ملكة الزهور سراج الدين 1935 ـ 2007

صباح الحادي والعشرين من شهر آذار العام المنصرم .. كنت أشاهد الناس محملين بالورود والأزهار، بغدّوّهم ورواحهم للأمهات بينما كنت أسير في موكب جنازة أمي… حاملاً من اسمها الزهرة الأخيرة…

ملكة الزهور سراج الدين.. ‏

اسم لطيف ولافت .. إنها أمي، عرفها بعض قراء تشرين في السنوات الماضية عندما كانت تنشر بعض مذكرات وأدبيات زوجها الراحل بشير فنصة 1917 ـ 1997. ‏

‏لم تكن سيدة صالونات ولم يسمع عنها الكثير حتى عندما ساهمت في « أدباء النصف الثاني من القرن العشرين» بالمشاركة مع ثلة من الأدباء، ربما لأن جُل ما تكتبه كان يبقى طي الأدراج، بالرغم من أن زوجها كان واحداً من رواد الصحافة والأدب في ثلاثينيات القرن الماضي وترأس تحرير « ألف باء» و « الأنباء» في الأربعينيات والخمسينيات. ‏

فهي لم تنشر كتاباتها إلا عندما انطفأ قلم زوجها وحصرت دراساتها عنه بالذات لما لمسته من غياب الكثيرين من أصدقائه، بالرغم من قيمتهم الفكرية والإنسانية في غياهب النسيان والزوال بعد أن يسدل الستار عنهم بانطفاء أنوار حفلات التأبين. ‏

كذلك حصل مع جيله وعدد من أصدقائه، وإني لأخمن أن جيلين أو أكثر لم يسمعوا ما أطلق عليه في دوائر العالم الموسيقية بموزارت الشرق « عزيز غنام» أو رائدي الشعرية السريالية د. علي الناصر و أورخان ميسر وشقيقه عدنان رسام النفس البشرية بلا منازع. ‏

وغيرهم كثر .. شاعر أو فنان أو أديب.. من يذكرهم .. ‏

كنت أرى بذهول يديها المرتعشتين تعانق قلماً وورقة حتى اللحظة الأخيرة من عمرها لتخط صورة زوجها الراحل على الورق عبر أسلوبها الأدبي الخاص الذي استقته من شغفها بجرجي زيدان، وطه حسين والمازني وأحمد حسن الزيات وحلمي مراد، كأغلب جيل الأدباء الذين نشؤوا في كنف بلاغة هؤلاء الأعلام . ‏

كتبت الشعر ولم تقدم نفسها في يوم من الأيام على أنها شاعرة..كتبت المقال والخاطرة والنقد اللاذع الساخر، لما قرأته وسمعته وشاهدته ولم تقدم نفسها ككاتبة .. فالكتابة بالنسبة لها عزاء ووفاء . وكانت هجاءة من الطراز الذي يسلخ الأدب عن بعض المتأدبين ودعاتهم .. خصوصاً من كان منهم في أسواق عكاظ العصر الحديث. ‏

وكيف لا تفعل وهي حافظة لأشعار أبي تمام والمعري والمتنبي وإيليا أبو ماضي وجبران، لذلك عانيت الأمرين مع ذوقها « الإتباعي» الذي مجّد أساطين الأدب وعفّ عن سواهم في اختياري لما كنت أقدمه لها من كتابات حداثية ، فكانت كما يقولون لا يعجبها العجب. ‏

وكنت على يقين بأنها لم تستهن بأحد ما لم يكن نتاجه الإبداعي قاصراً، وكان حكمها قاسياً ومراً لمن يتجرعه منها، وهذا بالضرورة يفسر إعراض الكثيرين عن الإشادة بها أو بنتاجها. ‏

ضربت صُفحاً عن وصف زوجها .. بالأب العطوف والزوج المخلص والأديب اللامع …الخ. بل حللت ووثقت وكشفت بنكهة قلمه العارف تاريخاً عاصفاً عاشته وعاشه زوجها بشير فنصة بحكم عمله وعلاقاته التي نأت عنها كفاعلة ولم تنأ عنها كشاهدة وكاتبة لأهم محطاتها.. فتركت لنا العشرات من المصنفات التي تكمل مسيرة زوجها الراحل بنفسٍ واثقة ورؤية متحررة لم تهتم يوماً بالنشر وسوقه المحزنة التي يعاني منها إلى اليوم عديد من أهم كتابنا وأشهر أدبائنا. ‏

َوصفت حياتها معنا نحن أولادها وأحفادها شعراً موزوناً ونثراً عندما اقترب أجلها، يمكن أن يكون فيما لو نشر علامة جديدة في الأدب « الأمومي» المحدث كتبته أم واعية ومثقفة ثقافة عربية أصلية من منابعها الثرة ومُثقفة لمن حولها، وأصرت أن تكتب هي بالذات نعيتها – قبل رحيلها طبعاً ـ التي تُشهر وفاتها بأسلوب مغاير لما ينشر من نعيات الوفاة فكان طريفاً في جدته وأنيقاً في فحواه كما كان رحيلها المرّ الذي لا ينسى في عيد الأم. ‏

saad [email protected] 

من almooftah

اترك تعليقاً