القومية في أدب الأخوين رحباني


مارك خريش
منذ بزوغ الشمس الرحبانية، قبل نصف قرن ونيّف، شهد الشرق الأدنى أهمّ تغيير في تاريخ الفن الحديث.
عاصي ومنصور هما الحكاية باختصار. أفلتا من أسر التقاليد والعادات الموروثة ! ليشكّلا عالماً خاصًّا بهما.
بعفوية مطلقة، وباطلاع واسع، وذكاء حاد، وحبّ شديد للمغامرة، انطلقا الى التأليف الشامل: أناشيد، قصائد، ألحاناً، مسامع تمثيلية، مشاهد، حوارات، اسكتشات ومسرحيات… فقدّما الواقع وشرحا مفرداته، وبمنطق المستقبل أملا للتغيير. وبمحض مصادفة أو بلعبة قدر ذكية، اجتمع عاصي، منصور، وفيروز. واحدثوا التحول الكبير!

لا يهم كيف تم اللقاء، من تعرّف بمن، متى وأين..
المهم ما أسفر عن ذلك اللقاء من أعمال إبداعية، تفاعلت، وما تزال تتفاعل في أذهان المستمعين وقلوبهم.
ما سأتطرق إليه الآن ليس كل شيء. وما سأبحث فيه ليس سوى قليل من كثير ..!
لعلّه الموضوع الأهم في المسيرة الرّحبانيّة الطّويلة. فهو الّذي أطلّ علينا قي القصائد والأغاني والمسرحيّات.حتى لو لم يرد أحياناً ذكره صريحاً ..
هل قلتُ الوطن ؟ أجل، لقد قلتُ!
الأغنية الوطنية:
الأغنيةُ الوطنيةُ حالةٌ ونقيضها، حماس وفتور، وطن ومنفى. وهي تمتلك حساسيّة خاصّة مختلفة عن باقي الألوان الغنائية وأشكالها.
وفي الأغنية الوطنية تذهب الأمور الى أقصى حدودها وأبعادها. وليس ثمة حل وسط معها. فإمّا أن تكون الوطن الحقيقي: وطن اليقظة والحلم، بنشيده وعَلَمِه وشعاراته وسهوله وجباله وأوديته. وإمّا أن تكون المنفى والاغتراب والضياع والتشتت، بكل ما فيها من قسوة وقساة وجلادي جسدٍ وروح..
من هذا المنطلق، وقع الفشل وارتسم النجاح، وحددت المواقع والأحجام والاتجاهات كافة.
فماذا عن الوطن في شعر الأخوين رحباني؟

هنا الأمور لا لبس فيها ولا إبهام، ولا تأويلات ولا احتمالات. في أدب الأخوين، الوطن هو الأمة الحقيقية لا المبتكرة بقصد أو بغير قصد. هو الاعتناق والمعانقة والاتحام الكلي.
ليست الأغنية الوطنية عند الرحابنة، مارشاً عسكرياً أو دعوة الى الحرب أو أبواق استنفار ورائحة نار ودماء. فهي كل ما يرتسم في مخيلاتنا من البيوت والشوارع والجبال والأودية والشجر وأفيائها. هي كل الذكريات التي تعبق رائحتها في الأماكن. لنعود بلهفة ونرشف لحظات الفرح واللهو في محاولة لاستذكار الماضي وإحياء ما تبقّى منه.
سنرجع يوماً الى حيّنا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات مابيننا
فيا قلب مهلا ولا ترتم على درب عودتنا موهنا
يعزّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور نحن هنا
هنالك عند التلال تلالٌ تنام وتصحو على عهدنا
فيا قلب كم شرّدتنا الرياح تعال،سنرجع، هيا بنا
الحرية في أدب الأخوين رحبإن الحرية كانت العنوان الأبرز في قصائد الأخوين رحباني، وهنا لا مجال للسؤال عن منابت تلك النزعة التي تجلّت واضحة في أدبهما. فكل ما عاناه الهلال الخصيب منذ زمان بعيد من احتلالات واستبدال محتل بآخر، ووعود كاذبة بالستقلال التام وتوحيد الأمة، بالإضافة الى قضية فلسطين التي مابرحت تعاشر الأسى، كان كافياً أن يفجّر هذه الثورة الغاضبة التي ملأت قصائدهما الوطنية، الى جانب عدد كبير من أبناء أترابهما، والتي دعّمها صوت فيروز الى أقصى الحدود. هذا الصوت المنسكب دفئاً وصهيلاً لا يقل ثورة ولا عنفواناً .
فمنذ بزوغ الشمس الرحبانية المثلثة الأطراف، تجلّت دعوة صادقة لكسر القيود وإطلاق النفس والعقل من أقفاص مصنعة ومحجّمة ، ابتكرها أصحاب القرار ومالكو زمام المال والسلطة. فاستحثّوا منابت الحرية الثائرة ، لأنها مرادف للوطن والإنسان.
طلعنا على الضو طلعنا على الريح
طلعنا على الشمس طلعنا على الحرية
لبنان والرحابلا شكّ أن ثمة طقوساً خاصة بلبنان ومحبّته ومناجاته. نقلات بعيدة المدى والأمد: من الخشوع الكامل والصلاة الحقيقية، الى مواقف عزٍّ وعنفوان وثورة وكبرياء، الى عشق ووله. وشعر الأخوين يخاصر لبنان في رقصات غرائبية يصعب وصفها، بل يستحيل.وحين أراد عاصي الرحباني أن يعبّر عن حبه الكبير للبنان، كان إعصار الألم يضرب لبنان ويضرب عاصي في آن. لكن التعبير جاء شعرياً شفافاً مفعماً بالحساسية، حازماً حاسماً،وجاء لحناً يعصف بالقلوب ويوقد المشاعر. وحين غنّت فيروز جراح الوطن، لم تكن تغني، كانت تبكي. بل كانت تعيد تشكيل الحياة برمّتها.
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
بتسأل شو بني وشو اللي ما بني
بحبك يا لبنان ياوطني ..
لم يكن شعر الأخوين إلا ليشمل كل القضايا الإنسانية. فهما مرتبطان بما يجري ارتباطاً وثيقاً، متحرران من مفهوم عاميّ سائد يقول: “كل من إيدو إلو”. إلا أن الرحبانيّين حملا لواء أكثر من قضية في هذا الميدان الواسع. تغنّا بالوطن مطلق وطن، فغنّا بذلك الكل من دون استثناء, معبّران عن مشاعر اؤلئك الكل، مشاركان في رؤاهم مشاركة فاعلة. تغنّا بلبنان ملء الجمال، غنّاه حبًّا صرفاً، ولم يلغيا أوطان الآخرين، معبّران عن شمولية الحب وعمق الروابط الإنسانية. ناهيك (عن محذوفة) أنهما أفردا ما أفرداه ، من أحاسيس وأفكار وعواطف ملتهبة لفلسطين ارضاً وِشعباً وقضيةً، غير آبهين بحضور القضاة والمحلفين وكل من لفّ لفّهم!لرحابنة والإنتماء الكبير
(الرحابنة والنتماء السوري القومي الإجتماعي):
أما بشأن قومية الرحابنة السورية المتجلية في بعض قصائدهما وأحاديثهما ولقاءاتهما التلفزيونية والصحفية، فلا ريب أنهما قرآ فكر أنطون سعادة وعقيدته وتأثرا بها الى حدّ بعيد. فإيمانهما بانفتاح لبنان على محيطه الطبيعي، و توحيد الأمة السوريانية (نسبة الى سوريانا)،كما ورد على لسان منصور في أكثر من مقابلة، إضافة الى الكلام على إلغاء الطائفية وجعل الدين نظرية فلسفية خاصة لا أكثر، والاستفادة من التراث الفني لسورية الطبيعية كلها (مثل القدود الحلبية والموشحات والفلكلور الشامي والأغنيات الغجرية الأردنية-الشامية-العراقية)،وكتابة عدد كبير من القصائد المغناة للشام وبغداد وفلسطين، والتي يبلغ عددها حوالي الخمسين أغنية وأوبريت.لا يدلّ إلا على ذلك. حتى أنه في نهاية خمسينات القرن الماضي شهدنا أغنية رحبانية بصوت فيروز تحمل عنوان “سورية” والملفت أنها تصلح نشيداً رسمياً للحزب السوري القومي الاجتماعي الى جانب النشيد الأساسي.

وكلماتها هي التالية:
“سورية سورية
مواكب تسير في مطالع الضياء
سورية سورية
فأطلق الجباه يا جبال للإباء
والثمي الكروم ياسماء
واملئي القلوب يا رجاء
قد أطلت الشموع في الفداء
فاسلمي لي يا ملاعب الصفاء
بلادنا على فم الصحارى
مروجها تعانق الغابات
بلادنا المجلة افتخارا
منائر توزع السناء
أرضنا ياخصبة السهول
يانعيم المشرق الجميل
في ثراك الطيب النبيل
تزهر الأمجاد والوفاء
أسوريا فلتعلم الشعوب
بأننا نفنى ولا نلين
أسوريا ولتهنأ القلوب
لن يدخل الغريب للعرين
دولة التاريخ والصروح
قمة العلياء والطموح
يوم يدعو الجيش للفتوح
دارنا الأمجاد والعلاء”

والكلام على سورية هنا لا يعني الكلام على الجمهورية العربية السورية الحالية، إنما يذهب ليشمل سورية الطبيعية بكل صفاتها وحدودها الجغرافية والطبيعية . أما استخدام ضمير المتكلّم “نا” في الحديث عن سورية (بلادنا2،أرضنا،دارنا) يصرّ على الانتماء العلني للأمة السورية الطبيعية. حتى أن استخدام تسمية “أسوريا” أي “أشوريا” وهي التسمية القديمة للأمة يأكّد قراءة الرحبانيين وفهمهما تاريخ سورية الصحيح لا المزيّف، والتأثر بالرموز التي مرّ فأضاء عليها بكل جوانبها، الزعيم أنطون سعادة.ما يعني أنهما دخلا في النهضة السورية القومية الإجتماعية دون الإفصاح المباشر او الانتماء الحزبي وممارسة النشاطات والمسؤوليات الحزبية.
الرحابنة وجرح فلسطين:ثمّة من يشكّك في أهمية الأغنية وفعاليتها، فيحلو لهم القول:”هل الأغنيات والأناشيد ستردع الظالم، وتوقفه عند حدّه، وتعيد الأرض المحتلّة؟”
فردّ الأخوين بأغنية هي أشبه بترنيمة إلهية، تدعو الى الصلاة والخشوع، “فالغضب الساطع آتٍ…”
“زهرة المدائن” . هذه الأوبريت تلخّص مشاعر الأخوين تجاه مهد الرسالات السماوية. “مدينة القدس”، نبع السلام والمحبة ورمز المقدسات الإنسانية الأصلية، نقطة الالتقاء، و صِلة الوصل بين ضمائر كل المؤمنين وقلوبهم. لقد كتب الأخوان رحباني الكثير للفلسطينين ، لإيمانهما بالقضية الفلسطينية ورفضهما للظلم والظالمين، متوقعان خطورة الوضع الراهن الذي يهدد وجود أمتنا وبقائها.وفي هذا الميدان نقل عن الأخوين رحباني قولهما: “كنا نخشى أن ينشأ، بمرور الوقت، جيلٌ من أبناء فلسطين ليس عندهم الحنين الكافي للندفاع لاسترجاع التراب، لذلك كانت أوبريت “راجعون” .
بغداد والشعراء والصور، والشام جارتنا يا جيرة الهممٍ:
فبعد بيروت والقدس اللتين احتلتا صدارة الصدر، تطلّ الشام التي حظيت بالرصيد الكبير. ذلك أن الثالوث الرحباني (فيروز، عاصي‘ ومنصور) درج على زيارتها في معرض دمشق الدولي كل عامٍ تقريباً. وكان يفتتح عمله الفني بأغنية للشام. فكانت أغنيات وأغنيات:طال النوى وبكى من شوقه الوتر خذني بعينيك واهرب، أيها القمرُ
لي فيك يا بردى عهدٌ أعيش به عمري ويسرقني من حبّه العمرُ
وأيضاً:
حملتُ بيروت في صوتي وفي نغمي وحملتني دمشق السيف في القلمٍ
وقصيدة بوابة التاريخ:
ياشام عاد الصيف متئداً وعاد بي الجناح
كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا
أهلي وأهلك والحضارة وحدتنا والسماح
ولم تغب بغداد عن المخيلة، أو تهملها أجنحة الخيال!.. بغداد تاريخ الحضارات والمذابح، بغداد الأزقة المعبّدة بالقصائد والموسيقى.. بغداد أبي نواس وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي مظفّر النواب، خصّها الأخوان بقصيدة وحيدة وزيارة واحدةٍ حيث رفض عاصي أن تغني السيدة فيروز تحت صورة من كان يسمّى ذات يوم “الأب القائد” أي الرئيس صدام حسين. هذا ما يؤكّد أنهم لم يغنّوا شخصاّ إنما شعباّ وأمةً حقيقيين.
“العروبة الصحيحة والعروبة الزائفة”:
لم يكن تجوال الأخوين وفيروز حبّاً بالسياحة والاستجمام، بل هو تلبية لدعوات قلوب الملايين من البشر الذين ينتظرون حضورهم. ولقد لبّوا تلك النداءات والدعوات بصدر رحبٍ وقدّموا منذ الستّينات نماذج غنائية ألقت بظلالها على عواصم الأقطار العربية كافة. فهم ذهبوا مخاطبين الإرث الحضاري والتاريخي مع الحفاظ على خاصيّة كل أمة من أمم العالم العربي. فلم يدّعوا العروبية التي تزيّف القومية الحقيقية “التي هي شعور كل أمة بشخصيتها ونفسيتها وحقوقها ومطالبها”.
ولعلّهم الوحيدين من غنّوا المدن الأمم العربية كلها وأهدوا التحية الى الشعوب التي بَنَت وتمسّكت، وظلّت تردد أغاني الحرية، على الرغم مما ألمّ بها من قهرٍ وظلم واضطهاد! لم يكن ذلك بهدف الشهرة أو نيل الأوسمة أو حتى من أجل مبلغٍ من المال اتُّفِقَ عليه سرّاً ! وليس الغناء مرتبط بالجوانب الظرفية او بالمناسبة، وإنما هو ارتباط بعبق التخفر والأمل وحركة التململ واستنهاض النفوس، فتأتي القصيدة-الأغنية من الصدق والعفوية والاحساس المرهف ما يبعدها عن الشبهات، وما أكثرها!
ونذكر أن في معظم الأغاني التي قدّمها الرحابنة لعواصم الأمم العربية لم ينسوا هويتهم كلبنانيين-هلال خصبيين موجّهين رسالة السلام من الشعب الى الشعب ، لا من أشخاصهم الى السلطة الحاكمة أو الرئيس القائد. هذا ما يتناسب كلياً مع فكر أنطون سعاده في شأن العروبة والعرب، ما يثبت الوعي القومي الكامل، الظاهر في فن الرحابنيان عاصي ومنصور.
ليس الأمة هي الأرض، الأمة هي الأرض والشعب. هي العودة الى الذات، الى حقيقة الأمور: الشخصية والنفسية والبيولوجية.. الأمة هي مرآة تعكس حقيقة الإنسان المنتمي إليها.. فويلٌ لمن ينكر أمّته، كأنه ينفي ذاته من الوجود.
ليس الأخوين رحباني أول من تحدّثا عن الوطن والأمة ، ولن يكونا الأخيرين. لكن أهميّة أدبهما تكمن في الدعوة الى الاندفاع لاسترجاع الارض المحتلة، وردع المحتل. دعوةٌ الى الصلاة والثورة في آن.
في شعر الأخوين، نهضة قومية واضحة، تحرص على إعادة شمل الأمة الواحدة .
خلاصة الحديث، أن الوطن الرحباني وطنٌ يلغي غربتين: غربة الجسد وغربة الروح. يكتبان عن الكروم، عن الزواريب، عن الضيعة القريبة والغادي الى كفرحالا مثلا، عن القطيع والمراعي، فترانا نرفع راية انتمائنا عالياً. نتكاتف، نتلاحم، يجمعنا حلمٌ واحدٌ، أمةٌ واحدةٌ. نغدو معنيين بهمومها وشجونها، بآلامها وآمالها، بماضيها وحاضرها ومستقبلها.

من almooftah

اترك تعليقاً