غياب – محبرة الشاعر جوزف حرب جفّت من الحبر (1944 – 2014)

رامي زيدان
11 شباط 2014

رحل جوزف حرب (1944 – 2014) شاعر الريف والطبيعة والنقاء والأصالة اللغوية، والموسيقى المطواعة، الذي نشر أطول ديوان في الشعر العربي، من 1750 صفحة، عنوانه “المحبرة”، والذي غنّته فيروز وقدّمت بعضاً من قصائده بالفصحى والمحكية، فدخل من جرّاء ذلك كله في الذاكرتين الأدبية والعامة.

كان مفاجئاً رحيل جوزف حرب، وخصوصاً أنه بعيد من الاعلام ويعيش متنسكاً في منزله ببلدته المعمرية قضاء الزهراني منذ سنوات بعد مغادرته بيروت. كان نصيب هذا الشاعر في الحياة، الترحال في أرجاء لبنان ومناطقة، فهو ابن الدركي الذي خدم عسكريته في مناطق مختلفة من البلاد بدءاً من الناقورة أقصى جنوب لبنان، وصولاً إلى الشمال في منطقة البترون عام 1951. وأخيرا حطّت العائلة رحالها في برج البراجنة ساحل المتن الجنوبي، حيث أكمل حرب دراسته في “المعهد الأنطوني” عام 1959. في بيروت، كان للترحال تأثيره في ثقافته وشخصيته والكتب التي قرأها أو قدِّر أن يحصل عليها، من أحمد شوقي الى سعيد عقل والأخطل الصغير وأمين نخلة، وكان للكنيسة وطقسها دورهما في تشكيل لغته الشعرية، وحتى نمط حياته وعلاقته باللغة والشعر. التقى في بيروت أستاذه في البترون، الشاعر الدكتور ميشال سليمان، وكان الأخير على علاقة جيدة بالشيخ “الأحمر” العلاّمة عبد الله العلايلي وبالكاتب الماركسي رئيف خوري، فعرّفه إليهما. هذه الأسماء الثلاثة كانت قريبة من الفكر اليساري والشيوعي، وكان ظاهراً أن الماركسية شدّت حرب الى شبكتها، باعتبار أنها فكر المساواة بين الشعوب، وكان تأثيرها واضحاً في ديوانه الأول الذي توطدت فيه علاقته الثقافية بالشيوعيين في بيروت، لكن هذه العلاقة لم تستمر طويلاً وخصوصاً في التسعينات إذ بدا حرب أكثر ميلاً الى نظام الوصاية السورية، ورئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري.
في الستينات، أصدر جوزف حرب باكورته النثريّة “عذارى الهياكل” (1960)، لكن هذه الباكورة اختفت من التداول بسبب التسرع في طباعتها، ودخل الشاعر لاحقاً “الإذاعة اللبنانية” حيث قدم بصوته برنامج “مع الغروب” (1966) وكتب قصائد كلاسيكية، وكانت هذه بدايته في العمل الإذاعي وكتابة المسلسلات التلفزيونية، منها: “أواخر الأيام”، “باعوا نفساً”، “قالت العرب”، “قريش”، “أوراق الزمن المر”، و”رماد وملح”.
النقطة الأهم في مسيرة جوزف حرب كانت علاقته بالفنانة فيروز، ففي عام 1976 التقى زياد رحباني في “الإذاعة اللبنانية”، وتعرّف إلى فيروز من خلاله. كان لقاؤه الغنائي الأول مع فيروز من خلال أغنية “حبيتك تَ نسيت النوم”. وكان الأخوان رحباني قد طلبا من زياد تلحين ستّ أغنيات لبرنامج يعرضانه في الأردن، فاشترط أن تكون كلّها من شعر جوزف حرب، وكانت تلك هي البداية. غنّت له فيروز العديد من القصائد منها: “لبيروت”، “حبيتك تنسيت النوم”، “لما عالباب”، “ورقو الأصفر”، “أسامينا”، “اسوارة العروس”، “زعلي طوّل”، “بليل وشتي”، “خليك بالبيت”، “رح نبقى سوا”، “فيكن تنسو”، “البواب”، “ياقونة شعبية”. وبدا أنه شاعر الأغنية قبل أن يطبع دواوينه.
لا شك في أن جوزف حرب مثله مثل الكثير من اركان الشعر المغنّى، ارتبط اسمهم بالوجدان الشعبي أكثر من الكتب، مع أن حرب أولى دواوينه أهمية كبرى. وهو لو خُيِّر بين كتبه وأغانيه لكان اختار كتبه، وقد اهتم بها من حيث الشكل والمضمون والورق، بل اختار أن يكون ديوان “المحبرة” من أكبر الكتب الشعرية في التاريخ الثقافي العربي.
أصدر جوزف حرب ديوانه الأول “شجرة الأكاسيا” عام 1986، يومها كان يعيش في أجواء اليساريين، وكرّت السبحة من خلال ديوان “مملكة الخبز والورد” و”الخصر والمزمار”، “السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية”، و”شيخ الغيم وعكازه الريح”، و”المحبرة، رخام الماء”.
في كتابه “جوزف حرب وأمطار الوردة السوداء” يرى الناقد السوري الراحل محيي الدين صبحي أن جوزف حرب عبر “شجرة الأكاسيا”، يؤمن بأن العصر الحديث لم يلتجئ إلى الأساطير القديمة، بل استخرج أساطيره، ومنها أسطورة “شجرة الأكاسيا”. استنتج صبحي رؤيته من داخل النص، في شأن فلسفة الصراع والموت والانبعاث الأسطوري لإقامة المدينة الفاضلة. هو يرى أن “حرب نظم ملحمة أعاد فيها كتابة تاريخ الإنسانية الجواني منذ الخليقة الأولى إلى طموحها الأخير والدائم في تحقيق جنة الله على الأرض”. يقدّم حرب في ديوانه “مملكة الخبز والورد”، تصوراً حول خلاص الإنسان عبر حُكم الروح الشعرية، هذا “القائد الذي لم يمارس السلطة ولم يُسمح له بذلك. لقد حكمَت القبلية والقانون والدين والاقتصاد والسلاح العالم، واحدٌ فقط لم يحكم بعد، هو الروح الشعرية، ولو سُمح لها لكانت أكثر قرباً لتلمّس الخلاص من بقية الأنظمة الأخرى، وكانت أكثر وعياً وتقدماً وإنسانية”.
الكتابة بالمحكية اللبنانية لا تقلّ أهمية عن كتابة قصيدة الفصحى بالنسبة جوزف حرب. في احدى مقابلته أوضح أن “المحكية هي لغة الناس وهي مليئة بالشعر الذي يخاطب جوانبه الانسان”. وهو أصدر بالمحكية “مقص الحبر”، “سنونو تحت شمسية بنفسج”، “طالع ع بالي فل”، و”زرتك قصب فليت ناي”.
في سنواته الأخيرة غادر جوزف بيروت وصخبها، وركن داخل منزله الريفي شرق صيدا، على أعلى تلّة مطلة على البحر. كأنه كان يريد أن يرحل في أجواء اللغة التي كتبها، لغة الجمال والريف والطبيعة والنقاء. فهو بقي مشدوداً الى اللغة الأولى ما قبل المدينية، أو اللغة التي تجمع بين الطفولة والذاكرة، والامومة والانوثة، والفلاح والسنبلة، بأفكار تجمع بين البساطة والعمق وجمل سهلة ومركّبة في آن واحد، يصوغها الشاعر كعادته مكثراً من الاضداد: الفرح والحزن، والقلق والسلام، القبح والجمال الخ.

من almooftah

اترك تعليقاً