الفوتوغرافيا تمتلك قوة إقناع

جيزيل فروند تروي تاريخ الصورة في العالم

صارت الفوتوغرافيا منذ ظهورها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين جزءا من الحياة اليومية، لقد تداخلت مع الحياة الاجتماعية.

ميدل ايست أونلاين

كتب ـ محمد الحمامصي

التطور التكنولوجي الهائل الذي شهدته آلات التصوير على اختلاف وظائفها، ودخولها لتصبح جزءا حيويا من أجهزة الاتصال والحاسبات وغيرها، جعل من التصوير عملية متاحة للجميع، لتحتل الصورة مكانة بارزة على خارطة العالم المعاصر، فنادراً ما يحدث الآن وجود نشاط إنساني لا يستعين بها بشكل أو بآخر بالتصوير، ليصبح أمراً لا غنى عنه، في العلوم كما في الصناعة، كما في وسائل الإعلام كالتليفزيون والفيديو كاسيت والسينما، إضافة إلى انتشارها اليومي في آلاف الجرائد والمجلات.

صارت الفوتوغرافيا منذ ظهورها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فصاعدا، جزءا من الحياة اليومية، فقد تداخلت مع الحياة الاجتماعية، وأخذت تتعامل معها كل الطبقات الاجتماعية، وتلك هي إحدى سماتها الأكثر تميزاً الآن، فنحن نجدها في منزل العامل والحرفي مثلما نجدها لدى التاجر، والموظف ورجل الصناعة، وفى هذا تكمن أهميتها السياسية، فالفوتوغرافيا هي وسيلة التعبير النموذجية للإدارة التقنية- التكنوقراط- الواعية بالأهداف المخصصة لها، وللعقول المتطورة المؤسسة على تريب إداري. وقد أصبحت في نفس الوقت، بالنسبة لذلك المجتمع أداة من الدرجة الأولى، ذات قدرة مرتبطة بتقنيها، تعطيها طابعاً تسجيلياً وتظهرها كوسيلة للنقل، من الواقع، أكثر أمانة وأكثر ارتباطاً بالحياة الاجتماعية.

وهذا الكتاب “التصوير الفوتوغرافي والمجتمع” لعالمة الاجتماع والمصورة الفوتوغرافية الشهيرة جيزيل فروند، ترجمة وسام مهنا ومراجعة محمد سيف، والصادر عن المركز القومي للترجمة، لا يؤرخ فقط لتاريخ التصوير ولكن أيضا لدورها العظيم باعتبارها القادرة، أكثر من أية وسيلة أخرى، على التعبير عن رغبات واحتياجات الطبقات الاجتماعية المسيطرة، وعلى تفسير الأحداث بالطريقة الملائمة لها. مع الأخذ في الاعتبار أنها على الرغم من ارتباطها القوى بالواقع، لا تملك إلا موضوعية غير طبيعية. فالعدسة، تلك العين التي تدعى العدل، تسمح بكل التشوهات الممكنة للحقيقة، ذلك لأن الصورة الفوتوغرافية محددة سلفاً في كل مرة بالطريقة التي ينظر بها المصور، وباحتياجات من طلبها، ولا تكمن أهمية التصوير الفوتوغرافي في كونه ذا قدرة إبداعية فقط، ولكن في كونه أحد الوسائل الأكثر تأثيراُ في تشكيل أفكارنا والتأثير على سلوكنا.

لقد تم الاحتفال بمرور 150 عاماً على اختراع الفوتوغرافيا عام 1972، وقد حاولت المؤلفة في هذا الكتاب أن تروى تاريخها، وقد بدأت الفوتوغرافيا بداية متواضعة بوصفها وسيلة لتقديم الذات، ثم تحولت بسرعة إلى صناعة قوية جداً ومنتشرة وتغلغلت في كل مكان. وقد أسهمت كوسيلة لإعادة الطبع (الإنتاج) في جعل الفن ديمقراطياً وجعلته متاحاً للجميع وغيرت في نفس الوقت من رؤيتنا له. وباستخدامها كوسيلة لإخراج قلق المبدع، أصبحت شيئاً آخر خلاف النقل المبسط للطبيعة، ولذا فإن الصور الجديدة قليلة جداً، فمن بين ملايين الصور المنشورة كل يوم فى الصحافة والمنشورات، نجد بعض الصور التي تتعدى كونها مجرد نقل بسيط. وقد ساعدت الآلة الفوتوغرافية الإنسان على اكتشاف العالم ورؤيته من زوايا جديدة، لقد ألغت المسافات، وبدونها لم يكن باستطاعتنا رؤية سطح القمر. لقد ساوت بين المعارف وقربت بين البشر أيضاً. مع ملاحظة أنها تلعب أيضاً دوراً خطيراً كوسيلة تلاعب لخلق احتياجات وبيع منتجات وتشكيل العقول.

كما كانت الفوتوغرافيا نقطة البداية للإعلام الذي يلعب اليوم دوراً مؤثراً جداً كوسيلة اتصال وبدونها لم يكن للسينما والتليفزيون وجود، فمشاهدة الشاشة الصغيرة يومياً أصبحت مخدراً لا يستطيع الملايين الاستغناء عنه. لقد قام نيسفور نيابس بمجهودات يائسة لإعطاء قيمة لاختراعه، ولم يجد إلا الفشل ومات فى البؤس. وقليل من البشر هم الذين يعرفون اسمه، لكن الفوتوغرافيا التي كان هو أول من نفذها أصبحت اللغة الأكثر استعمالاً في حضارتنا.

وتقول جيزيل فروند “فى الزمن الحاضر، الواقع تحت سيطرة البنية الإدارية، التكنوقراط، التى تهدف دائماً إلى خلق احتياجات جديدة، نجد أن صناعة التصوير اليوم هي أكثر الصناعات تطوراً، فالصورة الفوتوغرافية تجيب أكثر من أى شيء آخر على الاحتياج الملح للإنسان للتعبير عن فرديته، واليوم وبالرغم من الإتقان الدائم التطور للحياة المادية، نجد أن الإنسان، الذي أصبح يشعر أقل فأقل بالاهتمام بلعبة الأحداث، قد تم إبعاده أكثر فأكثر إلى دور أكثر سلبية، لذا صار قيامه بالتقاط صور فوتوغرافية يبدو له عملية إخراج لمشاعره، أي أنها تمثل له شكلاً من أشكال الإبداع. ولهذا فإن عدد المصورين الهواة يصل اليوم إلى مئات الملايين، ويميل عددهم إلى الارتفاع أكثر فأكثر”.

إن الدراسة التي بين أيدينا تشرح الأهمية الكبيرة للتصوير الفوتوغرافي في نقل الواقع الخارجي، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته في تطوير البورتريه الفردي ثم البورتريه الجماعي، أي في الصحافة، والمرحلة التي تتناولها تمتد منذ انتشار اختراع التصوير، أي منذ الثلث الأخير للقرن التاسع عشر، لمائة وخمسة وثلاثين عاماً من تاريخ التصوير الفوتوغرافي. كما أن التنوع في استعمالات التصوير الفوتوغرافي اليوم جعلت المؤلفة تختار بين بعض هذه الاستعمالات. فعلى سبيل المثال لم يعالج في هذا الكتاب دور التصوير في الصحافة النسائية ولا في الإعلانات، مع الاعتراف بأن الصور المنشورة في الصحف والمجلات تحمل ضمنياً شكلاً إعلانياً حتى ولو لم يتم تمييزه فوراً. وقد حاول الكتاب توضيح هذا الدور بشكل محدد مأخوذ في أغلب الأحيان من تجربة المؤلفة الخاصة.

ترى جيزيل “ترتبط الاختراعات بمجموعة من الشروط، فمن ناحية، ترتبط بمجموعة من التجارب والمعارف السابقة، ومن ناحية أخرى، باحتياجات المجتمع، بالإضافة للعبقرية الشخصية. وبما يمكن أن نسميه صدفة سعيدة. توافرت كل هذه الشروط فى عام 1826 لاكتشاف الفوتوغرافيا، بواسطة نيسفور نيابس فعند نهاية 1839 صنع البارون سيجيه آلة تصوير يصل حجمها ووزنها إلى ثلث حجم آلة داجر، وكان وزنها لا يزيد على أربعة عشر كيلوجراما، وبالتالي كان يمكن حملها نوعاً ما مقارنة بالأخيرة، وفى سنة 1840 قام صانعو العدسات شفالييه، وليرسبور، وبيرون، ومونميرال بإنتاج آلات تصوير جديدة”.

وتضيف “اكتملت تقنيات التصوير في بداية النصف الثاني للقرن، بما مكن من الاستغناء عن المحترفين ذوي المعرفة الخاصة. فقد خرجت الفوتوغرافيا من مجال التجربة العلمية. ووفرت الصناعات المتخصصة المواد الأولية. ولم يعد تحضير أحماض الإظهار والتثبيت يحتاج إلى خبرات كيميائية خاصة. كما توافرت آلات التصوير بمقاساتها المختلفة عند عدد كبير من صانعي العدسات، وبالإضافة لذلك، نشرت أكثر من سلسلة كتب سهلة القراءة لشرح عمليات التصوير بدقة، مما سهل التعامل معه للجميع، وبضع مئات من الفرنكات فقط، أصبح من الممكن عمل ورشة تصوير بعد انخفاض الأسعار”.

وتشير جيزيل فروند أن أعداد الكتب في القرن الخامس عشر قد تضاعفت بفضل جوتنبرج، لكن القراءة ظلت دائماً قاصرة على وسط المتعلمين، واليوم يعترف المثقفون بأنهم صاروا يقرأون أقل فقد أصبحوا أكثر اهتماماً بالصورة، فحتى المثقفين الأكثر رفضاً للتليفزيون لم يعد بوسعهم الهرب منه، فأطفالهم يطالبونهم به، إذ يشعرون بالمهانة في المدرسة عندما يدور الحديث عن برامج لم يشاهدوها”.

وتضيف “في عصر النهضة عندما كانوا يريدون وصف رجل بالذكاء، كانوا يقولون إن “له أنف”، وفي عصرنا ننعت الشخص الذي يعرف بالذكاء بأنه “ذي عين” إذ أن الرؤية هي الحاسة الأكثر إثارة، فالصورة سهلة الفهم ويستطيع الجميع إدراكها، وتكمن خصوصيتها في تأثيرها على قابلية الانفعال، وهى لا تسمح بأي فرصة لرد فعل ولا للتحليل مثلما يحدث فى النقاش أو قراءة الكتب، إن قوتها تكمن في فوريتها وفي خطورتها أيضاً، لقد ضاعفت للفوتوغرافيا الصورة آلاف المليارات من المرات، وبالتالي لم يعد العالم لغالبية البشر متخيلاً منذ الآن فصاعداً وإنما هو موجود ومرئي. إن صورة فان تي كيم فوك الفتاة الصغيرة ذات التسع سنوات التي احترقت بشكل عنيف فى غارة نابالم، وهى تجرى عارية مع أطفال آخرين على أحد طرق فيتنام الجنوبية، ترمز بشكل مؤلم للحرب. وقد تم نشرها في العالم كله وأيقظت فى كل مكان الكراهية للحرب والرعب منها، أكثر من عشرات الصفحات التي كان من الممكن كتابتها عن هذا الموضوع، لقد بلغ تأثير هذه الصورة أن مجلة لايف في عددها الصادر بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 1972 نشرتها بين الصور الأكثر تأثيراً على الذاكرة لعام 1972. ولتخفيف صدمة المشاعر نشرت لايف بجوارها بورتريه ملون للفتاة الفيتنامية وهى تضحك مع تعليق يقول إن تى تم علاجها فى مستشفى سايجون لمدة 15 أسبوع حتى تم إعادة زرع جلد لها وشفائها بالكامل”.

لكن الشيء الذي لا يصدق هو أن الحرب قد انتهت بالنسبة لهذه الفتاة. فطائرات الجيش الأميركي دمرت منزلها أيضاً فالهجوم بالنابالم كان بسبب خطأ من هذا الجيش. وعلى الرغم من الصورة المطمئنة التي أوردتها لايف بإضافتها أن “منزل الفتاة تم إعادة بناء جزء منه. وأنه تم علاج جروحها وعادت للمدرسة. واختفت ذكرياتها خلف ابتسامتها الصغيرة” على الرغم من هذه الصورة المطمئنة. فإن صورة فان تى كيم فوك وهى تجرى عارية تماماً على الطريق ستظل محفورة دائماً في ذاكرة كل من شاهدوها”.

عند التوجه لمخاطبة الحساسية فإن الفوتوغرافيا تمتلك قوة إقناع تستغل بوعي من طرف الذين يستعملونها كوسيلة استغلال، في كتابة: اعترافات معلن نصح دافيد أوجيلفي أحد ممثلي الإعلانات الأميركيين عملاءه باستعمال الصورة الفوتوغرافية أكثر من أي شىء آخر إذ إنها تقدم الواقع بينما الرسم أقل قابلية للتصديق. وهناك مئات الملايين من الهواة، مستهلكين ومنتجين فى آن واحد للصورة، وهم من الذين رأوا الواقع عند ضغطهم على زر اللقط، يعتبرون الصورة دليل لا يمكن إنكاره.

لقد أعطت المؤلفة أمثلة كثيرة عن الوسائل التي يمكن أن نغير بها الصورة وأن نجعلها تقول عكس ما كانت تعنى في الأصل. “لكن بسبب قابليتها للتصديق والتى جربها الجميع، بما أن الجميع من الهواة، بسبب ذلك تكمن قوتها ويتم استعمالها المكثف فى الإعلانات. كما يقوم المعلنون بالاستعانة بـ “أطباء نفسيين متخصصين في أعماق العقل الباطن” لدراسة رد فعل الإنسان أمام الإعلان. وهم يعرفون أن الصور تتجمع وتستقر باللاوعي وتؤثر بعمق على السلوك”.

ويقول “قد قام بعض المحللين النفسيين بعمل إعلان شيطاني، وذلك بتركيب ومضات زمنها حوالي 1/30 من الثانية فى عروض للأفلام للترويج للمنتجات. وتم منع هذه الصور التي تؤثر على اللاشعور لعدم أخلاقيتها، وإذا كان من الكافي إحداث وميض زمنه 1/30 من الثانية للتأثير على إرادة الإنسان، فيمكننا قياس نفوذ الصورة وإدراك قوة جاذبيتها وقدرتها لبيع منتجات وأفكار.

ولا تقوم الصورة بهذا التأثير في البلاد الرأسمالية والتي تسمى ليبرالية فحسب، وإنما أيضاً في البلاد التي يحكمها ديكتاتوريون، سواء كانوا يمينيين أو يساريين. فصورة رئيس الدولة محاطاً بالحاشية أثناء العروض أو أثناء إشرافه على اجتماعات البرلمان. أو صورته التي تزين المكاتب الرسمية، تجعله بمثابة الأب بالنسبة للبعض والأخ الأكبر للبعض الآخر، وهذه الصورة توحي بالحب أو الكراهية، وبالثقة أو الخوف. وتكمن قيمتها الأساسية في قدرتها على إيقاظ المشاعر.

 

من almooftah

اترك تعليقاً