القصيدة القصيرة جدا وإشكالية المصطلح
محمد مختاري
في خضمِّ الاضطراب الذي تشهده الساحة الأدبية بصدد وضعِ المصطلحات النقدية، ما زال هذا الجنسُ الأدبي الذي يُدعى “القصيدة القصيرة جدًّا” يحاول أن يضع لنفسه مكانًا بين الأجناس الأدبية في أدبنا العربي المعاصر، ويحاول أن يتخلص من دائرة اللامُفكَّر فيه؛ لأن غياب الضبط الاصطلاحي سببٌ في هذا الواقع بشكل كبير، خصوصًا إذا علِمنا أن هذا الجنس الأدبي دائمًا ما يُتناوَل كمرادفٍ للقصيدة الشَّذْرِيَّة؛ ولذلك فلن نعدَمَ تأزُّم الوضع النقدي في المشهد الأدبي، ولا سيما الشعري منه.
إذًا؛ سنحاول هنا أن نحدد بعض الخصائص المميِّزة لهذا الجنس الأدبي الجديد في ضوء تبيانِ أوجه الاختلاف والائتلاف بينه وبين القصيدة الشذرية.
دأبت الدراساتُ النقدية المعاصرة على القَبول بالقناعات والقاء الكلام على عواهنِه بإنشاء مصطلحات نقدية غير مبرَّرة من الناحية العلمية، ولا من الناحية الأدبية، وهذا الاضطراب لا يخرج مردُّه عن سببين:
أولهما: استيراد الجنس الأدبي من تُربةٍ أجنبية؛ حيث يكون من الصَّعب تسْوِيره بسهولة؛ لأن الأمر يحتاج إلى تراكُمٍ نوعي وكيفي في هذا الجنس الأدبي بالتُربة المُسْتورِدة.
ثانيهما: ظهور جنس جديد في تربة أدبيةٍ ما بسبب تحول المجتمع وتطوره على الأصعدة الفكرية والأدبية على وجه الخصوص.
وفي كلتا الحالتين يكون الجنسُ الأدبي جديدًا، فيستوجب مراكمة نقدية وعلمية واعية من طرف النُّقاد والدارسين.
أما القصيدة القصيرة جدًّا، فتندرج ضمن السبب الثاني؛ لأنها جاءت على إثْرِ التحولات الفكرية والأدبية في الوطن العربي؛ لتظهرَ “استجابةً للإيقاع الزمني السريع للعصر الذي اختصر المسافات على كافة الأصعدة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ من خلال انتشار وهيمنة التقنية ومنظوماتها المختلفة؛ من شبكات اتصال، وتواصل اجتماعي وثقافي، والفضائيات، والإنترنت… مما جعل عملية التواصل مشروطةً بالإيجاز والتركيز والاقتصاد بشتى صوره؛ نظرًا لضيق وتقلُّصِ الزمن”.
ولذلك فالقصيدة القصيرة جدًّا جنسٌ أدبي يتميز بالإيجاز والتكثيف والاقتصاد اللُّغوي، إضافة إلى توفُّره على عنصرَي الإدهاش والمفارقة، وعلاوة على هذه الخصائص، فإنَّ موسيقا القصيدة القصيرة جدًّا تختلف تمامًا عن القصيدة التقليدية التي تتبع وزنًا خليليًّا محددًا.. هذا التميُّز في الموسيقا الشعرية جعل القصيدة القصيرة جدًّا ذات إيقاع خاصٍّ يختلف من قصيدة إلى أخرى، تُمليه على الشاعر فِطرتُه وموهبته وشاعريَّتُه.
وبالتالي، فالقصيدة القصيرة جدًّا تتسم بالقِصَر الذي يفرِض اكتفاءَها بذاتها، ويُعطيها نسقيَّة متميزة تصرِف الشاعرَ عن الإطناب والإسهاب في القول الشعري، ولأنها – وهذا هو الأهم – تتوفر على الوحدة العضوية، والتماسك اللغوي والدلالي.
أما القصيدة الشذرية، فتختلف عن القصيدة القصيرة جدًّا، خصوصًا إذا عُدْنا إلى المعاجم اللغوية العربية التي تُعرِّف مادة “شَذَرَ”،فإننا نجدها تُحيل على “القطع، والصياغة عن طريق الفصل، والحجم الصغير المتناهي والدقيق…، والتفريق والتبديد”، وبالتالي يتضح “أن أدب الشَّذرات عبارة عن نص منقسم ومنفصل إلى مجموعة من القطع والفِقرات والمتواليات المستقلَّة بنفسها على المستوى البصري…، ومن ثَمَّ تتسم الشذرة بالتفكك والانفصال”.
ومن هنا نلاحظ الاختلاف الواضح بين الجنسين؛ فالقصيدة القصيرة جدًّا تتميز بالوحدة العضوية على مستوى المكان، وأيضًا على مستوى الدلالة الشعرية؛ لكن – وعلى العكس من ذلك – تتميز الشذرة بـ” التفسُّخ، والتفكُّك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة”.
ولعلَّ السبب في هذا الاضطراب الحاصل في وضع المصطلحات النقدية – راجعٌ إلى اتسام الجنسين معًا – بالقِصر الشديد على مستوى المكان؛ مما أدى إلى الخلط بين المصطلحات؛ اعتمادًا على المميِّزات الخارجية للجنسين فقط.
وأخيرًا، فالقصيدةُ القصيرة جدًّا جنسٌ أدبي جديد ظهر حديثًا في التُّربة الشعرية العربية، يحملُ معه تجرِبةً متميزة للشعراء المعاصرين؛ لأنه فتح أفقًا جديدًا في الكتابة الشعرية؛ مما يستلزم الحذر النقديَّ الشديد أثناء مواكبة هذا الجنس الأدبي والشعري المتميز نوعه.

من almooftah

اترك تعليقاً