قام ‏‎Ajaj Salim‎‏ بمشاركة ‏صورة‏ ‏‎Ibrahim Shahin‎‏.
جوزيف حرب…

جوزيف حرب.. نهاية القطيعة مع الشعراء
نذير رضا
معظم المديح لجوزيف حرب، ومعظم رثائه الذي سيتصدر الصفحات، سيكون كاذباً. على مدى سنوات، لم نقرأ سوى القليل من المديح لقصائده. والقليل من النقد. تجاهلته الصحف. هذا ما كان متيقّناً منه. وأنكره الشعراء. هذا ما أكده هو مراراً. أما القنوات التلفزيونية التي إخترقت مقاطعته، فكان يشبّهها بغرف تعذيب، أكثر سواداً من غرف الإستخبارات. رحل جوزيف حرب، وسترحل عبارات المديح “الواجب” به. ستُدفن معه.
قليلاً ما ذُكر جوزيف حرب (مواليد 1944 ورحل أمس 9 شباط/فبراير 2014) في وسائل الإعلام. شغل منصب رئيس إتحاد الكتاب اللبنانيين بين العامين 1998 و2002. آخر إطلالة له، كانت تكريمية قبل ثلاثة أشهر. زاره وفد من الحركة الثقافية في لبنان، التي يرأسها الشاعر بلال شرارة، في منزله في المعمارية (جنوب لبنان). كان هزيلاً. ضعيفاً. لم يكن حيوياً كعادته. قال كلمات قليلة… لا تتعدى جُملها، عدد وسائل الإعلام التي غطت الحدث. فالمقاطعة التي مُني بها، جراء مواقفه السياسية، كما كان يُسرُّ في مجالسه الخاصة، حالت دون ظهوره في وسائل الإعلام.
وآخر حوار تلفزيوني سجله، كان العام 2004 مع الشاعر جوزيف عيساوي في قناة “الحرة”. بدت المقابلة “إستجوابية” بحسب وصفه، لكنها “عميقة”. وكان عيساوي قد حاججه في حبّه وتأييده لحافظ الأسد. لم يتراجع عن موقفه. ومن غير أن يسمي المقصود(ين)، قال إن بعض البرامج التلفزيونية وبعض مسؤولي الصفحات الثقافية في الصحف، “يمتلكون أقبية تعذيب أكثر قساوة مما تمتلكه أجهزة الإستخبارات”. كما كانت له مقابلة ضمن برنامج “حوار العمر” مع الإعلامية جيزيل خوري، على شاشة “إل بي سي” العام 1998، تحدث فيها عن القوميات اللبنانية والسورية والعربية وحتى الزواج المدني.
ويُعرف حرب بأنه من محبي الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد “لأنه زعيم عربي لم يصافح إسرائيلياً”، كما كان يقول. وهو ما دفع بشار الأسد إلى تكريمه قبل ثلاث سنوات. علماً أن حرب، كتب قصيدة رثائية بحق الأسد، إثر زيارة ضريحه، تحولت الى ما يشبه “المعلقات” بالنسبة إلى مؤيدي الأسد.
وتملّك هاجس نكران الشعراء له، حياته، بالرغم من أنه كان من أكثر الشعراء الذين لقوا ترحيباً في العالم العربي. وكان يرفض البدل المادي لقاء أمسياته، ومنها في عُمان حيث كوفئ بتقليده الخنجر اليماني. وكان يقول إن موقفه السياسي هو الدافع الأبرز لمقاطعته. إعتقاده بنظرية المؤامرة، أسقطه على استبعاده من الصفحات الثقافية للصحف، كما على انفراط علاقته بكثير من الشعراء، وقال إن بعضهم (أنسي الحاج وسيف الرحبي) لا يعرفهما الا بتحية عابرة!
وفي مقابل هذا “التجاهل”، لم يكن حرب محباً للظهور أيضاً. في آذار 2005، كنتُ عازماً على إخراجه من عزلته، لمرة واحدة فقط. وقْعُهُ في الذاكرة الشعرية والغنائية اللبنانية، دفعني إلى زيارته. تعذّر الحوار الصحافي معه، حتى الزيارة السادسة. كان يريد التعرف إليّ أكثر. وحُدّد موعد اللقاء الأول في المعمارية. قال يومها: “إنتقلتُ الى المنزل الجديد. القصر. بيتي القديم، هجرته (وهو المنزل الوحيد في القرية المسيحية الذي أحرقته القوات الإسرائيلية في غزو العام 1982).
في القصر المطلّ على بحر الزهراني، إستقبلني بأناقة لافتة، وربطة عنق زرقاء. “كيف استدلّيت الى البيت؟”، سألني. “أدركت أنه بيتك، من الشجر العاري الذي يحيط به”. إبتسم، وأكمل بسؤال آخر: “ماذا تعرف عني؟” كان السؤال مصيرياً بالنسبة إليّ، كونه يحدّد لقاءً لطالما حلمت به، فقلت “تكفي عبارة “الشمس بتطلع سودا وبيبس الموج إذا بفكر إنو ترابك مش إلي”، لتعرّفني إلى شاعر يحمل عكازه وفنجان قهوته الى الغيم ليكتب”. وبابتسامة أخرى من الوزن الخفيف، قال: “إتفضل لنحكي على ضوء”.
لم أكن أعرف عن حرب الكثير. الجانب السياسي من تجربته، كنتُ أجهله، باستثناء مسلّمة أكدها مرات كثيرة، لاحقاً، وهي أن خطوط النقاش مع الآخر، تبدأ من فلسطين. قرأتُ له، وحفظت أغنيات لفيروز كتبها بلوعة وألم. تلك التجربة، عرّفت غير المهتمين بالشعر إليه. بعضهم حفظ كلماته عن ظهر قلب، من غير معرفته. تجربته مع فيروز، لا تبدأ في “لبيروت”، و”حبيتك تنسيت النوم”، “لما عالباب”، و”بليل وشتي”… ولا تنتهي بـ”ورقو الأصفر”، و”أسامينا”، و”اسوارة العروس”، و”زعلي طول”، و”البواب”… كما لحّن وغنّى له مارسيل خليفة أغنيتي “غنِّ قليلاً يا عصافير” و”انهض وناضل”، كما لحن رياض السنباطي قصيدتين له، هما “بيني وبينك” و”أصابعي” لم يؤدهما أحد.
وإذا كانت أغنياته تحكي الذات، بإسقاطات وطنية، بما يتخطى المشهد السوريالي الذي سمعناه في أغنيات كثيرة لفيروز، فإن دواوينه الشعرية، تنقلت بين الوجداني والغزلي والفلسفة. جاءت بالفصحى والمحكية. أسمى تجاربه الشعرية الأخيرة “عصارة تجارب الحياة”. وفي لقاءاته الشخصية، والمتكررة، كان يواظب على القول إن الشعر “هو خلاصة قراءات في السياسة والدين والتاريخ والأساطير والفن”. برأيه، “أي شعر خارج هذه المعادلة، سيبقى يتيماً ومكرراً”، بل سيكون “سجعاً بلا جدوى”. ولعل قصيدة “غزالة ذي الأرض” التي ختم بها ديوانه “المحبرة” (2006)، وهو أضخم ديوان شعري في المكتبة العربية المعاصرة(1709 صفحات)، خير دليل على عصارة التجارب.
ومن الخطأ ربط عنوان ديوانه بالمحكية “طالع عبالي فلّ” (2007)، بإحباط كان يتملّكه. كان متمسكاً بالحياة، حتى آخر قصاصة ورق، وآخر قصيدة يكتبها. في آخر لقاء جمعني به، قبل أشهر، قال إن أكثر ما يؤلمه أن أشخاصاً “بيفلوا أو ما يفلّوا”. كان يشير الى راحلين، مقربين وأحباب، غادروه قبل موعد موتهم. تركوه وحده. وفي سنواته الأخيرة، لم يستأنس إلا بأولاد شقيقه، والصور العملاقة لقديسة في منزله، تحمل معالم وجه فيروز، لكن بشعر أشقر. حضور اللوحات وأولاد شقيقه الزائرين غير الدائمين، كانوا علاجاً ضد وحدته.
غير أن وحدته، كان يُحسد عليها. في الطابق الرابع من القصر، غرفة عتيقة أشبه بمنسك، تكتظّ بالكتب الفرنسية، وبسرير من الخيزران، وسجائر “الروثمان” الكحلية. تطل على البحر، وتعجّ بأوراق مرتبة كتب عليها قصائده. وكانت تلك مناسبة للحديث عن وحدته. عزوفه عن الزواج. كشف أنه انفصل عن خطيبته خلال الحرب اللبنانية، بعد نقل مقر إقامته الى بيروت الغربية. وقال في حب امرأة بعدها، الكثير، “لكن القدر شاء ألا يجتمع بها تحت سقف واحد”. عاش عذاباً دفعه إلى الكتابة أكثر. للجود بالوجع. وبقي وحيداً حتى مساء 9 شباط.
إلى جانب الشعر والقصائد المغناة، أنجز حرب في حياته ستة مسلسلات تلفزيونية، عُرضت منها خمسة. المسلسلان الأخيران اللذان عرضا كانا “أوراق الزمن المر” (بطولة عمار شلق ومنى واصف وجوليا بطرس) وقد عُرض مرتين، و”رماد وملح” في العام 1996 (بطولة أنطوان كرباج ونضال الأشقر وعمار شلق ودينا عازار) ولم يُعرض بعد عرضه الأول على “أل بي سي”. وللمناسبة، كان حرب يعتقد أن إحجام القنوات العربية عن عرضه سببه أنه “يدين إسرائيل”. وكان فخوراً به. في إحدى زياراتي له، عرض عليّ 16 قلماً أسود، وثلاثة أقلام حمر، كتب المسلسل بها. جمعت شقيقته تلك الأقلام الفارغة وأعطته إياها للذكرى. وأسرّ بأنه كتب مسلسلاً ثالثاً، يوثق حياة الثائر أدهم خنجر الذي أعدمته سلطات الإنتداب الفرنسي العام 1926. لكن المسلسل لم يُنتَج، ورُفض عرضه على قنوات أخرى تمنع ظهور مقاطع غنائية فيه.
نطوي اليوم برحيل جوزيف حرب، صفحة من تاريخنا الفائض بالحب. من شأن تأييده لحافظ الأسد، أن يشوّه نصه الجميل، وعذوبة كلماته. يقوّض أرقه. وحدته الجميلة. إيمانه بعلمانية لبنان. انحيازه لفلسطين وآلام شعبها. فوق ذلك، من شأنه أن يدين تحوّل الإنسان فيه إلى مشروع شعري. ربما. لكن حرب، في المقلب الآخر، خسارة لذاكرة وجدانية لبنانية، آمنت بلبنان جميل، ودافعت حتى الرمق الأخير عن الحب المقصوف عمره في تحولاتنا السياسية.

الكلمات المتداولة حدّ التكلّف .. 
تأتي معك و إليك ، فيتجدد  رونقها كحال  الكلام ، كلّ الكلام  معك .

جـوزيـــــف حـــرب :  
شكراً لمروركَ العَطِر .
الكلمات المتداولة حدّ التكلّف .. 
تأتي معك و إليك ، فيتجدد رونقها كحال الكلام ، كلّ الكلام معك .

جـوزيـــــف حـــرب :
شكراً لمروركَ العَطِر .

8400
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوزيف حرب شاباً، في لوحة تتصدر صالون منزله
download.jpg
«المحبرة» للشاعر جوزف حرب … 1708 صفحات من شعر ترجيعي ينوء به ديوان واحد
الشاعر جوزف حرب
النَفَس الطويل الميثولوجي والاسطوري والعناصري الذي يسوقه جوزف حرب في ديوانه «المحبرة» (دار رياض الريس 2006)، لا يمر دونما ارتدادات وترجيعات كثيرة. ففي القصيدة قصائد، والديوان ليس تصعيدياً بل ترجيعي. وهو وإن كان مؤسساً على «فكرة» الا ان هذه الفكرة فيه، ليست ذات بناء هرمي يجعل من الديوان وحدة عضوية، بحيث ان بالامكان تغير ترتيب الفصول والاقسام، وأن نبدأ من الأواخر بدلاً من الأوائل. وقراءة الديوان التي أخذت مني وقتاً طويلاً (ما يزيد على الشهر) ألزمتني بتسجيل ملاحظات على هوامش الاقسام والقصائد، حرصاً مني على تلمس الخط البياني لها، وعلى رسم العمود الفقري الذي تتجمع حوله هذه الاقسام وهذه القصائد، فديوان بحجم ديوان جوزف حرب (1708 صفحات) لا يبرر جمعه في مجلد واحد، سوى الحرص على ترابط الاقسام في كل لا يتجزأ، وربما كان ثمة حاجة لقارئ الأواخر، بالعودة للأوائل والاواسط… الا ان الديوان ليس كذلك. وفي الامكان تجزئته الى عشرين مجموعة شعرية، كل مجموعة بين دفتي ديوان، يمكن استصحابه في سفر او نزهة، او نقله من مكان الى آخر… اما ديوان «المحبرة»، فمن الصعوبة بمكان، نقله من حيث يستقر على طاولة او أريكة، وأنت ملزم، لكي تقرأه، ان تنقطع اليه حيث هو.. ولا أعرف في العربية أو الأجنبية، ديواناً بحجم «المحبرة»، ما خلا ديوان أدونيس «الكتاب»… الا انه أخرجه الرجل في ثلاثة اجزاء كبيرة… كما ان المجموعات الكاملة للشعراء، هي حصيلة حياتهم الشعرية بكاملها، وأرجح ان جوزف قصد الى كتابة «كل» حياته الشعرية في هذا الديوان… والا فكيف نفسر اهداءه الجميل والمخيف «الى الموت؟»
حسناً… الحياة والوجود، الأساطير والحكايات، والتواريخ، الاشعار والافكار والخيالات… جميعها يزجها الشاعر للموت… حتى كأن عنوان المحبرة، في ما ترمز اليه كمفردة، من الضوء الاسود للحبر، الى دلالة السواد والعتمة (كعدم)، الى اعتبارها الجناح الاسود للكلمات وللمخيلة… لا تمر دون الانتباه لمفردة اخرى بالوزن نفسه والجناس اللفظي «المقبرة»… فالديوان أسود على العموم، يائس سوداوي وعدمي، على رغم السياقات المطوّلة لتمجيد العقل (أي عقل؟) ومديح الانسان (أي انسان؟) والسياقات النقدية لترتيبات الغيب، والرهبان، والميتافيزيقيا… فعالم جوزف حرب الشعري عالم شهود، الا انه شهود حزين ومكفهرّ…
والعقل الذي هو زهرة الانسان يغدو ورطة، والانسان الذي هو زهرة الوجود، بائس، حزين – بل حشرة.
نص أول
يبدأ الشاعر بفكرة ان الكون نصّ خام. نص أول. وأن الانسان، في ما هو كائن عاقل وشاعر معاً، منتدب لكتابة نص على النص… ومدعو لتصحيح النص الاول الخام. والكون هنا هو الكينونة، الوجود، العالم، الحياة، الارض… الخ وهو عناصر الكون من سماء ونجوم وبحار وأشجار وورود وعناصر… كل ذلك هو النص الأول الخام، ويعتوره النقص، فهو في حاجة الى إكمال… ومكمّل هذا النص ومنقحه هو الشاعر، اما أداته فالعقل وأما جناحه فالمخيلة. وما بين النص الاول والنص الاخير، تتوالى الافكار وميثولوجيات الخلق، الاديان والاساطير، الفلسفات ونظريات العلماء، مما قبل التاريخ ومما بعده… من العهد القديم الى الكتاب الحكيم، ومن أساطير الخلق والتكوين الفرعونية والبابلية الى بوذا والصين، ومن مردوك والفلك والطوفان الى فشنو وشيفا، أرجونا وكريشنا… ومن مؤرخ وفيلسوف الى نبيّ او معلم، ومن شاعر الىعالم… وهكذا وهكذا، تدور بنا قصائد الديوان في سياقات ايقاعية طويلة، تتوالد من ذاتها او من اندفاعاتها كأنها قاطرات سيّرها صاحبها على خطوط طويلة، تكاد تكون بلا نهاية، ويخامرك معها شعور بأن هذا النفس التوليدي للافكار والاسماء، مندفع كقطار أعمى على خطين لا يلتقيان، وأن ما كتبه الشاعر، على امتداده الخاص، قابل أيضاً ليتمد أكثر فأكثر… فالايقاع جرار (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن) أو (فعلن فعلن فعلن)، والافكار جرارة… وكل شيء، في هذا العالم، يتسع لكل شيء في سياقات الكلام او في سياقات المخيلة.
والشاعر الذي لا يعجبه نص العالم، يسأل ويسأل ويسأل، يحتار ويحاور، ينتقد ويجادل الآخرين ونفسه، وتكاد رجفة الشعر، واختزاله كبرق خاطف، في ظلمة ليل كثيف ومأهول بما لا يحصى من الافكار والاشياء، تكاد… تضيع. فالشاعر / الانسان، في أول الديوان، يظهر متربعاً في وسط العناصر، جالساً للكتابة… وإذ يزوره الملاك حاملاً معه مخطوطة من ست غيمات ومكتوباً بمنديل، فإنه يسلمه مخطوطة الكون ومكتوبه ويأمره «احذف / أضف للنص / صحّح / وعلّق وانتقدْ / وأزِل ونقّح / أدر في النص حبرك… / هل هو صالح للنشر؟».
وكأن الملاك يقول له/ هذا هو الكون… وهذا أنت الانسان… فاصنع ما بدا لك، وما عليك صنعه… وهكذا، تتوالى النصوص الشعرية بإطالاتها واختزالاتها، بالسرد والتفاصيل والمحاكمات والمعاضلات، كما في القطف السريع، وكأنها سياقات رؤيوية، ومحاولات للتفكّر بالشعر، ومناورات تطول وتطول احياناً حتى تكاد لا تنتهي، وتقصر في أحايين أخرى فتسلمنا جوهرة الحبر الفريدة والحكمة الشعرية المختزلة كدرّة. ونستطيع ان نختار، أعني لنا ان نهمل المتعب المتطاول والتفصيلي والذهني في صنيع جوزف حرب، وأن نقطف المختصر الخاطف الجميل كالبرق, مثلاً، وبعد سياقات طويلة، نقطف ما يلي:
«الارض مهجوره / لو لم يكن هناك اسطوره» وهما السطران الأول والاخير من قصيدة «الارض مهجورة»، وما بيهما تفاصيل. أو «لكنه للآن / لم يصل المسيح» أو «يا ايها الانسان / لا شيء الا الآن» أو «كلما عمرت للعصفور بيتاً أخضر سكنته أفعى» أو إني أنا ماضٍ اليّ» أو «آه ما أطيب في الارض الخطايا» أو «لم أخلق أنا المرأة من أوجدها / أوجد في قامتها شهوتها» أو «لا تقرأ الهاويه / الا وأنت على قمة عاليه» (وهي قصيدة بذاتها بعنوان قراءة)… وعلى العموم فالشاعر يبدع حين يختزل، ولكن يضيع من يده برق الاختزال اللامع، حين يدخل في تفاصيل الافكار والتواريخ والأساطير، ويناقشها، أو يطرح عليها الاسئلة، أو يقرر ما يراه الصحيح من الفكرة… آنئذ، تطغى الفكرة وعربساتها وتعاريجها على الدفق الشعري، ويعتور الشعر الذي هو شعر افكار، ما يعتور الشعر الفلسفي حين تطغى الفلسفة على المخيلة الشعرية، او ما يشوب شعر الفقهاء من تعليل ومعادلات ذهنية او فقهية، تضيع معها الفلسفة والفقه والشعر معاً.
والمسألة هنا بمنتهى الخطورة… ينشأ من جرائها في النص صراع بين الفكرة والصيغة وربما انتصرت الفكرة على الشعر فصرعته. والكلام نظرياً، يحتاج الى دليل… وهنا، على سبيل المثال، نقتطف من الديوان ما يلي: فهو يقول في قصيدة «أسئلة»: «ساكن في الشيء واللاشيء / لا شيء أنا في الشيء في اللاشيء شيء / آه كم أنّ وجودي ليس شيئاً…»ويقول في قصيدة طويلة بعنوان المقدس (حوالى 111 صفحة): «ما هذا المقدس عندما يدعوك عقل لاحتفال قد أقيم لديه تكريماً لعلم ربما يمحو قليلاً من مقدّسك الذي صيرته حجر الرخام… مقدّس قتل المقدّس كي يظل مخبأً في سرّه / كي يستمر محكّماً بمصيره / ومحكّم بمصيره كي لا يصير لغيره / فيحلّ فيه قليله / حيث الذي قد كان فيه كثيره / فليُمح ما يدعى المقدّس في المقدّس»
وقوله، في القصيدة نفسها: «صحيح / أنه لا شيء يعنيني سوى إغلاق بابي في اكتشاف السر / لكن / عندما أنهي اكتشافي أفتح الابواب منتشياً وأهتف عالياً: يا أرض هذا اليوم عيدك…»
وقوله «لا شيء مما قيل منذ البدء أصدق بعد مما العقل قال «… الخ. وهو قريب من الشعر الفلسفي للمعري حيث يقول: «كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء»… ويلاحظ على النماذج آنفة الذكر، يضاف اليها نماذج اخرى طويلة يحاور فيها «حرب» النظريات العلمية والفلسفية والافكار الدينية، ويطرح اسئلة على الوجود شبيهة بلا أدريات إيليا أبو ماضي في رباعياته المعروفة «جئت لا أعلم من أين / ولكنني أتيت…». التي ينهي كل رباعية منها بعبارة «لست أدري»… نقول إنه يلاحظ على النماذج آنفة الذكر انسياق الشاعر لوطأة المعادلات العقلية والمنطقية، والولوج الى تعاريج ومجادلات هذا المنطق، فضلاً عن استخدامه للغته… من مثل «ربما» و «محكّم» و «صحيح أنه» و «لكنْ»… وهي صيغ تخدم الأفكار، بل هي أفكار موزونة، لم تمسها عصا الشعر السحرية الا مسّاً خفيفاً… إن مغامرة شعرية الأفكار، بين يدي جوزف حرب هنا خطرة خطورتها لدى كثير من الشعراء القدامى والمحدثين بسواء… لأنها ترمي الى شعرنة القلق الفكري والقلق الميتافيزيقي والقلق الوجودي، من خلال حوارات مع الافكار وهي خاضعة لا لانفلات المخيلة وجنونها، وانفلات اللغة من جوفها الهذياني، وخدمة كل شيء لخدمة هذا الشطح اللغوي: الافكار والتواريخ، الصور والاساطير… الوقائع والاحداث وما الى ذلك… بل هي خاضعة لمعادلات المنطق ومقايساته السنتيمترية… يقول في قصيدة «زارا» وهي قصيدة طويلة تمتد على 46 صفحة:
«… أصبحت جزئي ضد جزئي / أصبحت كل العبارات التي في النص جزء ضد جزء / لن يكون النص حراً خالصاً قبل امّحاء الاسود الممتد في كل العبارات التي لن استطيع الآن محو سوادها الممتد فيها قبل ان أمحو سوادي…».
إن الكتاب الذي فتحه جوزف حرب في المحبرة واسع جداً. مسائله متشعبة ومركبة، ميثولوجية، دينية، علمية فكرية، ميتافيزيقية – اروتيكية، تتأمل في كل شيء، وتطرح اسئلة على كل شيء، وهي تتأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، والعناصر التي يعمر بها الكون، وتتأمل في الشعر أيضاً. ويلاحظ ان الشاعر يطلع من أساس ميتافيزيقي، بل مسيحي غير طقوسي، رافض للكهنوت لكنه قابل بمريمية الارض، وعذاب المسيح الانسان وصليبه، ولعل ذلك عائد لأساس قديم قائم في اللاوعي الطفولي للشاعر، لكن هذا اللاوعي الطفولي المؤسس، ما لبث ان اخترقته اشكالات المعرفة والقراءة، فضلاً عن اشكالات الواقع فهو متشعب قلق. وإن كان (بوعيه) اختار ان يكون ضد الغيب، وقاده عقله للوقوف في الجهة المقابلة له (ويعتقد انها جهة الانسان)، الا انه لا يظهر في جوهر نصوصه، والتماعاته الشعرية، بعيداً عن جوهر الغيب والدين… هو ملزم بذلك لأن ملاجئه وملاذاته الفكرية والشعرية، التي قادته الى الانسان والعلم والعقل، والشعر… جميعها سوداء يائسة عدمية بل يختصرها سواد وعتمة المحبرة… وجميعها مزجاة الى الموت.
وجودية ويأس وجودي يلمعان في قاع تجارب جوزف حرب. بل يظهر العقل الذي يظنه الخلاص، غريباً كجناح بين الحوافر… أشهى ما يتمناه الموت والمحو والنسيان «عدت من كل العصور حالماً بالفأس والممحاة والنسيان» وهو يقدّم اعتذاره بل استقالته من الحياة كما يصرخ «بي قرف من جسدي» ويقول إن حياته التي خدمته كل السنين لم ترتب سوى قبره (قصيدة خادمة)، ولو خُيّر لاكتفى بالقول «يا ليتني ما أتيت… (قصيدة خيار)… فالشاعر على قلق ويأس وسوداوية. يقول «قلقي عذّبني» ويقول: «ها قد ملأ اليأس المرايا / وأتت قبل الولادات القبور»… وجنوحه الأخير نحو العدمية، وهو أجمل ما في شعره، كائن على الارجح، لا من قدرته (كشاعر) على تحسين نصّ الوجود، ولا من قدرته على الوقوف مع رموز العقل وأصحابه في التاريخ، أو من الوجود ضد العدم، أو الانسان ضد الغيب… بل من اكتشافه، ان النص الاول كالنص الثاني، كليهما مخترق بالموت، وأن العقل ذاته كآبه «… وأتى العقل فنادتني الكآبة». ولعلّ أجمل ما قاله الشاعر هو قصيدته المختزلة بعنوان «القليل الكثير»:
«ما عابَ غصناً ان يكون نحيلا / وسراج ليلٍ ان يكونَ ضئيلا
ما الغيم الا قول بحرٍ واسعٍ / فاعرف كثيراً كي تقول قليلا»

من almooftah

اترك تعليقاً