الشاعر الانكليزي جون ملتون John Milton(1608-1674) وفردوسه المفقود Paradise Lost

أ د.حميد حسون بجية
تعد حياة الشاعر الانكليزي ملتون و أعماله النموذج الأكمل لوحدة الغرض عبر التأريخ الطويل للأدب الانكليزي بكامله، فمنذ وقت مبكر كان ملتون ينظر إلى نفسه على أنه مقدر له أن يقوم بعمل جبار. فقد كانت السنون الأولى المبكرة التي أمضاها في جامعة كيمبرج و منفاه الذي فرضه على نفسه في أحدى القرى و عقده العزم على نصرة القضية البيورتانية (التطهرية)Puritan cause، كان كل ذلك جزءا من ذلك النموذج، إذ أدى ذلك إلى اللحظة السامية من الانجاز أي(النعيم الضائع أو الفردوس المفقود) و كانت الفكرة الرئيسة أو الغرض الأساسي لملحمته المشهورة تلك هي أن عقل الإنسان يجب أن ينتصر في النهاية على عواطفه التي تشغله عن ذلك العقل. و هذا الغرض هو لب قصيدته (أغنية الصباح لميلاد السيد المسيحOde on the Morning of Christ’s Nativity)كما أنها اللباس التنكري لقصيدته (كوموسComus )وهو اله المرح عند الإغريق . وفي قصائد أخرى نجد لمحة شخصية للشاعر منهمكا في عمله وكذلك لأحلامه و طموحاته و استغراقه في متعة العيش. و لم تكن قصيدته(ليسيداسLycidas )(1639)مجرد مرثية حول موت أحد أصدقائه و هو ادوارد كنك بقدر ما كانت تأملا من ملتون في خلجات نفسه وفي المستقبل الممتد أمامه.
لم يبدأ ملتون بكتابة (الفردوس المفقود)حتى جرب أهوال الحرب الأهلية و تحول إلى مدافع عن قضيته من خلال كتبه التي ألفها نثرا حول حرية الكنيسة و حرية الصحافة و الحرية الفردية. و في عام 1652فقد بصره و منذ ذلك الحين أصبح ملتون الشاعر الذي كرس جهده لهدف واحد ألا و هو كتابة قصيدة ملحمية كبرى. و أخيرا أكمل كتابة(الفردوس المفقود) و نشرها عام1667م. أما قصيدتاه(عودة الفردوسParadise Regained )و(صراع شمشونSamson Agonistes)فقد ظهرتا عام1671م. توفي ملتون عام 1674م. كانت ملحمة(الفردوس المفقود)أكثر أعمال ملتون شهرة فقد أدت كل أعماله المبكرة إلى هذا الانجاز الرئيسي الفريد, إذ وضع فيهما كل مشاعره الحسية للعالم المادي و طموحه و حبه للحرية و لبيوريتانيته الراسخة. فهي قصيدة ملحمية تركز على غواية الإنسان و سقوطه. يروي ملتون القصة الغيبية حول سقوط الملائكة المتمردين و تجمعهم في الجحيم و قرارهم بالانتقام والبعثة التي قام بها الشيطان لانجاز دمار البشرية و خرابها, في 12مجلدا يتضمن كل منها ما يقارب800بيتا من الشعر. تكشف القصيدة قوة الأسلوب عند ملتون على أرفع مستوى، فشمول الرؤية في الوصف و السرد المفعم بالحيوية و اللحظات شديدة الدرامية، كل ذلك لابد أن يؤدي إلى الجمالية الرصينة للخاتمة. أن الصراع الواسع الذي كان ملتون يبحث عنه ليبرز للعيان و كذلك الصراع الداخلي الذي كان يعانيه في دخيلته يعطيان(الفردوس المفقود) أثرا مباشرا و قوة درامية قلما يوجدان في قصائد في هذا الطول. فنرى أن الأشكال العملاقة من الملائكة المتمردين تتحرك بوقار لا نظير له إلى مجلس الحرب في مبنى عاصمة الجحيم. و يظهر الشيطان أمام أبواب الجحيم و يواجه توأما الرعب و هما الخطيئة و الموت.

فالشيطان شخصية متميزة و معروفة بشكل كامل ربما كان ذلك مفهوما سلفا.

و يعد الغرور هواية الشيطان المسيطرة و يأتي بعد الغرور المتهور و طول الأمل. و هذه كلها تتواجد بمقدار متساو و في ذات الشاعر نفسه. و غالبا ما يبدو الشيطان متحدثا إلى ملتون بشكل مباشر كما في الأبيات التالية:

و ماذا يهم لو أنا خسرنا المعركة؟

فلم نخسر بعد كل شيء. فالهوى الذي لا يقهر

و التأمل في الانتقام و البغضاء الأبدية

و التهور لا تذعن و لا تستسلم.

تنبع القصيدة ككل من تجارب ملتون المفعمة بالحياة بمستواها الشخصي و العام على حد سواء فهو يتعامل مع شكل القصيدة الشعري و تخيلاته بمهارة فنية عالية. لا شك أن لهذا العمل الملحمي الرائع لحظات من الملل و مقاطع من الاهتمام اللاهوتي المحض لكن قلة من القصائد تعبر بهذا الشكل الرائع عن واحدة من أكثر المشاكل الإنسانية قدما و معاصره أيضا,في الصراع الطويل المر في نفس الإنسان بين الخير و الشر, سهم ما شئت الصراع بين الين Yin(السلبي)أو اليان Yan (الايجابي) (في الفلسفة الصينية)أو بين الأنا Super-egoو الهوَ Idَ, فسيبقى الحال كما هو : فمن جانب هنالك صراع الإنسانية الأبدي في سبيل العقل و السلامة و الحب, و من جانب آخر صراعها مع القوى الشريرة كالأنانية و الجشع و البغضاء مما يصعب على الإنسان أن يتغلب عليها.

أ د.حميد حسون بجية

من almooftah

اترك تعليقاً