السوريالية بنكهة شعبية.. حامد ندا ولوحاته المدهشة
في معرضه الأخير أصر (ندا) على أن تتمتع لوحاته بالعنصر الصوتي إلى جانب الصخب اللوني، ويتم توزيع الألوان ما بين جسد وصوت.
العرب محب جميل 
من أعمال الفنان: استلهام الحياة الشعبية

القاهرة – أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب طباعة كتاب “حامد ندا.. نجم الفن المعاصر” للناقد الدكتور “صبحي الشاروني” في طبعة شعبية ضمن سلسلة فنون في مائة صفحة من القطع الطويل، وتعد مسيرة الفنان الكبير “حامد ندا” من أهم التجارب الفنية في الحركة التشكيلية المصرية؛ حيث استطاع أن يغير المفاهيم السائدة في الحياة التشكيلية المصرية إلى جانب مجموعة من كبار الفنانين والذين عرفوا باسم جماعة الفن المعاصر، وقد فاز بالعديد من الجوائز أهمها جائزة فن التصوير الزيتي الأولى من صالون القاهرة مرتين: عام 1957 ثم 1959، وجائزة التصوير الثانية من بينالي الإسكندرية عام 1959، وجائزة الشراع الذهبي الأول من الكويت عام 1975، وقد سجلت أعماله على 6 أشرطة تلفزيونية ملوّنة بين عامي 1970 و1986، لكنه توفى قبل أن يتسلم جائزة الدولة التقديرية في الآداب والفنون. ويلقي هذا المقال الضوء على أهم المحطات في حياة (ندا).

تكوينات خصبة

ولد حامد ندا في 19 نوفمبر عام 1924 في منزل يحمل طرازا عربيا أصيلا بشارع (التلول) بحي الخليفة قرب مسجد السيدة سكينة بالقاهرة، والجدير بالذكر أن هذه المنطقة ذات طابع معماري من الطراز الخاص، ففيها المباني المملوكية والقصور التركية والأسبلة العثمانية وبعض المقاهي التي تعتمل داخل المباني ذات البواكي العتيقة بالإضافة إلى مساجد الأولياء والموالد الشعبية. وسط هذا التناغم والتداخل بين الحضارات المختلفة والزخرفة المعمارية والثقافية وجد (ندا) حاله طفلا يتجول بين الموالد الشعبية وخيام لاعبي السيرك وحلقات الذكر الإنشادية والأراجوز وصندوق الدنيا.

جماعة الفن المعاصر

في سنٍ مبكرة تمكنت موهبة (ندا) من أن تقدح زناد بندقية الفن المعاصر، فقام مدرس الرسم بتوجيهه إلى نقل أعمال كبار الرسامين في العالم، وقد أكسبته هذه المرحلة خبرة مكنته من اجتياز اختبار القبول بمدرسة الفنون الجميلة العليا فيما بعد. التحاقه بالمدرسة الثانوية يعد (الحلقة المفصلية) في حياته الفنية حيث التقى بأستاذه (حسين يوسف أمين) في الفترة (1904-1984).

في هذه المرحلة كان (ندا) أكثر فناني الجماعة شقاوة ومرحا بالإضافة إلى رسوماته الجديّة التي تعبر عن واقعه الاجتماعي بالحي الفقير المكلوم الذي كان يسكنه.

الديك المنتفخ

ارتكز أسلوب (ندا) في بداياته منتصف الأربعينات على التهويل والمبالغة والانتقال مما هو راسخ واقعي إلى ما هو أسطوري مُتشَكّل، ومن هنا يبدو أن الأيقونات الرمزية بتلك اللوحات لم تكن تستند على النسبة الذهنية الثابتة فيما عرف بمرحلة (التجسيد والتكتيل) التي جعلت من الأشياء كما لو أنها ماثلة في الحقيقة يمكن ملامستها بالإضافة إلى ضخامة أجساد الكائنات التي قد تبدو مربوطة بخيطٍ إلى الأرض كمحاكاة للكسل وثقل الوزن الذي بدوره يحيل إلى فقرهم المادي والفكري والمعنوي داخل هذه البيئة. من هنا يبدو أن الديك الذي رسمه في من الخمسينات وكأنه معادل للرجولة والفحولة! بما له من ترسيبات فكرية في ذاكرته المخزونة، ثم يتحول في النصف الثاني من الخمسينات إلى رمزا للأحلام والآمال، حيث يصيح في أطراف اللوحات والشوارع كمنادٍ على الثورة. كأن هذا الديك الذي يتحور من لوحةٍ إلى أخرى فتارة على كتف امرأة وأخرى فوق عنق مذياع وأخيرا كعقاب جارح، هو أقرب في الأساس إلى كونه (تميمة إيمانية) مقدسة تختصر حيوات سابقة في بيئته الشعبية الفقيرة.

لقد رسبت البيئة الشعبية لدى (ندا) العديد من مفردات الغيبيات والتواكل التي وظفها فيما بعد في العديد من لوحاته في تعبير مفجع عن شخصيات تواكلت ولازمت أضرحة الأولياء، وقد رسمهم بشكل مجسم مصمّت ككتل من الأخشاب والنحاس الصماء، ويبدو أنهم فضلوا أن يعصبوا عيونهم ويديروا لنا ظهورهم في تعبير متقشف وخشن، مما يوحي في النهاية بتلك الحالة من التشاؤم والانغلاق، بالإضافة إلى التمائم والأوشمة والطواطم، والأحجبة، ولمبة الكيروسين الرمادية التي توزع قوالب باهتة ومتسخة من الظلال والأضواء على جنبات الزير المشروخ الذي يسرب مياهه ليلا ونهارا. ناهيك عن مشاهد القبور والشواهد، والأبراص والقطط البلدي والسحالي في تعبير جنائزي حاد.

الحياة الشعبية

من جانبه يعلّق الناقد (إيميه آزار) على تلك المرحلة المؤسسة في حياة حامد ندا الفنية قائلا: “إن الشخوص الصماء تمثل أشخاصا لا أسماء لها يحتضنون أحلاما جسيمة ومقلقة، ومشروعات للمستقبل يقودها القدر ويأبى عليهم تحقيقها في تعبير ميتافيزيقي”.لكن (ندا) كان له رأيه الخاص بشأن تلك المرحلة حيث يرى تماسا خاصا جمع بين لوحاته ولوحات راغب عياد في التعبير عن الحياة الشعبية من حيث معالجة الشخوص، الموضوعات، والمفردات. ويتحدث ندا عن عياد قائلا: “لقد صوّر راغب عياد بموهة لا تنكر واقع الحياة الشعبية المصرية، أما أنا فقد عُنيت بالغوص إلى ما تحت الواقع وما في نفوس سكان الأحياء الشعبية من رواسب لا تلبث أن تنعكس على سطح البيئة الشعبية وسلوك رجالها ونسائها، ويمكنك أن تتبين أيضا شخصياتي الشعبية – شخصيات عجر- ليس فيها اهتمام بتفاصيل القسمات أو الملامح أو بما يميز الأفراد عن بعضهم البعض، فأنا لا أصور زيدًا أو عبيدًا، لا أصور حدادًا أو نجارًا أو فلاحًا بل أصور الإنسان الشعبي.

ولا أصوره لذاته بل لأبرز موقفا إنسانيا عاما. وتعنيني الدلالات الإنسانية من خلال رؤية تشكيلية لمجتمع تكالبت عليه الرزايا منذ أمدٍ طويل. لكن فيها شيء ما أو ربما ثمة ما في الجو الكابوسي المحيط بها ما يجبرك على التعاطف معها كما نتعاطف مع شخصيات رواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ مثلا”. لذلك يتضح أن العالم السوريالي عند (ندا) إفرازا ذاتي دون أي سابق دراسة! فالقراءات السابقة لمخزون علم النفس والفلسفة والأدب مع تتبع خطوط الرسم لدى فناني العالم الكبار، قادته إلى سوريالية خاصة مصبوغة بنكهة شعبية.

المجهول لا يزال

إن أهم ما تستقطبه لوحات حامد ندا هو عنصر الدهشة، وهو العنصر الذي ظلّ مشعا لدى جماعات الفن المتمردة في مصر، وبخاصة عند جماعتي الفن المعاصر والفن والحرية.

لقد أصدروا كتالوجا فنيا بعنوان (المجهول لا يزال)؛ حيث تم توزيعه في معرض (حامد ندا) الخاص الذي أقامه عام 1959 بالقاهرة، وربما يعد هذا آخر عمل جماعي للفنانين المتمردين في مصر. ولـ(ندا) مجموعة من الكلمات والرسوم داخل هذا الكتالوج (الكتيب المصوَّر).

انتقل (ندا) مرة أخرى في فترة الخمسينات إلى تغيير أسلوبه في الرسم، وقد ساعدته مرحلة عمله كمدرس للرسم في أحد المدارس الابتدائية على اكتشاف موهبة الأطفال في الرسم وألوانهم البدائية التي تقترب من حيز الواقع مما دفعه في النهاية إلى التخلي عن فكرة المنظور والقوالب الثقيلة المصمّتة والملامح الخشنة.

وتحول اهتمامه إلى الحيوية والآلية الحركية بدلا من السكون والصمت، وبالفعل تخلى عن التجسيم الإسطواني للشكل، مع إلغاء المنظور الهندسي والتخلي عن الإيهام بالبعد الثالث. وأصبح التسطيح هو المسيطر على منطق التشكيل.

المجهول الغرائبي

في المرحلة الأولى استطاع (ندا) أن يستغل الخلفية كحائط يرسم عليه بعض الزخارف البدائية ويملأ شقوقه بالعديد من الكائنات والفرائس المهملة كالزواحف، والسحالي، والأبراص، وغيرها. هذه الزواحف التي كانت كثيرا ما ترتبط بجدلية الجنس والإخصاب في الموروث الثقافي الشعبي، بالإضافة إلى كونها رمزا للشر الكامن المكبوت داخل النفس البشرية.

في المرحلة الثانية كان لاستخدام الديك رمزية كبيرة في حياته الفنية بين الفحولة والثورة، بالإضافة إلى القط وما له من رصيد ثقافي وشعبي عند العديد من المصريين، فهو بـ “سبعة أرواح!”، وله طاقة كامنة عجيبة، يتلصص في خطاه، ويسيطر عليه التربص والصمت قبل الانقضاض على غيره.وعن مصباح الكيروسين يقول الناقد الفني (إيميه آزار): “يقوم المصباح بتحديد العالم المرئي. إنه يحدد مناطق الضوء والظل التي تنتمي إلى عالم فردي شخصي لتبرير غموض نظرة الفنان للعناصر، وغموض ما يجهله أو يمثل في ذهنه علامات استفهام.

العالم الخارجي للإنسان الذي يصوره حامد ندا هو المكان الذي تتداخل فيه كل أنواع الغموض والعناصر التي لا تنتمي إلى الواقع. فالمصباح عند ندا يمكن أن نعتبره معادلا لسجن الإنسان”.

إيروتيكية ونساء

بدأ (ندا) في رسم المرأة في الأربعينات على هيئة منفرة انتصارا منه لفكرة الفضيلة؛ ففي إحدى لوحاته المرسومة بالأحبار الصينية والتي أنجزها عام 1946 – ضمن مجموعة الشاعر السيريالي الراحل جورج حنين- تحت عنوان شمعة الظلمات، يمكن أن نجد المرأة شقية وبائسة ذات قدمين ويدين مفلطحتين غليظتين، وشعرها أشعث يميل إلى ساحرة شمطاء جاءت من عالم غيبي.

يبدو حجمها ثلاثة أضعاف حجم الرجل الذي يقف بجانبها، والشمعة تشير إلى البؤس وقبح الطلعة، ثم يعيد ترتيب هذا المشهد ويوازيه بالصندل الخشبي (القبقاب)؛ حيث يتعمق الإحساس بالسخط والاحتجاج. لم تستقر رمزية المرأة عند هذه الصورة لدى (ندا)؛ فقد جعلها في البداية أُمًا حزينة في الخمسينات، ثم رمزا للخصوبة والتربة والوطن في نهايتها، ثم جرّدها من الثياب في السبعينات، ثم امرأة عصية تقص شعرها وترتدي الملابس القصيرة وتقفز من النشوة والحلم في الثمانينات.تبدو النساء في معظم لوحاته نحيلات الخصر، كبيرات الأرداف في شكل مسطح ويشغلن مساحة كبيرة من تفاصيل اللوحة بالإضافة إلى صبغة جنسية خاصة رافقت أعماله في الستينات في اتجاه قوي وواضح نحو الرموز الجنسية (الإيروتيكية) من خلال تحقيق إمتاع جسدي مخلوط بحس فكاهي.

تميزت مرحلة الثمانينات لدى (ندا) بمجموعة من الرسوم حول حفلات الديسكو الصاخبة، بالإضافة إلى تحوله إلى مراقب لحركات الناس وأفعالهم كلما أشتد به الصمم. كان هذا الصمت يسمح له بالإنصات إلى ما يموج داخل نفسه، وما يختلج في أعماقه من همس رقيق، فتأتي الصور والأشكال بحضورها التام وحيويتها المعهودة. إنها حالة كاريكاتورية تقلب الجد إلى هزل، وقد انعكس هذا على لوحاته فازدادت جرعة السخرية فيها، وقد لاحظنا أن فقد السمع الذي أدى إلى ارتفاع الضجيج والصخب والأصوات العالية في لوحاته، حوَّل أيقونة الديك إلى صيَّاح معظم الوقت، بالإضافة إلى ظهور عازفي الأبواق النحاسية والجرامافون في مقدمة اللوحات.

في معرضه الأخير أصر (ندا) على أن تتمتع لوحاته بالعنصر الصوتي إلى جانب الصخب اللوني، ويتم توزيع الألوان ما بين جسدٍ وصوت، وأما الجسد فقد عثر عليه في تجسيم المرأة متناسقة الأعضاء الريّانة صاحبة القد الرمانيّ في عمر الربيع، تنحني من أول اللوحة حتى آخرها، لتكشف عن جمال جسدها وأسراره، وأما الصوت فقد بدا في استخدام آلات النحاس الموسيقية والتي تبدو ملتوية ذات أسلاك ملتفة حول بعضها إلى ما لا نهاية.

إنه عالم غريب يغلب عليه اللون الأزرق، يستمد قوته من مركبة الأحلام ولا يخضع لقوانين الجاذبية الأرضية. لوحات تشف عن توق إلى الحياة وبهجتها بالرغم من المعاناة والألم؛ حيث الأنثى تؤسس لمركزية اللوحة ويأتي الرجال في طور كاريكاتوري هزلي لا يخلو من التهكم والسخرية، حيث كل المفردات توابع والمرأة تستقر في بؤرة اللوحة.

توفى حامد ندا في 27 مايو عام 1990 بعد أن اصطدم رأسه بالقائم الحجري لباب غرفة التليفون في المرسم الذي يقيم به وسط طلابه بمبنى وكالة الغوري الأثري بحي الأزهر، عندما انقطع التيار الكهربائي في أحد الليالي عن مصر بأكملها، مما أفقده وعيه وشجت رأسه. لقد كانت حياة حافلة مليئة بالإنجازات والمحطات.

 

من almooftah

اترك تعليقاً