سهام الدغاري وحنان علي كابو في “ليبيا” وجها لوجه

  • الشعر لعنة إذا تلبست صاحبها لن تنسلخ عنه.
  • لم أكن أبداً أنتقائية في خياراتي لما أقرأ.
  • الجانب المبهج في طفولتي هو ذاته الجانب المبكي.
  • الوَحدة دفعتني للغوص في بطون الكتب والهروب من قسوتها.
  • أنظر لأكداس الكتب بشغف طفلة تنظر لأكوام من السكاكر.
  • لم أتقبل رحيل والدي المفاجيء وأردتُ توبيخه على موته المفاجيء.

***

س: الطفولة ماء الشعر الذي ندعك به عجين اللغة فتنفتح أمامنا دواليب الكتابة الطرية وحكايات الجدات ومشاعرنا البكر، كيف عاشت سهام هذه المرحلة؟

ج: أولاً دعيني أتوجه لك بجزيل الشكر وفائق العرفان لسعيك الدؤوب وهمتك العالية.

ثانياً لقد وضعت إصبعك على الجرح بسؤالك هذا.. فمرحلة《الطفولة》وهنا أضع الكلمة بين قوسين لأهميتها في حياتي هي مرحلة مركبة بالنسبة لي فلقد عشتها بوجهيها الأبيض والأسود فالجانب المبهج في طفولتي هو ذاته الجانب المبكي حيث إنني كنت الابنة الوحيدة لأبوي فبالتالي كنت الطفلة المدللة جداً إلا أن هذا الدلال و الترفيه الذي عشته لم يمنع عني شبح الوحدة الجاثم فوق عالمي الصغير نظراً لافتقادي لوجود أخوة وأخوات في حياتي وظهر هذا جلياً في مسحة الحزن التي كست ملامحي منذ الصغر وإلى يومنا هذا ومن هنا أستطيع القول بأن الوحدة هي من دفعني للغوص في بطون الكتب وكان هذا كنوع من الهروب من حدة قسوتها؛ فصرتُ شغوفة بقراءة القصص والروايات ولم أكن أبداً أنتقائية في خياراتي لما أقرأ؛ بل كنت ألتهم أي شيء وكل شيء يقع تحت يدي سواء إن كان كتاب أو قصة جيب صغيرة أو حتى صحيفة مهملة في ركنٍ ما.. ومن هنا نما عندي هذا الهوس بالقراءة رغم أني إلى الأن لا أجيد فن الانتقاء عند شرائي للكتب.. فمثلاً عند دخولي لأي مكتبة أجدني أقف مشدوهة، أنظر لأكداس الكتب بشغف طفلة تنظر لأكوام من السكاكر وتود لو تلتهمها كلها.

***

س: خطواتك الأولى في أرض الكتابة كيف كانت؟

ج: بداياتي في الكتابة لم تكن مدروسة أو مخطط لها، دعينا نقول: إنها كانت محض هروب أيضاً.. كان هذا حين نزل خبر وفاة والدي كالصاعقة التي شقتني نصفين وكنت حينها لم أتجاوز عامي الرابع عشر.. لم أشعر بالحزن وقتها بقدر ما شعرت بالغضب… أردت أن أوبخه أو ألومه.. أو حتى أسأله لم رحل وتركني وحيدة وبالرغم من أن عقلي الغض كان يستوعب الموت والحياة والفقد إلا أني لم أتقبل هذا الرحيل المفاجيء على الإطلاق؛ فهربت للقلم والورقة.. وهذا كان أول لقاء حُر لي معهما… أقصد بعيداً عن أقلامي ودفاتري المدرسية.. ولنقل أن أولى كتاباتي كانت أبعد ما تكون عن النصوص الأدبية؛ بل كانت أقرب منها للخاطرة أو الفضفضة.

***

س: ما الذي دفع بك لكتابة الشعر؟

ج: أحببت الشعر منذ نعومة أظافري وكانت حصص القراءة والمحفوظات في المدرسة من أقرب الحصص لقلبي وبما أن حياتي كما سبق وأسلفت كانت منغلقة لحد كبير فلقد وجدت في الشعر المتنفس الأكبر.. الشعر قدر كما الجغرافيا تماما.. ينتقي صاحبه ويفاجأه.. صديق حانٍ يربت على كتفيك في المحن، ويواسيك في الأزمات، ويصعد بك مدارج الإلهام، ويأخذك إلى عوالم لا متناهية خارج حدود الجسد، ويعلو على الطين، ويسبح بك في مجرات خارج حدودك لتكتشف نفسك، وتتحاور مع الذات، مراتك الصافية ترى فيها واقعك لكن بصورة ثلاثية الأبعاد مضافا إليها البعد الرابع وهو الزمن.

***

الحب تلك أكذوبة أخرى والشعر كيف وجدتِ رفقته؟

الشعر لعنة إذا تلبست صاحبها لن تنسلخ عنه، ولن ينسلخ عنها أبداً ولكني أستطيع القول: بأني أجد في رفقته السلوى والمتعة رغم إنه مرهق ومنهك فولادة قصيدة ليس بالأمر اليسير أبداً.. الشعر كتابة خارج المألوف والاعتيادي.. ضوء في آخر النفق.. شمس تبدد ظلام كونكِ السوداوي.. قمر يسطع في سماء الكتابة.. روح تولد من العدم.. حروف تطرز جيد الكتابة المعتادة.. صورة فرّت من الإطار وتشظَّت في السماء نجوما.

***

س: الشاعرة امرأة غير اعتيادية تدفع ثمن اقترافها للشعر فداحة عظيمة، ماذا فعل بك الشعر؟

ج: الشعر أخذ مني الكثير كالوقت والجهد ولكنه أعطاني أكثر.. أعطاني هذا التجلي وهذا الشعور بالاسترخاء خصوصاً في اللحظات التي تلي ولادة كل نص.. الشعر يأخذكِ من عالم البشر الاعتياديين.. يلقي بكِ في متاهة كبرى.. يبحر بكِ في محيطات واسعة.. دوامة لا تنتهي من الشعور بالفرادنية والذات المتلبسة بالوحي، والملتبسة بالشك.. في الشعر لا يقين.. مع الشعر لا مكوث في حالة واحدة.. الشعر أردية وحالات شتى.. الشعر يأخذكِ منك إليكِ في حركة مكوكية شبيهة بحركة أجهزة الطرد المركزي في المفاعلات النووية أو الأجهزة الدوارة في مختبرات التحاليل الطبية.. يتشظى الشاعر معها وتتشظى الكلمات، وتتناسل الأفكار.. هذا ما فعله الشعر بي وبغيري على ما أعتقد.

***

س: ماذا تدخرين لأوقات فراغك؟

ج: رغم أنه لا فراغ لدي إلا أنه لو حدث مصادفة وحظيت ببعض الدقائق فهي حتما ستكون للقراءة أو الكتابة.. الشعر والكتابة الحقيقية ديكاتور مستبد ولكنه عادل.. الفراغ تيه.. والفراغ هراء ومرض إذا انفرد بصاحبه قتل الإبداع في داخله.

***

ما لون الغياب؟

ج: تباً للغياب ما أوقحه يأتي على كل الألوان ليترك في النفس هوة سحيقة تفيض بالمرارة.. الغياب معادل موضوعي للموت، الغياب فقدان للوجود وافتقاد للحياة.. الغياب موتٌ إراديٌّ ونفوق وانتحار على شواطيء النصوص.. الغياب انسحاب من الصراع ذاك الصراع الذي تقوم عليه الحياة.. فالحياة ديالكتيك متواصل تعقبه ولادة شرعية للنصوص المبتغاة، بينما الغياب إقرار بالهزيمة ورفع راية الاستسلام.

***

س: الخيبة كرة لهبية تلهين بها والليل الذي يسكنكِ؟

ج: أحاول القفز خارج حدوده..

***

س: نصوصك تميزت بأنها سهلة ممتعة يسيرة وعميقة في آن واحد، كيف أمكنكِ ذلك؟

ج: حين أبدأ بالكتابة لا أفكر إطلاقاً في الصورة التي سيكون عليها النص بعد اكتماله.. لذا لم ألجأ يوماً لتنميق كتاباتي وتكليلها بمفردات مركبة ومعقدة كالتي لم تعد سائدة في وقتنا هذا، كي أُلبس نصي ثوباً من الفخامة والعظمة… حين أشعر بحاجتي الملحة للبوح كل ما أفعله هو أن أتناول جهاز الموبايل وأكتب كيفما أتفق وبتلقائية وتجرد كبيرين.. كل شيء خارج الصِنعة والتصنُّع يعلن عن الجِدّة والطرافة وخرق للمعتاد والتقليديّ.. أنا شخص طبيعيّ يعيش الحياة كما هو يراها لا كما يراها لآخرون.. أنظر للبشر والحجر نظرة الشريك والرفيق لا علو ولا استعلاء..

***

س: الحرب ماذا خلفت في ذاتك؟

ج: رغم ابتعادي المتعمد عن المشهد السياسي في ليبيا وسائر الأقطار العربية غير أني أنزف من الداخل أسى ولوعة، ثقي أن الحروب لا تخلف سوى الدمار النفسي والمادي والمعنوي للجميع دون استثناء؛ حتى لأولئك المستفدين منها، هم يدفعون الثمن بشكل أو بآخر.. الحرب الوجه القبيح للإنسان.. صورة قابيل وهابيل المتكررة في كتاب الحياة.. والمستضعفون هم من يدفع الفاتورة كاملة.

***

لم أسمع عن أي منشط ثقافي تشاركين فيه، لماذا؟

ج: أولا ببساطة لأنني جبانة أخشى الظهور ولا أحبذه.. ربما هذا يرجع لانطوائيتي التي اكتسبتها في طفولتي.. ثانيا أعتقد جازمةً أنّ (النخبة نكبة)، والمثقفون حول العالم مؤدلجون وانحيازيون وسائرون في ركاب الساسة والاقتصاديين.. أعدكِ عندما يكون المثقف في طليعة الأمة قائدا ومنيرا لها ومستنيرا بأهدافها سأقرر يومها الانخراط في الأنشطة الثقافية.. مع إنني أشك أن يأتي هذا الزمان..

***

س: تتواصلين مع تجارب الآخرين، لمن تحب أن تقرأ سهام؟

ج: أقرأ لكل ذي حرف صادق ولابأس من ذكر بعض الأمثلة هنا سراج الدين الورفلي تستهويني زئبقية نصوصه ومرونتها فهي تفتح للمتلقي آفاق شاسعة للتأويل.. وأكرم اليسير أجد الحرف بين يديه مطاوعاً ليناً فهو يمتلك قدرة هائلة على تشكيل الحروف ونسج الكلمات بطريقة خلابة… له بصمة متفردة وأسلوب مغاير لكل الأصوات الموجودة على الساحة، وكثيراً ما استفزت قصائده قلمي.. ومصطفى جمعة صاحب الحرف النابض بالإحساس أتابعه بشغف فمع كتاباته أشعر بأن الحرف في يديه صار كائنًا حيًّا. وهذا على سبيل الذكر لا الحصر فهناك الكثير من الأصوات التي تشدني وبقوة.

***

س: تجيدين كتابة القصيدة السردية التعبيرية ، هل حققت المصالحة بين الشعر والمتلقي؟

ج: إلى حدٍ ما أستطيع أن أجيبك نعم، فللأسف الشديد فبالرغم من نجاح وجمال القصيدة السردية وبأنها فتحت آفاقًا أوسع وأرحب للشاعر والمتلقي معاً إلا أنه لازال هناك بعض النفور منها لدى الكثيرين.. الكتابة السردية عابرة للنوعية.. وغير مؤطرة بسياج أو حدود واضحة فهي نص مفتوح على فنون واسعة .. الحدود بينها وبين القصة القصيرة غير محكمة.. والحدود بينها وبين المشاهد الروائية غير واضحة.. والحدود بينها وبين قصيدة النثر شائكة.. والحدود بينها وبين فن السيناريو زائفة.. إلخ.

***

س: كيف للشاعر أن يخلق جسوراً قوية وراسخة بين الشعر والمتلقي في زمن الحرب؟

ج: الجسور الراسخة تنشأ في البيئة الطبيعية وتتجذر في التربة الثابتة.. التربة في أزمنة الحرب رخوة والبشر الذين يعيشون عليها سائلون.. الحرب تنزع العقلانية من الناس.. ويعيشون حياة البدو الرحل.. مشاعرهم مائعة.. ويقينهم سراب.. ومبادئهم قابلة للتبدل والتغيّر حسب مقتضيات الحياة المؤقتة.. فكيف تستطيعين بناء جسور في تربة كهذه.. هذا من المستحيلات.

***

س: في نصك “انساب بين أناملك حريرا” تعابير شديدة البوح تحمل أقصى أشكال إبراز المكنونات النفسية ، نص إيروسي بامتياز ماذا تقول عنه سهام؟

ج: هذا النص بالذات له حكاية كان قد طلب مني الأستاذ كريم عبد الله كتابة نص سردي لإضافته لكتاب صوت المرأة في القصيدة السردية التعبيرية والذي يتم طباعته في العراق ويضم عدد كبيرا من الأصوات النسوية.. فكتبت هذا النص على عجالة وأنا مفرغة من أي شعور أو انفعال .. فقط حاولت أن أستحث الخيال ليمدني بفكرة ما ولقد كان.

***

س: قلمك يكتب الشعر ولا يستأنسه، هل كتابة الشعر تضاد؟

ج: ليست تضاد ولكنها كما سبق وأخبرتك.. هي متعة ترهق الساعي لها.

***

س: وليدك البكر “سهام في قلب الشمس” حدثيني عن نصوصه.

ج: سهام في قلب الشمس جاء بعد مروري بتجربة عصيبة في هذا الأزرق، صدقاً لا أود تذكرها أو التحدث عنها بالرغم مني أني أعتبرها نقطة تحول في شخصيتي.. لذا لو شاء الله وقرأتِ هذا المنجز ستجدين أن معظم نصوصه تحمل طابع التحدي والاعتداد بالنفس أما البقية القليلة الباقية فهي نصوص تتناول العاطفة من عدة أوجه.

***

س: تقفزين في انتقالات زمنية بين تفاصيل الحكاية تستثمرين عناصر اللغة حيث تتعدد معها مستويات الخطاب الشعري، من أين أتيتِ للشعر؟

ج: من بيئة شعرية ومن حزن مقيم.. فوالدي رحمه الله كان شاعرًا شعبيًّا يهوى الشعر روايةً وتأليفاً وكان معظم ضيوفه الدائميْ التردد على بيتنا من الشعراء الشعبيين.. على سبيل المثال لا الحصر الشاعر عبد السلام الحر الذي كان صديقا مقرباً وقريبا لوالدي رحمهما الله وغفر لهما .. ناهيك عن رحيل والدي المبكر كما سبق وذكرت وأيضاً إحساسي العميق بالوحدة سببا لي حزناً كبيراً لا أظنه سيفارقني يوماً .

***

س: ما الفائدة من أن تمارس الكلمات عادتها السرية؟ ما الفائدة من الشعر؟

ج: أنا سألت ومثلك انتظر الإجابة.. أما عن الشعر فهو منفذ تتسلل منه الذات لتجوب عوالم وأكوانًا كما أن للشعر الدور الأكبر في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية من حيث كونه وعاءًا ثقافيًّا لاغنى لنا عنه، غير أني أرى بأن للشعر جانبا سلبيا لا يجب أن نهمله وهو ما يتعلق بالمدح والهجاء اللذين يعتبران من أهم أسباب إشعال الخلافات بين الناس.

***

س: الشعر رفيق الحزن ماذا تقول سهام؟

ج: نعم بشكل نسبي وليس مطلقًا .

***

س: هل تؤرقك فكرة النص أم النص الشعري؟

ج: نعم فغالباً ما تفر الفكرة من يدي لأجد قلمي يقودني لمسارب بعيدة كل البعد عما أردت قوله … لا أخفيك أحايين كثيرة أشعر بأن قلمي هو من يقودني.

***

س: هل تعتمدين في نصوصك على السرد التعبيري؟ ماذا وجدتِ فيه؟

لا … لم أعتمد السرد منهاجاً لنصوصي. سبق وأخبرتك بأني أكتب بتلقائية شديدة لذا حين أهم بالكتابة تنساب الكلمات تباعاً للدرجة التي أفقد فيها السيطرة على قلمي أحياناً ولا أعير أهمية لفكرة تحت أي جنس شعري سوف يُدرج نصي.

***

س: هل يمكن القول بأن شبكة التواصل الاجتماعي سهلت التواصل بين الشاعر والمتلقي القاريء أم ظل الأمر كما هو عليه مجموعات نخبوية؟

ج: لا أنكر بأن شبكات التواصل أتاحت للكثيرين الاطلاع والمتابعة غير أنه وللأسف الشديد لازالت النخبوية هي التي تسيطر.

***

س: المشهد الثقافي كيف نراه بعيون وفكر سهام الدغاري؟

ج: المشهد الثقافي الليبي تحديداً مثله مثل غيره من المشاهد الثقافية العربية في العقدين الأوليين من القرن الحادي والعشرين يقع تحت سطوة المحاباة والمجاملة والشللية وهذا ما يحد من أدائه لدوره على الوجه الأكمل.

***

س: بعيداً عن الشعر كيف تقضي سهام وقتها؟

ج: وقتي كله لأسرتي كأي أم تحاول أن تكون أماً مثالية وللقراءة التي أرى أني مقصرة تماماً في ممارستها خصوصاً في الآونة الأخيرة .

***

من almooftah

اترك تعليقاً