لو أنّ السينما فعلتها ! سلمان إسماعيل

لو أنّ السينما فعلتها !

أو من يذكر الخطابي هذه الأيام ؟

DSCF1996 (Copy)
سلمان إسماعيل
من البداية لا بدّ من الاعتراف بأني مولعٌ بالخطّابيّ، فما زلت مأخوذاً به منذ اكتشافه سنة 1973 م (أي بعد مرور عشر سنوات على وفاته).
ومن المفارقات ذات الدّلالة أن يكون (الآخر) هو الذي يعرّفنا – نحن العرب – بمآثرنا الطيّبة ويذكّرنا، غالباً، بأعلامنا المنسييّن!
لقد عقدت (باريس) صيف (1973) ندوةٌ حول الخطّابي وجمهورية الرّيف) استمرّت أياماً تقدّم فيها أكثر من سبعين مؤرّخاً وباحثاً وسوسيولوجيّاً بدراسات وأبحاث وشهادات شخصيّة… وللأمانة المنتدون كانوا من أوروبا وأمريكا… وقلّة منهم تنتمي إلى الثقافة العربيّة (المغرب ومصر)…
كنت قبل ندوة باريس، ربما شأن معظم خرّيجي الجامعات العربيّة، لا أُعطي للخطّابي أهمية أكثر من هؤلاء الثائرين العرب، في العصر الحديث، الذين اعترضوا سير الاستعمار، هنا وهناك، وأحدثوا اضطراباً مؤقّتاً في تقدّمه الانضباطيّ نحو ثكناته التي استقرّ فيها بعد إحداث الاحتلال المخطّط له..
ولم تستطع المدرسة العربيّة، ولا أريد أن أجزم أنّها لم ترد، أن تريني هذه القامة المديدة التي للخطّابي، وهذه المكانة الخاصة التي تبوأتها شخصية الخطّابي، ولم يكن ممكناً، لي أن أراه، من خلال منظورات التربية العربية، شخصيةً استراتيجية خبرت اللعبة الدولية، وامتلكت قدرة التأثير في الترتيب السياسي لأكثر من بلدٍ أوربيٍّ، وانطوت على أبعادٍ تجاوزت جغرافتيها المحليّة إلى الدولية في آسيا وإفريقيا !
ومع ذلك، ربما ما يزال الكثيرون منا – أقصد المثقّفين العرب- يتساءلون جهرةً أو على استحياء: ماذا فعل الخطابيّ حتى يستأهل هذه الوقفة (النوعية والمراجعة (المتأخّرة)، وهل ما تزال لسيرته (راهنيّةٌ) ما قابلة للاستعادة، وثمّ ما هي الدّروس التي يمكن أن تقدّمها قراءة سيرته، هذه الأيام، وهي الحافلة بالتغيّرات والمعطيات، الغنيّة بالمفاجآت المذهلة في العلاقات الدوليّة؟؟
لا أحاول أن أدّعي اكتشاف الخطّابي، ولا أستطيع، وقد اعترفت بمسعى الآخر في استعادته وتصنيفه، لكنّني أردت في كلّ تنويهاتي، وقصدت الآن كذلك، أن أؤكّد أنّ الخطّابي ما يزال قادراً على مخاطبتنا، وأنّ خطابه ما يزال يمتلك القدرة على التأثير، وربما أتجرأ أن أضيف أنّ الآخرين – في آسيا خاصّة- استطاعوا أن يفيدوا منه ويتتلمذوا عليه، ولم يقدّر لنا نحن مثل ذلك.
“لم يتكتّم (ماو) الصين و (هوشي منه) الفييتنام على استلهامهما تكتيك الخطّابي، وهما يمارسان حرب التحرير الشعبيّة، بل أعلنا، وبارتياح، تتلمذها عليه في مذكّراتهما وأحاديثهما، كان الخطّابي، إذاً، يرشد هذين الشعبين – الصين والفييتنام- في نضالهما الوطنيّ التحريريّ من غير أن يدرك ذلك، لقد كان الرّجل مغيّباً منفيّاً في تلك الجزيرة النائية (جزيرة رونيون في المحيط الهندي) منذ 1926 حتى 1947
أرأيتمُ… كيف أفاد الآخر من الخطّابي في حين ضيّعه قومه، وسقط اسمه من ذاكرة الأجيال اللاحقة؟!

لكن من الخطَّابيَّ اليوم ؟
لأنّي إذا استمررت في الحديث عن الخطَّابي ، مع افتراض بداهة معرفته ، فإنَّني ظالمٌ الأجيال الجديدة الطالعة ،فالمناهج العربيَّة لا يطمأن لخططها في مجال التعريف بالمنوِّرين الذين أسَّسوا ، أو أولئك الذين تركوا علامةً على ما ينبغي أن يكون منذ بداية القرن الفارط .
باختصار : الخطَّابي قائد تحريريّ خطّط ، في الربع الأوَّل من القرن العشرين ، لتحرير منطقة من المغرب الأقصى ،تواضعت الاتفاقات الدوليَّة للدول المهيمنة آنذاك ، أن تكون من حصَّة إسبانيا .
اتبع الخطَّابي في نضاله ، أسلوب حرب التحرير الشعبيَّة عندما نهض و بقبيلته وحدها في البداية ، ليحرز أوَّل نصر مباغت على العسكريَّة الإسبانيَّة ، ومن ثَّم استقطب نصره البدئي قبائل تلك المنطقة المهملة تاريخيَّاً ، منذ أمدٍ ليس بالقصير ، ومن السلطة المغربية المركزيَّة ، والتي كانت تسمَّى بالريف ، وتصنَّف بالسيبة ( أي منطقة الفوضى) .
تابع الخطابي ثورته حتَّى ألحق هزيمة حقيقيَّة بمارشالات وجنرالات عدوِّه ، تركت أثرها على إسبانيا التي تخلَّت عن ملكها لصالح جنرالاتها ، وبتحريره منطقة الريف يعلن الخطَّابي دولته التي دعيت آنئذٍ ( بالجمهوريَّة ) ، ويكوِّن لها المؤسسات العصريَّة بمقاييس مرحلته ، مما أذهل المستعمر في المنطقة الشريفيَّة ( معظم التراب المغربي ماعدا الريف) ، وجعله يبحث عن صيغة حرب استباقيّة وقائيَّة , ولهذا يطلب الجنرال ليوتي مهندس الحماية ( الأستعمار ) الفرنسيّة من باريس أن تمدُّه بما قدَّ ره الحد اللازم لمواجهة دولة الريف التي تركت في أذهان المحللين الاستراتيجيين العسكريين انطباعاً بالغً في تقدير قوتها ، ولضمان الانتصار على الثورة الريفية يتحالف الاسبان والفرنسيون ، ولم يكونوا على وفاق ساعتئذٍ ، ولكنهما أصبحا أمام عدو مشترك مخيف ….!
وتنضم ضعف القوة المطلوبة من ليوتي ، وقد أعطيت للمارشال بيتان ، إلى القوة الإسبانية المجروحة ، وتدفع الدولتان بقوى وصل تعداد الجنود فيها إلى ما يقارب عدد سكان الريف برمَّته ، واستخدم الحليفان أرقى ما امتلكا من أسلحة أرضيِّة وجوية وبحريَّة ، ولم يتحفَّظا على اسخدام الأسلحة المحرَّمة أيضاً .
وإذا كانت ثورة الريف قد انتهت بعدحوالي ست سنوات من عمرها ، وخمس سنوات من عمر الجمهورية ( الدولة ) ، وإذا كان قائدها أيضاً ، قد نفي إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي ، هي جزيرة ( الرونيون ) ،فإنَّ تاثيرها لم ستطع أي مؤرخ حديث للشمال الإفريقي ، إغفاله أو إنكاره ، وخاصَّةً بعد أن عاد القائد ، مرَّةً أخرى بعد حوالي 21 سنة من الاحتجاز والإبعاد والتغيّيب ، إلى العمل النضاليِّ ، من خلال ترؤسه مكتب تحرير المغرب في القاهرة ، وقد اختطفه المناضلون المغاربة ، وهو يحوَّل من منفاه البعيد إلى باريس لغرضٍ رأته الإدارة الفرنسيَّة ، احتفظ المناضلون المغاربة ( من تونس والجزائر والمغرب الأقصى ) ، بالخطابيِّ رئيساً لمكتبهم الذي كان يبحث عن شخصيَّة جامعة ومرجعيَّة متفقٍ عليها .
لقد وضع الخطابيّ ورفاقه منذ لحظة اختطافه 1974 ، خطة مقاومة شاملة للبلدان الثلاثة في آن معاً ، توصلاً إلى إحراز استقلال عبر صيغة وحدة طموحة ، واستطاعت المقاومة التي انصبَّت علىالاستعمار الفرنسيّ خاصَّة منذ عام 1954 ، أن تحرز الاسقلال المخطّط له خلال سنتين بالنسبة لتونس والمغرب ، و لم يكن استقلالهما خالصاً بمعيار السياق الوطني آنذاك ، وبعد ثماني سنوات بالنسبة للجزائرالتي كانت فرنسا تعضُّ عليها بالنواجذ ، وعندما ينجز هذا الاستقلال بعد اتفاقية إيفيان 1962 ، يتحفَّظ الخطابي على الصيغةوملحقاتها التي انتقصت من الحقوق الوطنيَّة الجزائرية ، وظلَّت مدرسة الخطابيّ قائمة بعد هذه الاستقلالات ، وتسرّبت إلى برامج بعض الأحزاب الوطنيّة ، لتشكِّل خطَّاً نضاليَّاً مبدئيَّاً واضحاً ، على نقيض الخط الآخر المساوم والذي غالباً ما يستدعيه الخصم إلى طاولة المفاوضات ، ليحصّل منه تنازلات وطنية ، ويتسلَّم منه ملحقات تضمن الكثيرمن مصالحه بعد توقف القتال .

اتصل بي صديقٌ مسرحيٌّ، يعرف تعلّقي يالخطّابي، ويتابع مجاهداتي في البحث عن صدى ثورة الريف في الأدبيّات العربيّة والأجنبيّة، كان ذلك الصديق يريد أن يتشفّع بكتابات تؤهّله للوقوف على حقيقة ثورة الرّيف، وتطلعه على وقائعها المثيرة، لقد أُسند إليه دورٌ في شريط سينمائي تخطّط جهةٌ لإنتاجه حول موضوع الخطّابي وثورته، ولم يُرِد هذا الصديق، وهو المجتهد، أن يكون – كما قال- مثل الأطرش في الزفّة!

إنّها السينما، هي الأخرى، تقع على الخطّابي، وتريد استعادته… وهذا لا يأتي عفواً، ولا يُفسَّر بندرة الموضوعات التي تصلح للسينما… وللمعلومات ليست هي المرّة الأولى التي يكون فيها الخطّابي بطل فيلم سينمائي.
لقد أقدمت (هوليوود) بعيد سقوط ثورة الريف على إنتاج فيلم، ولكن وفق منهجها –هي- في الإبهار والتركيز على البطولة الفرديّة الخارقة، وتصوير المغامرة العاكسة للبداوة والخشونة…. (ومرجعيّة هوليوود الإثارة والإدهاش ليس غير).
والآن، وعلى الرغم من اغتباطي ببناء مثل هذا الشّريط المحتمل والمؤسّس على معطيات الثورة الريفيّة وعبقرية قائدها محمد بن عبد الكريم الخطّابي، فإنني أتساءل متحفّظاً:
– ترى، ما الانتقائيّة التي سيمارسها كاتب السيناريو، وهو يستعرض وقائع أحداث الثورة اليوميّة، وما السّمات التي يرشّحها للإشهار من بين ما تشكّل هذه الشخصيّة المركّبة – أقصد شخصية الخطّابي ذاته.
– إن الأعمال الدراميّة المبنيّة على مادّة تاريخية أمامها منزلق أضحى شائعاً ومحتملاً غالباً هو: اختيار الأكثر إثارة على قلّة أهميته، وإهمال الأكثر حقيقية لفقر إثارته – وعندئذٍ سيكون الاعتراض التاريخي كبيراً ومحقّاً…
– لكن أمام سيناريست فيلم الخطّابيّ، لحسن حظّه، وقائع وتفصيلات تشكّل مادّة دراميّة لا تفتقر إلى الإثارة والإدهاش وأمامه شخصية متعدّدة الأبعاد ترسم بطلاً مقنعاً للمتفرّج، إذا تعمّق المعدّ قراءتها، وهذا وذاك متوقفٌ على الفرضيّة وزاوية الرؤية…
– إن الملحمة الريفيّة الواقعة في عشرينيات هذا القرن، حدثت في فضاء مكانيّ ساحر يؤمّن للعمل السينمائيّ إمكانات بصرية متنوّعة:
– جبال وعرة المسالك لم يطأها أحدٌ من قبل غير أهلها بداوبّهم ومعزاهم… ومدنٌ مبعثرة متعدّدة (الناضور – الحسيمة – شفشارن – تطوان – مليلة-) ومدنٌ أخرى تتأثر بالأحداث هناك في قلب أوربا (باريس ومدريد)… شعاب وممرّات – جنرالات ومارشالات – وقادة بسطاء – آلة حربيّة متطوّرة جداً بمعايير زمنها، وبنادق موزر بسيطة… مشاهد ولوحات تُشبع الفضول البصريّ وتحرّك الضمائر… عشرات الألوف من الجند المدرّبين في الأكاديميات العسكريّة الراقية، وبضع عشرات من الريفيّين المبعثرين في طيّات الجبال هنا وهناك…
– وفي شريط ثورة الريف لقطات متمايزة واضحة تتسلسل زمنيّاً لتشكّل خطّاً صاعداً يرسم تحول الرّيف من (الأنوات) القبليّة المتخلفة إلى (الأنا) الجامعة في صيغة ما سمّي يجمهورية الريف متمثلة بمؤسسات عصريّة واقعيّة – صحّة – تعليم – مواصلات – محاكم شرعيّة – جيش نظاميّ وآخر احتياطيّ…)
ويظلّ الصّعود مستمرّاً حتى تبدع الأحداث التّحالف الشيطانيّ بين العسكرية الأسبانيّة والعسكرية الفرنسية بذرائع وقائيّة تتلخّص بخطر الثورة الريفية على مستقبل الاستعمار الأوروبي (للدولتين المعنيّتين أولاً) وانتقاله –حسب تحليلات بعض الكرادلة الإنجليز- إلى الجانب البريطانيّ أيضاً، لا في إفريقيا وحدها، بل، وفي آسيا أيضاً. وأكثر من ذلك، لقد همس الملك ألفونسوفي أذن (البابا) أنّ ما يجري في الرّيف المغربيّ يهدّد المسيحيّة كلّها، وهذا يستدعي تضامناً صليبيّاً، لأن نجاح الخطّابي يمثل للشباب المسلم أمثولةً لا تقبل التشكيك…

ويمكن تصوّر ملامح للمشاهد حسب تسلسلها كالتالي:
* خروج الخطّابي مع عدد من رجال قبيلته (بني ورياغل) ببنادق الموزر البسيطة وباحتياطيّ من القذائف يقدّره الباحثون بحوالي (1600) طلقة كان ابن عبد الكريم قد اشتراها من ضابط إسباني في الحسيمة عندما كان هناك…
* ومفاجأة الحامية الإسبانية في (إبران) وتصفيتها وانتقال السلاح الإسبانيّ إلى يد الريفيين.
احتلال هضبتين متقابلتين: هضبة (سيدي إبراهيم) احتلّها الريفيون وقد تزايد عددهم بعد إبران، وهضبة (أغريين) يحتلّها الإسبان… ومعركة على الماء في ذلك الممرّ الجبليّ الإجباريّ وقد تحكّم به الريفيّون.
* معركة الأيام الستّة أو معركة (أنوال) الشهيرة… وهزيمة (سيلفستر) النهائيّة وقتله مع عدد من أركاناته…
* إبادة حملات الإغاثة التي قادها (نافارو) واغتناء الجيش الريفي بمختلف الأسلحة، والتي صرّح الخطّابي أنّها تكفي جيشاً كاملاً يخوض قتالاً متواصلاً لعدّة شهور.
* وقوف الريفيين، وهم يتابعون تطهير الأرض من الأسبان، على عتبة (مليلة) بعد إسقاط مدينة (الناضور)، وقرار الخطّابي بالتوقّف.
* البدء ببناء الدولة، وإقامة المؤسّسات العصريّة… وخطاب العالم…
تعليق الملكيّة الإسبانية وإسناد أمور (مدريد) للعسكريين، وصعود نجم المارشال (بريمودي ريفيرا) الذي قال وهو يفاجأ بالسّلطة:
“لو كنت أعلم ذلك لكنت قرأت أكثر!”.
* التحوّل في الموقف الفرنسيّ، وإبراقات المارشال العجوز (ليوتي) مهندس الحماية الفرنسيّة الحكيم في المغرب، إلى باريس يدقّ على مسامعها ناقوس الخطر الريفيّ.
* استئناف الإسبان محاولات استرجاع الكرامة، وهزائم جديدة في (الحسيمة) و (شفشاون).
* ندب باريس المارشال (بيتان) بطل الحرب العالميّة الأولى محلّ (ليوتي) ومباشرة تحضيرات المواجهة الفرنسيّة مع الخطّابي، وتخصيص (22) فرقة و (44) سرباً من الطائرات، فضلاً عن الدبّابات والمدافع بعيدة المدى… ولم يكن (ليوتي) قد طلب مثل تلك القوى للمهمّة.
* تنشيط دور الطرقيّة المغربيّة (أصحاب الزوايا الدينيّة)، وتوظيفها للتشهير بالخطّابي، وإضعاف عزائم المقاتلين في صفوفه.
* عقد التحالف الثنائي (الفرنسي – الإسبانيّ)، والإنزال البحريّ الإسباني بـ (111) قطعة بحريّة، وبعتاد إنكليزي متطور، وبغطاء جويّ مشترك وكثيف، واستخدام للأسلحة الجرثوميّة والغازات السّامّة…
* ارتفاع أعداد العسكريين من الجيشين المتحالفين حتى وصل إلى (800.000) عسكري – حسب تقديرات (فانسان مونتاي) – وعلى رأسهم 3 مارشالات، و60 جنرالاً…
* مناورة المتحالفين بالمفاوضات الخادعة، تهدئةً للرأي العام العالميّ، وتسكيتاً للرأي العام الداخليّ في كلٍّ من باريس) و (مدريد) وقد حرّكت الشارع فيهما الأحزاب العمالية الفتيّة على تفاوت فيما بينها.
* الاستسلام المشرف الشجاع الذي أقدم عليه الخطّابي مختاراً إنهاء دوره وحده، من غير أن يلزم زملاءه بأيّ إجراء، بعد أن تبيّن له أنّ الاستمرار كارثة مجانيّة… وبالفعل استمر بعض رفاق الخطّابي في الفداء والمقاومة حتى 1927 (القائد أخريرو خاصة).
وتحوّل المنطقة المغربيّة، على الأثر، إلى النضال السياسيّ وتشكيل الجمعيات والأحزاب الوطنيّة…
ومع هذا كلّه، فإنّ سيرة الخطّابي لا تكتمل بمنفاه، لأنه سيستأنف قيادته للحركات الوطنية المغربيّة فور وصوله القاهرة سنة 1947م، وعلى أثر احتضانه من وطنيي المنطقة، وهو يُنقل/ من (رونيون) إلى (مرسيليا) ولعل نضاله، في هذه المرحلة، هو الذي يعطي ملامحه العميقة، ويكشف ما كان يضمره، وهو يشكل نواةً تحريريّة في الرّيف…
لم يكن الخطّابي، على ما يبدو، وكما كانت أوروبا الاستعمارية تشيع، ليقف عند حدود دولة الرّيف، فقد طرح/ مع زملائه من مناضلي المغرب في الميثاق، تلازم الثورات الثلاث: المغرب والجزائر وتونس، في إطار النضال العربيّ الأوسع…
لقد مثل الخطّابي، في مرحلة النضال من أجل استقلال البلدان المغربيّة، التيار المتمسّك بالتحرير، وتحفظ على أساليب المساومة…
وغدا محجّة الوطنيين من الشمال الإفريقي خاصة، وبطل التحرير المغربيّ في نظر المواطنين في المشرق والمغرب…
لكن، كيف يكون لكاميرا الفيلم أن تبرز خصائص الخطّابي كلّها…
ومن جملة ما أخشى أن يفوت مركبي العمل الفنيّ الأمور التالية:
* تمثيل الخطّابي الأخلاقيّة الإسلاميّة الحقّة في الحروب، والمثال الصّارخ البليغ قراره بمنع جنده من دخول (مليلة) وقد كان الأمر مضموناً لا ينطوي على أدنى مغامرة.
* لقد خطأ العسكريون الخطابي في هذا القرار وعدوه غلطة استراتيجية قاتلة… ولكن الخطّابي لم يتردّد في أنّ وراء قراره قصداً إنسانياً واضحاً، لقد كان يتجنّب اقتراف جناية إنسانية كبرى تتمثل في حتمية ارتكاب الجنود المهتاجين مذبحة لا توفّر الأطفال والنسوة والشيوخ، ومن طرف آخر كان الخطّابي يعرف هدفه المركزيّ بوضوح: (نحن نريد أن نبني دولةً هي بحاجة إلى عطف العالم وتأييده).
* وعي الخطّابي لمهمّته وفق صيغة متقدّمة جدّاً بمصطلحات عصره: القيام بحركة تحرير وطنية، في الوقت الذي صوّر فيه ملك إسبانيا، وهو المعتدي، حربه مع الخطابي حرباً صليبية، رد الخطّابي: “لقد مضى عصر الحروب المقدّسة الدينية، إنّ حربنا هي حرب تحرير وطنيّ”.
* وضوح النزوع الوطنيّ، وبروز سلوك رجل الدولة، لقد لعبت الطرقيّة دوراً تهديمياً واضحاً، وكان مشايخ الطرق ألدّ أعداء الخطّابي وأعداء جمهوريته، فمشايخ الطرق لم يشتركوا في الثورة بحجّة أن القتال في سبيل الوطن لا يعنيهم، وأنّهم، كما كانوا يقولون، لن يقاتلوا إلا في سبيل الدين.
* وكان همّ الخطّابي أن يجعل من الريف بلاداً مستقلّة كفرنسا وإسبانيا –على حدّ قوله- وأن ينشىء دولة (حرة ذات سيادة) وحاول أن يُفهم القبائل أنها لا تستطيع البقاء في ظلّ هذا (الطّغيان الشامل)… إلاّ إذا تضامنت (كالبنيان المرصوص) وعملت بصدق وإخلاص على تأليف (وحدة قومية) من القبائل (المختلفة الأهواء والنزعات)…
لقد أراد الخطابي أن يشعر مواطنيه أنّ (لهم وطناً كما أنّ لهم ديناً).
* ابتكار عقيدة جديدة في الحروب… هي عقيدة حرب التحرير الشعبية التي تعتمد على القوة (الكامنة في الشعب)، مقاومةً للقوة الماديّة العسكرية الهائلة…
* لقد طوّر الخطّابي أساليب سلفه السابق عليه بحوالي تسعين سنة، نقصد القائد العربي المغربيّ عبد القادر الجزائري، وبلوره حتى غدا مدرسةً وعقيدة قتالية، لا بدّ من تلمّس ملامحها وتطبيقاتها في حركات التحرر اللاحقة في الصين والفيتنام وكوبا والجزائر…
* وأخيراً عندما لا يقدر فيلم الخطّابي المتوقّع ظهوره عكس (بورتريه) الخطّابي بعمقه وغناه، واستعادة حرارة الأحداث الريفية واكتشاف إبداعاتهما بذكاء، فإنّ العمل الفنيّ سيقصّر في أداء دوره التنويري بلغة السينما الخاصّة.
تعقيب : إنّ الحالة القومية اليوم تجبر الأمّة على سلوك دروبٍ عبّدها الخطّابيّ ، وأصبح رائد مدرستها ، ولم يؤطّرها ، لأنّها ، حتى في لحظته كانت دائمة التطوّر والاغتناء … إنّ الخطّأبي ما يزال راهناً ، ومازال ممكن الإفادة ، لو أحسنّا قراءة دروسه ، وتأويل فلسفته تنويريّاً .
* ينبغي ألاَ نبدي استغرابنا لاستخدامه هذا التعبير ، فهو ، هنا ، يستخدمه لغوياً أي بمعنى العصبيَة والوحدة فقط لاغير .
* ولم يكن الخطَابي بغافل عن مفهوم (( القومية)) كما نستخدمه بمعنى عصبيَة الأمَة الواحدة، فهو عندما كان رئيس مكتب تحرير المغرب ، خطّط لثورة شعوب هذا المغرب في إطار حركة التحرر العربية ( وهذا معلن في ميثاق خطّة التحرير

* سلمان إسماعيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* للكاتب عملان مختصّان بالشمال الإفريقيّ، أوّلهما : جدليّة التحرير والمساومة ( مسار الحركة الوطنية المغربية من 1830 حتى 1962م )، مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر – دمشق ، عام 1987، ثانيهما : من القبيلة إلى الأمة أو ثورة محمد بن عبد الكريم الخطّابي – دار التوحيدي ، 1998 .

من almooftah

اترك تعليقاً