نادي حمص الثقافي الاجتماعي
العرض المسرحي الطفلي.. “رؤية نقدية”
للباحث والكاتب الأستاذ محمد بري العواني..

مقدمة:
إنَّ الحديث عن مسرح الأطفال لا يغادر البنية الرئيسة المكوَّنة لهذا الفن الذي يقوم على ضرورة وجود ركنين رئيسيين في العملية المسرحية هما:
1- الممثل
2- المتفرِّج
ومن دون هذين الركنين لا وجود للمسرح، ولا لعرض مسرحي. لأن المسرح منذ نشأته الأولى كان يعني-ومايزال وعلى الدوام- أنه مكان للرؤية، أو المشاهدة، أو الفرجة.
وعلى هذا فإنَّ عرضاً مسرحيَّاً موجَّهاً للأطفال لا بدَّ له من مراعاة الاعتبارات التربوية والفنية من حيث اختيار النص، شكلاً وموضوعاً، ومضموناً، واتجاهاً جمالياً وسلوكيَّاً، وهدفاً تربويَّاً اجتماعياً، لتعزيز وتكريس العملية التربوية الشاملة، وتحقيق المتعة والفائدة، إضافة إلى اعتبار مكان العرض وزمانه وطوله وشكله، ومكوناته وعناصره.. إلخ. ولسوف نناقش أهم مكونات وعناصر العرض المسرحي الموجه للأطفال في ما يلي.

1= النص المسرحي الدرامي:
ما يجب التنبيه إليه هو أنَّ النص المسرحي الأدبي يشكِّل مدار الجدل الدائم والحوار النقدي المستمرِّين بين المتخصصين، والمحترفين، والهواة، والمربين، وعلماء التربية وعلماء نفس الطفل. وقد اتفق الجميع على أن البنية الفنية لنص الأطفال المسرحي لا تختلف عن النص المسرحي الموجَّه للكبار.
غير أننا في نصوص الأطفال مدعوُّون إلى تقديم الأفكار والمعاني الإنسانية النبيلة كالحرية، والعدالة، والمساواة، والاشتراكية، والثواب، والعقاب، والحق، والخير، والجمال، وغير ذلك، في أشكالٍ حركيَّةٍ وأحداثٍ وأفعالٍ تقوم بها الشخصيات ولا ترويها للأطفال رواية، لأن الحركة أقوى من اللغة، وأعظم تأثيراً وثباتاً في الدماغ البشري. وهذا هو مضمون كلام أرسطو من أن المسرح- التراجيديا- فعلٌ وأحداثٌ، وليس رواية وسرداً. هذا من جهة.
من جهة أخرى فإنَّ الأطفال، كالكبار، يرفضون الحديث عن الأفكار المجرَّدة في المسرح، لأنهم لا يمكنهم إدراك المعاني والمفاهيم المجرَّدة.
ولما كان بعض مكوِّنات النص المسرحي واضحاً ومدركاً مباشرة كالمكان والزمان والملابس وأسماء الشخصيات والإضاءة… إلخ. فإنَّ عناصر أخرى في الحكاية والعرض كالتمهيد والعقدة والمشهد الإجباري والصراع وعوالم الشخصيات الداخلية تظلُّ مغلَّفة بأسرار الصنعة الماهرة، حيث يظن بعض المسرحيين، أو المُتطفِّلين على المسرح، كُتَّاباً ومخرجين وممثلين بأنّ مجرَّد إطلاق اسمٍ على شخصية تتكلَّم يعني وجود هذه الشخصية درامياً، وبأنَّ مجرد وجود حوار صاخب بين شخصيَّتين هو صراع. هذا يعني أن تبسيط الحكاية وتبسيط وتقزيم مكوناتها سوف يُقزِّم معه تلك المكونات الفنية والدرامية والفكرية. ومن المؤكد أنَّ هذا التبسيط الفاحش في النَّص المسرحي الطِّفلي هو الذي يجعل من العرض المسرحي تزييفاً وتزويراً للفن.
ولعلَّ غيابَ الملامح الفردية الخاصة بالشخصية الدرامية وغيابَ هدفها الدرامي الذي تفتقده في الأعم الأغلب من النصوص المسرحية المكتوبة للأطفال، وغياب البطل المضاد السالب هو ما يمنعها من أن تكون شخصية برغم كل ما تقوله من كلام؛ شعراً كان أم نثراً، ومهما كانت بلاغة هذا الكلام أو الحوار، ومهما ادَّعى المؤلِّف المسرحي أو المخرج ذلك، وهو ما يمنع من أن يكون النص والعرض جديرين بالمتعة والفائدة!
نقول ذلك لأن الأطفال الأطفال يتوقون على الدوام إلى بطل يتماهون فيه لأنهم يحبونه، مما يعني أن الشخصية- البطل والأحداث التي تجري أمام الأطفال واقعٌ منظور دائماً كونه مجسَّداً في علاقات حركية تناحرية.
أما غياب الصراع لعدم وجود أطرافٍ أندادٍ فإنه يجعل من النص والعرض مجرد ثرثرة لا طائل منها. لذلك نجد أن هذا النوع من اللا مسرح يفتقد إلى التشويق والتحفيز والإثارة والفاعلية، ,إلى كل ما يشجِّع على متابعة الحكاية والعرض، لأنه لا شيء يجري، أو يحدث، برغم وجود الموسيقا والرقص والغناء والاستعراض وتوافر عناصر الفرجة الأخرى، وما أكثر هذه العروض التي رأيناها في سورية على الأقل، أو ما شاهدناه من عروضٍ عربية من خلال التلفاز! ولهذا فإنَّ الصراع حركةٌ، وحركةٌ مضادة؛ أي هو فعلٌ وردُّ فعلٍ. إنه بالتحديد أفعال تجري أمام الأطفال مباشرة، والآن.
لذلك كان لا بدَّ من إثارة السؤال الأكثر أهمية في أي عرضٍ مسرحيٍّ بعامة، وفي العرض المسحري الموجه للأطفال بخاصة، هو:
• على من سوف نركِّز انتباهنا ومتابعتنا من الشخصيات المسرحية الفاعلة كمتفرِّجين؛ كباراً وصغاراً، وذلك ضماناً لاستمرار طقوس الفرجة القائمة على الاهتمام بمركزية الحكاية، ومركزية أبطالها المتصارعين، ومركزية الحدث الدرامي من جهة؟
• وعلى ماذا نركِّز انتباهنا من جهة الأفعال والصراع من جهة أخرى؟
وذلك لأن هذين السؤالين يشيران بوضوح مطلق إلى حيوية العرض المسرح وفاعليته وتأثيره في جمهوره أياً كان نوع هذا الجمهور!

2= التماثل والتماهي مع الشخصية النموذج:
إنَّ أهميَّة الحركة التي نتكَّلم عنها لا تقلل من أهميَّة النص المسرحي، لأن هذا النص سوف يحدد الشخصية الرئيسة التي سوف يتعاطف، أو يتماثل معها الأطفال الذين يبدون اهتمامهم أولاً بأول بمعرفة من هو البطل؟ بغض النظر عن كون هذا البطل طفلاً أو كبيراً! ولهذا لا بد من التأكيد الدائم على العناية ببناء شخصية البطل موضوعةً في إطار الفعل الدرامي، وليس الوصف والسرد الكلامي، وفي مواجهة الشخصية المضادة للبطل، باعتبارها الدافع عن الرئيس دراميَّاً إلى التَّطور الخلاق، لأن من صداميهما وصراعيهما تنشأ الأحداث المسرحية المشوِّقة والمثيرة والمحفِّزة على متابعة العرض بكليته.
ما يبدو مهماً في تلك النقطة هو أنَّ الأطفال سوف يتماثلون مع شخصية البطل لأنه نموذجهم التوَّاقون إليه، لأنَّ التَّماثل هو علاقة إدراكية مع الذات؛ علاقة تقوم على فكرة التَّشابه بين الذات والنموذج الذي يتم إدراكه حسيَّاً.
بل إنَّ التماثل ينبع أصلاً من حاجة الأطفال إلى شيء ما؛ هو الشيء نفسه الذي تعيشه، أو تعمل له من أجله الشخصية النموذج. إنَّ الأطفال يتوقون إلى ما يرغبون في أن يكونوه على الدوام ولا يرغبون في ما هو كائن. وهنا بالتحديد يكمن جوهر الشخصية النموذج المتمثِّل في أنه يحدد بشكل غير مباشر ما يمكن أن- أو ما سوف- يكون عليه الأطفال في المستقبل. إذن: إنَّ الشخصية النموذج في مسرح الأطفال هي مشروع صيرورة وكينونة شخصيات الأطفال المستقبلية.
ولهذا وجب على الكاتب والمخرج المسرحيَّين أن يصوغا البطل النموذج بدقة ووعي من الداخل والخارج من دون أن ينسيا أنَّ البطل لن يصبح كذلك ما لم يُزَجَّ في صراع مع الطرف الآخر النقيض له لكي يتم تبنِّي الشخصية النموذجية من قبل الأطفال والتَّعلُّم من خلال أفعالها وسلوكها مجموعة القيَّم والأهداف التي يسعى إليها العرض المسرحي. وهذا يتطلَّب مؤلِّفاً ومخرجاً مثقفين واعيين بعالم الأطفال، قدر ما هما فنانان مبدعان. كما يتطلَّب الأمر ممثلين وفنِّين لا يقلون ثقافة ومعرفة عن المؤلف والمخرج.
وعلى هذا فإنَّ العرض المسحري بعامة، ومسرح الطفل بخاصة، هو عض حركي مرئي. أي إنه صور مرئية وصوتية مسموعة متتابعة تخضع لحتمية الظهور والاختفاء والنور والظل.
إنه صور ما إن تظهر حتى تختفي، وما إن تختفي حتى تظهر بفعل التعاقب الزمني الخطِّي إلى أن تكتمل حكايةُ-حبكةُ- العرض في صياغات تكوينية جمالية معبرة.
وما دامت الحركة صورة، والعكس صحيح، فإن للصورة الحركية جملةً من الوظائف الجوهرية التي لابد من تحقيقها:
1- على الصورة أن تحكي عن شيء، أو أن تحكي قصة.
2- على الصورة أن تُبلوِر مشاعر الأطفال بشكل حسي ملموس، وأن اثير ذلك لدى جمهور الأطفال.
3- على الصورة أن تُبلوِر العلاقات الدرامية بما هي علاقات اجتماعية متناحرة بحسب مهام كل شخصية وأهمية هذه المهام.

3= الصراع المسرحي- الدرامي:
وعلى هذا لا بدَّ للمؤلِّف والمخرجِ والممثل وجميع الفنانين الآخرين من مراعاة التوازن بين الخير والشر في النص والعرض لضمان الفاعلية المسرحية والتأثير العاطفي في الأطفال.
إنّ النمط الرَّثَّ للشرير المضحكِ الذي يتعثَّر في مشيته فيقع دائماً، أو يتلعثم في كلامه فلا تفهم منه شيئاً، أو الذي يبدأ بفعل أو عمل ولا يقدر على إتمامه لهو أمرٌ بالغ السوء. لأن ذلك كله سيجعل من البطل الخيِّر عرضةً للسخرية باعتباره غير كفءٍ في ميزان الصراع. لأن البطل الشرير المضاد مًعوَّق وعاجزٌ، مما يجعل القوتين المتصارعتين غير متكافئتين، وهذا أول الطريق إلى التزييف والتزوير الفني والكذب على الطفل!
ولهذا يتم التأكيد، وعلى الدوام، أنَّ الصراع الدرامي لا بدَّ وأن يكون بين ‘رادتين حُرَّتين واعيَتين مُتكافِئتين مُتناقضتين على هدفٍ واحد تسعى إليه كلتاهما.
إنَّ (التحقيق الكامل للصراع في المسرحية يتطلَّب فقط أن يتجاهل الكاتب شدَّة حساسية الطفل المتّوقَّعة وأن يركز على مستوى الصراع الضروري لتطوّر الحدث. فالشر الذ لا مبرر له غير مطلوب.. والخطُّ الأساسي الذي يجب اتباعه في الصراع هو تقديم حدٍّ ممكن من الخير والشر). (1)
إنَّ تحقيق ذلك يعني أن تظهر جميع القوى –في المسرحية- في حالة من التكافؤ والنِّديَّة والمساواة. الأمر الذي يجعل من انتصار البطل في النهاية انتصاراً مشروعاً، كونه قام على بذل الجهد والصبر والمعاناة والشجاعة والتفكير الواعي، وغير ذلك مما يجب أن يتوفَّر لكل شخصية مهما كان نوعها ومستواها وفاعليتها في الحدث وحركة الصراع. وأي تبسيط لذلك بحجة قصور وعي الأطفال وعدم فهمهم لما يجري أو عدم فهمهم للحبكات المُركَّبة هو ادِّعاءٌ غير علمي ما لم نقدِّم عرضاً ملتبساً غامضاً، أو عرضاً مُفتَّتاً غير مترابط وغير متجانس.
إضافة إلى ذلك فإنَّ البطل الذي يتم إنقاذه من الشرير بوساطة سحر أو حيلة أو قوة خارجية أو مساعدة غير مشروعة يصبح مجالاً رحباً لسخرية الأطفال قَدرَ ما يرفضونه. لأنَّ هذا البطل غير قادر على أن يَحُلَّ مشكلاته بنفسه، من دون أن ننسى الأهمية الفائقة لمساعدة الأصدقاء المعقولة والمبررة. وهذا يعني أنَّ مثل هذا البطل ليس هو (البطل النموذج) الذي يتوق الأطفال إلى أن يكوِّنوه كما قدمنا سالفاً. وأمر كهذا يجعل النص والعرض ساذجين يميل عنهما الأطفال سريعاً.
وما دامت الشخصيات المسرحية تسعى إلى تحقيق أهداف واضحة ومحددة فهذا يعني أنها تسعى إلى إنجاز نهايات سعيدة لمشكلاتها وغاياتها. وهذا يعني من جهة الكتابة والإخراج الدراميين أنه لا بد من مكافأة تلك الشخصيات بما ينسجم مع جهودها ومعانياتها ومكابداتها التي عاشتها سابقاً. لذلك لا بد من نهايات سعيدة، وعوالم مثالية لهذه الشخصيات، تماماً كما لا بد من تقديم نهايات مُحزِنة وقاتمة لشخصيات الأشرار تنسجم مع أفعالها وسلوكياتها وأفكارها التي كانت تمنع البطل النموذج –الخير- من التقدُّم لتحقيق أهدافه، وبالرغم من أننا مُطالبون أيضاً بتقديم مشكلات الحياة الاجتماعية الواقعية بكل ما فيها من آلام ومصاعب ومصائب ونكسات. لأن الأطفال يحبُّون أن يروا، ويناقشوا مشكلات يعرفونها.

4= العنف في مسرح الأطفال:
لقد ذهب الكثر من علماء التربية وعلم نفس الطفل وكتَّابٍ ومسرحيين ومخرجين مربّين إلى أنه لا بأس من تقديم بعض العنف على المسرح ليكون جرعة وقاية وتحصيناً مفيداً، شرط أن نُظهِر في السياق الدرامي خطر العنف على حياة الإنسان بعامة، وعلى الأطفال بخاصة، وبما يربّي موقفاً فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً لديهم للابتعاد عن العنف المدمِّر
بكل مظاهره، واتخاذ موقف مضاد منه الآن وفي المستقبل.
ولعلَّ هذه القضية تثير الكثير من الاعتراض لدى بعض المسرحيين وهذا أمر مفهوم بشكل عام لكن هذا أمر غير مفهوم حين نتذكَّر على الدوام أن مفهوم الصراع الدرامي يتضمَّن شكلاً من أشكال العنف إن لم يكن نفسه عنفاً مباشراً.
والحق أن كل صراع درامي هو في حقيقته صدام مباشر بين شخصيَّتين مُتناقضتين على هدفٍ ما، كما قدمنا سالفاً. والصدام اشتباك ينتج عنه أضرار مادية ونفسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية.. إلخ، خاصة ما كان منه صداماً جسدياً. إذن فالعنف موجود بالقوة في طبيعة الصراع ووظيفته وليس مفروضاً عليه من خارجه.
ولعلَّنا لا نجانب الصواب حين نرى إحجام الأطفال عن تصديق انتصار البطل على خصمه وقد تبارزا بالسيف خارج منصة المسرح؛ أي بعيداً عن أنظار الأطفال، لأن الوصف والسرد أضعف تأثيراً في إقناع الأطفال بقوة البطل ومهاراته العملية في القتال أمام خصم قوي وعنيد، مما يحقق اقتناعاً غير تامٍ بجدارة الانتصار.
وعلى هذا فإن فعل المبارزة أمام الأطفال يتضمَّن بالضرورة عنفاً، ويتضمَّن إقناعاً أكيداً بأهمية انتصار البطل على خصمه، لأن الأطفال أنفسهم يعرفون ذلك بسبب ممارستهم في لألعاب صدامية مثل لعبة (عسكر وحرامية) التي تتضمَّن كثيراً من العنف الجسدي والنفسي؛ مما يجعل انتصارهم في اللعبة أمراً مثيراً لهم بسبب ما يشيعه هذا النصر من لذة كان العنف فيها أدارة هذه اللذة التي هي ثمرة الانتصار وصورته.
على أنَّ أخطر ما يجب التبيه إليه هو تزييف الحقائق والأفعال في المسرح نصَّاً وعرضاً. ولَكَمْ نبَّه إلى ذلك المخرج العظيم والمربِّي المسرحي الروسي ستانيسلافسكي. ولهذا يمكن القول: ما أكثر ما قُدِّم من عروض مسرحية للأطفال فيها الكثير من التزييف! غير أن الأطفال سوف يدركون ذلك سريعاً بسبب خبراتهم الناجمة عن ألعابهم الجسدية العنيفة. ولكن لا بد من الاحتراز على العنف المبالغ فيه، لأنَّ المبالغات غير المبررة تشكِّل مواقف سلبية مضادة للنَّص والعرض بكل مكوناتها، مما يعني أنه لا بد من الحرص الدائم على احترام الأطفال، وتمتيعهم بحكاية مشوِّقة متسلسلة زمنياً، وبأحداث مترابطة ومعقولة، وابتعاد عن التطويل والاستطرادات والحشو وغير ذلك مما لا فائدة منه، وفيه.
إنَّ الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي للأطفال ليسا بالأمر السهل. ليس لأن ذلك يتطلَّب وعياً بعالم الأطفال ومشاعرهم، وأساليب تفكيرهم، واحتياجاتهم الروحية وحسب، بل لأننا مطالبون عل الدوام بإظهار احترامنا الصادق لهم ككائنات مفكِّرة حساسة، مُدرِكة، وأن نتوجَّه إليهم كأناس بالغين، وكأطفال في الآن نفسه، لأنهم يستطيعون فهم عواطف الكبار وانفعالاتهم. ولكنهم أيضاً يمتلكون عواطفهم غير الناضجة بعد.
تبرز لدى الأطفال حاسة الاندهاش جليَّة، واضحة، من كل شيء. وهي حاسة منفصلة عن الحياة معظم الكبار، لأن قدرة الأطفال على التصديق أكبر منها عند الراشدين. إنَّ الأطفال يدركون الأمور بعمق أكثر لأنهم أقلُّ امتلاء، وأقل كَبتاً. وهم يتقبلون الأمور بمقدرة بدائية نقية غير ملوثة، أو معقَّدة حسب قول المُربِّي ومخرج مسرح الأطفال موسى مولدبرغ. بل إنهم يميلون على الدوام إلى التشارك بعضهم مع بعض بغيريَّة عالية ومن دون أنانية، خاصة اللعب، وهذا هو صلبُ العملية المسرحية من جهة العرض الذي لم يدركه إلا قلة من المخرجين المسرحيين الذين يتوجَّهون إلى الأطفال!

5= الأساليب الرمزية:
لقد أثبتت التجارب المسرحية العالمية الموجَّهة للأطفال نجاعة الأساليب الرمزية المسرحية لأنها أقرب إلى لهوِ الأطفال من الأساليب الواقعية والطبيعية. وذلك لأن ممارسات الأطفال ذاتُ طابعٍ خياليٍّ محض. أي إنها ذاتُ طابعٍ رمزيٍّ. وهم أيضاً ميَّالون إلى الأداءات الإيمائية والتمثيل الصامت والرموز السِّريَّة والكلم الملغِزِ الرمزي والأحاجي، ل،ها جميعاً تشكِّل أدوات اتصال ممتعة فيما بينهم.
إنَّ الأطفال يتماهون على الدوام بما حولهم، وبما بين أيديهم من أدواتٍ وأشياءٍ وأغراضٍ. وهذا يعني أن استخدام الأساليب الرمزية في المسرح يغني الصورة البصرية والرغبة في التماهي والإسقاط، ويعزز عملية اندماج الأطفال بالعرض المسرحي عن طريق اندماجهم بالشخصية النموذج وبالأحداث التي تجري أمامهم، خاصة وأنَّ الأطفال يستمتعون بكل أنواع اللعب الإيهامي، فإذا ما قدمنا لهم صورة من بساط الريح من خلال بساط عادي أو سجادة بالية، أو استخدمنا عصا على أنها بندقية أو سيارة.. إلخ، عبر حلول بصرية جذابة وحركة مسرحية باهرة وإضاءة مثيرة لحققنا إثارة ومتعة لا تعادلها متعة السرد والحكي على الإطلاق، وذلك لأن الأطفال يعيشون التجربة التي كانوا قد عايشوها فوق عيدان أحصنتهم الخشبية، أو طائراتهم الورقية، أو بنادقهم الكرتونية!

6= اللغة الشعرية:
الجدير بالتأكيد عليه هو أنَّ الأطفال يحبون لغة الشعر ويفضلونها على النثر في المسرح، خاصة الكلمات التي يوحي لفظها بمعناها بسبب قيمتها الموسيقية والإيقاعية، ناهيك عن أن الشعر يمتلك قوة سحرية بسبب مجازاته واستعاراته وتشبيهاته وغموضه الفني الشفاف.
لكن الجانب الأكثر امتاعاً هو تلك الأنغام التي تنبعث من موسيقا التراكيب الشعرية، ومن تلك الإيقاعات المنسجمة التي توفِّرها السطور الشعرية المتنوعة والمختلفة الأطوال ووالموجات والأصوات اللغوية والعوالم التصويرية. بل إن لغة الشعر.. (تتَّصف بصفتين إحداهما الأخرى: الأولى هي الإيقاع، والثانية هي الصورة، وارتباط هاتين الصفتين أو القيمتين بالانفعال أمر لا نحتاج إلى تأكيده، فالانفعال اهتزاز، والاهتزاز سمة الإيقاع، والانفعال ظلُّ دلالةٍ وإيحاء لا يمكن إيصالهما بالتعبير وإنما بالصورة).. (2)
إذا كان الشعر تصويرياً، أو صورة والمسرح صورة حركية فهذا يعني أن اجتماع الصورتين يدعمان بشكل أكيد حيوية التلقي الممتع عن طريق الإيقاع الذي هو اهتزاز ممتع. ولعل مثل تلك الخصائص تلتقي مع لغة الأطفال التصويرية الرمزية كما هي لغة الإنسان البدائي. وبالتالي يلتقي الطفل بذلك الإنسان وبالشاعر في عملية إبداعية مدهشة!
وكما تفعل المشاهد البصرية المتنوعة إيقاعياً من حيث الطول والتوسط والتعقيد والبساطة، كذلك تفعل اللغة الشعرية، خاصة عندما تكون هناك مواقف عاطفية وإنسانية، وحين تكون هناك تمائم لغوية سحرية وغرائبية تضفي على الجو العام عرابة وغموضاً وتوقعات تحبس الأنفاس وتعزز التشويق لانتظار انفراج في الحبكة الثانوية أو الحبكة الرئيسية، أو ما يتعلَّق بمصير البطل المحفوف بالمخاطر.
إنَّ اللغة الشعرية بما هي كثافة عاطفية هي في جوهرها انفعال ذو أثر بالغ الأهمية بالنسبة لإدراك الموقف الدرامي من قبل الأطفال، وذلك لأن اللغة الشعرية وفق هذا المستوى لا تقل أهمية وفاعلية عن فاعلية الصورة ذات الألوان والإيقاعات المتنوعة والدالة.
وإذا كان الشعر مسبوكاً وفق موازين شعرية إيقاعية تقليدية، أو وفق نظام التفعيلة، فالأجدى أن تكون تلك الموازين قصيرة، خفيفة، وأن تكون سطور شعر التفعيلة قليلة عدد الكلمات ليسهل على الأطفال قراءتها في حال القراءة، أو فهمها ووعيها وتذوقها في حال السماع، ليشكِّل ذلك كله تناغماً إيقاعياً جميلاً مساعداً على تتبع الأحداث وانفعالات البطل النموذج الخيِّر، والعدو الشرير، والشخصيات الأخرى، ووعي مضامين النص المسرحي ومغزاه، خاصة الأغاني التي تكون مصحوبة في العادة بموسيقا ورقص تعبيري. وعلى هذا فالتنويع في الإيقاعات اللغوية يعمل على زيادة فاعلية التأثير التي تحدثها تنويعات إيقاعات المشاهد والألوان والإضاءة والديكورات والحركة والملابس وغير ذلك.

7= التكرار:
وإذ كان الأطفال ميالين دائماً إلى تكرار كلامهم وألعابهم وحركاتهم وتعاويذهم وأحجياتهم من دون ملل أو كلل فهذا يعني أنهم يحبون التكرار المُنتج والبناء في المواقف الدرامية، شرط أن تُفيد هذه التكرارات في بناء ركنٍ من أركان الموضوع الدرامي المطروح، أو في تطوُّر الشخصية أو جانب من جوانبها النفسية أو العاطفية أو الاجتماعية وغير ذلك، لأن الأطفال يستطيعون بذلك أن يجدوا مبرراتٍ لتوقاعتهم الدائمة حول ما يجري أمامهم.
بل إنَّ التكرار أحد السمات المهمة في عملية دمج الأطفال في أجواء المتعة كما يحصل في مشاهد السيرك حيث يقوم المرجون بتكرار الحركات المتعثِّرة فوق حبل مشدود مرتفع فوق الأرض، وفي كل محاولة سقوط تنبهر الأنفاس وينشط الترقُّب والقلق والخوف الشفاف حتى يحل المحرج مشكلته وينتصر أخيراً على صعوبات المشي فوق الحبل أو الكرة.. إلخ
إنَّ التكرار المنتج هو دعوة إلى المحاولات الجادة لإنجاز ما هو معوَّق لنجاحاتنا ومكرَّس لإخفاقاتنا. وهذا يعني أن التكرار يتضمَّن الفائدة لأنه يتضمن التصحيح الدائم والتعزيز المستمر للغة والسلوك والقيم، كما يتضمن المتعة الناجمة عن هذا التصحيح والتعزيز، خاصة إذا قدَّرنا أن التكرار نوع من اللعب المقصود بهدف المتعة.

8= الحركة المسرحية:
تبدو أهمية الحركة واللعب في المسرح وشيجة الاتصال بالأطفال، لأن ذلك نابع من ميلهم الفطري إلى النشاط البدني والعنف، شرط أن يكون ذلك صادقاً ومنسجماً مع طبيعة الدراما، وليس محشوراً في العرض المسرحي حشراً.
إنَّ ما هو مطلوب من المؤلف والمخرج كصانعين مبدعين للعرض المسرحي هو أن يعملا مع الممثلين والفنيين الىخرين على تقديم مسرح حركي آخذين بعين الاعتبار القول المشهور الثابت مسرحياً وتربوياً: (أظْهِرها.. ولا تَقُلها) كما ينقل لنا مخرج مسرح الأطفال “موسى كولدبرغ)..(3).. وكما أكدت مراراً عالمة التربية ومخرجة مسرح الأطفال “وينفريد وارد” في كتابها الجيد “مسرح الأطفال”. مما يؤكد أن الأداء المسرحي هو رؤية بصرية وقد علمنا أن المسرح فعل وليس رواية أو سرداً.
وما دام الأطفال ميالين بطبيعة تكوينهم إلى الحركة فإنَّ مسرحية الأطفال أفضل نوع أدبي وبصري يتَّسع، وبديمقراطية عظيمة، لفنون أدائيةٍ أخرى لها آثارها المدهشة، كالرقص والغناء والأكروبات والإيماء وغير ذلك مما قدَّمنا سالفاً. ولهذا يعاني كتَّاب الأطفال والمخرجون معاناة شديدة لإنجاز عرض مسرحي مليء بالصور الجميلة المتقَنة والمفيدة. لكنَّ الأعم من هؤلاء الكتَّاب والمخرجين لا يُعيرون الغناء والرقص أهمية جادة، وإذا فعلوا فإنهم لا يوظَّفون ذلك توظيفاً مفيداً.
وغذا كان المسرح على الدوام قائماً على الحركة المعبِّرة بكل مستوياتها فهذا يعني أنَّ الحركة لغة إشارية ذات دلالات متنوِّعة وكثيرة تتضمَّن التمثيل الصامت والإيماء. كما تتضمَّن حركة الإضاءة والملابس والديكورات والأغراض واللوازم المسرحية لأنها مرتبطة دائماً بحركة الشخصيات في المكان والزمان. ولذلك فإنَّ العناية بالتشكيل الحركي المدروس والواعي لطبيعة العلاقات الدرامية يعني تعميقاً لمضمون النص المسرحي وعلاقات الشخصيات بعضها مع بعض وهي في حالة الصراع المنشود من جهة الإخراج من خلال الصور المقترحة، الأمر الذي يحوَّل العرض إلى صور بصرية دالة ومعبِّرة.
إنَّ الحركة في المسرح هي الصورة المادية الملموسة لدوافع ونوازع داخخلية، بل إنها في الجوهر تجسيد للداخل الخاص بالشخصية الذي هو الفعل الدرامي ورد الفعل لأن الصراع المسرحي ينتج عن صدام بين طرفين متناقضين، ومتكافئين.
والحركة- بناء على ذلك- أكثر إيحاء من الكلمة، لأانها علامة. بل إن الحركة أكثر انطباعاً ورسوخاً في الذاكرة من الكلمة لأنها حركة أجساد وأرواح، وألوان، وإضاءة، وملابس، وغير ذلك. وهي تنسجم مع ميل الأطفال إلى الحركة الجسدية بعامة. وهذا أمر تستدعيه الضرورة الدرامية، كما تستدعي الحركة ضرورة النماء لدى الأطفال.
والحركة أعلى صوتاً من الكلمة لأنها أكثر بروزاً وحضوراً وفاعلية، كونها تسيطر على عيون الأطفال بخاصة، والمتفرِّجين من الكبار بعامة، كما تسيطر على عقولهم وأفهامهم. ولهذا فإنَّ مسرح الأطفال يحتاج إلى فنانين مبدعين؛ كتَّاباً ومخرجين وممثلين ومصممي ديكور وملابس ومؤلِّفي موسيقا. بل إنَّ “ستانسلافسكي” طالب الممثلين على الدوام بأن يكونوا في مسارح الأطفال أفضل تمثيلاً، لأان تأثيرهم سيكون أفضل، وأكثر عمقاً منه لدى الكبار. للاعتبارات السالفة، ولغيرها، فإنَّ أوَّل لبنة في العرض المسرحي تقوم على وعي المؤلف المسرحي لطبيعة ووظيفة نصه الأدبي؛ أعني فاعليَّته في جمهور الأطفال. ولهذا فإنَّ اختياره لحكايته منوط باهتمامات الأطفال أنفسهم وتوقِقهم إلى حكايات ترضيهم متعةً وفائدة. وبالتالي فإنَّ على المخرج المسرحي أن يتلقَّط جوهر النص المسرحي ليصوغه حركةً منظَّمةً جميلة ومشوِّقة.

9= اللعب:
لقد أجمع علماء تربية الأطفال على أنَّ (اللعب) هو أحد أهم وأنجع الوسائل التي تحقق المتعة والفائدة للأطفال في مختلف سِنِيِّ حياتهم كتطور طبيعي وصحي. وذلك لأن اللعب ليس مجرد تفريغ للشحنات الانفعالية والعصبية قدر ماهو تقويمٌ وتعزيزٌ للطاقات الانفعالية وتنظيمها ودفعها نحو عمل خلَّاق نفسياً وفكرياً وأخلاقياً وجسدياً.
لقد قدَّم علماء النفس والتربية تعريفات عديدة ومختلفة للعب. وبالرغم من اختلافهم فقد اتَّفقوا جميعاً على أنه نشاط يقدِّم –أو خبرة تقدِّم- للأطفال المتعة.. (4).. وسواء أكان هذا النشاط مقصوداً لذاته أم لا فإنَّ ما هو موجود بالقوة في تعريفاتهم هو أنَّ اللعب يقدِّم الفائدة للأطفال عن طريق التكرار في اللغة والحركة والمسرحية والرقص والغناء والإنشاد وغير ذلك. وهذا ما تحققه الشعرية التي تسمح بكل شيء.
1- انعكاس للواقع
2- وذو طابع ذاتي
3- ويوحِّد بين الصورة والفعل والكلمة
4- ويتدَّرج من التلقائية إلى النظام
5- وأنه مظهر من مظاهر النمو. (5)
فإن تلك الخصائص والمزايا تتجلَّى بأبهى صورها عبر المسرح الذي هو نشاط جماعي-اجتماعي منظَّم ومنضبط ومقصود بذاته لصالح الأطفال جميعاً.
وعلى هذا فإنَّ (اللعب) يقوم بدورهم في حياة مجتمع الأطفال، لأنه يدمجهم بعضهم مع بعض في عملية تشاركية واحدة شرطها الرئيس هو اللعب الإيهامي، وتقبُّلُ الأطراف كافة لهذا الإيهام على مستوى التصديق الكلِّي، مما يعني أن تلك العملية الجماعية لها قوانينها ونُظمها المعتَبَرَة والمنضبطة. وهذا يعني أيضاً أن اللعب الجماعي سلوك اجتماعي ثقافي معرفي بالغ الأهمية باعتباره إنجازاً جماعياً، لأن أي عرض مسرحي كما قدَّمنا هو (ممثل+ متفرِّج) يشتركان معاً في إنجاز هذا العرض، وغياب أحدهما يلغي المشروع كله!
إنَّ تحقيق اللعب في أي عرض مسرحي مرتهن بجودة النص الدرامي وتكامليته أولاً، وإذ لا بد له من توفير أحداث ذوات طوابع حركية في المكان والزمان وعلى مدى تطور الحبكة والشخصيات والصراع وغير ذلك، وبجودة التفكير الفني الخلَّاق لدى المخرج، وببراعة أداء الممثلين حركيَّاً ثانياً، وجمال تصميمات مصممي الفضاء المسرحي من ديكورات وملابس وإضاءة وأغراض مسرحية وموسيقى ورقص وغناء وغير ذلك مما يستدعيه العرض المسرحي الحيوي والممتع!

10 = الإيقاع:
لِنُذكِّر على الدوام أنَّ العرض المسرحي هو صور يتتابع بعضها وراء بعض في نظام يعتمد على الظهور والاختفاء ما دامت الحكاية تسير وفق منطقها الفني الدرامي. وهو منطق إيقاعي باهر، لأن الظهور والاختفاء لا يطالان الرؤية البصرية وحسب، بل يطالان البنية الإيقاعية للعرض المتمثِّلة ببنية النص أولاً. فحيث يجب أن تكون هناك مشاهد طويلة لا بد وأن تتبعها مشاهد قصيرة أو متوسطة الطول. وحيث يجب أن تكون هناك أداءاتٌ سريعة لا بد وأن تتبعها أداءاتٌ بطيئة أو متوسطة السرعة. وحيث تكون هناك ألوان فاقعة لا بد وأن تكون هناك ألوان أكثر هدوءً، وهكذا، لتوفير انسجام إيقاعي من خلال الاختلاف والتنوع. ومن المؤكد أن ذلك كله إنما ينبع من طبيعة الأحداث الدرامية ومهمات الشخصيات وفاعليتها في الأحداث، كما هي ناجمة عن طبيعة الصراع الدائر بين الشخصيات المتضادة والمتناقضة.
لهذا لا بد من اختراع، أو استلهام، حكايات تتوافر فيها تلك السمات الآنفة، خاصة الشخصيات المُحببة للأطفال التي يظهر فيها دور البطل الخيِّر ودور البطل النقيض الشرير كإرادتين حرَّتين واعيتين ومتناقضتين ومتكافئتين في القوة، ومتصارعتين من دون أي تعسُّف أو إكراه لجعل البطل الخيِّر خارقاً ومفارقاً للواقع، أو جعل البطل المضاد الشرير ضعيفاً خائرَ القوى ومتعثراً في كل شيء، وغبياً… إلخ، وكما يجري للأسف في كثير من النصوص المسرحية المنشورة، أو العروض المليئة بالجهل وعدم الدراية والخبرة التربوية، لأن مراعاة الوضع الإنساني يشكِّل الأمثولة التربوية للأطفال، ولأن البطل النموذج هو المثال التربوي الذي يتعرَّض لأنواع كثيرة من المصاعب والمآسي والمشكلات العويصة، وعليه أن يجتازها ويتجاوزها بنفسه وبخبرته وجهده، وبمساعدة آخرين من نوعه ضدَّ قوى الظلم والشرد والعدوان.
في تلك النقطة بالتحديد يبرز دور العرض المسرحي كصورة مرئية للأطفا. ولتحقيق ذلك فإن على المخرج أن ينطلق في صياغة عرضه من جملة أسئلة مهمة وهي:
1- لِمنْ سأُقدِّم العرض؟ = تحديد الجمهور,
2- ماذا سأُقدِّم لهذا الجمهور = الحكاية موضوعاً ومضموناً.
3- أين ومتى سأقدِّم العرض؟ = تحديد المكان والزمان.
4- كيف ساُقدِّم العرض؟ = شكله البصري- الصوري.
إنَّ السؤال الأخير هو أخطر وأهم الأسئلة لأنه يتضمَّن الأسئلة السابقة، إذا يتوقَّف على الإجابة إنجاز الصورة الكلية البصرية التي يجب أن تستحوذ على قلوب وعقول الأطفال، والكبار، متعةً وفائدة.
إنَّ العرض المسرحي كلٌّ لا يمكن تجزيئه على الإطلاق لأنه يشكِّل أمثولة مدهشة يتعلَّم منها الأطفال من دون قسر أو إكراه أو موعظة مباشرة فجَّة. وما دمنا حريصين تربوياً وفنيَّاً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً على إنجاز تربية فاضلة فإنَّ الحرص على مسرح الأطفال ضرورة وطنية وقومية قَدْرَ ما هي ضرورة تربوية واجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج: موسى غولدبرغ. ص144. ترجمة صفاء روماني دمشق. وزارة الثقافة 1991
(2) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: الدكتور نيعم اليافي. ص 17- وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1982
(3) –انظر كتابه”مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج”: ص 152. والقول لكاتبة الأطفال المسرحية (تشارلوت تشورينغ).
(4) –انظر كتاب سيكولوجية اللعب: ص23-24-25. للدكتورة أمل الأحمد والدكتور علي منصور. جامعة دمشق 2004-2005. وانظر كتاب سيكولوجية اللعب: تأليف سوزانا ميلر حول تعريف اللعب والنظريات القديمة والحديثة التي عنيت باللعب، خاصة الفصل الثاني بعنوان (اللعب في نظريات علم النفس). ترجمة الدكتور حسن عيسى. مراجعة الدكتور محمد عماد الدين اسماعيل. عالم المعرفة 120. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت 1987
(5) سيكولوجية اللعب: من ص27- إلى ص31.
المراجع:
1- مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج: موسى غولدبرغ.
2- مقدمة لدراسة الصورة الفنية: الدكتور نعيم اليافي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1982
3- كتاب سيكولوجية اللعب: الدكتورة أمل الأحمد والدكتور علي منصور. جامعة دمشق 2004
4- كتاب سيكولوجية اللعب: تأليف سوزانا ميلر ترجمة الدكتور حسن عيسى. مراجعة الدكتور محمد عماد الدين اسماعيل. عالم المعرفة 120. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت 1987
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش: المحاضرة ألقيت اليوم بتاريخ 10 آذار-2014 في قاعة السينمار- كلية الآداب- جامعة البعث من ضمن النشاطات الثقافية لشهر آذار لإتحاد الكتاب العرب -فرع حمص- بالتعاون مع نقابة المعلمين بجامعة البعث. — مع ‏سامر محمد إسماعيل‏ و ‏‏51‏ آخرين‏.

صورة: ‏العرض المسرحي الطفلي.. "رؤية نقدية"
للباحث والكاتب الأستاذ محمد بري العواني..

مقدمة:
إنَّ الحديث عن مسرح الأطفال لا يغادر البنية الرئيسة المكوَّنة لهذا الفن الذي يقوم على ضرورة وجود ركنين رئيسيين في العملية المسرحية هما:
1- الممثل
2- المتفرِّج
ومن دون هذين الركنين لا وجود للمسرح، ولا لعرض مسرحي. لأن المسرح منذ نشأته الأولى كان يعني-ومايزال وعلى الدوام- أنه مكان للرؤية، أو المشاهدة، أو الفرجة.
وعلى هذا فإنَّ عرضاً مسرحيَّاً موجَّهاً للأطفال لا بدَّ له من مراعاة الاعتبارات التربوية والفنية من حيث اختيار النص، شكلاً وموضوعاً، ومضموناً، واتجاهاً جمالياً وسلوكيَّاً، وهدفاً تربويَّاً اجتماعياً، لتعزيز وتكريس العملية التربوية الشاملة، وتحقيق المتعة والفائدة، إضافة إلى اعتبار مكان العرض وزمانه وطوله وشكله، ومكوناته وعناصره.. إلخ. ولسوف نناقش أهم مكونات وعناصر العرض المسرحي الموجه للأطفال في ما يلي.

1= النص المسرحي الدرامي:
ما يجب التنبيه إليه هو أنَّ النص المسرحي الأدبي يشكِّل مدار الجدل الدائم والحوار النقدي المستمرِّين بين المتخصصين، والمحترفين، والهواة، والمربين، وعلماء التربية وعلماء نفس الطفل. وقد اتفق الجميع على أن البنية الفنية لنص الأطفال المسرحي لا تختلف عن النص المسرحي الموجَّه للكبار.
غير أننا في نصوص الأطفال مدعوُّون إلى تقديم الأفكار والمعاني الإنسانية النبيلة كالحرية، والعدالة، والمساواة، والاشتراكية، والثواب، والعقاب، والحق، والخير، والجمال، وغير ذلك، في أشكالٍ حركيَّةٍ وأحداثٍ وأفعالٍ تقوم بها الشخصيات ولا ترويها للأطفال رواية، لأن الحركة أقوى من اللغة، وأعظم تأثيراً وثباتاً في الدماغ البشري. وهذا هو مضمون كلام أرسطو من أن المسرح- التراجيديا- فعلٌ وأحداثٌ، وليس رواية وسرداً. هذا من جهة.
من جهة أخرى فإنَّ الأطفال، كالكبار، يرفضون الحديث عن الأفكار المجرَّدة في المسرح، لأنهم لا يمكنهم إدراك المعاني والمفاهيم المجرَّدة.
ولما كان بعض مكوِّنات النص المسرحي واضحاً ومدركاً مباشرة كالمكان والزمان والملابس وأسماء الشخصيات والإضاءة... إلخ. فإنَّ عناصر أخرى في الحكاية والعرض كالتمهيد والعقدة والمشهد الإجباري والصراع وعوالم الشخصيات الداخلية تظلُّ مغلَّفة بأسرار الصنعة الماهرة، حيث يظن بعض المسرحيين، أو المُتطفِّلين على المسرح، كُتَّاباً ومخرجين وممثلين بأنّ مجرَّد إطلاق اسمٍ على شخصية تتكلَّم يعني وجود هذه الشخصية درامياً، وبأنَّ مجرد وجود حوار صاخب بين شخصيَّتين هو صراع. هذا يعني أن تبسيط الحكاية وتبسيط وتقزيم مكوناتها سوف يُقزِّم معه تلك المكونات الفنية والدرامية والفكرية. ومن المؤكد أنَّ هذا التبسيط الفاحش في النَّص المسرحي الطِّفلي هو الذي يجعل من العرض المسرحي تزييفاً وتزويراً للفن.
ولعلَّ غيابَ الملامح الفردية الخاصة بالشخصية الدرامية وغيابَ هدفها الدرامي الذي تفتقده في الأعم الأغلب من النصوص المسرحية المكتوبة للأطفال، وغياب البطل المضاد السالب هو ما يمنعها من أن تكون شخصية برغم كل ما تقوله من كلام؛ شعراً كان أم نثراً، ومهما كانت بلاغة هذا الكلام أو الحوار، ومهما ادَّعى المؤلِّف المسرحي أو المخرج ذلك، وهو ما يمنع من أن يكون النص والعرض جديرين بالمتعة والفائدة!
نقول ذلك لأن الأطفال الأطفال يتوقون على الدوام إلى بطل يتماهون فيه لأنهم يحبونه، مما يعني أن الشخصية- البطل والأحداث التي تجري أمام الأطفال واقعٌ منظور دائماً كونه مجسَّداً في علاقات حركية تناحرية.
أما غياب الصراع لعدم وجود أطرافٍ أندادٍ فإنه يجعل من النص والعرض مجرد ثرثرة لا طائل منها. لذلك نجد أن هذا النوع من اللا مسرح يفتقد إلى التشويق والتحفيز والإثارة والفاعلية، ,إلى كل ما يشجِّع على متابعة الحكاية والعرض، لأنه لا شيء يجري، أو يحدث، برغم وجود الموسيقا والرقص والغناء والاستعراض وتوافر عناصر الفرجة الأخرى، وما أكثر هذه العروض التي رأيناها في سورية على الأقل، أو ما شاهدناه من عروضٍ عربية من خلال التلفاز! ولهذا فإنَّ الصراع حركةٌ، وحركةٌ مضادة؛ أي هو فعلٌ وردُّ فعلٍ. إنه بالتحديد أفعال تجري أمام الأطفال مباشرة، والآن.
لذلك كان لا بدَّ من إثارة السؤال الأكثر أهمية في أي عرضٍ مسرحيٍّ بعامة، وفي العرض المسحري الموجه للأطفال بخاصة، هو:
• على من سوف نركِّز انتباهنا ومتابعتنا من الشخصيات المسرحية الفاعلة كمتفرِّجين؛ كباراً وصغاراً، وذلك ضماناً لاستمرار طقوس الفرجة القائمة على الاهتمام بمركزية الحكاية، ومركزية أبطالها المتصارعين، ومركزية الحدث الدرامي من جهة؟
• وعلى ماذا نركِّز انتباهنا من جهة الأفعال والصراع من جهة أخرى؟
وذلك لأن هذين السؤالين يشيران بوضوح مطلق إلى حيوية العرض المسرح وفاعليته وتأثيره في جمهوره أياً كان نوع هذا الجمهور!

2= التماثل والتماهي مع الشخصية النموذج:
إنَّ أهميَّة الحركة التي نتكَّلم عنها لا تقلل من أهميَّة النص المسرحي، لأن هذا النص سوف يحدد الشخصية الرئيسة التي سوف يتعاطف، أو يتماثل معها الأطفال الذين يبدون اهتمامهم أولاً بأول بمعرفة من هو البطل؟ بغض النظر عن كون هذا البطل طفلاً أو كبيراً! ولهذا لا بد من التأكيد الدائم على العناية ببناء شخصية البطل موضوعةً في إطار الفعل الدرامي، وليس الوصف والسرد الكلامي، وفي مواجهة الشخصية المضادة للبطل، باعتبارها الدافع عن الرئيس دراميَّاً إلى التَّطور الخلاق، لأن من صداميهما وصراعيهما تنشأ الأحداث المسرحية المشوِّقة والمثيرة والمحفِّزة على متابعة العرض بكليته.
ما يبدو مهماً في تلك النقطة هو أنَّ الأطفال سوف يتماثلون مع شخصية البطل لأنه نموذجهم التوَّاقون إليه، لأنَّ التَّماثل هو علاقة إدراكية مع الذات؛ علاقة تقوم على فكرة التَّشابه بين الذات والنموذج الذي يتم إدراكه حسيَّاً.
بل إنَّ التماثل ينبع أصلاً من حاجة الأطفال إلى شيء ما؛ هو الشيء نفسه الذي تعيشه، أو تعمل له من أجله الشخصية النموذج. إنَّ الأطفال يتوقون إلى ما يرغبون في أن يكونوه على الدوام ولا يرغبون في ما هو كائن. وهنا بالتحديد  يكمن جوهر الشخصية النموذج المتمثِّل في أنه يحدد بشكل غير مباشر ما يمكن أن- أو ما سوف- يكون عليه الأطفال في المستقبل. إذن: إنَّ الشخصية النموذج في مسرح الأطفال هي مشروع صيرورة وكينونة شخصيات الأطفال المستقبلية.
ولهذا وجب على الكاتب والمخرج المسرحيَّين أن يصوغا البطل النموذج بدقة ووعي من الداخل والخارج من دون أن ينسيا أنَّ البطل لن يصبح كذلك ما لم يُزَجَّ في صراع مع الطرف الآخر النقيض له لكي يتم تبنِّي الشخصية النموذجية من قبل الأطفال والتَّعلُّم من خلال أفعالها وسلوكها مجموعة القيَّم والأهداف التي يسعى إليها العرض المسرحي. وهذا يتطلَّب مؤلِّفاً ومخرجاً  مثقفين واعيين بعالم الأطفال، قدر ما هما فنانان مبدعان. كما يتطلَّب الأمر ممثلين وفنِّين لا يقلون ثقافة ومعرفة عن المؤلف والمخرج.
وعلى هذا فإنَّ العرض المسحري بعامة، ومسرح الطفل بخاصة، هو عض حركي مرئي. أي إنه صور مرئية وصوتية مسموعة متتابعة تخضع لحتمية الظهور والاختفاء والنور والظل.
إنه صور ما إن تظهر حتى تختفي، وما إن تختفي حتى تظهر بفعل التعاقب الزمني الخطِّي إلى أن تكتمل حكايةُ-حبكةُ- العرض في صياغات تكوينية جمالية معبرة.
وما دامت الحركة صورة، والعكس صحيح، فإن للصورة الحركية جملةً من الوظائف الجوهرية التي لابد من تحقيقها:
1- على الصورة أن تحكي عن شيء، أو أن تحكي قصة.
2- على الصورة أن تُبلوِر مشاعر الأطفال بشكل حسي ملموس، وأن اثير ذلك لدى جمهور الأطفال.
3- على الصورة أن تُبلوِر العلاقات الدرامية بما هي علاقات اجتماعية متناحرة بحسب مهام كل شخصية وأهمية هذه المهام.

3= الصراع المسرحي- الدرامي:
وعلى هذا لا بدَّ للمؤلِّف والمخرجِ والممثل وجميع الفنانين الآخرين من مراعاة التوازن بين الخير والشر في النص والعرض لضمان الفاعلية المسرحية والتأثير العاطفي في الأطفال.
إنّ النمط الرَّثَّ للشرير المضحكِ الذي يتعثَّر في مشيته فيقع دائماً، أو يتلعثم في كلامه فلا تفهم منه شيئاً، أو الذي يبدأ بفعل أو عمل ولا يقدر على إتمامه لهو أمرٌ بالغ السوء. لأن ذلك كله سيجعل من البطل الخيِّر عرضةً للسخرية باعتباره غير كفءٍ في ميزان الصراع. لأن البطل الشرير المضاد مًعوَّق وعاجزٌ، مما يجعل القوتين المتصارعتين غير متكافئتين، وهذا أول الطريق إلى التزييف والتزوير الفني والكذب على الطفل!
ولهذا يتم التأكيد، وعلى الدوام، أنَّ الصراع الدرامي لا بدَّ وأن يكون بين ‘رادتين حُرَّتين واعيَتين مُتكافِئتين مُتناقضتين على هدفٍ واحد تسعى إليه كلتاهما.
إنَّ (التحقيق الكامل للصراع في المسرحية يتطلَّب فقط أن يتجاهل الكاتب شدَّة حساسية الطفل المتّوقَّعة وأن يركز على مستوى الصراع الضروري لتطوّر الحدث. فالشر الذ لا مبرر له غير مطلوب.. والخطُّ الأساسي الذي يجب اتباعه في الصراع هو تقديم حدٍّ ممكن من الخير والشر). (1) 
إنَّ تحقيق ذلك يعني أن تظهر جميع القوى –في المسرحية- في حالة من التكافؤ والنِّديَّة والمساواة. الأمر الذي يجعل من انتصار البطل في النهاية انتصاراً مشروعاً، كونه قام على بذل الجهد والصبر والمعاناة والشجاعة والتفكير الواعي، وغير ذلك مما يجب أن يتوفَّر لكل شخصية مهما كان نوعها ومستواها وفاعليتها في الحدث وحركة الصراع. وأي تبسيط لذلك بحجة قصور وعي الأطفال وعدم فهمهم لما يجري أو عدم فهمهم للحبكات المُركَّبة هو ادِّعاءٌ غير علمي ما لم نقدِّم عرضاً ملتبساً غامضاً، أو عرضاً مُفتَّتاً غير مترابط وغير متجانس.
إضافة إلى ذلك فإنَّ البطل الذي يتم إنقاذه من الشرير بوساطة سحر أو حيلة أو قوة خارجية أو مساعدة غير مشروعة يصبح مجالاً رحباً  لسخرية الأطفال قَدرَ ما يرفضونه. لأنَّ هذا البطل غير قادر على أن يَحُلَّ مشكلاته بنفسه، من دون أن ننسى الأهمية الفائقة لمساعدة الأصدقاء المعقولة والمبررة. وهذا يعني أنَّ مثل هذا البطل ليس هو (البطل النموذج) الذي يتوق الأطفال إلى أن يكوِّنوه كما قدمنا سالفاً. وأمر كهذا يجعل النص والعرض ساذجين يميل عنهما الأطفال سريعاً.
وما دامت الشخصيات المسرحية تسعى إلى تحقيق أهداف واضحة ومحددة فهذا يعني أنها تسعى إلى إنجاز نهايات سعيدة لمشكلاتها وغاياتها. وهذا يعني من جهة الكتابة والإخراج الدراميين أنه لا بد من مكافأة تلك الشخصيات بما ينسجم مع جهودها ومعانياتها ومكابداتها التي عاشتها سابقاً. لذلك لا بد من نهايات سعيدة، وعوالم مثالية لهذه الشخصيات، تماماً كما لا بد من تقديم نهايات مُحزِنة وقاتمة لشخصيات الأشرار تنسجم مع أفعالها وسلوكياتها وأفكارها التي كانت تمنع البطل النموذج –الخير- من التقدُّم لتحقيق أهدافه، وبالرغم من أننا مُطالبون أيضاً بتقديم مشكلات الحياة الاجتماعية الواقعية بكل ما فيها من آلام ومصاعب ومصائب ونكسات. لأن الأطفال يحبُّون أن يروا، ويناقشوا مشكلات يعرفونها.

4= العنف في مسرح الأطفال:
 لقد ذهب الكثر من علماء التربية وعلم نفس الطفل وكتَّابٍ ومسرحيين ومخرجين مربّين إلى أنه لا بأس من تقديم بعض العنف على المسرح ليكون جرعة وقاية وتحصيناً مفيداً، شرط أن نُظهِر في السياق الدرامي خطر العنف على حياة الإنسان بعامة، وعلى الأطفال بخاصة، وبما يربّي موقفاً فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً لديهم للابتعاد عن العنف المدمِّر
بكل مظاهره، واتخاذ موقف مضاد منه الآن وفي المستقبل.
ولعلَّ هذه القضية تثير الكثير من الاعتراض لدى بعض المسرحيين وهذا أمر مفهوم بشكل عام لكن هذا أمر غير مفهوم حين نتذكَّر على الدوام أن مفهوم الصراع الدرامي يتضمَّن شكلاً من أشكال العنف إن لم يكن نفسه عنفاً مباشراً.
والحق أن كل صراع درامي هو في حقيقته صدام مباشر بين شخصيَّتين مُتناقضتين على هدفٍ ما، كما قدمنا سالفاً. والصدام اشتباك ينتج عنه أضرار مادية ونفسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية.. إلخ، خاصة ما كان منه صداماً جسدياً. إذن فالعنف موجود بالقوة في طبيعة الصراع ووظيفته وليس مفروضاً عليه من خارجه.
ولعلَّنا لا نجانب الصواب حين نرى إحجام الأطفال عن تصديق انتصار البطل على خصمه وقد تبارزا بالسيف خارج منصة المسرح؛ أي بعيداً عن أنظار الأطفال، لأن الوصف والسرد أضعف تأثيراً في إقناع الأطفال بقوة البطل ومهاراته العملية في القتال أمام خصم قوي وعنيد، مما يحقق اقتناعاً غير تامٍ بجدارة الانتصار.
وعلى هذا فإن فعل المبارزة أمام الأطفال يتضمَّن بالضرورة عنفاً، ويتضمَّن إقناعاً أكيداً بأهمية انتصار البطل على خصمه، لأن الأطفال أنفسهم يعرفون ذلك بسبب ممارستهم في لألعاب صدامية مثل لعبة (عسكر وحرامية) التي تتضمَّن كثيراً من العنف الجسدي والنفسي؛ مما يجعل انتصارهم في اللعبة أمراً مثيراً لهم بسبب ما يشيعه هذا النصر من لذة كان العنف فيها أدارة هذه اللذة التي هي ثمرة الانتصار وصورته.
على أنَّ أخطر ما يجب التبيه إليه هو تزييف الحقائق والأفعال في المسرح نصَّاً وعرضاً. ولَكَمْ نبَّه إلى ذلك المخرج العظيم والمربِّي المسرحي الروسي ستانيسلافسكي. ولهذا يمكن القول: ما أكثر ما قُدِّم من عروض مسرحية للأطفال فيها الكثير من التزييف! غير أن الأطفال سوف يدركون ذلك سريعاً بسبب خبراتهم الناجمة عن ألعابهم الجسدية العنيفة. ولكن لا بد من الاحتراز على العنف المبالغ فيه، لأنَّ المبالغات غير المبررة تشكِّل مواقف سلبية مضادة للنَّص والعرض بكل مكوناتها، مما يعني أنه لا بد من الحرص الدائم على احترام الأطفال، وتمتيعهم بحكاية مشوِّقة متسلسلة زمنياً، وبأحداث مترابطة ومعقولة، وابتعاد عن التطويل والاستطرادات والحشو وغير ذلك مما لا فائدة منه، وفيه.
إنَّ الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي للأطفال ليسا بالأمر السهل. ليس لأن ذلك يتطلَّب وعياً بعالم الأطفال ومشاعرهم، وأساليب تفكيرهم، واحتياجاتهم الروحية وحسب، بل لأننا مطالبون عل الدوام بإظهار احترامنا الصادق لهم ككائنات مفكِّرة حساسة، مُدرِكة، وأن نتوجَّه إليهم كأناس بالغين، وكأطفال في الآن نفسه، لأنهم يستطيعون فهم عواطف الكبار وانفعالاتهم. ولكنهم أيضاً يمتلكون عواطفهم غير الناضجة بعد.
تبرز لدى الأطفال حاسة الاندهاش جليَّة، واضحة، من كل شيء. وهي حاسة منفصلة عن الحياة معظم الكبار، لأن قدرة الأطفال على التصديق أكبر منها عند الراشدين. إنَّ الأطفال يدركون الأمور بعمق أكثر لأنهم أقلُّ امتلاء، وأقل كَبتاً. وهم يتقبلون الأمور بمقدرة بدائية نقية غير ملوثة، أو معقَّدة حسب قول المُربِّي ومخرج مسرح الأطفال موسى مولدبرغ. بل إنهم يميلون على الدوام إلى التشارك بعضهم مع بعض بغيريَّة عالية ومن دون أنانية، خاصة اللعب، وهذا هو صلبُ العملية المسرحية من جهة العرض الذي لم يدركه إلا قلة من المخرجين المسرحيين الذين يتوجَّهون إلى الأطفال!

5= الأساليب الرمزية:
لقد أثبتت التجارب المسرحية العالمية الموجَّهة للأطفال نجاعة الأساليب الرمزية المسرحية لأنها أقرب إلى لهوِ الأطفال من الأساليب الواقعية والطبيعية. وذلك لأن ممارسات الأطفال ذاتُ طابعٍ خياليٍّ محض. أي إنها ذاتُ طابعٍ رمزيٍّ. وهم أيضاً ميَّالون إلى الأداءات الإيمائية والتمثيل الصامت والرموز السِّريَّة والكلم الملغِزِ الرمزي والأحاجي، ل،ها جميعاً تشكِّل أدوات اتصال ممتعة فيما بينهم.
إنَّ الأطفال يتماهون على الدوام بما حولهم، وبما بين أيديهم من أدواتٍ وأشياءٍ وأغراضٍ. وهذا يعني أن استخدام الأساليب الرمزية في المسرح يغني الصورة البصرية والرغبة في التماهي والإسقاط، ويعزز عملية اندماج الأطفال بالعرض المسرحي عن طريق اندماجهم بالشخصية النموذج وبالأحداث التي تجري أمامهم، خاصة وأنَّ الأطفال يستمتعون بكل أنواع اللعب الإيهامي، فإذا ما قدمنا لهم صورة من بساط الريح من خلال بساط عادي أو سجادة بالية، أو استخدمنا عصا على أنها بندقية أو سيارة.. إلخ، عبر حلول بصرية جذابة وحركة مسرحية باهرة وإضاءة مثيرة لحققنا إثارة ومتعة لا تعادلها متعة السرد والحكي على الإطلاق، وذلك لأن الأطفال يعيشون التجربة التي كانوا قد عايشوها فوق عيدان أحصنتهم الخشبية، أو طائراتهم الورقية، أو بنادقهم الكرتونية!

6= اللغة الشعرية:
الجدير بالتأكيد عليه هو أنَّ الأطفال يحبون لغة الشعر ويفضلونها على النثر في المسرح، خاصة الكلمات التي يوحي لفظها بمعناها بسبب قيمتها الموسيقية والإيقاعية، ناهيك عن أن الشعر يمتلك قوة سحرية بسبب مجازاته واستعاراته وتشبيهاته وغموضه الفني الشفاف.
لكن الجانب الأكثر امتاعاً هو تلك الأنغام التي تنبعث من موسيقا التراكيب الشعرية، ومن تلك الإيقاعات المنسجمة التي توفِّرها السطور الشعرية المتنوعة والمختلفة الأطوال ووالموجات والأصوات اللغوية والعوالم التصويرية. بل إن لغة الشعر.. (تتَّصف بصفتين إحداهما الأخرى: الأولى هي الإيقاع، والثانية هي الصورة، وارتباط هاتين الصفتين أو القيمتين بالانفعال أمر لا نحتاج إلى تأكيده، فالانفعال اهتزاز، والاهتزاز سمة الإيقاع، والانفعال ظلُّ دلالةٍ وإيحاء لا يمكن إيصالهما بالتعبير وإنما بالصورة).. (2)
إذا كان الشعر تصويرياً، أو صورة والمسرح صورة حركية فهذا يعني أن اجتماع الصورتين يدعمان بشكل أكيد حيوية التلقي الممتع عن طريق الإيقاع الذي هو اهتزاز ممتع. ولعل مثل تلك الخصائص تلتقي مع لغة الأطفال التصويرية الرمزية كما هي لغة الإنسان البدائي. وبالتالي يلتقي الطفل بذلك الإنسان وبالشاعر في عملية إبداعية مدهشة!
وكما تفعل المشاهد البصرية المتنوعة إيقاعياً من حيث الطول والتوسط والتعقيد والبساطة، كذلك تفعل اللغة الشعرية، خاصة عندما تكون هناك مواقف عاطفية وإنسانية، وحين تكون هناك تمائم لغوية سحرية وغرائبية تضفي على الجو العام عرابة وغموضاً وتوقعات تحبس الأنفاس وتعزز التشويق لانتظار انفراج في الحبكة الثانوية أو الحبكة الرئيسية، أو ما يتعلَّق بمصير البطل المحفوف بالمخاطر.
إنَّ اللغة الشعرية بما هي كثافة عاطفية هي في جوهرها انفعال ذو أثر بالغ الأهمية بالنسبة لإدراك الموقف الدرامي من قبل الأطفال، وذلك لأن اللغة الشعرية وفق هذا المستوى لا تقل أهمية وفاعلية عن فاعلية الصورة ذات الألوان والإيقاعات المتنوعة والدالة.
وإذا كان الشعر مسبوكاً وفق موازين شعرية إيقاعية تقليدية، أو وفق نظام التفعيلة، فالأجدى أن تكون تلك الموازين قصيرة، خفيفة، وأن تكون سطور شعر التفعيلة قليلة عدد الكلمات ليسهل على الأطفال قراءتها في حال القراءة، أو فهمها ووعيها وتذوقها في حال السماع، ليشكِّل ذلك كله تناغماً إيقاعياً جميلاً مساعداً على تتبع الأحداث وانفعالات البطل النموذج الخيِّر، والعدو الشرير، والشخصيات الأخرى، ووعي مضامين النص المسرحي ومغزاه، خاصة الأغاني التي تكون مصحوبة في العادة بموسيقا ورقص تعبيري. وعلى هذا فالتنويع في الإيقاعات اللغوية يعمل على زيادة فاعلية التأثير التي تحدثها تنويعات إيقاعات المشاهد والألوان والإضاءة والديكورات والحركة والملابس وغير ذلك.

7= التكرار:
وإذ كان الأطفال ميالين دائماً إلى تكرار كلامهم وألعابهم وحركاتهم وتعاويذهم وأحجياتهم من دون ملل أو كلل فهذا يعني أنهم يحبون التكرار المُنتج والبناء في المواقف الدرامية، شرط أن تُفيد هذه التكرارات في بناء ركنٍ من أركان الموضوع الدرامي المطروح، أو في تطوُّر الشخصية أو جانب من جوانبها النفسية أو العاطفية أو الاجتماعية وغير ذلك، لأن الأطفال يستطيعون بذلك أن يجدوا مبرراتٍ لتوقاعتهم الدائمة حول ما يجري أمامهم.
بل إنَّ التكرار أحد السمات المهمة في عملية دمج الأطفال في أجواء المتعة كما يحصل في مشاهد السيرك حيث يقوم المرجون بتكرار الحركات المتعثِّرة فوق حبل مشدود مرتفع فوق الأرض، وفي كل محاولة سقوط تنبهر الأنفاس وينشط الترقُّب والقلق والخوف الشفاف حتى يحل المحرج مشكلته وينتصر أخيراً على صعوبات المشي فوق الحبل أو الكرة.. إلخ
إنَّ التكرار المنتج هو دعوة إلى المحاولات الجادة لإنجاز ما هو معوَّق لنجاحاتنا ومكرَّس لإخفاقاتنا. وهذا يعني أن التكرار يتضمَّن الفائدة لأنه يتضمن التصحيح الدائم والتعزيز المستمر للغة والسلوك والقيم، كما يتضمن المتعة الناجمة عن هذا التصحيح والتعزيز، خاصة إذا قدَّرنا أن التكرار نوع من اللعب المقصود بهدف المتعة.

8= الحركة المسرحية:
تبدو أهمية الحركة واللعب في المسرح وشيجة الاتصال بالأطفال، لأن ذلك نابع من ميلهم الفطري إلى النشاط البدني والعنف، شرط أن يكون ذلك صادقاً ومنسجماً مع طبيعة الدراما، وليس محشوراً في العرض المسرحي حشراً.
إنَّ ما هو مطلوب من المؤلف والمخرج كصانعين مبدعين للعرض المسرحي هو أن يعملا مع الممثلين والفنيين الىخرين على تقديم مسرح حركي آخذين بعين الاعتبار القول المشهور الثابت مسرحياً وتربوياً: (أظْهِرها.. ولا تَقُلها) كما ينقل لنا مخرج مسرح الأطفال "موسى كولدبرغ)..(3).. وكما أكدت مراراً عالمة التربية ومخرجة مسرح الأطفال "وينفريد وارد" في كتابها الجيد "مسرح الأطفال". مما يؤكد أن الأداء المسرحي هو رؤية بصرية وقد علمنا أن المسرح فعل وليس رواية أو سرداً.
وما دام الأطفال ميالين بطبيعة تكوينهم إلى الحركة فإنَّ مسرحية الأطفال أفضل نوع أدبي وبصري يتَّسع، وبديمقراطية عظيمة، لفنون أدائيةٍ أخرى لها آثارها المدهشة، كالرقص والغناء والأكروبات والإيماء وغير ذلك مما قدَّمنا سالفاً. ولهذا يعاني كتَّاب الأطفال والمخرجون معاناة شديدة لإنجاز عرض مسرحي مليء بالصور الجميلة المتقَنة والمفيدة. لكنَّ الأعم من هؤلاء الكتَّاب والمخرجين لا يُعيرون الغناء والرقص أهمية جادة، وإذا فعلوا فإنهم لا يوظَّفون ذلك توظيفاً مفيداً.
وغذا كان المسرح على الدوام قائماً على الحركة المعبِّرة بكل مستوياتها فهذا يعني أنَّ الحركة لغة إشارية ذات دلالات متنوِّعة وكثيرة تتضمَّن التمثيل الصامت والإيماء. كما تتضمَّن حركة الإضاءة والملابس والديكورات والأغراض واللوازم المسرحية لأنها مرتبطة دائماً بحركة الشخصيات في المكان والزمان. ولذلك فإنَّ العناية بالتشكيل الحركي المدروس والواعي لطبيعة العلاقات الدرامية يعني تعميقاً لمضمون النص المسرحي وعلاقات الشخصيات بعضها مع بعض وهي في حالة الصراع المنشود من جهة الإخراج من خلال الصور المقترحة، الأمر الذي يحوَّل العرض إلى صور بصرية دالة ومعبِّرة.
إنَّ الحركة في المسرح هي الصورة المادية الملموسة لدوافع ونوازع داخخلية، بل إنها في الجوهر تجسيد للداخل الخاص بالشخصية الذي هو الفعل الدرامي ورد الفعل لأن الصراع المسرحي ينتج عن صدام بين طرفين متناقضين، ومتكافئين.
والحركة- بناء على ذلك- أكثر إيحاء من الكلمة، لأانها علامة. بل إن الحركة أكثر انطباعاً ورسوخاً في الذاكرة من الكلمة لأنها حركة أجساد وأرواح، وألوان، وإضاءة، وملابس، وغير ذلك. وهي تنسجم مع ميل الأطفال إلى الحركة الجسدية بعامة. وهذا أمر تستدعيه الضرورة الدرامية، كما تستدعي الحركة ضرورة النماء لدى الأطفال.
والحركة أعلى صوتاً من الكلمة لأنها أكثر بروزاً وحضوراً وفاعلية، كونها تسيطر على عيون الأطفال بخاصة، والمتفرِّجين من الكبار بعامة، كما تسيطر على عقولهم وأفهامهم. ولهذا فإنَّ مسرح الأطفال يحتاج إلى فنانين مبدعين؛ كتَّاباً ومخرجين وممثلين ومصممي ديكور وملابس ومؤلِّفي موسيقا. بل إنَّ "ستانسلافسكي" طالب الممثلين على الدوام بأن يكونوا في مسارح الأطفال أفضل تمثيلاً، لأان تأثيرهم سيكون أفضل، وأكثر عمقاً منه لدى الكبار. للاعتبارات السالفة، ولغيرها، فإنَّ أوَّل لبنة في العرض المسرحي تقوم على وعي المؤلف المسرحي لطبيعة ووظيفة نصه الأدبي؛ أعني فاعليَّته في جمهور الأطفال. ولهذا فإنَّ اختياره لحكايته منوط باهتمامات الأطفال أنفسهم وتوقِقهم إلى حكايات ترضيهم متعةً وفائدة. وبالتالي فإنَّ على المخرج المسرحي أن يتلقَّط جوهر النص المسرحي ليصوغه حركةً منظَّمةً جميلة ومشوِّقة. 

9= اللعب:
لقد أجمع علماء تربية الأطفال على أنَّ (اللعب) هو أحد أهم وأنجع الوسائل التي تحقق المتعة والفائدة للأطفال في مختلف سِنِيِّ حياتهم كتطور طبيعي وصحي. وذلك لأن اللعب ليس مجرد تفريغ للشحنات الانفعالية والعصبية قدر ماهو تقويمٌ وتعزيزٌ للطاقات الانفعالية وتنظيمها ودفعها نحو عمل خلَّاق نفسياً وفكرياً وأخلاقياً وجسدياً.
لقد قدَّم علماء النفس والتربية تعريفات عديدة ومختلفة للعب. وبالرغم من اختلافهم فقد اتَّفقوا جميعاً على أنه نشاط يقدِّم –أو خبرة تقدِّم- للأطفال المتعة.. (4).. وسواء أكان هذا النشاط مقصوداً لذاته أم لا فإنَّ ما هو موجود بالقوة في تعريفاتهم هو أنَّ اللعب يقدِّم  الفائدة للأطفال عن طريق التكرار في اللغة والحركة والمسرحية والرقص والغناء والإنشاد وغير ذلك. وهذا ما تحققه الشعرية التي تسمح بكل شيء.
1- انعكاس للواقع
2- وذو طابع ذاتي
3- ويوحِّد بين الصورة والفعل والكلمة
4- ويتدَّرج من التلقائية إلى النظام
5- وأنه مظهر من مظاهر النمو. (5)
فإن تلك الخصائص والمزايا تتجلَّى بأبهى صورها عبر المسرح الذي هو نشاط جماعي-اجتماعي منظَّم ومنضبط ومقصود بذاته لصالح الأطفال جميعاً.
وعلى هذا فإنَّ (اللعب) يقوم بدورهم في حياة مجتمع الأطفال، لأنه يدمجهم بعضهم مع بعض في عملية تشاركية واحدة شرطها الرئيس هو اللعب الإيهامي، وتقبُّلُ الأطراف كافة لهذا الإيهام على مستوى التصديق الكلِّي، مما يعني أن تلك العملية الجماعية لها قوانينها ونُظمها المعتَبَرَة والمنضبطة. وهذا يعني أيضاً أن اللعب الجماعي سلوك اجتماعي ثقافي معرفي بالغ الأهمية باعتباره إنجازاً جماعياً، لأن أي عرض مسرحي كما قدَّمنا هو (ممثل+ متفرِّج) يشتركان معاً في إنجاز هذا العرض، وغياب أحدهما يلغي المشروع كله!
إنَّ تحقيق اللعب في أي عرض مسرحي مرتهن بجودة النص الدرامي وتكامليته أولاً، وإذ لا بد له من توفير أحداث ذوات طوابع حركية في المكان والزمان وعلى مدى تطور الحبكة والشخصيات والصراع وغير ذلك، وبجودة التفكير الفني الخلَّاق لدى المخرج، وببراعة أداء الممثلين حركيَّاً ثانياً، وجمال تصميمات مصممي الفضاء المسرحي من ديكورات وملابس وإضاءة وأغراض مسرحية وموسيقى ورقص وغناء وغير ذلك مما يستدعيه العرض المسرحي الحيوي والممتع!

10 = الإيقاع:
لِنُذكِّر على الدوام أنَّ العرض المسرحي هو صور يتتابع بعضها وراء بعض في نظام يعتمد على الظهور والاختفاء ما دامت الحكاية تسير وفق منطقها الفني الدرامي. وهو منطق إيقاعي باهر، لأن الظهور والاختفاء لا يطالان الرؤية البصرية وحسب، بل يطالان البنية الإيقاعية للعرض المتمثِّلة ببنية النص أولاً. فحيث يجب أن تكون هناك مشاهد طويلة لا بد وأن تتبعها مشاهد قصيرة أو متوسطة الطول. وحيث يجب أن تكون هناك أداءاتٌ سريعة لا بد وأن تتبعها أداءاتٌ بطيئة أو متوسطة السرعة. وحيث تكون هناك ألوان فاقعة لا بد وأن تكون هناك ألوان أكثر هدوءً، وهكذا، لتوفير انسجام إيقاعي من خلال الاختلاف والتنوع. ومن المؤكد أن ذلك كله إنما ينبع من طبيعة الأحداث الدرامية ومهمات الشخصيات وفاعليتها في الأحداث، كما هي ناجمة عن طبيعة الصراع الدائر بين الشخصيات المتضادة والمتناقضة.
لهذا لا بد من اختراع، أو استلهام، حكايات تتوافر فيها تلك السمات الآنفة، خاصة الشخصيات المُحببة للأطفال التي يظهر فيها دور البطل الخيِّر ودور البطل النقيض الشرير كإرادتين حرَّتين واعيتين ومتناقضتين ومتكافئتين في القوة، ومتصارعتين من دون أي تعسُّف أو إكراه لجعل البطل الخيِّر خارقاً ومفارقاً للواقع، أو جعل البطل المضاد الشرير ضعيفاً خائرَ القوى ومتعثراً في كل شيء، وغبياً... إلخ، وكما يجري للأسف في كثير من النصوص المسرحية المنشورة، أو العروض المليئة بالجهل وعدم الدراية والخبرة التربوية، لأن مراعاة الوضع الإنساني يشكِّل الأمثولة التربوية للأطفال، ولأن البطل النموذج هو المثال التربوي الذي يتعرَّض لأنواع كثيرة من المصاعب والمآسي والمشكلات العويصة، وعليه أن يجتازها ويتجاوزها بنفسه وبخبرته وجهده، وبمساعدة آخرين من نوعه ضدَّ قوى الظلم والشرد والعدوان.
في تلك النقطة بالتحديد يبرز دور العرض المسرحي كصورة مرئية للأطفا. ولتحقيق ذلك فإن على المخرج أن ينطلق في صياغة عرضه من جملة أسئلة مهمة وهي:
1- لِمنْ سأُقدِّم العرض؟  = تحديد الجمهور,
2- ماذا سأُقدِّم لهذا الجمهور  = الحكاية موضوعاً ومضموناً.
3- أين ومتى سأقدِّم العرض؟   = تحديد المكان والزمان.
4- كيف ساُقدِّم العرض؟  = شكله البصري- الصوري.
إنَّ السؤال الأخير هو أخطر وأهم الأسئلة لأنه يتضمَّن الأسئلة السابقة، إذا يتوقَّف على الإجابة إنجاز الصورة الكلية البصرية التي يجب أن تستحوذ على قلوب وعقول الأطفال، والكبار، متعةً وفائدة.
إنَّ العرض المسرحي كلٌّ لا يمكن تجزيئه على الإطلاق لأنه يشكِّل أمثولة مدهشة يتعلَّم منها الأطفال من دون قسر أو إكراه أو موعظة مباشرة فجَّة. وما دمنا حريصين تربوياً وفنيَّاً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً على إنجاز تربية فاضلة فإنَّ الحرص على مسرح الأطفال ضرورة وطنية وقومية قَدْرَ ما هي ضرورة تربوية واجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج: موسى غولدبرغ. ص144. ترجمة صفاء روماني دمشق. وزارة الثقافة 1991
(2) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: الدكتور نيعم اليافي. ص 17- وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1982
(3) –انظر كتابه"مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج": ص 152. والقول لكاتبة الأطفال المسرحية (تشارلوت تشورينغ).
(4) –انظر كتاب سيكولوجية اللعب: ص23-24-25. للدكتورة أمل الأحمد والدكتور علي منصور. جامعة دمشق 2004-2005. وانظر كتاب سيكولوجية اللعب: تأليف سوزانا ميلر حول تعريف اللعب والنظريات القديمة والحديثة التي عنيت باللعب، خاصة الفصل الثاني بعنوان (اللعب في نظريات علم النفس). ترجمة الدكتور حسن عيسى. مراجعة الدكتور محمد عماد الدين اسماعيل. عالم المعرفة 120. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت 1987
(5) سيكولوجية اللعب: من ص27- إلى ص31. 
المراجع:
1- مسرح الأطفال- فلسفة ومنهج: موسى غولدبرغ.
2- مقدمة لدراسة الصورة الفنية: الدكتور نعيم اليافي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1982
3- كتاب سيكولوجية اللعب: الدكتورة أمل الأحمد والدكتور علي منصور. جامعة دمشق 2004
4- كتاب سيكولوجية اللعب: تأليف سوزانا ميلر ترجمة الدكتور حسن عيسى. مراجعة الدكتور محمد عماد الدين اسماعيل. عالم المعرفة 120. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت 1987
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش: المحاضرة ألقيت اليوم بتاريخ 10 آذار-2014 في قاعة السينمار- كلية الآداب- جامعة البعث  من ضمن النشاطات الثقافية لشهر آذار لإتحاد الكتاب العرب -فرع حمص- بالتعاون مع نقابة المعلمين بجامعة البعث.‏

من almooftah

اترك تعليقاً