اختراع المحراث إبداع عظيم للإنسان القديم – محمود مفلح البكر
اختراع المحراث إبداع عظيم للإنسان القديم  - محمود مفلح البكر

 لا أحد يعرف ذلك العبقري الذي اخترع المحراث الأول في التاريخ، ولا مكان اختراعه، ولا تاريخ ذلك بالتحديد، فقد بدأت الزراعة في بلاد الشام أواخر الألف التاسع وبدايات الألف الثامن قبل الميلاد، وامتدت إلى الأناضول وبلاد الرافدين ومصر. وعلى أية حال فبقدر ما تجلّى الذكاء الفردي في هذا الاختراع، فإنه نتاج سلسلة طويلة من تجارب الزراعة المبتكرة، وتراكم خبرات جماعية تنامت عبر الزمن منذ اكتشاف الزراعة أول مرة. 
وتكمن أهمية هذا الاختراع في بساطته وإمكانية تصنيعه من الأخشاب المتوفرة في البيئات المحلية المختلفة، وفي فاعليته التي أثبتت جدارتها منذ اختراعه حتى أيامنا، فما المحراث الذي استخدمه فلاحو بلادنا وغيرها من البلدان، وكان له الفضل في توفير الغذاء للجميع، إلا صورة حية عن المحراث القديم، الذي ابتكره أجدادنا الأوائل قبل آلاف السنين. 
يبقى المحراث إذن واحداً من أهم الاختراعات في العالم القديم، التي كانت عاملاً أساسياً في استقرار البشر، ونشأة المدن الأولى، وتطور الحضارة.
أدوات الزراعة الأولى: 
حين اهتدى الإنسان إلى الزراعة أول مرة في التاريخ أواخر الألف التاسع وبدايات الألف الثامن قبل الميلاد، كان عليه أن يبتكر أدوات تلبي حاجاته المستجدة، فلجأ في البداية إلى نثر الحبوب في الأرض، ثم جر غصن شجرة لخلط الحبوب بالتراب (الصورة 1)، وكانت هذه الطريقة تناسب التربة الرسوبية الرطبة التي تتشقق قشرتها عادة حين تجف قليلاً. وبعد تدجين الحيوانات لاحقاً صار المزارعون يسوقون الدواب من غنم ومعز وحمير.. في الأرض المبذورة لخلط الحب بالتراب.
واستخدم في الوقت ذاته العصا ذات الرأس المدبب، فبعد هطول المطر وجفاف الأرض قليلاً، يتعاون المزارعون فيغرز أحدهم العصا في التراب محْدثاً جُوَراً صغيرة متتابعة، وخلفه آخر يضع حبة أو حبتين من البذار في كل جورة ثم يغطيها بالتراب (الصورة 2). وبهذه الطريقة زرعت الحبوب الكبيرة نسبياً كالحمص والفول والبازلاء.. وبعض الخضر، واستمر استخدام العصا والوتد في الزراعة حتى أيامنا. 
وكان القدامى قد ابتكروا المنكوش (المعزق) لتوسيع المغر وتسوية بيوتهم وحفر القبور، فاستعملوه في نكش الأرض، وتكسير الكدر، وردم الحفر في الأرض قبل أن يباشروا زرعها (الصورة 3).
ولما اكتشف المزارعون أن الزراعة في أسراب تسهِّل عليهم قلع الأعشاب غير المرغوبة، وتسهِّل الحصيدة لاحقاً، اهتدوا إلى الغصن المتشعب، فشذبوه، ونحت النجارُ العبقري بأدواته الحجرية طرف الغصن حتى صار كرأس القلم المبري، مستفيداً من خبرته في بري العصا سابقا،ً وجعل من الشعبتين ساعدين يمسك بهما الحرّاث، وربطوا حبل الجر في نقطة اتصال الشعبتين، وربطوا عارضة خشبية في رأس الحبل تعاون اثنان على جرها، فأصبح الضغط على ساعدي الغصن أسهل من الضغط على العصا لشق خطوط في التراب (الصورة 4)، وكان على المزارعين أن ينكشوا الأرض ويكسروا الكدر أولاً، قبل أن يستخدموا هذا المحراث البسيط، الذي تحول مع الزمن إلى محراث تجرّه الثيران (الصورة 8). 
لاحظ المزارعون مع الزمن أن حبل الجر لا يساعد على تثبيت عود الحراثة أثناء العمل، وينقطع أحياناً نتيجة الشد، فيضيع وقت في إصلاحه أو البحث عن حبل أمتن أو تشريح جلد ثور إلى سيور وجَدْل حبل جديد منها، أو ألياف النباتات أو الصوف أو الشعر.
بعد زمن استغنى المزارعون عن حبل الجر، وثبتوا بين ساعدي المحراث عوضاً عنه خشبة طويلة (وصلة) قد يصل طولها ثلاثة إلى أربعة أمتار، وبذلك أصبح المحراث المتشعب ووصلة الجر الخشبية كتلة واحدة تتحرك معاً، وهذا ما ضاعف ثقل المحراث وتطلّب أن يجره أربعة رجال، كما أوضحت هذا الرسوم المصرية القديمة، ولحل هذه المعضلة ثُبِّت على وصلة المحراث عارضتان واحدة طويلة في مقدمة الوصلة والثانية أقصر في منتصف الوصلة تقريباً، فيتولى رجلان شدّ العارضة الأولى، وخلفهما رجلان يشدان العارضة الخلفية، بينما يتولى الحرّاث الخبير الضغط على المحراث لتكون الأثلام أعمق، وكالعادة لا تتم الحراثة إلا بعد نكش الأرض بالمناكيش الخشبية (الصورة 5).

اختراع النير:
بعد استخدام المحراث المتشعب ووصلة الجر الخشبية صار شد المحراث عبئاً ثقيلاً على المزارعين الأوائل، وكانت قوة الثيران مثار إعجاب الإنسان منذ أقدم العصور، وشاهدها وهي تتناطح بشراسة، وفكّر باستغلال قوتها فصار الراعي يركب بعض الثيران والأبقار الهادئة، وفكّر المزارعون بتسخير قوتها في جر المحراث، فثبَّت المزارعون العارضة الخشبية على قرون ثورين ووصلوا المحراث بها، وهناك مشاهد مصرية قديمة توضح وضعية العارض على قرون الثيران (الصورة 6). وبذلك سُخِّرت الحيوانات في جر المحاريث لأول مرة في التاريخ، ربما كان هذا في الألف الرابع قبل الميلاد. 
ما لبث أن اكتشف المزارعون أن تثبيت العارضة على القرون يتعب الثيران، ولا بد من حلول ناجعة للتغلب على هذه الصعاب، فالزراعة بدأت مسارها الراسخ، ولا مجال للتراجع، وإنسان هذه المنطقة من العالم القديم، قطع شوطاً هاماً في التطور الفكري والتقني. ولم يعد أمامه إلا التقدم إلى الأمام بقوة، ووجدوا الحل بنقل العارضة من القرون ووضعها على رقاب الثيران لتتكئ على أكتافها القوية، في وبذلك اختُرع النير، الذي أصبح له دور كبير في حياة الناس. وهناك صور من بلاد الرافدين ترجع إلى أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد تبيّن استخدام النير في الحراثة وجر العربات وقد أضاف الرافديون إلى محراثهم مبذراً على شكل بوق، فيسير حامل حقيبة البذار إلى جانب المحراث ويرمي حبات الحب في المبذر، لتسقط في منتصف الثلم تماماً، وهو اختراع متمم هام (الصورة 7).

تطور المحراث وتنوعه:
لم تكن سرعة تطور عود الحراثة واحدة في مختلف المناطق، فالتربة الرملية ومثلها تربة الطمي التي يجلبها فيضان الأنهار سهلة الحراثة كما هو الحال في وادي النيل، ويمكن استخدام أي أدوات حراثة تشق التربة، أما التربة الثقيلة والقاسية فتحتاج محاريث متينة ذات مواصفات خاصة، وهذا أحد الأسباب التي جعلت بعض المناطق تسبق غيرها في تطوير محاريثها تلبية لحاجتها الماسة. 
كان عود الحراثة في بدايته مجرد غصن متفرع إلى شُعبتين على شكل العدد (7)، ينحت رأسُ الغصن ليشكل سِنّاً يشق التربة، ويُربط به حبل فوق نقطة اتصال الساعدين، ويربط طرفه الأمامي بالعارضة التي تربط بقرون الثيران، ثم حلت وصلة الجر الخشبية محل الحبل، وحل النير محل العارضة(الصورة 8). وفي حال عدم توفر الغصن المتشعب كان النجار يوصل ساعداً ثانياً للمحراث (الصورة 9) وتظهر بعض المشاهد المصورة في مصر كيفية الحراثة، ودور المرأة في رمي الحب وراء المحراث (الصورة 10)، التي تعرف في بعض مناطق بلاد الشام بـ (اللقاط). 
كان هذا النوع من المحاريث يحتاج إلى مجموعة رجال تتعاون للقيام بالحراثة، واحد يمسك بساعدي المحراث، واثنان على جانبي الثيران لتوجيهها، ورابع يحمل حقيبة البذار ويُسقِط الحبوب في الأثلام. فالمحراث الواحد يستهلك جهود بضعة رجال، أما إنتاج العمل فيساوي جهد واحد أو اثنين على الأكثر، في وقت أصبحت الحاجة إلى مواد الغذاء متزايدة نتيجة تزايد السكان، وهو ما جعل التفكير بضرورة توزع مجموعة الرجال على عدة محاريث بدل محراث واحد أمراً ملحاً، لكن هذا الإجراء يصعب تنفيذه قبل تعديل عود الحراثة القديم وجعل الاستغناء عن المرافقين ممكناً، وهو ما حصل بعد محاولات وتجارب عملية.
آ – المحراث المعدَّل: 
قرابة سنة (3000) ق. م أجرى مزارعو العراق القديم تعديلاً جوهرياً على عود الحراثة القديم، فاستغنوا عن الجذع المتشعب ووضعوا قاعدة خشبية أفقية مبرية الرأس، وثبّتوا في طرفها الخلفي ساعداً عمودياً وفي الطرف الأعلى من الساعد ثبتوا مقبضاً يمسكه الحَرّاث بيد واحدة ويضغط المحراث أو يرفعه عند الحاجة، وثبتوا في منتصف القاعدة تقريباً وصلة منحنية إلى الأمام لتُربط بالنير، وبذلك أصبح بإمكان رجل واحد أن يمسك المحراث بيد واحدة، ويحمل بيده الثانية عصاً طويلة (منساساً)، يوجه بها الثيران لتسير بخط مستقيم وتستدير في نهاية الثلم، ويمكن أن يتبع الحرّاثَ رجل واحد يحمل البذار، والاستغناء عن بقية الرجال ليعملوا على محاريث أخرى. 
والميزة في هذا أن سنّ المحراث يشق التربة، وتقوم القاعدة بدفع التراب على الجانبين، وينتج عن ذلك ثلم أعمق وأعرض بكثير عما كان في المحراث المتشعب، ويقلع أعشاباً أكثر، ويسهِّل قلعها إذا نبتت بعد ذلك، وهذا إنجاز تقني هام في ذلك الزمن. 
وربما كانت المناطق الواقعة إلى الشمال من بلاد الرافدين صاحبة الفضل في تعديل عود الحراثة، وجعله بقاعدة عريضة وساعد واحد، كونها منطقة جبلية تتطلب تربتها ثقلاً أكثر في المحراث، لكن لا يمكن الجزم بهذا وتحديد مكان التعديل وتاريخه، فهناك مناطق مشابهة من بلاد الشام ذات تاريخ في الزراعة أكثر عراقة، كما هو الحال في مناطق أريحا ورأس شمرا، ولا يعني عدم اكتشاف صور لمحاريثها أنها لم تكن موجودة، أو أن مزارعيها لم يطوروا محاريثهم وهم في أشد الحاجة إلى ذلك نظراً لنوعية التربة الثقيلة بعامة.
ففي قضايا كهذه يظل كثير من الأمور مفتوحاً على أسئلة كثيرة، يصعب إيجاد أجوبة مؤكدة لها ما لم تجُد به المكتشفات الأثرية، مع التذكير بأن أدوات الفلاحة كانت كلها من المواد الخشبية في ذلك الزمن، ومثل هذه الأدوات العضوية قابلة للتلف مع الزمن في البيئات الرطبة كبيئة بلاد الشام الغربية خاصة.
وهناك بعض مشاهد الحراثة على طبعات أختام من بلاد الرافدين ترجع إلى حوالي (2000 – 1500 ق.م)، يظهر فيها مثل هذا المحراث المعدل ذو القاعدة، (الصورة 11) ولا يعني ذلك التاريخ إنه تاريخ التعديل، فالمؤكد إنه أقدم من هذا التاريخ، ولا أن هذه الصورة أقد رسم للمحاريث المعدلة، فقد وصل إلينا نزر قليل مما صنعه القدماء وليس كل شيء، وكانت هذه الأختام في زمانها أشبه بختم البريد في أيامنا.
وعل الرغم من الصلات التي لم تنقطع بين مصر وبين كل من الشام وبلاد الرافدين، فإن المحراث المعدل ذا الساعد الواحد لم يستخدم في مصر، إلا بعد مضي قرابة ألف سنة، وليس هناك من تفسير لأسباب عدم استفادة المصريين من تقنية المحراث الجديد، طوال هذا الزمن، ولعل تربة وادي النيل المكونة من الطمي سهل الحراثة، جعلت المزارعين المصريين مكتفين بمحراثهم القديم زمناً أطول، ولم يجدوا دافعاً لاعتماد التقنية الجديدة إلا بعد توسعهم في الزراعة، وعند الحاجة حوّل المصريون المنكوش الخشبي إلى محراث بساعد واحد (الصورة 13).
وقد أصبح هذا المحراث ذو الساعد الواحد من أوسع أنواع المحاريث انتشاراً في العالم القديم شرقاً وغرباً، واستمر في العصور اللاحقة دون انقطاع، كما تؤكد مشاهد مصورة من اليونان يرجع بعضها إلى (600) ق.م (صورة 14)، وما زال مستخدماً في كثير من بقاع المعمورة كالأناضول وغيرها إلى اليوم.

ب – تنوع المحاريث القديمة:
يلاحظ أن اختراع المحراث المعدل ذي القاعدة وانتشاره في بقاع من العالم القديم، لم يلغ المحاريث الأقدم عهداً في كل المناطق، فقد ظل المحراث ذو الساعدين المتشعبين وغيره مستخدماً في كثير من البقاع دون انقطاع، فهناك مشاهد مصورة تؤكد استخدام أشكال مختلفة من المحاريث في وقت واحد ومكان واحد، وهذا عائد- حسب تقديرنا- إلى جملة أمور: منها مدى وفرة الخشب المناسب أو نقصه، ونوعية المتوفر منه، واجتهادات الصناع، ومدى مهارتهم، ونوعية الأدوات المتوفرة، وطبيعة التربة في هذه المنطقة أو تلك، وخبرات المزارعين والصناع على حد سواء، وحاجاتهم الملحة في موسم الحراثة. ولا غرابة بعد ذلك أن يجتمع المحراث المعدل مع المتشعب في مشهد حراثة واحد فيه.
فهناك صور ونماذج من مناطق متباعدة كمصر وكريت لمحاريث مطوَّرة عن منكوش، يرجع بعضها إلى حوالي (2000) ق.م، جعلت إحدى الشعبتين قاعدة شبه أفقية للمحراث ذات سن مبري لشق التراب، وبقيت الشعبة الثانية طويلة تتصل بالنير، وثُبِّت ساعداً خشبياً عمودياً على نقطة اتصال الشعبتين، وثُبِّتت قطعة خشبية عرضياً في أعلى الساعد لتكون مقبضاً يمسكها الحرّاث أثناء العمل، مما يجبر الحرّاث على إمساكها بيديه الاثنتين غالباً مع إمكانية أن يمسكها بيد واحدة لكن بصعوبة، وهو من هذه الناحية يقيِّد يدي الحراث كما في المحراث ذي الساعدين. (الصورة 26). المصرية القديمة، (صورة 27)
ووجود بعض الرسوم لهذا النوع من المحاريث في (كريت)، ترجع إلى الفترة نفسها حوالي (2000) ق.م، (صورة 15) يشير إلى شيوع مثل هذه المحاريث في كثير من بقاع العالم القديم، والفارق الوحيد بين النوذج المصري وبين الكريتي، يكمن في وضعية الكابوسة أي القبضة، فالكابوسة الكريتية ممتدة طولياً للأمام والخلف مما يسمح للحرّاث أن يمسكها بيد واحدة ويمسك العصا- أي المنساس- باليد الثانية. وهي وضعية مريحة للحراث أكثر من قبضة المحراث المصري العرضانية.
وهناك مشهد حراثة مصري آخر مكون من خشبتين، واحدة تشكل الساعد الذي يمسكه الحرّاث وينتهي بسن المحراث، والثانية تشكل الوصلة التي تُشَد إلى النير، ثبِّتت الوصلة بالساعد، وربطت بحبل إلى ما خلف سن المحراث، وفائدة الرباط هنا عدم انفتاح الزاوية أكثر من اللازم أثناء الحراثة. وما زلنا نجد في بعض أنحاء العالم محاريث في مثل هذه البساطة مستخدمة إلى اليوم، مكونة من الساعد ووصلة الجر لا أكثر. 
وأحياناً يكتفي الصنّاع بتثبيت الوصلة بالساعد بزاوية مناسبة للحراثة في أرض معينة دون ربط السن بالوصلة. وفي هذه الحال لا بد أن تكون وصلة الجر غليظة ينحت الصانع فيها تجويفاً مناسباً، يثبت فيه ساعد المحراث الذي ينتهي بالسن، أما التحكم بدرجة ميلان سن المحراث وتعديله عند الحاجة، فيتم بأسافين خشبية تُرَص بين الساعد والوصلة، وهي تقنية مستمرة إلى أيامناً. 
وخلال ذلك الزمن الطويل كانت تقنيات المحاريث على أنواعها ومعها تقنيات النير، والمعارف والخبرات الزراعية تنتقل من مكان إلى آخر، منتشرة في أنحاء العالم القديم، فهناك رسم لمشهد حراثة من الصين يرجع إلى (200) سنة ق. م، (الصورة 29) يظهر فيه محراث بساعد واحد وقاعدة وبوق بذار يجره ثور واحد، واستخدام ثور واحد في جر محراث أو عربة أقدم من هذا التاريخ بكثير، وما زال موجوداً في كثير بقاع العالم إلى اليوم. 
أما غرباً فكان للفينيقيين الفضل الكبير في نقل كثير من تقنيات الفلاحة، إلى الجزر والبلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مثل قبرص وكريت وصقلية وشمالي إفريقية، وغيرها من البلدان الأوروبية المتوسطية، وهناك أنواع من المزروعات أدخلت إلى بلاد الرومان لأول مرة على يد القائد القرطاجي الفذ (هني بعل)، الذي بقي على البر الأوروبي قرابة عقد ونصف من السنين، نقل خلالها إلى البر الأوروبي تقنيات الحراثة وأدواتها، وأساليب الزراعة القرطاجية المتطورة، كما نقل من بلاده زراعات لم يعرفها الرومان من قبل.
وما دهشة عضو مجلس الشيوخ الروماني الذي ترأس وفد بلاده إلى قرطاجة، من أنواع التين التي شاهدها فيها، إلا دليل على تقدم القرطاجيين الواسع في الزراعة على الرومان، وكان هذا التقدم والثروات القرطاجية بعامة وراء الحروب المدمرة التي شنّها الرومان على قرطاجة، لوضع أيديهم على هذه الثروات.
وحتى المحراث التقليدي المعروف اليوم لدى غالبية الدارسين بـ (بالمحراث الروماني) (الصورة 30)، قد يكون نسخة عن بعض محاريث قرطاجة، التي جاءت كان مصدرها الأصلي بلاد الشام، وهو ليس النموذج الوحيد، فبعد أن احتل الرومان قرطاجة أبادوا أغلب سكانها، استولوا على كل شيء وطمسوا ذكر قرطاجة.
واستمرت أغلب النماذج القديمة من المحاريث والأنيار مستخدمة في الفلاحة دون تغيير يذكر حتى العصر الحديث.

السكة المعدنية:
مرت أجيال متعاقبة من المزارعين القدامى عبر آلاف السنين، وهم يستخدمون المحراث ذا السن الخشبي، فلم تكن المعادن قد اكتشفت في زمانهم، وكانت أدوات القطع كلها تصنع من الحجارة وفي مقدمتها حجارة الصوان، أما المدقات فتصنع من الخشب والحجارة، بهذه الأدوات تمكن الإنسان من تحصيل لقمة عيشه زمناً طويلاً. 
واحتاج الإنسان زمناً أطول قبل أن يكتشف المعادن ويتعلم صهرها وتصنيع الأدوات منها، ومع أن سكان المناطق الشمالية من بلاد الرافدين عرفوا النحاس منذ بدايات الألف الخامس قبل الميلاد، لكن استخدامه اقتصر على تشكيل بعض الأواني الصغيرة، وظل استخدام النحاس محدوداً خلال الألف الرابع قبل الميلاد، وبدأ توظيف المعادن يتطور بعد التوصل إلى خلطة البرونز من القصدير والنحاس، ومن الرصاص أحياناً، وتمكُّن الصناع من صهر هذه المعادن، وصبها في قوالب حسب الأدوات المطلوبة، أما الحديد فتأخر استخدامه إلى حوالي (700 ق.م).

والخلاصة:
استقرت أشكال غالبية المحاريث منذ أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ لم يُضَف عليها تعديلات جوهرية، فبقيت تلك النماذج التي ابتكرها القدماء مستخدمة كما هي تقريباً في مختلف بقاع المعمورة حتى أيامنا، وبقيت معها كثير من أساليب الزراعة القديمة، مما يؤكد أصالة هذا الاختراع وأهميته.

 

المراجع: 
التقنية في العالم القديم – هنري هودجر – تر: رندة قاقيش – مراجعة: د. محمود أبو طالب – الدار العربية – ط1 – عمان – الأردن – 1408 ه – 1988م 
الحراثة والمحاريث – د. شرف الدين الشريف ود. السيد يوسف عبد الوهاب غنيم – ط1 – المنشأة العامة للنشر والتوزيع – طرابلس – ليبيا 1984
الحياة أيام الفراعنة – ت. ج. جيمز – تر: د. أحمد زهير أمين – مراجعة: د. محمود ماهر طه – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1997
سومر فنونها وحضارتها – أدنري بارو – تر: د.عيسى سلمان وسليم طه التكريتي – بغداد 1979

المصدر : الباحثون العدد 65 تشرين الثاني 2012

من almooftah

اترك تعليقاً