تحت ظلال هذا العنوان كان لجهاد حسن من ” ألمانيا ” هذا الّلقاء الفكريّ الأدبيّ مع المفكّر والشّاعر السّوريّ ” القس جوزيف إيليا ”
وهذا الحوار :
—————-

IMG-20190327-WA0012

– هل لك أن تقدّم نفسك لقارئي هذا الحوار ولو بكلماتٍ قليلةٍ ؟

– مع أنّني لا أحبّ أن أقدّم نفسي بنفسي فهذا أمرٌ لا يخلو من الصّعوبة إذ أنّه من غير المستحَبّ أن يتحدّث عن نفسه مع هذا أقول لك ولمن يقرؤنا هنا : أنا سوريٌّ كسرت الحرب المجنونة أجنحته وعبّأته بكلّ أحزان العالم وأوجاعه وأنطقته شِعرًا ودفعته إلى أرضٍ غريبةٍ لاجئًا يجترّ ماضيًا جميلًا يعرف أنّه قد لا يعود ولكنّه مصرٌّ على استدعائه في قصائده باستمرارٍ كنوعٍ من التّعويض النّفسي
وأنا أكتب الشِّعر بشكله التّقليديّ محافظًا على أوزانه المعروفة ولكن بروح العصر ولغته بعيدًا عن الكلمات المعلّبة القاموسيّة والعبارات المستهلَكة والصّور الميّتة


كما أنّني أكتب قصيدة التّفعيلة وأرى فيها الشّكل الأنسب للتّعبير بحريّةٍ عمّا أريد قوله
وقد صدرت لي حتّى الآن ستّة دواوين :
أنا لغةٌ أخرى وأحبّكَ حتّى وإنْ وإنّي هنا وامرأةٌ من بنفسجٍ ونمضي ولا نمضي وغنّوا معنا وهو أناشيد للأطفال

– ما هو الشِّعر بالنّسبة إليك وماذا تعني لك القصيدة ؟

– في البدء كان الشِّعر واستمرّ وأظنّه سيبقى إلى ما لا نهاية
ولن تضعف كينونته
ولن تجفّ أغصان أشجاره
ولن تتهاوى نجومه
ولن تختفي مياه أنهاره
ولهذا فهو بالنّسبة إليّ صوت الحياة وإيقاعها والثّوب الّذي ألبسه هربًا من هجوم صقيعها ولهذا تراني أقول فيه :

أنا قصيدتي فلو ماتت أموتْ
بها بنيتُ مِنْ مشاعري بيوتْ

لن تقتلوها وستبقى في العُلى
ليْ موطنًا يزرعُني أشجارَ توتْ

– برأيك هل استطاع الشِّعر الحديث المعاصر أن يثبت حضوره بقوّةٍ بعد كلّ هذا التّاريخ الشّعريّ الطّويل المحفور المعرِّش في ذاكرة الشّعوب وخاصّةً وأنّنا شعوبٌ يستهويها كلّ ما هو قديمٌ ولا نتقبّل الجديد بسهولةٍ ؟

– أعتقد أنّه استطاع ذلك إلى حدٍّ ما والظّواهر الشّعريّة الّتي تجلّت عند شعراء كان لهم كاريزما واضحة كأحمد شوقي وجبران والجواهريّ والبردونيّ ونزار قباني ومحمود درويش وسليمان العيسى وعبد الرّزّاق عبد الواحد وغيرهم أكبر دليلٍ على قولي هذا
ومعركة إثبات الحضور مستمرّةٌ وقائمةٌ لدى بعض شعرائنا الفرسان كأحمد غراب وأدونيس وأيمن أبو الشّعر وسواهم من المجتهدين

– أين تضع نفسك في هذه المعركة ؟

– أنا مجرّد جنديٍّ بسيطٍ فيها أحاول أن أفعل شيئًا والحكم طبعًا هو للتّاريخ والنّقاد وقارئي الشِّعر
إذ أنّني لم أطرح نفسي يومًا إلّا عاشقًا للشِّعر وما الّذي كتبته وأكتبه سوى ثمرةٍ لهذا العشق ولست أدري مدى نضجها وحلاوتها

– ألا ترى معي أنّ جيل الشّباب قد ابتعد عن الشّعر وكلّ ما يتعلّق بالأدب والفكر حتّى أنّه ما عاد يعني له الكتاب شيئًا
وإذا كانت الإجابة بنعم
فإلامَ تعزو سبب ذلك ؟

– للأسف الشّديد فالإجابة هي حقًّا نعم لقد ابتعد جيل الشّباب عن أجواء القراءة
وهذا راجعٌ في تقديري إلى هيمنة الصّورة على المشهد المتمثّلة بالفضائيّات ووسائل التّواصل الاجتماعيّ بمختلف أشكالها وأنواعها وسرعة إيقاع العصر والانشغال بتأمين الاحتياجات الماديّة على حساب الاحتياجات الذّهنيّة الرّوحيّة
ولكنّي أقول لهؤلاء :
لا شيء يغني عن الكتاب والقراءة فعودوا إليهما
وقد قلت مرّةً في هذا الصّدد :

لا تقُلْ : ليْ في سواهُ اكتفاءٌ
فإذا قلتَ بهذا ستندمْ

فالكتابُ الثَرُّ ظلَّ ويبقى
في اكتسابِ الفهْمِ أقوى وأعظَمْ

– قد لا نجانب الصّواب إن قلنا : إنّ وسائل التواصل الحديثة على الرّغم من تأثيرها السّلبي على حركة القراءة إلّا أنّ إيجابياتها لا يمكن إنكارها
فكيف للمبدع أن يستثمرها بالشّكل الأمثل لإيصال إبداعه إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من النّاس ؟

– لا ريب أنّ هذه الوسائل الحديثة باتت أكثر فاعليّةً وتأثيرًا على الرأي العامّ مع تراجع الوسائل القديمة ومحدودية انتشارها
والمبدع هنا لا بدّ أن يلجأ إليها مستخدمًا إيّاها بما يساعده على التواجد أكثر من خلال إتقان التعامل مع تقنياتها بحرفيّةٍ عاليةٍ متوخّيًا الدّقة في العرض وتجنّب الإسفاف والضّحالة ومنتبهًا إلى ضرورة الالتزام بفكرٍ يسمو بالنّاس ويرفعهم والابتعاد عمّا يثير أهواءكم وغرائزهم
لأنّ تأثير هذه الوسائل أسرع وأقوى وأفعل
وأنا أعتبر نفسي محظوظًا إذ أعيش في زمن التّواصل السّريع الّذي فيه وبواسطة الوسائل الحديثة استطعت أن أكون حاضرًا بين النّاس ومعهم عارضًا إنتاجي الأدبيّ عليهم ومتلقيًّا ردود أفعالهم على ما أكتب سلبيّةً كانت أم إيجابيّةً

– كثر مع سهولة النّشر عبر وسائل التّواصل الحديثة وغياب الرّقابة والمراجعة الإسفاف والإنتاج الأدبيّ الردئ
فماذا يمكنك أن تقول في هذا الشّأن ؟

– إنّ الحياة تحوي بين طيّاتها الحسن والرّدئ والقبيح والجميل دائمًا
ولم يخلُ زمنٌ من وجود الرّداءة الفنّية والأدبيّة
ولك أن تعرف أنّه في عصر المتنبّي مثلًا كان ثمّة شعراء كثرٌ محدودو الموهبة ولكنّهم اختفوا وتلاشوا واضمحلّوا لأنّ محكمة التّاريخ أقصتهم واحتفظت لنا بالمتنبّي العظيم
فلا خوف على الجيّد لأنّه يحمل في نفسه عناصر بقائه وخلوده وديمومته
وإنّي لأنصح من ساء شِعره بالابتعاد عن النّشر والتّفرّع لدرس الشِّعر وإتقانه على أحسن ما يكون الإتقان والتّمكّن من النّحو لتأتي لغته سليمةً معافاةً ومتى ما اطمئنّ على جودة ما يكتب من أساتذةٍ أكفاء فله أن يعرض إنتاجه وإلّا فإلقاء القلم أسلم له وللنّاس
وقد سبق لي أن قلت لمن يكتب الشِّعر عن غير درايةٍ أوعلمٍ والمتطفّل على موائده :

لا تكتبْ شوّهتَ الشِّعرا
لستَ البانيْ فيهِ القصرا

فالجَرُّ بضَمٍّ ترفعُهُ
والضَمُّ تصيّرُهُ كَسْرا

لا تُلقِ شِباكًا في بحرٍ
واسحبْها نشّفتَ البحرا

ثمّ ارحلْ في صمتٍ وكفى
بإلهِ الأشعارِ الكُفْرا

– نقرأ في العهود الغابرة عن مبدعين أفذاذٍ كان لهم معلّمون وأساتذةٌ يأخذون أصول العلم والمعرفة عنهم ويتتلمذون على أيديهم إلى أن يصلوا إلى حالةٍ علميّةٍ وفكريّةٍ متقدّمةٍ
فهل ترى أنّه لضمان إنتاج حالاتٍ إبداعيّةٍ أفضل يجب العودة إلى ما كان عليه مبدعونا القدامى في حرصهم على أن يكون لهم أساتذةٌ وضرورة أن يتتلمذ من يودّ أن يصير مبدعًا على أيدي أساتذةٍ أكفأ منه وأعلم ؟

– لا ريب في هذا فالّذي لديه موهبةٌ عليه صقلها بالمران والممارسة والتّعلّم ممّن هم أعلم منه وأكفأ
وهذا ليس انتقاصًا لقدره فأفلاطون تتلمذ على يد سقراط وأرسطو تتلمذ على يد أفلاطون وعليه فمن الأسلم أن يلجأ من يريد الإبداع إلى أساتذةٍ في المجال الّذي يودّ الإبداع فيه ولا عليه أن يرى في هذا عيبًا

– مع سهولة الاطّلاع على نتاجات الآخرين الإبداعيّة كثرت الّلصوصيّة الأدبيّة والسّطو على تعب الغير الفكريّ فماذا تقول في هذا ؟
وهل توارد الخواطر يمكن أن يندرج تحت عنوان السّرقات الأدبيّة ؟

– ممّا يُحزن بحقٍّ أنّ هذا الأمر واقعٌ مريرٌ نعيشه
فلقد تعرّض كثيرون للسّطو والسّرقة وأنا واحدٌ من هؤلاء
والسّرقات الأدبيّة قديمةٌ قدم التّاريخ
ولكنّني أعود للقول :
إنّه لا يمكن إخفاء مدينةٍ موضوعةٍ على جبلٍ
وإنّ المبدع الأصيل الحقيقيّ باقٍ بعطائه أمّا هؤلاء الّلصوص والمتطفّلون والأدعياء فإلى زوالٍ وانتهاءٍ طال الوقت أم قصر
وقد قلت فيهم :

أمَا تخزى أما تخجلْ
وأنتَ تصوِّبُ المِنجلْ

إلى غَلّاتِ غيرِكَ لا
تبالي لا ولا تسألْ ؟

على تعبِ الورى تسطو
حرامٌ ذا الّذي تفعَلْ

فإنَّ الّلهَ لا يرضى
بعدوانٍ ولن يَقبَلْ

وحاذِرْ فالَّلظى سَكَنٌ
لمَنْ في شرِّهِ أوغَلْ

وفي الدّنيا لهُ البلوى
ومِنْ سكّانِها يُرذَلْ

أمّا عن توارد الخواطر فهذا يحدث كثيرًا ولا يدخل في مجال السّرقات الأدبيّة

– لكلّ شاعرٍ روحٌ خاصّةٌ به تعرّف عنه وبصمةٌ فريدةٌ تمّيزه عن سواه
فماذا تقول لمن يلبس ثياب غيره ويقلّد مشيته ؟

– إنّ الشّاعر الّذي لا يسعى ولا يجتهد لصنع لغةٍ شعريّةٍ خاصّةٍ به لا يمكن تسميته شاعرًا حقيقيًّا أصيلًا وسيبقى مجرّد صدًى لصوت غيره ومقلِّدًا لا يمكن الرّكون إليه ومآله الفشل والضّياع لأنّ النّاس سترجع إلى الأصل هاملةً التّقليد
وقد سبق لي التّنويه إلى هذه الجزئيّة حينما قلت :

أنا ابنُ ” الأخطَلينِ ” اعلَمْ بأنّي
بدوحِ الشِّعرِ عصفورٌ مغرِّدْ

وأجنحتي محلِّقةٌ وأعلو
لصدرِ القُبْحِ أرماحًا أسدِّدْ

وأبني مِن عباراتي ضياءً
وجرحًا نازفًا وجعًا أضمِّدْ

وفي ساحِ المعاني لستُ أكبو
على صوَرٍ ستهواها أشدِّدْ

ولا أرضى بأثوابٍ أراها
لغيري فُصِّلتْ لا لن أقلِّدْ

وسوفَ أقيمُ فِكْريْ فوقَ صخرٍ
وفي بنيانِه دومًا أجدِّدْ

وإنْ أخفقتُ فاغفرْ ليْ عيوبيْ
ولا تكسِرْ سنابلَ ما أردِّدْ

– مع انتهاء هذا الحوار هل من كلمةٍ أخيرةٍ منك تودّ أن يُختتم بها ؟

– لقد أسعدني جدًّا وشرّفني أن أطلّ عبر جريدتكم الغرّاء على جمهرة القرّاء الأعزّاء راجيًا ألّا أكون قد أثقلت عليهم ولا عليكم
ومتمنيًّا لك يا أستاذ جهاد وللجريدة العامرة دوام التوفيق و السّداد والتّقدّم والتألّق
بوركتم وسلمتم لما فيه خير الأدب والفكر والشِّعر والفنّ وكلّ ما من شأنه رفعة هذه الأمّة وفوزها وهناؤها
————

اترك تعليقاً