الفريد تنيسون … شاعر البلاط في عهد فيكتوريا 
أشعار بنكهة الشرق وروح الحضارة العربيّة

5659

محمّد رجب السامرّائي

اللورد تنيسون” 1809 ــ 1892م”، أحد أهم الشعراء الإنجليز خلال القرن التاسع عشر الميلادي. خلف وليم وردزورث شاعرًا للبلاط في بريطانية عام 1850م. وقد حاز تنيسون هذه المرتبة في الأدب نظرًا للمدي الرائع الذي وصلت إليه مواهبه الطبيعية وتفانيه في إتقان فنه خلال المرحلة الطويلة لحياته. وجاءت مكانة تنيسون الكبيرة في حياته الإبداعية نتيجة اهتمامه بعدد من الأمور الحيوية، منها السياسية، كما نجد في مرثية موت دوق ولينجتون وأناشيد الملك الرعوية ـ والروحيّة والعلميّة كما في مود. إلاّ أنَّ رائعة الشاعر تنيسون والتي تُصَّنف مع أشهر الأعمال الشعرية في الأدب الإنجليزيّ هي مجموعته” للذكري” التي نظمها في رثاء أحد أصدقائه، ويمكن أن تعدّ قصيدة مطولة. وربما لم يسبق لشاعر إنجليزي أن امتلك أذنًا أكثر رهافة للظلال الجميلة في التعبير الشعري ولا مجالاً أوسع في صياغة أساليب النَّظم مما فعل تنيسون، كما هو جليّ في هذه المجموعة الشعرية ولد الشاعر الإنجليزي اللورد الفريد تنيسون في سمرز باي عام 1809م وتوفي عام 1892م. دخل المدرسة في عام 1815م وتركها عام 1820م وتولي والده تدريسه في البيت. وقد كتب قصيدته” الشيطان والسيدة” بين عامي 1923 ــ 1924م، وهي من القصائد المُذهلة الني يكتبها صبيّ في الرابعة عشرة من عثمره. كما نشر في عام 1827م ديوان شعر بالإشتراك مع أخويه فردريك، وجارلز. وقد أمضي الشاعر الفريد تنيسون في كلية ترنتي في جامعة كيمبردج مدّة بين أعوام 1828 ــ 1831م، ولكنّ دون أن يتخرّج فيها وينال الشهادة. ثم توالت قصائده ودواوينه الكثيرة. وتزوج في عام 1850م من أميلي سيلوود أخت زوجة أخيه جارلز، وفي السنة نفسها اختير تنيسون شاعر بلاط الملكة فكتوريا بعد وفاة شاعر البلاط وردزورث. ولم يمرّ عام ليس له فيه ديوان شعر جديد!
أجواء عربيّة
يلحظ قارئ دواوين وقصائد الشاعر بصورة جليّة ورود أسماء وصور وعواطف وأجواء عربية إسلاميّة صريحة، فكيف حصل ذلك؟ ولقد انتقلت الأجواء السائدة في ربوع الدولة العربية الإسلامية إلي الحياة الأوربيّة المجاورة، نتيجة مُؤثرات عامة، مُؤثرات فكريّة في الفلسفة والطبّ والصيدلة والكيمياء والرياضيات والزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والسفارات، علاوة علي مُؤثرات خاصّة تتمثل بالجوانب الأدبيّة والفنيّة كالخطابات والقصص والعِبَر والأمثال والطرائف والشعر والغناء والموسيقي وأنواع الفنون الأخري…

المُعلقات بالإنجليزيّة

لابُدّ أن يخصّ الشعر العربيّ بشيء من الذكر لِما لهُ من تأثير في شعر الشاعر الفريد تنيسون وغيره. وكان كثير من العلماء والباحثين والأدباء والمُترجمين يحضرون المُنتديات والمدارس العربيّة في بلاد الأندلس وصقليّة وبرفنس والشام وغيرها، أمثال أدلارد الباثي وميخائيل سكوت، ومن الشعراء الإنجليز لِما لأعمالهم وترجماتهم من العربيّة من أثر في مُجمل الجوّ الأدبيّ الذي أثر بدوره في شعر الفريد تنيسون بالذات، نحو: الشاعر” أدورد بوكرك” 1604 ــ 1691م” الذي أقام في سورية قرابة عشر أعوام ترجم لأميّة الطغرائي عام 1660م، وجمع الأمثال للميداني، أما ” وليم جونز” 1746 ــ 1794م”، فقد ترجم المُعلقات السبع إلي اللغة الإنجليزيّة ونظم قصيدة بعنوان” سليمة” قال عنها:” إنّها ليست ترجمة عاديّة من اللغة العربية بل أخذت أكثر صورها وعواطفها وأوصافها من شعراء بلاد العرب أنفسهم.
وكان الشاعر” وليم جونز” عالِماً بالعربيّة والفارسيّة والتركيّة والسنسكريتيّة، ونشر كتاب” تعليقات علي الشعر الآسيويّ” عام 1774م، فيه أمثلة كثيرة من الشعر العربيّ، علماً أنّه نشر عام 1772م ديوان شعر ضمنّه تراجم قصائد عربيّة إلي اللاتينيّة، وكان لهذه الترجمات تأثيرات ملحوظة في شعر كثير من الشعراء الإنجليز ومنهم الشاعر الفريد تنيسون.
ترجمات لعيون الأدب
أما” بالمر” 1840 ــ 1883م، فترجم كثيراً من الشعر العربيّ وديوان الشاعر البهاء زهير ونظم الشعر بالعربيّة وترجم القرآن الكريم. كما ترجم ” بلن” 1840 ــ 1923م، المعلقات الشعريّة العربيّة مرّة أخري، وكان” جارلز ليال” ممّن ترجموا الشعر العربيّ والشعر الجاهلي بشكلّ خاص من ديوان الحماسة للشاعر أبي تمّام الطائي، والمفضليات للمفضل الضبيّ، وترجم ديوان الشاعر عبيد بن الأبرص. وترجم” بالكريف” ديوان الشاعر الأمويّ عمر بن أبي ربيعة عام 1873م، في حين تولي” أدورر لين” كتاب ألف ليلة وليلة وعليها تعليقات تصلح ان تكون دائرة معارف وافيّة ثم ألف كتاب عادات وتقاليد المصريين المُحدثين في عام 1836م، ولا ننسي في هذا الخصوص أثر دراسات المُستشرقين وترجمة القرآن الكريم والكتب الأدبيّة والتاريخيّة وكتب الرحالة في تكوين الصورة العربيّة لدي القرّاء الشعراء الذين لم يزوروا الشرق والوطن العربيّ بوجه خاص.
لقد أثرت تلكم الكتابات في أدباء وشعراء وفنانين ممّن درسوا الشعر العربيّ القديم المُترجم والتعليقات عليه، وكذلك الرحلات وألف ليلة وليلة وقلدوها تقليداً صريحاً بأسماء عربيّة موضوعات عربيّة أو تلميحاً وقد أضفوا صورها وأفكارها وموضوعاتها علي صور وأفكار وموضوعات محليّة في الشعر والقصة والرواية والمسرحيّة والأوبرا والباليه. ونشير علي سبيل المثال” روبرت ساوذي، بايرون، ووردزورث، براوننك، وتنيسون، فضلاً عن روائيين وقصاصين ومسرحيين وموسيقيين ورسامين، وقد أنقسم هذا التأثير إلي نوعين: الأول: انبهار بالوصف والفكر والواقع، وصدور أعمال أدبيّة وفنيّة من وجهة نظر منحازة تحمل كلّ الموضوعات الغرائبيّة التي تمورُ في تصورات متخيليها عن الشرق الإسلاميّ الذي:” كان عدواً ولكنّه عدوّ قويّ محكوم عليه بالهزيمة، يسعي السياسيون ورجال التجارة الغربيون للإسراع في انهياره. وقد ساعدهم بعض رجال الأدب والمسرح والفلسفة والصحافة والباحثين والمُستشرقين وغيرهم للإسراع في انهياره بتلفيق صور كاذبة تجتمع فيها الضراوة والوحشيّة والنهب والحريم والخيانة وجميع أنواع التناقضات وقد رجع الأدباء والفنانون في ذلك علي مَن كتب مِن وجهة نظر مُنحازة أو رجعوا إلي العهد القديم وفيه موضوعات تنسجم وأحقادهم”.

صور الشرق

لعلّ القصائد التي يتجلّي فيها انبهار الشاعر الإنجليزي الفريد تنيسون غير قليلة فهي تتجاوز العشر. ونجد في أكثرها أسماء عربيّة صريحة أمثال:” بغداد، البصرة، تدمر، مصر، الفرات، دجلة، النيل، سليم، أكبر، فاطمة”، أو نري في أشعاره أشياء من مبانيها أو مغانيها ومَعَالمها كالقباب، المنائر، الأهرام، وبساتين النخيل السامقات. وكتب تنيسون قصيدته” مصر” عام 1827م ومصدرها” رسائل عن مصر” لسافاري، وهي متأثرة بقصيدة” لا لارخ” لتوماس مور” وفي مستهلها عن أغنيّة الحوريّة:
بساتين نخل مَصْر
وكهوفها وأضرحة مُلوكها
أما الشاعر الفريد تنيسون فنظم قصيدته” مصر” في رباعيات، ويقول فيها:
” القلمُ الداكن في الفجر الرمادي القاتم
يرسمُ لعيني مُخططاً بهتاً لِمَصِر
لم يلونها الصباح المُتألق
بقُرصِهِ الذي يعدو بهيجاً نحوَ أعالي السّماء
وهاهُو قد وافَي أخيراً في زهوٍّ بهيّ،
الحياةُ في عينيه والمجد في شُعاعه،
لا تحجب بناءه البهيّ غلائل من ضباب
أو تصنع الظُلمة في سبيله العسجديّ
تتألقُ الرياضُ المُزهِرَة في بسمتهِ
وتفعمُ أحضانه المُنورّة الأنسام العابرة
التي تسرقُ أريج كلّ جزيرة عَطِرَة
وكلّ حقلٍ شَذيٍّ ووادٍ فَوَّاح
بيدَ انّ الألق الأوّل لشُعاعِهِ الطالع
يسقطُ علي الأهرام الجليلة
مَهيباً ليُرينا بومَضَاتِهِ الباكِرَة
البصرة: أرض الزنبق…
جاءت قصيدة كتبها منفي في مدينة البصرة في أثناء رحلة علي نهر الفرات، ونشرت عام 1827م. وإذا كانت مِصْر أرض اللوتس التي أطلق عليها المؤرخ” هيرودوتس” زنبقة النيل، فإنّ العراق هي أرض الزنبق لدي الشاعر تنيسون. وتستند قصيدته إلي حكاية” نور الدين والجارية” الواردة في ليالي السّمر العربيّ. ولعلّ نور الدين هو المنفي من البصرة لإغوائه الجارية التي كانت مُتجهة إلي المَلِك وهي في رعاية والده فأخذها معه صوب بغداد، وقد تصرّف الشاعر بالأحداث والمواقع، فقال في القصيدة:
” يا أرض الزنبق! زهُورك البهيجة تتنفتّح
في حُبور علي رَوابيك ولكنّها لا تزهر من أجلي
لأنّ بحراً من أسي أغرق آمالي الغاليّة
وقذف أمواجاً سُوْداً بينَ هذا القلب المتوحِّد وبينّك
الروابِي النائيّة… وبساتين طفولتي
هي الآن في فيضّ من نور الشمس الغاربة
وباسقات النَخْل المُهفهفة في خَمائِلنا
تتلاشي في سَدِيم الزُرْقَةِ البعيدة
أراكِ أيتّها البصرة رابضة في أُبهّة
حيثُ أمواجك تُصافحُ أسوارك بِجَلال
أري مَهْدَك المُشرِق تُنيره أبراجك
ونهرَكِ الواسع الوديع ينسابُ عندَ قدميكِ
وداعاً قيثارتي التي علّقتها في كُربَتي
علي نَخْلتي الوحيدة التي تنُوسُ مع هُوْج الرياح
لأنّ أنغام أنفاسها الحلوة في ضَنَي النسيان
وحولها سينسجُ اللبلاب وِشَاحاً أخضر
الرشيد المَلِك الصالح
أما قصيدة ” تنيسون” ذكريات ألف ليلة وليلة” التي كتبها في” 154 بيتاً” في وصف الرِياض حتي يصل قصر الخليفة العباسيّ هارون الرشيد في بغداد المُذهل في وصفه، ويري الجارية التي فازت بقلب الخليفة، وتستند القصيدة إلي حكايتين من حكايات ألف ليلة وليلة في ترجمة” كَالان” الأولي هي نور الدين والجارية، والثانية هي حكاية أبي الحسن، وقد استقَي تنيسون كثيراً من التفصيلات من” رسائل من مِصْر” لسافاري، ومن” لالارخ” لتوماس مور، وخُلاصة قصة نور الدين أنّه أغوي الجارية ولكنّها في النهاية تفوز بالخليفة الرشيد الذي كان مُتنكراً، ويقتفي نور الدين أثرها ويصفّ لنا جنّات عاصمة الخلافة العربيّة بغداد وقصورها علي نهر دجلة حتي يصل قصر الخليفة حيث يجدها فيه. ويقول في قصيدة” ذكريات ألف ليلة وليلة:
عندما هبّ نسيمُ الفجر البهيج أيضاً
في قُلُوع الصبَا الحريريّة
عادَ بي تيّار الزمان
وفي صباح أحد أيام الصيف المُشرقة
ينقلني الزورقُ في نهر دَجلَة
وأمرُ بمراقد بَغدادَ الذهبيّة
وبساتينها الخُضْر القديمة ذات الأسوار العاليّة 
أنا مُسلمُ صادقٌ بلا ريبٍ
في العهد الذهبيّ
لهارون الرشيد المَلِك الصالح
ولزورقي في الليل حفيف
تحتَ الغصون الحانيّة المُزهِرَة
الفَوّاحة بالعطرِ، وتلقي أشجار القُرُنفُل
والأُتْرُّج بظلالِها علي المياه المُتلألئة في العُتمة وفي
شُرُفات البساتين النفيسة علي مصاريعها وأنارت
المصابيحُ بأنوار العَسْجَد ظُلمة الليل
وصفتُ الأرائكُ المُطرزّة علي جوانبها
إنّه حقاً وقتٌ لطيف
فهو العهدُ الذهبيُّ
للمَلِكِ الصَالحِ هارون الرشيد”. 
اطلع وقرأ الشاعر تنيسون ترجمة معلقة امرؤ لقيس وتلخيص وليام جيمس له. وقد ورد ذكر “فاطمة” ابنه عمّ الشاعر فنظم تنيسون قصيدة فاطمة . ويقول أحد الباحثين أنّ” سافو” الشاعرة اليونانيّة في القرن السادس قبل الميلاد قد اندمجت في هذه القصيدة بقصة جميلة التي أخذها تنيسون من سي. أي. سافاري في ” رسائل مَن مِصْر” التي تنتظر عشيقها الذي لا يج
رؤ علي المجيء إليها بسب زوجها، فيقول:

قصيدة فاطمة

” حبيبي يا حبيبي ياحبيبي، أيّها القويّ الجبّار!
أيّها الشمسُ التي في سَمْت الظهيرة
ترتعشُ عندما أجهِد بَصَري
ويَخفِقُ وَهْج حرارتِكَ وأنوارك
انظُر، هانذا أهوِي مِن عقلي الرَصيْن
انظُر، إنّي ذاوية ويابسة، صمّاء وعمياء،
أدورُ في دوامة مثل أوراق في ريحٍ عاتيّة
أمضيتُ في الليلة الفائتة ساعات مَقيتة
تحتَ أبراج المدينةِ الشرقيّة

عَطْشَي للغُدرانِ ووَابلِ المَطَر
فتدحرجت بين النهُور الناضِرَة
وعَصرتها علي صدري وفمي
ولفتُ من جانبٍ إلي جانبٍ نحوَ الجفاف اللاَهِب
في تلكَ البادية الفسيحة عند الجنوب
في تلك الليلة الماضيّة عندما نطقَ أحدهم باسمهِ
تشظّت في دمِي الفوّار
ألفُ شرارةٍ مِن لهب بَدَنِي النَاحِل
يالههذا الحُبّ، يلهذي النار! ذات مرّة
ارتشفُ رُوحِي كلّها بٌبلةٍ طويلةٍ مِن شفتي كما يرتشفُ
ضوءُ الشمسِ قَطر الندي
عرفتُ قبلَ أن يرقي الرابيّة
أنّهُ سيأتي مُسرعاً فقد هبّت
نسائِمُ عذبَة، كأنّها آتية مِن الجِنَان
تسبقهُ وراحت تُداعِبُ جبيني
في نفسي العَطشَي صارَت رُوحِي
تَغُورُ مِن إغمَاءَةٍ إلي إغْمَاءَةٍ
وتضعُفُ مثل قمرِ الصباحِ المبهُور
كانَ الريحُ تعزِفُ علي وَتَرٍ مِن فَضَةٍ
ومِن وراء الهَاجِرَة نار
تتلظّي فوق الهِضَاب وتُطبِقُ
السّماواتُ في تَوقِها
وقد أُحِيْ”َ قلبي ببحارٍ مِن ضوءٍ دَافِقٍ
واخترقَتْهُ بهجة عارمة
فتفتّحَ مُزْهِراً لدي رؤيتِهِ…”.
azzaman

 

من almooftah

اترك تعليقاً