إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    هل يكون هذا بداية التغيير الكبير ؟!
    اخترق نجم الدين أربكان، " آل باقان "، الحصارَ المفروض على السياسة التركية، من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ووقَّع، رغم غضب الأخيرة واستنكارها، وقَّع يوم الاثنين 12 آب 1996 اتفاقية تاريخية مع إيران، بقيمة ثلاثة وعشرين مليار دولار أميركي، يشتري بموجبها غازاً طبيعياً إيرانياً لمدة اثنتين وعشرين سنة، وينشئ خطاً استراتيجياً للطاقة بين البلدين؛ ويأتي توقيع هذه الاتفاقية بعد أسبوع واحد فقط من توقيع الرئيس الأميركي بيل كلنتون لما عُرف بقانون " داماتو ـ نسبة إلى السناتور الأميركي الذي اقترحه ـ لمكافحة الإرهاب " ذلك القانون الذي قررت " حكومة كل العالم؟! " بموجبه، أن تعزز ممارستها المستمرة للقرصنة في التجارة والسياسة الدوليتين، بفرضها عقوبات على الشركات العالمية والمستثمرين الذين يوظفون أكثر من أربعين مليون دولار أميركي في استثمارات الطاقة ـ النفط على الخصوص ـ في أي من إيران والجماهيرية الليبية، وبتهديدها بفرض العقوبات على الدول التي لا تلتزم بالقوانين التي تصدرها هي، بذرائع شتى، للنهب والابتزاز ولحماية مصالحها وتنفيذ سياساتها في العالم.‏
    وجاءت خطوة رئيس الوزراء التركي في هذا الوقت، وبعد أن تسلَّم حزبه، حزب الرفاه الإسلامي، رئاسة الحكومة في تركيا لأول مرة في تاريخ الجمهورية، جاءت لتقدم جملة من المؤشرات والاحتمالات، ولتفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية لهذا البلد، الذي طالما عانى من التمزق بين:‏
    ـ ولاء للغرب، أو ولاء يفرضه عليه الغرب، وتمليه رغبات بعض الساسة والمستفيدين من ربط مصالحهم الخاصة بمصالح الغرب في بلادهم، ومن تعميق ولاء تركيا وتبعيتها للغرب، وتكريس ذينك الولاء والتبعية، ولو تم ذلك على حساب الشخصية الثقافية للشعب وأصالته وعقيدته وحرية قراره السياسي ومصالحه الحيوية.‏
    ـ وجود راسخ للشعب التركي ووطنه في الإطار الحيوي ـ الإستراتيجي، الجغرافي والسياسي والتاريخي والاجتماعي في قارة آسيا؛ وانتماء ذلك الشعب تاريخياً للشرق وثقافته، وللعالم الإسلامي وحضارته وعقيدته وتاريخه، وحضوره الدائم في ذلك الانتماء، وتحمّله مسؤولية قيادية في ذلك العالم مدة أربعة قرون تقريباً؛ ووجود روابط وثيقة، يحكمها الجوار الجغرافي، مع بلدان عربية وإسلامية، لا يمكن مجاوزة تأثيرها وصلاتها الراسخة وكل ما يقيمه ويفرضه ذلك من مصالح وعلاقات.‏
    ونجم الدين أربكان، الذي أعلن حزبه على لسان الناطق باسم لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب كرم الله أوغلو: " إن الحكومة التركية لم توجد لخدمة المصالح الأميركية بل لخدمة المصالح التركية، دعا من طهران إلى إقامة سوق اقتصادية مشتركة بين بلدان العالم الإسلامي، وإلى إقامة صلات طيبة بين تلك البلدان، مقدِّماً تركيا وإيران أنموذجاً، كما دعا إلى عقد قمة للدول المعنية بما هو دائر من صراع وما هو قائم من توتر، في المربَّع الذي يعني كلاً من تركيا وإيران والعراق وسورية؛ سواء ما يقع من ذلك الصراع والتوتر في تركيا بين الحكومة والأكراد، أو في شمال العراق، من أجل وضع حد للتدخل الأجنبي ولإراقة الدماء والبؤس، وللصراعات العقيمة التي لا يستفيد منها إلا أولئك الذين أدمنوا الراحة على حساب شقاء الآخرين، والغنى على حساب نهب ثرواتهم وإرهابهم وفرض التخلف والتبعية عليهم؛‏
    نجم الدين أربكان هذا يبشر بعلاقات جديدة في المنطقة وبرؤية جديدة فيها، يبشر بتفكير ونهج سياسيين إيجابيين يمكن أن يضعا حداً لعبث الإدارة الأميركية والصهيونية و" " إسرائيل " " بتركي، ويمهد لوضع حد لذلك العبث بالأنظمة والشعوب والمصالح والقضايا التي تمس جوهر حياة الناس وتقدمهم ومستقبلهم في هذه المنطقة من العالم؛ ومن شأن النهج والتفكير السياسيين المستشرَفين، إذا ما تحققا ونجحا، أن يحفزا شعوباً وحكومات على فعل شيء من شأنه أن يخفف إلى حد كبير من تأثير الإدارة الأميركية الطاغي على الأحداث والمصالح والقرارات السياسية؛ ومن هيمنتها على المستقبل ذاته الذي للشعوب وقضاياها بشكل عام.‏
    ومبادرة أربكان تجاه إيران، في هذا الوقت هي انتصار له وانتصار لإيران في آن معاً، لأنها وجهت ضربة للقرصان الأميركي الذي يريد أن يفرض قوانينه الداخلية على بلدان العالم، ويقمعها ويرهبها بسيطرته على مقومات القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى مجلس الأمن الدولي، ويحاصر الشعوب التي ترفض أن تخضع لسلطانه وتأتمر بأوامره، ويعمل على خنقها وتجويعها وفرض عقوبات ظالمة واتهامات عليها، مثلما فعل ويفعل مع الشعب العربي في كل من العراق وليبيا، ومع كل من إيران وسورية وكوبا وكوريا الشمالية ـ الديمقراطية ـ؛ ويقوم بدور قاطع الطريق العالمي إرضاء لجشع احتكاراته، وتنفيذاً لمخططات الصهاينة الذين يسيطرون على سياسته الخارجية، لا سيما في هذه المنطقة من العالم، ويريدون فرض تحالفات عليها، وتمزيق دول ومجتمعات، وتشويه قضايا وعقائد وثقافات، فيما يسمونه الشرق الأوسط، ليفرضوا عليه حلولاً وهيمنة، وليجعلوا منه سوقاً لهم، وليضعوا شعوبه وحكوماته وحكامه في حالة تبعية مطلقة لوجودهم ونفوذهم، بتأثير من شدة الرغبة أو سطوة الرهبة.‏
    وإذا ما حقق أربكان برنامجه السياسي، ونجح في حل الخلافات القائمة مع دول الجوار التركي، وحل المشاكل العالقة مع كل من سورية والعراق، لا سيما مشكلة المياه، وألغى أو جمَّد المعاهدة ـ التحالف، التركية الإسرائيلية، فإنه يكون قد خطا بالمنطقة كلها نحو مرحلة جديدة من العلاقات والاحتمالات الإيجابية. لكن أربكان وحزبه ليسا مطلقي العنان في فعل ما يريانه في صالح تركا والمنطقة، فالكل يعرف ثقل المعارضة وتوجهاتها هناك، والكل يعرف أين يتجه هوى الجيش، أو عدد لا يستهان به من ضباطه وقياداته على الأقل، ومعروف أيضاً الضغط الهائل الذي يمكن أن تمارسه الولايات المتحدة الأميركية هناك على حليف قديم لها وعضو في حلف الأطلسي،يخوض تنافساً بل صراعاً مع أضاء آخرين في الحلف ويحتاج إلى السلاح وإلى تحديث السلاح الذي يملكه، ويخوض حرباً داخلية منذ سنوات، لا سيما بعد أن أعلنت عن استنكارها للاتفاق التركي ـ الإيراني الجديد، واستعدادها للتصدي له.‏
    والأسئلة المطروحة، بعد هذه الخطوة الجريئة الواضحة الدلالة هي :‏
    1 ـ هل تستطيع الدول المعنية بتحرير قرارها وإرادتها واقتصادها ومصالحها، وبتحرير السياسة العالمية من السطوة والسيطرة الأميركيتين، أن تفعل شيئاً إيجابياً لحماية القرار التركي ـ الإيراني الجريء؟! وإلى أي مدى يمكن أن تمضي في ذلك؟!‏
    2 ـ هل تستطيع دول عربية وإسلامية، أو دول في بلدان ما يسمى العالم الثالث، أن تتخذ خطوات مشابهة أو أكثر جرأة في هذا الاتجاه، لكسر القيود التي فرضتها وتفرضها الولايات المتحدة الأميركية، سواء تحت ستار قرارات مجلس الأمن الدولي، أو بقوة التدخل والضغط المباشرين لها ولحلفائها والمستفيدين من ممارساتها الظالمة ضد الآخرين؟!‏
    3 ـ هل تستطيع الدول العربية مثلاً، المقتنعة بأن الحصار المفروض على الشعب العربي في كلٍٍ من القطرين الليبي والعراقي هو حصار ظالم، قد تجاوز كل مدى وحد إنساني أو أخلاقي، هل تستطيع خرق هذا الحصار داخلياً، بأي شكل من أشكال الخرق، أو على الأقل التهديد بفعل ذلك؟! لا سيما وأن هناك أكثر من قرار للجامعة العربية، وقرار للقمة العربية الأخيرة في القاهرة، تطالب كلها برفع ذلك الحصار الذي تصفه هي ذاتها بالظالم؟! وتعرف هي كما يعرف العالم أهداف ذلك الحصار السياسة وغير السياسية جيداً، وأغراضه البعيدة على الصعيد القومي، ودوره في خدمة المشروع الصهيوني حاضراً ومستقبلاً؟! هل تتعاون دول عربية، رفضت الحصار كلياً أو جزئياً، هل تتعاون مع دول أخرى، إسلامية أو غير إسلامية، تعاني من حالات مشابهة، على كسر القيود والأغلال الأميركية التي تغوص بعيداً في المعاصم والأعناق؛ وتتنقَّل من معصم إلى معصم ومن عنق إلى عنق، في ظل التفرُّج والتخاذل والشماتة والتواطؤ؟؟ أم أنها ستخاف إلى حد التجمد، وتُجري حسابات إلى حد الشلل، وتترك الوحش الأميركي ـ الصهيوني يتفرد بكل من يخالفه في الوقت الملائم، وينفذ كل ما يهدد الآخرين به ؟!‏
    4- هل تستطيع الدول العربية أن تستفيد من الوضع والتوجه الجديدين في تركيا وتدفع باتجاه إلغاء الاتفاق العسكري التركي ـ الإسرائيلي، الذي يستهدف سورية بالدرجة الأولى، ويرمي إلى تهديدها وإجبارها على تقديم تنازلات مذلة " لإسرائيل " في أثناء مفاوضات فرض " السلام " الأميركي الإسرائيلي عليها حسب المفهوم الصهيوني لذلك السلام، ويجعلها في ظل " السلام " المحتمل " عاجزة عن القيام بأي دور قومي، أو بأي إنجاز نهضوي؛ كما يستهدف إيران والعراق، ويؤسس للهيمنة " الإسرائيلية " العسكرية والأمنية على المنطقة كلها؟! هل تقف الدول العربية صفاً واحداً وموقفاً واحداً ومصلحة واحدة وصوتاً واحداً، لتحقق مع تركيا أربكان اتفاقاً وتقدماً في العلاقات يضع حداً للتهديد الصهيوني القادم عبر اتفاقيات وتحالفات مع تركيا الغرب.. تركيا المتصهينة، التي يريد أربكان أن يغيِّر وجهها وتوجهها وتحالفاتها، إن أمكنه ذلك؟؟ إن هذا مطلب حيوي، ومصلحة قومية وإسلامية، وليس مصلحة سورية ـ قطرية أو عربية فقط، وهو بتقديري يشكل مصلحة لمن يقاوم الاستعمار والهيمنة والإرهاب والقرصنة وتهديد الشعوب والحكومات، في كل أرجاء العالم؛ فهل يفعل العرب شيئاً إيجابياً في هذا المجال أم أنهم، أو دول معينة من دولهم على الأقل، سترى في إضعاف التحالف التركي ـ الإسرائيلي إضعافاً لها وتهديدا لمصالحها ولمصالح حليفيها الأميركي والإسرائيلي، فتبادر إلى أكل أخيها في العروبة الإسلام قبل أن يتحرر ويأمن ويكبر؛ لأن أمنها وكبرها يكونان ـ كما تراه تلك الدولة أو الدول ـ بضعف أخوتها وقوة حلفائها من غير أبناء الأمة والعقيدة والوطن؟! ـ هل تستطيع الدول الإسلامية أن تستجيب لدعوة كل من تركيا وإيران فتتعاون فيما بينها وتقيم لها سوقاً اقتصادية مشتركة؟ أم أنها سترى في ذلك تكتلاً يعاب عليها، تكتلاً خارجاً على تكتل الذئاب، على الإرادة الغربية ـ الصهيونية ـ الاحتكارية، ولا يليق بها أن تفعله، محافظة منها على تقاليد التبعية الراسخة وأخلاقها، وخضوعاً للخوف الذي عشش في الضلوع وسيطر على الإرادات والعقول؟!‏
    * وأخيراً هل يمكن أن ترتفع أصوات، على الأقل، تناصر من يدعو لرفض الخضوع للقوانين الأميركية التي تريد أن تحكم العالم وتخضعه للقرار والمصلحة الأميركيتين ؟!؟‏
    إن كل تلك أسئلة مشروعة يطرحها الوضع السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن ينشأ على أرضية الاتفاق التركي ـ الإيراني الأخير، وعلى أرضية الدعوات والاقتراحات التي انطلقت في أثناء توقيعه؛ وهو اتفاق يؤسس لخلق وضع جديد يوحي باحتمالات تغيير كثيرٍ مما استقر في المنطقة من وقائع " وحقائق "، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية.‏
    ويبقى سؤال الأسئلة: ما هو موقفنا الفعلي العام من كل ما يجري الآن في المنطقة؟ وهل نستطيع القيام بمبادرات شجاعة وبناءة تخترق جدار الصمت وتتجاوز محيط الخوف، لننعش حلماً وأملاً بالخلاص مما أصبنا به من إحباط وما ابتلينا به من استعمار: مباشر وغير مباشر، ومن تبعية: سياسية واقتصادية وثقافية، ومن تمزق وتردد وانعدام ثقة، وغياب رؤية وغيبوبة أو سبات، في العقود الماضية، لا سيما منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يوم الناس هذا ؟!؟‏
    إننا لا نفقد الأمل أبداً، ولا نتوقف عن العمل من أجل تحقيق ذلك، والله من وراء القصد.‏
    دمشق في 13 / 8 / 1996‏
    الأسبوع الأدبي/ع524//15/آب/1996.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      لعبة الأمن والسلام
      أغرب ما في أمر العرب، في صراعهم مع الصهاينة، أنهم ينساقون في معظم الأحيان مع التيار الذي تصنعه " إسرائيل " بألاعيبها السياسية، ويدخلون المعترك الذي يُقْحَمُون فيه بحماسة، ثم تبدأ عملية انزياحهم عن مواقفهم وثوابتهم وحقوقهم شيئاً فشيئاً؛ إلى أن تصل الأمور بعد فترة من الزمن إلى حدود نسيان المواقف والثوابت المبدئية والحقوق، والاستعاضة عنها بمعطيات أخرى أقل مبدئية، " معطيات: " واقعية.. حضارية.. عصرية.. انفتاحية.. إلخ حسب المتاح "؟ ‍ تحتل مكان الصدارة وتُكسى بالمنطق والكياسة والقداسة، وهكذا تمضي الأمور من انزياح إلى انزياح حتى ليخيل للمرء الذي قد يخطر له أن يجري مقارنة ما، بين الموقف المبدئي الذي كان قبل عقد أو عقدين من الزمن والموقف الحالي، من قضية واحدة؛ أن الأمة غير الأمة، والقضايا تغيرت ولم يكن هناك أي جذر تاريخي حقيقي لما يُقدَّم على أنه ثوابت مبدئية وحقوق تاريخية، وأن الوجه دائماً كان قناعاً أو تحوَّل إلى قناع مصنَّع، وأنه يتم إدخاله بين فترة وأخرى، بوصفه " المادة الأولية.. الخام " لصنع القناع، إلى المصنع ليُعطى شكلاً جديداً وملامح ومواصفات أكثر " لياقة " وأقرب إلى التلاؤم مع اللعبة الجديدة المقبولة في الشارع السياسي الذي تحدد اتجاهاته وأرصفته بإعلام مدروس.‏
      وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية هي قضية قومية مركزية ومبدئية، ذات أبعاد تتصل " بالمقدس " دينياً وقومياً وإنسانياً، وعلى الرغم من كل ما قُدِّمَ على طريقها من تضحيات لتبقى في الذاكرة والوجدان العربيين أصلية ونقية ومؤثرة ومثيرة للحس الجماهيري والوجدان القومي، فإنها تحولت ـ حسب تيار اللعب الصهيوني الغربي المغري عربياً ـ من قضية عليا لا يمكن المساومة على أي تفصيل من تفاصيلها لأنها ملك الأمة، إلى قضية لا يُحترم أي تفصيل من تفاصيلها، ومن قضية قومية مركزية شاملة إلى قضية قطرية أو شبه قطرية تهم فئة من الشعب في أفضل الظروف والأحوال.‏
      وقادنا هذا المسار من لاءات الخرطوم إلى " كامب ديفيد " المرفوض عربياً، ثم إلى " كامب ديفيد " المقبول عربياً، وفي هذا الإطار وعلى المنوال التاريخي دخلت الأمة " مدريد "، وجرت اللعبة الأبشع منذ ذلك المؤتمر العتيد ـ لعبة غزة أريحا أولاً ـ وتمت اتفاقيات أوسلو، ووادي عربة، ويجري الترويج الآن للعبة: لبنان أولاً.‏
      ويطرح الصهاينة، بلسان المهووس نتنياهو، معطيات مغايرة لما كان مستقراً بوصفه مرجعية لمؤتمر مدريد؛ وهو: الأرض مقابل السلام، و قرارات مجلس الأمن الدولي /242 و 338 و 425/ ليحل محل ذلك، وتحت مظلة تقديم الأمن على السلام؛ يطرحون معطيات جديدة هي: السلام مقابل السلام، لا انسحاب من الأرض المحتلة لأنها أهم ركائز الأمن الصهيوني الذي يأتي أولاً وتوضع مقتضياته فوق كل اعتبار، وفتح المجال الأوسع أمام الاستيطان في كل الأراضي المحتلة لخلق واقع على الأرض وفرضه بكل الوسائل؛ وحتى ما كان معروضاً على مائدة رابين ـ بيريس من حشف وماء قد تناثر، لأن نتنياهو قلب تلك الطاولة ولم يستسغ أن يقدم للعرب مثل هذا الغذاء الدسم، فالتبذير والتفريط اللذين كان عليهما سلفاه لا يليقان به وهو الابن الشرعي لليكود الذي عليه أن يحقق " لإسرائيل " أكثر مما حققه حزب العمل من مكاسب، لا سيما في مجال الاستيطان، وأن يزيد عليه حرصاً وأداء فيعيد المعادلة الصهيونية الخبيثة إلى صيغتها التاريخية المباشرة: الأمن هو السلام، ليتصدر الموضوع الأمني الذي يُقَدَّم الآن على كل ما سواه، في محاولة صنع تيار " إسرائيل " الجديد الذي ينبغي للعرب أن يسايروه ثم يسيروا معه ثم يغرقون فيه، ثم يطالبون بكل العزم والقوة والحزم بأن تبقي " إسرائيل" عليه بوصفه آخر المشاريع التي طرحتها هي وقبل بها العرب؛ وقد أوصلتهم تلك السياسة إلى أن يأملوا الآن أن يوافق السيد نتنياهو على المشروع المسخ الذي كان قد قدمه الثنائي / رابين ـ بيريس / وتضمنته اتفاقيات وقعها الجانبان وشهد عليها العالم.‏
      رئيس الوزراء الصهيوني الجديد يلعب لعبة الأمن أولاً، ويرى أن السلام لا يوفر الأمن ولكن الأمن يوفر السلام، وما يوفره الأمن لكيانه حقيقة هو:‏
      ـ امتلاك القوة المتفوقة الرادعة واستخدامها استخداماً ناجحاً ومستمراً، وتحويل العرب إلى " صراصير مرتعشة من الرعب " محصورة في قارورة يمسك سدادتها الجيش بقوة ضباط أدمنوا ممارسة الفتك العنصري ضد العرب بإيمان كبير مثل " أرئيل شارون ورفائيل ايتان وإسحق مردخاي "؛ لأن هذا الفريق من العسكريين ومن هم على شاكلته من المدنيين الصهاينة، يرى أن العرب يستجيبون بمطواعية تامة لمنطق القوة، ويرى أن الظرف العربي الحالي يساعد " إسرائيل " على إبلاغ هذه الرسالة بعمق وشدة وتأثير.‏
      ـ المحافظة على جغرافيا تحقق معطيات طبيعية تضمن لهم الأمن القائم على استمرار تهديد أمن الآخرين، وتساعد على تحقيقه، ولذلك يرون أن كل انسحاب من الجولان يعرض أمنهم للتهديد، وكل تراجع عن خطط الاستيطان وزخمه المتصاعد يهدد المشروع التوسعي الصهيوني معنوياً ومادياً، ويعطي فرصة للعرب في الاستقرار ولو على جزء ضئيل من الأرض؛ وأي نوع من أنواع الاستقرار العربي على مساحة من فلسطين متواصلة مع جغرافيا عربية لا تسيطر عليها " إسرائيل " يشكل تهديداً للمشروع الصهيوني، ويعوق ذلك المشروع، لأنه يستنبت للأرض والشعب أظافر قد تؤذي مع الزمن.‏
      ـ وضع كل " أرض الرب " التي لم تُسْتَرَد بعد في حالتي تبعية وحصار ـ سكاني وجغرافي واقتصادي وأمني ـ ولا سيما ما كان من تلك الأرض في فلسطين ومسكوناً من الفلسطينيين الخارجين على سلطة الحكم الذاتي العرفاتي، والصهاينة يقولون اليوم بكل الوضوح والصراحة " إن المناطق الفلسطينية هي مناطق حكم ذاتي تخضع لسلطة مركزية هي " إسرائيل " "؛ وهذا القول ـ الفعل من وجهة نظرهم هو وضع نهائي من جهة، ومرحلي من جهة أخرى؛ فهو نهائي لجهة ما يمنحون، ومرحلي في مسار ما يخططون للحصول عليه؛ وأي وجود فلسطيني غير محكوم جيداً يهدد الدولة النقية التي يريدونها، ولذلك فهؤلاء الذين يشكلون سكان الحكم الذاتي هم دائماً موضوع نظر، ومشروع تصفية ينتظر الوقت الملائم؛ فلا وجود للأمن الصهيوني مع وجودهم، و " إسرائيل " تحرص أولاً وعاشراً على الأمن، و" نتن.. ياهو " أتى رئيساً منتخباً ليحقق الأمن أولاً؛ حسب المنطق الصهيوني الذي كرسه 55 % من اليهود في الانتخابات الأخيرة.‏
      ـ تجريد الدول والقوى والأحزاب والميليشيات والمنظمات العربية والإسلامية من أي سلاح، والقضاء على كل قوة وأي مظهر للتماسك والتضامن فيما بينها، ومنع أي وجود جدي لها في أية منطقة قريبة من الحدود، ولذلك تأتي في مقدمة دواعي الأمن الآن القضاء على حزب الله، ومطلبية تجريده من سلاحه، وملاحقته بتهمة الإرهاب، واتهام كل من يقدم دعماً لمقاومته المشروعة للاحتلال بأنه يدعم الإرهاب، وينبغي محاصرته وعزله وتوجيه ضربات قاسية له، وحرمانه من كل ما يوفر له الأمن والقوة والاستقرار والازدهار؛ وفي هذا السياق تأتي اتهامات " إسرائيل " و أميركا لسورية، ومآخذهما على سياستها، والقول بأنها سياسة غير متعاونة مع من يلاحقون الإرهاب عالمياً، وغير مناسبة لمنطق " السلام " ومساره.‏
      إن لعبة " الأمن ـ السلام " التي يلعبها نتنياهو اليوم ترمي إلى إجبار العرب على الاستجابة لقواعد اللعب في المرحلة القادمة انطلاقاً من هذه المعطيات، التي تولد تياراً أو تسعى إلى خلقه وتصنيعه؛ ولعبة الأمن الذي يؤدي إلى السلام أو يخلقه أو يضمنه أو يجبر الآخرين عليه، حسب المنظور والمشروع التفاوضي " الإسرائيلي "، تقود إلى: عنجهية القوة والاستفزاز والاستيطان والغطرسة وقرع طبول الحرب، وتعزز الروح العدوانية وتؤدي إلى مسارات مناقضة تماماً لكل ما يشاع من حديث عن السلام؛ وتدمر كل ما يقال عن الثقة والتعاون وخلق مناخ جديد وعلاقات جديدة.‏
      منطق الأمن هو منطق السلاح الُمْشَهَر، والخطط المعدة للانقضاض، والتربص لكي لا تفوت فرصة المبادهة، هذا في الأحوال العادية الطبيعية بين جوار طبيعي، أمّا بين مشروع عدواني توسعي، وآخر مناقض لأهداف العدوان والتوسع متطلع إلى التحرير، فهو الموت المتفجر في أية لحظة وفي كل لحظة. ومنطق الأمن " الإسرائيلي " هنا يُلْبِس العدوان المبيت أثواب الحملان ويبرقعه ببراءة مزيفة طالما حصدت أرواحنا وأمننا وأرضنا نحن العرب في هذه المنطقة من العالم، ومن قِبَلِ هذا العدو بالذات ومن يناصرون مشروعه ومفهومه للأمن، وعدوانه الهمجي حتى عندما يكون وحشياً بشكل مريع، ومكشوفاً بشكل مثير.‏
      " والأمن " كان دائماً ذريعة الصهيونية والغرب المناصر لمشروعها، وكان هو القناع الذي ارتدته الوجوه الكالحة في كل الحروب التي شنت ضد العرب وأسفرت عن احتلال أرض جديدة وإبادة آلاف منهم وتدمير مقومات حياتهم؛ ذريعة الأمن كانت أرضية للتوسع في كل جهد " إسرائيل " العسكري، وهي الذريعة في ضم الجولان وإنشاء الأحزمة الجغرافية والبشرية، واجتياح لبنان وعاصمته بيروت، هي وراء عمليات: " سلامة الجليل ـ تصفية الحساب ـ عناقيد الغضب... الخ "؛ وراء قصف المفاعل العراقي وعملية عنتيبي، ومئات العمليات التي أسفرت عن ضحايا عربية بلا عدد وغطرسة صهيونية بلا حدود؛ وهي التي كانت وراء امتلاك الكيان الصهيوني للسلاح النووي والأسلحة المتطورة الأخرى، والتي جُلِدَت بها أوروبا والغرب من قبل الصهيونية، ذريعة الأمن هي التي أدت إلى تمكين " إسرائيل " من الحصول على كل المساعدات التقنية والاقتصادية والعسكرية التي جعلتها اليوم تزاحم على مركز خامس دولة وسادس دولة في تصدير بعض أنواع السلاح، وجعلتها تملك القدرة على تصنيع الكثير من الأسلحة المتطورة والعتاد الحربي، وتقوم بتحديث أسلحة بعض الدول في المنطقة.‏
      وما أحوجنا اليوم نحن العرب للاستيقاظ على طبول الأمن التي يطرحها الكيان الصهيوني ذرائع مصحوبة بكل أنواع الاستعداد والاستفزاز والاستعداء؛ لكي يحقق أهدافاً عنصرية وينال منا في العمق!.‏
      إن نتنياهو وفريق النازيين الجدد الذي يمارس عنصرية بلا ضفاف ضد العرب اليوم، انطلاقاً من فلسطين المحتلة وجنوب لبنان وقانا خير الشواهد المتأخرة، إنهم يقرعون طبول الحرب، ويهددون سورية بتوجيه ضربة قاسية إليها انطلاقاً من الجنوب اللبناني ـ الذي أصبح بالنسبة لهم غزة التي يتمنون أن يبتلعها البحر ـ ووصولاً إلى ضرب قوى الدفاع الجوي أولاً ثم الطيران، في محاولة لإجبارها على القبول بالسلام الإسرائيلي حسب مفهوم نتنياهو وشروطه التي يعلنها " للاستسلام السوري " لمتطلبات أمنه العتيد ـ بوقاحة ما عليها مزيد ـ فتبقي له الجولان وتكتفي سورية بهوامش تجميلية وببعض النفوذ في لبنان !؟! وهذا المهووس يخطط مع شركائه في الحكم لعمليات عسكرية ضد سورية تمكنه من وضع حد لكل صمود عربي، ولكل مقاومة عربية لأية رغبة " إسرائيلية "، ويخال أن ذلك سيتم بنجاح وسيمكِّنه من القضاء على كل قوة يمكن أن تؤسس لموقف عربي نضالي جاد، أو لمستقبل عربي وتفكير بتحرير الأرض، وببناء قوة من أي نوع على أي مستوى أو صعيد، قوة قادرة ـ معنويا ومادياً ـ على إعادة الروح والوعي لموقف عربي وتضامن عربي وهوية نضالية عربية وحلم عربي طَموح.‏
      والرهان المطروح هو: هل ينجح الصهاينة اليوم في تعزيز الصهيونية ومشروعها العنصري التوسعي بشكل مؤثر وفعال تحت مطرقة متطلبات الأمن التي يهوي بها الجنرالات على رؤوس اليهود والعرب والغرب الخاضع لتأثير اللوبي والإعلام الصهيونيين؟؟ وهل ينجحون في إرهاب سورية ومن تربطه بها صلات وتطلعات ومواقف مبدئية من العرب والمسلمين، وجعلهم يستسلمون لمتطلبات " الأمن الإسرائيلي"، التي هي في النهاية متطلبات المشروع التوسعي ـ الاستيطاني الصهيوني، وإجبارهم على أن يسبحوا في التيار الذي يريدون لهم أن يتشرَّبوا منطقه، ويلهجوا بمقولاته إلى أن يغرقوا فيه؟!‏
      ورهان آخر مطروح بالقوة ذاتها والشدة ذاتها وهو: هل نستشعر دواعي الأمن لدينا ونعيش هاجسه المقلق بالنسبة لنا، ونحن نرى كيف تجرنا قوى العدوان من ساحة دم إلى أخرى ومن ميدان تراجع إلى آخر؟؟ هل ترانا ندرك مدى عقم لعبة " الأمن والسلام، السلام والأمن " الإسرائيلية، وأنها لا تحمل إلا وجهاً واحداً وحيداً هو العدوان والمحافظة على ما يحققه والاستزادة مما يمكن أن يحققه، ثم الاستعداد، في ظل نشوته العنصرية لمراحل جديدة منه تبقي الضحية في حالة هلع وهرب، وتحول دون اقتدارها على تجميع شتات الذات، والتفكير بإمكانية حماية نفسها والاستفادة من هاجس الأمن الذي هي بأمس الحاجة للاستفادة منه، في امتلاك قوة تحمي وتنقذ، والدخول في مواجهة حاسمة مادامت حرب العدو الذي لا يرحم مفروضة بأشكال مختلفة، وأهدافه تتحقق بأشكال مختلفة أيضاً؟؟‏
      ما الذي ننتظره الآن من عدوِّنا الذي يكدِّس أسلحته كما يكدس حقده، ويشحذ وسائل إعلامه كما يشحذ سكاكينه، ويرتدي قناع الأخْوَف على أمنه ليجبرنا ـ إن استطاع ـ على القبول بـ:‏
      ـ سلام مقابل سلام‏
      ـ احتلال معترف بشرعيته التي كرسها منطق القوة، وقبول بقوانين مناقضة للقوانين الدولية، تقول بمشروعية ضم أرض الغير بالقوة، وفرض القهر والاستسلام عليهم.‏
      ـ هيمنة وتفوق عسكري وتحالفات، تبقينا وتبقي أجيالنا في القبضة الصهيونية ـ الإمبريالية الغربية، التي ترى في أي شكل من أشكال وجودنا وحياتنا ونهوضنا تهديداً لها ولمشاريعها ومصالحها وأمنها على الخصوص.‏
      هل نبادر إلى نبذ الوهم ومعه لعبة الأمن والسلام التي يرتبها الكيان الصهيوني وحلفاؤه، ونتجرأً على التحديق في الواقع والوقائع التي تكشفها لنا تجربتنا المرة وشمس الشرق المتألقة، تلك التي تقول: إنه لا يوجد سلام مع العنصرية والعدوان، ولا يمكن الإقرار ـ تحت أي ظرف ـ بحق القوة المتغطرسة في أن تستلبنا وتسلب منا أرضنا، وتزري بنا وبحقوقنا ووجودنا وتجبرنا على القبول بظلم يذهب بكرامتنا وبقدرتنا على الرؤية والتحرر والتحرير حاضراً ومستقبلاً، ولا مجال لتعايش من أي نوع، ولا لتطبيع من أي نوع، بين الضحية والجلاد، بين العنصرية الصهيونية والقومية العربية، بين قوة دخيلة تريد أن تفرض قهراً وتبعية على أمة حية، وتريد أن تكرس باسم أمنها محواً لأمن ولكل مظهر أو مصدر قوة لدينا؛ وأنه لا يقوم سلام حقيقي في هذه المنطقة ولن يقوم، مع وجود سيادة للكيان الصهيوني على أية مساحة من الأرض فيها؛ فالسلام لا يعيش في ظل العنصرية والعدوان ولا يتعايش معهما، ولن تؤدي لعبة " الأمن والسلام " التي تمارسها " " إسرائيل " نتنياهو " بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأميركية، إلا إلى التدهور والتوتر والحروب، ولن تقدم لنا إلا إمكانية تجريدنا من كل ما يمنحنا الأمن والسلام، في أرض المقدسات والأمن والسلام؟‍‍‍؟.‏
      فهل نعي جيداً دروس الماضي والحاضر مع العدو الصهيوني ووجهه الأميركي، ليكون لنا غد وقوة ورؤية، ولنحقق لأجيالنا القادمة بعض مقومات الأمن والسلام الحقيقيين؟!‏
      إن زحف الزمن علينا أقوى من زحفنا عليه بكثير، ولكن أن نتحرك باتجاه ما ينقذنا ولو متأخرين، خير من ألا نتحرك مطلقاً.‏

      دمشق في 21 / 8 / 1996‏
      الأسبوع الأدبي/ع525//22/آب/1996.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        جبهات واحتمالات مفتوحة
        الليكود يفتح عدداً من الجبهات في آن معاً، وهو يدرك أنه لن يسير في كل منها حتى النهاية، ولكن كل جبهة تستطيع أن تدفع استراتيجيته العامة إلى الأمام، وتحقق له بعض الخطوات على طريق رسمها مسبقاً؛ وهو يناور بين هذه الجبهات، تقدُّماً وتراجعاً، ليغطي بإحداها ما يجري على الأخرى؛ وليقيم بنتيجة ذلك " التكتيك " المراوغ شيئاً راسخاً على الأرض في النهاية، يساوم على ما بعده ليجعله يستقر بوصفه فعلاً نهائياً مشروعاً بقوة حدوثه، ولا مجال للتراجع عنه أو لنقضه.‏
        وهو ينتهج هذه السياسة المشاكسة المغايرة لتلك التي اتبعها حزب العمل من قبله، ولكن السياستين تؤديان في النهاية إلى خدمة المشرع الصهيوني بشكل جوهري، وهو ما يتسابق اليهود جميعاً على خدمته بكل الوسائل الممكنة ويتنافسون حتى الموت من أجله، ليحقق كل فريق منهم رؤيته للخدمة وطريقته في الأداء، فالهدف واحد وإن كانت سبل الوصول إليه والوسائل المتبعة متباينة.‏
        مع الليكود اليوم نحن أمام الوجه الوقح للصهيونية وممارساتها العنصرية من دون أقنعة، ومع حزب العمل أمس كنا مع المراوغة والمكر والخداع التي تشكل أقنعة تخفي ذلك الوجه البشع، وتموِّه الأهداف؛ ولكن الحزبين يؤديان الدور الاستعماري ـ الاستيطاني، ويقومان بالفعل الدموي ذاته عندما تحين الفرص أو تقتضي الظروف ذلك؛ ولكل منهما سجله الحافل بالإرهاب والعدوان والمذابح، وأقدام الجميع تغرق في الدم العربي: من دير ياسين إلى " قانا " ومن الأقصى إلى الحرم الإبراهيمي. وتسعى كل الأحزاب اليهودية: المتدينة والملحدة.. اليمينية واليسارية، إلى إقامة " إسرائيل " أكثر قوة وأكثر هيمنة وأكثف سكاناً وأوسع امتداداً جغرافيا، كما تسعى إلى إيجاد أسواق سياسية عربية تتعامل مع كل التحالفات الحاكمة فيها وتثق بها وتستجيب لاستراتيجيتها وتعتمد عليها.‏
        لقد عقد الليكود مؤتمر مدريد وقرر أن يفاوض عشر سنوات من دون أن يصل إلى نتيجة مع العرب، وتقدم إرهابي موصوف بإجرامه وعجرفته هو إسحق شامير " موكب السلام " في مدريد، وكان قد تقدم ذلك الموكب في " كامب ديفيد" إرهابي ليكودي أكثر إجراماً وغطرسة، كرِّم بحمل جائزة نوبل للسلام، هو مناحيم بيغن.‏
        وتمكن حزب العمل من كسر " طوق " المفاوضين العرب وأخذهم واحداً واحداً إلى حيث يريد، خارج حلبة التنسيق؛ فسجل اتفاقيات إذعان ثنائية منفردة على العرب هي: " أوسلو 1 وأوسلو 2 ووادي عربة "، ولم يتوقف عن الاستيطان والتصفية والقمع، ولا عن تفتيت الصفين العربي والفلسطيني وهو يرتدي قناع السلام؛ وحقق دفعاً لا يستهان به للاستيطان، سواء من حيث عدد اليهود المجلوبين إلى فلسطين المحتلة، أو من حيث تأمين الأموال اللازمة لعملية الاستيطان ومتطلبات الاستيعاب الاجتماعي والوظيفي، إذ أمَّن ضمانات قروض أو هبات أو تبرعات بمليارات الدولارات، وابتز ابتزازاً صريحاً بوسائل مختلفة، وحقق فرص عمل، ودخلاً مرتفعاً للفرد؛ كما أوقف الانتفاضة الفلسطينية، وجعل الصف الفلسطيني يزداد تمزقاً وضعفاً، والصف العربي يزداد ترنحاً وأغرى الكثيرين بالهرولة إلى أبوابه.‏
        ولم يشأ الليكود الحالي مع تحالف المتدينين، أن يكون أقل خدمة للمشروع الصهيوني من العمل السابق ـ عمل رابين بيريس ـ لا سيما في موضوع الاستيطان والأمن وامتلاك القوة، والمحافظة على ما احتلته " إسرائيل " من أرض العرب؛ فأعلن عن مشاريع واسعة جداً للاستيطان في الضفة الغربية تلقي باتفاقيات أوسلو الهزيلة في الوحل، وعن شق طرق التفافية من شأنها أن تجعل القرى، التي تؤول مسؤولية أمن السكان فيها إلى السلطة الفلسطينية، مجرد جزر بشرية عزلاء معزولة في خضم السيطرة الشاملة للوجود " الإسرائيلي الكثيف " أمنياً وعسكرياً وسكانياً؛ وقام بهجوم على البائس عرفات لتجريده مما تبقى على جسمه من أوراق التوت، ليضعه تحت رحمة الخيار الأخير قبل طلقة الرحمة: وهو الرضا بكل ما قد يُمْنَح له أو يؤخذ منه أو يطلب إليه القيام به، والركض أمام " الإسرائيلي " لإثبات الولاء وحسن النية والقدرة على أداء الدور المطلوب، وتقديم من تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني الرافضين للخنوع والخضوع للاحتلال ـ من مفكرين ومقاومين ـ حطاماً روحياً أو جثثاً، أو هياكل تتقن حني الرؤوس على مشانق الوقت الذي يضج بالفاقة والمرض والقمع والبؤس.‏
        ثم صرخ الرأس الأعلى في ليكود اليوم المهووس " نتن.. يا.. هو"، صرخ بما تريده القيادة العسكرية الصهيونية الجديدة من سورية ليتحقق "السلام"؛ وهو بكل بساطة، حسب المنطق الصهيوني المنطوق:‏
        1 ـ التخلي عن هضبة الجولان، والقبول بسلام مقابل سلام، والتخلي عن الدور القومي المستقبلي الذي تتطلع إليه.‏
        2 ـ الكف عن ممارسة " الإرهاب " وعن دعم الإرهابيين، وإثبات ذلك بإخراج المنظمات الفلسطينية الرافضة لنهج عرفات من سورية، وتصفية كل تطلع إلى المقاومة والتحرير لدى تلك المنظمات ومن هو على شاكلتها ممن يقع تحت سلطة سورية وسيطرتها من المقاومين أو الرافضين العرب للتطبيع ولمسار سلام الاستسلام.‏
        ـ تجريد حزب الله وبقية المنظمات اللبنانية من سلاحها، ومنعها من ممارسة المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال، وحماية مواطني " شمال " إسرائيل " " من الهجمات المحتملة، والتعهد التام بالوفاء بهذه الالتزامات.‏
        ـ إيقاف الدور السوري المعطِّل أو المعوِّق لعملية التطبيع الجارية على قدم وساق بين الدول العربية و "إسرائيل".‏
        ـ التخلي التام عن العمل من أجل استعادة أي شكل من أشكال التضامن العربي أو العمل العربي المشترك، في أي مجال وعلى أي مستوى.‏
        ـ عدم الحصول على سلاح من أي نوع، أو تطوير سلاح من أي نوع؛ لأن القيام بذلك يعني وجود نوايا "عدوانية " تجاه " " إسرائيل " ".‏
        وبدأ " نتن... يا.. هو " يدق طبول الحرب متهماً سورية بدق تلك الطبول؛ وأخذ تهديدُ الجنرالات الصهاينة " بمسح سورية من على الخريطة "، أو على الأقل بتدمير كل البُنى الحيوية فيها تدميراً كاملاً، أخذ يتصاعد بتعالٍ وغطرسة لا مثيل لهما، مرافقاً باستهجان قيام سورية بتجارب على صاروخ " سكود ـ سي " وبامتلاكها لقدرات كيماوية سوف تستخدمها في المواجهة القادمة ؟!.‏
        ويتم هذا التهديد " الإسرائيلي " لسورية في الوقت الذي تدخل فيه الانتخابات الأميركية مرحلتها الساخنة، وهي مرحلة تضمن تحقيق أكبر قدر من الابتزاز والتغطية الشاملة، إذ يكون كل مرشح من المرشحين لمنصب الرئاسة الأميركية على استعداد لخوض تنافس غير محدود مع الآخر، من أجل تقديم كل أشكال الدعم للعدوان الإسرائيلي المرتقب، من دون أدنى تحفظ، ليكسب أصوات اليهود الأميركيين في تلك الانتخابات. وفي هذا الإطار تجري المناورات العسكرية الأميركية ـ الإسرائيلية الجوية الحالية، وترابط القوة البحرية الأميركية في ميناء حيفا، وبينها سفينة تجسس أميركية مهمتها تقديم المعلومات عن تحركات القوات السورية وأنشطتها العسكرية؛ ولا يَسْتَغْرِبَنْ أحد إذا ما لقيت هذه السفينة المصير ذاته الذي لقيته السفينة ليبرتي، بعد أن تنهي مهمتها لمصلحة "إسرائيل" إذا ما قامت نشاطات عسكرية ساخنة في المنطقة، فأرواح الأميركيين الذين يقضون في سبيل الدفاع عن الدولة العنصرية لا قيمة لها، لأن القيمة هي لأمن " إسرائيل " وقدرتها على الهجوم والردع.‏
        نحن اليوم أمام التهديد المثير للقلق، ومحاولة شد الأقدام إلى منزلق الهاوية؛ أمام لعبة عض الأصابع، والاقتراحات السياسية المحرجة، وتقاذُف كرة النار بين الملاعب المتوترة، أمام الحرب سياسة، تلك التي تخوض سجالاً على أرضية منطق قديم جديد:‏
        ـ " لبنان أولاً "، وإلا فسورية لا تريد لبنان حراً محرراً، ولا تريد " لإسرائيل " أن تنسحب من لبنان؛ ولبنان ذاته لا يريد لأرضه أن تكون خالية من الاحتلال؛ وهذا برأي نتن.. يا.. هو الموقف الغريب والمستغرب، من كل من سورية ولبنان اللذين لا يستجيبان لهذا الطرح الذي يراه إيجابياً. وهذه كرة صهيونية مدروسة الأهداف، ومستثمرة جيداً على الصعيد الدولي تقذف باتجاه سورية.‏
        * " لبنان وسورية أولاً، ولبنان وسورية معاً "، ونرفض شق الصف السوري اللبناني والعبث بهذه الجبهة كما حصل العبث ببعض المتفاوضين العرب بعد قمة مدريد؛ وهذا برأي سورية ولبنان هو الرد الذي يحفظ حقاً وموقفاً قوميين سليمين في حدودهما الدنيا، بعد أن رأينا ما رأينا من تجربة الآخرين المرة، ووقفنا على ما جنوه من حلول منفردة واتفاقيات إذعان أدت إلى التفريط بالقضية والحق والموقف والهيبة وبالبعد القومي المركزي للقضية الفلسطينية. ورد سورية هذا يستثير الاستغراب عند القادة النازيين في فلسطين المحتلة، ولكنه يستثير الإعجاب عند السوريين واللبنانيين وبعض ما بقى على العهد من عرب، كما أنه يلقى تفهم العالم وتأييده؛ ويعني للسياسيين حقائق الموقف السوري الذي لا تراجع عنه، كما يترجم قوة سورية التي لا يمكن أن تُعزل.‏
        ـ " الجولان لنا " وهو جزء من جغرافيا الأرض المستعادة (؟؟!) ومن الأمن المضمون والمستقبل المنشود، وهو أرض تم احتلالها بالقوة فكيف نعيدها ونحن نملك القوة، ولأنه كذلك فهو مفتاح صفقة: أمن وسلام في مقابل أمن وسلام. هذا المنطق الصهيوني يحاول أن يقدِّم مشروع مرجعية بديلة لمرجعية مدريد ببناء منطق ينقض عمارتها التي اشترك فيها الليكود ذاته؛ منطق يحاول أن يلعب على أرض مختلفة ليطْمُرَ فيها كل ما تم التوصل إليه عبر المفاوضات التي تمت على أرضية مرجعية مدريد، لأنه يريد التخلص من تلك المرجعية كلياً، ويقدم معطيات بديلة أيضاً لتلك التي قدمتها حكومة رابين ـ بيريس عبر المفاوضات الثنائية مع سورية، لا سيما في إطار " واي بلانتيشن ". وذلك اختبار خبيث لقدرات سورية بعد قمة القاهرة، واختبار للقمة ذاتها، ومدخل إلى امتحان منطق نقض البناء السابق الذي أقيم مع حزب العمل.‏
        * الجولان لنا بحكم التاريخ والجغرافية والقانون الدولي والشرعية الدولية، فهو أرض عربية سورية محتلة لا يمكن التنازل عنها أو التفريط بها، ولا يجوز ضمها أو قضمها فهي أرض محمية الانتماء بقوة القانون الدولي الذي يقول بعدم جواز ضم أرض الغير بالقوة. والجولان مفتاح "سلام الشجعان " الذي يضمن الأمن، ولا يوجد نقض لمبدأ الأرض مقابل السلام، ولا لقراري مجلس الأمن الدولي 242 , 38 3 اللذين شكلا أساس مرجعية مدريد. ولا يوجد أي معنى لكلام يهدف إلى جمع السلام والأرض في قبضة واحدة، وإلى تجريد سورية من أرضها ومن موقفها القومي ومن حقها في الدفاع عن الأرض وجوهر السلام. وما يطرحه نتنياهو عجائبي في انعدام المنطق ومجافاة الحق والتنكر لمرجعية مدريد والقانون الدولي والشرعية الدولية، ولكل ما أدت إليه المفاوضات، وما سبق مؤتمر مدريد وما تلاه من اتفاق على المبادئ، وما بُذل من جهود دولية على هذه الطريق، طريق السلام. هذا الرد السوري على المنطق "الإسرائيلي يقدم منطقاً عادلاً وحججاً دامغة‏
        ـ الحرب ستقنع السوريين بأن ما يُعْرَض عليهم هو أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وسوف يقتنعون بهذا إذا اكتوت أجسادهم بالنار أو إذا ما عادوا إلى تقويم واقعي لموازيين القوى، وللوضعين العربي والدولي. وعندما يتلقون ضربة قاسية فوق التوقع سوف يستسلمون للمنطق الذي نعرضه عليهم؛ ولا توجد طريقة لإقناعهم سوى استخدام القوة بإفراط، وهي وحدها التي ستجعلهم يخسرون حتى ما يعرض عليهم من دور متميز في لبنان مقابل تنازلهم عن الجولان؛ وإذا استجابوا لكرمنا ولما نطرحه عليهم وما نقدمه إليهم الآن وقبل فوات الأوان، فقد يحصلون على السلام وعلى شيء من الجولان؛ وإلا فالحرب أو وضع الأمور في الثلاجة على هذه الجبهة، واللعب على الجبهة الأخرى ـ الفلسطينية، الأردنية ـ حيث يتحقق لنا ما نريد؛ وسوف نستطيع التفاهم مع عرفات والحسين اللذين ينتظران إشارة ومجرد لقاء أو وعد بلقاء، ولا يستطيعان أبداً حتى مجرد التفكير بالوقوف إلى جانب سورية في معركة ساخنة، بالرغم من بيان مؤتمر القاهرة، وقد لا يستطيع أيُّ عربي فعال أن يقف معها أو أن يقدم لها شيئاً، اللهم إلا الإقناع بالانصياع لهذا المنطق الذي تفرضه قوة الأمر الواقع. وإذا ما حركت سورية قواها لتحرك بذلك الموضوع فسوف يكون عليها عبء ما قامت به وسوف تحصد نتائج ذلك.‏
        * الحرب إذا فرضت علينا سوف نخوضها دفاعاً عن النفس والحق، ولا يمكن أن نسلم بركود الأوضاع وتجميد المياه على ما فيها من عَكَر ومرض وشوائب، وكل ما يقدمه قادة " إسرائيل " مرفوض لأنه تهديد لا يمكن أن يجبرنا على الانصياع له ولمنطق القوة المتغطرسة الذي يمليه؛ وعلينا أن نمتحن الوضع العربي والوضع الدولي معاً، رغم معرفتنا الجيدة بهما؛ وليس لنا خيار فيما يقدم لنا ويفرض علينا، ليس لنا إلا أن نلجأ للدفاع عن أنفسنا وأرضنا وحقوقنا، ونبحث عن أصدقاء ووسائل تمكِّننا من ردع العدوان والدفاع عن الوجود الأمن والكريم معاً، ولسنا ضعفاء إلى الحد الذي يتوهمه الصهاينة.‏
        هذه الحرب السياسية السجاليَّة مستمرة، وتغذي الجو المشحون الذي بدأ العمل على تهدئته؛ وبدأ القلق وانعدام الثقة ينموان في جنباته، وأخذ يقود إلى التفكير بالمبادهات الواقية التي بدأت يرشح منه، وهو يبرر طرح التساؤلات الآتية:‏
        = هل تنطلق الحرب من بؤرة ما في جنوب لبنان، أو من أي مكان آخر، وتعيد صوغ المعادلات في المنطقة؛ كما تعيد حسابات العرب ككل، لا سيما من قضية التطبيع مع العدو الصهيوني، الذي تثبت الأيام أنه لن يكون إلا عدواً، وغريباً عن منطق العدل والحق والسلام؟؟‏
        = هل هذه عملية تسخين للجو تؤدي إلى انطلاق عربة المفاوضات من " واي بلانتيشن " أو فيها؟؟‏
        = هل هذه مجرد مراوغات " إسرائيلية " لكسب معركة الاستيطان في الضفة، وإنهاء وضع القدس سكانياً على الأقل، بالتغطية على ذلك الحدث بدخان كثيف وتهديد مقلق؟؟‏
        = هل هذه حماقة لا نظير لها من مجموعة من الجنرالات الصهاينة الذين يراهنون على الحرب ونتائجها، في هذه الظروف العربية والدولية ؟؟‏
        = هل هذه مسوِّغات ومعطيات لاحتمالات مفزعة تقدَّم للرأي العام هنا وهناك، ليقبل في النهاية بما تجود به سياسة التفاوض؟؟‏
        = هل هذا فصل من فصول امتحان المقدرة على إيقاع العرب في الغفلة أو الاستغفال لتحقيق نصر بحرب النار أو بالخداع؟؟‏
        كل ذلك وارد في ميزان السياسة، وكل تلك احتمالات مفتوحة، ولكن الذي لا يمكن أن يرد على الإطلاق بالنسبة لنا في سورية العربية هو أن نستسلم للعدو ولمنطق القوة الغاشمة فنتنازل عن أرضنا وحقوقنا ودورنا القومي والنهضوي؛ وعلى الصهيونية وحلفائها، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية أن تأخذ ذلك بالاعتبار أولاً وثانياً وثالثاً.. وعاشراً، وإلى آخر الحسابات التي نأمل ألا تكون خاطئة وهزيلة وسطحية عند من يهمهم أمر المستقبل وأمر القيم وحرية الشعوب وكرامتها.‏

        دمشق في 28 / 8 / 1996‏
        الأسبوع الأدبي/ع526//31/آب/1996.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          الثقافة العربية والتحديات
          المستجدات السياسية والموقف الثقافي منها‏
          نتطلع بأمل إلى أن تتعمق علاقة جدلية سليمة وصحية ومفيدة بين السياسة والثقافة في الوطن العربي، يستطيع فيها الثقافي أن يبدي رأياً مسؤولاً ويقدم اجتهاداً مقبولاً في التوجهات والقرارات والممارسات السياسية، ويكون له من بعد ذلك أمن من جوع وخوف، وحضور في ساحة القرار السياسي؛ وأن يتمكن السياسي من التعامل بموضوعية مع ما يقدمه الآخر الشريك في المواطنة والعيش والمصير والمعاناة والنتائج، الناشئة عن كل فعل سياسي يمارس وعن كل قرار سياسي يتخذ، بمعزل عن المواطن وإرادته الشرعية في حالات كثيرة.‏
          وحين تقدم الثقافة رؤية سياسية مسؤولة من موقعها فقد تكون أقرب إلى الثوابت المبدئية والأخلاقية والتاريخية للأمة من جهة، وبعيدة عن بعض الوقائع والمعطيات وعن ممارسة فن الممكن باقتدار السياسي المحنك من جهة أخرى، ولا بد، والحالة هذه، من أن تكون رؤية الثقافة مشوبة عندئذ بكثير من التطلعات والطموحات والأحلام التي تجعل تلك الرؤية مثلومة بالمثالية، ومحكوماً عليها بالبعد عن الواقعية وعن إمكانية التحقق، ولكنها مع ذلك تشد النظر إلى الشخصية العامة للأمة بمقوماتها الرئيسة، وإلى حقوقها في الإطار التاريخي والاجتماعي العام، وتشتد في التعبير عن السمات والخصائص والتطلعات العامة للشعب، تلك التي تكرست من خلال نضال وتضحيات ودماء، ومراجعات طويلة على أرضية الواقع والوقائع، وصراعات وحوار عبر الزمن، مع الذات والآخر، وأصبحت جزءاً من الهوية والخصوصية والوجدان الشعبي والمزاج الشعبي في آنٍ معاً.‏
          والسياسة ترى إلى ذلك من موقع مغاير هو موقع المفيد والممكن ـ النافع والمتحقق ـ في ظل توازنات القوة والمصلحة في وقت واحد، وقد تكون رؤيتها مثقلة بالشخصي والآني وتفاصيلهما ومعطياتهما، ومشوبة بما يداخل الفعل السياسي عادة من مؤثرات يصنعها المناخ العام، وتتأثر كثيراً بالتسميم الإعلامي والمخابراتي المقصود، الذي قد يخلق حالة من عدم توازن القرار المتخذ في ظلال الضغط والخوف والتشبث بالموقع أو بالرأي أو بالمصلحة الضيقة، وكل ذلك يتفاعل في النهاية، ويساهم في صنع القرار السياسي، الذي قد يأتي مثلوماً هو الآخر على نحو ما؛ وقد يستفيد السياسي من المعطى الثقافي والموقف الثقافي المتحرر نسبياً من التزامات السياسي، إذا ما أخذه من زاوية ما يقدمه ذلك المعطى للسياسة، وبالتالي للوطن، من فائدة؛ على أرضية الإخلاص، ومن موقع الحرص والشراكة في المسؤولية عن الأرض والمصير ونوع الحياة المنشودة ومستواها في الوطن. ولا يعني هذا أن الثقافي مبرأ من عيوب الهوى والمصلحة والموقع الذي ينظر منه أو الموقع الذي ينظر إليه، أو الارتباطات التي قد تحكمه، ولكنه لن يكون بلا معطيات وبلا ظلال رؤية مفيدة بشكل مطلق.‏
          ولأن السياسة فعل حياة وفعل في الحياة، يؤثر بقوة وشمول في تكوين الناس وشؤونهم وعلاقاتهم ومصالحهم ومستقبلهم ـ وأحياناً في مصيرهم ووجودهم ذاته ـ كما يؤثر في وطن أو أمة أو منطقة من العالم، أو في العالم أجمع في بعض الحالات، فإن تأثر ذلك الفعل ـ السياسة ـ بالمتغيرات شديد وتأثيره على الناس والمتغيرات شديد أيضاً؛ ولا يمكن لسياسة ما أن تغلق على نفسها وعلى الناس في مساحة نفوذها الأبواب وتسد المنافذ التي تهب منها رياح التنوير والتأثير والتغيير، فسياسات الجدران الحديدية الكتيمة تهاوت ولا أظن أنها يمكن أن تعود أو تتجدد أو تصمد في عصر المعلوماتية المذهلة، والعالم القرية، والأقمار الصناعية، والصواريخ العابرة للقارات، وأسلحة الدمار الشامل، وإمكانيات نقل قوات مقاتلة لخوض حرب من بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية إلى مواقع النفط في الخليج العربي خلال مدة أربعة أيام، بعد أن كان ذلك يحتاج إلى أشهر قبل أربع سنوات ؟!؟‏
          الثقافة والسياسة إذن هما في موقع التواصل والتكامل والمسؤولية والتأثر والتأثير، أكثر من أي وقت مضى في هذا العصر، وفي ظل معطياته وتقنياته وظروفه وتحدياته؛ فهل تقوم جراء ذلك وبفعله وتحت ضغط واقعيته، علاقة جدلية سليمة وصحية ومجدية بينهما، هدفها خدمة الحق والإنسان والحضارة والحياة، لا سيما في وطننا العربي وعلى أرضية المعطيات والمتغيرات الكبيرة والكثيرة فيه، والتحديات التي يواجهها في المرحلة الراهنة المقلقة والمرهقة والممتلئة بالمخاطر، والحبلى بكل أنواع التوقعات؟! إن ذلك مطلب وأمل وواقع في آن معاً، ولكن طرحه يرمي إلى إلقاء مزيد من الضوء، وتحقيق قدر أكبر من التواصل البناء بين جهات مسؤولة وفاعلة، في ظروف موضوعية، بغية الوصول إلى نتائج أفضل في كل المجالات والمستويات.‏
          في الوطن العربي، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية، ومؤتمر مدريد، واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وطرح المشروع الشرق أوسطي، وسقوط متبنيه سياسياً وغرقه في دماء الأبرياء في " قانا " ليخلفه اتجاه أكثر غطرسة وأشد إرهاباً ودموية وعنصرية يجتاح فلسطين المحتلة، وبعد عقد قمة شرم الشيخ، ثم قمة القاهرة العربية الأخيرة، وبعد معطيات سياسية ومتغيرات دولية وعربية، اقتصادية واجتماعية وإيديولوجية وثقافية كثيرة وكبيرة، على رأسها انتعاش نظرية اقتصاد السوق وانتشارها، وانهيار نظريات اقتصادية وسياسية شمولية أخرى كانت تزاحم بقوة وتتحدى بشراسة وتدعى احتكار العلم الكلي والصوابية المطلقة؛ أقول: في الوطن العربي، وفي ظل كل ذلك، تتعاظم معطيات ومستجدات سياسية تطرح نفسها على الثقافة، وتطرح عليها أسئلة، وتنتظر منها أجوبة وآراء ومواقف.‏
          فما هي أهم المستجدات السياسية التي تطرح نفسها على المنطقة وتشهر تحدياتها بوجه الثقافة العربية وأهلها بشكل خاص، وتتطلب من أهلها رأياً واضحاً وموقفاً مبدئياً صلباً ؟!‏
          أهم المستجدات وأبرزها ـ بتقديري ـ تلك المتصلة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني المنبثق منها والمستمر بسببها، وهذا الموضوع يكاد يكون منبع الموضوعات الأخرى والمستجدات الكثيرة الضاغطة، لأنه الموضوع الأساس الذي تدور حوله السياسات في هذه المنطقة من العالم منذ عدة عقود، وما زال يستقطب الجهد السياسي ويوجهه ويحكمه ويحكم عليه وعلى أهله، ويستحوذ على الاهتمام الثقافي ويضع الإنتاج والأشخاص والتوجهات في الميزان الذي يمسكه بيد تمتلك حساسية الجماهير العربية وحسها القومي والأخلاقي، لأنه الموضوع الذي يؤرق وجدان الأمة، ويكثف التحديات المطروحة عليها، ولأنه المؤثر بقوة في وجودها ومستقبلها في هذا العصر. وعلى جذع هذا الموضوع تنبت الأسئلة حول المستجدات التالية التي يمكن وضعها في محاور عامة، والوقوف عند كل منها وقفة عامة أيضاً، حسبما يسمح به الوقت والمقام :‏

          1 ـ عملية السلام: مدلولها ـ مفاوضاتها الثنائية والمتعددة ـ مصيرها ـ وما يترتب عليها، والموقف الثقافي منها مرحلياً ومبدئياً، ومن الموقف السياسي العربي فيها .‏
          لم يكن لمؤتمر مدريد، الذي بدأت منه عملية السلام، أن ينعقد، ولعملية السلام ذاتها أن تبدأ بين العدو الصهيوني والأطراف العربية، لولا حرب الخليج الثانية والانهيار الذي حدث في العلاقات العربية ـ العربية؛ ومن المعروف أن ذلك تم على أرضية المتغيرات الدولية التي أدت إلى انهيار حلف وارسو، وتمزق الاتحاد السوفييتي، وتراجع النظرية الماركسية ـ اللينينية، أو سقوطها عند من يحبذون استعمال هذا المصطلح في التعبير عما حصل.‏
          وانتقلت السياسة العربية بشكل عام، على أرضية قمة الدار البيضاء، التي قالت بالحل السلمي للصراع العربي الصهيوني وتبنت النقاط الثمانية ـ إطار مشروع فهد، ولي العهد السعودي آنذاك ـ انتقلت إلى تجسيد مقررات تلك القمة والسير على نهج موافق إلى حد كبير لنهج كامب ديفيد بعد مؤتمر مدريد؛ واضعة في الاعتبار حلاً للقضية الفلسطينية وإنهاء للصراع العربي ـ الصهيوني الذي نشأ بسببها، يقوم على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي 242، 338، ومبدأ الأرض مقابل السلام؛ ثم أضافت إلى ذلك، نتيجة المفاوضات الثنائية والمتعددة، والصراع الدامي الذي ما زال مستمراً في جنوب لبنان جراء احتلال الكيان الصهيوني لذلك الجنوب، أضافت إلى مرجعياتها القرار 425. وهذه الثوابت السياسية العربية، التي كثيراً ما ينتهكها العدو، ويتجاوزها بتواطؤ كيدي مع بعض الأقطار العربية ضد أقطار عربية أخرى أحياناً، تؤدي في إطار تطبيقها النهائي ـ على أرضية الاحترام التام لها ـ إلى:‏
          * اعتراف بحق تاريخي " لإسرائيل " في الوجود، وإقامة دولة عبرية على حساب فلسطين العربية والحق التاريخي الذي للعرب فيها؛ والنظر إلى اليهود المجلوبين إلى فلسطين المحتلة على أنهم شعب أقامته الصهيونية من الموت على أرضية التلمود والقومية، وأعادته إلى " أرضه التاريخية، أرض الميعاد؟! " ليقيم فيها وطناً على حساب عرب كان لهم فيها وطن؛ وليصبحوا، باعتراف دول المنطقة والأمة العربية وأقطارها وأنظمتها، وفي المقدمة من أولئك يأتي الفلسطينيون، بما يمثلون من خصوصية حق، وخصوصية نضال، وخصوصية انتماء إلى فلسطين؛ دولة كاملة الحقوق والصلات الطبيعية في المنطقة؛ وقد حققت اتفاقيات أوسلو خطوات على تلك الطريق اعتبرها العالم نهائية. وبهذا تعطي السياسة العربية، المحكومة بالضعف والفرقة والمتغيرات السياسية الدولية، وبولاء الكثير من أنظمتها وحكامها للدولة الأعظم ـ الولايات المتحدة الأميركية ـ تعطي " لإسرائيل " حقاً لا تملك أن تمنحها إياه، لأنه ملك الأمة التاريخي وملك أجيالها القادمة؛ والسياسة العربية تمنح ذلك خوفاً وخضوعاً ومراعاة للسائد من قوة البطش الأميركية، التي غدت تسيطر على سياسة هذه المنطقة من العالم، وتسيرها بالقوة عند اللزوم، لما فيه خدمة المصلحة الصهيونية " وإسرائيل"، تلك التي بلغ نفوذها في الولايات المتحدة الأميركية حداً جعل أحد أعضاء الكونغرس الأميركي يقول: " إن الكونغرس أرض محتلة من قبل "إسرائيل"، ويمكن أن نضيف إلى ذلك: و العالم كله يدرك معنا بالضرورة حقيقة أخرى، تكرست في إطار المستجدات السياسية الدولية وسيادة الدولة الوحيدة القطب، وهي حقيقة " أن مجلس الأمن الدولي أرض محتلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية. " .‏
          وعلى هذا فإن العملية السلمية، عند نجاحها النهائي، وبالشكل الذي تتطلع إليه الأنظمة العربية وترتضيه، وما أكدته القمة العربية الأخيرة في القاهرة، ستؤدي العملية أيضاً إلى تكريس الوقائع الآتية المقبولة من السياسة العربية، والمعترف بها رسمياً من قبلها:‏
          * استمرار نزوع دولة عبرية ذات مشروع توسعي صهيوني، تسيطر على معظم أرض فلسطين التاريخية، استمرار نزوعها إلى التوسع على أرضية انتمائها، في جغرافيتها السياسية، إلى المنطقة، وتكليفها بتحقيق وعد " الرب " لها؛ وتمتعها باعتراف عربي يؤكد حقها في الوجود والبقاء، وفي أنها جزء من النسيج الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والأمني للمنطقة، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، وتمتعها فوق ذلك كله وقبل ذلك وبعده، بالتفوق العسكري على العرب والمسلمين مجتمعين، وهو تفوق لا تسمح الدولة الأعظم والدول المتعاونة معها بأن يختل لصالح العرب والمسلمين أبداً، لأن مصالحها في هذه المنطقة تقتضي خلق ودعم دولة تقوم على أساس امتلاكها مشروعاً توسعياً " مباركاً من الرب " وموعودة هي به من دون الخلق، وملزم به وبتأييد كل ما يقوم به من ممارسات، كل من " يؤمن " بالمسيح وبوعد الرب، على الطريقة الأسطورية ـ الخرافية ـ التلمودية ـ العنصرية المشوهة، التي تقدمها الصهيونية وتروجها، وتبتز العالم باسمها وباسم آلام اليهود، وإلا فالتهم كثيرة، وعلى رأسها معاداة الساميَّة !؟!‏
          * بقاء ملايين من الشعب العربي الفلسطيني خارج وطنه، محرومة من حق العودة إلى ذلك الوطن؛ وهو الحق المعترف به دولياً، والمنصوص عليه حرفياً في قرارات الأمم المتحدة، والموقوف التنفيذ منذ عقود من الزمن ـ لأن قرارات الأمم المتحدة غير ملزمة لمن لا يلتزم بها ـ لصالح يهود يهجَّرون من أوطانهم بدوافع عنصرية واستعمارية واعتقادية ـ خرافية ـ أسطورية، ليتخذوا من وطن الفلسطينيين وطناً لهم، بحجة أن أحد أجدادهم(؟؟!) مر بهذه الأرض أو حلم بها قبل ثلاثة آلاف سنة، بينما الذي يعيش فيها منذ نيِّف وستة آلاف سنة واستمر بالعيش فيها إلى أن طرد منها بالقوة القهَّارة، قبل خمسين أو ثلاثين من السنين، وما زال يتطلع إلى العودة إليها، ويقدم ضريبة الدم، ويعيش من دون وطن؛ ينبغي أن يحرم من حقوقه البشرية والتاريخية والقومية والإنسانية والخُلُقية؟!‏
          * قيام حالة من التهديد وعدم الاستقرار والهيمنة والنهب والقمع، تقوم بها القوة التي يُراد لها أن تكون القوة الوحيدة المتفوقة والمهيمنة والمتوسعة على حساب حياة الآخرين وأرضهم ومستقبل أجيالهم وسعادتهم ومكانتهم بين الأمم والشعوب.‏
          ولما كانت السياسة العربية تتعامل مع موازين قوى ومتغيرات سياسية تضع الحق بيد القوة، وهي لا تملك الآن قوة تقيم بها الحق، وحقها من دون صوت وربما من دون لسان فكيف يُسمع أو يُصان، فإن من حق الثقافة العربية ومن واجبها، وهي التي تنتمي إلى الحق والعدل والثوابت التاريخية والخُلُقية والإنسانية، وتعبر عن شخصية الأمة وحقوقها، من حقها بل من واجبها أن ترفض ما يُجبر السياسي على قبوله، فما يلزم السياسي لا يلزم الثقافي بالضرورة، وأن تحافظ على الحق التاريخي للأمة حياً ومؤثراً في الذاكرة والوجدان على المستويين الفردي والجماعي، وأن تصنع الوعي وتفتح أبواب الأمل أمام الأجيال القادمة، وأن تغذي إرادة الشعب بما يقوي إيمانه بنفسه وبحقه ومستقبله، وأن تلتزم بالدعوة إلى تربية ومعرفة وقيم ورؤية تكون قادرة على المساهمة الفعالة في تكوين الإنسان تكويناً علمياً وروحياً وعملياً عالياً يجعله قادراً على الوقوف إلى جانب الحرية والعدالة الإنسانية وحقوق الشعب، وقادراً على انتزاع تلك الحقوق وفرض احترامها، مهما طال الزمن واشتد الضغط، واختلت الموازين، وتشامخ ظلام الوقت وظلم الطغاة. وعلى هذا فالثقافة العربية مطالبة برفض الخيار السياسي العربي الذي لا يحقق العدل ولا يعيد الحق؛ وهنا نتحدث عن الجانب الذي يهم الثقافة العربية بالذات وعن موقفها من قرار غير عادل ـ قرار الاعتراف بدولة " إسرائيل " ـ وهو قرار يؤدي في نهاية المطاف إلى زوال فلسطين لصالح قيام " إسرائيل "، واستمرار تشرد الشعب الفلسطيني ومعاناته، لصالح راحة العنصريين الصهاينة المجلوبين إلى فلسطين المحتلة وسعادتهم وأمنهم، ولصالح الاستعمار الغربي الذي يهتم أولاً بتحقيق مصالحه على حساب نهب الآخرين وتعاستهم.‏
          من هنا، واستناداً إلى كل ذلك الرصيد من المعطيات والحقائق والثوابت المبدئية والتاريخية والخُلُقية، وتشبثاً بالدور المنقذ الذي للثقافة العربية في هذه الظروف، وأداء للرسالة والمسؤولية المناطتين بها وبأهلها، فإن من واجبها أن ترفض كل شكل من أشكال الاعتراف " بإسرائيل " وكل شكل من أشكال تطبيع العلاقات معها، وهو ما ستسفر عنه عملية السلام، والجهود السياسية العربية الراهنة؛ وعلى الثقافة أن تتجه بأمل وثقة إلى المستقبل وإلى الأجيال القادمة، وأن تراجع نفسها وأساليبها وأدواتها وخطابها لتكون قادرة على إكساب " لا " التي تقولها معنى ومصداقية، ولتصل من بعد إلى تحقيق أهدافها ولو بعد قرن من الزمان.‏
          الثقافة العربية في هذه الحالة حامل وعي معرفي وتاريخي، وحامل حقيقة ورسالة عادلة، تريد أن تنقلها من زمن غطرسة القوة وضعف الحق بضعف أهله، إلى زمن تعمل على أن يقوى فيه الحق بقوة الوعي الذي يرفع شأن أهله، ويقيم تقدمهم وتضامنهم، زمن تتراجع فيه الغطرسة أمام قوة المنطق والوعي والعدل والحق والشعب. وقد تصطدم الثقافة مع السياسة في توجهها هذا، لأن السياسة العربية لم تعتد على سماع من يرفع " لا " في وجهها؛ ولكن شرف موقف الثقافة وصحة ذلك الموقف، وقدرته على الاستشراف والمستقبلية وتحمل المسؤولية التاريخية وتغيير المستقر في الواقع والراكد في الذهن، كل ذلك يستدعي أن تعلن موقفها وتدافع عنه، وأن تتحمل تبعات ذلك، وأن تكوِّن جبهتها القوية العريضة وتخوض معاركها العادلة والحاسمة، وعليها من أجل ذلك أن تتخلص من كل أشكال التلوث والتردد والتبعية والخوف والوهن، وأن تمتلك نور الوعي والمعرفة وقدرتهما بثقة واقتدار، وأن تستخدم كل ذلك بشرف وحكمة وحنكة واقتدار أيضاً.‏
          2 ـ قومية القضية الفلسطينية، والبعد القومي للمسؤولية في كل من الحل واستمرار الصراع، والموقف الثقافي من المواقف السياسية في الاتجاهات المختلفة والاجتهادات المختلفة حول هذا الموضوع؛ لا سيما ما يتصل من ذلك بالحل القطري ـ الفلسطيني تحديداً ـ والموقف القطري المواكب له والمعزز له في أقطار عربية أخرى، وكذلك السياسات القائمة على أساس القضاء على البعد القومي لهذه القضية ولكل قضية قومية، للتَّخلُّص من الالتزامات القومية وما ترتبه من مواقف وتبعات، والاحتماء بالقوى الدولية والقوى المعادية للأمة العربية، وبالقانون الدولي والمؤسسات الدولية عندما ترى في ذلك مصلحة قطرية أو مصلحة أنانية للنظام القطري القائم، يتحقق فيها استقراره واستمراره، وإحكام قبضته على الناس والأمور، ولو على حساب الأمة ومصالحها العليا وقضاياها المصيرية.‏
          والثقافة العربية مطالبة، في هذا المجال بالذات، بتعزيز البعد القومي للقضية الفلسطينية، وبالرد على كل من يحاول إضعافه وإلغاءه؛ فالقضية الفلسطينية كان لها البعد القومي الشامل في كل مراحلها التاريخية، وهكذا ينبغي أن تبقى، وهي قضية كلفت الأمة الكثير من التضحيات فلولاها لما كان احتلال سيناء وقناة السويس والجولان وجنوب لبنان، ولما سقطت عشرات الآلاف من الشهداء، ولما كانت كل هذه الآلام والمعاناة، لقد حدث كل ذلك على طريقها ومن أجلها، بوصفها قضية شاملة لمجمل أوجه الصراع مع الاستعمار والصهيونية، اللذين يتحالفان دائماً لتحقيق أهدافهما التي لا تتوقف عند احتلال الأرض، بل تشمل كل ما يتصل بشخصية الأمة العربية وثقافتها وعقيدتها ومصالحها وخيراتها ومستقبل أبنائها.‏
          وتأسيساً على هذا وانطلاقاً منه، فإن كل تفرد في حل القضية الفلسطينية هو إضعاف لها، وهو تجزيء لوحدة قضية يؤدي إلى الإخلال بها وبالتوازنات التي ينبغي أن تتوافر لها، تلك التوازنات التي لا يستطيع قطر عربي بمفرده أن يحققها. والقضية الفلسطينية ليست ذات بعد سياسي محض، وليست قضية قطر أو فئة، وليست مسؤولية قطاع من مقاولي الأعمال السياسية بروح تجارية، إنها قضية تتصل بشرف أمة وتاريخها ومستقبلها ومكانتها بين الأمم؛ وعلى ذلك فإن الثقافة العربية مطالبة بموقف واضح وجاد من كل الحلول الجزئية، أو تلك التي تأخذ بمبدأ الاستفراد بمجموعة عربية لتجعل العرب في نهاية المطاف مجموعات متقابلة في حالة تنازع وتهرؤ.‏
          إن الثقافة العربية أرض مشتركة، وما زالت هي الأرض الأكثر صلابة بالنسبة للعرب جميعاً عبر التاريخ وامتداد الجغرافية،على الرغم من إرادة بعض الحكام والأنظمة العربية الرامية إلى تجزئة هذه الأرض واقتسامها على أساس الجغرافية السياسية القائمة، الأمر الذي يسهل فرض كل أشكال التبعية عليها، وهذا يضعف دورها القومي كثيراً إن لم ينهه نهائياً؛ وينبغي أن تأخذ الثقافة دوراً فعالاً في موضوع إعادة البعد القومي الذي للقضية الفلسطينية، بكل المقاييس وعلى المستويات المختلفة؛ وهذا يستدعي أولاً إنضاج رؤية مشتركة جديدة لأهل الثقافة العربية حول هذا الموضوع وتمسكهم بها وتماسكهم حولها، وسبيلهم إلى ذلك الحوار بمسؤولية ووعي واحترام، ثم مواجهة الموقف أو المواقف السياسية التي لا تحترم هذه الحقيقة العربية الناصعة، وتحاول أن تعطي ظهرها لدروس التاريخ العربي المعاصر وعبره، وهو الذي يصرخ، في كل مفارق الوطن والزمن، بحقيقة أن الفُرْقة كانت وبالاً على الأمة في صراعاتها مع أعدائها، وبأنه ما حقق فلسطيني أو عربي قط مكسباً من تفرّده بخطوة أو خطوات على طريق الحلول المنفردة لهذه القضية، بل ازداد ضعفاً وخسراناً وألحق الخسران والضعف بالأمة كلها؛ وهاهو السادات مثل، وهاهي أوسلو تضع عرفات ومن معه في سلة نتنياهو، ولا تجعله أكثر من رئيس مخفر ـ كما كان مرسوماً له أصلاً ـ يلاحق الفلسطينيين الذين يرفضون صفقته الشائنة، ويدافعون عن أنفسهم ضد طغيان العدو وعنصريته وبرامج الإبادة البطيئة التي ينفذها ضد الشخصية الفلسطينية والأرض والقضية؛ وها هو الملك حسين يقود الأردن بعد وادي عربة وبفضلها، إلى تحالف مع العدو الصهيوني ضد أمته وضد أقطار عربية منها بشكل خاص، قاصداً إلى الاحتماء بالعدو ليحفظ عرشاً ويضيع أمة وتاريخاً؟! فأية صفقة وأي تاريخ؟! إن الثقافة العربية مطالبة بأن تتخذ موقفاً وتقول رأياً صريحاً في هذه المواقف والممارسات والقضايا، وأن تدافع عن رأيها ورؤيتها بقوة واقتدار.‏
          3 ـ دخول معطى جديد على مكونات الرؤية السياسية العربية، ينعش تاريخاً ثقافياً وسياسياً مشتركاً مع أمم أخرى، ويوحي برسم سياسة تأخذ بالاعتبار المنظور العربي ـ الإسلامي، وما يقدمه ذلك من صيغ عمل وإمكانات تعامل، ومشاريع ورؤى، وما يفتحه من آفاق جديدة من جهة، وما يرتبه من صراعات وتحالفات وممارسات للقوى المناهضة للأمتين العربية والإسلامية وللثقافة التي تحملانها وتمثلانها من جهة أخرى، إذا ما قامت صلات وعلاقات تحيي هذا المشترك وتصونه وتستلهمه وتبني عليه؛ وما يثيره ذلك من توقعات واحتمالات، وما يستدعيه من تقليب للرأي وتبادل لوجهات النظر، وفحص للمعطيات جميعاً في أثناء النظر إليه من زوايا مختلفة، مبدئية ومصلحية، مرحلية واستراتيجية .‏
          وقد كان هذا المعطى موجوداً، على الصعيد السياسي منذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي وقيام مؤسساتها قبل سنين، ولكنه يدخل الآن بقوة أشد، ويشكل حضوراً محتملاً في السياسة العربية، بعد المتغيرات العاصفة التي حصلت، وسعي العدو الصهيوني إلى تشكيل أحلاف مع دول عربية وإسلامية لضرب دول عربية ودول إسلامية أخرى بعضها ببعض ـ أقصد التحالف الإسرائيلي التركي الأردني برعاية أميركية، حلف بغداد بلا بغداد، الذي يهدد دولاً في مقدمتها سورية ولبنان والعراق وإيران، ويخلق أوضاعاً غريبة ومريبة في المنطقة ـ ولا أظن أن هذه القضية لا تعني الثقافة بالقدر الذي تعني به السياسة، ولكن المنظور الثقافي لها ما زال غائباً. وربما وجدت الثقافة العربية بعداً استراتيجياً ومناخاً حيوياً لتفاعلها وتواصلها مع ثقافات وشعوب تربطها بها وبالأمة العربية صلات تاريخية ومعطيات ثقافية، أكبر وأصلب من أن تعبث بها القوى الأخرى وعوامل التغيير؛ وقد طال انصراف الثقافة العربية عن الثقافات الشرقية بشكل عام، وعن ثقافات الشعوب الإسلامية بشكل خاص، وليس منطقياً ولا صحياً ولا موضوعياً أن يتجه نظرنا دوماً إلى الغرب، وأن نكون في شبه تبعية ثقافية وغير ثقافية له ونحن نتطلع إلى التخلص من هيمنته ونشكو مر الشكوى من تشويهه المقصود لثقافتنا وقيمنا وعقيدتنا، ومحاولاته الدائبة لممارسة كل أشكال الطعن والتثريب والتخريب ضد ثقافتنا، والاستلاب الشامل ضدنا ؟!‏
          إن انفتاحنا على الآخر، وحوارنا مع الثقافات، وتطلعنا إلى قوى تتفهم قضايانا العادلة وتناصر حقوقنا ونضالنا العادل والمشروع لاستعادة تلك الحقوق؛ كل ذلك يستدعي منا أن نبحث في كل الاتجاهات عن الغنى المعرفي والأصدقاء وعن القوى التي تناصرنا ولو قليلاً، ونحن نتصدى لأشرس عدوان وأكبر تواطؤ غربي صهيوني ضدنا. ربما ترتفع أصوات لتقول في تلك الصلة، لقد انطبق علينا المثل: " وقع المعثر على خايب الرجا " ولكن المثل يقول أيضاً: " ضعيفان قد يغلبان قوياً "؛ ونحن أصلاً لا نبحث عن تحالفات بقصد ممارسة الظلم والعدوان والاستقواء والاستعلاء واستعراض العضلات، إنما نبحث عما يساعدنا في دفع العدوان والظلم عنا. والثقافة العربية الإسلامية، هي مستند الشخصية العربية الرئيس ومكونها الأقوى، وليس في مصلحة العرب أن يكونوا ضد المسلمين أو ألا يستعينوا بهم ويتعاونوا معهم، وليس في مصلحة المسلمين أن يكونوا ضد العرب أو ألا يستعينوا بهم ويتعاونوا معهم. والثقافة التي تقيم جسور التعاون مع الشعوب، وتهمِّش خلافاتها وتذيب عداواتها بالمعرفة وبالتغلب على الجهل ـ والإنسان عدو ما يجهل ـ هي الأقدر والأجدر بأن تقيم هذا التواصل والتفاعل في إطار بناء من الاحترام والثقة المتبادلة.‏
          4 ـ منظور الخيارات والوسائل والأدوات والأساليب المطلوبة لمواجهة التحديات القائمة للوطن العربي وفيه، وعلى رأسها تحقيق التقدم العلمي والتقني كشرط لمواجهة تحديات القوة والتقدم والعصرنة المطروحة بقوة، وتحدي الاحتلال وقدراته العسكرية وغير العسكرية، وتحالفاته؛ والتحالفات الأخرى المطروحة على الوطن والأمة من قبل الغرب بشكل عام؛ ذلك كله يستدعي مواجهة أسئلة وخيارات منها:‏
          * خيار المقاومة المسلحة للاحتلال الصهيوني، وما يرتبه على السياسة والثقافة من تبعات ومسؤوليات ومواجهات، مادية ومعنوية، وما قد يخلقه ذلك الخيار من خلافات بينهما أصلاً في وجهات النظر؛ والاحتمالات التي يطرحها والقضايا التي يثيرها؛ ولا نرى أن الثقافة العربية يمكن أن تتنكر للمقاومة أو تنكر عليها حقها في ممارسة فعل التحرير بكل الوسائل والأدوات والأساليب المجدية؛ والثقافة هي المسؤولة عن مواجهة أشكال الخلط المتعمَّد والمدروس بين المقاومة المشروعة ضد الاحتلال وبين الإرهاب، وهي التي من حقها ومن واجبها في وقت واحد أن تستلهم فعل المقاومة وترفع راية أبطالها ومنزلتهم، وأن تذكي نارها وتعلي شأنها ومكانتها في حياتنا اليومية عالياً، فالمقاومة هي الشهادة بأنبل صورها، والتضحية بأجلى مظاهرها. وإذا كانت بعض السياسات العربية قد استساغت ذلك الخلط بين المقاومة والإرهاب وسوغته لأغراض قطرية ضيقة، فليس من مصلحة الثقافة ولا من مصلحة الأمة أن يتم وأن يستمر هذا النوع من الخلط، حرصاً على الحقيقة وعلى روح التضحية ومفاهيم الوطنية والمفاهيم الثقافية والإنسانية السليمة، وعلى الثقافة في هذا المجال أن تكون المقاومة وتشق طريق في شعاب الوعي لها، وأن تدافع عن هذا الحق المشروع وتأخذ بممارسته.‏
          فموقف الثقافة في هذا المجال ينبغي أن يكون واضحاً، واختيارها معلناً، ودفاعها مشرفاً فهي ثقافة المقاومة والمقاومة انطلاقاً من حصون الثقافة العربية، وعندما تفعل ذلك تنسجم مع طروحاتها واختياراتها ومواقفها، وتعبر عن شرف الكلمة التي تنتمي إليها وتحمل رايتها.‏
          * خيار الحوار مع الغرب من مداخل مختلفة: الإسلام والغرب ـ الحوار الإسلامي المسيحي ـ المشروع المتوسطي: ثقافياً واقتصادياً وسياسياً .. الخ؛ وخيار مواجهة استفزازات الغرب وأحكامه الجاهزة المسبقة، وكيله بمكيالين، ومصالحه القائمة على نفي مصالحنا وبعض مقومات وجودنا، وإضعاف قدرتنا على حماية تلك المصالح وعلى اتخاذ قرار أصلاً بامتلاك قوة العلم والعمل والتضامن للدفاع عنها. وتكاد تكون الثقافة هي خط المواجهة الأوسع في كثير من هذه الجبهات، وهذا ما ينبغي أن تراعيه كل من الثقافة والسياسة العربيتين، لأنه يحتاج إلى تعاونهما وتكاملهما، فحروب القرن القادم ومواجهاته ثقافية بالدرجة الأولى، ولا مناص من أن تتحقق للثقافة العربية الإمكانات والأدوات والوسائل التي تمكنها من خوض مواجهة ناجحة، وفي المقدمة مما ينبغي أن يتحقق لها مناخ العمل بحرية والإبداع بالتزام، والثقة والقدرة على ممارسة دورها بشمول داخل الوطن وخارجه؛ لأننا قد نجد، في مجالات كثيرة، أن مواجهاتنا مع الغير لا يمكن أن تحسم قبل حسم مواجهات داخلية تعوق الأداء الوطني والقومي والفردي بأشكال مختلفة، وتشكل بذلك ظهيراً للعدو يعمل ـ عن وعي منه أو من دون وعي ـ خلف خطوطنا الداخلية.‏
          * خيار الحوار مع العالم الإسلامي واللقاء معه من خلال تعزيز المؤسسات القائمة والتفاعل في إطارها بوعي لأغراض الحوار وأهدافه، ومردود ذلك على مجمل الحياة العامة من جهة، ورد الفعل الذي يمكن أن ينشأ عنه من جهة أخرى. وهذا أفق مفتوح بأشكال مختلفة، ومسدود بأشكال مختلفة أيضاً؛ فلا يوجد توجه سياسي استراتيجي عربي في هذا المجال على الرغم من وجود مؤسسة الدول الإسلامية ومنظمة الأسيسكو، ولا تمارس الثقافة العربية دوراً مبادراً ذا حضور ملحوظ في هذا المجال لأسباب عدة منها: الخوف، وعدم الاعتياد، وإرث السنوات الثقافية العجاف في ظل القوى المسيطرة إبان سنوات الحرب الباردة، والاتهامات التي كانت تُتَبادل عبر الحدود، ونهي الغرب عن ذلك النوع من التواصل في ظلال مآسي الحرب، ذلك النهي الذي كان موعزاً به من قبل الكبار الذين حسموا الحرب لصالحهم، وكان في طيات ذلك كله عداء ظاهر للإسلام ينعكس في فرض علاقات معينة على المسلمين، ورغبة واضحة في عزل الشعوب الإسلامية بعضها عن بعض، وقطع صلاتها أو إضعاف تلك الصلات بكل الأساليب والوسائل.‏
          * حوار الثقافات والحضارات: الشرق والغرب، الشمال والجنوب، مع ما يقدمه ذلك من غنى وتنوع وسعة أفق من جهة، وما يثيره من مشكلات بين الأديان والقوميات والثقافات والسياسات قد لا تنتهي، من جهة أخرى. وهذا يحتاج إلى وقت وجهد طويلين، وقد لا يساهم في حل الراهن والضاغط من المشكلات والأزمات والتوترات القائمة مما هو ملح. وتستطيع الثقافة العربية أن تلعب دوراً فضفاضاً في هذا المجال، ولكن ينبغي أن تضع خططها وتأخذ استعداداتها لذلك كله. وهذا النوع من التحدي في ظل التطور السريع لوسائل الاتصال وأدواته، يستدعي تهيئة الإمكانات والظروف والقدرات اللازمة لخوض هذا المعترك.‏
          5 ـ التحالفات السياسية التي تمهد لمحاصرة دول وسياسات ومحاور ومصالح عربية، وترتب، انطلاقاً من منطقتنا ووطننا العربي، لمواجهة احتمالات الصراع فيما بينها، واحتمالات التحرك الشعبي ـ قطرياً ـ أو القومي عربياً لوضع حد لتدخلها واحتلالها ونهبها المستمر لخيرات الوطن العربي، ولتعطيل تقدمه وإرادة أبنائه، حكاماً ومحكومين. وهذه القوى المتضاربة المصلح والأهداف، والمتربعة على عرش القوة العسكرية والاقتصادية والتقنية في هذا العصر قد تجد نفسها في عراك الديوك فجأة حول نفوذ ومصدر طاقة أو مكسب في موقع استراتيجي وحيوي في هذه المنطقة من العالم؛ فما هو الموقف من ذلك، وهل نبقى الكرة التي يتقاذفها اللاعبون إلى أن تتهرأ فيستبدلونها بأخرى، أم ترانا نتطلع إلى دور اللاعبين، أم أننا لا نحلم بأكثر من دور المتفرج الذي لا يتاح لنا أن نحصل عليه؟!‏
          إن مثل هذا العبء الكبير يقع على كل من الثقافة والسياسة ويحزمهما معاً حزم السَّلَمَة ويضعهما على المحك في امتحان هو المحنة إذا ما تأزمت الأمور واشتدت. وهل يمكن فصل الأداء الثقافي المتميز في هذا المجال عن الأداء السياسي المتميز، إذا أردنا أن نصل إلى فعل عربي متكامل، وعمل عربي مشترك تؤدي فيه كل القطاعات المستهدفة دوراً بمسؤولية وفعالية؟!‏
          إن ذلك سؤال ملقى بثقل واتساع على أهل السياسة والثقافة في آن معاً؛والثقافة تتحمل مسؤولية إثارة الموضوع والتنبيه إلى مخاطره، ووضعه أمام صانعي القرار السياسي، ولا يتوقف دورها عند ذلك، بل عليها أن تتابع وأن تضغط لتوافر كل سبل المواجهة الناجحة ومقوماتها وأدواتها؛ وعليها في الوقت ذاته أن تقوم بما يمكن أن تقوم به من فعل وجهد باجتهاد، من دون انتظار توافر الشروط المثلى لانطلاقة العمل في هذا المجال.‏
          إن الإرهاصات والمؤشرات التي تَوِجُّ في سماء السياسة الدولية بين الأقوياء، وتشير إلى تحالفات محتملة، وصراعات على مناطق نفوذ ومصالح، وما قد ينشأ بين الكبار من خصام فعراك فحروب، للسيطرة على مواقع، والحصول على منافع ونفوذ في منطقتنا، وفرض هيمنة عليها، ومحاولة الاستعداد لمواجهة ذلك، والاستفادة من حصوله ـ إذا ما وقع ـ لجعله يخدم المصلحة القومية والقطرية العربيتين، إن أمكن، حسب الحالات والإمكانات والاستعدادات، كل ذلك يقع بجدية تامة في حدود الاحتمالات والتحديات التي لابد من التعامل معها ثقافياً وسياسياً. والثقافة العربية هنا تؤدي دوراً مواكباً للفعل السياسي العربي ومتمماً له، ويتوقف ذلك على تواصل السياسي والثقافي، ولا يجوز للثقافة أن تسكت، ولا يمكنها أن تسكت على مخططات ونوايا واحتمالات وتحالفات ضارة بمصالح الأمة أو مصالح بعض أقطارها، ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك، أياً كان الموقع والموقف والارتباط الذي لها مع سياسة قطرية في الساحة العربية التي يجري فيها مثل ذلك، وأياً كانت التبعات التي يرتبها موقفها ذاك؛ على أن تكون الجبهة الثقافية العربية متماسكة ومتعاونة وقادرة على حماية أجنحتها؛ فكل فعل من أجل الأمة والمصلحة العربية العليا يتطلب مواجهة على أرضية المبادرة ومبادرة على أرضية المواجهة.‏
          6 ـ المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية، عربياً، على مستوى الأقطار والأنظمة من جهة، وعلى مستوى المؤسسات القومية العاملة في حقول ومجالات مختلفة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية... الخ من جهة أخرى، وكل ذلك ينعكس بدرجات متفاوتة على قدرتنا على مواجهة التحديات الخارجية وعلى أسلوبنا في تلك المواجهة، ويطرح في الوقت ذاته تحديات داخلية على كل من السياسة والثقافة في آن معاً .‏
          ومن تلك المشكلات والتحديات، على سبيل المثال لا الحصر: الممارسة الديمقراطية النظيفة، واعتماد الديمقراطية السليمة كأسلوب محترم ومحمي بالقانون المحترم هو الآخر، أسلوباً لانتقال السلطة في الدولة القطرية، بعد الاتفاق على مفهوم وأسلوب ملائمين ومتفقين مع خصوصيات ومرحليَّات يمكن النظر في أمر مراعاتها، وهما مفهوم وأسلوب لا يفرطان بالجوهر وهو الحرية والمساواة واحترام الحقوق والحريات العامة والخاصة، وكيفية ممارستها في حدود القانون باحترام لكل من الفرد والمجتمع والقانون والمصلحة العليا للوطن والشعب والإنسان .‏
          ـ رفع المستوى المعيشي للمواطن العربي، والتقليل من حجم الفوارق الاقتصادية بين الناس، لا سيما تلك التي تخلقها حالات الكسب غير المشروع، وحالات انتشار الفساد الإداري والاجتماعي، وعدم مساواة المواطنين أمام القانون.‏
          ـ تأمين مستقبل الأجيال، وتحقيق فرص العمل لها، وفتح آفاق الأمل أمامها، والقضاء على البطالة بنوعيها: الظاهرة والمقنَّعَة ـ وهذه الأخيرة كثيرة وناتجة عن وجود كثرة من فئات العاملين لا تعمل بربع طاقتها ولا تنتج بجدية وجودة، وتؤثر سلبياً على الإنتاج وفعالية الفرد في المجتمع بشكل عام ـ وإنشاء المرافق التي تؤمن تحقيق نقلة نوعية في التقدم العلمي والتقني على الخصوص، لفئات القادرين على التفوق والعطاء من أبناء الأمة في المجتمع العربي، ومواجهة ما يرتبه ذلك من مسؤوليات على كل من الثقافة والسياسة، وما قد تخلقه المواجهة المحتملة بينهما، على أرضية ذلك وبسببه، من مواجهات وتحديات متبادلة وأوضاع ضارة، ما زال الثقافي يدفع الثمن الأعظم فيها، ويخاف من دفعه أكثر من السياسي، الذي لا ينظر إلى الشراكة في المسؤولية والمواطنة والمصير نظرة تليق بالمساواة، وبكون المسؤولية أمانة لا يجرح صاحبَها السؤال عن أدائه لها بحرص واقتدار .‏
          إن للثقافة ولأهلها الدور الذي يسعى إلى القيام به الحريصُ القادرُ المسؤولٌ الفطن، الذي لا ينتظر حثاً ولا أمراً ليقوم بواجبه، ولا يضيره بأي حال أمر يصدر باسم الوطن والأمة لأداء واجب يساهم في النهضة والتقدم والدفاع عن الحق والنفس والحرية والعدل، في وطن يحمي إنسانية الإنسان ويحترم حقوقه في العيش والعمل والحرية والكرامة، في حدود المواطنة الكاملة وشروطها.‏
          وبعد فقد توقفت بإيجاز عند كل موضوع من الموضوعات التي ذكرتها سابقاً، متجاوزاً موضوعات وحالات وتحديات قد تنشأ، ثنائياً بين بعض الأقطار العربية، أو بين أقطار عربية وبلدان أخرى مجاورة أو غير مجاورة، كما قد تنشأ جماعياً بين عدد من الأقطار العربية وعدد آخر منها، أو بين مجموعة عربية وبلد أو مجموعة بلدان أخرى، أو بين الأمة العربية ـ إن اجتمع أمرها يوماً ـ وقوى وتحالفات أجنبية، تجاوزت ذلك ليس لعدم أهميته ولكن لأن المجال قد لا يتسع له، وربما تسنح فرصة قادمة بالتوسع فيما يمكن التوسع فيه من تلك الموضوعات وسواها مما يقع في هذا المجال .‏
          والله ولي التوفيق .‏

          دمشق في 5 / 7 / 1996‏
          الأسبوع الأدبي/ع527//7/9/1996.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            حملات انتخابية بصواريخ " كروز "
            منذ إنشاء ما سمِّي " بالمناطق الآمنة " في شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية مباشرة والسؤال قائم بقوة الأمر الواقع ويدوي في سماء المنطقة: هل وحدة أرض العراق ووحدة شعبه موضع احترام القوى الكبرى وحلفائها الصغار؟! أم أن هناك ما يُبَيَّت ضد العراق الشعب والوطن ؟!‏
            المؤشرات التي كانت وما زالت تصدر عن " حكومة كل العالم " كانت تثبت التوجه نحو تقسيم العراق إلى ثلاث دول تحت ستار ثلاث مناطق: الشمال " كردستان العراق "، الوسط، وجنوب العراق؛ وكان مشروع التقسيم الجغرافي هذا يقوم أصلاً على تقسيم سكاني طائفي ذي ملمَح قومي؛ فالجنوب للشيعة والوسط للسنة والشمال " المنطقة الآمنة " منطقة معلنة للأكراد على أساس قومي تُصْنَع فيها نواة الدولة، ويتم التمهيد لانفصالها تدريجياً لتصبح مرتكز " الوطن القومي " ومنطلقه لأكراد العراق وإيران وتركيا وسورية.‏
            وقد بدأت الميليشيات تحت اسم " البشمركة " تمارس هناك صلاحيات ظاهرة من خلال مؤسسات يراد لها أن تكون مستقلة وتؤسس " للاستقلال "، وأقيم " برلمان " باركته المعارضة العراقية كلها وحاولت أن تعمل من خلاله لاستعادة السيطرة على العراق؛ ولم تكن الفئات المشاركة في الزفة الديمقراطية عبر شوارع أربيل تجهل ما بين المعارضة من ألغام موقوتة وصراعات، كما أنها لم تكن تجهل ما بين الفصائل الكردية المتناحرة منذ القدم من ألغام وحسابات تحتاج إلى تصفية؛ وكل فريق كان يدرك أن الذي يرعى العرس كله هو القرصان الأميركي وحاشيته الغربية ـ الصهيونية، على ما بين أفرادها من تفاوت في القرب والبعد من الزعيم الأول الذي يوزع فُتات المنافع على أعوانه بعد أن يحتفظ لنفسه بالحصة الأعظم.‏
            كان العراقيون المعارضون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعباً وعلى وضوح انتمائه للأمة العربية وسلامته الوطنية، يشعرون بحرارة ماء المغطس الذي هم فيه وهي ترتفع لحظة بعد أخرى، ولكنهم يتحملون وينتظرون الفرج لإيمانهم بقدرة العراقيين على مجاوزة المحنة والنجاح في الامتحان؛ وكانوا يريدون شد الجميع في المعارضة إلى حماية مصير البلد ومستقبله، ويعملون على إنقاذه من الطغيان لينقذوا أنفسهم بذلك أيضاً.‏
            أمّا السيد الأميركي الذي كان يرسم الخطط ويوزع الأدوار والوعود ويقدم الأموال فقد كان معنياً فقط بما ينفذ مخططه الذي لا يخدم إلا مصالحه وبعض مصالح حلفائه الأقربين.‏
            في الجنوب لا يريد الغرب دولة حتى لا ينتشر ظل إيران عليها أو تمد هي يدها إلى إيران فتصبح يداً لها قريبة من مفاتيح النفط، وكان يكتفي بإبادة ظل الدولة الأم وتشتيت الولاء لها، وجعل الناس هناك يغرقون أكثر فأكثر في البؤس واليأس؛ ولكنهم بقوا على ولائهم للوطن رغم السكين المغروسة في حلوقهم ممن يدعي ملكية الوطن..وبقي على تلك المساحة / الجنوب / ظل طائفي وآخر قومي يملآن ساحة النفس صراعاً ولم يضعف ذلك ولاء الناس للأمة والوطن إلى الحد الذي يجعل جنوب العراق مرشحاً لدولة تقوم على حساب العراق.‏
            أمّا في الوسط فمرارة المعاناة ونار الحصار وآلام الجسد المقطَّع، وتفتيش لجنة إيكيوس، وصدام حسين الذي يقول: أنا الدولة وما بعدي الطوفان وكل ما يقدمه العراقيون وما يخسره العراق يدعمني ويعزز مركزي فالعراق أنا وأنا العراق، ويكفي أن أبقى وفي هذا النصر المؤزر له ولي !؟!‏
            في الشمال بدأت " البشمركة " تتنافس على جباية الأموال من عائدات " الترانزيت: تركيا ـ إيران " ومن السكان ومن مصادر أخرى مستورة ومعلنة؛ وبدأت حرب تعزيز الحضور الحزبي والنفوذ العشائري، كما بدأ التعلق بالمال والسلطة يريق الدماء ويفتح شهية الحلفاء؛ لقد بدأت حرب الميليشيات التي استند كل منها إلى حائط، والسيد الذي يرسم الخطوات ويدفعها ويقدم البنادق ويوجهها ويسدد الرمي، السيد الأميركي يتحفز منذ زمن لتطبيق سياسة الاحتواء المشترك لكل من العراق وإيران، وكانت تعييه الوسائل، فلم يجد أنسب من تحييدهما ورمي كل منهما بالآخر منفذاً لذلك، ففيه قضاء عليهما وجني لثمار اقتتالهما، وقد سنحت فرصة ملائمة له :‏
            فالطالباني دخل كل البوابات وآخرها البوابة الإيرانية وهاهو يقاتل خصمه البرزاني ويعد نفسه للدولة مستنداً إلى الجدار الإيراني ـ ومن عجب أنه حليف أميركا وإيران فكيف نعرب ذلك؟ ـ الذي تؤذيه سهام " مجاهدي خلق " ويحسب حساب العداء القائم مع صدام حسين، وتريد إيران أن تضع لوجود معارضيها في العراق حداً وأن تتخذ من بعض الأكراد حلفاء في إطار حسابات مستقبلية، فاستطابت أن يتكئ على كتفها الطالباني.‏
            والبرزاني وجد نفسه وحزبه خارج أربيل وفي وضع حرج أمام الطالباني فاعتضد بصدام حسين الذي كان مهدداً بعملية سرية ينظمها عملاء الـ c.i.a للإطاحة به انطلاقاً من أربيل فبادر إلى دعم البرزاني وتلبية النداء المنبعث منه على مشارف تلك المدينة، وصدام لا يريد أن يرى كل هؤلاء الأعداء يتقاتلون على جسده وجسد العراق، ويشكلون معارضة شرسة له تستعين بمدد دولي قوي؛ وقد واتته فرصة ليضع قدمه في أربيل التي شكَّلت " عاصمة دولة الشمال " المرتقبة وعاصمة المعارضة؛ فنفذ " فزعةً " مدروسة على طريقته للبرزاني الذي حقق نصراً على خصمه ودخل أربيل ثم السليمانية بدعم مباشر من بغداد، التي استعادت عملياً سيطرتها شبه التامة العراق على منافذ الشمال من جهة إيران، وأحبطت العملية التي كانت تدبر ضدها من أربيل.‏
            عند هذه النقطة تحرك كلنتون تحركه المدفوع القيمة بوصفه ممثل النظام الدولي المرتزق بجدارة، فوجه ضربة لبغداد وللقوات الموجودة جنوبها، باسم صد " العدوان " العراقي على كردستان!؟ وكانت تلك عملية مدروسة ذات أغراض متعددة في مقدمتها شن حملة انتخابية بصواريخ كروز وتعزيز مكانته الداخلية بضربة توجه للعراق، فالدم العربي يلعب دوراً في الحملات الانتخابية الأميركية و" الإسرائيلية " على حد سواء. فالصواريخ الأربعة والأربعين من نوع كروز وتوما هوك التي سقطت بغتة على المواقع العراقية جنوب بغداد بحجة معاقبة صدام حسين على " عدوانه" أدت عملياً إلى: رفع أسهم كلنتون الانتخابية؛ وتأمين جزء من نفقات تلك الحملة، إذ أنها عملية مدفوعة القيمة طوعاً أو كرهاً، ومسوَّقة على الطريقة الأميركية / مالياً / لمن يدفع نفقات الحرب في المنطقة بحجة حمايته / وإنسانياً / لمن يتلقى الدعم ويعمل عميلاً للأميركيين. وقد سبقت العملية زيارة تسويق رسمية قام بها مسؤولون أميركيون لكل من الرياض وعمَّان والقاهرة. وأسفرت العملية عن تمديد خط الحظر باتجاه الجنوب، أي بعكس " الخطر الصدامي المتجه نحو الشمال "؟! وهذا أمر لافت للنظر من جهة ويشير إلى الجهة التي بيعت إليها العملية من قبل مسؤولي الإدارة الأميركية. فقد صرحت تلك الإدارة بعد العملية وفي أثنائها بأنها إنما تحمي مصالحها ومصالح حلفائها وتقضي على قوة صدام حسين التي تهدد جيرانه؟! وقد أشاد نتنياهو بالعدوان الأميركي على العراق.‏
            ولم يوقف ذلك العدوان الاقتتال في الشمال، ولم يمنع من دخول البرزاني المدعوم من صدام إلى أربيل ثم السليمانية، وكان جهد الإدارة الأميركية منصباً على إجلاء رعاياها والعملاء الذين قالت إنهم يخدمون مصالحها؟! وفي هذا درس طازج لمن يريدون أن يقرؤوا الوقائع والمعطيات الأميركية بشكل جيد. لقد أطلق الرئيس كلنتون رشقات كروز تحت شعار " حقاني و إنساني "؟؟ وقبض ثمنها بأشكال مختلفة، ولم تكن تعني له الدماء والكوارث التي يعاني منها مئات ألوف الناس من العراقيين شيئاً ولن تعني له شيئاً ؟!‏
            وسواء أفاحت من ذلك كله رائحة الاستدراج الأميركي لصدام حسين، كما تم على يدي إبريل غلاسبي، أم تم بتقديرات " خاصة " من قبله للموقف الأميركي في زحمة الانتخابات، فإن تلك الفزْعة وخلفياتها أدت إلى أحداث ونتائج ومضاعفات واستنتاجات يحسن بنا التوقف عند بعضها قليلاً:‏
            أولاً ـ على الصعيد العراقي:‏
            * مدت بغداد قدمها إلى أربيل، ومن حقها أن تتجول في كل شبر من أرض العراق وأن تبسط سلطتها على الوطن، فالعراق دولة ذات سيادة ولا يجوز المس بوحدة أراضيه ووحدة شعبه، ومن حقه أن يدافع عن تلك الوحدة وعن سيادته بكل الوسائل المتاحة والممكنة؛ وسواء قام بذلك صدام حسين أو سواه من حكام العراق المحتملين فإنه تصرف مشروع يبقى في حدود الحق والسيادة اللذين يحفظهما القانون الدولي وتحترمهما دول العالم ومواثيقه وشعوبه. ووصول بغداد إلى أربيل بعد الحظر والضغط والقهر معناه: بداية النهاية لمشروع التقسيم الغربي القائم في العراق والمفروض عليه بقوة الأمر الواقع؛ وبداية توقف التدخل الأميركي غير المشروع في الشؤون الداخلية للعراق الشعب والوطن والتاريخ والانتماء؛ وهو تدخل ما كان ليقف عند العراق وما أظنه انتهى لا بالنسبة للعراق ولا بالنسبة لسواه من الأقطار العربية، فمشروع التقسيم الغربي ـ الصهيوني الذي يستهدف إلى جعل الوطن العربي فسيفساء من الطويلات الهزيلة المتناحرة ما زال مستمراً في إطاره الاستراتيجي.‏
            * تصعيد المواجهة ضد العراق في أوقات لا يستطيع فيها هذا لبلد أن يتجاوز محنته التي تنعكس على الشعب ويعاني منها الكبار والصغار.. الشيوخ والنساء، وتحصد آلاف الأطفال سنوياً، وتؤسس لحالات مأساوية صحية واجتماعية سوف تظهر نتائجها الرهيبة على الأفراد والمجتمع بعد سنوات قليلة أكثر مما هي ظاهرة الآن.‏
            وقد جاء ذلك التصعيد في وقت تفاءل فيه العالم نسبياً بانفراج ذي طبيعة " إنسانية " يشمل الشعب العربي في العراق الذي طالت معاناته واشتدت، انفراج تحققه معادلة مجلس الأمن الدولي: النفط مقابل الغذاء. وقد تبدى التصعيد بـ: العدوان الأميركي المباشر على العراق، وبإعلان بطرس غالي إرجاء تنفيذ اتفاق النفط مقابل الغذاء حالياً، وإعادة موضوع القضاء على قوة العراق العسكرية ووضع حد لعدوانية صدام حسين إلى ما يقرب من نقطة الانطلاق السابقة بعد انسحاب العراق من الكويت، مع ما يعنيه ذلك من استمرار العقوبات والحصار والتفتيش والتضييق على الشعب الذي يدفع وحده الثمن القاسي جراء ذلك كله ولا يدفع سواه من الذين تستهدفهم تلك الإجراءات.‏
            * وضع العراق على مشارف مواجهة محتملة مع إيران على أرضية مناصرة بغداد للبرزاني وإيران للطالباني، وهذا بتقديري أقرب ما يكون إلى الفخ الذي يراد منه أن يضع البلدين في مصيدة الحرب الدامية من جديد، وهو منطلق نوع من " الاحتواء " لم تستطع الولايات المتحدة أن تحقق صيغة أفضل منه، فضرب القوتين المكروهتين أمريكياً وإسرائيلياً ببعضهما بعضاً هو أفضل صور القضاء عليهما وعلى ما يشكلانه من " مخاطر " على المصالح الأميركية ـ " الإسرائيلية" وعلى مصالح حلفائهما؛ وإذا ما نجح ذلك النوع من الاحتواء الدموي فإنه يمهد للقضاء على كثير من المشاريع والتوجهات والأنشطة التي لا تطيق الدولة الأعظم رؤيتها في المنطقة، وعلى رأسها التعاون العربي الإيراني و التركي الإيراني في ظل الاستقرار والتفاهم والتواصل البناء.‏
            * انتعاش جماهيري آني يُشْعِر الشعب بالأمل، ولا يلبث إن يلقيه في ساحة من ساحات التردي جديدة، فيفاقم من انهياراته النفسية والروحية والاجتماعية.‏
            ثانياً ـ على الصعيد العربي:‏
            * تم إعلان رسمي شامل تقريباً، لموقف عربي يعبر عن شجب للعدوان الأميركي على العراق، ووصف لذلك العدوان بأنه خرق للقوانين والمواثيق الدولية. وتأكيد تام في ظل ذلك على وحدة أرض العراق وشعبه واحترام سيادته، وأن من حقه أن يحرك قواته داخل حدوده ليحافظ على الأمن في ربوع الوطن، ومن حقه أن يمارس مسؤوليته الشرعية الرسمية عن مواطنيه وحدوده وسيادته؛ ولا يعتبر تصرفه ذاك عدواناً على أحد، فكيف يعتدي العراق على العراق، وهل الأكراد في أربيل والسليمانية ليسوا عراقيين؟! أم أن رجال الـ c.i.a هم أولى بالعراق من أهله ومن أمته، وهم المشرعون حدود الوطن لأبناء الوطن، وهم الذين أصبح من حقهم أن يمنحوا سيادة وطنية واستقلالاً لمناطق من أرض العرب يريدون لها أن تكون أوطاناً فئوية على حساب الوطن والأمة، تنفيذاً للمخطط الذي تتطلع " إسرائيل " إلى تنفيذه في أرض العرب لتكون السيد المهيمن، والدولة الآمنة بضعف كل العرب وخوفهم وقلقهم وتمزقهم ‍‍‍‍‍‍‍؟؟‏
            ورأت الدول العربية أن فعل العراق في أربيل لا يشكل خروجاً على قرارات مجلس الأمن أو الشرعية الدولية، ولا على القرار 688 لأن ذلك القرار لم يمس سيادة العراق ولم ينص على تقسيم أراضيه، ولم يعط الولايات المتحدة أو سواها حق استخدام القوة ضده حينما تشاء وكيف ما تشاء، باسم اجتهادها في تفسير القوانين، الذي يخفي مصالحها وذرائعيتها لممارسة العدوان، وبيع قوتها في سوق الارتزاق الدولي، وتصدير أسلحتها، وقطع الطريق الآمنة على الدول.‏
            وإذا كان أصحاب مشروع تقسيم العراق من الأميركيين وبعض الغربيين والصهاينة والمتعاملين معهم قد تستروا على مشروعهم حتى يتقوى ويُفْرَض بشكل نهائي في غفلة من الناس، فإن رفض العرب والدول المجاورة للعراق ـ لا سيما سورية وتركيا وإيران التي تنبهت للأمر ورفضته وأدانته وبينت خطورته منذ البداية ـ يكفي ليجعل المشروع بحكم الميت، والدول العربية ترفض هذا النوع من العبث بمصير دولة عضو في الجامعة العربية وفي هيئة الأمم المتحدة، كما ترفض العبث بمصير شعب يعاني مر المعاناة منذ سنين تحت سمع العالم وبصره، من غير رحمة أو عدل.‏
            وقد رفضت الدول العربية أن تُسْتَخدم أراضيها منطلقاً للعدوان الأميركي على العراق، كما رفضت أن تشارك قواتها في ضرب العراق وشن عدوان عليه، وهي ترى في الفعل الأميركي المتغطرس عدواناً على الأمة العربية وعلى القانون الدولي والشرعية الدولية.‏
            ثالثاً ـ على الصعيد الدولي:‏
            * وقفت ثلاث من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي هي: فرنسا والصين وروسيا، ضد العملية الأميركية، ورفضت الأسلوب الأميركي الذي جعل مجلس الأمن الدولي ـ منذ حرب الخليج الثانية ـ مؤسسة أميركية أو أرضاً محتلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، تسخره لخدمة مصالحها وسياساتها.‏
            * ظهر تباين واضح في مواقف الدول الأوربية من هذه العملية ومن التصرف الأميركي الذي لا يخدم إلا مصالحه الخاصة؛ وهذه بداية مؤشرات قد تؤدي إلى انفراط عقد التحالفات التي تشكلها الولايات المتحدة الأميركية ضد شعوب ودول تحاول أن تقودها بقوتها العسكرية والاقتصادية وبممارسة أساليب الضغط والترهيب والترغيب عليها.‏
            * تقارب الموقفين العربي والأوربي بشكل عام، في هذه القضية وفي مواقف سابقة، منها الموقف الفرنسي من العدوان الصهيوني المبارك أميركياً على جنوب لبنان / حملة عناقيد الغضب / وموقف الترويكا من لاءات حكومة نتنياهو الثلاث من مسرة " السلام ". وفي هذا تحسس أوربي خاص بالمصالح الأوربية المتعارضة مع المصالح الأميركية، ومحاولة تبين طريق سياسية أقرب إلى الاستقلال.‏
            ولم يأت ذلك خدمة للعرب أو إيماناً بعدالة القضايا، وإنما نتيجة الجشع الأميركي ومحاولة راعي البقر أن يأخذ كل القطعان بالقوة إلى مزرعته، بعد أن سكر بغطرسته، الأمر الذي جعل الآخرين يشعرون بالظلم والخطر، ويفتشون عن وسائل يحافظون بواسطتها على الحد الأدنى من مقومات وجودهم الحيوي.‏
            * تفكير فرنسا بمصالحها الحيوية مع العراق، ولا سيما النفط. وتفكير روسيا بديونها المستحقة على العراق، تلك التي لا يمكن أن تعود مادامت الأنشوطة على عنق الشعب والوطن في ذلك البلد المحاصر ؟‍‍؟‏
            * تفكير تركيا بالخسائر التي تتكبدها جراء الحصار، وبالمنافع التي يمكن أن تجنيها من اتفاقية النفط مقابل الغذاء، تلك التي أرجئ تنفيذها بعد عملية أربيل والعدوان الأميركي على العراق، وبعد تصاعد التوتر في المنطقة؛ وكذلك تفكير ذاك البلد / تركيا / بتنفيذ اتفاقيته الأخيرة مع إيران، وتحسين علاقاته مع الجوار والتخلص من الأوضاع المقلقة في جنوب شرق البلاد.‏
            إن هذه المعطيات والمتغيرات تقود إلى التفكير بما سينتج عنها من أوضاع جديدة في المنطقة، وبما يمكن أن يتمخض عنه الوضع الجديد الذي حدث في شمال العراق الآن؛ إذ البرزاني المؤيَّد من بغداد أصبح هو المسيطر على أربيل والسليمانية، والطالباني تفرقت " على يديه البشمركة " ولجأت إلى أماكن في الجبال وفي إيران، ويبدو أنه أضاع " البرلمان " ولكنه لا يكف عن دعوة الولايات المتحدة إلى ضرب شعب العراق المحاصر بالمزيد من صواريخ كروز معتبراً ذلك عدلاً. وعملاء المخابرات الأميركية أصيبوا بضربة قوية في أربيل، ومئات الآلاف من العراقيين الأكراد يعانون الآن من كارثة إنسانية، بعد كل ما عانوه من ويلات وكوارث في عهود كثيرة ؟؟‍‏
            إن المشكلات القومية والوطنية ينبغي إلا يغيب وجهها الإنساني عن أحد؛ والصراع السياسي يجب أن يحترم حياة الأبرياء وحقوقهم الأولية، والقوى العظمى عليها أن تراعي مكانتها " العظمى " وألا تتحول إلى قوى قرصنة ومرتزقة تقطع الطرق على الشعوب والدول، وتزري بالعدالة والحرية والسيادة والقوانين الدولية، والعرب عليهم أن يكونوا أكثر وضوحاً وصلابة ومبدئية في الدفاع عن ثوابتهم الخُلُقية والقومية والأخوية وإلا أكلتهم وأكلت حقوقهم وأوطانهم القوى المتوحشة، وعلى الذين يرون أنفسهم أوطاناً كاملة، من الحكام العرب، أن يعرفوا جيداً أنهم ليسوا أكثر من مواطنين في أوطانهم كبَّرتهم تلك الأوطان التي هي في نهاية المطاف جموع المواطنين، وأنه يتوجب عليهم أخلاقياً وقانونياً ووطنياً وقومياً أن يقدموا الحساب عن أعمالهم وممارساتهم أمام مواطنيهم لتبقى لهم ولأوطانهم ولمواطنيهم هيبة ومكانة وقوة. فلا يصنع كرامة الوطن وعزته وتقدمه إلا احترام الإنسان والحق والحرية وحقوق المواطنة والقوانين فيه.‏
            فهل ترانا نحسن قراءة التاريخ ودروس الحياة، ونحسن استخلاص النتائج والعبر منها؟؟‏
            لا نعلق كبير أهمية على أن يصبح العنصري الصهيوني أو الأميركي أخلاقياً وإنسانياً وقادراً على رؤية حقه وحق الغير ومصلحته ومصلحة الغير في مناخ من الاحترام؛ ولكن نتطلع بكل الأمل إلى أن يصبح ورثة الحضارة الحقة والشرائع السماوية والثقافات العالية القيمة ذات المكانة التاريخية هم القادرون على تحقيق ذلك، وبالتالي على تحقيق التغيير الكبير في حياتنا من خلال ذلك.‏
            دمشق في 9 / 9 / 1996‏
            الأسبوع الأدبي/ع528//24/9/1996.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              وقائع على الأرض
              بعيداً عن التصريحات السياسية وما يروَّج في وسائل الإعلام، تقوم على الأرض في فلسطين المحتلة حقائق يستعصي معها فهم أي معنى للكلام على " السلام " والحديث عن اتفاقيات سابقة أو محتملة على طريقه مع العدو الصهيوني.‏
              فهناك على الأرض الاستيطان المكثَّف في المدن والمستعمرات القديمة وفي ما يُستحدث من مستعمرات وما ينشأ من طرق تجعل الوجود العربي الفلسطيني في الضفة الغربية على الخصوص مجرد جزر محاصرة باليهود وقواتهم المسلحة وهي بحكم الساقطة عسكرياً بأيدي " الإسرائيليين " في أية مواجهة محتملة مهما كان حجمها أو مستواها، كما أنها خاضعة تماماً للهيمنة الأمنية وتابعة للاقتصاد " الإسرائيلي "، ولا تتمتع أعظم صيغ الاتفاق بأي نوع من الاحترام والاستقرار.‏
              وهناك على الأرض مشروع تهويد القدس وتكثيف الاستيطان في القسم الشرقي منها وفي حي سلوان واستكمال الحزام الاستيطاني حولها من كل الجهات، والاستيلاء على بيوت العرب بالقوة، وإطلاق يد الجمعيات الاستيطانية اليهودية المتطرفة بالتصرف على أن يكون الجيش في خدمتها؛ وفي القدس أيضاً ينفذ مخطط تدمير الأماكن الإسلامية المقدسة أو تهديدها بالتدمير وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي تعرض لأكثر من محاولة، وهاهو اليوم محمول على نفق يهودي يقدم كل الفرص لنسفه من الداخل وجعله أثراً بعد عين في يوم من أيام التعصب الصهيوني القادمة؛ وفي مدينة السلام اليوم رصاص وقمع ودماء تسيل وضحايا كان آخرها سبعة شهداء و/ 300/ جريحاً سقطوا يوم الأربعاء الماضي في مواجهة مع جيش الاحتلال بسبب فتح النفق تحت جدران الأقصى وساحته، وكل ذلك يجعل المدينة المقدسة فعلياً، مادياً ومعنوياً، مباحة لليهود وواقعة تحت سيطرتهم بحكم الأمر الواقع.‏
              وهناك على الأرض الاستيطان الوقح المستمر بغطرسة في الخليل، والإيعاز ببناء ثمانية آلاف شقة سكنية للمستوطنين الصهاينة في المرحلة الأولى من مشاريع شارون والليكود، في ظل عدوان شرس على الناس في كل موقع أو ظرف تراه الفئات المتطرفة الصهيونية ممكناً.‏
              وعلى صعيد آخر وفي جبهة مواجهة أخرى هي جنوب لبنان، وعلى الأرض أيضاً، يستمر القصف الوحشي " الإسرائيلي " للمدنيين ولرجال المقاومة الوطنية اللبنانية بالطائرات والمدفعية، وتُفرض حالة من الإرهاب المستمر على الجنوبيين الذين يعانون الأمرَّين هناك منذ سنوات عديدة بسبب العدوان الصهيوني.‏
              وعلى الأرض يعزّز العدو قواته ويحسِّن وضعه القتالي ويهدد بتوجيه ضربات " ساحقة " للقوات السورية في لبنان وللمقاومة الوطنية اللبنانية وعلى رأسها حزب الله، ويلمِّح إلى احتمال توسيع نطاق ضرباته لتشمل مواقع حساسة في سورية.‏
              وفي الجولان يعزز العدو الصهيوني وجوده العسكري ويجري المناورات العسكرية، وتتخذ قواته وضعاً هجومياً في بعض المواقع، ويهدد بتوسيع نطاق عملياته في الأراضي السورية، ويذكِّر بأن دمشق في مرمى مدافعه؛ ويتخذ هذا التهديد منحى سياسياً ـ عسكرياً وقحاً بهدف " جلب دمشق " بشروط نتنياهو إلى طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلى " سلام مقابل سلام " باستخفاف تام بمرجعية مدريد تعززه مراوغة أميركية تعوِّم هذه المرجعية بوضوح؛ ويغذي العدو الإعلام بتصريحات استفزازية، ويشن حملات كلامية من خلال تصريحات المسؤولين العسكريين والمدنيين، وعلى رأسهم المهووس بيبي نتنياهو رئيس " الحكومة الإسرائيلية ".‏
              والتصعيد السياسي الصهيوني يشمل مصر أيضاً إذ يرى القادة الصهاينة في قيامها بتدريبات ومناورات عسكرية مثل " بدر 96" نوعاً من التهديد لهم، ولا يرون في حشدهم لأنواع السلاح وقيامهم بالتدريب والمناورات العسكرية تهديداً للآخرين وخرقاً للاتفاقيات المعقودة معهم، وكأن مصر والدول العربية الأخرى ممنوعة تماماً حتى0 من الحركة في أثناء حز عنقها بالسكين اليهودي " المقدس "؛ وترتفع حدة التصريحات بين المسؤولين المصريين والصهاينة هذه الأيام إلى درجة لافتة للنظر، وتأخذ منحى سلبياً هابطاً لم تصل إليه منذ اتفاقية كامب ديفيد.‏
              وهناك عربياً الكثير من القضايا المثيرة والخطيرة المطروحة في برامج الصهاينة وحلفائهم الأميركيين وفي مقدمتها مشروع تقسيم العراق ومنح المناطق " الآمنة " في شماله صفة الدولة المستقلة.‏
              على الأرض لا يوجد " سلام " مع العدو الصهيوني ولا اتفاقيات محترمة ولا مناخ ثقة ولا أمل بقيام أي شيء من ذلك، وإذا ما أخذنا الطبيعة الصهيونية العنصرية والتكوين التلمودي لليهودي، والتعلق بالمشروع التوراتي الأسطوري وحشد القوة لتحقيقه، إذا ما أخذنا ذلك كله بالاعتبار، وجدنا أن الصراع بأشكال مختلفة هو الحقيقة الوحيدة القائمة.‏
              على الأرض توجد إذن وقائع هي الأجدر بعرضها ومناقشاتها والتوقف عندها، بعيداً عن الأوهام والأحلام والاتفاقيات والنوايا الطيبة والوساطات والرعايات المدججة بالأقنعة وأحمال النفاق.‏
              على الأرض يعمل نتنياهو وفريقه في المجالات السياسية والعسكرية والعمرانية أعمالاً لا يمكن أن يُستشف منها أي احترام لاتفاقيات أسلافه مع العرب، ولا تنم عن أية رغبة حقيقية في إقامة " سلام " بالمعنى المتداول سياسياً على أساس من أسس مدريد، ولا تشير إلى تقلص النزوع العنصري الصهيوني في ظل الهرولة العربية باتجاه "إسرائيل"؛ ويكاد كل ذلك يصرخ بما سئمنا من الصراخ به عن حقيقة العدو، وحقيقة كون صراعنا معه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأنه لا مجال للتعايش معه تحت كل الظروف، لأنه غريب عن المنطقة، معتدٍ عليها، دخيل فيها والغ في دم أبنائها من جهة، ولأن له مشروعاً استعمارياً استيطانياً توراتياً ـ إمبريالياً، يتعارض ويتناقض كلياً مع وجودنا العربي ومع مشروعنا القومي النهضوي الشامل ومع طموحاتنا القومية وتطلعاتنا.‏
              على الأرض وفي مواجهة الوقائع التي يقدمها الانتشار الإرهابي الصهيوني على أرضنا، يوجد تحرك سياسي وتحريك دفاعي عسكري في القطر العربي السوري يزعج العدو، وتوجد مقاومة في جنوب لبنان تستنزفه وتعلي صوت التحرير وتعلن أن العدو لا يواجه إلا باللغة الوحيدة التي يفهمها ويرتدع بها وهي لغة القوة، وأنه لا تحرير للأرض إلا بالقوة التي تعيد الحق والكرامة والمكانة معاً.‏
              في المجال العربي المحيط يوجد كلام معظمه لا يوقد شمعة في الظلام ولا يساعد شمعة ترفرف في العاصفة على استمرار الاشتعال، ويوجد تواطؤ خطر وقذر مع العدو يرفع رأسه من آن لآخر وفي أخطر الظروف من بعض رؤوس الحكم، ومنها الأردن للأسف الشديد، وقد عودتنا تلك الأشداق على أن تنهشنا في الشدائد، ومن ينسى منا كلام الكباريتي مثلاً في قمة شرم الشيخ حين وصفنا في سورية بالإرهابيين ليرضي بيريس وكلنتون بإيعاز من سيده؟! ومن تراه ينسى كلامه الأخير للصحفيين الأردنيين الذي يفيض حقداً وممالأة للعدو الصهيوني حتى في هذه الظروف، ويرمي إلى التشكيك بمواقف سورية في الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني أنه لم يبق إلا الموقف المشرف لسورية في وجه المشروع الصهيوني الممتد في أقطار وسياسات عربية وفي ظل الانهيارات العربية المتلاحقة، وأنه إذا سقط موقف دمشق ـ لا سمح الله ـ فإن الموقف العربي كله يسقط بسقوط موقفها ؟!؟‏
              الوقائع على الأرض تشير إلى أن سورية المحاصرة بأشكال من المخاطر والعداوات والاستفزازات تستنفر قواتها وتنظر بحذر ويقظة إلى المصدر الأول للخطر: " " إسرائيل " "، وتستمر في أدائها السياسي المتميز متمسكة بمواقفها وثوابتها المبدئية والقومية، وهذا موقف يستحق التقدير ويحتاج إلى تعزيز مقومات بقائه وما ينطوي عليه من صمود ويطرح ضرورة امتلاك أدوات المواجهة وقدراتها ومستلزماتها، فالتقدير والاحترام.. وكل الصفات الأخرى على أهميتها وقيمتها لا تُصْرَف في أرض المعركة ولا تعني شيئاً كثيراً في عالم يحكم بمنطق القوة والمصلحة ولا يقيم وزناً للحق والأخلاق والمبادىء وأصوات الجماهير.‏
              على الأرض تواجه سورية احتمال شن عدوان " إسرائيلي " عليها انطلاقاً من لبنان، وسيكون وحشياً ومؤذياً في الظروف العربية والدولية الأخيرة، وتتعرض المقاومة الوطنية اللبنانية عملياً إلى عدوان مستمر.‏
              صحيح أن العدوان المحتمل سيؤدي إلى رد سوري محتمل وإلى غضبة عربية كبيرة ومفيدة، لكنها غضبة قد لا تلغي التطبيع الفعلي / السياسي والاقتصادي والثقافي / الذي يقوم بين " إسرائيل " وبعض الدول العربية فيما أقدِّر، وقد لا تؤثر على حرارة اللقاءات الرسمية في المحافل الدولية بين ممثليها وممثلي تلك الدول.‏
              ولكن ذلك الرد وتلك الغضبة العربية لن يوازيا فتك آلة الدمار الأميركية المستخدمة انطلاقاً من فلسطين المحتلة، ولن يخففا من وطأتها عندما تتحرك؛ وعلى ذلك فلا بد من التفكير بشيء يقوم على الأرض في مواجهة ما ينفذّه العدو ويعدُّه على الأرض، سواء ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة أو ضد اللبنانيين في جنوب لبنان أو ضد السوريين، فما هو ذلك الشيء المحتمل والمطلوب في آنٍ معاً ؟‍؟‏
              العرب الذين استيقظوا بالأمس القريب على الدم والمواجهات بين الشرطة الفلسطينية وجيش الاحتلال الصهيوني حاولوا بحياء أن يلوحوا لنتنياهو بتأخير فتح مكاتبهم التجارية في تل أبيب، أمّا الذين لديهم تمثيل دبلوماسي فلم يفكروا حتى في استدعاء السفراء للتشاور؛ ودعت الجامعة العربية إلى اجتماع غير عادي للمندوبين الدائمين سيخرج ببعض الكلام الحار، ولكن الكلام الحار لا يقلي بيضاً ولا يشفي جرحاً ولا يشبع طفلاً جائعاً ولا ينقذ بيتاً فلسطينياً أو لبنانياً من الهدم، ولا يمنع جيش الاحتلال من إطلاق النار على الأطفال الفلسطينيين.‏
              وإذا كان العرب لا يستطيعون في الظروف الحالية أن يجردوا جيوشهم للدفاع عن الأقصى، أو قدراتهم لتعزيز موقف سورية المهددة بالعدوان، أو أن يعملوا شيئاً ما لحماية سكان جنوب لبنان من عناقيد غضب جديدة ومن " قانا" أكثر شدة وجدة وبشاعة هناك؛ فليبادروا على الأقل إلى:‏
              ـ إلغاء قمة القاهرة الاقتصادية التي لا يستفيد منها بالدرجة الأولى إلا المتغطرس نتن ياهو وأعضاء حكومته من جنرالات الحرب المسؤولين عن مذابح بشعة جرت ضد المدنيين العرب لم تذكرها هيئات حقوق الإنسان ولن تذكرها، لأنها بكل بساطة لم تجر بحق اليهود وهي لا ترى في غير اليهود بشراً لهم حقوق يُدافع عنها بوصفها حقوق إنسان !؟.‏
              1 ـ إعادة الحياة عملياً لمكتب مقاطعة " إسرائيل " وإعادة الحصار الاقتصادي المفروض عليها عربياً، ذاك الذي لم يتخذ قرار عربي فعلي برفعه وإنما بَرَعَتْ بعض الأنظمة العربية بخرقه، ولم تر في خرق الحصار الظالم المفروض على الشعب العربي في العراق والجماهيرية مكرمة يُرغب فيها كما لم تر في قرار الجامعة العربية القاضي المطالب برفع ذلك الحصار عن البلدين العربيين مشجعاً لها على خرقه؟! وتلك من تناقضات عرب هذا الزمان الجديرة بالتأمل العميق.‏
              2 ـ وضع خطة مواجهة سياسية عربية موحدة لمواجهة ما يجري على الأرض من تحديات ومواجهات وممارسات عدوانية، ومن استهتار بالحق والدم العربيين، والقيام بجهد عربي منسق في المجالات الدولية، ليكون في ذلك نوع من الأداء المناسب في الوقت المناسب لمصلحة الأمة وقضيتها المركزية؛ ونهي الحكومات العربية المتحالفة مع العدو الصهيوني، تلك التي تلعب على حبلي الداخل القومي والخارج الغربي ـ الصهيوني، نهيها عن العبث والافتراء وافتعال الأزمات مع الأقطار العربية التي تتعرض للتهديد والمواجهات الفعلية مع العدو دفاعاً عن القضايا القومية؛ وفرض هيبة الجامعة العربية والقمة العربية وتأثيرهما في هذا المجال، لكي تسود أخلاق عربية مناخَ العلاقات العربية ـ العربية، وإلا فما معنا أن نكون أبناء أمة واحدة، وأن تجمعنا مواثيق وأصول وأهداف وقضايا؟! وما معنا أن نلتقي إذا كانت قلوبنا مشحونة غلاً وكانت عقولنا لا تسجل إلا ما قد نشي به للعدو على أخينا إذا ما هزنا يوماً أخونا ؟!؟.‏
              3 ـ دعم عودة الانتفاضة المباركة للعمل في فلسطين المحتلة، وتوفير أشكال الدعم والمناصرة العمليين لها؛ ووقف ملاحقة أعضاء تنظيم حماس والجهاد في داخل فلسطين من قبل شرطة عرفات، والتوقف عن منعهم من القيام بعمليات ضد العدو بحجة أنها تعيق عملية السلام، فلا يوجد سلام فعلي مع العدو وإنما يوجد استغلال فعلي من قبل العدو لما يسمى مناخ السلام ليقوم في ظل ذلك بتهويد القدس وتكثيف الاستيطان وتخريب العلاقات العربية وتفتيت الصلات والعلاقات داخل البيت الفلسطيني ذاته، وتسخير الفلسطينيين لقتل الفلسطينيين وتصفيتهم وملاحقتهم تحت ذرائع شتى كلها مرفوضة ومشبوهة. وقد آن الأوان لوضع حقيقة أن مواجهات الشعب العربي الفلسطيني للعدو المحتل واحدة وواجبة كما تؤكد الأحداث والمعطيات اليومية؛ وتعطيل القرار الأميركي ـ الصهيوني بتصفية المقاومة الوطنية للاحتلال، التي يسميها إرهاباً ونسميها مقاومة وطنية مشروعة ومقدسة ضد قوى الاحتلال العنصري لفلسطين كل فلسطين هو واجب مقدس.‏
              4 ـ رفع الحصار الفعلي المضروب على من يريد أن يقاوم العدو الصهيوني في الوطن العربي بكل الوسائل ـ ومنها وسيلة نشر الوعي بذلك ـ حتى لا تتعطل طاقات فعالة على طريق الحرية والتحرير، وحتى نمارس بوعي مسؤولية العمل القومي بأفق قومي ومسؤولية عربية شاملة وضمير حي وحس قومي.‏
              إن ذلك الذي أشرت إليه لا يلغي حقيقة إن الاستعداد والإعداد العسكريين والعلميين والتربويين لأبناء الأمة لمواجهة العدو ينبغي أن يستمرا وألا يتوقفا أو يتقلصا، فذاك هو الأساس، ولن يهابنا أحد على الإطلاق إلا إذا ملكنا قوة تفرض هيبتنا في عالم لا يفهم إلا لغة من يملك ومن يقدر.‏
              فهل نحن فاعلون قبل فوات الأوان؟! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل فمنه الهدي والعون ومنا العمل والأمل.‏

              دمشق في 26 / 9 / 1996‏

              الأسبوع الأدبي/ع530//28/9/1996.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                دم الفلسطينيين وذكرى تشرين
                الوجه القبيح للصهيونية، الذي تجسده ممارساتها، يبرز على حقيقته دون زينة أو أقنعة ويقدم نفسه بوقاحة ظاهرة للعالم من آن إلى آخر، ورغم أنه دائماً يوغل في العنصرية ويلِغ في الدم ويفيض تعصباً فإنه يلقى من يجمّله ويستر عيوبه ويدافع عن نزوعه البغيض للسطو والإرهاب وتزييف الحقائق وقلب الوقائع.‏
                وإذا كان شمعون بيريس وسلفه قد قدَّما في السنوات الأربع الماضيات قناعاً مزركشاً توِّج بجائزة نوبل "للسلام" على الرغم من التاريخ الأسود لكل منهما، فإن شامير قبْلهما ونتنياهو بعدهما قدَّما ذلك الوجه من دون أقنعة. وفي الأحوال جميعاً كان الوجه السافر والقناع المزركش يخدمان الأهداف الحقيقية للصهيونية واستراتيجيتها الاستيطانية ـ التوسعية ـ العنصرية.‏
                شامير يذهب إلى مؤتمر مدريد ليضمر مناورة ومداورة تمتدان عشر سنوات ـ إن أمكن ـ من دون أن يقدم شيئاً للعرب إن استطاع، وبيريس ورابين يستمران في الاستيطان ويشقان ما يسمونه نفق "الحشمونيين" تحت باحة المسجد الأقصى ويقرّان الخطط لتهويد المدينة، ويطوّقان القرى والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة بالطرق الاستيطانية والمستعمرات؛ ونتنياهو يفتح النفق بعد أن يكمله، ويعمل على تنفيذ المزيد من المستوطنات والطرق، ويحْجم عن الانسحاب من الخليل أو عن إعادة نشر القوات المحتلة فيها، ويعلن لاءاته العديدة التي تصل في مدلولاتها ومراميها وترجمتها الواقعية ـ العملية إلى: إلغاء "عملية السلام" وطلب إعادة النظر في الاتفاقيات التي سبق وعقدها حزب العمل من خلال رابين وبيريس. ويقوم شامير من سباته ليعلن أن "إسرائيل لا تخل بأية التزامات دولية حين تطلب إعادة النظر في اتفاق أوسلو لأن هذا الاتفاق لم يعقد أصلاً مع دولة".‏
                وهذا يعني صب المزيد من الماء البارد على أقفية أهل "أوسلو" وصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة في الشارع الفلسطيني، وتقديم حجة لنتنياهو الموجود في واشنطن للاجتماع بعرفات من أجل إحياء الميت ودفن الجثث الحية في الضفة وغزة وفي أماكن أخرى من العالم.‏
                إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها فلسطين المحتلة، والتي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى تقدم درساً لا يمكن التجاوز عن معطياته والقفز فوق ما يقدمه من دلالات.‏
                وإذا كان قادة الاحتلال العنصري يحمّلون عرفات مسؤولية ما حدث ـ على عادتهم في قلب الأمور رأساً على عقب ـ ويصرخون بأعلى الصوت متذاعرين من استخدام الشرطة الفلسطينية للسلاح الفردي الذي يحمله أفرادها، ويعلنون عن كارثة ونكث في العهود والمواثيق لأنهم إنما قدموا لعرفات ثلاثين ألف قطعة سلاح فردي ليستخدمها ضد حماس والجهاد الإسلامي وليقمع الانتفاضة وليجعل الشارع الفلسطيني تحت السيطرة الصهيونية وليس ليوجه ذلك السلاح إلى "جنود جيش الدفاع الإسرائيلي" كما يقولون؛ فإن على عرفات ـ وهو في المحنة الامتحان ـ أن يسأل نفسه هو وبقية أهل أوسلو: لماذا وافق على أن يلبَس قناعاً يوحي بأنه سيكون ضد فئة من شعبه ترفض "السلام الصهيوني" المزيف ولا تقبل باتفاقية تفرط بالحق الفلسطيني، وهو يعرف جيداً من خلال تاريخ الصراع أنه لا ثقة بالأفعى الصهيونية، وأن الوجه والقناع اللذين لها لا فرق في النتيجة بينهما!؟!‏
                وتقدم تلك الأحداث لأبناء الأمة العربية ولقادتها حقيقة التوجه العملي للسياسة "الإسرائيلية" القائمة على عنصرية يمليها التلمود ويقودها "يهوة" وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية والقوى المتصهينة على أرضية دينية أو استعمارية؛ وهو توجه يرمي إلى الاستمرار في تنفيذ المشروع الصهيوني "إسرائيل التوراتية" على مراحل حسب الحال والاحتمال والاستيعاب وامتلاك الوسائل والقوة والإمكانات؛ وأن كل الاتفاقيات التي تعقدها ما هي إلا درجات في سلم يؤدي إلى دولة من النيل إلى الفرات، ويتم تغيير تلك الدرجات والسلم ذاته إذا استدعى الأمر ذلك من أجل تحقيق الهدف؛ ويمكن في أي ظرف وأي وقت أن تقوم "إسرائيل" برمي الاتفاقيات في سلة المهملات وتقديم المبررات والذرائع للقيام بعمل عدواني يحقق جزءاً من أهدافها أو برنامجاً من برامجها على الأرض!!؟.‏
                لقد سال الدم الفلسطيني على طريق القدس عشرات المرات ولكنه سال في الأسبوع الماضي عبر نفق "أوسلو" المظلم ليضيء في نهاية النفق معلناً عن الخديعة والتواطؤ والعجز. ولم يكن ذلك جديداً على كل الذين رفضوا أوسلو ونبهوا إلى خطورة التواطؤ مع العدو ضد الحق والشعب، أو إلى خطورة التسليم بأن الصهيونية يمكن أن تغيّر نجلدها ومشروعها اعتماداً على ذلق اللسان وعلى الأوراق الممهورة بتواقيع وأختام وشهادات رؤساء دول، ما هم في الواقع إلا القناع لوجه الصهيونية الحق، والأداة التي تمتد لتخدمها، من ريغان إلى بوش إلى كلنتون صاحب الزهو الأبيض في البيت الأسود أو الزهو الأسود في البيت الأبيض !؟.‏
                ومن الدروس المستقاة من أحداث الأرض المحتلة درس لا يجوز أن يضيع في ضجة الإعلام والعتمة السياسية المفروضة، وهو انتماء الشرطي الفلسطيني للشعب والقضية وليس لعرفات وقيادات الحكم الذاتي عند اللزوم؛ وحين رأى ذلك الشرطي الدم الفلسطيني يسيل والبنادق والدبابات والطائرات "الإسرائيلية" تلاحق الأصوات والأجساد التي ترفع صوت القدس وتدافع عنها، وجه سلاحه إلى حيث ينبغي أن يوجهه، وعرف العدو الذي لا يمكن أن يكون إلا عدواً، وسقط "إخاء الدوريات المشتركة" ليبرز انتماء الجسد والعقل والروح والوجدان للتاريخ والشعب والعقيدة.‏
                وهذا مؤشر للطرفين وللقيادتين في الموقعين: الفلسطيني والصهيوني المحتل، مؤشر يقول: لا يمكن أن تقوم ثقة بين الضحية والجلاد، ولا يمكن أن ينسى الفلسطيني أرضه وتضحيات شعبه والمعاناة التي تعرض لها، كما أن الأفعى الصهيونية لن تتقن إلا الغدر واللدغ ونفث السموم، فكيف السبيل إلى ثقة وتعاون واطمئنان من أي نوع؟! وكيف السبيل إلى السلام مع وجود احتلال ومشروع صهيوني تؤمن به عناصر عديدة تفرِّخ أفكاراً وأجيالاً وسياسات، وتعمل له قوى في مواقع كثيرة بأساليب عديدة!؟ وكل من يعمل لذلك ويؤمن به يتشوق إلى سفك دم العرب بتلذذ ليصل إلى ما يريد ويقدم نفسه "بطلاً" يُرفع أنموذجاً!؟ وما علينا إلا أن نتذكر "باروخ غولد شتاين" والمزار الذي له، وحديث الجنود الصهاينة الذين قاموا بمذبحة قانا، وهو حديث منشور معروف"!؟.‏
                ليس نتنياهو، الذي يدفع "لاءاته" بوجه العرب والفلسطينيين والعالم من حوله، ليس وحيداً وليس صوتاً في الفراغ، إنه الأحمق المهووس بالقتل والحرب والبطولة نعم، ولكنه أيضاً الذي انتخبه 55% من اليهود المحتلين لفلسطين العربية؛ والذي يقود "انقلاباً ديمقراطياً"، إن صح التعبير، يقف وراءه "جنرالات" الحرب في الدولة العنصرية؛ وهو واجهة سياسية للإرهابيين: شامير ـ شارون ـ ايتان... الخ. ومعنى هذا أن التيار الذي يعزز الصهيونية ويعود إلى برنامجها المتشدد، كلما خَبَت جذوة ذلك البرنامج، هو الأقوى وهو القوة المؤثرة، وأن البقية ليسوا ضده وإنما يختلفون معه في الوسائل والأساليب. وعلى ذلك فإن:‏
                1 ـ لاءات نتنياهو بوجه الفلسطينيين والسوريين والعرب والعالم هي التعبير الأوضح عن التيار الأكثر صراحة في الكيان الصهيوني.‏
                2 ـ اتفاقية أوسلو لا وجود لها عملياً، لأن الأمر الواقع يحفر تحت كل بند من بنودها المهترئة، على الرغم من كل ما فيها من تفريط وذل ومهانة وتواطؤ.‏
                3 ـ اتفاقية وادي عربة مع الملك حسين مناورة مدروسة لابتلاع فلسطين وتصفية القضية وتطويق الشعب الفلسطيني وطرده بشكل مباشر أو غير مباشر إلى وطن بديل سوف يتم الإعلان مجدداً عن أنه الأردن عندما يحين الوقت الملائم. وعندما يؤدي النظام هناك دوره في تفتيت الصف العربي، و" يحمي نفسه" بالانضمام إلى حلف الأطلسي؛ يبقى الملك ويذهب العرب وكل ما يتعلق بقضيتهم وأمتهم في تلك المساحة المؤثرة من أرض العرب.‏
                4 ـ اتفاقية كامب ديفيد التي تعصف ببنودها دوامة الشك الداخلية وتنيخ بثقلها على ضمير مصر الشعب والحكم، وتتصدر القيادة من دون أن ترضي الصهيوني المتشدد أو تفوز منه بأية درجة من المصداقية ـ فقد غير نتنياهو أقواله حول الخليل مع الرئيس مبارك، ولم يجد الرئيس مبارك أية جدوى من المشاركة في قمة واشنطن في ظل لاءات نتنياهو ونكثه للعهود وتزييفه للوقائع ورفضه الالتزام بالاتفاقيات المعقودة ـ هي الأخرى موضوع تساؤل مطلق في أية لحظة قادمة من الزمن؟! وليس بعيداً عنا ذلك اليوم الذي استهجنت فيه حكومة نتنياهو قيام الجيش العربي المصري بمناورات /بدر 96/ أو حيازته على صواريخ من بلد آخر؟! وكأن المفترض بمصر أو بأية دولة عربية تعقد اتفاقاً مع "الكيان الصهيوني" أن تلتزم بألا تدافع عن نفسها أو تدرب جيشها أو تملك أدنى حدود القوة، حتى لا تعيق تقدم "إسرائيل" ضمن حدوده القصوى نحو امتلاك القوة التي تهيمن بها على المنطقة كلها.‏
                ـ لقاء واشنطن لن يقدم للعرب والفلسطينيين إلا ما سبق أن قدمه لهم منذ أيام في مجلس الأمن الدولي، حينما وافقت الولايات المتحدة الأميركية على مشروع قرار يصدر بالإجماع حول الأحداث التي جرت في فلسطين المحتلة، ثم امتنعت عن التصويت على القرار لأنها لا يمكن أن تقف ضد "إسرائيل" في أي ظرف وأي زمن. وسوف يناصر كلنتون صديقه الجديد نتنياهو حتى لا يترك لبوب دول وحده فرصة مناصرته؛ وهو عملياً يقوم بدعاية انتخابية سيدفع ثمنها الفلسطينيون، كما قام بدعاية انتخابية سابقاً بصواريخ كروز دفع ثمنها الشعب العربي في العراق جوعاً وتهديداً.‏
                كل هذا يملي علينا أن نفكر بجدية تامة بحقيقة أن الكيان الصهيوني سواء قاده الليكود أو حزب العمل أو تحالفٌ منهما أو أية أحزاب أخرى لا يمكن أن يتخلى عن طبيعته العنصرية ومشروعه الاستيطاني ـ التوراتي، ونزوعه العدواني، ودمويته التي تسفر دائماً عن ضحايا من أبناء أمتنا.‏
                وأن هذا الكيان لا يمكن التعايش معه في ظل أي اتفاق أو أي "سلام"؛ وأن السلام لا يمكن أن يستتب في هذه المنطقة مع وجود سيادة "إسرائيلية" في فلسطين العربية ومع وجود احتلال وقيادات صهيونية ترتاد للاستعمار ويدعمها الاستعمار وتحقق مصالحها ومصالحه على حساب شعبنا وحقوقنا ومصالحنا ومستقبلنا. وأن مسار التفاوض معه لا يمكن أن يؤدي إلى نجاح لا سيما على المسار السوري ـ اللبناني، لأنه يريد محو الإرادة السورية والحضور القومي المتبقي من خلال محو مشروعها وهيبتها.‏
                ولما كانت غير مهيأة لذلك وغير مستعدة له، ولا يمكن أن تقبل بذهاب أرضها أو بذهاب جزء من تلك الأرض ولا بغياب بعدها القومي وتأثيرها الفعال، ولا بغياب البعد القومي للقضية الفلسطينية ومن ثم حقوق الفلسطينيين الملزِمة للعرب، وعروبة فلسطين الملزمة للأمة كلها، ومكانة القدس الملزمة للعروبة والإسلام معاً؛ فإنها لا بد أن تجد نفسها دائماً خارج خطوط الوفاق والاتفاق والتعاقد والتعاهد مع الكيان الصهيوني وممثليه ووكلائه ووسطائه، الذين هم في نهاية المطاف وحقيقة الأمر بعض أقنعة ذلك الوجه البغيض. وهذا يملي علينا أن نفكر تفكيراً مغايراً وننهج نهجاً مغايراً يستفيد من الصراع ودروسه وممن عقدوا "اتفاقيات" ثم ألقيت في وجوههم. وحيث أننا عشنا التهديد الصهيوني ونعيش ظروفه، وجربنا الحرب وذقنا طعم الهزيمة والنصر، فإننا، ونحن في الذكرى الثالثة والعشرين لحرب تشرين التحريرية مطالبون بتعزيز روح تشرين وإحياء دروسها وإعلاء شأن عِبَرِها وأبطالها وتضحيات شعبنا فيها؛ لأننا لا نملك إلا طريق تشرين التحرير، طريق التضحية والبطولة والقوة، لتحرير الأرض ودفع العدوان، وردع الطمع الصهيوني بأرضنا وحقوقنا وأمتنا.‏
                إن مناخ الأيام التي سبقت حرب تشرين 1973 هو الذي يسيطر على المنطقة الآن، ويتضخم في الجولان وجنوب لبنان وداخل الأرض المحتلة، ويظهر في أكثر من مجال وتنبعث رائحته وملامحه في أكثر من موقع؛ وليس أمامنا إلا أن نستثمر ذلك المناخ ببعد نظر وروية ومسؤولية قوميتين، لا لنخوض حرباً في غير توقيتها والشروط التي تلائمنا لخوضها، ولكن لندرك أن الحرب ستفرض علينا من قبل العدو الذي لن يغير طبيعته العدوانية، ولندرك أيضاً أنه ليس أمامنا إلا الحرب مستقبلاً لنستعيد الحق والأرض والكرامة، ولنرسخ السلام الحق في أرض السلام؛ أرض العرب والديانات السماوية.‏
                وإذا كان لنا أن نقرأ من جديد مع الشقيقة مصر، ومع أقطار عربية أخرى، حرب تشرين ونستخلص منها العبر، ونتوقف عند ما كان من سلبيات وإيجابيات فإننا إنما نضع أقدامنا على الطريق التي تاهت لسنوات من تحت تلك الأقدام أو تاهت تلك الأقدام عنها، فلا طريق سواها تؤدي إلى الحق والأرض والقدس والكرامة.‏
                وعلى الذين تفرجوا طويلاً على عرب تشرين التحرير، وابتعدوا كثيراً عن روح تشرين وحقائقها ودروسها ووقائعها ونتائجها، أن يعيدوا النظر ويتقنوا القراءة وإجراء الحسابات في ضوء المصلحة القومية وحاجة أبناء الأمة إلى الخلاص من الذل والموت وأشكال المحو والمعاناة والغياب. وفي هذه المناسبة وفي هذا اليوم أتوجه بالإكبار والتحية إلى شهداء الأمة العربية على طريق فلسطين، وإلى شهداء تشرين الذين أعادوا الثقة لأمة فقد أبناؤها الثقة بها، وشقوا طريقاً تدعونا إلى السير فيها لأنها الطريق الوحيدة للمستقبل الكريم. والتحية أيضاً لمن يتمسكون بخط تشرين وبأهداف الشهداء، ولا يرخصون ذكراهم ولا دماءهم ولا الأهداف التي ضحى أولئك الأبطال من أجلها، فكانوا فعلاً: أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر.‏
                2/10/1996‏

                الأسبوع الأدبي/ع531//5/ت1/1996.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  القهر لن يصنع سلاماً
                  بعد عملية بيت ليد / آذار 1996 / صرح أحد وزراء الحكم الذاتي لجريدة المجد الأردنية / عدد 6 آذار / " بقوله: " إن اتفاق أوسلو وصل إلى نقطة الصفر " وأضاف " إن أوسلو قد غرق في دماء قتلى عملية بيت ليد، وأن سلطة الحكم الذاتي باتت عاطلة عن العمل، وتلعب في الوقت الضائع بعد أن ركب رابين رأسه وأصر على أن أمن " إسرائيل " أولاً، وليس غزة أريحا أولاً... إننا الآن بصدد البحث عن قاطرة لانتشال اتفاق أوسلو من المأزق... "‏
                  كان هذا في عهد حزب العمل بزعامة إسحق رابين كاسر عظام أبنائنا من شباب الانتفاضة، " بطل السلام الصهيوني "، والصديق الحميم لقيادات عربية ذرفت عليه الدموع، وحامل جائزة نوبل لسلام أوسلو من أوسلو ذاتها؟! واليوم في عهد بيبي نتنياهو وبعد المواجهات التي نشأت على أرضية " لاءاته " الكثيرة وغطرسته وبسبب فتح النفق قرب المسجد الأقصى في القدس؛ يغرق اتفاق أوسلو من جدد في دماء الفلسطينيين الذين سقطوا في مواجهات النَّفق. ويبدو إن توجيه أسلحة الشرطة الفلسطينية التي كان متفقاً مع عرفات على ألا توجه للإسرائيليين وإنما لحماس والجهاد الإسلامي، كما صرح بذلك المسؤولون الصهاينة علناً، يبدو أن ذلك قد دمر جسور الثقة بشكل نهائي وتحقق ما قاله إسحق رابين: " إن هذه العملية ـ يقصد سلام أوسلو ـ ستموت في اللحظة التي توجه فيها البنادق إلينا "؛ والآن يقول كل طرف من أطراف اتفاقيات الإذعان: لقد وصلت الأمور إلى طريق مسدودة، والعملية السلمية مهددة بالانهيار، وحتى صديق رابين ونتنياهو الأوفى الذي كان أكثر المتألمين لموت الأول وأشد المرحبين بمجيء الثاني إلى السلطة، الملك حسين قال: " نحن على حافة الهاوية وبغض النظر عن أفضل جهودنا فقد نكون على وشك السقوط فيها جميعاً "؛ وكان مسكوناً بالخوف ومسكوناً بالغضب في واشنطن لأن: " المتطرفين ومثيري الحرب هم المنتصرون اليوم " على حد تعبيره !؟! فهل نحن على مشارف مرحلة جديدة من عودة الوعي؟! أم ترانا على مشارف مرحلة جديدة من دفاع النعام ورمال بلادنا كثيرة بحمد الله تكفي لدفن ملايين الرؤوس ؟!.‏
                  ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه البارحة بالعقد الماضي من الزمن وبكل عقود هذا القرن، فطريق الدم تجدد متونها دورياً لتبقى عامرة بحقائق تغذي الذاكرة والوجدان وتقدم هذا الصراع على حقيقته: صراع وجود؛ ما أشبه حوادث النفق بـمذبحة " قانا " وما أشبه " قانا " بمذبحة الحرم الإبراهيمي، حيث توهجت عنصرية " " إسرائيل " الدموية " على يدي باروخ غولدشتاين، وما أشبه ذلك بصبرا وشاتيلا يوم جدد الوزير في حكومة نتنياهو أرئيل شارون طريق الدم طريق المجازر التي ارتكبتها الصهيونية بحق العرب؛ ما أشبه صبرا وشاتلا بمذبحة الأقصى وحريقه ثم بسلاسل المذابح إلى أن تصل كفر قاسم ودير ياسين وقبية وقرية الدوايمة، وتقود تلك الطريق إلى جسور توصل الماضي القريب بالماضي السحيق حيث مذبحة أريحا الأولى ومذابح يشوع، عبر سلاسل من الأفعال والمؤامرات المخزية يتصل بواسطتها الماضي اليهودي الأسود، بالحاضر الصهيوني الأشد سواداً في تاريخ اليهودية التلمودية؛ التي يقول ممثلوها اليوم بغطرسة فظيعة وهم يعيدون تقليب الأمور ويفتشون عن طرق بعد مجزرة نتنياهو عند أعتاب نفق القدس: " لا يوجد سوى الأخذ بالأمر الواقع القائم والذي ينبغي أن يستمر، وهو بكل بساطة واضح تماماً: نحن داود وهم جوليات " في إشارة إلى تفوق داود على جوليات العربي قديماً، أي أنها طريق القوة والقهر والاستعداد للحرب في ظل ما يسمى بالسلام !؟!.‏
                  فما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه هذا العقد من الزمن بالعقد الماضي يوم كان الإرهابي بيغن يمضغ حقده ويأمر بتدمير العرب، ويخوض ضدهم حروباً قذرة انصبت على لبنان وسورية وأدت إلى احتلال بيروت وفرض اتفاق السابع عشر من أيار 1982، بعد تحييد مصر بسلام " كامب ديفيد "؛ وهو حلم وبرنامج عمل لليكود اليوم يتمنى نتنياهو أن يحققه بكل الوسائل، من خلال طرحه لمشروع " لبنان أولاً " الذي رفضته سورية ورفضه وجه لبنان العربي المناضل اليوم!؟ وما أشبه العقد الماضي بعقد الإرهابي دافيد بن غوريون، وما أشبه.. وما أشبه.. وما أشبه، إلى أن تصل السلسلة إلى هرتزل الذي ما زال حياً في عقل وذاكرة كل صهيوني، خارج فلسطين المحتلة وداخلها.‏
                  فكل عقود هذا القرن الذي شهد تنفيذ المؤامرة الصهيونية ـ الغربية / أوربا كلها، غرباً وشرقاً، والولايات المتحدة الأميركية معاً / على العرب وعلى فلسطين خاصة من بين أرض العرب؛ كل تلك العقود من الزمن هي عقود تهيئة للعدوان وممارسة صارخة له، وتثبيت لمعطيات الأمر الواقع المفروض بالقوة على الأرض في السياسة وفي أذهان الناس، وقد تم ذلك بتواطؤ شمل الأمم المتحدة ذاتها، التي كان أول أمين عام لها عميلاً رسمياً " لإسرائيل " زودها بأخطر الوثائق وساعد على تمكينها من رقاب العرب آنذاك.‏
                  ومن الطبيعي أن يكون في قلب هذه السلسلة الكالحة بيبي نتنياهو الذي يقوم اليوم بتعزيز الصهيونية والاستيطان والهيمنة والنزوع العنصري في كل المجالات، ويكثر في الوقت نفسه من الحديث عن السلام للتغطية والمراوغة وكسب الوقت لصنع حقائق على الأرض؛ بعد أن قدمه ضباط في جيش الاحتلال ليمارسوا معه ومن خلاله استمراراً لمشروع الصهيونية المتكامل عبر مرحليات زمنية ملائمة ومنطق يلائم المرحليات. ومن الطبيعي أيضاً أن تتكرر المذابح والمراوغة والمواقف والأقوال والأفعال المؤدية لخدمة المشروع الصهيوني بأشكال متشابهة وبوتائر متصاعدة كل عدد من السنين.‏
                  وسواء تم ذلك في عهد الليكود أم في عهد حزب العمل فليس هناك من فرق فهما وجهان لعملة واحدة، ونهجان يؤديان إلى تحقيق الأهداف ذاتها!؟ فهل يتعظ العرب يا ترى ويستخلصون من التاريخ عبراً، ويختارون نهجاً استراتيجياً بعيد الأمد يقوم على منطق وحيد تفهمه " إسرائيل " جيداً من دروس تشرين، ويعطي لهم ولكلامهم قيمة ومعنى، هو امتلاك القوة وسلوك طريق التحرير!؟؟‏
                  قبل أيام من الانتخابات " الإسرائيلية " القريبة / 1996 / كان شمعون بيريس يخوض في دماء أطفال " قانا " ليرد على ادعاءات الليكوديين بأنه لا يعير " أمن الإسرائيليين " عناية كافية، وليخوض على أرضية ذلك انتخابات ناجحة في ظل تشدد ظاهر في مقدمته الحرص على الأمن ومواصلة الاستيطان والإعلان المدوِّي بأن القدس هي العاصمة الأبدية " لإسرائيل " وأنها لن تقسَّم أبداً وأنه لا مجال لقيام دولة فلسطينية ولا سيادة فلسطينية على " أرض " إسرائيل " " أي فلسطين !؟! وبعد مئة وبضعة أيام من تلك الانتخابات كان نتنياهو يخوض بدم الفلسطينيين في الرملة والقدس ونابلس وقطاع غزة، ليفي بوعوده للناخبين اليهود الذين أعطوه ثقتهم على أرضية الحقد والتعصب.‏
                  وكل من بيريس ونتنياهو ـ العمل والليكود ـ يتكلم عن السلام ويتهم الآخر بتهديده، وكل منهما يقول بنظرية الأمن " الإسرائيلي " من منظوره الإستراتيجي لها ويخوض بدماء العرب طولاً وعرضاً من دون رحمة عند اللزوم لتحقيق تلك الاستراتيجية؛ وحين يختلفان ويتشاتمان ـ في الكنيست وخارجها ـ بوصفهما ممثلين لحزبين واتجاهين سياسيين ومنهجين عمليين فإنما يفعلان ذلك على أرضية الإخلاص للعقيدة الصهيونية وللمشروع التوسعي الصهيوني، مشروع " " إسرائيل " التوراتية أو " إسرائيل " رباني، رباتي "، وخلافهما يكون على الوسائل والمراحل وليس على الأهداف النهائية لذلك المشروع، فكل من الحزبين والرجلين يجسد مشروع هرتزل وينميه ويحافظ على جوهره وتفاصيله ويعمل على تحقيقه بالطريقة التي يراها ملائمة، من دون أدنى تغيير في جوهر التكوين والتفكير الصهيوني العنصري الاستعماري الحاقد على العرب الطامع في أرضهم وخيراتهم؛ ويرى في قيام أي شكل من أشكال تعاونهم وتواصلهم وتفاهمهم تهدياً له ولمصالحه ومستقبله؛ وكل منهما ينهل من مقولات الحاخامين الأكبرين الآن " إسرائيل " لاو وإلياهو باكشي ولا يخالفهما بصرف النظر عن علمانية بيريس وأَمْرَكة نتنياهو، وكل منهما يقول في أعماقه بما يقول به الحاخام يسرائيل هرئيل: " على " إسرائيل " الاحتفاظ بهضبة الجولان بكاملها أو بالجزء الأكبر منها ".‏
                  في فلسطين المحتلة كلها اليوم كما في الجولان وجنوب لبنان تكثيف للوجود العسكري " الإسرائيلي "، وتهديد بتوجيه ضربات قاسية للفلسطينيين والمقاومة اللبنانية ولسورية، وهناك كما نسمع ونرى ونتابع وتائر متصاعدة من الاستفزاز ومناورات واستدراج كلامي نحو تصعيد حدة التوتر لفرض منطق القوة القاهرة سواء تم سلوك طريق المفاوضات أم طريق المناوشات، ويأتي ذلك كله ضمن استراتيجية صهيونية أميركية تجددها كل الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية تقوم على تحالف عميق بين القوتين لتأمين وجودهما المباشر في المنطقة وحماية مصالحهما على حساب العرب ووجودهم ومصالحهم؛ وقبل ثلاثة أيام بالتحديد كان آخر تأكيد في تصريح لوليم بيري وزير الدفاع الأميركي قدمه لإسحق مردخاي وزير الحرب الصهيوني " بأن الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بضمان تفوق " إسرائيل " النوعي على العرب مجتمعين "، وتم دعم ذلك بتقديم قواعد وأجهزة رادار متطورة للكشف الصواريخ البالستية، وبالاتفاق على أن تعملا معاً على تطوير برنامج صواريخ قصيرة المدى تنتج في فلسطين المحتلة. ومن الواضح أن تلك الصواريخ تعد " لجيران " إسرائيل " " ومن من " جيرانها " يقاوم الخضوع لها ويتصدى مشاريعها سوى سورية التي تحمي صمود اللبنانيين في الجنوب وما تبقى من ملامح الوجه القومي للقضية العربية ؟!؟‏
                  إن مما يؤسف له تماماً أن نجد أنفسنا مضطرين لقبول الأميركي خصماً وحكماً، وأن نجد الصهيوني من اليهود تحديداً محتلاً لأرضنا ومفاوضاً لنا ووسيطاً في المفاوضات وراعياً " نزيهاً " لها في آنٍ معاً؟! إذ ما هو الفارق الجوهري في النهاية بين دنيس روس وبيبي نتنياهو وكل منهما يهودي صهيوني أميركي؟!‏
                  لن يفيدنا الإحساس بالمرارة في ذلك ولا يفيدنا الألم، ما يفيدنا هو أن نقلِّع أشواكنا بأيدينا، وأن نعمل على إقناع أنفسنا بأن العدو: القناع أو الوجه / أي الولايات المتحدة الأميركية / صديق لدود لا بد من العمل على كسب تفهمه ؟!؟ ونحن نردد مع أبي الطيب :‏



                  ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى‏

                  عدواً له ما من صداقته بدُّ‏


                  في الوقت الراهن العرب يحاولون سلوك التضامن، وذلك سلاح عربي مجرب، ولكنه السلاح الذي لا يفلح العرب في استخدامه لأكثر من أيام أو أسابيع، ومن المفيد أن نخوض معركة جدية للحفاظ على هذا التضامن وتقويته وجعله يصمد لأشهر أو سنوات ولو في حدود ضيقة ونطاق ضيق؛ إنه فيما يبدو لي الغرسة الأكثر جدارة بالرعاية في ظل العواصف التي تهب على الوطن العربي، وما تقوم به مصر العربية من خطوات للسير على تلك الطريق يحتاج إلى تثبيت وتوسيع وتعميم ليضع العرب في مناخ جديد هيأته القمة العربية السابقة، ويمكن أن توطده القمة العربية المصغرة أو الموسعة التي يتم العمل على إنجازها بمبادرة سورية بعد نتائج الانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني 1996.‏
                  ومن الأهمية بمكان ألا نفقد الأمل من جهة وأن نتبين استراتيجية العدو المستمرة الرامية إلى تعزيز مشروعه الاستيطاني الكبير من جهة أخرى؛ وأن نملك القدرة ونحافظ على حسن الرؤية؛ فبغير امتلاك القوة وإرادة التحرير لن يكون هناك حل أو سلام أو مستقبل آمن مزدهر لأمتنا العربية على أرضنا العربية؛ والقهر الذي يعرض علينا ممزوجاً بالذل لن يصنع سلاماً لنا ولا لسوانا.‏
                  دمشق في 16 / 10 / 1996‏
                  الأسبوع الأدبي/ع532//1/ت1/1996.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    نشيج على أعتاب القدس
                    أيها الزاحفون إلى قبوركم، تنبهوا جيداً فأنتم على مشارف تلك القبور، ولن يزيدكم ذلك إلا حسرة وأسى، إذ قد تصلون إليها ولا تغيبكم فيها، وهذا أقسى بكثير مما لو فعلت، لأنكم ستبقون في دائرة العراء تنوشكم عيون الاحتقار والاستصغار، وتشتفي منكم قلوب، ما دام لكم من الوجود مظاهر وقشور.‏
                    إنكم تخرجون من دائرة الوهم -الحلم، أو الحلم- الوهم، دائرة الشعار- المبدأ، تلك التي لم تحموها جيداً بعلم وعمل ورؤية واحتشاد، إنكم تخرجون منها وترتمون بعيداً عن دوامة العري التي تجلب العار.‏
                    على عتبة الواقع، والواقعية الجديدة، نتف ريشكم، ولم يبق لكم من الطواويس التي كنتموها سوى ذكريات تزهو واندفاعة المواكب وتزاحم الركب في المراكب، حيث الهجرة إلى الصمت واللاحضور.‏
                    وحين تفتحون العيون وتحدقون في الآخر -المرآة، لتروا حالكم من بعد الترنح والترزّح، تتبينون وجوداً غير وجودكم، وأن الدود قد نخر عيونكم وخدودكم وقلوبكم. أينما توجهتم تحيط بكم الذكريات والشعارات وأشلاء المبادئ والأوطان والقضايا، وتسيج رؤاكم أعجازُ نخل منقَعِر، ورؤوس في أعواد مشانق، ويهمي فوقكم مطر الدمع ليغرقكم في ملح أجاج، تنحني في خضمّه الهامات لتطرد ظمأ فلا تزداد إلا ظمأ، ويعلو أنوفها زبد ورماد.‏
                    يزحف بكم الزمن إلى ساعة محتومة، ليست تلك التي تحمل راحة الموت، بل تلك التي تحمل ذلاً في حياة أفضل منها الموت.. ويا تعس ساعة تطلب فيها الموت ولا يأتيك، وتود فيها أن تغيب عن العيون فتزداد ظهوراً وعرياً أمامها!؟!‏
                    وتسألون أنفسكم وأنتم محمولون على أجنحة الوقت: كيف السبيل إلى نسيان شامل يمسح من الذاكرة كل ما كان، ويعيدكم هيولى قبل التشكل في كيان؟! أغلقوا نوافذكم.. لا يوجد أي أمل بشيء من ذلك، ولا يوجد أي نوع من أنواع الخلاص في مثل هذا المنحى، فمحو الذاكرة في العري يحتاج إلى طمس الوعي به، وإلى فصام من نوع نادر لا يواتي في كل حين، ولا يستجيب لدمع وتوسل وأنين، فبعد سقوط حر من برج الوهم -الحلم، تبرد الأرض تحت الساقط عليها، ويحاصره الوعي بحقيقة من هو وبما هو فيه فيحجب عنه المخرج مما ترى فيه، ويتعرى تماماً من قدراته ويستلقي في الصقيع، محبطاً وجامداً وضائعاً.‏
                    في مثل هذا الوقت يحتاج المرء إلى جلد التمساح ويتمناه، ويتمنى لو يفقد سمعه والبصر، ولكنه لا يحوز من ذلك شيئاً، فما يتراكم في مجرى العصب يفتك بالقلب والعصب، ويلقي المرء قصبة في مهب الريح تعبث بها الريح.‏
                    اليوم أيها الوطن، نلمس، نحن الزاحفين إلى قبورنا، نلمس ترابك ونشمه، يضمنا ونضمه، وتتضوع منا ومنه في وضع العناق حناء الشهادة.‏
                    اليوم نستشعر الحزن والتراب في قبضة اليد، نستشعر أننا نفقدك إذ نستعيدك، لأننا نأخذ قبضة التراب ملء اليد، ونتمتع من شميم ما فيها من عرار، ونغادر المكان تاركين الأرض، وشيئاً فشيئاً يذهب ما في القبضة، وتغيم الرؤى، وتتلاشى الملامح، ويغيب المكان، وتبقى الحسرة في القلب، ولا شيء سوى الحسرة في القلب، فما بعد العشية من عرار.. وما بعد العشية من عرار.. وما بعد العشية من عرار. فالأرض التي تسرق قدميك، تسرق أرضاً من تحت قدميك وتمضي زاحفاً في مدى الحلم والأرض إلى أن تصل إلى قيصر يطردك أو يحتقرك.. ثم تدنو منك حفرة لا تعرف أين موقعها من الأرض ولا متى فيها، وتواريك شجونها ولا تواريك إذ قدرك أن يتخطَّفك العار في العراء.‏
                    أرض تأتيك أخذت منك، تأخذ منك أرضاً كانت لك، وتضيع رؤاك بين الضحك والبكاء، يضيع يقينك، أرض تأتيك تأخذ أرضاً منك وتأخذ يقينك وقلبك ورؤاك، ويضيع بين أشبار الأرض وأمتارها العمر والكرامة وحلم بوسع التاريخ وعمق الحياة، ويغور في متاهات المصالح والمبادئ، السياسية والنخاسة وعي وتاريخ وحضور ودم كثير.. دم أكثر من كثير.‏
                    على أرض الواقع بين.. صلبه وترائبه، ينبجس سيل من ودق المصالح وخبثها، دَِبق ونتن ومقيت، يندلق في الحلوق دون استئذان، ويعطي للإنسان منا صورة وتطلعاً وطموحاً، يجعله ملعوناً من جده وأبيه، خارجاً على ملته وذويه.‏
                    على تلك الأرض.. أرض الواقع.. أرض النسل الذي لم يبق احتراماً لذلك النسل في الأرض.. هناك تنتصب رحى ذات قطبين، قطب من ماس وآخر من صوان، تلقينا فيها وتتلقفنا، وتتهاوى عندها أحلامنا، وتنهار شعاراتنا، وتتقزَّم طموحاتنا، وتتقلص إرادتنا، ونغدو بحجم بذر الخردل إن لم يكن أحط وأقل ونغيب في فضاء غث رث، يكاد ينسانا صوتاً وصدى.‏
                    ونخاطب ذواتنا من خلف حجاب وهم، وسجف هم نقول:‏
                    لقد تضخمت أصواتنا وذواتنا في ماض قريب عشناه رغوة ورغاء، وامتدت ظلال قاماتنا فيه أطول بكثير من تلك القامات، وركبنا خيل الأجداد وسافرنا على أجنحة مجدهم ذكراهم، وفتحنا بالسيف في عصر الصاروخ، وعندما وصلنا تخوم الصحراء على وقع الحداء، تحسسنا زادنا والماء وسيفاً يحتاج إليه المسافر في البيداء، فلم نجد إلاّ الشعر والسحر، وما تجود به الذاكرة من أسماء وأحداث ورموز وذكريات، وما تحفظه من وصفات وصفات، لصداقات وعلاقات، فجلسنا عند تلك التخوم، لا نستطيع اجتياز المفازات، ولا يليق بنا الرجوع إلى حيث الواقع المضني والوقائع المهلكات. كلنا تحت السقف.. كلنا تحت السقف الذي غيب النجوم والسماء ونور الشمس، وغدا ثقيلاً كئيباً، كلنا تحت سقف يصنعه تظافر الخوف والوقائع، ويقدم لنا صفيحة ساخنة نشوى على سطحها، نارها نارنا ونار العدو، ومادتها واقع عالم اليوم ووقائعه، ذلك الذي لم يعد لنا فيه إلاّ موقع اليتيم على مائدة اللئيم ومع ذلك يدّع بعضنا بعضاً ونحن نتزاحف إلى أعتاب اللئام.‏
                    كلنا تحت السقف الثقيل الكئيب، سقف الواقع الذي صنعه ضعفنا وخوفنا وتفرقنا وتزاحمنا على أعتاب الغير، كلنا تحت رحمة ذلك الواقع- السيف: من كان يعمل منا ومن كان يهمل، من كان يصرخ منا أن استيقظوا ومن كان يغط في نوم عميق، من كان يخرق السفينة، ومن كان يرمم كل الخروق فيها.. كلنا على مساحة الرمل المحرقة يشوى بنار الحدث المتقدة، ويجني الحنظل بيد كانت تروم جنى المجد.‏
                    هناك من يستشعر مساحة الرمل، ويشم رائحة الحرق، وهناك من يغيب عن الوجود جراء ما يواجهه من وجود، وهناك من يرى نفسه على شاطئ السلام والأمان، يعيش في بساتين العشق، ويتفحص تفاصيل ما بين التعابير، ويشتد نحو يوم يصبح فيه والعدو في صف واحد يحاربان حرباً "مقدسة" ضد من كان الأخ والشقيق والمواطن والصديق.‏
                    يا تعس يوم يزحف علينا، يحمل في طياته ثقل الواقع وصدمات الوقائع، ويظهر لنا السكاكين التي في ظهورها بأيدٍ كانت تمتد لتصافحنا بأمان، وتغدق علينا من عيونها اللطف والحنان، يا تعس يوم يأتي.. والعدو فيه "صديق" والصديق فيه مغيب في ثوب العدو، ويا تعس ساعة نقف فيها على مشارف قبورنا فترفضنا قبورنا، ويا تعس ساعة ننظر فيها إلى الوجه -القناع وقد تعرى عن قناع- وجه، لا نعرف متى ينتهي تحوله وتلونه وتساقطه.. وهو يترهل ويتحول ويتهزّل، ويلبس لكل حالة لبوسها، ويسوقك وينساق معك، حتى إذا أشرفت لحظة ملائمة له ذبحك.. من الوريد إلى الوريد.‏
                    ولكن لا بدّ من تلك الصّاخّة، ولا بدْ من مواجهة الاستحقاقات في أوانها، وعلينا أن نتجهز لذلك ونحن نزحف إلى مجدنا أو قبورنا.. فيا حبذا يوم يكشف الأيام، ويا بؤس عيش يظلم فيه الأنام ويعيشون الغفلة. فرب ضارة نافعة، وبعد كل شدة فرج.. وعلينا حتى ونحن نزحف إلى ميقات تتخلع منا عنده القلوب أن نكون على استعداد لأن نعمل من أجل ولادة من رماد.‏
                    فنحن طائر "السيمرغ" ونسل "الفينيق" وأمة العرب، وأتباع الذكر الحكيم، ومن ينهضون من رمادهم كلما احترق بهم الرماد.‏
                    فليكن يوم موت.. وليكن يوم حياة، فليكن يوم مواجهة لعدو يراد أن نراه "صديقاً" لكي تولد فينا بصيرة تميز العدو من الصديق، وتصنع بالوعي والعلم والإيمان والعمل، قوة تنزلنا المنزلة التي تليق بنا بين أمم الأرض، وإلا فموت كريم خير من حياة ذل.‏
                    فيا أيها الزاحفون إلى قبوركم.. فليكن زحفكم نحو الأمل فإنه يليق بكم النصر والأمل، ويليق بكم النصر والعز وزهو الحياة.‏


                    الأسبوع الأدبي/ع533//19/ت1/1996.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      شيراك والديغولية في الشرق
                      من رأى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في شوارع القدس القديمة محاطاً بقوى أمن الاحتلال الصهيوني، يحاول وهو الرئيس الضيف أن يشق طريقاً له بيديه، معزولاً عن صحبه وحاشيته وعن حركة الحياة والناس من حوله، محاصراً بقرقعة القوة وهمجيتها وغطرستها؛ يقف أمام صورة رمزية مصغرة يدرك من خلالها مدى ما تود أن تفرضه الولايات المتحدة الأميركية على أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً من هامشية ومحدودية فيما يتعلق بالدور الذي تتطلعان إلى القيام به في المفاوضات بين العرب والكيان الصهيوني؛ ويتبيّن جيداً بعض صيغ ممارسات "إسرائيل" القمعية في الأرض العربية المحتلة وهي تظهر بأكثر صورها "حضارية" في مجال من أدق المجالات الدبلوماسية، وهذه فرصة نادرة وفرتها حماقة نتنياهو التي تعبر أفضل تعبير عن حقيقة الصهيونية ونزوعها العدواني، وعن استراتيجية "الدولة" العنصرية التي تنفذ برنامجها التوسعي ضد العرب.‏
                      ففرنسا الديغولية في عهد شيراك، الطموحة إلى دور قيادي متميز في أوروبا، وإلى دور أوروبي مستقل ومؤثر ومقبول في السياسة الدولية، لا سيما في الشرق وفي قضية بحجم القضية الفلسطينية، أتت إلى الشرق بموقف وهدف واضحين لتقول كلمة ولتمارس حضوراً فاعلاً في أعقد الصراعات الدولية وأطولها في هذا القرن، ولتعيد للأذهان دوراً وتاريخاً لها ولأوروبا في المنطقة تعملان جاهدتين على استعادته بعد أن جردتهما الولايات المتحدة الأميركية من ذلك الدور، فكان أن لاقت فرنسا هذا القدر من الترحيب عند العرب، ووجهت بذاك القدر من الرفض والصفاقة والحماقة من الكيان الصهيوني، وبتصريحات وممارسات علنية- أميركية و"إسرائيلية" -ترفض أن يكون لها أكثر من نصيب ممول بليد في عملية السلام.‏
                      ونجاح زيارة جاك شيراك لسورية يؤسس عملياً لنجاح المسعى الأوروبي المتعاون مع العرب في هذا المجال، ويحقق خطوة جديدة ترتكز على نجاح سابق حققته السياستان السورية والفرنسية بمواجهة الرفض الأميركي -"الإسرائيلي" لدور فرنسي إبّان العدوان الصهيوني على جنوب لبنان في نيسان الماضي إثر مذبحة "قانا"، حيث دخلت فرنسا عضواً رئيساً في لجنة مراقبة تنفيذ التفاهم الأخير، وأصبحت طرفاً يحضر اجتماعات الناقورة ويقدم الاقتراحات ويعكس صورة الوضع إلى الخارج كما يتابعه من الداخل.‏
                      وسيؤدي هذا النجاح لمهمة شيراك، وإعلانُه الواضح عن الإلتزام بمرجعية مدريد، ووقوفُه إلى جانب قيام دولة فلسطينية مستقلة، سيؤدي إلى خلخلة في الوضع الراكد الذي تتحكم فيه أولاً وآخراً أطراف صهيونية سواء كانت تلك الأطراف أميركية أو "إسرائيلية".‏
                      ولا يُستبعد بعد هذه الجولة الفرنسية التي تعتمد النظرة الديغولية، أن تركز الإدارة الأميركية جهودها على دفع المفاوضات مع الأطراف المعنية لتقطع الطريق على الأوروبيين الذين يتخذون من جمود المفاوضات وتردي مساراتها جميعاً حجة للدخول في مجالاتها، وقد ظهر شيء من هذا في اليوم الأول لزيارة الرئيس شيراك إلى فلسطين المحتلة، فقد عاد دنيس روس إلى الاجتماعات المتعلقة بإعادة الانتشار في الخليل بعد أن كان في طريقه إلى المطار مغادراً نتيجة لفشل المحادثات التي استمرت أسبوعين، وجرى ضغط ظاهر لإحراز تقدم في بعض المجالات لكي لا يخرج شيراك بموقف يعزز ضرورة تدخل فرنسا وأوروبا من أجل تحقيق تقدم في العملية السلمية.‏
                      والظلال التي ألقاها "غضبُه المقدس"- كما وصفته الصحافة الفرنسية- بعد تجوُله في القدس القديمة ومضايقة أمن الاحتلال له ومنعه من الاتصال بالناس، لا سيما بالفلسطينيين هناك، لابد أن تنعكس على العلاقة بين فرنسا والكيان الصهيوني على الرغم من اعتذار نتنياهو له رسمياً وقول شيراك بأن الأمر قد انتهى.‏
                      وهذا يؤسس لمناخ جديد يمكن للعرب أن يتفهموه جيداً أو يستثمروه جيداً لمصلحة القضية العادلة والحق العربي في فلسطين ولخلق علاقات جديدة وتقديم معطيات جديدة على الصعيد الدولي بين أوروبا والعرب من جهة، وضمن ما يسمى بالنظام الدولي الجديد من جهة أخرى.‏
                      فدخول فرنسا الخط الديغولي كلاعب ذي مواقف ورؤية سياسية وأخلاقية مستقلة، ومصالح، وكطرف رئيس لعب دوراً تاريخياً في خلق هذه المشكلة مع بريطانيا العظمى، لابد أن يكون له تأثير إيجابي على مجمل العملية، ومن المستبعد أن تكون فرنسا وشيراك مجرد لاعب موظف لأغراض ليس لفرنسا مصلحة فيها، أي طرف طُلب إليه أن يدخل الملعب السياسي من قبل الإدارة الأميركية لتحريك الجو ضمن مخطط متفق عليه؛ لأن مؤشرات نيسان الماضي، وما رافق جولة شيراك الحالية، والاستقبال الفاتر الذي جرى له في فلسطين المحتلة، وعدم التركيز الإعلامي من قبل "إسرائيل" على جولته ونتائجها، كل ذلك يشير إلى جدية الخلاف وقوة الرفض "الإسرائيلي" الأميركي لدور فرنسي في عملية السلام، وجدية الموقف الفرنسي المطالب بدور فعال في تلك العملية، كما يشير إلى سياسة فرنسية مغايرة عما كان لفرنسا من سياسة قبل سنوات قليلة؛ وهي سياسة تأخذ بالاعتبار كل الدروس المستفادة من حرب الخليج الثانية على الخصوص.‏
                      ومنظور شيراك الذي قدمه في جولته لا يلغي البعد الاستراتيجي للسياسة الفرنسية الجديدة في المنطقة والتركيز الذي يريده "أوربياً" على المتوسطية التي انطلقت من مؤتمر برشلونة، ولذاك المنظور تأثيره السلبي والإيجابي على القضية الفلسطينية وعلى منظورنا لجوهر الصراع العربي الصهيوني وآفاقه المستقبلية، حسب موقع الناظر إلى ذلك الصراع من العرب. وموقفه منه، والأهداف النهائية التي يتطلع إليها.‏
                      ففرنسا شيراك تركز على تطبيق مرجعية مدريد وتذهب إلى تطوير فرعي أضيف إلى تلك المرجعية من دون أن يكون منها بنص أصيل، وهو ذاك الذي يؤكد على أمن "إسرائيل" -معزوفة نتنياهو المستمرة- ولكنها ترى أن السلام يحقق الأمن أكثر من أي شيء سواه ولا يتحقق ذلك من دون انسحاب من الجولان وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.‏
                      ومعنى هذا، ضمن الطرح المتوسطي، تأكيد على اعتراف "بدولة إسرائيل" وعلى تطبيع العلاقات معها وعلى دخولها عضوياً في حوض متوسطي يحتضنها، حوض تدعمه أوروبا وترعاه؛ وهو طرح يرمي إلى مناهضة "الشرق أوسطية" التي يقول بها بيريس وترعاها الولايات المتحدة الأميركية وتخطط لها من خلالها لهيمنة أمنية واقتصادية "إسرائيلو-أميركية"، في المنطقة يتحالف مع بعض دولها، مع تهميش نسبي للدور الأوروبي فيها.‏
                      والمتوسطية الأوروبية تحاول أن تحفظ مصالح أوروبا وتراعي مصالح الآخرين وتقيم قوة اقتصادية للسوق الأوروبية نفوذ فيها، ولأوروبا كلمة سياسية مسموعة لدى أطرافها ولكنها -أي المتوسطة- لا تلغي على الإطلاق تأكيدها لمصالح "إسرائيل" وحقها التاريخي في البقاء، ولا تناقش مواضيع مثل حق العودة بالنسبة للفلسطينيين، ولا تذكر جذور الصراع العربي الصهيوني وتاريخية عروبة فلسطين. إنها تنطلق من سايكس -بيكو ومن نتائج الصراع التي استقرت على الأرض في حرب 1967، وترسخ الظلم الذي لحق بالعرب في أوسلو ووادي عربة، بل تنظر مع بعض العرب إلى المحافظة على "تلك المكاسب" التي تحققت؟!؟.‏
                      وحين يقدم الرئيس شيراك في مؤتمره الصحفي مثال "أوروبا" التي عادت إلى التعاون والتفاهم والسلام وتطبيع العلاقات بعد حروب طاحنة، يرى إلى القضية الفلسطينية وما نتج عنها من صراع على أنها نزاعات بين أطراف مستقرة في المنطقة ذات حقوق ثابتة فيها وأن مصير هذه النزاعات هو الحل بالتفاهم، وأن القوة التي تثبت أمراً واقعاً لا مجال للتصدي للظلم التاريخي الذي ألحقته، وإنه يتوجب على "العقلاء" أن يبدؤوا مما استقر على الأرض، وأن يقيموا علاقات طبيعية بينهم في ظل سيادة "كل دولة" على أراضيها؟!.‏
                      هذه النقطة التي تلتقي فيها الأوسطية والمتوسطية هي في النتيجة أخطر ما هو قائم من تنسيق خفي بين الغرب كله- أوروبا والولايات المتحدة الأميركية- من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى؛ وهو الذي ينظم النشاط الذي يبدو متضاداً في بعض الأحيان.‏
                      فانتزاع اعتراف، وفرض تطبيع، وإقرار المرحلة، الثانية من مراحل المشروع الصهيوني، كل ذلك هو الأهداف النهائية للمرحلة الثانية في هذا المشروع العنصري- الاستيطاني الغربي المنشأ، الذي أصبح اليوم موضع سباق بين القوى لتجييره لمصالحها وليس لإعادة النظر فيما خلقه من بؤر صراع لن تنتهي في هذه المنطقة من العالم، وهو المشروع الذي راهن على استثماره الكبار دائماً فاستثمرهم من دون رحمة.‏
                      ومن هنا تأتي ضرورة التنبه إلى الخفايا التي يحملها المشروع الفرنسي الذي يأتي في ظروف مواتية جداً للعرب، وفي ظروف دولية لا بدائل لها أفضل منها الآن.‏
                      إن المرتجى هو أن نأخذ بما يلي: ونحن ندخل هذه الحلبة متفائلين:‏
                      1- نتعامل مع الرؤية الأوروبية، والمواقف الفرنسية تعاملاً إيجابياً يؤدي إلى توازن في صراع القوى والمصالح الغربية في هذه المنطقة، وهذا يفيدنا في ظل الضعف الذي نعاني منه وفي ظل اختلال موازين القوى الصارخ الذي يميل لمصلحة العدو الصهيوني.‏
                      2- نتنبه إلى مخاطر ما ينشأ من اعتراف وتطبيع مع العدو الصهيوني في ظل الراية الأوروبية التي تبدو بيضاء. ونعمل على توطيد علاقات تعاون مع فرنسا خاصة وأوروبا عامة تقوم على تبادل المصالح والمنافع بوضوح، بما لا يلغي نظراتنا الاستراتيجية للحق العربي في فلسطين، ونقيم مصلحتنا الحيوية في ظل تنازع مصالح الكبار أياً كان أولئك الكبار وأياً كان القناع الذي يرتدونه؛ وعلينا أن نتذكر دائماً أننا إنما نتعامل مع الاستعمار بأشكاله المختلفة ومصالحه المقدمة لديه على كل الصيغ القانونية والخُلُقية والإنسانية.‏
                      3- نستفيد من استعداد فرنسا للتعاون، ومن رغبتها في بناء قرار أوروبي مستقل عن القرار الأميركي، ونطرح على بساط الامتحان الحق للنوايا والمواقف والتوجهات أسئلة منها:‏
                      هل هي على استعداد للمساهمة في معالجة الخلل الاستراتيجي الحاصل بين الدول العربية و"إسرائيل" بتقديم السلاح للعرب عند اللزوم، خارج حدود الوصاية الأميركية- الصهيونية؟!‏
                      إن لعاب الأوروبيين يسيل من أجل إيجاد أسواق لهم في ظل التنافس الذي تفرضه السياسة الأميركية وتجبر فيه دول الخليج العربي والسعودية على شراء كميات هائلة من السلاح لا يتاح لتلك الدول استخدامه إلا في حروب عربية- عربية أو عربية- إسلامية، ولا يتم ذلك الاستخدام إلا بإمرة مباشرة من قبل الأميركيين.‏
                      والغرب الأوروبي- فيما يبدو لي- ليس لديه الاستعداد ولا "الأوامر" ليفتح سوق السلاح مع بلدان عربية ليست في السلة الصهيونية-الأميركية تماماً.‏
                      وهذا الاختيار لن يؤدي إلى نتائج عملية ولكنه سيكشف نوايا حقيقية ويبين إلى أي مدى تملك فرنسا الديغولية الجديدة أو تريد أن تملك من قرارها السياسي المستقل، وإلى أي مدى هي مع الحق والعدل ويمكن أن تضحي من أجلهما، وإلى أين يمكن أن تصل في دعمها للقضايا العادلة؟! وما هي نظراتها الفعلية للحق العربي وكيفية التعامل معه في حال استمرار نتنياهو الممثل الفعلي للصهيونية في غطرسته ولاءاته وزحفه الاستيطاني واستفزاز القوة الذي يمارسه يومياً ضد سورية ولبنان وضد الفلسطينيين؟!؟...‏
                      4- نستفيد من التحولات الشكلانية التي قد تطرأ على الموقف الأميركي التي قد تدخل في امتحان تنافسي مع أوروبا، التي تحاول أن تجبرها فرنسا إلى الرؤية الديغولية وإلى صداقة ثابتة وعلاقات استراتيجية مع الشرق.‏
                      إن زيارة شيراك قد قدمت جديداً، وهي إن لم تفعل سوى تحريك الماء الراكد فإنها تكون قد فعلت شيئاً مهماً في هذه الظروف، وما حققته تلك الزيارة في سورية وفي الكيان الصهيوني يعد أنموذجاً بالنسبة لمصالحنا نحن العرب في الظرف الراهن.‏
                      فالنجاح الذي حققه في سورية، واستئناف علاقات تبدو طيبة وعلى طريق ثابت وسليم، قابله إخفاق ظاهر- على المستوى النفسي والاجتماعي والدبلوماسي على الأقل في "إسرائيل". وهذا بحد ذاته سوف يطرح على الرأي العام الفرنسي والأوروبي بعض الأسئلة ويدفعه إلى طرح أسئلة تتعلق بالكيان الصهيوني وممارساته.‏
                      أما تأكيد حق الفلسطينيين في دولة، وتأكيد الموقع الخاص للقدس العربية فهما موقفان يستحقان أن يسجلا لشيراك بوصفه رئيساً وديغولياً ورجل موقف وسياسي يعود إلى الشرق بأخلاقية رفيعة يقدرها الشرق، ولا يهز العرب أكثر منها في ظروف المحنة التي هم فيها في هذا الزمن الرديء.‏
                      إن العرب الذين يدخلون اليوم مرحلة استعادة الوعي أو عودته، ولو في حدود ضيقة، يتلقون دفعة إلى الأمام على طريق القومية العربية والوحدة العربية وحقوقهم المغتصبة فهل يحسنون استثمار هذه المرحلة؟..‏
                      أتمنى ذلك من كل قلبي...‏

                      الأسبوع الأدبي/ع534//26/ت1/1996.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        قراءة في التصعيد الأخير
                        يستمر التصعيد الذي بدأه العدو الصهيوني منذ استلام حكومة الليكود الحكم، وتضاعفت وتائره خلال الأيام الأخيرة بشكل ملحوظ، لا سيما بعد زيارة شيراك للمنطقة .‏
                        فقد أعلن عن بدء التنقيب عن النفط في الجولان المحتل، وعزز حشوده العسكرية فيه، بعد أن أجرى مناورات تضمنت التدريب على احتلال مواقع جديدة .‏
                        وأعلن عن فتح باب الاستيطان بكثافة في الضفة الغربية وفي الجولان ببيعه ثلاثة آلاف شقة سكنية للمستوطنين الجدد، لمصادرة أراضٍ جديدة بحجج مختلفة؛ وبعد فشل المفاوضات حول إعادة الانتشار في الخليل مع سلطة الحكم الذاتي، أغلق ملف التنفيذ ليفتح باب الاستيطان فيها بإعلان صهر نتنياهو عن عزمه الاستيطان في الخليل ذاتها.‏
                        وفي جنوب لبنان يستمر القصف والتدمير، وتمارس يومياً أشكال العدوان على مدنيين رغم تفاهم نيسان الذي أعقب مذبحة " قانا " .‏
                        وبعد الحشود والتصعيد الأخير في الجولان أطلق مسؤولون عسكريون ومدنيون صهاينة تهديداتهم ضد سورية، وأعلن أولئك بصلف وقح: " إنهم يملكون جيشاً قوياً قادراً على فرض السلام في المنطقة. " .‏
                        ورفض مسؤولو وزارة الخارجية الصهيونية قرار الاتحاد الأوربي تعيين مندوب أوربي يتابع المفاوضات ويقوم بتحرك نشط في مجالاتها جميعاً، رفضوا ذلك بحجة أنه يخالف مرجعية مدريد، وهم الذين لم يحترموا يوماً تلك المرجعية .‏
                        فماذا يعني ذلك كله في الظروف الراهنة، وما الذي يمكن أن يؤدي إليه عملياً؟! وهل تقدم هذه المؤشرات قراءة جديدة لاتفاقيات الإذعان التي وقعت بعد مؤتمر مدريد وقبله؟! أي: أوسلو ووادي عربة، وكامب ديفيد؟! .‏
                        يعتقد نتنياهو والجنرالات الذين تسلموا وزارات في حكومته وفريقه من المستشارين الجدد أن الظروف العربية والدولية مهيأة الآن لفرض " لاءاته " على العرب الرافضين لها، ولإقامة " سلام مقابل سلام " مع سورية ولو تم ذلك بقوة السلاح. ويرى في التفويض الذي منحه إياه الناخبون اليهود في فلسطين المحتلة مستنداً يتيح له استخدام القوة لتحقيق " الأمن "، ووثيقة تمكنه من إعادة النظر فيما يسميه :" تفريط حزب العمل بأرض " إسرائيل " وأمنها. " .‏
                        وفي ظل :‏
                        - اختلال ميزان القوى العسكرية لمصلحة " إسرائيل " .‏
                        - وغياب مصدر تسليح لسورية، وحليف سياسي قوي لها في الساحة الدولية،‏
                        - وتهافت عربي على فتات " السلام " الإسرائيلي وهرولة عربية إلى أعتاب الدولة التي تعتمدها الولايات المتحدة الأميركية ممثلاً لمصالحها وحامياً لتلك المصالح في " الشرق الأوسط " .‏
                        - وتحالفات " إسرائيل " الجديدة مع تركيا علناً ومع الأردن سراً لتغيير الجغرافيا السياسية في العراق، ولجم سورية، وفرض حجم صغير جداً لتطلعاتها القومية والتحريرية والنهضوية .‏
                        - استباقاً لنشوء حالة " ديغولية " في الشرق تفرض حضوراً أوربياً عاماً وفرنسياً خاصاً قد يؤثر على موازين القوى، ومن ثم على القرارات والتوجهات الدولية وربما العربية .‏
                        في ظل هذا لجأت حكومة العدو إلى التصعيد مستندة إلى قراءة سياسية - عسكرية تفترض أن توجيه ضربة قاسية إلى سورية سوف يوقف كل ما يخيف "إسرائيل" من احتمالات تغيير في المنطقة لا ترضي الولايات المتحدة و"إسرائيل" مما ينذر به، أو يبشر به :‏
                        1 - مؤتمر القمة العربية في القاهرة، وما أسنده لمصر من دور أدى إلى تحرك ومواقف مغايرة لما كان سائداً في السابق .‏
                        2 - التقارب التركي الإيراني في ظل حكومة أربكان، والدعوة إلى تحسين العلاقات العربية - الإسلامية، والتركية السورية .‏
                        3 - التنسيق الممكن بين سورية وإيران .‏
                        4 - والتحرك الفرنسي الذي كان يعطي دفعاً للعرب عامة والفلسطينيين خاصة، وما تركه من ظلال قائمة في القدس على حكومة نتنياهو .‏
                        5 - رفض سورية الانصياع لشروط " إسرائيل " التي تقدمها لإعادة المفاوضات وفي مقدمتها عدم الانسحاب من كل الأراضي المحتلة في عام 1967 .‏
                        إن الظروف والمعطيات الراهنة، وما خلفته " إسرائيل " من واقع جديد على الأرض، والاستفزازات والتهديدات وكذلك البرامج الفعلية التي تنفذ في إطار سياسة تعتمد القوة في الوصول إلى أهدافها، وترى أنها الأداة الوحيدة " لفرض سلام " و " فرض أمن " و " تحقيق مكاسب " على الأرض. إن كل ذلك يجعل الاحتمالات مفتوحة والخيارات كلها قائمة بالنسبة للأطراف المعنية جميعاً.‏
                        إن عدواناً صهيونياً محتملاً على جنوب لبنان، أو على القوات السورية في لبنان، أو على سورية في مواقع حساسة انطلاقاً من تصعيد الوضع في لبنان والجولان، كل ذلك أو بعضه سوف يؤدي إلى تحرك آلة الحرب العدوانية التي نعرف جرائمها جيداً في منطقتنا، وهي آلة صهيونية عنصرية تملك الترسانة الأميركية بشكل منها وتستفيد من قدراتها من دون حساب .‏
                        ومعنى هذا أن الخسائر التي قد تلحقها " إسرائيل " بسورية ولبنان لن تكون بسيطة، ولكنها لن تؤدي إلى فرض " سلام إسرائيلي " على سورية هو الاستسلام، كما أن ذلك لن يكون من دون ثمن باهظ تدفعه قوة العدوان .‏
                        فسورية تدرك جيداً في أية أرض سياسية وعسكرية تتحرك، وتدرك الظروف والمعطيات العربية والدولية وتتعامل معها بحساباتها الخاصة أيضاً، وتعرف ما يعنيه الوضع العربي الراهن وما قد يسفر عنه من تغيير، وتأخذ استعدادها لرد العدوان المحتمل ذلك الرد الذي سيلحق " بإسرائيل " خسائر لا تحتمل؛ وسورية تعرف كيف تتعامل مع الاستفزاز اليومي الوقح لعدو أصبح من الواضح لكل ذي بصر وبصيرة أنّه لن يتوقف في مطامعه عند حدود، وأنه لا يمكن التعايش معه ولا القبول بما يريده .‏
                        وحسابات الرعب المفتوحة هذه ستؤدي :‏
                        - إمّا إلى الاشتباك الساخن الذي سيؤدي بدوره إلى قلب كثير من الموائد المستقرة بين دول عربية والكيان الصهيوني وإلى تحرك نشط في الساحتين العربية والدولية تغير المستقر الآسن الذي نشهد تأثيره السلبي على قضيتنا المركزية منذ مؤتمر مدريد؛ وإلى إعادة النظر بحسابات وعلاقات كثيرة. ولا يعرف أحد متى تنتهي الحرب ولا ما الذي تسفر عنه فعلاً، حتى بالنسبة لذاك الذي يعرف متى يدخلها وكيف؟! .‏
                        - وإمّا إلى تصعيد يواكبه تصاعد الاهتمام - عربياً ودولياً - بالعودة إلى المفاوضات على أرضية مستقرة تحترم المرجعيات القانونية والدولية، وتثق بالاتفاقيات الموقعة أو تلك التي يمكن أن توقع. سواء عادت تلك الأطراف إلى " واي بلانتيشن " أو إلى موسكو أو إلى أي مكان آخر .‏
                        ويبدو لي أنه في أي من الحالتين: حالة الاشتباك الساخن أو حالة العودة إلى التفاوض لن تبقى الأمور على ما كانت مستقرة عليه لا سيما من حيث رعاية المفاوضات، ولا بد أن يدخل الجانب الأوربي دخولاً فاعلاً بعد التحركات والمواجهات الأخيرة وبعد وتائر التصعيد الملحوظة وتحرك الروس الأخير لوصف روسيا أحد راعيي المؤتمر " العتيد " مؤتمر مدريد لن يوقف المطلب الأوربي المرحب به عربياً، بل المطلوب عربياً، بأن يكون لأوربا حضور فاعل في المفاوضات. وسواء كان التحرك الروسي قد تم بدفع أميركي لتطويق المسعى الفرنسي أو تم باندفاع لاستعادة موقع ومصالح وللحفاظ على مكانة وكرامة، أو تم تحت تأثير ضغط صهيوني‏
                        - أميركي مشترك لاحتواء التحرك العربي والفرنسي معاً، فإنه بتقديري لن يشل الرؤية العربية والحاجة العربية لإيجاد توازن ما في رعاية المفاوضات، لأن الإدارة الأميركية الحالية والتي يمكن أن تأتي بعد انتخابات تشرين الثاني المقبلة هي في النهاية طرف " إسرائيلي " في المفاوضات مع الأطراف العربية رغم الادعاءات العريضة بالحياد والتوازن ورغم الكذب " الإسرائيلي " الصارخ بأن الأميركيين غير منحازين وأن الفرنسيين هم الذين ينحازون للعرب (؟!)‏
                        وأياً كانت مسارات الأحداث على أرضية التصعيد والاستفزاز القائمة حالياً في المنطقة، ولاسيما في الجولان وجنوب لبنان والخليل والضفة الغربية، فإن اتفاقيات الإذعان ستتأثر لأنها ستظهر عارية من ورقة التوت، والعرب المهرولين على أعتاب العدو سوف يصدمون بخناجره في صدورهم أو بأنشوطته حول أعناقهم، والموقف الصلب لسورية وثباتها على مبدئية وحق وسعيها السياسي المدرك لأسرار اللعبة سيزيدها إشراقاً بنظر الجماهير العربية، وينقلها من حالة الاسترخاء على فراش أحلام العرب بالسلام مع أعداء السلام، إلى حالة من التوتر البناء والمواجهة الحادة لحقائق ما بعد " واي بلانتيشن " ووقائع الأطماع الصهيونية على الأرض؛ وأياً كان ثمن ذلك فلن يكون من دون إيجابيات تنعكس على مسيرة طويلة وشاقة هي مسيرة تحرير الأرض العربية المحتلة، كل الأرض العربية المحتلة، وإعادة الثقة إلى العربي، والسير الواثق على طريق البناء ..طريق القوة والعزة والكرامة القومية، وليس هذا إذا ما تحقق بقليل .‏

                        الأسبوع الأدبي/ع535//3/ت2/1996.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          نحن وكلنتون بين رئاستين
                          فاز الرئيس الأميركي بيل كلنتون بفترة رئاسة ثانية تجعله يختم القرن العشرين رئيسا لأكبر دولة في عالم اليوم، وهو بذلك يكون أول رئيس ديمقراطي تجدد رئاسته منذ ستين عاماً ونيف بعد فرانكلين روزفلت، وأصغر رئيس أميركي تجدد له الرئاسة .‏
                          وقد عزز كلنتون وضعه الانتخابي وثقة الأميركيين به وثقته بنفسه بهذا الفوز إذ حصل على أكثر من خمسين بالمئة من أصوات الناخبين مقابل اثنين وأربعين بالمئة من الأصوات حصل عليها في الدورة الماضية، وبقيت السيطرة في مجلسي الكونغرس للجمهوريين الذين عززوا مواقعهم في المجلسين أيضاً .‏
                          وفوز كلنتون برئاسة ثانية وأخيرة يعني جملة من الأمور لا سيما في السياسة الخارجية الأميركية وما ينعكس منها على منطقتنا، وما يتعلق من ذلك بمسيرة " السلام "، فمن المعروف أن كلنتون كان من أكثر الرؤساء الأميركيين مناصرة " لإسرائيل " ومن أكثرهم مجاهرة بهذه المناصرة، وكان له موقف واضح إلى جانب شمعون بيريس في الانتخابات "الإسرائيلية " التي جرت في أواخر أيار الماضي، وقد تمت نسبياً في ظل التنافس الأميركي " الديمقراطي - الجمهوري " على الرئاسة، حيث اتخذ الكونغرس بزعامة الجمهوريين مواقف مناصرة لسياسة الليكود واليمين الصهيوني المتطرف، وبلغ ذلك ذروته في القرار المتعلق بجعل " القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل " ونقل السفارة الأميركية إليها. واتخذ الديمقراطيون، لا سيما الرئيس كلنتون، مواقف مناصرة لحزب العمل ولعودة بيريس إلى رئاسة الحكومة، تعزيزاً لما يراه في حزب العمل وبيريس من حنكة سياسية ومرونة؟ والتقت في تلك الفترة مواقف بعض الحكام العرب مع موقف الرئيس كلنتون أو بنيت على تلك المواقف ونبعت منها، فكان كثرة منهم إلى جانب بيريس خليفة رابين، رغم غرقه في دماء الجنوبيين وأهل " قانا " على الخصوص، وذهب بعض الزعماء العرب إلى تحمل نفقات مالية لمساعدة حملة بيريس الانتخابية على أرضية التطرف الذي أبداه نتنياهو في حملته الانتخابية؛ وحده الملك حسين من بين الرؤساء حظي برضا نتنياهو الرئيس الذي نجح ووحده الذي بارك هذا النجاح .‏
                          وجاءت النتائج النهائية اليوم لتحالف أحزاب أمركية "وإسرائيلية " متعادلة نسبياً: فحليف كلنتون " بيريس " يسقط في الانتخابات بينما ينجح كلنتون نفسه، وحليف "دول" نتنياهو ينجح في الانتخابات بينما يسقط " دول " نفسه، وأكثرية الكنيست جاءت لمصلحة من لم ينجح في انتخابات رئاسة الحكومة في الكيان الصهيوني، أي لحزب العمل، وأكثرية مجلسي الكونغرس الأميركي جاءت لمصلحة من لم ينجح في انتخابات الرئاسة الأميركية، أي للحزب الجمهوري؛ من دون أن يعني هذا قدرة هذه الأكثرية النيابية على سحب الثقة من أي من الرئيسين أو شلّ قدرة أي منهما على العمل، بالرغم من أن نتنياهو رئيس حكومة وليس رئيس دولة، فحسب التعديلات القانونية الأخيرة في الكيان الصهيوني لا يجوز للكنيست أن تسحب الثقة منه لأنه منتخب مباشرة من الجمهور إلا بأكثرية الثلثين، وقد حدث أن صوتت أكثرية الكنيست إلى جانب حجب الثقة عن الحكومة قبل أسابيع من دون أن يؤدي ذلك إلى سقوط الحكومة.‏
                          وهذا الوضع يقدم مؤشرات مستقبلية لتوجيهات وممارسات سياسية تتأثر بها منطقتنا كما تتأثر بها "العملية السلمية " والمفاوضات الجارية في إطارها: ثنائية كانت تلك المفاوضات أم متعددة الأطراف .‏
                          فمن المؤكد أن الرئيس الأميركي المنتخب سيحافظ على ما حققه من نجاح سياسي واعتبره أساساً مما بنى عليه نجاحه الانتخابي الجديد وهو اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وقمة شرم الشيخ، وضربُ الأهداف العراقية - والمشروع الشرق أوسطي الذي عزز بتحالفات في المنطقة، تركية إسرائيلية - وأردنية إسرائيلية ... الخ .‏
                          وسيعطي الرئيس الأميركي المنتخب بيل كلنتون دفعاً للمفاوضات في المسار الفلسطيني حول موضوع الخليل التي آلت إليها المفاوضات العتيدة المتعلقة بتطبيق اتفاقية أوسلو بشقيها وملاحقها ومفاوضاتها، وقد تنتهي العملية إلى الخليل أخيراً بعد الانتشار السرطاني للاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس .‏
                          كما سيعطي الرئيس كلنتون دفعاً للمفاوضات السورية "الإسرائيلية" التي توقفت في " واي بلانتيش " مطوقاً بذلك النزوع الفرنسي للتدخل في تلك المفاوضات، والرغبة الأوربية في الحضور كشريك فاعل في الرعاية،وتقديم الاقتراحات، وليس في دفع ثمن الاتفاقات الأميركية التي تنتج عنها فقط ..‏
                          والرئيس الأميركي الذي يدرك جيداً أهمية دور سورية في تحقيق " سلام " في المنطقة، ويقرأ عبارة كيسنجر جيداً التي تقول : " لا سلام من دون سورية ولا حرب من دون مصر " يعرف أن اتفاقيات: كامب ديفيد، وأسلو، ووادي عربة، تبقى مهددة ما لم تستكمل باتفاقية تشمل سورية ولبنان. ولا أقدِّر أن الدور الأميركي المستمر بعد تجديد فترة الرئاسة الأميركية سيذهب إلى مدى الضغط على " " إسرائيل " نتنياهو " لتنصاع إلى مرجعية مدريد، فهو أقرب إلى دور الحليف والشريك لكل حكومات " إسرائيل " أيّاً كان لونها وتوجهها وأيّاً كانت ممارساتها منه إلى أن يكون الراعي المحايد أو الوسيط النزيه؛ وعلى الرغم من الادعاء العريض الذي يكرسه لذلك الزعم ومن الادعاء السخيف الذي تدعيه "إسرائيل" بأن الأميركيين محايدون، وأن الفرنسيين يأتون منحازين إلى العرب .‏
                          ولن ينسى الرئيس كلنتون ما قدمه " لإسرائيل " ولا ما وعدها بتقديمه، كما أنه لن يتخلى عن الالتزام الديني ـ الخُلُقي الذي أعلن أنه قدمه لكاهنه وهو على فراش الموت، إذ وعده بتقديم كل دعم "لإسرائيل" وأنه ولن يكون إلا إلى جانبها؛ وقد توطد ذلك قبل أن يكون رئيساً، ويوم كان شاباً يشارك في معسكرات " بناي بريت " التي أقيمت في فلسطين المحتلة. لكن الرئيس الأميركي سيكون أكثر تحرراً من ضغط داخلي، وخوف نفسي، وطمع ذاتي فيما يتعلق بدورة رئاسة ثالثة، فليس له الحق القانوني بذلك؛ وربما جعله هذا أكثر تحرراً في التحرك لخدمة حلفائه الأقربين في " إسرائيل " ولأداء ما يرى أنه في مصلحة " إسرائيل " أكثر مما يرى ذلك بعض " الإسرائيليين " والصهاينة المتطرفين، وهذا يعني تحديداً موقفاً محتملاً يكون أكثر جذرية وصرامة وجدية يقفه في وجه نتنياهو وممارسات حكومته التي تؤثر سلبياً على ما حققته الولايات المتحدة الأميركية " لإسرائيل " في الوطن العربي من خلال اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، ويعني أيضاً موقفاً دافعاً للمفاوضات السورية - الإسرائيلية التي تشكل استكمالاً للحلقة السَّلاموية وحماية للاتفاقيتين السابقتين، وللمكاسب التي تحققت "لإسرائيل " منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم .‏
                          إن الاحتمالات المستقبلية تشير إلى :‏
                          - إمكانية استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لحل مشكلة الخليل، واستكمال البرنامج الزمني لمفاوضات المرحلة النهائية، من دون أن يعني ذلك توقفاً للاستيطان الصهيوني، ولفرض أشكال الأمر الواقع التي سيدعمها مجلسا الكونغرس الأميركي، ويشجعان عليها، ويقدمان من أجلها المساعدات المالية .‏
                          - إمكانية استئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية على أرضية مرجعية مدريد، من دون أن يكون لسورية أي أمل في الحصول على أية مساعدات مالية أميركية مجزية في حال التوصل إلى اتفاق، وذلك لأن الكونغرس سيقف ضد ذلك بكل وضوح، وقد صرح غنغريتش أكثر من مرة بأنه - وهو من الحزب الجمهوري ورئيس الكونغرس - لن يقدم لسورية ثمناً للسلام. وفي هذا المجال لا أتوقع نجاحاً ميسراً وقريباً لهذه المفاوضات في ظل بقاء الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهذا يقودني إلى طرح السؤال ـ الاحتمال الآتي :‏
                          هل سيعمل كلنتون وبيريس " الديمقراطي الأميركي والعمل الإسرائيلي " على إسقاط نتنياهو وحكومة الليكود، أي هل سينتقل الصراع إلى ساحة العمل الصهيوني كما انطلق منها قبيل الانتخابات ليتابع كلنتون وبوب دول معركتهما من خلال حلفائهما الذين يشكلون عصب السياسة الأميركية في المنطقة، ورأس الحربة في حماية تلك المصالح، أعني الصهاينة يميناً ويساراً؟؟ ربما حصل ذلك، وساعد عليه بعض الحكام العرب الذين ظهر ميلهم إلى الرئيس كلنتون، كما أظهروه بإيحاء منه إلى شمعون بيريس؛ ولكن حتى إذا حصل ذلك في أفضل صوره وظروفه وشروطه فلن يكون لمصلحة العرب للأسباب الآتية:‏
                          1 - فالمشروع الشرق أوسطي الذي تدعمه اليوم بريطانيا بصيغة جديدة باسم " منظمة التعاون " سوف يستمر، وهو لم يتوقف على الإطلاق أصلاً، وخير شاهد على ذلك هو مؤتمر القاهرة الاقتصادي: وهو الحلقة الثالثة بعد قمتي الدار البيضاء وعمَّان في هذا الإطار، وبقية مشاريع التطبيع والتعاون التجاري والسياسي والثقافي بين أقطار عربية والعدو الصهيوني .‏
                          2 - والهيمنة الصهيونية مستمرة على المنطقة ويجري تعزيزها بكل الوسائل والإمكانات؛ وهي هيمنة أمنية واقتصادية وسياسية تتم على أرضية من الدهاء السياسي وليونة قفاز الحرير بيد فولاذية، وقد ظهر مفعولها على يدي الثنائي: كلنتون - بيريس في ما سمي بحملة " عناقيد الغضب " التي أنتجت "قانا " ودعماً أميركياً غير محدود لكل ما جرى فيها ولما تبعها ونتج عنها .‏
                          3 - والشرذمة العربية مستمرة هي الأخرى، وسوف تستأنف عملية دعم الأحلاف الموجهة أميركياً في المنطقة ولا سيما ما كان من ذلك بين: الأردن و"إسرائيل" وتركيا لفرض حلقة حول سورية ولبنان تحجّم دور سورية القومي وتعزلها عن محيطها العربي، وتجعل الخليج العربي والسعودية منطقة ساقطة نهائياً بيد " الأميركي - الإسرائيلي " من دون أدنى اتصال بعرب في آسيا أو أفريقيا، وجعل مصر تنكفئ وتنحصر في إطار إفريقي ضيق وعربي أضيق لتصبح دولة سياحة وطرب، والحصان " الفِسْكِل " في سباق الدول ـ الخيل في المنطقة .‏
                          4 - والانحياز الأميركي سيبقى بلا حدود لدولة أخذت وتأخذ وستأخذ من الولايات المتحدة الأميركية دعماً غير محدود لتنجز مشروعها الاستيطاني التوسعي الاستعماري، مشروع "إسرائيل الكبرى "ثم "إسرائيل التوراتية" في المنطقة، سواء تم ذلك جغرافياً وسكانياً أم تم سيطرةً على السياسة والقرار والاقتصاد وشؤون الناس وأحلامهم .‏
                          5 - وسيستمر التضاد والصراع والتناحر بين المشروعين الصهيوني والقومي العربي إلى ما لا نهاية حتى في حال موافقة الحكومات العربية على الاعتراف" بإسرائيل" وتطبيع العلاقات معها، لأن الرئيس كلنتون وحزبه وبوب دول وحزبه مضافاً إليهم أحزاب " إسرائيل " والمتعاطفين معها والمتحالفين معها من العرب، لن تستطيع أن تنتزع من قلب العربي وعقله ووجدانه فلسطين العربية وحقوقه التاريخية فيها وتعلقه بمقدساتها وحق العودة إليها، كما أنها لن تطفئ شعلة العروبة وأهدافها ونضالها الطويل في قلوب الجماهير، ومسيرات تآكل واستلام .‏
                          قد نعاني من ضغط شديد، ومن تآلف رئيس أميركي منتخب وتحالفاته، رئيس واثق بقدرته وبقدرة دولته على فرض الشروط والحلول؛ وقد نتعرض لعدوان ولأشكال من المعاناة، ولكن لن تسقط من يدنا الشعلة التي تنير طريقنا إلى فلسطين والحرية، ولن نسلم بسيادة قوة القهر أميركية كانت أم "إسرائيلية " أم سوى ذلك من القوى على عالمنا .. كل عالمنا، وعلى مستقبلنا .. كل مستقبلنا، فما لا نستطيع إنجازه ينجزه أبناؤنا أو أحفادنا، والمهم أن تبقى فلسطين العربية حية في الذاكرة والوجدان،و "إسرائيل" العنصرية دولة استعمارية دخيلة على المنطقة فُرضت بقوة القهر في أرض العرب، وأن يبقى الصراع العربي الصهيوني حياً وفاعلاً ومؤثراً في البناء والتربية والإعداد والاستعداد من أجل التحرير وإقامة المشروع العربي الذي هو المشروع النقيض للتخلف والاستعمار والجهل والذل، والخضوع لمنطق القوة والقهر وتحالفات الأعداء ضد أمة ذات حقوق وشخصية وتاريخ وعقيدة وحضور، لا بد أن تدافع عنه بكل الوسائل والأساليب .‏
                          المهم ألا تنهزم منا الأعماق، وأن تقوم الإرادة وتقوى بالوعي المعرفي، وأن تكون الثقافة حصن المقاومة .‏

                          دمشق في 6 / 11 / 1996‏
                          الأسبوع الأدبي/ع536//9/ت2/1996.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            المهم ألا تنهزم فينا الأعماق
                            قادة الكيان الصهيوني الجدد يحاولون اليوم، بعد أن صدموا العالم بحقيقة الوجه البشع لأطماعهم وبرامجهم، يحاولون إتقان لعبة قال ايتامار رابينوفيتش سفيرهم السابق في واشنطن: " إن الرئيس حافظ الأسد أستاذ فيها "، وهي تلك التي تقوم على فن الجمع بين القوة والدبلوماسية، الاستعداد للحرب والاستعداد للسلام .‏
                            ومن يتابع ما يجري في أنساق عدة يحركها العدو ويتحرك عليها داخل فلسطين المحتلة وخارجها، يقف على معالم ذلك الذي كان فن قيادات صهيونية سابقة .‏
                            ففي الوقت الذي يرفض فيه نتنياهو إعادة الجولان إلى سورية، ويسرّع وتيرة الاستيطان ويتوسع فيه، وينفذ برنامج تهويد القدس، ويطور القدرات العسكرية الإسرائيلية ويعمِّق التحالفات ذات الطابع الحربي - الأمني - الاقتصادي، في الوقت ذاته يقول بالعودة إلى المفاوضات وبرغبته في السلام ويدعو سورية إلى " الحوار " ؟!.ولا يكاد يخفي رفضه أو بالأحرى نقضه لمرجعية مدريد وللاتفاقيات التي أبرمتها حكومة العمل مع عرفات والملك حسين. ففي مرجعية مدريد يقول بالسلام مقابل السلام ولا يذكر القرارين 242/ و 338 ولا يريد أن يتذكر القرار / 425/ المتعلق بجنوب لبنان؛ ويقول بأمن " إسرائيل " أولاً ولا يناقش متطلبات أمن الآخرين، وهذا يتضمن فيما يتضمن :‏
                            - رفض الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967 .‏
                            - التمسك بهضبة الجولان أو على الأقل بمواقع استراتيجية فيها.‏
                            - الهيمنة الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية على المنطقة .‏
                            - استمرار التوسع في برامج الاستيطان التي أتت على / 90% تسعين بالمئة من أراضي الضفة الغربية .‏
                            - تهويد القدس بالكامل .‏
                            - رفض كل حديث عن حق العودة، وعن دولة فلسطينية مستقلّة، وتقزيم القضية المركزية للعرب لتصبح إعادة الانتشار في الخليل .‏
                            وعلى نسق آخر يقوم اسحق مردخاي وزير الحرب الصهيوني بتهديد سورية في نطاق دعوتها لمفاوضات السلام وإعلان رغبة " إسرائيل " في التوصل إلى سلام مع سورية .‏
                            ومن يتابع تصريحاته يجده يتوعد سورية بتوجيه أقسى الضربات إليها مما يرى أنه سيهدد النظام ذاته فيها، وهي محاولة تخويف مركزة باتجاه معين تهدف إلى خلق حالة نفسية تستدعي التنازل في المفاوضات والتنازل عن المطالب المشروعة .‏
                            وهو يتهم سورية بحيازة أسلحة كيمياوية تهدد " إسرائيل " ويُظْهِر في الوقت نفسه استعداداً للحرب وقدرةَ أسلحته غير التقليدية وغير العادية على الإبادة. ويقوم على أرضية ذلك بحشد قوات في الجولان وباستعدادات ومناورات عسكرية .‏
                            وهذا النسق من العمل يرمي إلى إعداد رأي عام داخلي وخارجي لعدوان " إسرائيلي " يُحْمَل على أنه دفاعٌ ضد تهديد الحرب القادم من سورية، وردعٌ لنوايا مضادة للسلام، بالمفهوم "الإسرائيلي" للسلام .‏
                            وفي نسق ثالث يقوم دافيد ليفي بمحاولات تقديم وجه " إسرائيل" الحريصة على علاقات طبيعية: سياسية واقتصادية مع العرب، ويحرص على أن يدفع العلاقات التي نتجت عن الهرولة العربية باتجاه " إسرائيل " نحو الأمام منطلقاً من أرضية شرق أوسطية بيريس والمؤتمرات الاقتصادية التي أخذت تعمق خط القطاع الخاص ومبادراته لتجنِّب الأنظمةَ مسؤولية التطبيع المباشر الذي يقاومه الشعب .‏
                            وفي نسق رابع، على الأرض في فلسطين المحتلة، يجري العمل على قدم وساق، وبوتيرة عالية جداً لتوسيع المستوطنات وشق الطرق والاستيلاء على الأراضي، وتغيير التكوين السكاني والجغرافي للقدس، كما يتم بتنسيق مع شرطة عرفات أو أجهزة أمنية معينة سحقُ كل أشكال المقاومة الفلسطينية المحتملة والقضاء على القوى الروحية والمادية التي قد تكون أداة للمقاومة ومنطلقاً لها .‏
                            ولا يتوقف - في إطار نسق خامس - تطويرُ القدرات العسكرية وتوسيع التحالف الذي أصبح يشمل تركيا والأردن برعاية أميريكية، والذي توصل إلى تخزين أسلحة وذخائر أميركية في الأردن بعد أن أنجز هذه المهمة في فلسطين المحتلة منذ زمن، وهي أسلحة وذخائر تخدم تحالفات لا يمكن أن توجه ضد "إسرائيل " وإنما تعمل معها ضد الجوار؛ وفي إطار من العمل الرامي إلى تغيير الخريطة الجيو- سياسية للمنطقة، حيث يوعَد الملك بنصيب أكبر من الجغرافية والنفوذ، وإلا لما أعطي استثناء أميركياً بأن يعامل معاملة حلفاء أميركا من الأطلسيين .‏
                            ويحق لنا أن نتساءل: من هم الجوار الذين يستهدفهم التحالف الإسرائيلي - الأميركي - الأردني - التركي في هذه المنطقة؟! هل هم غير من يرفضون الانصياع لمتطلبات العصر الصهيوني وشروطه ومصالحه، ومن يرفضون أن يعيشوا في ظل هيمنته الأمنية والاقتصادية ؟!!‏
                            وهل يرمي هذا التحالف المتوسع إلى أبعد من منع أية قوة غير أميركية من الدخول إلى هذا الحوض الغني بالثروات والمبشر بقدرات مستقبلية في كل المجالات ؟!.‏
                            وفي ظل هذا الوضع، الذي يستهدف " سورية ولبنان " أولاً لفرض حرب عليهما إن لم تقبلا " بسلام " إسرائيلي الشروط والمواصفات، ولا يكاد يقدم إلا لوحة كالحة لأيام عصيبة قادمة؛ في ظل هذا الوضع ينبغي أن ندقق في بعض القضايا والمواقف والأمور، ومن ذلك على سبيل المثال :‏
                            - ما هي الاحتمالات التي يمكن أن تقدِّمها مفاوضاتٌ قادمة أُعلن عن أن شهر شباط من عام 1997 سوف يشهد انطلاقتها بين سورية والكيان الصهيوني بعد أن تم التلميح إلى أنها ستبدأ من دون شروط ؟!.‏
                            ومعنى هذا أنها ستنطلق من مرجعية مدريد المختلف على تفسيرها وليس مما تم التوصل إليه في واي بلانتيشن بعد أن توقفت بعد عملية " بيت ليد " التي تلتها مذابح " عناقيد الغضب " الصهيونية .‏
                            من المسلم به أن سورية لن تقبل أقل من الانسحاب الكامل من الجولان وإلى حدود الرابع من حزيران 1967 .‏
                            ومن المعروف أن جنرالات الليكود لا يقبلون الانسحاب من أماكن استراتيجية في الهضبة قبل خمسين سنة من السلام كما يصرح بعضهم .‏
                            فهل تنتهي الأمور إلى حرب أم إلى سلام، أم يلعب كل فريق مع الأخر لعبة الاستغماية، ويجربون جميعاً عض الأصابع، وتطويل أمد المفاوضات إلى أن تحدث متغيرات؟ وكل من الفريقين يرغب في ذلك ؟!.‏
                            - ما هو الأداء العربي المحتمل في حالتي الحرب والسلام بين سورية والكيان الصهيوني ؟!. هل يذهب العرب إلى أكثر من التضامن الكلامي وبرقيات التأييد وإعلان عدم الرضا، وربما دعوة السفراء للتشاور ؟!.‏
                            وهل ستتوقف عملياً وفعلياً حركة التبادل التجاري والمشاريع المشتركة والتطبيع الذي أدى إلى أن ترتفع قيمة التبادل التجاري مع العدو إلى /220 / مليون هذا العام بدلاً من /20/ مليوناً قبل أعوام ؟!.‏
                            وهل ستحجِم الأنظمة التي تشجِّع إقامةَ المصانع " الإسرائيلية " فيها، ودخولَ رأس المال الصهيوني للاستثمار والتجسس، هل ستحجم عن فعل ذلك؟! وهل تملك أصلاً قرارها وقدرةً على تحرير ذلك القرار من أساليب السيطرة والتوجيه لتقوم بفعل مغاير مطلوب على المستوى القومي؟! إنه سؤال لا يلغي على الإطلاق إمكانات الشعب العربي على التغيير والقيام بشيء معجز يقلب الأمور رأساً على عقب .‏
                            - ما هو المعطى الدولي السياسي والعسكري والدبلوماسي الذي يمكن أن يتمخض عنه وضعٌ متوترٌ في المنطقة، أو سيطرةٌ أميركية - إسرائيلية عليها؟!.‏
                            هل ستتحرك "أوربا فرنسا " باتجاه العرب أم تتحرك "أوربا بريطانيا" باتجاه الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"؟! وهل تكون هناك قدرة لمجلس الأمن مثلاً على اتخاذ قرار يوقف إطلاق النار إذا ما نشبت الحرب وأرادت " إسرائيل " وشركاؤها إلحاق أذى بسورية ولبنان " و" ضرب النظام بقسوة في سورية شهده من الداخل " كما قال اسحق مردخاي وزير الحرب الصهيوني ؟!.‏
                            إن تجربة المجلس في التصويت على التجديد لبطرس غالي أنموذج لما يمكن أن يقوم به مجلس محكوم بمصالح الكبار، وتجربته الأكثر مرارة ما زالت ماثلة في أذهاننا إبَّان اجتياح لبنان وحصار بيروت ثم دخولها عنوة؛ وكذلك تجربته إثر مذبحة " قانا " يوم استخدِم حق النقض " الفيتو " الأميركي ضد مشروع قرار يدين " إسرائيل " بيريس التي غرقت في دماء الأطفال الجنوبيين .‏
                            ولا أريد أن يصل من هذا الوضع إلى النفوس يأس، ولكن أريد أن تصل النفوس العربية إلى اقتناع تام بأن عليها أن تعتمد على نفسها وتهيئ ذاتها لمواجهات صعبة تكون هي مفتاح السلب والإيجاب فيها، وأن تدقق جيداً في اختياراتها لترى: طريق الحق والكرامة والحرية والنصر وهي طريق تتطلب بذل الجهد وعدم الاسترخاء أو الركون إلى سلام العدو وما يعد به من ازدهار، لأن حقيقة ذلك الاختيار ترتب استعداداً لامتلاك القوة، وسعياً لامتلاكها وقدرة على استخدامها .‏
                            أما اختيار التبعية والتنازل عن الحق ودخول العصر الصهيوني من أبوابه، مع التنازل عن الذات والحقوق والكرامة فمقرون بالذل والتراخي ونبذ المشروع العربي الذي لا يقوم إلا على الجهد والبذل والتضحية .‏
                            إن عملاً عربياً واعياً مع الجماهير والأنظمة هو من ضرورات المرحلة مهما كان مردوده وأياً كانت نتائجه؛ وإن سعياً حثيثاً لكسب صداقات دولية هو مما يفيد، وهو ما تعمل عليه سورية، وإن تواصلاً مبدئياً مع حلفاء محتملين ممن يتعرضون مثلنا للتهديد وأشكال المعاناة من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية أمر مطلوب. وأهم ما ينبغي أن نعرفه ونركِّز عليه ونتمسك به هو ألا ننهزم في الأعماق وألا تنهزم منا الأعماق؛ وألا تتعرض ثقتنا بأنفسنا وبحقنا وبالمستقبل الذي لنا وبالنصر الذي لا بد أن نحققه، ألا يتعرض أي من ذلك إلى اهتزاز من أي نوع .‏
                            المهم ألا تنهزم فينا الأعماق .‏

                            دمشق في 21 ـ 11 ـ 1996‏
                            الأسبوع الأدبي/ع538//23/ت2/1996.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              كثيراً ما تحدثنا عن الإنسان
                              الإنسان هدف الرسالات والثورات وغايتها والمستهدف، إن سلباً وإن ايجاباً، في كل نظام وتنظيم وفعل وسياسة، وتنعكس عليه الوقائع والمعطيات والمستجدات والتغيُّرات التي تخلقها الحركة المتنامية للحياة على الأرض؛ ولا أظن أن الوصول إلى إدراك واضح وحلول لمشكلات الأفراد والمجتمعات والدول من الأمور الممكنة إذا حصر الكلام عن الإنسان الإنسان الضار والنافع في الوقت ذاته، بصورة مطلقة؛ إذ لا بد من تعيين الذات أو الذوات ـ فردية كانت الذات أم جماعية أم اعتبارية ـ والتمحيص والتدقيق في علة نشوء الصراعات والمشكلات وأسبابها، وفي مصادر ذلك النشوء التي ترتبط بالهوية وتنبع منها وتتصل بها أكثر من اتصالها بالماهية وانطلاقها منها، والمقصود هنا هوية الأفراد والمجتمعات والأمم والدول لنقف على السبب والمسبب والهدف والوسيلة، وذلك كله مدخل للبحث عن قوانين واستنتاجات وحلول، بعد إتمام عملية التشخيص والتمحيص.‏
                              من المفيد أن نفرق في هذا المجال بين الإنسان بوصفه ماهية والإنسان ذي الهوية؛ فالإنسان الكائن الحي ذو الصفات والمواصفات العامة والعناصر الجوهرية في التكوين الجسدي على الخصوص هو كل بشر على وجه الأرض، وهو يحمل ماهية الإنسان ويشارك أبناء جنسه في عناصرها وجواهرها الثابتة في الآخرين، أما فلان ذو الهوية والشخصية المحددة والخصوصية الفردية فمحدد تماماً ولا ينطبق إلا على زيد أو عمر من الناس بوصفه الكائن البشري فلاناً بعينه، محدداً تماماً بمعطيات ومواصفات جسدية ونفسية واجتماعية، فكرية وروحية، وله جنسيته وانتماؤه ومصالحه وتطلعاته وممارساته ورغباته التي تميزه عن سواه من الأفراد في مجتمع محدد وأسرة محددة.‏
                              وبين ماهية الإنسان وهوية الفرد توجد شبكة متداخلة من المواصفات والقيم والصلات والمصالح، يتفاعل فيها العام والخاص ويتكاملان؛ وهي تؤسس بدورها لأنواع من الصراع وتؤهل لمستويات من الأداء والإبداع والتقدم والنبوغ؛ كما تؤسس ـ بوصفها نصف نواة الخلية المجتمعية، الأسرة ـ لما يمكن أن يكون مستقبلاً جوهر الشخصية الجمعية وأحد مقومات تمايزها ومرتكز أدائها، ومسوِّغ صراعها وهدف ذلك الصراع .‏
                              فالإنسان الفرد ذو الكيان المشَخْصَن له حاجات مادية وتطلعات معنوية، وكل ذلك يستدعي مجاله الحيوي ويبحث عن تحقيق ما يريده؛ ويكاد يكون هذا الشيء ذاته هو شأن المجتمع أو الأمة؛ فما تنطوي عليه خلية حية في جسد من مكونات واحتياجات وخصوصيات تنطوي عليه خلية اجتماعية في مجموعة بشرية أو أمة، ويسعى إلى التشخصن الاعتباري في دولة تملك الوسائل أو عليها أن تملكها لتلبية الاحتياجات والدفاع عن الوجود والمصالح وتحقيق الغايات والتطلعات .‏
                              والفرد في مجتمع لا يكف عن الكفاح والصراع لسد احتياجاته والدفاع عن ذاته ونيل أمانيه، وكذلك يفعل المجتمع أو الشرائح البشرية فيه، وتفعل الدول والتحالفات الدولية؛ فالحياة تقوم على قوانين الحركة الهادفة، والكائن البشري أبو الجهد المنظم لاكتشاف تلك القوانين والاستفادة منها لتسخير الطبيعة له والتناغم البناء مع ثوابتها؛ ولكنه في سعيه لتحقيق ما يراه سعادته يهدم ما تبنيه الحياة أحياناً ويقيم صراعاً مع غيره قد يؤدي إلى فساد شروط الحياة ومناخ التعايش من حوله، الأمر الذي يجعله يؤسس للفناء، شاء ذلك أم لم يشأ !؟!‏
                              في دورة الزمن التي أترنح في مداراتها منذ نصف قرن ونيِّف، كنت وما زلت مشروع حلم ومشروع رؤية ـ وأرى أن كل حي وكل مجتمع يبقى يترنح في حدود مشروع حلم أو مشروع رؤية ـ منذ نصف قرن ونيِّف وأنا أتطلع إلى وقت، يقصر أو يطول، وقت واحة في الوقت، أرى فيه توقف دورة الحرب أو دورة الظلم أو دورة البؤس، ولكن كل ساعة من الزمن تحمل في طياتها بؤساً وظلماً يستدعيان صراعاً ودماً ضد الظلم والبؤس؛ وهكذا كان يستمر النداء والحداء .. المسير والسعير، فلا تكاد تخفت حدة الصراع في ركن من أركان الأرض حتى تتعالى حدته في ركن هناك، ولا يكاد يتوقف جريان الدم على شفرة سيف فى مشرق الأرض حتى يسحَّ مزرابُه على شفرات في مغربها؛ والإنسان دائماً هو القاتل والمقتول الظالم والمظلوم، وهو نهر البؤس المتدفق بلا هوادة على صخور الإرادة، وهو أشداق التنين المفتوحة على شلال الزمن من دون كلل ...‏
                              الجوع لا ينتهي، والموت لا ينتهي، والتطلع النشوان إلى الصبوات والرغبات ولأحلام والمشاريع والمصالح والمطامح لا ينتهي. كل الجحافل تتقدم وتجد كل المبررات لكي تتقدم، الذين يزحفون على خضرة الأرض ووردها يتقدمون خلف مسوغاتهم، والذين يزحفون على الشوك ورموش العيون يدافعون عن مسوغاتهم وتقودهم دوافعهم، والكل ينشج أو يهزج لا فرق؛ فمن يرى بؤس البشرية المتنامي في صميم الرؤية ومحرقها يجد صعوبة في التفريق بين النشيج والنشيد، بين الصهيل والشحيج، لكن على مساحة الرؤية عبر مدارات الزمن الكل يتقدمون .. الكل يتقدمون: آناً باسم الآلهة وآناً باسم الملوك، يوماً باسم الديانات وآخر باسم السياسات؛ عقداً باسم أيدولوجيا وآخر باسم أخرى، ويبقى على شفرة الزمن سيل الدم والبؤس ونشوة تقود إلى متابعة الطريق.‏
                              في دورة الزمن التي أترنح تحت ضرباتها كنت مع الذين يتقدمون: نحو بؤسهم أم نحو سعادتهم لا فرق، ففي كل مساء يدفع الركب المتقدم ضريبة السير، وحين يراجع الحساب ويكتشف الخسارة يندفع في طريق الرهان ليعوضها فيضيف خسارة سعيدة إلى أخرى شقية أو العكس، ويستمر في الأداء؛ حكمة كبرى تكمن وراء ذلك الاندفاع المتجدد والانبعاث في طريق يدفع فيها الإنسان كل يوم شيئاً ثميناً ليحصل على شيء أثمن، ولكنه قد لا يجيء أبداً ذلك الشيء الأثمن !! كل يوم يتقدم المرء خطوات من نهاية الطريق؛ فما من حي لا يتقدم في طريقه وما من طريق لحي من دون نهاية .. ما من طريق لحي من دون نهاية. قد تقوم هناك في نهاية الطريق شجار السرو الباسقة وقد تتوهج الصحراء ويدوِّم صهيل القفر .. ويعلن الزمن أن الطريق قد انتهت ... متران للمحظوظ ونقطة في نهاية السطر. ولكن هل هي نهاية الحياة ونهاية التاريخ؟!‏
                              الإنسان وجد ليبقى، والفرد يبقى في نسله وذويه، والمجتمع يتسلسل في أفراده، والشعوب والأمم الحية ليس لوجودها من نهاية .. وهذا ما يقود إلى شيء من عزاء وإلى شيء أكبر وأهم هو ذلك المسوغ لاستمرار الأهداف والغايات والنضال من أجلها، وتواصل الصراع من أجل رفع الظلم ونيل الأهداف التي يراها الناس عادلة بميزان الوعي والعقل والضمير. الأمم لا تموت، ومن يموت على طريق أهداف الأمم لا يموت، فهو الميت الحي، وهو الهامَةُ التي تستمر في الصراخ طالبة الثأر، وهو الشهيد الذي ينير طرق الأمم إلى النصر والكرامة والحرية والعدل بشعلة دم طهور يضيى ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله بنوره من يشاء.‏

                              الأسبوع الأدبي/ع539//30/ت2/1996.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                خيار المقاومة
                                كان السؤال الغائب الحاضر دائماً هو نحن، ويتكرر اليوم نبض ذاك السؤال ويتصاعد: ماذا نحن فاعلون وقد تبدَّت لنا حقائق الأمور في صراعنا مع العدو بشكل جلي؟! هل نعود إلى حقائق ما قبل قمة فاس التي قالت بالتسوية السلمية مدخلاً وحيداً وخياراً استراتيجياً لحسم الصراع العربي الصهيوني،أم نبقى نعيش أوهام ما بعد تلك القمة وكوابيسها ونتراخى على " مخملها ‎" ولا نشعر بحقيقة أنه جلد الصبَّار وشوك القنفذ ؟!‏
                                العدو الصهيوني لم يترك اختيار القوة، ولم يتوجه في يوم من الأيام لاختيار السلام، ولم يتنازل عن مشروعه التوسعي ـ الاستيطاني؛ لقد غير "التكتيك" المرحلي، وغير في ترتيب الأفضليات والأولويات، وغير برامج الوصول إلى الأهداف الثابتة، ولكنه لم يغير تلك الأهداف. لقد كان وما زال من ثوابته الاستراتيجية أن يحصل من العرب على اعتراف شامل به، أو أن يفرض عليهم ذلك الاعتراف بالقوة وصيغة الأمر الواقع؛ واعتراف العرب به لا يعني له توقف مشروعه الكبير وإنما يعني مواصلة العمل من أجل تحقيق ذلك المشروع على أرضية من الاعتراف والأمن والاطمئنان: إنها خمسون سنة أخرى من نوم العرب أو موت تفكيرهم وركونهم إلى أوهام جديدة، وهي مدة زمنية كافية لجعله يقفز، بكل المقاييس والإمكانيات والاستعدادات، إلى تطبيق المرحلة التالية من مشروعه المستمر، مشروع " " إسرائيل " التوراتية "، وهاهو اليوم، وقد بلغ من خلال مؤتمر مدريد ما يرى أن مدريد لا يمكن أن يحقق له أفضل منه، ها هو يعلن عن تنكره لتلك المسيرة شبه المنتهية بالنسبة له، ويبدأ مرحلة جديدة من العمل على المشروع الأساس .‏
                                إنه يختار التصعيد والتهديد واستخدام القوة، التي لم يتوقف لحظة واحدة عن تعزيز مقوماتها وتطويرها، يختار القوة ليفرض ما يريد؛ مستفيداً من اختلال ميزان القوى عربياً ودولياً لمصلحته،ومن استرخاء العرب على مخدته ومخدة حلفائه، مخدة مدريد؛ إنه يختار التوسع في الاستيطان، الذي لم يتوقف يوماً، ويختار المضي في سياسة التهويد،وتعزيز الاحتلال، والعودة عما يمكنه العودة عنه مما تضمنته اتفاقيات الإذعان التي وقعها مع عرفات والملك حسين، على ما في تلك الاتفاقيات من تفريط مريع بالحق والكرامة العربيين؛ وهو يريد، في آن معاً، نقض مرجعية مدريد والمحافظة على ما تحقق له من مكاسب جراءها مثل: التطبيع مع معظم الأنظمة العربية، وسقوط المقاطعة رسمياً، والشراكة السياسية والاقتصادية والأمنية ـ الشراكة الاستراتيجية ـ مع بعض الحكام والأنظمة العربية في مجالات كثيرة.‏
                                وعلى الرغم من أن تلك الشراكة أصبحت قيداً يدمي أيدي الذين دخلوا معه فيها من العرب،الذين جرتهم المكابرة أو المؤامرة وما زالت تجرهم إلى عدم التصريح بذلك، على الرغم من ذلك بقي الالتزام بها مطلباً للعدو لأنه يجد فيها مكسباً له، ومطلباً لهم لأتهم يجدون فيها مدخلاً لحمايتهم من شعوبهم وأمتهم ما داموا قد اختاروا ما لا يرضيها ولا يعبر عن تطلعاتها.‏
                                وفي ظل هذا المناخ القتال يبزغ السؤال: ماذا ننتظر حتى نقوم بمراجعة جريئة وجذرية تحسن قراءة كل ما يجري وتستفيد من كل ما جرى ويجري لنضع حداً للتهافت والتآكل، وقد غدا واضحاً أن الانتظار يقوي العدو ويضعف صفنا،ويزيد الضعفاء منا ضعفاً، ويضع الرافضين منا للعدو والمقاومين له على مشارف الإحباط؛ كما غدا جلياً أن الذين تورطوا مع العدو من العرب أصبحوا أسرى ذلك التورط، وهم يزدادون تهالكاً وتورطاً كلما ازدادوا صمتاً واستمراراً؛ ولا يفيد أياً منهم أن يعلن على استحياء قائلاً: " أنا في معضلة لست أدري إلى متى يمكن الانتظار ومواجهة احتمال حدوث شيء فظيع "؛ ويظهر كأن في هذا غاية ما يُقال ويُفعل .‏
                                في السياسة لا يمكن " للطف نتنياهو" ـ كما قال بعضهم عنه ـ أن يكون مانعاً من رؤية الحقيقة التي عبروا عنها ونراها تتجسد على الأرض بشكل وحشي القسوة كل يوم، حقيقة " أن أفعاله تناقض أقواله، وأن تلك الأفعال لا تبعث على التفاؤل. ". ولا يبرر لنا مواقفنا منهم وانتظارنا لهم وترددنا حيالهم كونهم يمنعهم الكبر أو التواطؤ من الاعتراف بخطئهم الكبير، ومن التراجع عن اتفاقيات الذل التي وقعوها. إن علينا أن نصارحهم بذلك وأن نشدهم إلى موقف عربي بناء نضع أسسه ومقوماته ويكونون هم جزأً من تلك الأسس والمقومات؟!‏
                                العدو، من خلال حكومة الليكود برئاسة نتنياهو، لم يعد حريصاً على التمسك بمرجعية مدريد بل هو حريص على نقضها، مع الاحتفاظ بكل ما حققته له من مكاسب؛ ولم يعد يرى أن عليه من التزامات مدريد إلا الادعاء بأنه يحترمها ويرى رأياً مغايراً فيها: فتفسيره لتلك المرجعية يختلف عن تفسير العرب لها. وهو بعد أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم؛ جراء تفرُّق الصف العربي وهرولة بعض الساسة العرب إلى أعتابه طوعاً أو كرهاً، راغبين أو مسحوبين بخطام أميركي؛ لم يعد يقول بمبدأ: الأرض مقابل السلام، بل بالسلام مقابل السلام مع الاحتفاظ بالأرض وبكل مقومات القوة التي تحفظ له التفوق الشامل والأمن والهيمنة؟! فبالله أي سلام وأي أمن يبقى لنا في ظل هيمنة القوة الصهيونية المتغطرسة، وما الذي نأمل في أن نحصل عليه بعد الذي بدا جلياً أننا نفقده ؟!‏
                                إن العدو لا يريد مرجعية مدريد ولا يريد أن يعلن رفضه المطلق لها، إنه يريد أن يدعها تموت وأن يستبدلها بنظام آخر، لأنها أصبحت عبئاً عليه ونقضها قد يحرجه ويحرج عرباً ويضطرهم لإعادة النظر باعترافهم به، وبتطبيع العلاقات معه، وبالشراكة السياسية والتحالفات العميقة التي أقاموها في إطار ما ظنوا أنه السلام على أرضية مدريد.‏
                                العدو يرى ضرورة الاحتفاظ بكل ما تحقق له مع تغيير الصيغة التي حققت له ما تحقق؛ ولذلك لجأ إلى تقديم مشروع " منظمة الأمن والتعاون في الشرق الأوسط " الذي تبنته بريطانيا وقدمته من خلال مالكوم ريفكند وزير خارجيتها ليكون مخرجاً من المأزق الذي وصلت إليه مسارات مدريد؛ وهو مشروع " إسرائيلي " أصلاً حمله دوري غولد مستشار نتنياهو إلى لندن وعاد به ريفكند إلى الشرق العربي؛ ويعلق أهل هذا المشروع أهمية عليه لأنهم يتطلعون إلى انضمام إيران ودول أخرى إليه، ويرون قدرته على احتواء أطراف أكثر وأكبر تصبح متكافلة متضامنة في حماية أمن " إسرائيل " ومكتسباتها، وتفتح أسواقها لها، وتتعاون معها ضماناً "لمستقبل السلام "، والتعاون من أجل الازدهار.‏
                                ما يريده الصهاينة واضح ومدروس، وطرق تقديمه للعرب وتسويقه فيما بينهم لا تخفى على أحد، وما يريده العرب ما زال ضبابياً ومتناقضاً، ولذلك نرى أهمية إعادة طرح السؤال: أين نحن مما يجري، وماذا نريد تحديداً، وكيف نصل إلى ما نريد، ومتى نبدأ التحرك؟!‏
                                هل مدريد غايتنا النهائية، وهي لم تحقق لنا شيئاً، وهل نتمسك بها على الرغم من عدم اكتفاء العدو بما قدمته له ورؤيته لها الآن عبئاً عليه يتهرب من مسؤلياتها، أم ترانا نتمسك بها مرحلياً من أجل ذلك؟!‏
                                ما الذي يقدمه مؤتمر مدريد في النهاية سوى الاعتراف الرسمي بالعدو وتطبيع العلاقات معه، وفتح الأسواق العربية كلها أمامه ودخوله المشروع إلى كل نفس وكل بيت في وطن الأمة؟!‏
                                هل نسبة 10% من فلسطين، وهي أرض الحكم الذاتي التي يمكن أن يبقى فيها فلسطينيون من دون سيادة ودون حق تقرير المصير، محاطين بالقوة الصهيونية التي لها الحق ـ كما يقول قادتهاـ بالمرابطة في وادي الأردن " فالحكومة تعتبر أن وادي الأردن لا يمكن فصله عن دولة " إسرائيل " في أي اتفاق دائم " كما يقول نتنياهو، هل هذه النسبة من أرض فلسطين هي التي تضطرنا للعض على عظْمة مدريد ؟!‏
                                هل نتطلع فعلاً إلى إمكانية قيام سلام مع الكيان الصهيوني على أرضية مدريد أو سواها؟! وهل يقوم على سرقة فلسطين واستمرار الاحتلال والاستيطان والتهديد سلام فعلي مع الصهاينة ؟!‏
                                لست من القائلين بذلك ولا من المتفائلين به، ولذلك أقول قولاً مغايراً وأدعو إلى عمل مغاير.‏
                                إن البناء في ظل خيار التحرير.. خيار المقاومة هو الخيار الأجدى وهو الذي يقدمه استقراء علمي لتاريخ الصراع العربي الصهيوني ولتاريخ الصراع بين الشعوب؛ والحرص على الرؤية السليمة للأمور في ظل سيطرة قانون القوة، الذي لن يتغير فيما يبدو، هو الذي يقود إلى ضمانات حقيقية ومستقبلية للحقوق والمصالح،للأجيال وللوطن؛ إذ تبقى القوة هي الضمان الأكيد بيد الأجيال وهي الرصيد الذي يتقدم في ظله الوطن ويأمن، وهي الرصيد الفعلي للوطن؛ فأمة بلا قوة هي هيولى تشكلها قوى الأمم على هواها، وأمة بلا قوة كتل من اللحم والمصالح تتناهبها القوى والشعوب.‏
                                إن البناء في ظل الاستعداد للمقاومة والدفاع عن الحقوق والمصالح والكرامة يقدم أرضية صالحة لإقامة أسس الوطن والمواطنة، والنهوض على ركائز ثابتة وسليمة ووطيدة؛ وهذا الاختيار وليس سواه هو الكفيل بوضع المجتمع والفرد والدولة أمام مقاومة الفساد وأشكال المتاجرة بالوطن والقيم والحقوق والناس، أمام حقيقة بناء الوطن بمسؤولية.‏
                                وهذا التوجه يحتاج إلى قرار قومي يَكْرُز به قطر أو نظام أو مجموعة واعية من المثقفين المسؤولين في مجتمعهم وعن مجتمعهم، وهو اختيار يرتب نهجاً في التفكير والتدبير، ويستدعي سياسة ويدعو إليها، ويستبعد سياسة ويدعو لنبذها.‏
                                إن العودة إلى حقيقة أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود وليس نزاعاً على حدود هي أجدر ما يتوجب علينا أن نلتفت إليه ونعمل به في هذه الظروف، ومثل هذه العودة الواعية لأهدافها ووسائلها وأعبائها، ترتب علينا طرح أسئلة قريبة وبعيدة، إذا ما أخذنا باختياراتها ومنطقها وضروراتها، ومما ترتبه تلك الأسئلة التوقف عند قضايا منها:‏
                                ـ هل يتوقف التطبيع مع الكيان الصهيوني بعد أن أبدى العدو كل ما أبداه من رغبة في توسيع الاستيطان ونقض لمرجعية العملية السلمية، ورفض لحق تقرير المصير للفلسطينيين؟!‏
                                ـ لقد رفضت الدول العربية في الاجتماع الأخير للجامعة العربية مشروع قرار بوقف التطبيع وربطت ذلك بالسيادة القطرية، ولكنها احتجت على الاستيطان، وأنا لا أكاد أتفهم هذا الفصل، لا سيما عندما يكون التطبيع في خدمة الاستيطان، ويكون الاستيطان قضاء عملياً على السيادة القومية. فالعامل المصري والفلسطيني وغيرهما من العمال العرب الذين يعملون في البناء داخل الكيان الصهيوني أما يقومون بعمل في ظل التطبيع يدعم الاستيطان؟! بل إنهم هم الذين يبنون المستوطنات لليهود الخزر المجلوبين إلى فلسطيننا.‏
                                وكذلك عندما تسهل دولة عربية ما وصول مواد بناء تصنع في أراضيها إلى فلسطين المحتلة أفلا يكون ذلك دعماً للاستيطان على أرضية التطبيع؟! فلا نعرف كيف يتم رفض الاستيطان ومقاومته في الوقت الذي يكرسه التطبيع ويدعمه ويكرس العمل من أجله؟!‏
                                القضايا المرتبطة بهذا الأمر كثيرة ومتنوعة ومن الصعب الفصل بين توجه وتوجه، فإما أن نختار اختياراً استراتيجياً متكاملاً، وإما أن نُقبل على ما فيه هلاكنا وذلنا من دون كثير من الشعارات الفارغة .‏
                                دمشق في 4 / 12 / 1996‏
                                الأسبوع الأدبي/ع540//7/ك1/1996.‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X