بذلك أم لم يعترف – يحتوي في داخله على كل الأنماط التي يكتب عنها، اذا كان كاتبا جيدا. وأنا أعتقد أن في داخل شكسبير يوجد شايلوك كما يوجد هاملت، ويوجد روميو، وتوجد جولييت؛ وإلا ما كان بمقدوره الكتابة عنهم.

الكاتب يكتب عوالم متعددة، هي عالمه هو؛ طبعا هي قدرة استثنائية على الكشف الداخلي. ليس غنى استثنائيا، لان كل انسان لديه القدرة على تأمل داخله بطريقة خاصة في الفن. بينما المفكر أو الفيلسوف يتأمل داخله بطريقة مختلفة. والفنان يتأمل داخله فيكشف هذا العالم المليء بالرغبات والنزوات. وأنا عندما أكتب عن اللص، فان في أعماقي يوجد لص. وعندما أكتب عن الخيانة يوجد في أعماقي خائن. وعندما أكتب عن الفدائي، أيضا يوجد في أعماقي فدائي، وأنا أكتب أحاسيس المرأة جنسيا مع أنني سوي من هذه الناحية… الخ.

* ماذا تعني بسوي؟

– كلامي يعني امكانيتي ان أكتب عن أحاسيس المرأة الجنسية – مثلا- وأنا رجل سوي في حياتي الجنسية؛ أي انه لا يوجد عندي شذوذ.. كيف؟ بالتماهي مع الأحاسيس الجنسية للمرأة؟ بالمطالعة؟ أم بالسؤال والقيام بعمل استفتاء مع النساء؟ قد يفيد كل ذلك؟ ولكن يجب أن أبحث عن المرأة في داخلي- المرأة التي أحتاجها في الكتابة.

* هذه النسبة التي قدرتها في كتابة الكاتب عن نفسه وكتابته بفكره، هل عنيت بها فصلا بين الوعي الذاتي والوعي المضاف؟

– لا. ولكن أحيانا تتأمل موضوعا ما، فاذا كنت مفكرا كتبت أفكارا فقط، أما اذا كنت فنانا فستكتبه من خلال شخصيات أو عواطف – شعرا كانت، أم انفعالات، أم مسرحا.. وأنت تكون كاتبا ماهرا بقدرها تستطيع اخفاء نفسك في النص. بحيث لا تبدوانك تتدخل. ولكنك، في حقيقة الأمر، تكتب هذا العمل لأن لك موقفا في الأصل. وتريد لهذا العمل أن يخدم هذا الموقف، ولكن بطريقته كفن، وليس كمقالة فكرية أو كبحث اجتماعي أو خطاب أيديولوجي.

* هناك سخرية حادة، فاضحة، ماكرة، وسوداء في شتى نتاجاتك الفنية.. هل تفضل لو كنت جربت السخرية الحنونة أو التهكمية، أو فير ذلك من صفوف السخرية؟

– ربما، لو لم أكن عصبيا- أكثر مما يتطلب الأمر- كنت كتبت بسخرية أفضل من التي كتبت، وكل الذين يعرفونني يتساءلون عن الفارق بين المرح والسخرية والذكاء في الاجوبة وردود الأفعال الحاضرة في حياتي، وبين ما هو أدنى من ذلك في كتاباتي؟ وهذا صحيح. ربما لأنني أتناول الكتابة بعصبية، والعصبية لا تعطيني الفرصة لأن استرخي مع خبثي، وبالتالي يظهر الخبث في الموضوع وليس في التفاصيل، أتمنى لو أنني أقل عصبية، لأكون أكثر خبثا!

* إذن هل تفكر اليوم – وأنت على مسافة مناسبة من نتاجاتك الأولى- بنقلة جديدة؟! ومن أي نوع؟

– أنا، مثل أي فنان آخر، مشغول بنقلة فنية أجدد فيها نفسي، وأجدد نتاجاتي لأنني أنا ايضا أتجدد. ولأن هذا العالم الذي نعيشه يتجدد. وبالتالي أنت تبحث، دائما، لتكون ردود أفعالك مناسبة لما يعطى لك. عندما أعود بالنظر الى نتاجي السابق أشعر أنني، الآن، أفتقد لأمرين: أولا الرومانسية، وهذا أتوهم امكانية استعادته. وثانيا الطفولة، التي يفتقدها أي شخص بعد الخمسين من عمره، هذه نوستالوجيا الطفولة المفقودة، واستعادتها- أي الرغبة في العودة الى مرحلة الشيطنة والرؤية البكر للعالم – تمثل حاجة عند الانسان، هناك فنانون قادرون على أن يظل في عيونهم طفل يرى العالم.

* هذا الحنين للطفولة أفهمه على انه ليس لمرحلة عمرية، بل الى نوع من الرؤية الحرة، غير الملتزمة بما هو خارجها، أي غير المسؤولة أيضا- هل توافقني؟

– لا شك أن أحد العوامل التي منعت الطفل الذي في أعماقنا من الاستمرار هو أننا اضطررنا ان نكبره، بشكل قسري. ونشده ليعي أشياء لا يجوز أن يعيها: ولكنه مضطر لذلك، لكي يليق بالحياة القائمة، لكي ينسجم مع أدوات القمع من حوله: قمع الأسرة، قمع المجتمع، قمع الأخلاق والعادات، قمع الدولة، ومتطلبات البناء، و… هناك مليون صيغة من القمع التي تجبر الطفل على أن يكبر بشكل قسري، ويصبح طفلا غير سوي- مثل الخضراوات التي يحقنونها بالهرمونات. تصور، مثلا، انك تلزم طفلا، عمره ثماني أو تسع سنوات، ان يتعلم كيف يحلق ذقنه!

* بين لغتنا الحية، في التواصل الكلامي، وبين اللغة التي نكتبها، وهي أقرب الي اللغة الميتة، من شدة وطأتنا عليها (وكثر الشد يرخي- كما يقول المثل) ثمة سر: أين يكمن، برأيك؟ هل هو في تراثنا الشفوي:

– أعتقد أني، في كتابتي الصحفية والدرامية، أكتب بالسهولة التي أتحدث بها، وبالتالي يخيل، لبعض القراء، أنها سطحية. وانه يمكنه كتابة مثلها: هي نوع من السهل الممتنع: لا يوجد فيها تعال، أو فذلكة، او تهافت على القارئ. ومن هنا يأتي احساس القارئ بامكانية مقارنتها بحديثه اليومي.

الشعر – وربما لأنه حوار مع الذات، وليس بين أشخاص مفترضين – تصبح صيغته أكثر خوفا، وتعكس في النفس احساس الدخول في بيت معتم. أنت تتلمس، كل خطوة، بحذر لتحمي نفسك، هذا ما يحدث لك حين تدخل الى أعماقك، في الكتابة الشعرية، ومن هنا يصبح الشعر، بلغته الحذرة، أقل سلاسة.

* هذه العتمة، هل هي المسؤولة عن “الصنعة الشعرية”؟ ام أن هذه الأخيرة وليدة نمط من التشفير الشعري، الذي دفع بأصوات ابداعية جديدة لاطلاق صرخة “الشعر ضد الشعر” أو دعوة موت الشعر، أو لغة السأم من اللغة، نحو وضوح يأخذ قوامه من اللغة اليومية، بتنافراتها، وعبثيتها؟

– أعتقد انه ليس هنالك فن ليس فيه صنعة، والفن هو صنعة متقنة، الى درجة تبدو أنها عفوية، انه أشبه بمنحوتة يعالجها الفنان بالازميل، ويقدمها لك، ولا أثر فيها لضربة ازميل واحدة!

كل فن هو صنعة، حتى ما يبدو منه سلسا ويوميا؛ واذن ما يميز مادة الحديث اليومي، في الجريدة، عن مادة الحديث اليومي الفعلية القائمة بين جارة وجاراتها؟ أو في الحانوت، بين بائع وزبون؟ نحن، حتى حين نلجأ الى هذا الواقع، نلجأ اليه عبر انتقائية خاصة، من خلال عين الفنان، والفنان هو الذي ينتقي ما يبدو انه يومي ويحيله الى فن هناك مقولة لـ(اميلي ديكنسون) تقول ان الفنان هو الذي يلتقط الممسحة، التي في الطريق، ينفضها ويعلقها على الجدار، فتصبح لوحة!

* أصبحت الغائية في الشعر، وتعيينا الشعر الموجه، الملتزم بخدمة قضية ما، مثار انتقاد حاد من دعاة تنظيف الشعر من الايديولوجيا والعنبرية… الخ؛ هل أنت مع الشعر خالصا لوجه الشعر؟

– هذا الموضوع جرت سناقشته كثيرا. ولا استطيع أن أضيف عليه الكثير، ولكن سأوضح موقفي منه: العنبرية، بمعنى الخطابية ذات النبرة العالية، التي تصلح للمنا سبات وللتظاهرات، هذه تقتل الشعر والشاعر، وهي ليست شعرا؛ ولكن عكسها ليس صحيحا، بمعنى أن محاولة تجاهل القارئ ليست فنا راقيا، بالضرورة.

هذه المحاولة تحمل موقفا سخيفا ومفتعلا، ليس هناك من يكتب الا ويتصور القارئ في ذهنه. ولولا ذلك لما نقل ما في ذهنه الى الورق. الحياة مليئة بأناس يفكرون، في الطريق، بأشياء كثيرة، ويشردون في المقهى بأشياء كثيرة: ولا يكتبونها؟ وحده الكاتب يفعل ذلك، وعندما ينقلها الى الورق معنى ذلك انه أراد تثبيتها لكي يردها الآخر (القارئ). اذن توجد رغبة في التواصل والتوصيل، لابد منها، وهناك دعوة واسعة – بحجة الحداثة – تصور الشعر بأنه “هو ما لا يصل”، “هو الذي لا يبحث عن قارئ”، أو “لا يحتاج الى جمهور”.. وهذا غير صحيح؛ ولكن تقصد الجمهور هو الافتعال، وهو الخطابية.

* في هذا السياق، هل توافق القائلين بصلاحية الشعر للقراءة، فحسب، دون الالقاء؟

– هذا الاعتقاد اجتهاد آخر، لابد من التوقف عنده، وتأمله، وليس قبوله كما هو.

قبل كل شيء يجب أن نتأمل في أن الدخول من ابواب حضارية جديدة يؤثر على أنماط ثقافية، ووسائل تعبير سائدة؛ يعني لما كانت الناس في مرحلة الثقافة الشفوية، كان لديها مواصفات خاصة للخطاب. واختلفت هذه لما صار هناك كتابة. ما عادت هناك حاجة لان تكون أمامي، لكي ألقي خطابي وتسمعني، صار من الممكن ان أكتبه لك وتقرأه متى شئت وبحيادية، أي بمعزل عني أنا. حماسي وحرارتي صار يلزم ان ينتقلا اليك عبر الكلام، وليس عبر صوتي، اكتشاف الكتابة أحدث تغييرا بلهجة الخطاب. اكتشاف الطباعة احدث نقلة حضارية اخري، أوجد الرواية، الطباعة ارتبط ظهورها بالرواية. صار بوسعك ان تأخذ قصة وتقرأها في بيتك، لوحدك. لست بحاجة لشاعر يقرأ لك. ولست بحاجة الى أمسية، ولا عازفين. اصبح هناك ذاتية، الطباعة صنعت التوزيع الواسع، وعملت الصحافة، ايضا لولا الطباعة لا توجد صحافة – والصحافة نوع جديد في الكتابة.. والآن دخل التليفزيون، دخلت ثقافة بصرية مختلفة، ودخل أيضا الكمبيوتر والانترنت نحن لم نتفاعل، بعد، مع هذه المعطيات الحضارية بشكل جيد وكاف، لكي تؤثر على أنماط كتابتنا: لكن يجب ان نتوقع أنها ستؤثر ذات يوم.

في تقديمي لكتاب “هيثم حقي” حول السينما، كتبت عن اشكا ليتنا مع الثقافة البصرية التي هي مرتبطة بالتليفزيون والسينما.

والآن، لاشك ان البحث عن ايقاعات جديدة – التي هي مفتاح الحداثة العربية – والخروج على العمود الشعري التقليدي المألوف: هذا البحث كان له مبرراته الحضارية الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. لكن له مبرراته التكنولوجية، ايضا، أعني: ما عاد بامكانك أن تنظم شعرك على ايقاعات الجمال، صار هناك ايقاع للحياة مختلف، وبالتالي صار مبررا لك أن تبحث عن ايقاع مختلف لقصيدتك.

هذا أوصل، في النهاية، الى مقولة “الغاء الايقاع الخارجي والبحث عن الايقاع الداخلي”. وهو ما اتخذ شكل قصيدة النثر، التي راحت تتعامل مع الايقاع الداخلي، وألفت الايقاع الخارجي، هذا مبرر، لكنه غير متقن دائما، والذي يتقن ذلك: “شابو” (يلوح بيده ممثلا حركة رفع القبعة عن الرأس – تعبيرا عن الاحترام). البعد عن الايقاع أدى، طبعا، الى البعد عن الالقاء. لكن أنا اعتقد انه حتى قصائد النثر الجيدة يمكن القاؤها بشكل جيد، ومؤثر، وجميل. ويمكن ان تلحن وتغنى، وهناك تجارب كثيرة في هذا النوع.

قد يكون من المواصفات، التي سنصل اليها، ان هذه الفردية التي بدأت مع الطباعة، والتي غذاها التليفزيون والكمبيوتر (وشيئا فشيئا صار الانسان يجلس مع نفسه، لم يعد يذهب الى السينما، وبدلا منها اكتفى بالفيديو).. اذن هذه الفردية ستصل بالانسان الى القراءة الصامتة – حتى ينسجم مع فرديته هذه، ومع معطيات العصر.

* هذا التوصيف، يشي بتبخيس ما آلت اليه حياة الانسان المعاصر، يغفل قيمة الفردية ومنعكساتها على الانسان الفرد، والتي من أهمها الرفى ية الذاتية، المتخففة من وطأة النيابة عنه، والوصاية عليه؟

– هذا موضوع آخر، يمكن مناقشته لاحقا؛ دعنا في السياق.

* الشعر محطة يعود اليها “ممدوح عدوان”، بعد كل جولة له في ميدان الكتابة بفنونها المختلفة؛ هل أنت اليوم في اجازة، أم في مراجعة مع الذات؟

– ما زلت أكتب الشعر. ولكن، مثلما يقول لك الناشرون ان الشعر ليس له سوق؛ أنت ايضا لم تعد تعرف أين ستنشر قصيدتك. صحيح ان المجلات كثيرة؛ ولكن بمقدار ما تتاح أمامك فرص كثيرة للنش فانك تضيع فرصة التلاقي مع القارئ، الذي لم يعد يعرف اين ينشر شعر شاعره. ولأنه غير قادر على الجري خلفه، لمعرفة المكان الذي ينشر فيه: يخيل له ان الشاعر قد توقف عن الكتابة.

* ثمة تراجع للشعر، حدث بصورة مفاجئة وسريعة – كما يرى بعض المتابعين – خلال نحو عقد من السنين؛ كيف تفسر ذلك؟

– باختصار: الشعر كان في ازمة على مر العصور، كل عصر من الشعر شهد أزمة صلة بينه وبين الناس، اعتقد انه لم يكن للشعر جماهيرية في أيام البحتري وامري القيس والمتنبي، أكثر مما له اليوم، ولكن تاريخ الشعر وصل الينا كمادة ثقافية، نقرأها ونتخيل ان شعر المتنبي، في عصره، كان حديث الناس.. انا أعتقد ان جمهوره الشعري لم يكن يتجاوز المئتي شخص، من الناطقين بالعربية. هناك وهم أن لشعره كل هذه القيمة الجماهيرية التي وصلتنا. كان المتنبي يقرأ شعره في بلاط سيف الدولة، حيث يوجد هناك من يحفظه وينقله.

* وماذا، اذن، عن مقولة “الشعر ديوان العرب”؛ وحكاية ان اهم حدث في حياة القبيلة العربية هو ولادة شاعر؟

– سأصل الى هذه النقطة / الوهم؛ الآن: أزمة الشعر، اليوم، هي نفسها في كل عصر. وهي دائما تولد لدينا إحساسا بأن الشعر سيموت، وهو على وشك الانقراض، ان من يراجع تاريخ الشعر، في القرون الثلاثة الأخيرة، وعلى مستوى العالم بكامله، يرى الحالة نفسها، يعني: “بودلير” أو “رامبو” لم يطبع من ديوان كل منهما سوى مائة نسخة! قمت مؤخرا، بترجمة كتاب لـ “اوكتافيوباث”، عنوانه “الشعر ونهاية القرن”، فيه فصل كامل عن هذا الموضوع، يبين ان كبار الشعراء، الذين نوليهم كبير اهتماما (يجب ان نستثني قلة من الأسماء التي تقف خلف شهرتها أسباب لا علاقة لها بالشعر- كالأحزاب مثلا)، لم يطبع واحد منهم أكثر من مائة نسخة للديوان، بالمتوسط – كما هو الحال اليوم. لكن لا شك انه في العشرين سنة الأخيرة ظهر عامل جديد من عوامل أزمة الشعر، وهو رداءة ما يكتب – بحجة التجريب. وانا اعتقد ان هذه ظاهرة ليست خطيرة كثيرا. هناك أسباب، لم تكن من قبل، فتحت بابا واسعا للرداءة. منها تعدد وسائل النشر، تعدد المنابر المتوافرة للنشي، سهولة ان يطبع الشخص على حسابه الخاص. مع انه لا توجد دار تتشجع لطباعة الشعر؟ وهذا اعتراف بأزمة الشعر الحقيقية؟ لكنني اعتقد انه، بعد عشر سنوات، سوف نشهد غربلة للنفا يات الشعرية. والزمن كفيل بهذه الغربلة. نمو الوعي الثقافي، نمو الحاسة النقدية العامة لن يبقيا من هذه الآلاف المؤلفة، من الاسماء التي تكتب الشعر، اكثر من بضعة اسماء.

* الى أي حد أنت متفائل بالذائقة النقدية “العامة”، التي تتحدث عنها؟

– هناك ذائقة عامة تنمو مع الزمن، هذا مؤكد، ولكن ليس بالضرورة عندما نقول ذائقة عامة – في سوريا مثلا- ان يكون عدد اصحابها بالملايين، لا فمثلا، عندما نقول ان لادونيس جمهوره، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد من يحضر امسية شعرية له الف شخص في عاصمة عدد سكانها بالملايين: ماذا نعني بذلك؟ نعني ان كلمة الجمهور الشعري لا تحمل معنى الكم الهائل، كنسبة، وانما تعني الجمهور صاحب الذائقة الشعرية.

* كيف تنظر الى تأثير وسائل الاتصال الحديثة على تكوين هذه الذائقة الشعرية العامة؟

– هذه هي النقطة التي كنت اود الحديث عنها، عندما نتحدث عن مقولة “الشعر ديوان العرب” فالمقصود أن الشعر كان يقوم بوظائف متعددة في حياة القبيلة العربية – في الماضي. اذ يصح القول: الشعر والمادة الشعرية الثقافية، او الشعر والمادة الغنائية، الشعر والمادة الاخبارية، او المادة التاريخية… الخ. يعني الشعر هو مستند القبيلة، أي سلاح بيد القبيلة، أما الآن، فالعمر يفرز، بالتدريج، تخصصات تلفي حاجة الشعر للوظائف هذه.. أي ان الشعر لم يعد بحاجة لان يكون وسيلة اعلام او تأريخا للقبيلة، او للوطن او للأمة. وسائل الاعلام حملت هذا التخصص، والتاريخ صار اختصاصات وعلوما، وهكذا بدأت مهمات الشعر تنحسر.. الى ان يزداد تفرغا لجمالياته. وبالتالي يبدو اليوم وكأن الناس لم يعد لهم مع الشعر علاقة، الا المهتم منهم بالجمال.

– اذا كان الامر كذلك، فما تفسيرك لهذا التسابق على اصدار المجموعات الشعرية؟؛ فحتى الناجح في تخصصه (طبيب، مهندس..) لا يرتاح الا اذا اصدر مجموعة شعرية؛ حتى لو لم تجد من يقرأها!

= يبدو أن هناك “بريستيج” اجتماعي، يجد الشخص نفسه مدفوعا لان يكون له كتاب باسمه، هذا نوع من التفاخر الطبقي، لطبقة أحبت ان تتميز. او لأناس أحبوا الظهور. لكن يجوز – في المقابل – ان تجد مهندسا تعود قراءة الشعر طوال حياته، الى جانب مهنته، معنى ذلك ان العواطف البشرية لا تزال موجودة، عند العلماء وعند الزبالين، وعند الصحفيين، وعند السياسيين: أنا- مثلا- لا اثق بأي سياسي لا يقرأ الشعر لأنه لا يتعامل مع النفس البشرية..

– ذكرتني بقول للغزالي، معناه ان النفس التي لا تتذوق الموسيقى لا نفع منها.. أو أنها نفس فاسدة.

= الفن اجمالا- والموسيقى نوع منه – حاجة روحية لا غنى للبشر عنها.

* اين تشعر بالرضا أكثر: حين تلتفت الى جيلكم، وجيل من سبقوكم، أم حين تنظر الى هذا الجيل الذي يرسم ملامحه بتلوينات مختلفة؛ وبخاصة منها تلك التي يطلق عليها أصحابها اسم “الحساسية الجديدة”؟

– أنا الآن في عمر يستمتع فيه المرء بالحديث عن “عصره الذهبي” (يضحك)؛ مثل كل الآباء، مثل كل الاجداد. لكن – بشيء من الحيادية – أعتقد انه كان هناك عشرات الآلاف من الشعراء يكتبون شعرا، وخلال عشر الى خمس عشرة سنة، تمت غربلة طبيعية – الحياة قامت بها: رمت بقسم كبير مما كتب، وصرفت قسما كبيرا من الكتاب الى هموم ومشاغل أخرى، يتقنونها أكثر. هذا كان في مرحلة الدراسة الجامعية شاعرا، فانتهى الى محام. وآخر مثله، صار طبيبا. وثالث “كندرجي”… الخ، ولكن هذه الغربلة الطبيعية، التي انتجتها شؤون الحياة ومهن البشر، ترافقت مع “غربلة نقدية”. أيضا فاذن رمي بكل ما كتب من شعر جانبا، الى النسيان، وابقي على بضع قصائد لبضع شعراء.

ما يجري الآن من بحث الجيل الجديد عن تسميات جديدة، مثل “الموجة الجديدة” أو “جيل الثمانينات، أو التسعينات” أو “الحساسية الجديدة”…، أسأل: لماذا حساسية؟ ألم يكن عند جيلنا حساسية؟ أو عند الجيل الذي سبقنا، أو سواهما..؟!

كل جيل لديه الجيد ولديه الرديء، أنا أقرأ قصيدة لشاعر من الجيل الذي سبق جيلي، فأجدها رديئة، وأقرأ قصيدة آخر، من الجيل ذاته، وأجدها عظيمة. والكلام ينطبق على الحديث عن الجيل الجديد وكل جيل. لا تزال نسبة الجيد قليلة جدا. بل ونادرة (لا تبلغ اكثر من واحد على ألف – برأيي)، وهذا شيء طبيعي: اذن أنا لست راضيا ولا غاضبا من الجيل الجديد. أنا أفهمه، تجربته، هي الأخرى، مثل تجربتنا، والمسألة تتكرر كل جيل.

* إذا كنت تملك مثل هذا الاحساس الأبوي: فمن أين أسباب شكوى الأبناء، برأيك؟

– كل واحد (شاعر) يعتقد انه، بقصيدتين، سيغير العالم، وهذا يعني ان الانظار كلها يجب أن تلتفت اليه، والى انجازه الابداعي. وحين لا يتم له مثل هذا الالتفات، بشكل جيد، يعتقد ان الجيل الذي سبقه هو الذي يسرق منه الكاميرا (الأنظار)، طيب: الجيل الذي سبقه اشتغل ثلاثين عاما وأنت ثلاثة!!، يجوز بعد ثلاثين سنة أن تصبح مصدرا لشكوى جيل لاحق عليك. ويعني هذا انك تكون سرقت الانظار!! عندنا – وهذه نقطة يجب التأكيد عليها- يعتقد كل شخص ان التاريخ يبدأ به: الشاعر يظن ان الشعر العربي، كله، يبدأ فيه، السياسي يظن ان التاريخ العربي يبدأ فيه، العسكري يظن ان العسكريتا ريا العالمية تبدأ فيه. والمؤرخ يظن ان التاريخ لم ير النور الا على يده. هذا الالفاء، لما ولمن سبق، يومي الى أننا لقطاء حضارة، وليس لنا ذاكرة او تاريخ؛ وهذا غير صحيح.. نحن امتداد؟ أنا امتداد لبدوي الجبل – ولو لم أكتب القصيدة التقليدية. وبدوي الجبل امتداد لامرئ القيس.. تراثي يبدأ من قصيدة كتبت يوم امس الى ما شئت من القدم.

* هذا النزوع الاستنكاري، الالغائي، للأخر يتجلى فينا كمرض، يتعدى المسألة الجيلية ليطال المعاصر لنا (محايثا كان أم منفصلا) ومن سوف يأتي ايضا. انه اغتيال للزمان والمكان، في تجلياتهما المتعددة والمختلفة؛ هذا النزوع، هل هو نتيجة لنمط حياة – سواء أعان مختارا، أو مفروضا؟ وهل التعددية – اذا ما استطعنا اليها سبيلا تنقذنا من هذا المرض؟

= هذا يجرنا للكلام في الايديولوجيا؛ وأنا لا أتقن الكلام فيها. أنا اتقن الحديث بزاوية معينة، لها علاقة بعلم النفس؛ أنا أظن أن مركب النقص يترك، في نفس المصاب به، خوفا من الآخرين ان يكشفوا حقيقته -مثل واحد يخاف ان يرده الناس انه ذاهب الى المرحاض (مع أن كل الناس تفعل هذا)؛ لكيلا يكتشفوا انه “انسان عادي”، هذا المركب يتركه في خوف دائم من الآخر: فيلغي كل من قبله، لكي يكون منفردا في عصره، ويلفي الحاجة لمن بعده، لانه هو “الشرط اللازم والكافي” للتاريخ.

هذا الرجل المصاب بمركب النقص، يداري نفسه بقناع مركب عظمة – وهذا الأخير تجل مقرون بمركب النقص، عادة، وكلما ازداد مركب النقص لديه ازداد تأليها لنفسه.. مثل واحد خجول جدا، يدفعه خجله البالغ لأن يتصرف بوقاحة!

آخر كتاب قرأته، عن سيلفادور دالي- الذي يعتبر أكبر استعراضي- يظهر انه خجول جدا، وكان يخاف من ان يقيم تجارب عاطفية مع النساء، لئلا يكتشفن انه ليس فحلا كبيرا!!

– مقاربتك للاجابة على سؤالي، من زاوية علم النفس، هي خدمة حقيقية – أشكرك عليها، ولكن اسمح لي بالتوضيح ان التعددية المأمولة تحمل تفكيكا للمركزية، والانطوائية – كنوع منها- على السواء بما تتيحه للشخص من مشاركة ايجابية، تجعله يتقبل الآخر، في الوقت الذي تذوب فيه مركزيته، شيئا فشيئا..

= أنا كنت أتحدث عن الجانب المرضي.. أنت تتحدث عن الجانب المعافى؛ وهنا أود أن أضيف ما يلي: ان ذلك الشخص المريض يخاف من أن تفتضح حقيقته؛ لذلك هو يخاف وجود الآخر. فوجود الآخر يفتح مجالا للمقارنة. ولأنه يخسر دائما، أو يخاف أن يخسر، في امتحان المقارنة، الذي يجريه الآخر له (كما يتوهم)؛ فانه يريد ان يلفي الآخر: لكي يتحقق له النجاح في الامتحان – امتحان يجريه لنفسه بنفسه، او معركة انتخابية هو مرشحها الوحيد.

* هذا يقودنا الى اعادة النظر في ثنائية الشخصية الغربية والشخصية الشرقية – اذ درجنا على توصيف الأولى بالفردية والثانية بالجمعية.. وقلنا ان الفردية الغربية هي نتاج مجتمع مفكك: في حين ان المجتمع الشرقي، متلاحم متعاطف حميمي ويحافظ على روابط الشخصية الاجتماعية… الخ. السؤال: كيف لشخصية تقصي الأخر، او تتهرب منه، ان تكون اجتماعية؟

= الجواب بسيط: الفردانية القائمة على احترام الذات، لابد ان تقوم على احترام الآخر، أما الفردانية القائمة على الخوف من الذات، أو على كره الذات، فلابد ان تكره الآخر، لكي تتجنب رؤية نفسها.

* من مميزات المترجم الحقيقي ان يكون دقيقا في اختيار موضوعه الذي ينسجم مع ذائقته، وعمق معرفته. ما هي معايير الترجمة عند ممدوح عدوان؟ ولماذا “كازنتزاكي” بصورة خاصة؟

– حين اختار كتابا للترجمة اشترط بعض الشروط. أولا: أن يقدم معرفة – اظن ان القارئ بحاجة لها؛ بل يأتي قبل اولا هذه، شرط ذاتي هوان احب الكتاب، قبل كل شيء، واحب ان يشاركني الآخرون بمتعة قراءته، او متعة اكتشافه. وبالتالي أنا انتقي- في معاييري- ما أظن ان فيه متعة، وفيه معلومة (فائدة). لا أقصد معلومة بمعنى الرقمية.. قد تكون اكتشاف أساليب الآخرين، اكتشاف طريقة معالجتهم لمشاكلهم. مثلا: كيف يعالجون البغاء في البرازيل؟ أنا لا أريد باحثا اجتماعيا، هنا يمكن ان أترجم مثل هذا لباحث اجتماعي، لكن عندما يكتب روائي في مثل هذا الموضوع، أمس أنني بحاجة لأن أقدمه وأقول للناس؛ انظروا كيف تمت معالجة هذا الموضوع، كيف الجرأة على المحرم، في المجتمعات الاخرى

باختصار: كل ترجمة هي فتح صندوق من صناديق الكنز الانساني، الموجود في هذا العالم، وكل صندوق فيه جوهرة خاصة. وأنا، بين الحين والآخر، أحس أن هذه الجوهرة تستحق أن ترى، فأقوم بالكشف عنها للقارئ، أبذل جهدي في الترجمة، بعد ذلك يأتي أسلوب الترجمة، وهذا بحث آخر.

* هل تعنيك معرفة الكاتب الذي تحب ترجمته، وخلفيات موضوعه الذي تختاره للترجمة؟ هل يحكم عملية ترجمته، عندك، نوع من التوحد الابداعي مثلا؟

– تفاعلي معه ككاتب مهم، ومهم أيضا معرفتي بتفاعل هذا الكاتب مع خلفيته هو: كيف تعامل مع واقعه ومجتمعه، مع مشاكل بلده، مشاكله هو.. من هو الكاتب؟ هل هو ابن المريخ؟ هو ابن بيئة وجغرافية وابن شعب، وابن حضارة.. أليس كذلك؟ فاذن لابد من السؤال عن كيفية تعامله مع هذه الخصائص؟ كيف عكس هذا العامل ابداعيا؟ أنا أحس أن هذا يساعدني، ويساعد القارئ، الذي أترجم له، على رؤية المبدع الفوبي.. وان المبدع البرازيلي يشتغل هكذا والأرجنتيني هكذا و… تعالوا، بناء على هذا، لنرى كيف يشتغل أديبنا.

أنت لاحظت اهتمامي بكازنتزاكي، بصورة خاصة: كازنتزاكي، برأيي، واحد من أغنى الكتاب – نمني داخليا- الذين مروا علي في التاريخ. وأنا أرى انه في ذلك يوازي شكسبير، هذا الفنى الداخلي يجعله يبدو مسرفا. بمعنى: أمسك رواية من رواياته؟ كل صفحة تجد فيها مادة يكتبها غيره في رواية. يستطيع هو أن يحصل على ألف مادة، بدلا من رواية واحدة، لكثرة ما لديه من نمني، لكنه ليس بحاجة لأن يذيب – كما يفعل الكثيرون – ملعقة سكر في برميل ماء، هو ليس بحاجة لأن يفعل ذلك.

* لنتوقف قليلا أمام الجدار الذي طالما صلبت اليه: أنت معن لهم شجون مع المحرم.. كيف تنظر الى حركة الخط البياني للمسموح والممنوع اليوم؟

– أنا أظن أن مسألة المسموح والممنوع لها علاقة بحرية المبدع: المبدع، لكي يكون مبدعا حقيقيا، يجب أن يحس في أعماقه انه حر، بلا قيد: يخرج ابداعه وكأنه ليس هناك آخرون – بمعنى ليس هناك من يراقب! ولكن عندما تخرج المادة، وتأخذ طريقها الى القارئ، تمر في “شبكات التوصيل”. وهذه لها شروطها، وهذه الشروط تدخل في المحرم، والممنوع السياسي، والممنوع الديني، و… الذ. هذه الدائرة أنا أرى أن مسؤولية الكاتب فيها واسعة جدا. وهي أن يظل يصطدم بحدود الدائرة، لأن اصطدامه هذا يفرض على حدودها ان تتسع. وأما تركها بدون اصطدام فسيتركها تضيق من نفسها- لأنها مثل المطاط. وتجنب التماس معها يتركها تضيق أكثر، وتسوغ المزيد من المحرمات.. لكن كلما صدمها المبدع أكثر، وصدمها غيره، تراخت واتسعت، الآن أعطيك مثالا: أكثر ما يخيف، في الوطن العربي، هو المخابرات، استمر الكاتب العربي يكتب عن المخابرات إلى حد أن المسرح التجاري، والناس المرتزقة، صاروا يتحدثون (ينتقدون)، ولا أحد يعترضهم، هذا مثال على ان صدم الموضوع استمر، حتى. أصبح عاديا، بينما كان في الماضي، لا يتجرأ الواحد على القول ان في البلد مخابرات!!

* ممدوح عدوان يرسم لوحة لتراجيديا الشاعر المناضل، ويكفنها بشارتين سوداوين – هما سلطة الرقيب وسلطة المجتمع (او تحديدا السلطة البديلة في المجتمع – أي المعارضة): ماذا طرأ على هذه الترسيمة من تطورات؟

= هناك سلطة السياسة وسلطة العرف. الاولي تضم سلطة الدولة وسلطة المعارضة – لأن الاثنتين تحملان المنطق نفسه، في التعامل مع الفرد. وهناك السلطة الأخرى، نمير المرئية، التي تقمعك بالتربيت على كتفك، كما لو انها تقول لك: “أنت، ايها المدلل، لا تصطدم بي، ابق عند حدود معينة”، أو هي تفعل ذلك بحجة الخوف عليك: “مالك ولهذا الموضوع؟ سيثير غضب الآخرين”؟ من هم الآخرون؟ الآخرون هم أنت، وهم فلان وفلان..! دائما هناك من يقول لك: أخي هذا سيثير رجال الأمن، وهذا سيثير رجال الدين، وهذا سيثير المرأة، وهذا سيثير الأحزاب اليسارية، وهذا سيثير الرجعية.. في النهاية: من هم هؤلاء الذين “خوفا علي” يجب أن أخاف منهم؟!!

اذا كنت أخاف عليك من ان تثير أحدا بكتابتك؛ فهذا يعني أني لا أريد لك أن تكتب. أو أريدك ان تكتب التمائم، والأحجبة.. (يضحك).

* ننتقل الى نقطة، هي من صلب اهتمامك – على ما أظن: هناك من يأخذ على الانتلجنسيا توهمها الكلمات واقعا: مما يتركها عرضة لصدمات واقع لا يكترث بـ”المسبق النظري” (بتعبير ادونيس).. كيف يرى ممدوح عدوان الى علاقة الفكر بالواقع، ما دام النقد السابق يرى ان معاقرة المثقفين للواقع زادته التباسا، وأبعدت الحلول؟

– أنا أرى أن على المثقف ان يستمر بمعالجة كل الموضوعات، التي يرى أنه مؤهل لمعالجتها، او يرى ان هناك ضرورة لمعالجتها، حتى لو بدا ان صوته في فراغ. ليس هناك صوت في فراغ، دائما هناك من يقرأ، وهناك من يتابع، ولكن قد لا نحسر به مباشرة، على الا نتوهم أننا بديل عن الشعب، او الثورة، او الجماهير الكاتب ليس بديلا عن أحد، ليس بديلا الا عن نفسه؛ حتى انه ليس بديلا عن كاتب آخر، فكيف يكون بديلا عن الشعب؟ يجب الا نتوهم أننا نمتلك الحقيقة الكاملة، يجب ان نتعلم أن ما نفعله هو فتح أبواب للحوار. نحن لا نلقي بالحكمة؛ القائد السياسي، فقط، هو من يعتقد انه يلقي بالحكمة الخالدة للجماهير. المثقف، والمبدع، يقول لا. أنا أحاول فتح باب لأتحاور، عبره، مع الناس: ما رأيكم بكذا؟ وليس: “ان” المثقف لا يستخدم “ان”، وما اليها من عبارات حاسمة.. (يضحك).

– سلوني قبل أن تفقدوني….

= نعم؛ هناك – لا شك – مثقفون متوهمون، لكن هؤلاء هم من يموت، وبسرعة، ويموت نتاجهم، وتموت فاعليتهم، أما المثقفون الذين يعتقدون انهم يقيمون حوارا مع الأخر، مع الشعب، وليس قصدهم تعليم الناس، بقدر ما هدفهم اثارة اذهانهم، تجد أن كتاباتهم للتفكير لا للقلقين.

* هل قصدت هذا المعنى من دعوتك المعروفة للكتابة / التحريضية؟

– نعم.. التحريض على التفكير، هو ما عنيته. وهذا يختلف عن التحريض بمعنى أنني سأكتب قصيدة لكي أثير بها مظاهرة.. او ثورة..

* هل ندعوه التهييج؟

– هناك أكذوبة تريد ان تتصور مثل هذه الامكانية للقصيدة. أو ان لوحة قادت الجماهير، لا أعرف الى اين.. هذه أكاذيب صنعتها الـ”بروباجندا” السياسية المستعجلة للقيام بانقلابات.

* يبدو أنك عانيت من وطأة هذه التوليفة الايديولوجية للأدب – اذا صح التعبير.. ففي كلمة قدمت بها مجموعة شعرية حديثة، لشاعر شاب، يتلمس القاري انك انما تتنفس الصعداء- كما يقال – فأطلقت عبارات تبشر بتراجع وطأة / كابوس التشنج الالزامي. وهذا يدفع بالسؤال الى أي مدى أنت آسف على المراحل التي قطعتها؟ أي هل تشعر اليوم بالأسف على رهن نتاجك الشعري لخدمة القضايا العامة وهو نوع من الالتزام الذي تشكو منه؟

– أبدا، أنا ما زلت حريصا على ان أقوم بدوري، في خدمة القضايا العامة، وذلك بمقدار ما يستطيع الفن أن يفعل.. ولكن أيضا بمقدار ما كنا نعاني من الرقيب الثالث، أو الرقيب المزدوج (رقابة السلطة ورقابة المعارضة)… المعارض اليساري كان بيده أسلحة قمعية أكثر من السلطة.. وضع هؤلاء معايير نقدية لا تصلح الا للمسلخ؛ وسلخوا تاريخا من الحياة الثقافية. ولذلك كانت معركتنا معهم أكثر ضراوة. لأن المعارض يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بمقدار ما يملكها رجل السلطة: بفارق أن رجل السلطة – ولأنه يفعل فعلا يوميا على الأرض – يرى أن هناك مبررا للحوار معه ولنقده. ولو نقدا خفيفا. أما الأول – ولأنه لا يفعل شيئا إلا التنظير- فانه يعتقد أن الحقيقة لديه كاملة. ولذلك تأتي أحكامه أكثر صرامة، واشد قسوة، مثال على ذلك كتاب “الأدب والأيديولوجيا” للمؤلفين المرحوم “بوعلي ياسين” و “نبيل سليمان”. وفيه، مثلا، ذكر لبطلة قصة للكاتبة “ألفت الادلبي”؛ البطلة امرأة عادية تقف أمام الفرن ساعتين – في الأرض المحتلة – دون أن تستطيع الحصول على الخبز. فتقول “الله ينتقم منكم”، وتغادر. لاحظ ان الناقدين علقا على هذه الجملة وأولاها على نحو: “هذه الأيديولوجيا الدينية المتعفنة… الخ” (يضحك، بذهول – كأنه يقرأ الكلام للمرة الاولي). هذا الساطور النقدي كان أكثر قمعية من أي دور لمخابرات في الدولة.

– لكن قيل أن الكاتبين بادرا للاعتذار عن آرائهما الواردة في الكتاب، بعد فترة من صدوره..

– ولكن، مع ذلك، نبيل سليمان يعيد طبعه – الآن؟!

* ماذا فعل الزمن بممدوح عدوان – الشاعر والشخص: علاقته بقريته، بأصدقائه، بالفلاحين، بصورة أمه، وحتى أولاده… الخ؟

– أنا أحب الناس.. أحب الحياة البسيطة. ولذلك بقيت علاقتي ظريفة مع أبناء القرية، والحارة، وأصدقاء الطفولة، وبالتالي أيضا علاقتي جيدة مع جيراني، وأولادي.. لكن، في الحقيقة، هناك بحث يدور حول مقدار ما عكسه هؤلاء في ابداعي.. أو قل مقدار عكس ابداعي لهم: وكيف تتجلى القرية (موجودة أو غير موجودة) في قصائدي كافة؟ حتى لو لم تكن القرية موضوع هذه القصيدة أو تلك.. ذلك أن هناك، دائما نبرة القرية، تربية القرية، عين القرية… الخ. هذه المسألة تحتاج لعين ناقدة – ترى اين القرية في نتاج هؤلاء الشباب الذين جاءوا من الأرياف: دون أن تنشغل هذه الرؤية بالبحث عن القرية كموضوع للمادة الابداعية، بقدر ما هي طبع ونظرة للعالم.. أي بنفس الطريقة التي يمكن أن نقول بها ان “نزار قباني” شاعر مدينة؟ ولأنه شاعر مدينة كان لشعره مواصفات كيت وكيت. وكانت نظرته للمرأة والسياسة على هذا النحو أو ذاك… الخ، فهذه المسألة بحاجة لعين ناقدة، قد تستطيع أن ترى أكثر مني. وأنا، دائما، أتمنى أن نكون قادرين على الحفاظ على القرية، في شعرنا، لان القرية، في الواقع لم تعد موجودة.

* هذه النوستالجيا، هل يدعمها لديك موقف معرفي- لا سيما وأن هناك اتهاما ينسب للريف دورا سلبيا تسوغه عبارة “غزو الريف للمدينة”؟ أم انك تتلمس خلف هذا الاتهام موقفا ايديولوجيا قدس المدينة، كمعادل للتقدم؟

– أرى أن اثارة هذا الموضوع هي اثارة سياسية بحتة. وهي ليست حضارية – بمعنى ريف / مدينة. هناك احساس بأن الريف يحكم سياسيا، وبالتالي فان المعارضة لهذا الريف الحاكم هي التشبث بالمدينة، لكن نظرة دقيقة للوا قع تكشف انه لم يعد هناك من قرية على الاطلاق: الكهرباء، الطرق المعبأة، التليفزيون، البراد.. وما اليه من أدوات المدينة.. موجودة في الريف، هذا أولا، ثانيا: في كل العصور، وبخاصة بعد الثورة الصناعية، هناك هجرة من الأرياف الى المدن، بحثا عن العمل، تنشأ عنها ظاهرة اجتماعية خطيرة؛ تتشكل من حزام فقر هائل حول المدينة، في قاع اجتماعي ممزق القيم: لأنه ترك قيمه في الريف، ونزل الى المدينة.. وهذه الظاهرة كتب عنها الأدبا، الطبيعيون – أمثال “اميل زولا”، و “ديكنز” وسواهما.. هذا البؤس الهائل الذي عاشه الريفيون المهاجرون الى المدينة. ثم ان هؤلاء الذين عاشوا في المدينة جاء التعبير الثقافي عنهم بواسطة مذاهب فنية، هي “الواقعية والطبيعية”؛ لكن هم، عندما عبروا عن انفسهم، عبروا بالرومانسية – أي بالحنين الى الريف! (من هذا التلوث، من هذا الكد اليومي المهين للإنسان، والتسلين لقيمته.. الى الحنين للريف) من هنا ولدت الرومانسية: ما هي الرومانسية؟ حنين للريف، حنين للطبيعة، حنين للبساطة، حنين لمجموعة مسائل بدأ الانسان يفقدها.

اذن فالهجرة من الريف للمدينة موجودة لدى كل الشعوب. ولا يحتج عليها الا من جانب انساني؛ بمعنى أن هؤلاء المهاجرين يعيشون بؤسا في المدينة؛ أو من جانب سياسي، بمعنى انهم يغيرون هوية المدينة.

* ولكن لواقع العالم الثالث، ووطننا العربي بصورة محددة، خصوصية تنبع من ان السلطات الحاكمة فيها ذات منشأ ريفي، ومن هذه الزاوية، ربما، جاءت الانتقادات سابقة الذكر.

– ربما. ولكن يجب ان نضع في اعتبارنا أننا، نحن، مجتمع عالم ثالث زراعي، أليس كذلك؟ ونسبة سكان المدن الى سكان البلد ككل لا تتجاوز واحدا على عشرة، وهذا يعني ان تسعة أعشار السكان يقطنون الأرياف. وكانوا مهمشين لانه لم يكن هناك تعليم، ولا مواصلات، ولا كهرباء… وبالتالي كانوا مظلومين: مما جعل من واقعهم حاضنا نموذجيا لولادة ونشاط الحركات السياسية – بوصفهم اصحاب مصلحة في التغيير. وكان لابد، مع انفتاح البلد- وبمنطق التعددية والديمقراطية – ان تكون لهم الغالبية؛ سيما وانهم قد اكتسبوا وجودهم، ولم يعودوا مهمشين. (لم يعد هناك في سوريا، مثلا، مناطق نائية – يخصص لمن يذهب اليها راتب اضافي).

– منطق سليم. ولكن لي ملاحظة على استخدام “منطق ديمقراطي”، هل جرت الأمور، فعلا، على هذا النحو من المنطق؟

= لا ليس بالضرورة، ولكن كلامي كان محددا في جملة افتراضية، تقيم المنطق السياسي الذي اغفل الأغلبية.

* يقول “حيدر حيدر” انه في بلاد العرب سيأتي يوم تصرخ الجماهير “الموت للسلطات العسكرية التي اودت بنا الى الهاوية و.. سيكون الوقت قد فات”. وانت جعلت “هاملت يستيقظ متأخرا” لماذا الكتابة اذن؟

– كل كاتب يحس أن جزءا من دوافعه، التي تحرضه على الكتابة، نابع من صرخة احتجاج تقول: هل من المعقول انكم لا ترون ما أرى؟ فيكتشف اما انهم لا يرون ما يرى، فعلا، او ان رؤيته لا تصل اليهم، لانسداد قنوات الاتصال بينه وبينهم: الأمية، طغيان وسائل الاعلام التجارية، عدم وجود حرية للنشر.. ومجموعة كبيرة من الاسباب تحول دون ايصال رؤيتك الى الناس.. وبالتالي أنت دائما تقول سيصل صوتي الى الناس: ولكن متأخرا أي بعد ان يكون قد فات الأوان: ويكفي ان نقول ان كتابات بداية القرن كانت – مثلا- تحذر من خطر الصهيونية، مثلما نحذر الآن من خطرها: لكن الصهيونية الآن تحتفل بالميلاد الخمسين لدولتها. ونحن بيننا من لا يزال يعتقد بامكانية الاستفادة من العدو! لا شك ان هناك شيئا مؤسيا في الموضوع. احساس بالعزلة انك تصيح في صحراء؛ لكنك لا تستطيع الا ان تصبح، وستبقى تصيح.

– قيمة الكلمة في عصر التقنية والاستهلاك والسياحة في تراجع، والاسماء الكبيرة تغيب، ولا بدائل، هل هذا ناتج عن غياب الحركات الانعطافية (الثورات مثلا) في عالم اليوم؟ او هل الأفكار الكبيرة مقرونة مع الأحداث الكبيرة؟

= لا شك ان الانعطافات التاريخية تتمخض عن اسماء تستطيع ان ترى الانعطاف. نرى مخاضه، لكن هذا أيضا يولد أفكارا كبيرة واسماء كبيرة، معن يتشبثون بالماضي ويتجاهلون التغيير؛ هؤلاء يثابرون على التمسك بالماضي وكأن التغيير لم يحدث. يبقون خارج الزمن، وتصبح اسماؤهم كبيرة لانهم يتمسكون بقيم ممتدة ألفي سنة في الماضي، لها جذورها ولها من يروج لها، ولها من يطلبها بالمقابل هناك اسماء تستشرف المستقبل، وتقول: يا جماعة نحن انعطفنا فانتبهوا الى تغيير البوصلة، فتستمع اليهم شريحة معينة من الناس، وتراهم أسماء كبيرة، في الوقت الذي يظنهم آخرون انهم خارجون على القانون.

* فى الغرب تعلن نهاية التاريخ او استقرارا (كما عبر فوكوياما) وهذا قد يفسر جرئيا- اذا كان له وجهة صواب – غياب الاسماء والأفكار الكبيرة اليوم، هل تصوب مثل هذا التفسير؟

– لا. الواقع كانت هناك أسماء كبيرة، ولكن بشي، من التوهم: يعني كان يوجد واحد او اثنان في بلد مثل سوريا، يصلان الى دوائر النشر الخارجية – العربية أو الدولية (بالترجمة)، الآن بدلا من اثنين يوجد ألفان؛ وبالتالي فان اهتمام الناس توزع ملي ألفين، بدلا من اثنين..

* وهل هذا ينسحب على الحقول الابداعية والفكرية اجمالا؟ أفلا نفتقر اليوم لمفكرين من وزن هيجل – مثلا؟

– هناك كتاب لاريك فروم – ومع انه صدر في أول السبعينات – يقول فيه ان العقول المفكرة العبقرية الموجودة، في هذا اليوم، تفوق عددا كل ما هو موجود في التاريخ. وبالتالي في هذا اليوم توجد عبقريات، يوجد مفكرون مجتهدون بإخلاص لدراسة العصر- برأيي- أكثر مما في التاريخ كله. لكن لكثرتهم، وسرد الأصوات، وتعدد المنابر، لم يعد ممكنا ان يلفت واحد منهم نظرنا.

* ممدوح عدوان في المظهر نشاط وقوة وحيوية ومرح، وفي العموم “تلويحة الأيدي المتعبة” و”هاملت يستيقظ متأخرا” و”زيارة الملكة” و “لماذا تركت السيف” و “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” و “ليل العبيد” والعديد من الدواوين الشعرية، وذبحة قلبية هددت حياته؛ ترى هل ستموت حزنا أم ستنفجر من الضحك؟!

– أعتقد أن الشعار الدائم هو: “من راقب الناس فقع ضحكا”!!

اجرى الحوار: علي ديوب (كاتب من سوريا)

اضف رد