timthumb (1)

إن محاولة قراءة ديوان ” شمس الما” للزجال المغربي الكبير احميدة بلبالي كمنجز زجلي يحبل بمضامينه الزجلية المختلفة و يزخر ببيته الفنية و الدلالية والتداولية المتماسكة والمنسجمة لا يمكن أن يتم بمعزل عن قراءة ولو مقتضبة في سيرة هذا الزجال و الانسان الذي لم يخض غمار الكتابة من أجل الكتابة أو لتزجية الوقت فقط بل هو غمار عسير وشاق واجه فيه مثلما واجه جل المبدعين الحقيقيين الخطر ليصل إلى النهاية القصوى للتجربة كما يقول الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، تلك التجربة التي يتوزعها ويتقاسمها من جهة أولى الوعي بأبجديات هذا الواقع العنيد، ومن جهة ثانية الوعي بقيمة الفن ومن خلاله الكتابة كأداة ناجعة للتحرر من سطوة الواقع و إكراهات اليومي، ولأن الكتابة هي في المحصلة نتاج خالص للمعرفة الدقيقة للأشياء وتفاصيلها فإن هذه المعرفة ذاتها لا يمكنها أ تكون مفيدة وصالحة إلا في ظل تفكير يؤسس لفهم جديد للعالم كما لفهم جديد لماهية الذات، ولعلها أولى علامات الفهم أن نرغب في الموت كما قال فرانس كافكا ذلك الموت المجازي أو الفهم الذي يؤدي إلى القطيعة بين حد التقاليد الموروثة و القناعات المزيفة و الطابوهات الماكرة وبين حد الحرية و الانعتاق بما يعنيه ذلك تحرير العقل و الوجدان والذاكرة من أسر المعنى المقدس و اللغة المحنطة للانطلاق الحر نحو آفاق الإبداع اللامتناهية، يقول الزجال احميدة بلبالي:
ب السلامة عليك آ عقلي
ها انا حررتك
من شوفتي ليا وسط الناس
غير دير الطَّايْلة وارحل
سوارت الممنوع خذها
وها البيبان ايلا قدرتي تحلّها
وادخل (21)
إن أول شيء يجب تحريره حسب الزجال المغربي احميدة بلبالي هو العقل وذلك بتحرير رؤية الذات إلى ذاتها لأنها هي الأصل في التغيير الحقيقي ولهذا فإنه حين يتم تغيير الرؤية القائمة فطبعا وبشكل مباشر ستتغير نظرتنا للأشياء من رؤية محدودة إلى رؤيا لا متناهية، وهذه الرؤيا هي الدرجة الصفر لإدراك الشاعر للعالم وتوحده و اندماجه في المطلق بحيث يتم من خلالها تجاوز الممنوعات و وتخطي الطابوهات وبالتالي البحث في أسرار المعاني المخبوءة دون قيد أو شرط، لكن أي عقل هو الذي يقصده الزجال هل هو العقل المحدود الذي يكتفي بظواهر الأشياء، أم العقل الباطن الذي يحدس بواطن الأشياء عدته الخيال الخصب والتأمل الجواني العميق الساعي إلى البحث عن الحقيقة الثاوية في الأعماق، يقول الزجال احميدة بلبالي :
و بالسلامة عليك آ عقلي
لا تدير بحالي
يسلسلك هم النهار
ويزيدك عقُوب الليل
لا تتبع الساهل
اركب لُوعَارْ
سِير عَقْبَه
لا تركب الْحَدْرَه(25)
إذا كان جلال الدين الرومي قد اعتبر أنه ليس في العالم خيال دون حقيقة فإن الحقيقة التي يبحث عنها الزجال احميدة بلبالي متـسلحا بخياله الخصـب وتـأملاته العميقة لا تتحقق إلا بممارسة مغايرة أساسها النفي والتضاد بحثا عن الحقيقة المستترة والمخبوءة، وعليه لكي نستطيع الإمساك بماهية الدلالة لابد من نفي شرط الذات المرتهنة إلى عاملي الزمن والمكان في مقابل شرط الذات المتحررة التي تستحضر العقل الباطن، ولهذا فإن استثارة هذا العقل الباطن على ركوب الأهوال و الصعاب فهو عنوان لسفر ميمون يركبه الزجال احميدة بلبالي رغبة جامحة منه لاكتشاف ما لم يكتشفه أحد من قبله ورؤية مالم يراه أحد قط، يقول الزجال:
انا اللي سافرت
نقلب على منبت لحلام
في فكر الإنسان
انا اللي سافرت
لبلاد الحكمه
فين نلقى منبع السؤال” (32)
من الأمور المفيدة في السفر كما يرى الكاتب والشاعر والقاص البريطاني روديارك كيبلينغ أنه من يسافر وحيدا يكون الأسرع في سفره وذلك لسببين اثنين أولهما بسبب تحرر المسافر في كل حركاته وسكناته من أية ضغوط و إكراهات يومية، وثانيهما بسبب اعتماد المسافر الشبه الكامل على إمكانياته الذاتية والشخصية لربح رهان السفر بحيث يعود سالما غانما، ولعله بإشارتنا إلى قولة روديارك كيبلينغ إنما للتأكيد على أن السفر الذي ركبه الزجال احميدة بلبالي هو سفر جواني خالص عوالمه هي الذات أولا و أخيرا، مادامت هذه الذات هي وحدها من يفيض عنها العالم كما يقول المتصوفة، وعليه ما السر الذي يدفع بزجال من طينة الزجال احميدة بلبالي للبحث عن الحلم والسؤال!؟ هل لأن الحلم أقـوى من الواقع؟ وهل لأن السؤال أكـبر من الإجابة؟ و هـل لأنه لا يمكننا الإمساك بالحقيقة إلا من خلال الحلم السؤال؟
أسئلة نطرحها في هذا السياق الإشكالي لنشير إلى محورية كل من الحلم والسؤال في المعادلة الإبداعية، فإذا كان الحلم كما يذهب فرويد هو نتاج خالص لحدة الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية سواء المكبوتة أو المقموعة والمقاومة النفسية التي تستهدف كبت هذه الرغبات اللاشعورية بهدف خلق التوازن المفقود الذي تتخبط فيه الشخصية من خلال التوفيق بين مختلف هذه الرغبات، فإن الحلم بالنسبة للكاتب هو الكتابة ذاتها لأنها وحدها الكفيلة بالنسبة له للتوفيق بين تناقضات العالم والحياة والوجود سعيا لإدراك للحقيقة، يقول الزجال احميدة بلبالي:
وها انا
نقاتل
ب الدراع
ب السيف
نمضي لحلام
حقيقة ف ظلام(51)
و أما عن السؤال فهو الطريق الملكي لبلوغ الحقيقة، وخاصة إذا علمنا أن كل معرفة من المعارف هي جواب عن سؤال عالق، وهو أيضا السؤال هو الحفر العميق في ذات الأشياء بهدف إدراك ماهيتها،والأفكار بهدف إدراك غاياتها، ولعله أول سؤال يتبادر إلى الكاتب هو سؤال الذات المبدعة، كيف تضيء درب إبداعها المظلم! وكيف تخلق لنفسها مساحة للضوء في عتمة هذا الواقع الارتكاسي الذي يقتل فينا كل بذرة حياة! يقول الزجال احميدة بلبالي:
نحفر ف اليوم
على الحقيقة
نشعل فناري
نقلب على ضو
دخلاني
على نقطة
لبساني كل ما شربت نورها
نعطش ليها ثاني” (50)
ترى من تكن هي النقطة التي تلبس زجالنا الكبير احميدة بلبالي فتجعله في تعطش مستمر و دائم، ألا تكن هي النقطة النورانية التي يفيض عنها كأس العشاق فتجعل صاحبها منجذبا و مستهاما في سحر جنوني لمعشوقه، طامعا في الوصول إليه والتملي بطلعته إذ في غياب المعشوق أو بعده فإن العاشق يدخل في حالة شيزوفرينية أشبه ما تكون بالجنون، ولكن من تكن المعشوقة التي تسكن الزجال احميدة غير الكتابة الزجلية فتجعله في توازن وجودي ونفسي يقول الزجال احميدة بلبالي:
ومازال العشق
لبسني
حتى حد ما يمنعني
قلبي عليه عساس
غالبني هباله
يحلف يوقف
ايلا بززت عليه لفراق
هواه مايتبدل” (80)
هو في الأخير العشق عند أهل القلوب وصل يعز بعده الفراق و جنون يصعب بعده التعقل، والكاتب بين حدي الوصل والجنون هو عاشق يمارس طقوسه الإبداعية ليتصل بالعالم من جهة أولى لكي يثبته ومن جهة ثانية لكي ينفيه، ومابين لعبتي الإثبات والنفي يظل القلق والشك والريبة هي المحرك بالنسبة للكاتب العاشق الذي يريد التوحد والكتابة.
وفي الأخير فإن هذه المحاولة المتواضعة في قراءة ديوان شمس الما أو كما أسميه ديوان ولادة الحياة للزجال المغربي احميدة في تقديري لا تستطيع أن تحيط بكل الجوانب الإبداعية التي يحفل بها هذا الديوان ويحتاج الفعل الديوا لقراءات متعددة سنعمل قريبا على إضاءتها…

17991898_1037728939661778_2433483449317637023_n

الشاعر والزجال احميدة بلبالي من مواليد سنة 1957 مدينة تيفلت بمنطقة الرباط / المغرب

*مفتش ممتاز بالتعليم الثانوي مادة الرياضيات

*باحث تربوي.

*فاعل جمعوي بالمدينة

*رئيس نادي الفن السابع للسينما

*كاتب عام لجمعية الإشعاع الثقافي

* عضو مؤسس للاتحاد المغربي للزجل *

مهتم بأسئلة القصيدة الزجلية الحداثية

إصدارات: *

ديوانا زجليا بعنوان “لسان الجمر” سنة 2004

* ديوان زجلي بعنوان “الرحيل ف شون الخاطر” سنة 2009

* ديوان زجلي تحت عنوان “شمس الما” سنة 2011 *

* ديوان زجلي تحت عنوان ” بْرِيَّه ف كُمّ الريح ” سنة 2016 *

*ديوان مشترك في الفصيح مع جامعة المبدعين المغاربة “نوافذ عاشقة”. سنة 2010 *

*مشرف سابق على ركن الزجل في مواقع رقمية عدة . *

* مخطوطان زجليان ومخطوطان في الفصيح جاهزان للإصدار *

* مشاركات عربية بكل من الجزائر وتونس والشارقة. *

* ساهم في عدة لجان تحكيم لمسابقات زجلية كثيرة

اترك تعليقاً