مدخل في ادبيات القاص والروائي السوري : نبيه اسكندر الحسن ..
بقلم : علي الصيرفي – سوريا

(أحلام مشتتة) تأتي هذه المجموعة بعد مجموعات الأديب السابقة” الهدية” دليل الأمّ “و” سوريا الأمّ ” .قوة الفعل القصي في بناء الحدث عند الأديب القاص والروائي نبيه اسكندرالحسن..القص آلية تمثل الوعي الذي يعبر عن فكرنا الكتابي
إن الحديث الذي سنسوقه عن القص يمكننا من التعرف على ما يكتب ، وما يصدر عن الأدباء في الوقت الحالي ، فالكتابة إمكان من نوع فريد ، وهي تعني كل الممكنات ، ولها طابعها الفريد إلى حد تسميتها الرائدة في كل المجالات ، ويكون من الخطأ الظن بأن القص يفلت من المستوى الممتاز للأعمال الكتابية ، فالقص كالشعر يحب التربع في المقام الأول ، إذا هنالك صيغ جديدة لظهور القص وتقدمه على طريق التمرد والاندفاع نحو الأمام ، عندما يتخلص الكاتب من محبطاته وتمسكه بما لديه من أدوات وأحداث ملقياً بها في محيط قصه ، وهذا ما فعله الأديب القاص نبيه إسكندر الحسن ، عندما انطلق يبحث في بيئته، وبين جدران الغرف البائسة في عالمه وفي وجوه الصغار والكبار وفي انتفاخات بطون أصحاب الأموال فكان يجمع ويضم إلى باقات قصه تلك الأحلام المشتتة التي كتبها حقاً إنها أحلام مشتتة في زمن يحمل كل التشتت والتقطع ، والانحلال .
فالقص في هذه الآلية لا يعتبر تنازلاً بل يمثل الوعي الذي يشد إليه البيان الأول من فكرنا الواعي ، فالكاتب لا يبغي إلا أن تبرز الكتابة إلى النور فمن الصعب تجاهل النشاط الواعي الذي نجده في قص الكاتب ، والإدراك لكل ما يدور حوله فمجموعة (أحلام مشتتة ) جاءت لتبرهن أن الكاتب على علاقة مميزة مع محيطه وشخوصه ، وهو لا يقبع خارج محيطه وأنظاره تتجه إلى الخلف بل هو يقف دائماً على مقربة مما يدور ويحصل ، كما أنه لا يترك ما يحمله الوعي القصصي إليه أن يفلت منه بل يمسك به ، ويأخذ على عاتقه أن ينقل الحالة التي تتشكل فيها الجمل المثقلة بالأحداث .
رحلت إلى رمال الشاطئ منتصف الليل ، رحت أمشي الهوينا على الرمل ساقت الريح غيوماً سوداء كحلت وجه القمر ، أردت أن أسكن روعي ، فأخذت أبحث عن ماهية الأشياء ومن خلال جولاتي رأيت أناسا ًدون مأوى شيعت بناظري مدينة هاجعة تشع من عماراتها أضواء خابية ،خصصت لليالي الحمراء )ص9القص يدخل كل المناطق المحرمة ويرفع يده عالياً فوق رؤوسنا
1ـ إن تمزق المفهوم المألوف في الكتابة ، وظهور ما يقوم به القص من مساحات تشكيلية جديدة تحمل بنائية تعمل من خلال أدوات ظهرت فيها روح الجدية والتعمق، واعتبار الفكر هو القدرة على لقط الحدث وصياغته بالشكل الفني الذي يخدم القارئ ويدخله في حلبة القص وجمالياته، فالحلبة تدل على القوة ، والجماليات هي الروعة في انتقاء التشكيل والبناء وفي هذين المضمارين تمكن الأديب القاص نبيه إسكندر الحسن أن يفعل الكثير ، فقد نفذ من خلال وعيه إلى قلب الأحداث وعقول شخوصه ، حاورهم قرأ لغة عيونهم ، استمع إلى أساطيرهم ونجواهم فكر في كلماتهم ، وحمّلها معاني أكثر كما يجب ، وظل سارداً لكل ما تلقطه عيناه من حادثات ،فاختلط مع الموج القادم، وحمل رذاذ المطر ، وشرب من الكؤوس التي مرت عليها شفاه العطاش ، حاول أن يدخل في قدسية الأماكن التي تخرج منها الكتابة ، فكانت موضوعاته تمتزج بروح الناس وأفكارهم، حتى صارت الحقيقة التي يكتبها فراشات تطير في كل الحقول، وتحمل معها سمفونيات يستمع لها كل المنشغلين في الهم المرسوم ، فهل نجح الأديب فيما أراد .
إن القص يذهب إلى أبعد المناطق ،وأعمق الأحاسيس ، ويدخل في كل المحرمات ويرفع يده عالياً فوق رؤوسنا وسبابته مصوبة ، تحدد كل الأشياء الموجودة في المجتمع ، إن تشابكات الأحداث تشكل نوعاً من الرؤية الواضحة للقص تتجسد في لغة الأديب لتقوده على دروب المحكي ، وكلها تشير إلى مصدر القص وإلى المناطق العليا التي يحس إنه قادر على الوصول إليها بفضل قوته الذاتية .
(هربت إلى بيارات البرتقال البليلة بندى الصباح البكر، تتشبث بالأرض و تشرش في أعماق التربة ، أدركت أنها المعجزة ، حين تأكدت أن الطوفان قادم لا ريب، اليم يؤكد الهيجان والأمواج ترغي وتزبد ، ومن الزبد نبقت أفروديت ومن عرض البحار اصطحبت أثينا (أوليس )فأثلجت قلب بنلوب )ص14الحدث بقسوته هو الخط الأساسي لأفعال القص.2 ـ ليس في وسع الأديب أن يهرب من الصراع القائم بين الإنسان والواقع لأنه سيكون مدفوعاً نحوه يسقط كل امكاناته لتحليل هذا الواقع ، والقاص ينغلق في كثير من الاتجاهات في حدث ينتقيه ليجد فيه ضالته الكتابية فيدفع فيه قوته الفكرية ، ويؤكد قدرة الوعي وحركة العقل في كل ما يريد قصه من خلال الأفعال التي يستخدمها الأديب، فالقص كما هو كتابة ، هو وعي وإدراك وقدرة على تحويل العادي إلى مهم ومتداول ، وهذا ما يفعله القاص ، حين يدرك أن عمله مختلف عن الكتابات العادية ، فالقص عندما يناقش تناهي الحدث يصل إلى موضوع الزمان والمكان ويعمل على أن الإنسان هو مخلوق في هذا الدهر ، والزمن يعمل به في كل محطات حياته فالأحداث بحزنها وقسوتها وروائعها ، تظل هي الخطوط الأساسية التي يتعامل معها القص ، فتدخل
أفعال القص في بنائية الحدث ، وتصنع بنيويته في كل مراحل الخلق وفي ولادة الفعل والفكرة والجمال أيضاً.(وثبت عيني في البعيد ، مسحت الغوطة الممتدة في الخضرة على مدى العين تجلى فيّ ما كان خافياً تحدثت مع ذاتي-يا إلهي حقاً هي العينان علماء البصريات جاؤوا بكل ما هو فائدة للناس . ).ص-15
ومع أن الانشغال في القص هو نوع من الاضطراب في المنظر العام عند القاص إلا أن الكاتب نبيه الحسن يبدأ عمله من وعي مكثف للموقف القائم فعلاً مما يؤدي إلى تواصل مع الإرادة المنطلقة من وعيه وتفكيره فالموقف عنده يحدث قلقاً حاداً يحول دون الهروب من اتخاذ قرارات يحاول فيها التغيير والتجديد وتلك ميزة عند الأديب تمثل الجرأة والإقدام ، فهو يقتحم المستقبل محاولاً العثور على الأمان في أساطير الماضي ، وقد يكون هذا الموقف من المواقف التي يشعر فيها بوطأة القهر وعدم شق هذه الحجب التي تتبلد في سماء شخوصه إذ يظهر كل شيء أمامه بدون أمل فيندفع الكاتب إلى اختلاق فعل قسري من خلال الحس الغريزي أو أي دافع مماثل يُقطع أمام الفشل .
3- كما أن هناك لا توازن بين الحاضر وما هو واقع وربما تكون هذه الحالة أكثر الحالات انتقاءً لدى الأديب ، فالتيه الذي يمتد أمام عينيه مساحاته شاسعة يدفع إلى الضياع في طريقة التعامل الإنساني فتتحول الأمور إلى تصرفات غرائزية حيوانية ، فالافتراس والاندفاع نحو التشفي والتهام الأشياء تحت عنوة السيطرة ، تدفع الأديب إلى إظهار الإرادة وأفعالها ، حيث أن فكرة اللاتوازن في الحياة بين الأنظمة والموجودات ، تدفع إلى رفض الكثير إلى التجاذبات والتطلع إلى إضاءات يمكن أن تحول هذا التقزم والقرف إلى نور ومستقبل ، فمن دموع المسحوقين وبكاء الصغار وأحلام العشاق ، وسفر النوارس وإبحار الأشرعة ، تصاغ الحكايات التي تقذف الأفكار و تصيغ القص ليكون هو الحلم والصورة .
( ولولت الزوابع ، كاد يفقد توازنه ، فانطلق كالهارب من الأيام وبدا اليأس مكتوباً على سحنته ، وثمة سناجب تمد رؤوسها من أوجارها وسرعان ما تختفي تحسباً،وقف حمدان خوفاً من أنياب مفترسة طالعة ، الجدل كان بالنسبة إليه خمر يرتوي من دنانه المعتقة ، هاجت في داخله رياح هزت مشاعره أثارت حماسته فسأله أين عروسك)ص47ومن خلال ذلك سيلاحظ القارئ أن ما قمنا به هو مقاربة لحدود العمل الذي ابتغاه الكاتب وأولاه معظم همه وجهده ، ومع ذلك فإن أي قرار يتعلق برسالة الكاتب في حياته ينطوي على إرهاصات تجعله في نفس الوقت يرفض ممكنات كثيرة يجد فيها الظلم والسيطرة والإجهاض قد هيمن على روح المحبة والتقدم فالقص من الناحية الجمعية الفكرية عند الكاتب هو الطريقة للمشاركة في بناء عالمه وفي الوقت نفسه البؤرة التي ينظر منها ويحدد ردود أفعاله بموجبها فالحياة هي ذاتها من أهداف القص عند الأديب ، ومن خلال حركتها الدائمة يتلاقى العمل الكتابي بين الأديب والمعطى حيث يغوص الكاتب في عمق العلاقات ويتحدث مع كائناته بشكل حميمي حتى أنه يبكي معهم ويفرح لانتصاراتهم ، فالإنسان لديه هو موجود فاعل ، وهو موضوع قصي يدخل في أساس العمل الكتابي بما لديه من مشكلات تتنامى وتتجمع في فكر الكاتب ، لتنتثر فوق السطور ، وتخلق الهيكلية الكتابية لكل خيالاته ، فالقص مناجم لمعادن مختلفة يعمل القاص على إخراج فلذاتها ، وتنقيتها بتقنياته التي يتعامل معها لذلك أدرك القاص نبيه الحسن بأن الاستخدام الأمثل للقص هو القص حيث يجد أن الخط الجامع للأدوات ودفعها في بناء قصصي كتابي هي الأفعال الحدثية التي ينتقيها ويجيد استعمالها ،
(ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء خطفت بصري شجرة سنديان تأوي عصافير غريدة خامرني إحساس أن الخيط الأبيض يلاحق جحافل الليل،اعتراني الملل فقلت يالعنة الجحيم أين العصافير؟- لقد شردها الخريف أطرقت ملياً، عزيف الريح نائحة ثكلى ، استولى عليّ إحساس أن أحذر من اللصوص وأشير إلى مواضع الخراب ، دعتني الفكرة أن أنقب عن الحقيقة في أمهات المعاجم) ص72
عمل الأديب نبيه اسكندر الحسن على ضخ كل الرؤى التي تََصَوَّرها مجتمعه وبين ما يريده شخوصه من خلال النجوى والمنعكسات الداخلية التي تتدفق من الداخل المجرح ، فهو يعلم أن القوى الغادرة تتجمع باستمرار لتخرب كل ما يحلم به البائسون ، فالرحى التي تطحن لا تقف بل لا تشبع لأنها تمزق حتى الأجنة في أرحام النساء ، ومع كل هذا الظلم والعنف لم ييأس الأديب من المضي إلى منارة الحياة وإلى عين الخلود التي شرب منها انكيدو وحصل على الحياة ، إنه كطائر الفينيق يحب أن ينبعث من الرماد وفي كل مرة ليكتب شيئاً جديداً ينير الطريق.
الناقد علي الصيرفي

من almooftah

اترك تعليقاً