21/10/2009

الذكرى الأولى لرحيل العلامة عدنان البني 1926- 2008 (21 تشرين الأول).. التاريخ ليس رواية الأحداث بل اكتشاف القوانين المسيرة للكون
سعد فنصة
… كان بالإمكان تسطير الصفحات الطوال عن هذا الإنسان العالم الذي فقدته صديقاً حميماً، وأستاذاً جليلاً..
وكأني أرى برحيله خسارة وطنية وإنسانية يقدرها حق قدرها كل من عمل معه أو حاوره، أو خرج من عباءته تلميذاً أو باحثاً.. أو من قرأ له بحثاً أو كتاباً. ‏

ومع حزني العميق لرحيله، إلا أنني أضمر شعوراً مختلفاً يغمرني بالعزة والذكرى الآسرة لصداقتي به والتي امتدت قرابة ربع قرن، بالرغم من أنني من جيل، وهو من جيل يكبرني عمراً وتجربة ومكانة.. وأثراً. ‏

أقول: كان يمكن تسطير الصفحات الأكثر إشراقاً من حياة إنسان ما.. وهذا ما فعله وقد يفعله الكثيرون غيري، إلا أنني فضلت أن أضيء زاوية، هي بذاتها تضيء من فكر ونتاج هذا الإنسان، ألا وهي العلمانية في فكر عدنان البني.


ولهذا أجد لزاماً عليّ أن أحدد عدة مستويات من تنشئته ومن المناهل التي أثرت به وبفكره، وانعكس ذلك على ثقافته الإنسانية ونتاجه الأثري والعلمي في كتاباته الغزيرة، بصورة جد مختصرة لضيق المساحة المتاحة في هذه العجالة، وأتمنى أن أشهد له بذلك من كتاباته ذاتها وسأضرب صفحاً عن محطات انجازاته والتي يعرفها الكثيرون من أقرانه وأصدقائه، ولأنها موثقة في أكثر من مصدر طبع له بالعربية، ومنها ما أصدره اتحاد الكتاب العرب في دمشق في تكريمه عام 1999 وشرفني فيه بكلمة قصيرة عنه. ‏

المستوى الأول من تنشئته والذي تشكل فيه وعيه الثقافي والإنساني نشأ في إحدى دور النضال الوطني، فشقيقه الأكبر المثقف الراحل «وصفي البني» الذي كان من كبار الفاعلين في الحياة السياسية قد أثر به التأثير الأعمق، ولكنني أدرك تماماً بحكم معرفتي القوية به ومن خلال حواراتنا الطويلة حول فكره الداعم لميوله الاشتراكية، بأنه كان مؤمناً أكثر بمتلازمة أكبر من عقائديات جامدة أو متغيرة من التوصيف السياسي الذي يبقى قاصراً… ألا وهي العدالة الاجتماعية التي نؤمن بها قولاً ونبتعد عنها فعلاً، لكنني أؤكد أن التزامه العلمي كان يفوق كل رؤية أو التزام آخر أو معرفة عقائدية بقيت في حدودها الإنسانية في التفاعل مع الآخر الإنساني ولم تكن لتنعكس في نتاجه وكتاباته.. فهو لم يفسر نهاية تدمر بالصراع الطبقي مثلاً ولا غزو «أوغاريت» من قبل شعوب البحر من الألف الثاني قبل الميلاد بالأطماع الامبريالية.. ولا القبول بأن «إبلا» تلك الحاضرة التي غيرت كل التصورات السابقة عن سورية التاريخية في الألف الثالثة قبل الميلاد. ‏

المستوى الثاني كان في إدراكه وفهمه العميق لمتلازمة العقل المتنور، في أن الفكر الإنساني يقوم على مستوى من الوحدة في مجتمع يرنو إلى التحرر والانعتاق نحو النور بداية الخمسينيات التي ظهرت فيها أكثر التجارب الإبداعية تطوراً وعمقاً في الأدب وكان وراءها أشخاص مبدعون يلتقون فكراً مع عدنان البني في تشكيل وعي جديد مع الفكر الحداثي، ما لبث أن توقف أو جاء من أوقفه لصالح نمطية أخرى مغايرة من التفكير لا تزال سائدة حتى يومنا هذا في وقت انغمس عدنان البني إما في أعماله الاختصاصية والبحثية أو في لجة من الأسى لتحطم الكثير من تصوراته وأحلامه عندما تقدمت به الحياة لتنضج في فكره التجربة، والتي لم تكن بالنسبة إليه بلا ثمن، وفي هذه المراحل العمرية من تجربته كانت معرفتي به ولقاءاتنا التي استمرت بلا انقطاع حتى وفاته، وكنت حريصاً على تسجيل بعض من أفكاره التي لا يمكنني إلا أن أعترف بحجم مكانتها وطرافتها وجدتها. ‏

يتفق بذلك مع المدرسة الحديثة في كتابة التاريخ التي لا تكتفي بالعرض المنظم المكتوب للأحداث وبخاصة منها المؤثرة في سيرورة البشرية، كاكتشاف الأبجدية أو بناء المعابد الدينية بظهور معتقدات جديدة، أو المعاهدات السياسية والاقتصادية للحد من خطر طبيعي أو إنساني محتمل، فهو لا يسجل الأحداث الماضية باعتبارها خطوات في التقدم البشري فحسب بل يسعى إلى إيضاح هذه الأحداث ودلالاتها ويعرضها على نحو يدل على تشابكها معاً من خلال قراءته للآثار التي ينفض عنها غبار الماضي السحيق، أكان ذلك بذاته أم بفرشاته وقلمه. ‏

الموروث الإنساني ‏

أما ما علق في العقل بموروثه الإنساني من غبار التاريخ وشذرات من القص الديني أو الأسطوري عُدّ تاريخاً فله في ذلك معه شأن آخر.. وأي شأن. ‏

يقول: نحن لم نمارس النقد التاريخي، وتقبلنا للنقد هو الذي يجعلنا نكتب تاريخنا بصورة صحيحة، فالتاريخ ليس رواية الأحداث بل علم نقدها وتحليلها واكتشاف القوانين المسيرة للكون، والأفكار العظيمة والبناءة لا تنتج من العدم، وتاريخنا له قوانينه وحركته ووقائعه المستندة إلى وثائق بدأنا نكتشفها بغزارة في أرضنا. ‏

لقد كانت بحوثه في التدمريات قد أزالت الكثير من الأوهام، التي عدت فرضيات مسلمة تناقلها بعض الآثاريين، وتعد بحوثه حول معبد «نبو» التدمري والإله المكرس لذات المعبد كشفا أثرياً وعلمياً من حيث الأهمية في العمارة وعلم «الميثيولوجيا» في آن معاً. ‏

كل هذا غيض من فيض والأمثلة أكثر من أن تحصر.. ففي بحثه المشترك مع الآثارية البولونية «أنا ساردورسكا يقدم ورقة بالغة الأهمية تناقض بصورة جلية كتابات بعض الآثاريين الغربيين ومنهم الأكثر رصانه وشهرة وهم الذين عدوا الفن التدمري فناً جاهزاً أو فرعا جامدا وجنائزياً وما إلى هنالك من توصيفات قاصرة بمقارنته بمقاييس الفن اليوناني، فيقول: «إن المنحوتات التي اكتشفت في تدمر وسواها من مدن ومناطق سورية شرقية ذات نسغ محلي يعود لأكثر من ألفي عام قبل ذلك- أي قبل صعود تدمر في النحت والفن والعمارة- وصلته مع بلاد مابين النهرين وفارس والهند أوضح بكثير من صلته بإيجة واليونان وكريت ومصر الفرعونية، وإذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية قد أخضعت الفن التدمري أحياناً لبعض المؤثرات الغربية فسرعان مانجد هذه المؤثرات تتجلى بطابع شرقي محلي». ‏

وفي الفريسك التدمري يورد د. «البني» التأثير الشرقي في التصوير اليوناني الروماني والتي عدها مصدراً للفن البيزنطي المقبل بما لايمكن الفصل بين الفسيفساء والفريسك والأيقونات المسيحية في ذلك العهد، ويتابع بان حاضرة تدمر الصحراوية التي التقت فيها كل المؤثرات الشرقية والغربية خلقت فناً خاصاً بالغ الأهمية من وجهتي النظر الفنية والأثرية، إذ إنه: «بمنزلة فن بيزنطي قبل عشرات السنين من قيام بيزنطة». ‏

ولم يتوقف قلم «البني» عن الكتابة حول خصائص الاكتشافات المثيرة التي تم الكشف عنها بالتعاون مع «جاك لاغارس» في القصر الملكي في «رأس ابن هانئ» والذي دعاه بالقصر الشمالي باسم الملكة «احت ملكو» والذي لم يكمل صورة الاكتشاف لمملكة «أوغاريت» على الساحل السوري فحسب.. بل كان كشفاً لقص اجتماعي بالغ الأهمية فسر الكثير من الصراعات السياسة والاقتصادية بين قوتين ضاربتين في الألف الثاني قبل الميلاد، أقصد الحثيين في الشمال والفراعنة في الجنوب، أزالت الكثير من اللبس والغموض بعد كشوفات أكثر من مئتي وثيقة نصية نقشت بالأبجدية الأوغاريتية وبعضها بالأكادية والبابلية. ‏

رؤية البني البحثية ‏

ويعلق الراحل د. «البني» في معرض آخر حول رؤيته البحثية التي تفسر المنهجية الحضارية في كتاباته عن الممالك القديمة.. إذ يقول: «نحن الآثاريين لانهتم كثيراً بمواضيع الحروب القديمة، بل نهتم بمواضيع علاقات التبادل والتأثيرات الفنية والحضارية عموماً والتي تأتي عن طريق التبادل والاحتكاك، وذلك من خلال الآثار المادية التي نلمسها، ونحن عادة لانتحدث عن أشياء لانجد له أثراً على أرض الواقع». ‏

إنني وفي هذه الكلمات وغيرها مما انتخبتها من أقوال الراحل الكبير، والتي قد لا تتيح لي المساحة باستعراضها الأشمل، لست في معرض البيان فحسب، إلا لأؤكد على قيمة العلمانية في فكر هذا الآثاري الفذ وإنني على ثقة بأن تاريخ التوثيق الأثري سيذكره كقيمة عالمية عالية واسعة الأفق والذاكرة الإنسانية والحضارية. ‏

ومما استوقفني بعمق تعليق لطرف ثالث يؤكد ماانتحيته عنه في هذه السطور، منها ما اقتطفه من أقوال الباحث الأثري الفرنسي «جاك لاغارس» الذي صادق «البني» طويلا وقال عنه في معرض مقال تكريمي بعنوان: «صديقي عدنان البني» وكتبه بالفرنسية يقول لاغارس: «اكتشفت في عدنان تصرفات ناجمة عن الانتماء إلى الثقافة أكثر من انتمائها إلى المزاج الشخصي». ‏

«إن لعدنان في الأحداث الماضية رؤية المؤرخ المضيئة تجعله يعبر عن أحكام واضحة ومتوازنة، من ذلك شجبه للكولونيالية الفرنسية التي قاتلها بنفسه في مطلع شبابه، لم يمنعه عن ذكر الرفد الإيجابي الفرنسي في بلاده». ‏

«في العشرين سنة الأخيرة كان همه الدائم أن يكتشف من الأجيال الصاعدة أفضل العناصر ويقربهم إليه، ويؤهلهم لحمل المسؤولية ويدعمهم ويقدم لهم النصح حتى ينطلقوا في مهنتهم دون أن يلتفت إلى لونهم السياسي وعلاقاتهم الاجتماعية أو الدينية، ولقد بذل من أجل ذلك كثيراً من الجهود». ‏

«لاتظهر شجاعة عدنان البني في المناسبات التافهة، ولكن حينما يتعلق الأمر بفكره يعتقد انها مفيدة للعمل الأثري أو عند الدفاع عن زميل أو مستخدم أتهم زوراً فإنه كان يندفع مكفهر الوجه وصوته قوي وأفكاره واضحة، وكم رأيناه يبطل بالحجة ادعاءات شهود الزور». ‏

«لقد وقف في وجه الرياح، رغم كل المصاعب، أراد الانفتاح على التعاون الدولي». ‏

وبعد.. ماذا يمكنني أن أقول بعد هذا.. أوليست هذه مدرسة وقيمة علمية وعلمانية أنحني أمام فكرها المتنور والحر والإنساني..؟ ‏

الآثار تتحدث عنه في نصف قرن ‏

تأهل بثلاث شهادات دكتوراه دولة: في الآثار، والتاريخ، والآداب، وتعمق باللغتين الفرنسية والانكليزية، وجال في مصادر اختصاصه قديمها وحديثها. ثم انطلق بعدها في الحقول العملية مديراً للتنقيب والدراسات الأثرية، مواصلاً جهوده طيلة ثمانية وأربعين عاماً ونيفاً في التنقيب في سورية كلها: من بادية فراتها (بالإشراف على بعثة إنقاذ آثار الفرات في تل العبد، والشيخ حسن، والفري) وحتى سواحلها (رأس ابن هانئ شمال اللاذقية و أوغاريت رأس شمرا، وتل سيانو شرق جبلة وتل الكزل جنوب طرطوس) وفي الوسط الشمالي للبلاد (اللطامنة- حماة- ودياميس-حمص) وحتى جنوبها (بصرى ومقبرة أم حوران وزاكير شمال شهبا). ‏

وكان المميز في تدمر: حيث أمضى ثلاثين عاماً في دراسة وإظهار معظم مكتشفاتها وفك رموزها باللغة الآرامية التدمرية –التي عرفها- وكان أهم المكتشفات: الشارع الطويل وقوس النصر والحمامات ومعبد نبو وساحة المسرح والآغورا والمصلبة والمدافن الأرضية حيث تعرض خلال الحفر في المدافن إلى انهيار مدفن بولبرك عليه وأصيب بكسور ألزمته الفراش عدة أشهر. ‏

كان عند إشرافه على البعثات الأجنبية المرجع الواعي الذي لا يغادر صغيرةً ولاكبيرةً إلا أدركها ما جعله في نظرهم العالم الفذ الذي يحظى بالإعجاب والتقدير. ‏

تعددت مؤلفاته باللغات العربية والفرنسية والانكليزية وترجم منها إلى اللغات الألمانية واليابانية والإيطالية ونشرت أبحاثه في الموسوعات والمجلات العلمية العالمية، وأدرجت سيرته الذاتية في المعاجم الأجنبية، ونهل طلاب جامعة دمشق من محاضراته سنين عديدة، كما حضر في جامعات أوروبا وأميركا واليابان. ‏

لبث عضواً دائماً في مجلس الآثار، كما اختير عضواً في المجالس التالية: المجلس الأعلى للآداب والعلوم الاجتماعية –اتحاد كتاب العرب- تطوير الجامع الأموي- عضو اللجنة الدولية لليونيسكو في معالجة آثار بيروت –العضو المراسل للأكاديمية البريطانية- عضو مراسل معهد الآثار الألماني- عضو في مؤسسات أثرية دولية، وقد خاطبه البروفيسور الأكاديمي أوليفييه أورانش قائلاً: كان توليك أمانة سر المؤتمر الدولي للآثار الكلاسيكية نجاحاً لهذا المؤتمر. ‏

سبق أن أقيم له عام 1988 حفل تكريمي وقد ورد في كلمة وزارة الثقافة أن ثلاثين باحثاً وعالماً اختصاصياً أسهموا في وضع مؤلف عنه وحضر فريق منهم إلى دمشق لتقديم هذا المؤلف خلال الحفل تقديراً لعلمه وللآثار السورية. ‏

ثم تكرر الحفل ذاته في مدينة ليدن بهولندا. ‏

منح الأوسمة والميداليات التالية: ‏

– وسام أورانج ناساو والهولندي ‏

– وسام السعف الأكاديمي الفرنسي ‏

– وسام جوقة الشرف الفرنسي ‏

– وسام الاستحقاق الإيطالي ‏

– وسام ليوبولد الثاني البلجيكي ‏

– وسام دانبروغ الدانماركي ‏

– ميدالية الكوليج دو فرانس ‏

– ميدالية شليمان من أكاديمية العلوم في برلين ‏

– جائزة الآثار الأوروبية منحت من قبل المؤتمر الدولي لآثار أوروبا منذ العصور الوسطى وحتى عام 2000 ‏

– كرم من اتحاد الكتاب العرب عام 1999 ‏

ومن جامعة دمشق عام 2000 ‏

– وأخيراً وفي حفل لائق جرى بتاريخ 6/8/2009 قدّم سفير اليابان وسام امبراطور اليابان: الشمس المشرقة- الأشعة الذهبية، إلى ابنته نولا البني، تقديراً لمساهمته في تقدم علم الآثار في اليابان، وأنه كان في حياته مصدر عون ودعم لعلماء الآثار اليابانيين في عملهم في سورية. ‏

وذكر كبير علماء الآثار اليابانيين في كلمته في الحفل: لقد تركت أبحاثك ومكتشفاتك الأثرية لعلماء الآثار في العالم أعلى المراجع التي يعكفون للاستفادة منها.. ‏

ستبقى، ياعدنان، مكتشفاتك الأثرية ودراساتك تتحدث عنك، ووطننا العريق الشامخ يفخر بك على مدى الدهر والعصور، إنك حقاً الراحل المقيم! ‏

صلاح الدين السفرجلاني ‏

من almooftah

اترك تعليقاً