مصر وتجديد البناء الحضارى .. فى كتاب الجمهورية
بقلم: سيد حسين

تعددت مفاهيم الحضارات بجوانبها الكثيرة فى تاريخ البشرية ومما يروق لى من هذه التعريفات تعريف مفهوم الحضارة الذى ذكره المفكر الجزائرى “مالك بن نبى” فى كتابه “مشكلة الأفكار فىا لعالم الإسلامى” قائلا عن : الحضارة “إنها جملة العوامل المعنوية والمادية التى تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره”.
ولكن من يصنع الحضارة؟
يجيب عن هذا السؤال المؤرخ البريطانى الشهير أرنولد توينبى بقوله: “إن الحضارة تصنعها شعوب وأبطال قادرون على الصمود والتحدى والاستجابة”.
ولأن المصريين قادرون على الصمود والتحدى على مدار تاريخهم فكانوا أصحاب أول حضارة عرفتها البشرية كما أبان هذه الحقيقة فسطعت سطوح الشمس العالم الأثرى “جيمس هنرى برستد” عام 1934 فى كتابه “فجر الضمير” الذى أظهر مؤكدا بالوثائق للعالم أن مصر هى المصدر الأصلى لكل الحضارات الإنسانية وهى فجر الضمير الإنسانى المتصف بسمو الأخلاق ، وكما يقول د. سليم حسن مترجم هذا الكتاب إن “برستد” بكتابه “فجر الضمير” قد قضى على الخرافات والترهات التى كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر هى التى أخذ عنها العالم الحضارة.
وإذا كنا نزهو بتاريخنا الذى علم العالم بأسره فهل نعيش فى غيبوبة ذلك الزهو الذى يلهينا عن حاضر أليم ومستقبل غائم لأننا الآن نعيش فى تخلف حضارى مقيت، كانت له أسبابه الداخلية والخارجية.
ولنبدأ طريق الحضارة بما قاله مفكرنا الكبير د. جمال حمدان فى كتابه “شخصية مصر.. عبقرية المكان” : “إن ماتحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية بمعنى ثورة على نفسها أولا وعلى نفسيتها ثانيا، أى تغيير جذرى فى العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل إحداث أى تغيير حقيقى فى حياتها ومصيرها، ثورة فى الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر”.
إلى أن يقول محذرا من تأثير الحديث عن مزايانا المصرية فحسب “كفانا إذن حديثنا عن مزايانا فهى مؤكدة ومقررة بنفسها ونركز على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا فى مواجهة شجاعة لا ننسحق بها لكن لنسحقها، لا لنسيئ لأنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا”.
علينا أن نتخلص من تخلفنا الذى نعيشه بنتائجه الوخيمة والبغيضة والذى حدده الدكتور مصطفى حجازى فى مؤلفه القيم “التخلف الاجتماعى: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” عن معهد الإنماء العربى – بيروت 1976 ص 40 فيقول:
“إذا كان التخلف فى جوهره ولبه” هو استلاب اقتصادى اجتماعى من الناحية المادية، فإنه لابد أن يولجد استلابا نفسيا على المستوى الذاتى لابد إذا من الخوض فى هذا الاستلاب الذاتى، حتى تكتمل أمامنا الصورة، ونتمكن من السيطرة على القوى الفاعلة فى ظاهرة التخلف مما يشكل شرطا ضروريا لأى مشروع تنمية”.
ويقول: “وإذا كان التخلف التقنى والصناعى والاقتصادى والاجتماعى واضحا فى خصائصه ومحطاته، فإن التخلف النفسى الوجودى لايزال بحاجة إلى جهد كبير لاستجلاء غوامضه”.
إلى أن ينتهى د. مصطفى حجازى إلى نتيجة خطيرة يذكرها فى ص 50 حتى نحذرها “إن عالم التخلف هو عالم التسلط واللاديمقراطية ، يختل فيه التوازن بين السيد – يقصد الحاكم – وبين الإنسان المسحوق – المحكوم – ويصل هذا الاختلال حدا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان ، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها”.
إذن فبناء الإنسان صانع الحضارة هو الأساس عندما يشعر بقيمته، ولن تتحقق إنسانيته إلا بصحة قوية، وتعليم راق، وبعدالة اجتماعية تقوم على حقه فى امتلاك نصيبه الوافر فى ثروات بلاده ، يتبوأ مكانته الاجتماعية طبقا لقدراته وعلمه – انزلوا الناس منازلهم – فما أقسى الفوارق دون حق بين الناس تلك التى حذر منها الحكيم الصينى كونفوشيوس الحاكم – أى حاكم – “إياك والفوارق بين طبقات شعبك فهى أخطر عليك من جيوش الأعداء”.
ولأن الاستبداد وعدم الحرية للعشوب من أسباب التخلف وضد نشوء الحضارة نجد الشيخ محمد الغزالى فى كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي” يبين أن الاستبداد تهديم للدين وتخريب للدنيا ومنع الكفاءات وبالتالى فلا حضارة تقوم فيقول:
“الحكم الاستبدادى تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جمعيا وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام فى نطاقه حيث امتد ….. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولاسوق الزراعة والصناعة تروج ….”
إلى أن يقول الغزالى:
“ومما يقترن بالاستبداد السياسى غمط الكفايات وكسر حدتها، وطرحها فى مهاوى النسيان ما أمكن”.
والطريق إلى البناء الحضارى أبرزه الغزالى قائلا: “كل ما هنالك أن قيادة الجماهير فى أوروبا وأمريكا أخذ طريقه الطبيعى إلى أيدى الأذكياء الأكفاء”.
نعم إن تقدير الذات يؤدى إلى تحقيق الذات كما يقول علماء النفس وبهذا تنشأ النفوس الحرة السوية القادرة على بناء الحضارات.
ولما كانت الحضارة المصرية القديمة أول حضارة عرفها الإنسان تربط بين العلم والأخلاق التى هى قوام الدين والإيمان كما يقول اخناتون فى برديته: ” إن العلم هو أول أركان الإيمان بالخالق”.
ووصلا للحضارة الانسانية يأتى الإسلام لمصر بقيمه العظيمة ليحض على العلم، والعمل المتقن، والتفكير، وبناء العقل الناقد، والعدل، والمساواة ، ولو أخذنا بتلك القيم لأقمنا حضارة سبق للمسلمين الأوائل أن أقاموها سادوا بها العالم بالعدل والحق وليس بالهيمنة والسيطرة والاحتلال ونهب ثروات الشعوب كما فعل ويفعل حتى الآن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
فهل ننسى – نحن المصريين – أن الغرب هو الذى ضرب نهضة مصر فى عصر محمد على، حتى انتهى الأمر إلى احتلال بريطانى عام 1882 نهب ثرواتها وجعل مصر أرضا زراعية محصولها القطن تقوم عليه مصانع بريطانيا، وبالمناسبة عندما احتلت فرنسا الجزائر حولت أراضيها من زراعة القمح إلى زراعة العنب لصناعة الخمور للفرنسيين.
وهل ننسى – نحن المصريين – وقوف الغرب ضد مشروع عبد الناصر النهضوى وحصار مصر والاعتداء عليها بعدوان بريطانى فرنسي إسرائيلى عام 1956 ثم قيام إسرائيل بمساندة أمريكية وبريطانية بضرب مصر عام 1967؟
ولكن قاومنا وتحدينا سياسات الغرب والولايات المتحدة فى عهد عبد الناصر إلى أن أتى السادات بعد نصر أكتوبر العظيم فى 1973 فترسم الولايات المتحدة خطتها الجهنمية لإضعاف مصر لصالح العدو الصهيوني لأنه معلوم بالضرورة عند الغرب والولايات المتحدة لا وجود لإسرائيل إذا كانت مصر قوية.
وكان من بداية الإضعاف لمصر تطبيق السادات للانفتاح الاقتصادى عام 1974 بداية خراب اقتصادها الذى حذر منه المفكر الاقتصادى د. فؤاد مرسى فى كتابه “الانفتاح الاقتصادى لمن؟”.
ويأتى عصر مبارك لتطبق الولايات المتحدة بكلتا يديها لتخنق مصر وينصاع مبارك فى تطبيق الخصخصة – انصياع العبد لسيده – فتباع المصانع الثقيلة التى أنشأها عبد الناصر وكانت بداية نهضة حضارية حديثة لمصر، وتنتشر الامراض المستعصية فى عهد مبارك بأعلى نسب عالمية ويصل أكثر من 40% من السكان إلى درجة تحت خط الفقر ويصبح الفساد منظمة وينهار التعليم لدردة وصلت أن تحتل مصر المركز الأخير فى جودة التعليم الابتدائى على مستوى العالم ونجد بعض متخرجى الجامعات يخطئون فى كتابة اسمائهم، ولا يقيمون جملة صحيحة.
ويزداد نزيف العقول المهاجرة إلى الغرب فيذكر تقرير للجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء منذ سنوات قليلة أن المصريين يشكلون 60% من العلماء العرب والمهندسين فى الولايات المتحدة بل بها 318 عالما مصريا فى أندر التخصصات هذا غير 100 عالم فى كندا، و80 عالما فى إيطاليا و 70 عالما فى استراليا و 30 عالما ف بريطانيا، و 19 عالما فى إسبانيا وهذا راجع إلى عدم وجود بيئسة علمية حاضنة لهم فى بلدهم مصر، وخسرت من جراء هذا النزيف نهضة لا تقدر بمال فنحن الآن فى عصر العقول العلمية المنتجة للثروات العظيمة وقد نبه إلى تلك القيمة الكثيرون منهم الدكتور بطرس غالى الأمين العام السابق للأمم المتحدة فى مقاله بمجلة السياسة الدولية عدد 200 الصادر فى أبريل 2015 بعنوان “السياسة الخارجية المصرية بين الشمال والجنوب: عصر التحولات الكبرى فى العالم” يقول فيه د. بطرس غالى : تزداج فى هذا العالم المتغير أهمية العقل الإنسانى فى انتاج الثروة إلى جانب الموارد ورأس المال فى ظل تطور متسارع يجعل المعرفة هى المصدر الرئيسى للازدهار الاقتصادى”.
ومن أجل تجديد البناء الحضارى لمصر، تأتى رسالة هذا الكتاب للدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة، ليقدم إبداعا فلسفيا من نتاج ثقافته الواسعة، ويقدم اجتهادات ورؤيات مستقبلية فى قضايا التنمية الثقافية والتعلمي وقضايا كثيرة تطرح أجابات مقترنة بأسئلة وهذه هى الفلسفة بمفهومها الذى أراده الدكتور مصطفى لاشنار فى هذا الكتاب وكتاباته الأخرى التى تربو على ستين مؤلفا فى الفكر والثقافة والفلسفة فهو يقدم الفلسفة لطلابه وقرائه ليثير فى الأذهان التفكير الناقد النباء، وهذا ما نحتاجه لنتقدم ونضع أقدامنا على طريق الحضارة.
ولأننا نعيش فى عصر تشويه الإسلام من بعض متعنقيه الجهلاء لا يعرفون إلا قشوره ومن أعداء يتربصون بمصر والعرب والمسلمين قائلين إن السبب فى التخلف هو الإسلام، وبالحجة والبرهان والدليل يرد د. مصطفى النشار على هؤلاء وأولئك ليبرز “الإسلام الحضارى” فتيناول فى هذا الكتاب ما يتعلق بالإصلاح الدينى من خلال فكر الإمام محمد عبده والمفكر الجزائرى مالك بن نبى اللذين قدما رؤيتين عظيمتين لبناء حضارة إسلامية قائمة على العلم والعدل فهما أساس الحضارة التى تقدم سعادة الإنسان ويستلهم قول الإمام محمد عبده “ينبئنا التاريخ وتحدثنا سير الدول التى ارتفع بها منار العدل، وبزغت فيها شموس العلم كيف تمتعت بالنورين وطارت إلى أوجه السعادة بهذين الجناحين”
ولأن هذا البناء الحضارى القائم على العلم والعدل لن يتحقق إلا بعلاقة الترابط بين الحاكم والمحكومين وعندما يريد هذا الحاكم أن يسجل اسمه بحروف من نور فى تاريخ بلاده بأن فى عهده أقيمت حضارة بناها شعب بإرادة حرة، يفتخر بعزته كرامته وهذا مما أفاض فيه الإمام محمد عبده كثيرا فى مشروعته التجديدى ومن أقواله فى هذا “إن حاجة الرعية للحاكم لا تقل أبدا عن حاجته إليهم، وإذا كانت الرعية بمثابة الآلة للحاكم فى تنفيذ مشاريعه فهى ليست آلة صماء، بل إنها ذات إرادة وشعور، وحين يختل الشعور وتفسد الإرادة فلا فائدة من إصدار القوانين والأحكام”.
ولأن من مقومات الحضارة هو امتلاك الاقتصاد القوى أساس امتلاك الإرادة الحرة بالفكر الصحيح حتى لا نخضع لهيمنة من لا يريدون لنا حضارة نجد المفكر الجزائرى “مالك بن نبى” يركز على هذا المعنى مستحثا المسلمين فى كتابه “مشكلة الأفكار فى العالم الاسلامى” قائلا: “من أجل أن يثبت العالم الإسلامى بمنطق العصر أن أفكاره صحيحة لا توجد أمامه إلا طريقة واحدة هى إثبات قدرته على تأمين الخبز اليومى لكل فرد”.
لقد أثبت التاريخ أن مصر تقيم نهضتها وتبنى حضارتها عندما يكون على رأسها قائد ذو رؤية ثاقبة، وإرادة قوية، يعرف عبقرية قيمة ومكانة ومكان مصر، يفهم مفاتيح الشخصية المصرية يحب المصريين فيحبونه، يعمل على إرساء العدل الاجتماعي بجوانبه العظيمة، ليس فاسدا ولا مفسدا، طاهر اليد، عفيف النفس، فيكون قدوة لشعبه “عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا” هذا الوصف قاله على بن أبى طالب لعمر بن الخطاب.
فإلى نهضة وحضارة يتسحقها المصريون على طريق العلم والعدل والعزة والقوة إليها سائرون.

———————-
رئيس تحرير كتاب الجمهورية

من almooftah

اترك تعليقاً