الشاعر والروائي فلسطيني غسان زقطان

الشاعر والروائي الفلسطيني غسان زقطان (مواقع التواصل الإجتماعي)

ليس ثمة شك في كون الشاعر الفلسطيني غسان زقطان من الوجوه المضيئة في الشعر العربي المعاصر، ذلك أن حجم التراكم الشعري الذي حققه الرجل ودلالاته الجمالية يجعلانه في مقدمة الشعراء داخل البلاد العربية، ممن شذّبوا نصوصهم الشعرية مبكرا وجعلوها في خدمة الذات وهواجسها بدل السياسة وأحزابها.

لم يكن غسان يكتب وفق برنامج شعري مرتب وأنيق، يجعل معارف وثقافات الآخر تتواشج مع شعرية النص كنوع من كتابة قصيدة عالمة تستعرض عضلاتها ومفاهيمها وسياقاتها، بل ظل غسان حريصا على الإقامة في تخوم جسده ومشاغله الذاتية. إنه لا يكتب ليدوّن ويوثق سيرته ورحلاته ويومياته بقدر ما يكتب حتى يرجّ السلالات الشعرية ويوقظ في الجسد فتنة الشعر والجمال.

ينتمي صاحب “غرباء بمعاطف خفيفة” إلى جيل الثمانينيات في المشهد الشعري المعاصر. هذا الجيل الذي اجترح مشروعا شعريا مهمًّا في الشعر العربي، حيث أضحى للعناصر الداخلية دور بارز في تشكيل وعي النص وشعريته واحتفائه بالتقطيع والتدوير وبياض الصفحة ودخول الرسم في تشكيل النص بصريا.

هذا الأمر يتأتّى بوضوح في تجربة زقطان الشعرية، لا بطريقة زخرفية تتوّج الشكل على حساب النص، إنما كتمرين للعين حتى تسرح في مختبر الحداثة الشعرية كما تبلورت غربا، ويبرز بقوة وعي الشاعر بالإبدالات المفاهيمية والجمالية التي اخترقت النص الشعري في تلك اللحظة المهمة من تاريخ الشعر العربي، في وقت كان فيه زقطان شاعرا واعدا يحتفي بالحياة في مدينة بيروت.

وبمناسبة صدور عمله الشعري الجديد “غرباء بمعاطف خفيفة” في المغرب، كان للجزيرة نت هذا اللقاء معه:

  • شكلت بيروت لك كبقية الشعراء العرب لحظة مفصلية في تاريخ الشعر العربي الحديث، وأنت كنت آنذاك من الشعراء العرب الذين عاشوا هذا التحول المفصلي في إرساء حداثة الشعر العربي. كيف دخلت إلى بيروت كشاعر شاب؟ وما الذي ترسّب في وجدانك من ذكريات وقصائد عن تلك المدينة؟

عندما نتحدث عن بيروت في السبعينيات فنحن نتحدث عن طيف واسع من التجارب والأجيال المتداخلة، عن مستويات من التمرد وطرح الأفكار والاقتراحات، بما فيها تلك الميؤوس منها والمتكئة على قراءات السريالية والذهاب أبعد في الحفر والتجريب في مختبر تسببت به مصادفة غير مدروسة.

خليط من المأساة وأحلام الحرية حيث تصل بقايا تمرد الطلبة في أوروبا والوجودية والفوضى ونزعة تفكيك كل شيء في السياسة والفن، البطولة كموهبة جماعية، العيش خارج المركز وبناء نموذج لمركز منشود، كل هذا كان يغذي على نحو ما التيارات العميقة التي كانت تتحرك تحت المياه وتنضج هناك بعيدا عن سطوة المثال والنمط.

بيروت التي وصلنا إليها في نهاية السبعينيات كانت منطقة مفتوحة على كل التيارات والتجارب وثقافات المنطقة عربها وكردها وفوضوييها، الجميع كان يتحول إلى شاعر في بيروت، وكانت، وهذا ما جعلها مختلفة، الشراكة الفلسطينية اللبنانية والممرات المفتوحة إلى دمشق نحو الشمال السوري، والتجارب العراقية بتطرفها المدهش، كانت مختبرا حقيقيا من الفوضى والابتكار.

بعض كتب غسان زقطان
أصدر غسان زقطان أكثر من عشرة أعمال أدبية بينها مجموعات شعرية وروايات ومسرحية (الجزيرة)
  • كيف تنظر إلى جغرافية الشعر الفلسطيني الآن؟ وهل ترى أن الترجمات الكثيرة التي حظيت بها بعض التجارب قادرة على فتح المجال صوب كونية قصيدتها؟

الانتفاضة الكبرى في الضفة وغزة وحضورها في المنطقة والعالم أعادت بناء الشخصية الفلسطينية، وحررتها من عقود الاحتلال وطمس الهوية ومن الاتّكاء على أكتاف الأنظمة ودول الطوق ووهم التحرير من الخارج، وكان هذا مهما وملهما للمثقف الفلسطيني الذي تحرر بدوره من خطاب المركز وحمولاته البلاغية. اتفاقيات أوسلو، وهي اتفاقيات رديئة على أي حال، منحت الثقافة الفلسطينية مساحة للجدل بين الأدب المتشكل على الأرض.

وفي سياق المواجهة الميدانية مع الاحتلال وبين التجارب العائدة من المنفى، عودة محمود درويش إلى رام الله ومرحلة ما بعد “لماذا تركت الحصان وحيدا”، منجز جيل الثمانينات.. كل هذا كان حاضرا بقوة وقادرا على التأثير، وبهدوء تفككت الثنائية التي انبنت على الوطن والمنفى وانحسرت الثنائيات التي تشكلت منها وفي سياقها.. تحرر المنفى من منفاه البلاغي، وتحرر الوطن من جمالياته الساكنة.

لعلّي أشرت في مكان آخر إلى أنني “لا أتحدث عن اتجاه متفق عليه وحوله، أحاول وصف الأمر بتيارات متقاطعة تكاد تكون مستقلة، وتجارب مختلفة ومتحررة من ثقل “المسؤولية الوطنية” بتعريفها السياسي الصغير، هي اقتراحات جديدة تماما اختارت مصادرها واستفادت من “المنجز” ولكنها لم تخضع لشروطه، ووسعت مصادرها بحيث بدت تجربتها الشخصية وذاكرتها الفردية أكثر وضوحا في النص، ومنحت “السرد” مكانة مؤثرة في المشهد الشعري.. نصوص قريبة من الحياة الشخصية، تقترب من السيرة، ليس عبر روايتها ولكن من خلال تحويلها إلى معرفة.

أنت الآن أمام طيف واسع من التجارب والابتكارات تبدأ، ربما، من شاعر شاب يتحدث عن حمّالي الساعة الرابعة فجرا في سوق خضار نابلس إلى شاعر يلتقط صورا للشتاء الإسكندنافي ولكنك تسمع في نصوصه أصوات الفتية المتراكضين في شوارع غزة حيث تتكسر الحجارة بين الأصابع الصغيرة، وصولا إلى شاعر فلسطيني أصدر مجموعة شعرية مدهشة عن أحذية عمال المناجم في تشيلي مطلع القرن الماضي وهو يتأمل لوحة زيتية للقدس علّقها والده في الصالة.

الأمر لا يكتفي بما يحدث الآن، فكما ترى، الماضي أيضا هنا ولكن في سياق مختلف، في توسيع الماضي وقراءته على ضوء شخصي، في الاكتشاف نفسه الذي يجعل من “أندراوس سابيلا” الفلسطيني المولود في تشيلي مطالع القرن الماضي شاعرا فلسطينيا شابا ومقروءا عام 2022.

صحيح، في السنوات الأخيرة شهدت حركة الترجمة نشاطا واضحا، في المحصلة هذا جيد ولكن لا ينبغي أن يتحول إلى غاية، كثير من هذه الأعمال ستطويها العجلة وسيبقى النص القادر على الإقناع، النص القادر على تقديم خصوصيته وهويته بلغته الأولى وهواجسه الأولى دون الانحناء لفكرة إرضاء الآخر واستعارة عوالمه.

  • غسان زقطان أنت من الشعراء العرب الذين لم يزاوجوا في مشاريعهم بين الكتابة الشعرية والتنظير لها نقديا، بل عبر تكسير هذه الازدواجية بعشرات المقالات التي تتناول الشعر السياسي العربي. كيف تعيش هذا التحول والانشطار بين الشعر والمقالة السياسية؟

اخترت الصحافة، الصحافة الثقافية على وجه الخصوص لأنها على تماس مباشر مع الكتابة. في بلادنا لا تستطيع أن تعيش لأنك تكتب الشعر وتصدر الكتب، بدأت من التدريب الرياضي في الأردن والعمل في أوساط الشبيبة في لبنان قبل التفرغ في مجال الصحافة الثقافية في سوريا ثم تونس إلى أن وصلت إلى رام الله، خلال ذلك لم أفكر في بناء نظرية خاصة أو استعارة نظرية جاهزة توضح أشياء من نوع “كيف تكتب نصا جيدا” أو ترشدني إلى “النص المنشود”.

الأمر في تصوري أكثر تعقيدا من ذلك، يأتي النص أولا ثم تحدث القراءة بحمولاتها، القراءة سلم طويل من المستويات تتعدد فيها التأويلات ويتعدد فيها النص. ليس ثمة قراءة واحدة راسخة للنص، وليس ثمة نص واحد يتكرر في مخيلة القراءة.

  • صدر ديوانك الشعري الجديد “غرباء بمعاطف خفيفة” (2021) في الرباط. أي أفق ترسمه للشأن الثقافي المغربي، باعتبارك صديقا للمغرب منذ الثمانينيات وكنت شاهدا على صفحات ثقافية مهمة من تاريخه المعاصر؟

في العامين الماضيين ظهرت أكثر من طبعة لمختارات شعرية في مصر ضمن منشورات قصور الثقافة بعنوان “لو نمت قربي أمس” وبإشراف الشاعر جرجس شكري، كما صدرت مختارات عن دار خطوط وظلال في الأردن بعنوان “نسيت حقائبي في الليل” بإشراف الشاعر محمد العامري، كذلك مختارات مترجمة للإيطالية بترجمة الدكتور سيمون سيبيليو، وبالفرنسية بإشراف الشاعر الجزائري حبيب تنوير والمترجم لطفي ناي.

فضلا عن مجموعة شعرية عن دار المتوسط في ميلانو بعنوان “تحدث أيها الغريب.. تحدث” بإشراف الشاعر خالد الناصري.. ليس ضمن خطة أو برنامج بقدر ما كانت عبر مبادرات أصدقاء.

“غرباء بمعاطف خفيفة” الذي صدر في المغرب كان بمبادرة وإشراف الشاعر حسن الوزاني عن دار “ملتقى الطرق”، وهي كما تعرف دار متخصصة بالإصدارات الفرنسية وهذه تجربة جديدة لها مع الكتاب العربي.

في نظري صدور الكتاب في المغرب مهم على المستوى الشخصي، مهم ومبهج، وبالمناسبة هذا أول عمل لي يصدر في المغرب العربي.

بقي أن أشير إلى أن حالة التوجه للرواية والسرد ليست حالة مغربية خاصة، فيمكن تلمّس الظاهرة في المشرق أيضا، رغم أنني أرى أن الشعر المغاربي شهد حضورا قويا في السنوات الأخيرة عبر إصدارات لشعراء مغاربة بما فيها طبعات مشرقية وترجمات وقراءات نقدية مهمة مؤثرة مثل: محمد بنيس وياسين عدنان وصلاح بوسريف وعبد اللطيف الوراري ومراد القادري ومبارك وساط ومحمد بن طلحة وغيرهم طبعا، وعبر الترجمات لأعمال لافتة حققت حضورا قويا في اللغات الأخرى، الإنجليزية على وجه الخصوص، لأسماء مكرسة مثل حسن نجمي.

قوة المشهد الثقافي المغربي وتأثيراته تتغذى على حالة الجدل بين التجارب المختلفة والطيف الواسع المتعدد لهذه التجارب من جهة، ومن المواكبة النقدية للتجارب من جهة ثانية، كذلك، وهذا أساسي، من مختبر اللغات الذي يتمتع به المغرب وحوار هذه الثقافات العربية والأمازيغية مع الفرنسية والإسبانية والتأثيرات الأفريقية الملموسة، ولا أحصر الأمر بالشعر، فهذا يشمل السرد والموسيقى والسينما والمسرح.

  • ما الذي تحتفظ به من صداقة الشاعر الأردني أمجد ناصر، بعد سنوات قليلة على رحيله؟ وما الذي تعنيه لك هذه التجربة خاصة أنك كنت مرافقًا لها منذ تبرعمها داخل الأردن وبيروت لاحقا؟

ربطتني مع أمجد صداقة غريبة ومبكرة جدا، لعلها بدأت جفاء حين كنا نهبط من مراهقتنا إلى عمان، ولكنها عبر العمر والرحلة تحولت إلى الصفاء، والتعبير له، كنت أجبت عن هذا السؤال قبل رحيل أمجد، وقبل بداية مواجهته الشجاعة للسرطان. كتبت في لقاء صحفي مع الشاعرة اللبنانية الراحلة عناية جابر، نشر في السفير قبل توقفها، أن جيلنا، جيل الثمانينيات، لم يحصل على آباء، فلم يمنحه النقد الذي كان مشغولا بمقولات منجزة يجري نقلها من السبعينيات والستينيات وصولا إلى بواكير “النهضة”، ومن محطة إلى محطة كما لو أنها كنوز قراصنة أو لقى أثرية أو وصايا مقدسة؛ لم يمنحنا النقد بطاقات.

إذا كان علي الحديث عن آباء فهم من أبناء جيلي، ومنهم، دون شك، أمجد ناصر، التجارب التي تشكلت في نهاية السبعينيات ونضجت في الثمانينيات بعيدا عن المركز السياسي -الذي تفكك بعد خروج منظمة التحرير من بيروت- واقتراحاته الثقافية، وتكاتفت رغم اختلافها لتشكل تيارا استطاع أن يحدث التغيير وأن يقدم اقتراحاته الخاصة المتعددة، كانت الفكرة فتح الممرات والتحرر من النمط، وعلى الصعيد الفلسطيني يمكن الحديث عن الانتفاضة وشرعية قصيدة النثر كمنجز لتلك السنوات.

دائما ما كنت أجد تجربة جيلنا أقرب إلى جيل الـ27 الإسباني الذي حرر القصيدة الإسبانية وقدّمها في سياقها المعاصر، جيل الثمانينيات الذي ضمّ شعراء شبابا من فلسطين وسوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر والمغرب، أتحدث عن أسماء، إضافة إلى أمجد، مثل بسام حجار وهاشم شفيق ووليد الخزندار ومحمد اليوسفي وحلمي سالم والصغير أولاد أحمد ونوري الجراح وزهير أبو شايب وآدم فتحي ويوسف عبد العزيز وزكريا محمد وخالد درويش ويوسف أبو لوز وراسم المدهون وشوقي بزيع وعناية جابر.. وطبعا عباس بيضون وسليم بركات، إلى آخر هذه المسيرة المدهشة من البنّائين.

  • كيف وعيت ذاتك من خلال القصيدة؟

اطلعت كما غيري على شعر الستينيات وتابعت الجدل الحيوي الذي قاده شعراء كبار مثل يوسف الصايغ وسركون بولس وصلاح فائق وأدونيس وأنسي الحاج والخال، جدل المجموعات والمنابر، جماعة كركوك وجماعة شعر وتيار الآداب، ولكن للدقة لم يكن الأمر لدي ولمعظمنا، كما أعتقد، بحثا عن نظرية بقدر ما كان بحثا معرفيا، لم أعثر على آباء في تلك الحقبة أو زمن الرواد الذي سبقها وأسس لها، ولا أظن أن أمجد عثر على ذلك، كان مشروعنا يذهب خارج الماضي المقترح، لقد اخترنا ماضينا الخاص، خارج المقولات التي أنتجتها حلقات الأيديولوجيا الأدبية التي أحاطت باجتهادات الحلقات الشعرية وانتظامها وتفككها في ذلك العقد.

الحقيقة أنه خارج تلك الجدالات وتفكيك الأشكال كان هناك ما يتشكل بموازاة الجدل وكنتيجة له في الوقت نفسه، مكون أكثر تسامحا وأقل التزاما بالاقتراح السياسي وخارج الأنماط، مزيج من نزعة التمرد على السائد، السائد الذي يشمل نمط الجدل نفسه والاصطفافات واليقينيات النقدية التي حكمت الاستقطاب، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك التيارات العميقة تحت السطح التي تحتفي بالولاء للشعر.

  • ثمة أمر يلفت انتباه القارئ لأعمالك الشعرية الأولى، هو أنها كانت من الدواوين القليلة التي لامست البُعد الجمالي في صياغة النص، على حساب كل ما هو سياسي وأيديولوجي، لماذا؟

لم يكن لدي خطة لكتابة الشعر، ولكنني كنت أعرف ما الذي لا أرغب في كتابته، الأمر بهذه البساطة. كنت أكتب في ذلك السياق الغريب، وكان كل شيء تقريبا لا يتمتع باليقين وتكتنفه الشكوك، بعد أن تحطمت التماثيل التي لاحقتك من مناهج الدراسة إلى مساطر النقاد إلى النصوص المكتوبة بثقة العارف ويقينه، فبعد أن تتحرر من كل هذه المركزية المثابرة، ستكون وحيدا وستكتب كشخص وحيد؛ أظن أن هذا ما حدث.

المصدر : الجزيرة

من almooftah

اترك تعليقاً