في الذاكرة….الفنان التشكيلي الراحل محمد نبيلي

بوشعيب حمراوي

لم يفكر يوما في الابتعاد عن مدينة ابن سليمان، مسقط رأسه… استهوته المدينة بطبيعتها الخلابة وسكانها البسطاء الطيبون… أهله وأحبابه … كان محمد نبيلي يحكي عنهم بلسان مثقل بالكلمات الواعظة… يرى فيهم مالا يراه غيره…الرقة والحنان.. أبى إلا أن يجعل من أطفالهم قنوات لسقي قلوبهم الظمئانة، ومسالك لفك العزلة على مدينتهم الخضراء…لم يكن بالإمكان على نبيلي إبن( كانبولو)…أو كما ردد البعض في لحظات العبث( القشلة)، أن يفارق مدينة الفلين وعين الداخلة والشعرة والشفيرجلة والقصب والرمان والناس….أو يتهاون في صب دماء جديدة خضراء تعوض الخضرة التي باتت تفتقدها حاضرة بنيورة والزيايدة والمذاكرة والعرب… أحب الأطفال ، فعاهد نفسه على مصاحبتهم ومداعبتهم… ثارة يلعب دور الأب الناصح والعم المرشد والمكافح، فترتفع أصواتهم من داخل ورشات الرسم(أبي نبيلي عمي نبيلي، تعالى لأريك ما رسمته… ما رأيك عمي ..)… وثارة يختصر العقود ليلحق بسنهم ويداعبهم بأساليبهم وعفويتهم، فيناديه الأطفال بإسمه( محمد أو نبيلي كيف جاتك لوحتي… رسمت حسن منك…). وسواء كان الأب أو الصديق، فنبيلي كان ينتعش بتلك اللحظات، ويغوص في بحر من البرائة والصدق الصادق من نفسه وعشيرته الصغيرة… ليث عقارب الساعة تتوقف لثوان لتترك للفن فرصة التعبير عن دوره الحقيقي والشمولي… كم ترجاها نبيلي …أطفال يرسمون لوحات نسجتها مخيلاتهم دون توجيه أو قيود… يرسمون … يخططون… حتى قبل أن يتعلموا فن الكتابة والخط. حمل نبيلي هموم الأطفال اليتامى والمتخلى عنهم والمنحدرين من أسر فقيرة… فقرر خلق جمعية لمتخيل الطفل وجعل مقرها بمدينة ابن سليمان، هدفها هندسة مخيلة الطفل وصقل فصولها وفروعها، لجعلها تسير وفق نظام يتحكم فيه عقل الطفل، بعيدا عن كل المعيقات النفسية والسيكولوجية والعضوية… تأثر نبيلي بمقولة الأديب الكبير جبران خليل جبران(الأطفال ليسوا أطفالكم يأتون عن طريقكم تستطيعون أن تملكوا أجسادهم لكن لا تستطيعون امتلاك عقولهم، لأن عقولهم هي سر الغد). نبيلي: الرمال بقايا أجددانا اعتمد نبيلي في أعماله الفنية على الرموز والرمال… كان يقول قيد حياته إن اختيار الرمل لم يأت صدفة، ففوق كل حبة رمل هناك تاريخ، وهناك ربما شظية صغيرة من أجدادنا…، لذا نبه نبيلي( يجب الحذر من المكان الذي تضع فيه رجلك فقد تضعها فوق شظية من أحد أجدادك). فحبات الرمال بالنسبة لنبيلي هي كالإنسان… حبات تبدوا متشابهة في أول نظرة، لكن بفحصك لكل واحدة بالمجهر تجد أنها مختلفة في الشكل واللون، وتكون فيما بينها كتلة واحدة متناسقة. استعمل نبيلي الرمز كأداة مثل النوتة الموسيقية، التي ينسج منها الموسيقيون سنفونية معبرة، ولعل انفعاله الداخلي بما يقع من حوله، كان أكبر مؤثر على تركيبة رموزه وصياغة لوحاته. تأثر نبيلي بالأب الفلسطيني الذي حظن ابنه في محاولة لنجدته من رصاص العدو، الذي تسرب إلى قلب ابنه وأرداه قتيلا، وترك الأب يغوص في دماء ابنه والفاجعة تكوي فؤاده. قال نبيلي في إحدى تصريحاته الدافئة: كانت نظرتي للفاجعة عبر وسائل الإعلام، سببا في عقم تفكيري عن الإبداع لعدة أيام… فجرت مولودا بعدها في لوحة معبرة لمشهد الطفل وأبيه، حيث رسم لوحة قتيمة الألوان تجسد عدوانيتها، وطائر أسود يسبح في الفضاء. وأضاف نبيلي: اهتمامي بالأطفال بدأ منذ انفجار أولى إبداعاتي الفنية. كان في الخامسة من عمره طفلا مهووسا بالرسم والنحت. كان ملهما بالرسم على الجدران وكل ما احتك به جسمه، مستعملا كل ما توفر له من وسائل للرسم (أقلام، فاخر…)، كان دائما يعاقب على عمله. وتولدت له عقدة داخلية ، كان يرسم رغم نقص الوسائل، ولم يجد حينها من يبالي ولا من يشجع. نبيلي المسؤول النقابي الحازم كان نبيلي الأمين العام للنقابة الوطنية للفنانين التشكيليين المغاربة، يرى أن علاقة الفنانين التشكيلية فيما بينهم، ليست في المستوى المطلوب، وينصح بالنهوض بالفن التشكيلي والاهتمام بالفنانين. فالفنان كيفما كان بلده هو رمز للأمة، وتأسف كثيرا لكون الأغلبية الساحقة يتخذون الفن التشكيلي كمهنة، موضحا أن الإكراهات المالية للفنانين كانت تحد بإبداعاتهم. فعندما تذهب لزيارة فنان فأنت تذهب الى صالونه وليس الى مرسمه، والفنانين يلتقون في المعارض ويتعانقون وعندما تنتهي لحظة الاجتماع بالمعرض يفترقون ولا شيء يدور بينهم. وربما تثار أسئلة هامشية من قبيل ( ماذا ربح فلان من لوحاته؟ ، يجب ألا أعطيه عنوان المكان الذي عرضت فيه لوحاتي لأضل وحدي أبيع؟…). وكان يرى أن هناك فنانين مغاربة بمستويات فكرية وإبداعية كبيرة، لكنهم ينتظرون فرصة الإقلاع التي لابد أن تأتي من المسؤولين ثقافيا والمهتمين بالشأن الثقافي. وأنه يجب نهج طريق الحوارات بين كل الفنانين لوضع تقارب بين كل الأعمال وتوسيع دائرة الاستفادة لدى أكبر شريحة من الأطفال والشباب. موضحا أن الفنان تستهويه الأفكار في أوقات مختلفة، وليس له برنامجا دقيقا للإبداع، فكل فنان حسب نبيلي يجب أن تكون له مكتبة داخل دماغه، فالفنان هو مفكر عليه بالمطالعة ومسايرة عصره. سيرة ومسيرة محمد نبيلي ولد محمد نبيلي الفنان التشكيلي يوم رابع غشت من سنة 2195 بمدينة ابن سليمان، ولج عالم الفن التشكيلي عن طريق الصدفة، لم تكن حينها شعب توجيه لمجال التشكيل ولا اهتمام به. بعد حصوله على الشهادة الإعدادية، التحق بمدرسة الفنون التطبيقية رفقة 25 طفل وطفلة اختيرت من مختلف المؤسسات الإعدادية، بعد ثلاثة سنوات من الدراسة حاز على دبلوم الفنون التطبيقية، واتجه إلى مدرسة الفنون المعمارية بمارسيليا… ترك الصباغة والرسم ومارس في مجال الخزف، حيث حصل على دبلوم في الخزف سنة1973، بعد تكوين دام ثلاثة سنوات. بعدها واصل عمله بمدينة باريس، ثم انتقل إلى مدينة إكسون بروفونس، كسب تجربة تطبيقية كبيرة، لكنه قرر أخذ دروس نظرية إضافية، فالتحقت بكلية العلوم الانسانية بنفس المدينة، وبدأ مسيرة البحث عن سؤال اختاره موضوع لأبحاثه ( من أين جئت)… بحث في المغرب عن جذور أصله كمغربي، فأثار انتباهه عند تنقيبه في تاريخ وثرات المغرب (الوشام)، عمل بحث في موضوع الوشام بنواحي سوس والريف وزيان.كان له احتكاك كبير بالعديد من الأساتذة الباحثين، نصحه بعضهم بالتوجه إلى دول أمريكا اللاتينية لإتمام البحث، فاضطرر إلى العمل اليومي بفرنسا لجمع المال الكافي والسفر إلى دولة بيرو، زار صحراء ناصكا التي تحوي تاريخ الهنود الحمر والآنكا منقوش على الصخر، كان في زيارة لها لمدة شهر فإذا به يلهم بها ومكث لمدة سنتين. عاد لينجز أول عمل في هذا المجال، بدأ يخرج أعماله التي كان يخبئها دائما، ولم يكن يؤمن بمدى أهميتها، بحكم عيشه بأوربا التي كات تعطي أهمية للفنانين من أبناءها، وكان كمغربي يعمل على الآثار المغربية وتاريخها لا علاقة لها بأوربا، ولا يمكن أن يحظى بنفس الاهتمام حسب ظنه. لكن أول عرض له كان بمقرلعمال المهاجرين بمرسيليا بفرنسا كان سنة 1976، قام بصباغة المكان وعرض لوحاته، وبدأ ينتظر كل يوم تردد الزوار الذين كانوا في معظمهم مغاربة، وفوجئ في أحد الايام بفرنسي رفقة زوجته يدخلان قاعة العرض، حيث أعجبوا بلوحاته وطلبوا منه عرضها داخل قاعة كبيرة لهم، فعرض فيما بعد 25 لوحة ، بيعت كاملة، وكانت انطلاقته نحو الإبداع العلني.غزا نبيلي أوربا بفنه قبل أن يتعرف عليه أبناء بلده، فاسمه كان معروفا بالعديد من الدول الاوربية قبل أن ينتشر بالمغرب. أتيحت له الفرصة فيما بعد سنة 1992 ليعمل أستاذ بمدرسة الفنون الجميلية باكسون بروفونس التي تكون فيها، لمدة قصيرة بسبب أول حرب ضد العراق التي أثرت على علاقته كعربي يدرس الأوربيين، دخل في نقاش حاد مع المسؤولين بالإدارة المدرسية اضطر بعدها إلى الانسحاب من التدريس، وعاد إلى المغرب ليبدأ مسيرته داخل بلده.عرض إبداعاته بعدة متاحف وقاعات عروض مغرية ودولية، كمتحف الفنون الجميلة بالمانيا، وقاعة جنوب جنوب بالنمسا و متحف الفنون الجميلة ببلغراد إصافة إلى المئات من القاعات الأخرى الخاصة أو العمومية بعدة دول أوربية ومغربية. في سنة 1992 دخل إلى المغرب، لم يكن معروفا، فكان محروما من قاعات العرض، وكان الجواب الذي يلقاه كلما دق باب قاعة ما : إسمك غير معروف على الصعيد الوطني. فترك حينها اللوحات والعروض وانكب على العمل مع الأطفال. وجد فيهم جمهورا آخر له، يدر عليه حبا وحنان، أحس بتجاوبهم. نال أخيرا شهادة فخرية لإبداعاته واهتماماته الاجتماعية من طرف اللجنة العليا لأكاديمية التعليم والتحفيز بفرنسا. كما لعب أدوار سينمائية وتلفزيونية. من طرائف نبيلي : انتصر الفن ولو بنصف نقطة حكا نبيلي قيد حياته عن طريفة له مع أحد أساتذته بالتعليم الإعدادي وقال: وقع لي اصطدام مع أستاذ مادة الرياضيات بالتعليم الإعدادي، وجدت أنه من غير المعقول أن يكون معامل الرياضيات حينها ثلاثة، فيما الرسم غير موجود، مما جعلني أصب كامل غضبي على ورقة الامتحان في مادة الرياضيات، حيث رسمت أستاذي على الورقة بدلا من الأجوبة، وبعد جهد جهيد تفهم الأستاذ وضعي وأعطاني نصف نقطة من أربعين، آنذاك فرحت وقلت في نفسي :انتصر الفن ولو بنصف نقطة. مددته من بعد، بجميع رسوماتي. فأعجبته الرسوم واستغرب أن أكون صاحبها، فأخذ بيدي الأستاذ واصطحبني إلى مدير المؤسسة وقال له بأنني لدي مواهب كبيرة ويجب الاعتناء بي، وكانت بداية مسيرتي الفنية.

ساحة الفن التشكيلي المغربي تفقد محمد نبيلي و فاطنة كبوري غيب الموت كل من الفنان التشكيلي محمد نبيلي أحد رواد التجريد بالمغرب ، و الفنانة فاطنة كبوري كواحدة من أهم الأسماء الفنية في الفن الفطري المغربي ، بذلك تفقد الساحة التشكيلية المغربية اسمين هامين من رموزها .

من almooftah

اترك تعليقاً