من أجمل ما قرأت حول نظرية المؤامرة: «إنكار المؤامرة بالكلية جزء من المؤامرة، والمبالغة فيها دعم للمؤامرة»، ولا أجد في نفسي اعتراضا على صحتها فهي جامعة لشطري الحقيقة، فنحن كعرب واقعون في أسر الشطر الأول، حتى غدت مصطلحات الفكر التآمري ونظرية المؤامرة، فزاعة تحيط بمحاولاتنا في تفسير الأحداث الكبرى، ما أدى إلى إنكارنا لكثير من المخططات التي تستهدفنا.
«مشروع المليار الذهبي»، أحد الموضوعات المهمة التي أثيرت بشكل قوي منذ بداية أزمة فيروس كورونا، وما أعقبها من حرب أوكرانيا، الذي يعني أن هناك مخططا لتقليل عدد الجنس البشري إلى مليار من ذوي القدرة والكفاءة على العيش.
نظرية المؤامرة، أصبحت فزاعة تحيط بمحاولاتنا في تفسير الأحداث الكبرى، ما أدى إلى إنكارنا لكثير من المخططات التي تستهدفنا
كان من الممكن أن أمتنع عن الكتابة في هذا الشأن، حتى لا أكون عرضة لمرمى مثقفينا بالاتهام بالوقوع تحت تأثير نظرية المؤامرة، بيْد أن طرح هذا الموضوع ليس وليد اليوم، ولم ينشأ الحديث عنه في عالمنا العربي والإسلامي. ففي عام 1990 صدر للكاتب الروسي أناتولي تسيكونوف كتاب بعنوان «مؤامرة الحكومة العالمية.. روسيا والمليار الذهبي»، الذي ذكر في إطار مؤامرة نهاية العصر ضد روسيا، أن النخب الغربية أدركت أن التغيير البيئي سيشهد شراسة في المنافسة على الموارد في العالم، ما يجعل الأرض غير صالحة إلا لمليار شخص فقط. وفي العام الماضي، تحدث الرئيس الروسي بوتين عن مشروع المليار الذهبي صراحة، خلال منتدى «أفكار قوية للعصر الجديد»، ووصف الهيمنة الكاملة للمليار الذهبي بأنها فكرة عنصرية واستعمارية جديدة بطبيعتها، وتقسم الشعوب إلى صنف أول وثان، وأشار إلى أن هذا النموذج من الهيمنة الذي يريد فرض قواعد سلوكه الخاصة على الجميع، يفتقد لأية عدالة. يستند بوتين في حديثه عن مشروع المليار الذهبي إلى ما تحدث عنه الروس بشأن العثور على مختبرات أمريكية في أوكرانيا، وتمويلها لأبحاث مسببات الأمراض، تزامن مع ما تم تداوله من كون فيروس كورونا يأتي ضمن الفيروسات المخلّقة، ما عضّد لدى البعض فكرة تخفيض عدد البشر. ربما يقال لنا إن كتاب تيسكونوف عن المليار الذهبي جاء في سياق الصراع السوفييتي الأمريكي في وقت انهيار الاتحاد السوفييتي، فاختلق الكاتب نظريته هذه، أو على الأقل ذكرها تحت تأثير خضوعه لنظرية المؤامرة، كما قد يقال إن تصريح بوتين الذي يتزعم روسيا وريث الاتحاد السوفييتي، جاء في السياق نفسه، في خضم حرب الروس على أوكرانيا التي يدعمها الغرب الأمريكي والأوروبي. لكن كيف سنتجاهل حديث المعسكر الغربي ذاته عن هذا المشروع، وإن تعددت صيغ تناوله ومسمياته، وكلها ترتكز على فكرة ما ذكره فرنسيس مور لأبيه في كتاب «صناعة الجوع»، «بشر أكثر مما يجب، وأرض أقل مما يجب»، بمعنى أن موارد الأرض لا تكفي البشر مع ازدياد أعدادهم، ولذا ينبغي التخلص من الأعداد الزائدة ليعيش الآخرون القادرون في سلام.
من أبرز من تحدث عن هذه الفكرة، الاقتصادي الديمغرافي الإنكليزي توماس روبرت مالتوس، الذي اشتهر بالنظرية المالتوسية، التي صاغها عام 1798، والتي ربط فيها تنامي الفقر بتزايد أعداد السكان بمعدلات تفوق معدلات نمو المحاصيل، ما سيؤدي إلى اختلال التوازن، وحلول الفقر والتشرد والسرقة ونحوه. بنى مالتوس نظريته على أساس أن البشر يتكاثرون بشكل متوالية هندسية، بمعنى أن يكون كل عدد ناتجا عن ضرب العدد الذي يسبقه في عدد حقيقي ثابت يسمى أساس المتتالية، مثل (2، 4، 8، 16، 32….)، بينما ـ وفقا لنظريته – يكثر الغذاء وفقا لمتتالية حسابية، بمعنى أن يكون كل عدد ناتجا عن جمع العدد الذي يسبقه في عدد حقيقي ثابت، مثلا: (1، 2، 3، 4، 5…..). ويرى مالتوس أنه يتعين فرض قيود أخلاقية للحد من الولادات، مع تأخير سن الزواج، وتحديد النسل، ورأى ضرورة أن تتخلى الدولة عن تقديم المساعدات للفقراء بدعوى أن هذه المعونات تحول بينهم وبين إدراك أنهم سبب الكارثة، ومن ثم يزدادون في التكاثر وتتفاقم المشكلة. ثم تطالعنا إحدى النظريات الأخرى الشهيرة في المعسكر الغربي لطالما تحدثت عنها، وهي نظرية «أخلاقيات قارب النجاة» لعالم البيئة الأمريكي جاريت هاردن، التي يُشبّه فيها العالم بقارب للنجاة ليس فيه من الطعام ما يكفي الجميع، وبالتالي يجب أن يذهب الطعام إلى من يتمتعون بأكبر فرصة للنجاة، ويدع قائدُ السفينة، الذين يصارعون الأمواج للغرق، وينبغي ألا يشعر بوخز الضمير لأنه حافظ على ركاب السفينة الأقدر على النجاة. ويلاحظ على هذه النظرية والتي قبلها خلوهما من البعد الأخلاقي، إذ تجعلان من تصفية الأرواح البشرية أمرا هينا يمكن التفريط به، وفقا لتكهنات وتوقعات المنظّرين. وفي عام 1974، أصدر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، وثيقة بعنوان «تأثيرات التزايد السكاني في العالم على أمن الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في ما وراء البحار، طالب فيها بفرض سياسة تحديد النسل في ثلاث عشرة دولة من العالم الثالث، علما بأن 90% من هذه الدول هي دول إسلامية، وهي كما يتضح لنا، امتداد لنفس فكرة تقليل عدد البشرية لصالح الأقوياء. وعلى الوتيرة ذاتها، سار البروفيسور الأمريكي نورمان بولاوج الحائز جائزة نوبل للسلام، حيث توقع عام 1980، وصول أعداد البشرية في الأربعين سنة اللاحقة إلى ثمانية مليارات نسمة، محملا الوحش البشري على حد تعبيره مسؤولية الجوع، فهو وإن كان لم يشر بشكل مباشر إلى ضرورة تقليل عدد سكان الكوكب، لكن تحميله البشر المسؤولية يصب في الاتجاه ذاته.
إذن، عندما نخوض في شأن مشروع المليار الذهبي، فلسنا متأثرين بالفكر التآمري، وأنه يجب النظر بجدية في هذه القضية، خاصة مع الفجوة العلمية والتكنولوجية بين دول العالم الثالث والقوى الكبرى – التي تمثل المليار الذهبي وفقا للنظرية – حيث أدت هذه الفجوة إلى نقل الثروة البشرية من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية للاستفادة منهم، ما يجعل مهمة نهوض الدول النامية ودول العالم الثالث تكاد تكون مستحيلة، وبالتالي تكون مرشحة للاستبعاد من الإحصاء البشري لصالح المليار الذهبي. ويحق لنا أن نتساءل عن الفيروسات المصنعة، وعن تمويل أطراف الصراعات من الجهة ذاتها، وعن المحاولات الغربية المستميتة لتقليل عدد سكان العالم الثالث تحت غطاء مؤتمرات السكان ونحوها وتركيزها على العواصم الإسلامية، ألا يثير كل ذلك الريبة على الأقل بشأن ما يعرف بمشروع المليار الذهبي؟!
إننا مطالبون بعدم تهويل أو تضخيم القضايا والمبالغة في تفسيرها بأنها مكائد ومخططات استعمارية، لكن في الوقت ذاته ينبغي أن لا نختبئ عن الخوض فيها بشكل موضوعي، حتى نبقى على حذر، ولئلا نسمح بتمرير الأخطار خوفا من فزاعة الفكر التآمري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية