إحدى القاعات الداخلية في قصر الحصن

إحدى القاعات الداخلية في قصر الحصن

محمود إسماعيل بدر

يشكّل يوم غد السابع من ديسمبر الجاري لحظة تاريخية، حيث تفتتح دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، «قصر الحصن» بإطلالته الجديدة، بعد سلسلة واسعة من أعمال التجديد والصيانة والتّرميم، تحت مظلة مشروع طموح بدأ عام 2007، يجعل من المكان وجهة ومنصة ثقافية جديدة
في قلب العاصمة.
ويعدّ «قصر الحصن» أقدم وأعرق موقع تراثي في أبوظبي، ويتكوّن من بناءين بارزين هما «الحصن الدّاخلي» الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1795 تقريباً، و«القصر الخارجي» الذي بني في أربعينيات القرن العشرين، وكان هذا الصّرح الرّمز ولا يزال شاهداً على تاريخ المدينة على مدى القرنين الماضيين، حيث اتخذت منه العائلة الحاكمة مقراً لها في البداية، ثم أصبح مقراً للحكومة والمجلس الاستشاري والأرشيف الوطني، واليوم تحوّل القصر إلى «متحف وطني للمجموعات الأثرية التي تحكي تاريخ إمارة أبوظبي» بعد مرور سنوات عدة من الترميم، ليبرز نصباً حضرياً يعكس تطوّر المدينة من منطقة استقرار التّجمعات السكانية التي اعتمدت على مهن تقليدية مثل صيد السمك والغوص على اللؤلؤ في القرن الثامن عشر، إلى واحدة من أروع المدن العالمية الحديثة، بل أكثرها نمواً وتطوراً، ليقف إرثاً حضارياً شامخاً في قلب المدينة النّابض بالحياة، كما تعتبر منطقة الحصن الثقافية مثالاً حيّاً على عراقة أبوظبي وأصالة شعبها وتقاليدها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ.

 

مشهد عام لواجهة قصر الحصن الرئيسيةمشهد عام لواجهة قصر الحصن الرئيسية

 

ذاكرة مكانية وإنسانية
«قصر الحصن» الذي عرف بأسماء كثيرة، بحسب الوثائق البريطانية: قصر الحاكم، القصر الأبيض، القلعة، دار الحكومة، ليس مجرد مبنى تاريخي، بل يشكّل ذاكرة مكانية وإنسانية ثرية، ومعلماً تطبيقياً حيّاً، إذ يعود تاريخه إلى أكثر من 250 عاماً، وما زال يحكي قصة إنسان هذه الأرض مع الأصالة والعراقة، ومع التطور المصيري والتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة، إنّه في الواقع مشروع سياسي وثقافي نهضوي يمثل (القيمة الإنسانية) كما يمثل (الإنسان) في أجلى صوره كأساس لأي عملية حضارية، كما يخترق حاجز التقليد للبناء الكلاسيكي إلى خير مثال للإبداع المعماري البارع، حينما ينجح في اختزال التطور التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي للإمارة الفتية من خلال روحه الوثابة التي ما زالت شاهداً حيّاً على تطور المدينة وأصالتها وحداثتها ذات المرجعية التاريخية التي يشهد لها الجميع بالنمو ومواكبة روح العصر، وليبقى هذا المكان الذي يحمل هويته ويتوسط الأبراج وناطحات السحاب، معلماً ورمزاً يقف على هيبة التاريخ، يسرد بكل فخر واعتزاز ما مرّ عليه من أحداث جسام، وما شهدته جنباته وأروقته من مناسبات مفصلية صاغت قسمات العاصمة الرائعة «أبوظبي».
«قصر الحصن» المتطور في مكانه وثباته، والذي يتربع اليوم في قلب العاصمة، لم تنل منه الحداثة شيئاً، لقد تطورت الدنيا، ومعها مدينة أبوظبي، وتغّير كل ما يحيط به من شوارع وبنايات، إلا هذا المبنى الصامد الحنون الدافئ، المبهر، في محافظته على هويته وتاريخه، فقد ظلّ مقيماً أبدياً يشهد على التّاريخ ويحرس روحه العتيقة كسنديانة لا تضعف أمام الرّيح، ولكل هذا حكاية وقصة تروي ذاكرة مكان، وقد تحول في عهد الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عام 1966، ولأول مرة في تاريخه إلى مبنى إداري ومقر حكومي، كما أمر بتحديثه في الفترة ما بين 1976 و1985، وعلاوة على استخدام المبنى لإدارة الشؤون الحكومية، فقد استضاف في جنباته ولفترة زمنية محددة: الشرطة المحلية، مركز التوثيق والبحوث عام 1968، كما أصبح قصر الحصن أكثر هيبة ومنعة بعد توسعته ووضع بعض المدافع القديمة أمامه، بالإضافة إلى تغيير الحدائق الداخلية لتشتمل على أرصفة ونوافير مياه وأعمدة إنارة، ولهذا يمكن اعتباره مكان الحكم الأول، وقد وفّر نوعاً من الاستقرار والحماية لمختلف القبائل والمجموعات على جزيرة أبوظبي الطموحة نحو مستقبل مزدهر.

شاهد على التحولات
وشهد هذا المكان التاريخي العريق، بعد تولي المغفور له الشيخ زايد مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، الكثير من الأحداث التاريخية، حيث وضعت الخطط والمشاريع والملامح الأساسية لبناء الإمارة الحديثة، كما تم التنسيق والإعداد لجملة من الاتفاقيات التي أفضت إلى تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان الشيخ زايد أثناء حياته الحافلة بالإنجازات العظيمة، قد أولى قصر الحصن اهتماماً خاصاً، حيث أمر بترميمه لأكثر من مرة، باعتباره كان ولا يزال جزءاً مهماً من التراث الوطني، ورمزاً تاريخياً له هويته وسجله الحافل في مسيرة الدولة الحديثة الناهضة. هو إذن أكثر من مكان، ويلزم تكرار هذا المعنى هنا، لأنه بهذا الحضور الاحتفالي البهي الخلاّق، شكّل نقطة انطلاق حقيقية لإمارة أبوظبي وتقدّمها، كما كان ولا يزال شاهداً على إنجازات حكامها السابقين ورجالات الوطن المخلصين. واليوم يعرّف المعرض الدائم داخل القصر الخارجي والحصن الداخلي اللذين تم ترميمهما – زواره بتجربة متنوعة لاستكشاف فصول أبوظبي التاريخية.
في دراسة لها بعنوان (قصر الحصن رمز تاريخي وتراث أبوظبي)، كتبت الدكتورة «جوينتي مايترا» قائلة عن السيرة المعنوية للمكان: (قصر الحصن الذي مثل طوال قرون مضت قصراً وحصناً لحكام أبوظبي من آل نهيان، يقف اليوم كنصب تاريخي وشهادة حيّة على تاريخ إمارة أبوظبي وتراثها الإنساني والحضاري، فهو يعتبر من أقدم البنى التاريخية ومن بين المعالم النادرة التي تحدّت الزمن لتكشف قيمة المعمار والهندسة المحلّية للإمارة، وتربط الماضي بالحاضر، مع غياب أدلة قاطعة يمكن افتراضها أنّه تمّ في فترة ما من تاريخ مدينة أبوظبي إقامة (برج طيني) دائري الشكل بعد اكتشاف منبع لمياه عذبة بمحض المصادفة، وحدوث أول عملية استيطان على جزيرة أبوظبي عام 1761، من قبل الشيخ ذياب بن عيسى، وبذلك يمكن هذا البرج الطيني بمثابة البنية الأصلية لما اشتهر في تاريخ إمارة أبوظبي بقصر الحصن، وبعد انتقال قبائل حلف بني ياس من قرية «المارية» في واحة ليوا إلى جزيرة أبوظبي، تطور قصر الحصن تدريجياً خلال القرن التاسع عشر من قلعة متواضعة إلى حصن ومسكن محصن، وفي بداية القرن العشرين، وصف هذا البناء من طرف أحد الرحالة الأجانب على أنّه «قلعة مهيبة»، ومن المثير للاهتمام أنّ التغييرات البنوية التي طالت هذا الرمز التاريخي/‏‏ حصن حكام آل نهيان، تزامنت مع التحوّل العجيب الذي شهدته أبوظبي من قرية صغيرة للصيد إلى مستوطنة مزدهرة وأكثر مراكز تجارة اللؤلؤ ازدهاراً على ساحل الخليج العربي.من هذا المنظور، سيظل قصر الحصن معلماً وشاهداً حيّاً، يعكس صورة مثالية للتجربة السياسية التي عاشتها أبوظبي في حقب مختلفة، فهذا التكامل الذي أحدثه المكان المتفرد البديع بأروع صورة، سيبقى ماثلاً بالذاكرة الجمعية.

 

من المعروضات التاريخية في قصر الحصن (تصوير: عمران شاهد)من المعروضات التاريخية في قصر الحصن (تصوير: عمران شاهد)

 

إشعاع ثقافي
كان لقصر الحصن مكانة عزيزة على قلب المغفور له الشيخ زايد «طيب الله ثراه»، فهو بمثابة السجل الحافل بالذكريات، ليس للأب المؤسس فحسب، بل لجميع المواطنين الذين كانوا يذهبون إليه للاجتماع بالحاكم والتحدث معه في مجلسه ومناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما ضم هذا المكان الثمين في جنباته ركناً خاصاً للوثائق والمراجع والمكتبة، ولا شك أن قصر الحصن كان البداية العملية لمركز الوثائق والدراسات، الذي يتوافر على خمسة ملايين وثيقة تخص الإمارات والمنطقة، وفي عام 1983 وفي رحاب قصر الحصن وجه الشيخ زايد بإنشاء المجمع الثقافي، وأصبح يضم: المؤسسة الثقافية، المكتبة الوطنية، مركز الوثائق والدراسات، مؤسسة الأرشيف الوطني، بما يؤكد أن القصر كان مركزاً إشعاعياً وفكرياً لفترة طويلة من الزمن قبل إنشاء المجمع الثقافي الذي تسلّم الرسالة وأكملها، وسيبقى قصر الحصن على الدوام رمزاً لإمارة أبوظبي، ويجمع بين تاريخها وتراثها وحضارتها عبر العصور، وسيشكل مكاناً لتكريم شعبها والاحتفاء بثقافة الإمارة وهويتها.

التصميم الهندسي
تم بناء قصر الحصن من الأحجار البحرية والمرجانية، وصبغت جدرانه بخليط من الكلس والرمال المحلية والأصداف البحرية المطحونة، وتم تغطية الأرضيات وبناء السقوف من خشب أشجار القرم، لصلابة هذا النّوع من الأخشاب وقدرتها على التّحمل والدوام لفترة طويلة، ومن أبرز الجوانب الهندسية في هيكل الحصن هو نظام التّهوية التقليدي (البارجيل) أقدم أنظمة تكييف الهواء، كما يشمل الحصن على برجين دائريين وآخرين مربعين.

من almooftah

اترك تعليقاً