وهم “الزمن الجميل”

أولاد هذا الجيل لا يحترمون آباءهم، ويغيبون عن البيت بدون استئذان.
الإمكانيات الطبية واللقاحات والمضادات الحيوية والحياة الصحية أمدت في متوسط عمر الإنسان بشكل لم يكن نحلم به
 استمتع بزمانك اليوم وغدا، فأنت تعيش “الزمن الجميل” وغدا سوف يكون زمانا أجمل
 زمن جدنا الأكبر رمسيس الثاني كان زمنا جميلا بالنسبة للجد رمسيس

شاهدت الأسبوع الماضي الفيلم الكلاسيكي الأميركي “شرق عدن” (1955) عن قصة الكاتب الأميركي جون شتاينبك، وإخراج إيليا كازان، وبطولة الممثل الرائع جيمس دين، والذي برع في أداء دور الشاب المتمرد، وللأسف مات شابا يافعا في حادث سيارة ولم يتجاوز عمره الرابعة والعشرين.
وقصة الفيلم تحدث عام 1917 عندما دخلت أميركا الحرب العالمية الأولى ضد الألمان، وجيمس دين قام بأداء شخصية “كال” الشاب المتمرد على والده الشديد التدين والذي فضل عليه شقيقه “آرون” المتدين والمطيع والذي ورث طباع أبيه، ومهما فعل كال لإرضاء أبيه لم يكن يرضى عنه. المهم في أحد مشاهد الفيلم الأولى حدث أن غاب كال ليلة خارج البيت دون أخذ الإذن من أبيه، فلما عاد في الصباح، اشتكاه أبوه لأحد أصدقائه، قائلا: “أولاد هذا الجيل لا يحترمون آباءهم، ويغيبون عن البيت بدون استئذان”. وكان يقول أيضا: “جيلنا كان أكثر احتراما لوالديه”.
هذه القصة حدثت منذ قرن من الزمان، وكان الأهل يشتكون من قلة أدب الأبناء، ليس هذا فقط وكانوا يتحدثون عن الزمن الجميل في القرن التاسع عشر!
وأعتقد أنه على مر العصور يعتقد الآباء بأن زمانهم (الزمن الجميل) كان أفضل من زمان أبنائهم، وأن أغاني زمانهم أفضل من أغاني زمان أبنائهم، وأفلام زمانهم أفضل، وكتاب زمانهم أفضل، وحتى زعماء زمانهم أفضل.
الوحيد الذي أشفقت عليه في هذا الشأن هو سيدنا آدم (عليه السلام) لأنه لم يكن يستطيع أن يقول لولديه قابيل وهابيل: “أنا كان استحالة أن أجلس أمام أبي واضعا رجل على رجل” أو “إن زماني كان أفضل من زمانكما”، لأن زمانه وزمان قابيل وهابيل هو نفس الزمان، ولكنه كان يستطيع أن يتفاخر عليهما بقوله: “أنا كنت أعيش في الجنة معززا مكرما، وتم طردي منها بسبب حواء”!
وأعتقد أن طرد آدم وحواء من الجنة، جعلهما يشعران بالحنين دائما إلى “الزمن الجميل” أيام الجنة، وهو ما يطلق عليه “النوستالجيا” أي شعور الحنين للماضي، وحتى اليوم يحن الإنسان للماضي لأنه لا يتذكر سوى الأشياء الجميلة من الماضي ولا يذكر المعاناة.
والدي كان يقول لنا دائما: “زمانكم ده معدوم البركة، إحنا كان على أيامنا العشر بيضات بقرش صاغ واحد ورطل اللحمة بخمسة قروش”!
وكل هذه الأمور مفهومة ومقبولة، أما غير المقبول وغير المعقول هو أن يتبنى الأبناء وجهة نظر الآباء، ويقولون إن: “زمن الآباء هو الزمن الجميل، وهو زمن الأفلام الأبيض والأسود” ويعيشون في ماضي آبائهم، والماضي لبعض هؤلاء الأبناء قد يمتد إلى زمن الصحابة في فجر الإسلام، وبعض الأبناء يعتقد بأن هؤلاء الصحابة كانوا ملائكة لا يخطئون، وأي انتقاد لتصرفات بعض هؤلاء الصحابة يعتبر “تطاول على الصحابة”، وهو يذهب من شأنه أن يؤدي بصاحب الانتقاد إلى ستين داهية، بل قد يفقد حياته إن حاول تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة في التاريخ، مثلما حدث للعديد من المفكرين الإسلاميين، وحياة بعضهم مهددة حتى اليوم.

ونحن في زمن ثورة المعلومات والمعرفة، أنت تحمل في جيبك جهاز يوصلك بأي مكان في العالم صوتا وصورة. تشاهد ما يحدث في العالم على الهواء مباشرة، يجيب عن أي سؤال يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك في ثوان. تشاهد أفلامك المفضلة ومبارياتك المفضلة على الهواء مباشرة، تلتقي مع طبيبك مباشرة على الهواء، تشاهد الأفلام الخليعة وحلقاتك الدينية المفضلة في أي وقت (وليس في نفس الوقت)!
وكلها إمكانيات لم يكن يحلم بها أجدادنا أو آباؤنا.
الإمكانيات الطبية واللقاحات والمضادات الحيوية والحياة الصحية أمدت في متوسط عمر الإنسان بشكل لم يكن نحلم به، الآن إذا سمعت بشخص يتوفى في الستين من عمره تعتقد أنه مات قبل الآوان، نجد رجالا ونساء يعيشون حتى سن التسعين بصحة جيدة ويستمتعون بحياتهم.
لم نعد نسمع كثيرا عن أم تفقد أطفالها قبل تمام سن الخامسة، الرعاية الصحية للأطفال تخطت كل خيال.
كثير من سياراتنا وبيوتنا أصبحت مكيفة الهواء، بعد أن كنا نذهب لسينما مترو بوسط القاهرة للاستمتاع بتكييف الهواء في حر الصيف.
السفر من بلد لبلد أصبح سهلا ومتاحا للجميع بكل الطبقات.
أذكر عندما نشأت طفلا صغير في إحدى حواري القاهرة الشعبية كنا لا نشاهد السيارات الخاصة إلا نادرا، وبعد انتشار السيارات دخل الحارة شاب من أبنائها بسيارته، فما كان من أحد أشقياء الحارة إلا أن أشبعه سخرية قائلا: “داخل الحارة راكب عربية… يا ابن …. العربية الوحيدة اللي ركبها أبوك، كانت عربية إسعاف وعلى المستشفى على طول”!
زماننا هذا هو زمن جميل، وزمان أبي كان زمنا جميلا بالنسبة له، وكذلك زمن جده، حتى زمن جدنا الأكبر رمسيس الثاني كان زمنا جميلا بالنسبة للجد رمسيس.
ومن يرى أفلام “الزمن الجميل” بالأبيض والأسود ويشاهد شوارع القاهرة والإسكندرية الجميلة والنظيفة والخالية من المارة، ويشاهد القصور الفاخرة بالحدائق الغناء، ينسى أو لا يعرف بأن الأغلبية الساحقة في ذلك “الزمن الجميل” كانت تعيش في بيوت من الطين بدون مياه أو كهرباء أو صرف صحي.
وأرى الآن أفلاما يتم تصويرها في الأحياء الجديدة الفاخرة وأرى قصورا بحمامات سباحة أو يتم تصويرها في المنتجعات الجديدة في شرم الشيخ والغردقة والساحل الشمالي، فيعتقد من لا يعرف بعد 50 سنة من الآن بأن أوائل القرن الواحد والعشرين كانت هي “الزمن الجميل”.
استمتع بزمانك اليوم وغدا، فأنت تعيش “الزمن الجميل” وغدا سوف يكون زمانا أجمل

 

من almooftah

اترك تعليقاً