إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #91
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    مذبحة قانا
    في الساعة الثانية والنصف تقريباً من يوم الخميس الموافق‏
    18 نيسان 1996 قامت القوات الصهيونية المحتلة بقصف قاعدة القوات الدولية الفيجيَّة في قرية " قانا " قرب مدينة صور، التي لجأت إليها جموع النازحين اللبنانيين لتحتمي بها من نيران العدوان " الإسرائيلي " الذي استمر طوال الأيام السبعة السابقة على التاريخ المذكور؛ وفي المخيم المنكوب الذي أقامه النازحون سقط مئة وأربعة قتلى وأكثر من مئة جريح من المدنيين، كما أصيب عدد من الجنود الفيجيين العاملين في قوات الأمم المتحدة، ولم تتسع مشافي صور والنبطية وصيدا للمصابين.‏
    كارثة بشرية حلت بالأبرياء في " قانا "، بِرَك الدم والأجساد المبتورة الأطراف، والرؤوس المقطوعة، وصور الفظائع الوحشية التي لا تحصى ولا تطاق رؤيتها؛ الأطفال على الخصوص كان منظرهم يلحق العار كل العار بالإنسانية كلها، ومن بين جثث الأطفال كانت جثة لطفل في اليوم الرابع من العمر، ولـ " قانا " أن تسأل المسيح الذي تباركت به يوماً: ما ذا فعل ذلك الطفل وسواه لكي يلقوا هذا العذاب البالغ القسوة ؟!‏
    في اليوم السابق / السابع عشر من نيسان / كان القصف الوحشي " الإسرائيلي " قد أوقع في النبطية أحد عشر قتيلاً بينهم أم وأولادها الستة؛ ويضاف هذا العدد الكبير من الضحايا إلى ما سجله الأسبوع الأسود من أرقام جرحى وقتلى بين المدنين في أرجاء مختلفة من لبنان، لا سيما في الجنوب منه، بلغت حتى اليوم التاسع من أيام العدوان / 154 / شهيداً و / 322 / جريحاً، هذا عدا التدمير الشامل الذي استهدف منازل المدنيين في الجنوب، والبنية التحتية للعمران في لبنان الناهض من مأساته المروعة، التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً؛ وأدى العدوان إلى نزوح ما يزيد على أربعمئة ألف لبناني من منازلهم.‏
    وقد جرت الأحداث، حتى يوم مذبحة " قانا "، في ظل صمت رهيب وتواطؤ تام من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وكذلك من دول عربية ساهمت في القمة التي شجعت على هذا الفعل البشع، قمة شرم الشيخ، وهي التي أعطت لشمعون بيريس " شيكاً " على بياض للقيام بكل الأفعال الوحشية التي من شأنها ـ كما هو مخطط له ـ إنهاء كل أشكال المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال الصهيوني من الأرض، وكل أشكال المعارضة لاتفاقيات أوسلو ووادي عربة من النفوس. ولم يترك بيريس لحظة إلا واستغلها استغلالاً كاملاً ليلحق أكبر الإصابات بالعرب في فلسطين ولبنان، وليوفر لكيانه المفروض بقوة القهر، ولحزبه الذي يقدم على الانتخابات، ولنفسه كمرشح لرئاسة الأفعى الصهيونية التي تلدغ انطلاقاً من فلسطين المحتلة، كل فرص النجاح.‏
    وبعد مذبحة " قانا " المروعة التفت الغرب المنافق، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ليقول: لقد تجاوزت " إسرائيل " الحد!؟ ويعرف من يتذكر أن هذه التعابير ذاتها هي التي استخدمتها الإدارة الأميركية بعد أن وصلت القوات " الإسرائيلية " إلى بيروت عام 1982؛ وهرول الغرب ليحتوي ما تلحقه دميته المدللة " إسرائيل " بنفسها وبالناس من أضرار، وسارع كلنتون لينتشل شمعون بيريس من المستنقع الذي يتمرغ فيه.‏
    إن العدوان الوحشي على لبنان ما كان له أن يقع أو يستمر لولا الدعم الأميركي المطلق " لإسرائيل " والمساعدات العسكرية والمالية والمعلوماتية الهائلة التي تقدمها لها، ولولا ما قدمته قمة شرم الشيخ لبيريس من تغطية وتشجيع وإغراء؛ ولذلك فإن يد كل من شارك في قمة شرم الشيخ ملطخة بدماء أطفال الجنوب ومدنييه العزل، ويستطيع الرئيس الأميركي بيل كلنتون، من بين من شاركوا في تلك القمة جميعاً، أن يفاخر بأنه الأوفر نصيباً من الدم على يديه ووجهه، والأكثر استمتاعاً بذلك " النصر " على الأطفال والنساء والشيوخ في " قانا "؛ فقد حقق الآن أكثر من أي وقت مضى وصية كاهنه، الذي طلب إليه وهو على فراش الموت، ألا ينسى " إسرائيل " وأن يقدم إليها كل ما تحتاج إليه، وهاهو يفعل ذلك بانتعاش ونشوة جديرين برئيس الدولة الأعظم في العالم، والصهيوني الأول و " الأرفع مقاماً" في العالم أيضاً !!كيف لا يكون كذلك وهو أول من بادر، والغضب يهز كيانه هزاً، إلى جر ثمانية وعشرين دولة إلى مؤتمر، عقد خلال أيام ومن دون تحضير يذكر، لمناصرة " إسرائيل " وحليفه الأول " بيريس " بعد عملية استشهادية نوعية لأحد عناصر الجهاد الإسلامي في شارع ديزنغوف بتل أبيب، توجت عمليات حماس الثلاث في القدس وعسقلان؛ ثم قام بزيارة " إسرائيل " ليعزي بالذين قضوا في تلك العمليات، ثم عقد الاجتماع الفريد من نوعه في تاريخ العلاقات الدولية، في تل أبيب، بين حكومته وحكومة بيريس، أعني اجتماع مجلس وزراء مشترك بحضور رئيسي الـ c.i.a والموساد، الذي اتخذ كل القرارات التي من شأنها أن تمكِّن الحكومة الصهيونية من إبادة المقاومة الوطنية للاحتلال الصهيوني في كل مكان من الوطن العربي، لا سيما الفلسطينية واللبنانية منها، ثم قام بزيارة طلبة المدارس وألقى فيهم كلمات التشجيع على القتل والاستيطان وتصفية المنظمات الوطنية العربية المقاومة " حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله "، ولم تكلفه مذابح اللبنانيين على يدي الجيش الصهيوني سوى تلفت خجول؟؟‏
    ومنذ بداية العدوان على لبنان، الذي أعد له جيداً، أعلنت حكومة كلنتون أنها سوف تستعمل حق النقض " الفيتو " في مجلس الأمن لإبطال أي قرار إدانة " لإسرائيل " وعملياتها في لبنان، وستعوِّق انعقاد المجلس في حال مطالبة لبنان بانعقاده، وقد أنجز كلنتون وحكومته كل ما وعدا " إسرائيل " به حتى الآن، وعطلت الإدارة الأميركية قراراً لمجلس الأمن حول الموضوع، وعندما وصل ضمير العالم إلى درجة التشقق وانعدام القدرة على الاحتمال، جراء ما حدث في لبنان عامة وفي " قانا " خاصة، سارع الرئيس الأميركي الحصيف إلى التقاط الإشارة، فأعلن عن رغبته في وقف إطلاق النار " فوراً "، وأوعز إلى كريستوفر؛ الذي كان يردد من أقاصي آسيا: إن " إسرائيل " غير معتدية وأنه يتفهم موقفها ويؤيدها فيما تفعله، وأن كل ما يجري يتحمل مسؤوليته حزب الله؛ أوعز إليه بأن يقوم بزيارة المنطقة لمتابعة موضوع الخطة الأميركية لوقف إطلاق النار، وليعطل مبادرة فرنسية في هذا المجال، وغيَّر كريستوفر قليلاً في المعزوفة التي كان يكررها، وبدا أنه على استعداد للحديث مع سورية ومع لبنان لوقف المبادرة الفرنسية السابقة على مبادرته، والعمل على استئناف المفاوضات على المسارين: السوري ـ " الإسرائيلي " واللبناني ـ " " الإسرائيلي " "، بعد أن أدار ظهره لهما منذ عملية شارع ديزنغوف؛ بينما استمر / الرئيس كلنتون /في تلمس الأعذار " لإسرائيل " في الوقت الذي يشمئز العالم كله من مذابحها، فقال من بطرسبورغ يوم / 20 / نيسان: " كان من شبه المستحيل على " إسرائيل " أن تتجنب إصابة المدنيين وهي ترد على حزب الله"؛ ولم يجمع الرئيس بين تصريحه هذا وبين ما صرح به ضباط جيش الاحتلال الصهيوني الذين قالوا عن المدفعية التي قصفت مخيم " قانا ": " إنها منصوبة هناك منذ عشر سنوات، وإنها دقيقة في إصابة أهدافها "، ولا بين الواقعة المثبتة وهي أن قاعدة قوات فيجي في " قانا " مازالت في موقعها المعروف جيداً من جيش الاحتلال الصهيوني منذ ثمانية عشر عاماً؛ وقد كانت مدفعية ذلك الجيش دقيقة إلى حد الفظاعة المطلقة في إصابة أهدافها من المدنيين.‏
    ليس الفجور الإسرائيلي ـ الأميركي جديداً ولا مفاجئاً ولا غريباً، فهو يمتح من نبع واحد هو الصهيونية التي تعرِّش في فلسطين المحتلة وفي مرافق الإدارة الأميركية وإعلامها وسياساتها على حد سواء، وهي تستخدم قدراتها وتحرك أدواتها وعملاءها هنا وهناك لتنال من الشعوب، ولتفرض مفاهيمها وتخدم مصالحها؛ ولا تتورع أبداً عن القيام بكل ما من شأنه أن يحقق للعدوان والاحتلال والوجود الإسرائيلي كل مقومات التفوق والهيمنة والفتك بالمنطقة وأبنائها، والعبث بمقدراتها، كل مقدراتها، إن استطاع.‏
    لقد نجحت قمة شرم الشيخ، إلى حد ما، في تشويه صورة المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال ـ لا سيما للاحتلال الصهيوني ـ في الوطن العربي، وجعلت تلك الصورة متداخلة في أذهان الكثيرين، في العالم وفي الوطن العربي أيضاً، مع صورة من يمارسون العنف في بلدان لا يوجد فيها احتلال ولا تقوم فيها مشروعية أحياناً لاستخدام العنف، وجعلتها متداخلة كذلك مع ممارسة مرفوضة كلياً لعنف يدخل في دائرة الإرهاب المقيت الذي يمارس على أرضية عنصرية، تحقيقاً لبرامج إبادة الجنس المنظمة، كما فعلت وتفعل " إسرائيل " طوال تاريخها، منذ قبية ودير ياسين وكفر قاسم ونحالين حتى مجازر: المسجد الأقصى وصبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي و" قانا "، وكما فعل الصرب بالمسلمين في البوسنة والهرسك؛ وكرست تلك القمة خلطاً شنيعاً مقصوداً بين عنف مسلح جاء رداً على عنف مسلح، وعنف يمارس لفتح طريق أمام العدل والديمقراطية وحقوق الإنسان ولإلغاء أشكال المصادرة للحريات العامة، بعد أن سدت طرق الحوار المؤدية إلى ذلك؛ لقد جعلت كل ذلك إرهاباً، وعملت بكل الوسائل الممكنة والأساليب المتاحة على مقاومته، وعلى إلحاق سلبياته بالإسلام، حاملة عن تقصُّد وعمد فعل كل مسلم على الإسلام بهدف تشويه صورة المسلم وصورة الإسلام .‏
    لقد جرى خلال الأيام الماضية دم بريء في " قانا " نتيجة القصف الوحشي الذي قامت به قوات الاحتلال الصهيوني لنازحين احتموا بالأمم المتحدة وقواتها، فاستبيح كل حمى لهم وكان لهم الموت، لأنهم لم يعرفوا جيداً بعض الحقائق الناصعة التي منها :‏
    ـ أن سمعة المناطق الآمنة التي أقامتها الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك للمسلمين،سمعة سيئة للغاية، فقد كانت أكثر الأماكن مجلبة للرعب والبطش والمذابح على المستظلين بها !! ومن تراه يجهل سربرنتسا وأخواتها؟!‏
    - أن قوات الأمم المتحدة لا تملك القدرة على الدفاع عن نفسها ولا عمن يحتمي بها، وهي قوات متخصصة بقبض الرواتب، وينتشر بينها الفساد؛ وقد كان مصداق ذلك وبرهانه وآخر شواهده ومشاهده قبل عشرات من شهور في البوسنة والهرسك، حيث ارتكبت أبشع مذابح إبادة الجنس على أساس عرقي وديني، تحت سمع تلك القوات وبصرها، ولم تفعل شيئاً، اللهم إلا تهديد قائدها للمسلمين الذين ذبحوا، وإعلانه أنه لا يدافع عن المسلمين؛ وحيث قام بعض أفراد تلك القوات باغتصاب النساء المسلمات، وبالاستيلاء على المساعدات الغذائية وسواها وبيعها في السوق السوداء، لمن كانت قد أرسلت إليهم ومن هم بأمس الحاجة إليها.‏
    ـ وأن قوات الأمم المتحدة هي بإمرة الأمين العام للأمم المتحدة من بعض الوجوه، وهو الذي شارك بحماسة في قمة شرم الشيخ، وكان أحد صانعي قمة الحرب والإرهاب تلك، التي شنت تحت مظلتها الحرب ضد الأبرياء والمقاومين الشرفاء للاحتلال في لبنان وفلسطين المحتلة؛ وأن بطرس بطرس غالي فوق ذلك كله وقبل ذلك كله، زوج يهودية تحكمه وتشكمه، وسليل أسرة لها في تاريخ الاستعمار البريطاني لمصر تاريخ لا ينسى؛ ويأخذ على عاتقه الكثير من المهام التي تريد الإدارة الأميركية تنفيذها من خلال الأمم المتحدة، التي أصبحت، كما هو معروف، منظمة أميركية، تعمل بشكل أو بآخر في خدمة المصالح الأميركية، وعلى تحقيق خطط الإدارة الأميركية وبرامجها.‏
    لقد ذهب أولئك الأبرياء ضحية توهم ـ قد يكون من بعض الوجوه مشروعاً ـ توهم بأن حمى الأمم المتحدة محمي؛ بينما الواقع أن ذلك الحمى فخ، وأنه لا يكون حمى إلا بالنسبة " لإسرائيل " التي تمهد الطرق أمامها صهيونية تحكم البيت الأبيض وبالتالي قرارات الأمم المتحدة، وماسونية تأتمر بأوامر تلك الصهيونية.‏
    مساكين أهل " قانا " فقد استظلوا بظل الوحش ودخلوا خيمته فافترسهم دون مطاردة؛ ودمهم الذي جرى سواقي هناك لن يكون الدم العربي الأخير الذي يراق، فالصهيونية لا يمكن إلا أن تمارس طبيعتها التي فطرت عليها، وهي طبيعة عنصرية وحشية لا ترتوي إلا بالدم، ولا تفرح إلا به، ولا تعرف إلا إياه، لأنها تتبع " يهوة " رب الجنود الذي يشم لها الطريق كذئب لا يرتوي أبداً من دم " الغوييم ".‏
    إن الذين سقطوا قرب " قانا "، وقال عن مذبحتهم أحد جنود الكتيبة الفيجية: " إن المرء ليعجز عن التعبير عن مشهد الموت والتدمير في الموقع "، وقال عنها قائد الكتيبة: " إن ما جرى مرعب "، إن أولئك شهداء، وكل من سقط في الجنوب وبقاع فلسطين، وهو يقاوم الاحتلال الصهيوني، ويدافع عن الأرض والحق والنفس والوطن والحرية هو شهيد، بل من أنبل الشهداء، ويأتي في الطليعة من أولئك شهداء حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي، الذين نفذوا عمليات استشهادية نوعية في فلسطين المحتلة؛ ولن نقبل لهم التسميات والصفات التي يطلقها أهل قمة شرم الشيخ والسائرون في ركابهم؛ إنهم شهداء الأمة وأعلام جهادها ونضالها، ووجهها المشرق في وقت الظلام والبؤس الروحي والسياسي الذي يقول به الكثيرون، ويعمل بوحيه الكثيرون .‏
    وستبقى مذبحة " قانا " والمذابح البشعة الأخرى التي ارتكبتها " دولة العنصرية والعدوان: " إسرائيل " " عنواناً للصهيونية والإرهاب، وخلاصة للتاريخ الأسود الذي أنتجه العصر الهمجي عصر تحالف الإدارات الأميركية والصهيونية ضد الأمة العربية، في هذا الجزء من العالم، ولن تنسى الأجيال العربية هذه المآسي الفظيعة ولا دم الأطفال في " قانا".‏

    دمشق في 22 / 4 / 1996‏
    الأسبوع الأدبي/ع510//25/4/1996‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #92
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      أوسلو الثانية
      وقَّع عرفات ورابين، في القاعة الشرقية الخاصة بالمؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض بواشنطن , في الثامن والعشرين من شهر أيلول 1995، الساعة الثامنة والربع تقريباً بتوقيت دمشق، اتفاقية طابا، التي تعطي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني مسؤولية إدارة شؤون السكان في 36% من أراضي الضفة الغربية في فلسطين المحتلة .‏
      وربما لم يكن التاريخ المختار لتوقيع تلك الاتفاقية عبثاً، فهو يوم انفصال الوحدة بين مصر وسورية / أيلول 1961/ ويوم وفاة المرحوم عبد الناصر / أيلول1970 / الذي كان يرفض كل شكل من أشكال الاعتراف بالعدو الصهيوني، ولا يرى سبيلاً لاستتباب الأمن في المنطقة إلا بتحرير فلسطين من الوجود الصهيوني؛ ووسيلته إلى ذلك كانت: امتلاك القوة، وبناء القاعدة الاقتصادية والصناعية، وإقامة الجبهة الداخلية، وشبكة الصلات والعلاقات الدولية، فما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة، كما قال.‏
      لقد كرست أوسلو الثانية سيطرة " إسرائيل " الفعلية على الأرض، ومسؤوليتها عن الأمن، وحقها في نشر المستوطنات الجديدة أينما أرادت، لا سيما في الهضاب المحيطة بالمدن والقرى، التي أعطي للحكم الذاتي أمر إدارتها ـ إدارة شؤون السكان فيها، وتقديم الخدمات لهم، ومنعهم من مقاومة العدو المحتل، وإراحة "إسرائيل" من الأعباء والخسائر البشرية والمادية التي كانوا يلحقونها بها ـ كما كرست تلك الاتفاقية، التي حضر حفل توقيعها وشهد عليها، الرئيس الأمريكي كلنتون، والملك حسين، وحسني مبارك، كرست سيطرة العدو الصهيوني على وادي الأردن، لأغراض الدفاع والأمن .‏
      واحتفظت " إسرائيل " بوجود قواتها المسلحة في الأماكن الاستراتيجية من الضفة الغربية وغزة، وبحقها في إعادة نشر تلك القوات في الأماكن التي تختارها وترى أنها ملائمة لحماية أمنها ولإحكام السيطرة على السكان العرب الفلسطينيين، ولمنعهم من التفكير، مجرد التفكير، بأنهم يمكن أن يخرجوا عن السيطرة في يوم من الأيام.‏
      وفي ظل هذه المعطيات لم ينس عرفات أن يبشرنا بأن توقيع هذه الاتفاقية هو البداية الفعلية لولادة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس. ولنا أن نصدق عرفات أو أن نكذبه، فالمعطيات السابقة والمسيرة السابقة، كل ذلك يبرر لنا أي اختيار نختار؛ فقد اعتدنا من الاثنين، عرفات ورابين، على الكذب وعدم احترام المواعيد والمواقيت والاتفاقيات والتعهدات والأقوال والمخاطبين بها. ولذلك فإن القدر الضئيل جداً من الحكم الذاتي في الضفة والقطاع، يبقى عرضة في أي وقت للإلغاء، جزئياً أو كلياً، وعرضة للمسخ والانتقاص والتشويه، ولذلك فإن علينا أن نكون حذرين جداً ونحن نتفحص المعطيات السابقة واللاحقة ونمحصها؛ ففي المرات السابقة، اعتدنا على أن يفجر رابين وينقض كل اتفاق بذرائع شتى، وأن يقبَل عرفات ذلك الفجور ويقبِل عليه، لأنه لا يملك إلا أن يُعْجَب بمن يتعهد حمايته وحماية سلطته واستمرار بقائه، ويضمن مستقبل أفراد أسرته، ولا يملك إلا أن يستكين له؛ والذي يخسر جرَّاء ذلك باستمرار هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية والأمة العربية، أمّا عرفات فإنه لا يخسر شيئا، وقد لا يعني له ذلك شيئا على الإطلاق .‏
      بعد عشرة أيام من التوقيع في واشنطن على أوسلو الثانية، تبدأ قوات الاحتلال الإسرائيلي ـ حسب تصريح عرفات ـ انسحابها من المدن والقرى المتفق على الانسحاب منها، لتقوم بعملية إعادة انتشار تكفل دائماً، وينبغي أن تكفل دائماً، بقاء السكان الفلسطينيين جزراً بشرية معزولة عن بعضها بعضاً. ولكن بداية الانسحاب، حسب المصادر الصهيونية، قد تبدأ بعد ستة أشهر، مع احتفاظ قوات الاحتلال الصهيوني بحق الدخول، في أي وقت، إلى أي مدينة أو منزل أو دائرة لأغراض الأمن، من دون أن تعلم بذلك السلطة الفلسطينية. وهذا يرتب للمختار، في وقت لاحق لتنفيذ الأوامر والعمليات التي من هذا القبيل، أن يطالب بحقه في أن يرافق تلك الحملات والـ (( كبسات ))، ليدل القائمين بها على الطريق وعلى بيوت المشبوهين، وليتمكن، على الأقل، من التدخل والتوسط، في الوقت الملائم، لبعض أتباعه ومحاسيبه وعيونه الخاصين .‏
      وتنفيذ بنود هذه الاتفاقية منوط بتطبيق معادلة حددها كلنتون وفسرها رابين، بإشارتين منهما في خطابيهما في أثناء حفل التوقيع على الاتفاقية؛ إذ قال كلنتون: " بقدر ما أعتقد أن الرئيس عرفات سيبذل كل ما في وسعه للسيطرة على الإرهاب، أعتقد أن رئيس الوزراء سيقوم أيضاً بكل ما هو ممكن للتقيد نصاً وروحاً بالاتفاق "، وقال رابين: " أعداء الأمس يواجهون اليوم عدواً مشتركا: الإرهاب الذي ينشر الموت في منازلنا وفي الحافلات التي تعبر شوارعنا .."، وفي هاتين الإشارتين تلخيص لمستقبل الاتفاق ولدور عرفات، وربط محكم لذلك بعضه مع بعض. فإذا قام عرفات بقمع الشعب الفلسطيني جيداً، وساعد "إسرائيل " على تصفية حماس والجهاد وكل من يفكر بعروبة فلسطين ويعمل من أجل تحريرها، فإنه يستحق البقاء في صورة " الرئيس " الذي بدأ رابين يتساءل عما إذا كان يهودياً، لحسن أدائه في خدمة الأهداف الصهيونية، وإذا لم يقم بذلك على الوجه المطلوب، فكل الخيارات الأخرى مفتوحة، كما قال شمعون بيريس، ومن تلك الخيارات عدم تنفيذ الاتفاق المسخ، اتفاق أوسلو 2.‏
      لقد كرست اتفاقية أوسلو الثانية نهج الاستسلام، والتواطؤ الرسمي العربي مع العدو الصهيوني وحلفائه على القضية الفلسطينية وأهلها؛ وفتحت الطريق أمام مرحلة قادمة،أكثر شراسة، يفقد فيها العرب مزيداً من الحقوق والمواقع والأوراق والاحترام. ولا يبدو أن المفاوض العربي، السوري واللبناني، سيسلم من هذه الموجة من موجات التراجع العربي أمام الأطماع الصهيونية، لأن شبكة المتحالفين مع العدو والرابطين مصيرهم بمصيره، أصبحت أكثر قوة وتماسكاً وضغطاً، وأشد حرصاً على إلحاق الأذى بالمفاوضين العرب المتمسكين بثوابت مبدئية وحقوق تاريخية ومسؤوليات قومية، تتجلى، في حدودها الدنيا، بمرجعية مدريد، وبالقرارات الدولية المتصلة بالقضية الفلسطينية والجولان وجنوب لبنان. وأولئك العرب الذين وقعوا اتفاقيات مع العدو الصهيوني أو شهدوا على الاتفاقية الأخيرة، اتفاقية أوسلو الثانية، لا يريدون، بأي حال من الأحوال، أن يحصل المفاوض السوري أو اللبناني على أفضل مما حصلوا هم عليه، لأن ذلك يزيد حجم مشكلاتهم، ويظهرهم أمام الأمة العربية على حقيقتهم، مفرطين بالحقوق، منهزمين في الأعماق، متحالفين مع العدو، وتابعين للغرب الاستعماري في قراراتهم وتطلعاتهم؛ وهذا ما يحرصون على إخفائه مرحليا، من جهة، وعلى استثماره لدى مراجعهم الغربية والصهيونية من جهة أخرى.‏
      بعد التوقيع في واشنطن سيقوم الوزير الأمير كي وارن كريستوفر بجولة في المنطقة، هدفها إخراج المسارين السوري ـ الإسرائيلي، واللبناني ـ الإسرائيلي، من حالة السُّبات التي دخلاها منذ أشهر، وسوف تستمد هذه الجولة زخماً مما تحقق في واشنطن، ويزيد في زخمها حرص الإدارة الأمير كية على تحقيق نجاح يضاعف من رصيدها عند دخولها الحملة الانتخابية في العام القادم، ويزيد كذلك من رصيد حكومة رابين، التي تواجه تحديات حزب العمل، عند دخولها هي الأخرى حملتها الانتخابية في العام القادم. وأظن أن الوزير كريستوفر سيأتي هذه المرة مكبلاً بالحذر الشديد، ومزوداً ببعض الوعود، ومستعداً لتلقي الخيبة؛ ولن يخلو من الأمل في تحقيق اختراق ناجح في المسار المستهدف، على أرضية نشوة احتفال واشنطن بأوسلو الثانية، وحرصها على تحقيق اختراق في المسار السوري ـ الإسرائيلي، يؤمّن حماية ما تحقق من مكاسب لحليفها الاستراتيجي في الاتفاقيات السابقة: أوسلو1‏
      ـ وادي عربةـأوسلو 2.‏
      ولنا أن نتساءل هل ينجح كريستوفر في إخراج المفاوضات المتوقفة من حالة السبات، وهل يتمكن من إنعاشها، وما هي المنعشات القادرة على فعل شيء مفيد في هذا المجال ؟؟؟.‏
      لقد وجه الوزير الأمير كي الدعوة لنظيره السوري فاروق الشرع لزيارة واشنطن خلال الأسبوع الحالي، ويرمي من وراء ذلك إلى القيام بعملية سبر للموقف السوري قبل وضع خطة التحرك في صيغتها النهائية، وقبل مغادرة واشنطن، لأنه يتطلع إلى الوصول إلى قدر من النجاح يحفظ ماء الوجه؛ وهذا توجه منطقي، وعمل تستدعيه التجربة السابقة لكريستوفر مع الأطراف المعنية، ولا بد أنه بحث هذه القضايا مع كل من رابين وبيريس اللذين كانا في واشنطن في أثناء توقيع الاتفاق. ولكن السؤال المشروع والأكثر أهمية ومنطقية هو: هل حصل الأميركيون من الإسرائيليين على شيء يضمن تحريك المسار السوري؟؟ فمن المعروف أن المفاوضات دخلت حالة السبات، كما قال الرئيس حافظ الأسد، بسبب تعنت "إسرائيل "، ومناوراتها الرامية إلى الحصول على الأرض والسلام معاً، وعدم احترامها لمرجعية مدر يد، وتهربها من تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن المتصلة بالموضوع؛ لا سيما القرارات: 242،338،425، ومن المعروف أيضاً أن سورية لن تقبل ببقاء شبر واحد من أراضيها تحت الاحتلال، ولا بأقل من عودة "إسرائيل" إلى المواقع التي كان فيها جيش العدوان قبل الرابع من حزيران 1967، كما أنها لن توافق على أية ترتيبات أمنية تمس بسيادتها، وتجعل للعدو مواقع وقواعد للتجسس في أوقات " السلم ". وتلك هي القضايا الرئيسة التي أدخلت المسار التفاوضي السوري ـ الإسرائيلي في حالة سبات منذ أيار الماضي؛ فهل من جديد في موقف حكومة رابين يجعل من زيارة الشرع لواشنطن خطوة موحية، ويجعل من جولة كريستوفر في المنطقة جولة مؤثرة على الحركة في المسارات التفاوضية المعطَّلة؟!‏
      إن الأيام القادمة كفيلة بتقديم الأجوبة على هذه الأسئلة وسواها، أمّا موضوع السلام الحق، السلام العادل والدائم، فإننا لا نرى له مدخلاً سليماً دائماً ومجدياً مع الصهيونية العنصرية، التي تحتل فلسطين العربية، إلا الاستعداد للتحرير بالقوة ولو بعد زمن طويل، فما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وقد أخذت منا، نحن العرب، فلسطين كلها والأراضي العربية المحتلة من سورية ولبنان والأردن بالقوة والقهر والعدوان، ولا سلام إلا بعودة كل ما أخذ منا إلينا، ولو بعد حين، ولا سلام إلا بعودة شعبنا إلى أرضه، وسيادتنا على أوطاننا لنا، وما سوى ذلك إنما يؤسس لأنواع من الهدنة، ووقف إطلاق النار، بانتظار عودة المعارك بين الحق والباطل في صراع يتعلق بالوجود، ولا ينحسر ولن ينحسر ليصبح نزاعاً على حدود. فهل يدرك الموقعون على التنازلات المهينة، والوسطاء ـ الأعداء الذين يسعون لتحقيق المزيد من التنازلات لمصلحة الصهيونية و "إسرائيل"، هل يدركون ذلك جيداً وهم يتطلعون إلى سلام دائم وعادل في المنطقة ؟!؟‏
      إن مفتاح ذلك فيما أتصور هو تعايش اليهود الذين كانوا يعيشون منذ قرون من الزمن معنا في أرجاء الوطن العربي،مع العرب حيث كانوا يعيشون، أو حتى في فلسطين حيث يعيشون اليوم، وعودة الفلسطينيين المطرودين من وطنهم إلى ذلك الوطن، وفتح أبواب المغادرة أمام أفواج اليهود الخزر الذين تركوا أوطانهم وجاءوا إلى وطننا قوة اغتصاب وعدوان واستيطان، وإنهاء الوجود الشاذ لقوة استعمار استيطاني تكرس وجودها في أرض الغير، وعلى حساب وجودهم، بالقوة وبالتآمر والتواطؤ الدوليين، وإعادة السيادة على أرض فلسطين لأبناء فلسطين، التي تحتفظ بهويتها وانتمائها العربيين ويجب أن تحتفظ بتلك الهوية وذلك الانتماء إلى الأبد.‏
      فهل تأخذ الأحداث هذا المنحى ليسود سلام على أسس العدل أم لا ؟؟ تلك أسئلة توجه أشرعتها نحو المستقبل، وربما المستقبل البعيد، ولكن الأجوبة الموضوعية عليها هي التي تحمل مفاتيح السلام والاستقرار الحقيقيين في هذه المنطقة من العالم، في هذا الحوض العربي التاريخي الخالص، الذي كان كذلك منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد.‏

      الأسبوع الأدبي/ع482//5/ت2/1995‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #93
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        حق العودة
        من حق الفلسطيني أن يعود إلى وطنه، ومن حقه، عندما يُمنع من ذلك، أن يطالب ويقاتل من أجل الوصول إليه، ومن حقه أن يحلم دائماً بتلك العودة، لأنها أبسط ما يتمسك به الإنسان من حقوق، وأول ما يرتبط به من أشياء ومعطيات في الحياة على الأرض.‏
        لا يوجد شخص بلا أحلام وآمال، ولا يوجد من لا يعني له الوطن كل الأحلام والآمال، فإنسان لا يهدأ ولا يحلم ولا يميل إلى الاسترخاء في ظلال الأمل والحلم ليس إنساناً سوياً؛ والإنسان لا يتوفر له ذلك إلا في حال الاستقرار، والاستقرار مرتبط بأرض وبيت، بوطن وأمن في رحاب الوطن؛ وكل حياة خارج تلك المعطيات هي نوع من النفي والغربة، نوع من الاضطراب والعذاب؛ ولا يعيش الكائن الإنسان عمره كله في النفي والعذاب مختاراً مرتاحاً سعيداً مكتفياً بما أُكره عليه، إنما يكون ذلك دائماً ـ إذا فرض وكان ـ نوعاً من العقاب له والعدوان عليه. ولا يستكين الإنسان للعقاب والعدوان إلا إذا فقد السوية الطبيعية وآل وضعه إلى الضعف والمرض المزمنين، وكل من يصيبه المرض يطلب الشفاء ويسعى إليه، ويقاتل من أجله حتى لا يقتل به وبأدوائه؛ أمّا من يقع عليه الظلم والنفي والعدوان فهو السوي إذا رفض ذلك وقاومه، وغير السوي إن هو استكان واستسلم وخضع لقانون المعتدين وإرادتهم، واستساغ الوضع الشاذ الذي هو فيه ورضي به.‏
        الفلسطينيون شعب كان مستقراً في أرضه إلى أن أقتلع منها وشرِّد عنها بقوة القهر والإرهاب، ورعب المذابح، وتواطؤ الدول؛ ومنذ أن وضع في تلك الحال وهو يعاني مما هو فيه، ويرفض الاستكانة وثوب الذل الذي يراد إلباسه له، ويتطلع إلى الخلاص من ذلك الذي هو فيه، ويزداد تطلعاً للعودة إلى وطنه. يكابد ويزداد تشبثاً بحلم العودة، يُقتل أفراده ويضطهد مناضلوه وتُسجن حرائره، ويزداد صلابة ونضالاً وتمسكاً بالحق والأرض وحلم العودة .‏

        ومن حقه على أمته العربية أولاً وعلى البشرية ثانياً أن ينصَف وينصَر ويستريح؛ ولا راحة له إلا في العودة إلى الوطن ـ فلسطين ـ والعيش فيه بحرية واستقلال تام وكرامة؛ فالطائر يعود إلى العش، والنمل يرتاح في بيوته، والورد يفتِّح في مزارعه، والشجر يثمر وجذوره في الأرض، والأولى بالبشر أن يكون لهم هذا الحق، وأن يُحترم لهم هذا المطلب،فيزدهرون في أوطانهم، وترتاح عظامهم في ثراهم. ومن حق الفلسطينيين،من بين البشر، أن يعودوا إلى وطنهم بعد كل هذه السنوات المرة من النفي والتشريد والمعاناة، وأن يُوضع حد لمسلسل الإبادة الروحية والجسدية الذي يلاحقون به.‏
        وقد كان العالم يشعر بهذه المعاناة من آن إلى آخر،قبل أوسلو ووادي عربة، فيسجل موقفاً ويقول رأيا ويطالب بحل عادل، وكان ذلك يجدد نضالاً، ويحيي آمالاً، ويشحذ همماً،ويبقي جذوة الحق في النفوس متقدة.‏
        فمنذ بدأت فصول مأساة هذا الشعب عام1947 والأمم المتحدة تؤكد قراراتها المتعلقة بحقه في العودة، في كل دورة من دوراتها، بضغط عربي وتعاطف وتفهم عالميين، ومعارضة أمير كية ـ صهيونية؛ وقد خفت هذا الصوت المؤيد لحق العودة، وتلاشت تلك المطالبة أو كادت بعد اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، إذ بدأ الأميركيون والصهاينة وبعض العرب يروجون ,,للسلام,, الذي ,,استقر,,!؟ ويقولون: إن من شأن بحث أي أمر من تلك الأمور في المنظمة الدولية ومجلس الأمن، واتخاذ قرارات بشأنها، أن يعطل المسيرة السلمية و يشكل تدخلاً ذا آثار سلبية على المحادثات المثمرة والبناءة التي يقوم بها الطرفان المعنيان، ,,إسرائيل ,, ومنظمة التحرير ‍‍‍؟‍؟ حتى موضوع القدس، على أهميته، لم ينج من هذه النظرة.‏
        ونظرا لأن اتفاقية أوسلو، بشقيها الأول والثاني، لا تترك مجالاً لمناقشة هذا الموضوع في الوقت الراهن، وتحيله إلى الاتفاق النهائي، شأنه شأن كل الأمور الهامة والجوهرية والشائكة، مثل موضوع القدس وسواه؛ ويجري ذلك كنوع من الإزاحة السياسية الهادفة إلى كسب وقت ورأي ومواقع، حتى يتسنى لها خلق حقائق على الأرض يصعب تجاوزها، الأمر الذي يمكنها من إملاء الأمر الواقع وفرضه على مفاوض، لا يهمه ما يحصل عليه حقيقة في النهاية من مفاوضيه بمقدار ما يهمه أن يحصل منهم على صياغات ونصوص ملائمة له، ويستطيع تسويقها بين أفراد شعبه وتسويغها لهم وتصدير نفسه إليهم بطل على أساسها.‏

        ونظرا لأن ما لمسناه من نتائج في مراحل التفاوض السابقة، بين مجموعة عرفات والصهاينة، لم يقدم إلا تراجعاً عرفاتياً إثر تراجع، وتفريطاً بالحقوق إثر تفريط،وتنازلاً عن المطالب المشروعة والعادلة بعد تنازل ـ وقد وصل ذلك إلى حد التنكر للمبادئ والثوابت التي تضمنها ميثاق المنظمة المرشح هو ذاته للإلغاء، وفيه النص على حق العودة الذي ترفضه "إسرائيل" والذي قامت المنظمة أصلا لتحقيقه ـ حتى بات دور رابين وبيريس وغيرهما من المسؤولين اليهود، هو كبح عرفات وشد اللجام له حتى لا يمضي في التنازل إلى الحد الذي يبطل معه دوره المشبوه ويتعذر الإقناع به. ولذلك صرح بيريس قائلاً: ,, إن عرفات تغيَّر ويتغير، ولا حاجة لأن يصبح ,, إسرائيلياً ,, وجاء هذا التصريح بعد أيام من سؤال رابين لعرفات في واشنطن، سؤالاً ذا دلالة: هل أنت يهودي ؟!‏
        نظراً لذلك فإننا نطرح السؤال الذي نراه ضرورياً، ونرى أن وقت طرحه الآن، وهو السؤال عن مآل حق العودة، لا سيما بالنسبة لفلسطينيي 1948!؟ ولا يعني تركيز السؤال عليهم أننا نهمل غيرهم أو أن ذلك الحق محفوظ بالنسبة لسواهم من فلسطينيي عام 1967 وما تلاها؛ فكل ما نصت عليه الاتفاقيات بالنسبة لهؤلاء لا يعدو كونه وعداً ببحث ذلك الأمر مستقبلاً. ونحن نعرف الصهاينة جيداً عندما يوقعون الاتفاقيات ولا ينفذونها، فكيف بهم وهم يبحثون قضايا يرفضون الخوض فيها أصلاً وعقد اتفاقيات حولها ؟‍‍؟!.‏
        من هنا كانت الضرورة الملحة لطرح السؤال، والحث على طرحه في كل المجالات والمناسبات، لأن ما يُراد لهذا الأمر هو أن يضيع في غبار يثيره أهل أوسلو جرَّاء إعادة انتشار قوات الاحتلال في بعض القرى والمدن في الضفة الغربية ـ لا الانسحاب بالمعنى الذي يعنيه الانسحاب الفعلي لها منها ـ وأن يأتي فرح الناس، الذين عانوا طويلاً من ممارسات العنصريين الصهاينة، بعدم رؤيتهم اليومية لهم يقمعونهم ويظلمونهم ويقتلونهم، أن يأتي فرحهم على القضية الجوهرية بكاملها، قضية سرقة الوطن وعدم السماح لأهلة بالعودة إليه، وقبول من يفاوضون ,, باسم الشعب الفلسطيني,, بذلك كله، وقفزهم فوق القسم الأهم من القضية: العودة وتحرير الأرض تحريراً فعلياً، وممارسة السيادة الكاملة فوقها انطلاقاً من ممارسة حق تقرير المصير.‏


        وكانت الضرورة الملحة أيضاً هي وضع السؤال في مواجهة السائرين في تيار الفرح المغشوش، والسلام الملغَّم، والمهرولين ـ تحت سياط أميركا والصهيونية ـ نحو تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" والخضوع لهيمنتها المنظورة وغير المنظورة على المنطقة، وطرحه كسؤال متعلق بحق العودة مع حزمة أسئلة أخرى تنبت على جذعه وتتفرع عنه:‏
        ماذا ستفعلون بالفلسطينيين الذين ترفض "إسرائيل" عودتهم إلى فلسطين؟؟ هل ستمنحونهم الجنسية في أوطانكم، أم تبقونهم بلا جنسية بانتظار التاريخ وقراراته المستقبلية؟؟ وإذا فقد أولئك جنسيتهم لمصلحة جنسية أخرى، فأين تعيش فلسطين الحقيقية، هل في بطن الذين اكتفوا بقسم مغموس بالذل منها ووافقوا على حرمان الآخرين من القسم الآخر، أم في ضمائر أولئك الذين يُجْبَرون على التخلي عن الوطن والحلم والنضال ويعوَّضون بوعد أو لا يعوضوَّن، أو يحرمون حتى من مجرد الحلم والوعد؟؟ وهؤلاء ألـ ,, بدون ,, هل سيسمح لهم بالنضال من أجل وطن حرموا منه أم أنهم فقدوا بفقده حقهم بالنضال من أجل وطن؟؟ وإذا رفضوا الانصياع للأحكام الظالمة التي تصدر بحقهم من قبل أخوتهم وأعدائهم وحلفاء أولئك الأعداء، فكيف سيعاملون؟؟‏
        هل يعاملون معاملة الخارجين على القانون!؟ وعند ذلك على أي قانون يكونون قد خرجوا يا ترى، على القانون الخُلُقي أم على القانون الوضعي أم على القانون الإنساني أم على القانون القومي ؟؟على قانون البلد الذي هم فيه أم على القانون الدولي برمته، بشقيه الوضعي والخُلُقي؟؟ وهل يعدَّون إرهابيين وأعداء للسلام، إذا ما ذكَّروا أهل السلام بأنهم يريدون وطنهم ولا يمكنهم استبداله أو الاستغناء عنه، أم تراهم يحظون بتسمية جديدة وبمصطلح جديد؟؟‏
        وإذا اشترط سدنة النظام العالمي الجديد والناطقون باسمه والواضعون مخططاته وخرائطه، أن يُطرد أولئك من ملكوت ذلك النظام والمرتبطين به والخاضعين له، وقرروا عقوبات رادعة على كل من لا يلتزم ولا يطيع، فما العمل عند ذلك بالنسبة للرافضين، فلسطينيين أو غير فلسطينيين، أفراداً وحكومات وشعوباً؟؟ هل يحكم عليهم الصهاينة بالعزل والحصار، وينفذ ذلك كل من يطلب إليه التنفيذ، أم أن سلطتهم ستلجأ مباشرة إلى الحرب والتدمير والإبادة، بتغطية شاملة كاملة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبتنفيذ عالي الجودة من أميركا، مدفوع القيمة من القادرين العرب ؟؟‏
        وإذا أحييت ذاكرتا مجلس الأمن والأمم المتحدة بشكل ما، وذكِّرا بأنهما كانا قد أصدرا بشأن أولئك قرارات حفظت لهم حقوقاً، فما الذي سيحدث عند ذلك جراء تصادم قرارات وقرارات وإرادات، هذا إذا بقي في العصر الأمير كي ـ الصهيوني إرادات تتصادم؟؟ يكاد يكون من المؤكد أن تقوم الولايات المتحدة الأمير كية بجهد وضغط مكثفين لإلغاء كل الإرادات والقرارات التي من شأنها أن تعكر مزاج "إسرائيل"، ولا سيما القرارات المتصلة بحق العودة للفلسطينيين والإرادات التي تدعم ذلك الحق وتؤيد تلك العودة؛ تفعل ذلك كما فعلت سابقاً بالقرار3379 الذي قرر أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، فقد ألغته بقرار من دون أن تلغي الطبيعة العنصرية للصهيونية أو تخفف من الممارسات التي تكرس تلك الطبيعة أو تنبع منها؛ بل على العكس من ذلك، فقد قامت بتغذية تلك الطبيعة وتقويتها، حين قدمت الدعم العسكري والمالي والتقني ,,لإسرائيل ,, ومكنتها من جلب آلاف المستوطنين اليهود إلى فلسطين المحتلة، وأضعفت العرب وقضت على كل تفكير لهم بمقاومة ذلك المد العدواني الاستيطاني.‏
        وماذا يكون مصير من يسأل عن السبب الذي يجعل من حق أي يهودي في العالم، له وطن وجنسية وبيت ودولة واستقرار، أن يأتي إلى فلسطين ويكتسب جنسية فيها، بحجة أن أحد أجداده اليهود مر في فلسطين عابراً قبل أكثر من ألفين من السنين؛ ولا يكون من حق الفلسطيني الذي لا يملك وطناً ولا جنسية ولا بيتاً ولا استقراراً، والذي استمر وجود آبائه وأجداده في فلسطين طوال كل تلك الآلاف من السنين، أن يعود إلى وطنه ويستقر فيه ويقيم بيتا ودولة وحضارة؟؟‏
        ولماذا لا يكون من حق الفلسطينيين؛ وقد ,, بشَّرهم ,, عرفات وسواه بالدولة، أن يأتوا إلى أرض الحكم الذاتي ويستقروا فيها، بدلاً من الخيم التي تنصب لهم في الصحراء، وتذكر العالم بالظلم التاريخي الذي لحق ويلحق بهم، والذي ما زال يطاردهم حتى في أيام ,, الفرح ,, برفع أعلام فلسطين فوق محمية الحكم الذاتي؟؟ أليس أولئك من الفلسطينيين ومن حقهم الفرح؟؟ أَوَليسو أحق بوطنهم من اليهود المجلوبين إليه بالمال، والأسطورة، والتلمودية المحنطة، والأصولية المريضة، والعدوان العنصري، والبرنامج الإمبريالي ؟؟‏

        تلك الأسئلة وسواها تنبت شوكاً في العيون، وتنزرع خناجر في الحلوق، وتمنع الضمائر من الراحة، ولا مجال لأن يتغاضى الإنسان عنها أو أن يهرب منها؛ فكل بشر، يحمل صفة الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، يكون شريكاً له في المصير الإنساني والشرط الإنساني؛ فكيف إذا كان الإنسان معنياً بشكل أعمق وأوثق، إذ هو شريك في الموقف الخُلُقي، وفي الشروط والمصير والمواصفات الإنسانية، وفي الانتماء القومي والهم الوطني والقضية الرئيسة، موضوع الصراع، أعني القضية الفلسطينية برمتها ؟؟!‏

        الأسبوع الأدبي/ع484//19/ت2/1995‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #94
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          قمة عمان الاقتصادية
          قمة عمان الاقتصادية استمرار لقمة الدار البيضاء التي سبقتها بعام تقريباً، وهما تأتيان في إطار اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، وتنفيذاً لما رسمه الذين تبنوا ما أسفرت عنه الاتفاقيتان من نتائج وساروا في طليعة ركبهما، مؤيدين لأهدافهما ومؤدين عملاً على طريق تحقيق تلك الأهداف، حتى لو لم يصنعوها؛ فأولئك الذين لم يشاركوا جوهرياً في ذلك القرار منذ بداياته لا يضيرهم ألا يشاركوا في صنعه، إذ لا يهمهم قرارهم بمقدار ما يهمهم ما ترضى عنه " إسرائيل " وما تراه في صالحها وما تقرره، وكل ما تقرره يصبح قراراً لهم ومصلحة يلائمون أنفسهم معها ويدافعون عنها.‏
          وقمة عمان، التي يحضرها ممثلون من ثلاثة وستين بلداً ـ وفي قول خمسة وستين ـ رسميين وغير رسميين، لن تحقق أكثر بكثير مما حققته قمة الدار البيضاء على الصعيد الفعلي اقتصادياً، وهي لم تحقق شيئاً يستحق الذكر بالنسبة للعرب في حين فتحت الآفاق وحدود أقطار عربية " لإسرائيل ". ولكن أداء قمة عمان سيتجلى في أن تحقق فعلياً من المشاريع، بين الأردن وحكم عرفات الذاتي والكيان الصهيوني، أكثر مما توقع الكثيرون، نظراًلإسراع الملك حسين بالذات إلى عقد اتفاقيات اقتصادية مباشرة وغير مباشرة مع رابين، تجعل منه، بنظر المراهنين عليه، الحصان الرابح في مضمار السباق الذي يقيمه الغرب، ولا سيما أميركا، بين الحكام العرب، على حسن الولاء وحسن الأداء، خدمة " لإسرائيل " ومصالح الغرب.‏
          وقد حقق الملك الأردني قفزات لافتة للنظر في مجال التطبيع مع العدو الصهيوني، جعلته مزاحماً خطراً لنظرائه في الميدان ومرشحاً للفوز في ذلك السباق، وجعلت مصر، الأقدم في العلاقة مع "إسرائيل"، تشعر بأنها قد فقدت الكثير مما تعتبره حقاً لها وحدها، بمجيء من يزاحمها على الفوز في ميدان تعتبره لها؛ وهو موضوع رهان الغرب على أحصنة عرب، الأمر الذي دفعها إلى أن تعلن لومها للأردن لأنه يهرول أكثر مما ينبغي في طريق تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" .‏
          وذلك، لمن يريد أن يعرف السبب الحقيقي وراءه، لأن مصر الرسمية لا تسمح لأحد في الوطن العربي بالتطاول على دورها الريادي في كل مجال، حتى في مجال التطبيع الرسمي، فهي التي سبقت في الهرولة نحو " إسرائيل " كما كان بوده عمرو موسى أن يقول؛ وكما قال الملك حسين، منازعاً له، ومذكراً إياه، ومتفاخراً عليه، بعد التأخر العلني والتقدم السري اللذين قام بهما قبل سبعة عشر عاماً ونيف. والملك حسين، لمن يذكر، كان قد سابق عرفات على الاتفاق الثنائي المنفرد مع "إسرائيل " وبزَّه بعد أن أوقعه في فخ السبق على الخيانة، ثم أعلن أنه الذي أتى الميدان بعد أن دخله الفلسطيني صاحب القضية الأول ومن قبله مصر!!.‏
          ولكن أهمية القمتين الاقتصاديتين، قمة الدار البيضاء وقمة عمان، هي سياسية بالدرجة الأولى، واختباريه بالدرجة الثانية، واقتصادية ثالثاً وأخيراً؛ وما أعلن وما سيعلن عنه من اتفاقيات فيها، لا سيما بين الأردن والكيان الصهيوني من جهة، وبين الكيان الصهيوني والحكم الذاتي من جهة أخرى، هو اتفاقيات اقتصادية أبرمت في ضوء الاتفاقيات السياسية، وحققت ما نصت عليه تلك الاتفاقيات مثل فتح الأسواق العربية أمام "إسرائيل " عن طريق جسر يكونه الأردن والحكم الذاتي نحو العرب الآخرين، وتم الإعلان عنه في القمة التي يشارك فيها الخليج مشاركة نوعية وتامة، لأن الخليج هو السوق العربية الأولى المستهدفة من " إسرائيل "، لغناها وللحاجة إليها من قبل الثلاثي الجديد الذي يريد أن يكون النواة الجوهرية " للشرق أوسطية "، وأن يحجِّم دور مصر عربيا، لتبقى " إسرائيل" ذات هيمنة " شرق أوسطية ملحوظة " ـ بعد أن وضعت تحت إبطها الحسين وعرفات ـ ولا وسيط ذا شأن يذكر بينها وبين دول الخليج العربي التي ستقدم لها الخدمات الأمنية والحماية مستقبلاً في مقابل الموارد الأساسية التي تأخذها والطاقة التي تحتاج إليها، لا سيما النفط والغاز. وسيتم ذلك في المرحلة القريبة القادمة التي ستأتي بعد الانتخابات " الإسرائيلية " عام 1996، وليس أبعد من موعد القمة الاقتصادية الثالثة التي تقرر عقدها في القاهرة العام القادم، إذ تكون الرؤية قد أصبحت أوضح والمقاومة العربية أضعف، والتهافت العربي أشد وأعم.‏
          فما يهم " إسرائيل " والغرب أولا في هذه المرحلة، مرحلة قمة عمان، وفي مثل هذه المناسبات والظروف، أن يشيع في الناس ـ وفي العرب من بين الناس ـ أن السلام بين العرب "وإسرائيل " قد استتب، وأن حالة من التواصل والتعامل الطبيعيين أخذت تنمو على أرضية من الثقة بين أطراف الاتفاقيات الثنائية التي وقعت في واشنطن ووادي عربة، وأن الجميع الآن معنيون بالبحث عن مشاريع تتصل بالمستقبل وبالعيش المشترك الذي " اختاروه معاً " بعد سنوات طويلة ومرَّة من العداء والاقتتال.‏
          صحيح أن عشرات المشاريع الصغيرة والكبيرة ستطرح في القمة التي يشارك فيها أكثر من ألف رجل من رجال المال والأعمال، ولكن معظمهم في حالة استطلاع وتربص وبحث عن دعائم الاستقرار الحق والثقة والظروف الملائمة لرأس مال واستثمار، أول ما يتصفان به أنهما من الجبن بحيث لا يقدمان على مغامرات غير محسوبة.‏
          من المؤكد أن الوجه السياسي لقمة عمان هو الأكثر بروزاً، ومن المؤكد أيضاً أن أهدافاً اقتصادية ـ سياسية يتم التركيز عليها أولاً، فقد كان هم الوزير كريستوفر أن يركز في القمة على ضرورة رفع المقاطعة العربية "لإسرائيل " لأن ذلك هو المدخل السياسي للاقتصاد، والمدخل الاقتصادي الذي تهدف إليه السياسة الأمير كية ـ الإسرائيلية في المنطقة. والأهم عند كريستوفر ورابين، اللذين يحضران القمة، أن تتفكك كل درجات المقاطعة العربية "لإسرائيل " تحت إلحاح منطق الاقتصاد والتجارة والتعاون المشترك والازدهار المنتظر والرفاهية التي يبشر بها التطبيع والمطبعون، إذ لا يمكن أن تقوم مشاريع ناجحة أو تنمو، في ظل الحصار والمقاطعة والعداوة. وهو منطق واقعي صحيح على أرضية الوفاق والاتفاق التي يقول بها ويسعى إليها الملك حسين، من منظور مصالحه وارتباطاته والحفاظ على حكمه وعلى مستقبل العائلة المالكة في الأردن، ولكنه ليس المنطق الذي يقوم عليه العدل والسلام الدائم، والذي يرضي أقطاراً عربية تعاني من الاحتلال والعزلة والحصار والقهر؛ ولا هو المنطق الذي يقنع شعباً عربياً مهملة إرادته وحقوقه، يرفض العدو في الأعماق ويرفض أن يضيع منه حقه في وطنه؛ ولكن صوته لا يلقى آذاناً صاغية وإرادته لا تأخذ طريقها إلى ساحة القرار، فهو ملغى بفعل الساسة، ومستهدف من سياسته ومن سياسات معادية تضع كل سياسة عربية استسلامية في حساباتها سنداً لها ورصيداً تحركه عند الحاجة، فيكون كل ذلك عليه فيزداد ضغثاً على إبّالة ؟!؟‏
          سوف تنجح قمة عمان في إحداث خلخلة أعمق وأوسع في العلاقات العربية ـ العربية، وفي إقامة صلات أوثق بين أهل اتفاقيات الإذعان، وسوف تفرز بعض المشاريع الاستثمارية وتبرزها على السطح، وستشغل الرأي العام الذي تركز عليه بأحلام كثيرة وإغراءات مثيرة؛ ومن شأن ذلك أن يصرف بعض الناس عن التفكير في الموضوع الأساس، الذي يتصل بجوهر الحق والقضية الفلسطينية، وبالشعب الذي ما زال خارج أرضه وخارج دائرة الاهتمام، ومن شأنه أيضاً أن يجعل الجمهور المثقل بالمعاناة يطرح على نفسه أسئلة تتعلق بحياته ومعيشته ورفاهيته وبما يحصل عليه الآخرون من دونه؛ ويفكر في أن يدير ظهره للأفكار والقضايا التي تكلفه الكثير .‏
          وهذا يجعلنا مطالبين بمواجهة النتائج التي تسفر عنها قمة عمان على الصعيدين : النفسي ـ الفردي والجماعي ـ و الاجتماعي، ومطالبين أيضا بالوقوف طويلاً عند استهدافاتها السياسية وأغراضها المرحلية وأهدافها الاستراتيجية.‏
          ومن هذا المنطلق يصبح السؤال الآتي منطقياً وضرورياً: لماذا يتم كل هذا التركيز الإعلامي على قمة عمان من قبل " إسرائيل " في الوقت الذي تنعقد فيه قمة اقتصادية أهم بالنسبة للكيان الصهيوني في القدس؟! ولماذا تخطف قمة عمان كل الأضواء من قضايا أهم أصبحت بسبب ذلك في الظل أو شبه الظل مثل قضية القدس، التي يعتدي على حقنا فيها مجلسا الكونغرس الأميركيّان، فيتخذان قراراً ملزماً لإدارة كلنتون بنقل السفارة الأميركية إليها، متنكرين بذلك للسياسة الأميركية السابقة حول القدس، ولكل قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة المتعلقة بالموضوع؟!‏
          ولماذا تصبح إدارة كلنتون موضع ثناء من العرب الذين تهمهم، أو يفترض أن تهمهم، الأماكن المقدسة، لا سيما القدس، تلك التي تعتدي على حقوقنا التاريخية فيها الولاياتُ المتحدة الأمير كية؟! وهل إدارة كلنتون، التي تروِّج لرفع المقاطعة العربية عن " إسرائيل " في عمان، بريئة من كل مسؤولية عن موضوع القدس؟! وهل يستقيم منطقياً أن يكون كلنتون هو رجل القدس بنظر بعض العرب، ورجل السلام عند العرب، وهو في الوقت ذاته الرجل الذي يمنحه يهود الكيان الصهيوني والعالم وسام "إسحق رابين" وجائزته نظراًلما قدمه من دعم عسكري "لإسرائيل " ـ تسيطر به على القدس وغير القدس ـ على حد تعبير رابين نفسه الذي حضر حفل تسليمه الوسام؟! وهل ما يهم الولايات المتحدة الأمير كية فعلاً هو أن يتقدم العرب، أو بعض العرب، اقتصادياً؛ أم أن الذي يهمها فعلاً هو أن تضعهم جميعاً في خدمة مشاريع تعود على "إسرائيل " بالفوائد الاقتصادية، وتجعلهم يحملون عبأها الاقتصادي الذي لن يطول ترحيب الولايات المتحدة الأميركية بحمله إلى ما لا نهاية، مع صعوباتها الاقتصادية ومشكلاتها الداخلية ؟!‏
          وكيف يستقيم في منطق عرب التسوية واتفاقيات الإذعان أن يكون عرفات مرحباً به في البيت الأبيض لتوقيع اتفاقية أوسلو الثانية، ويطرد في الوقت ذاته من احتفال عمدة نيويورك بوصفه قاتلاً إرهابياً وشخصاً غير مرغوب فيه في أكبر مدينة أمير كية؟! وهل هذا مجرد تعبير بريء عن تعدد الآراء وعن الحرية في المجتمع والسياسة الأميركيتين، أم أنها الصفعة الإسرائيلية الواجبة والمدروسة لإحداث توازن لدى شخص عرفات الذي يسارع ليكون إسرائيلياً بينما الدور الإسرائيلي ـ الأميركي المرسوم له يقتضي غير ذلك مرحلياً، حتى يستنفد الرجل طاقاته وينهي المهام الموكلة إليه؟!‏
          في قمة عمان تلتقي أسئلة كثيرة، وتثار أسئلة كثيرة، وينفتح أفق فضاء المستقبل أمام أسئلة أكثر، وكل تلك الأسئلة تبحث عن أجوبة شافية أو يراد لها أجوبة شافية؛ ولكن إجابة كافية ووافية على سؤال الأسئلة، لا تحتاج إلى إضافة أو شرح، وهي المتعلقة بمن هو المستفيد الأول من قمة عمان، وما هو الهدف الرئيس لتلك القمة ؟!‏
          إن المستفيد الأول هو " إسرائيل " ثم حليفها الأميركي، والهدف الأول سياسي يرمي إلى نشر التطبيع وتسويقه وتسويغه، ويعمل على إسقاط المقاطعة العربية للعدو الصهيوني، وجعل العالم كله يتوهم أن الصراع العربي ـ الصهيوني قد انتهى، وأن "السلام " يعم المنطقة كلها. أمّا ما يتعلق باستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية، وبقاء سورية ولبنان متمسكين بثوابت الحق العربي وبمرجعية مدريد على الأقل، وتحويل القدس، دولياً، وتحت وطأة الأمر الواقع، إلى عاصمة "أبدية موحدة لإسرائيل "، كما يريد ويقول قادة الكيان الصهيوني جميعاً وحلفاؤهم الأميركيون وعملاؤهم من العرب، وبقاء أكثر من نصف الشعب العربي الفلسطيني خارج أرضه، ملاحقاً بالقهر والموت وعصابات القتلة التي توجهها الصهيونية وتباركها الولايات المتحدة الأمير كية؛ تلك التي ترى أن قتل العرب ليس ذنباً بل قتل سواهم هو الذنب الذي تحاسب عليه، أمّا كل ذلك فيبقى خارج دائرة الانتباه والاهتمام.‏

          الأسبوع الأدبي/ع486//2/ت2/1995‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #95
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            تمنى الشهادة مخلصاً فجاءته
            بين الساعة الواحدة والواحدة والنصف ظهر يوم الخميس في السادس والعشرين من شهر تشرين الأول 1995 أقدمت الموساد على اغتيال المرحوم الدكتور فتحي إبراهيم الشقاقي الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، أمام فندق في فاليتا ـ مالطا، بينما كان في طريق عودته من طرابلس ـ ليبيا إلى دمشق، بعد أن شارك في وفد فلسطيني زار الجماهيرية للقاء الزعيم الليبي معمر القذافي وبحث معه موضوع الفلسطينيين المبعدين من ليبيا.‏
            إثنان من عملاء الموساد أطلقا النار على الشهيد الشقاقي ولاذا بالفرار على دراجة نارية بلوحات مزوَّرة. ونزف الشقاقي حتى الموت ولم يكن معه أحد يحرسه أو يساعده، وأعلنت " فاليتا " وفاة المواطن الليبي / إبراهيم علي الشاويش / الذي يحمل جواز سفر دبلوماسي ليبي. وحملت باخرة عائدة إلى طرابلس، تقوم برحلات يومية بينها وبين فاليتا، جثمان الشهيد؛ وحين أُعلن أنه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، وطالبت به الحركة من دمشق ليدفن في المدينة التي احتضنته بعد خروجه من سجون العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة في نهاية الثمانينات، أمِرت الباخرة التي تحمله بالعودة إلى فاليتا لينقل من هناك بالطائرة إلى دمشق. ولكن السلطات المالطية لم تسمح لها بالرسو في الميناء، فأمِرت بالتوجه إلى تونس لتضع الجثمان هناك فتنقله طائرة إلى دمشق، ولم تنجح الباخرة بالحصول على سماح لها بالرسو في تونس لأن الخط الذي تعمل عليه ليس هو خط طرابلس تونس أو فاليتا تونس؛ واتجهت من هناك أخيراً إلى طرابلس، حيث استقبل الشهيد الشقاقي استقبالاً كبيراً وصُلِّي عليه في واحد من أكبر مساجدها، ثم قصد الجثمان دمشق، عبر "جربا"، في طائرة بوينغ ضخمة، أوصلته إلى عاصمة المناضلين والمجاهدين العرب في منتصف ليل الثلاثاء 31 تشرين الأول 1995 حيث شيِّع في جنازة مهيبة، ووري الثرى ظهر يوم الأربعاء في الأول من شهر تشرين الثاني في مقبرة الشهداء الجديدة في مخيم اليرموك جنوب دمشق.‏
            رصاصتان في الرأس أنهتا حياة المجاهد الشقاقي الذي كان يتمنى أن يرزَق الشهادة، فهو الذي ختم كتابه: مقدمة حول مركزية فلسطين والمشروع الإسلامي بقوله " اللهم أكرمنا بالجهاد لتكون رايتك هي العليا، وفلسطيننا محررة، وارزقنا اللهم الشهادة في سبيلك ... ".‏
            قضى الشقاقي سنوات في سجون العدو الصهيوني، كانت طافحة بمرارة المعاناة وقسوة الظروف التي عاشها في قبضة قوات الاحتلال، وسجَّل في السجن أهم أفكاره، وأنضج فيه جانباً من رؤيته، وأسس في الأعماق مشروعه الذي استشهد على طريق تحقيقه. وفي ذلك السجن شارك خمسة وعشرين شخصاً الإقامة في غرفة واحدة، ومكَّنه ذلك من العمل معهم وجعله لا ينساهم ولا ينسى معاناة السجناء أبداً؛ وربما لهذا السبب أهدى كتابه إليهم قائلا: " إلى المجاهدين في سجون بني إسرائيل، إخلاصاً لذكرى العذابات والأشواق التي عشناها معاً، وإخلاصاً لذكرى " الوطن المحرر من النهر إلى البحر " التي لم ولن تفارقهم ".‏
            وعلى الرغم من تعلقه بالقدس عاطفياً وعقائدياً ومبدئياً واستراتيجياً، إلا أنه لم يتمكن من البقاء فيها أو قريباً منها، ولا من ممارسة نشاطه من المواقع التي أحب أن يكون فيها، لأن العدو حال دون بقائه هناك. والقدس منطقة العمل المركزية في مشروع الشقاقي للحشد والتحريض والتبشير، وللتحرير ومواجهة المشروع الصهيوني ـ الاستعماري أو الاستعماري ـ الصهيوني لا فرق فهما يتماهيان، وتزول بينهما الحدود؛ والقدس هي المدينة التي تحظى بالأولوية التاريخية والتقديس والأهمية الاستراتيجية في برنامج الجهاد الإسلامي نظراً لموقعها من المشروع الصهيوني من جهة، وموقعها من المشروع الإسلامي الذي يدعو إليه من جهة أخرى.‏
            ولأفكار الشقاقي أصالتها ومرجعيتها ومرتسمها الواقعي وبرنامج الأداء الذي يرى أنه يحققها، بصرف النظر عن اختلاف الرأي حول ذلك. وسواء اتفقت معه أم اختلفت، في آرائه وتصوراته ومنهجه، فإنك لا تملك إلا أن تحترم إنساناً صاغ فكره وأنضجه تحت التعذيب في سجون أعتى قوة عنصرية في التاريخ، وقاوم احتلال تلك القوة لوطنه ودعا إلى مقاومتها حتى أبعدته عن قدسه ومسكنه ومهوى قلبه، عن غزة التي ولد فيها والقدس التي عشقها؛ ولاحقته قوة الاحتلال بعد الطرد، وصفَّتْه جسدياً في عملية إرهاب نفذت بأمر أعلى السلطات الصهيونية التي تدعي نبذ الإرهاب وتتهم الآخرين بممارسته .‏
            ونذر الشهيد الشقاقي حياته لفكره ومعتقده ووطنه، وأراق دمه على طريق العمل والمبدأ والجهاد، تحقيقاً لذلك الفكر ولما يمليه عليه إيمانُه وواجبه، رادماً الهوة بين الشعار والممارسة، تلك التي نواجهها لدى كثيرين من أصحاب النظريات النضالية والدكاكين الثورية، في سوق السياسة والمقاومة العربيتين.‏
            يقول الشقاقي:‏
            ـ " إن شكل النضال الأمثل سيبدأ بوحدة الحركة الإسلامية في مواجهة المشروع الاستعماري بشقيه " نظام التجزئة وإسرائيل "؛ لأنه يرى في نظام التجزئة مكملا للمشروع الاستعماري. ولا أظن أن أحداً يمكن أن يختلف معه على هذا، إلا أن نظام التجزئة العربي عندما نقاومه بمقاومة ممثليه في الوقت الذي نقاوم فيه العدو المحتل، فإننا ندخل فيما حذَّر منه هو ونهى عنه، حينما عدد مآخذه على من وضعوا الوحدة قبل التحرير ـ من قوميين وإسلاميين معاً ـ فأرجأوا الوحدة والتحرير معاً. وهو يريد أن يكون فعل التحرير، أو ممارسة الفعل على طريق التحرير، المدخل العملي للوحدة؛ التي قال، بعد مرحلة لاحقة من نضج رؤيته بالممارسة، بضرورتها " ضمن دوائرها الوطنية والعربية والإسلامية، مدركين إلحاح مسألة الوحدة العربية بتوفر عناصرها وضرورتها".‏
            ونحن نرى وجاهة المأخذ على الذين يرجئون المواجهة مع العدو الصهيوني بانتظار تحقق شروطها المثالية، لأنهم لم يصلوا إلى تلك الشروط ولا إلى تلك المواجهة ولن يصلوا إليهما بالانتظار، ولأنهم أضاعوا التوجه السليم إلى ساح المعركة الرئيسة، وخاضوا غمار المعارك الجانبية ولم يخرجوا منها.‏
            والمأخذ ذاته وارد على من قدموا الصراع الطبقي على التحرير ورأوا أنه الأولى بأن يُخَاض أولا، فنفوا، عملياً،كل جهد وفكر وعمل باتجاه التحرير الفعلي، لأنهم اختاروا المعارك الداخلية عربياً، ورأوا في بعض الصهاينة على الأقل حلفاء طبقيين لهم لا تجوز مقاتلتهم حتى لو كانوا قد اغتصبوا وطن الفلسطينيين، إذ هم بنظر أولئك أهل الدار الأممية الواحدة التي لا يجوز أن يقتتل أهلها فيما بينهم؟؟! أولو أخرجونا من ديارنا وقتَّلونا تقتيلا !‍‍؟؟.‍ قد يقول قائل منهم: نعم حتى لو فعلوا ذلك. وهذا من صنوف العجب العُجاب .‏
            والمأخذ وارد أيضاً على من اختاروا وحدة العالم الإسلامي مقدمة منطقية، وضرورة استراتيجية لتحرير فلسطين، لا يبدأ الجهاد من أجل ذلك إلا بعد تحققها، إذ اختاروا الدخول في تيه أوسع من تيه الفئة الأولى وأقل اتساعاً من تيه الفئة الثانية، ولم يحققوا عملياً أية وحدة أو أية انتصارات تبرر الطموح والرضا،كما لم يحققوا أي شيء يخشاه الصهاينة.‏
            فهؤلاء جميعاً ـ بنظري ـ فئة مرجئة لتحرير فلسطين، مرجئة للجهاد،ومرجئة للمواجهة بمعناها الحاسم، قصدوا ذلك أم لم يقصدوه، وهم يساهمون على نحو ما بإتاحة الفرص الملائمة التي تمكن المشروع الصهيوني ـ الاستعماري من الترسخ والنمو والهيمنة؛ وهو ما ظهرت نتائجه على نحو مروِّع الآن، لا سيما بعد اتفاقيات الإذعان وتمدد الشرق أوسطية هنا وهناك وتهافت الأنظمة العربية والإسلامية.‏
            لقد خالف المرحوم الشقاقي كل فرق المرجئة السياسية المعاصرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، أعني مرجئة التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني، الذين قدموا وأخروا حسب رؤية ورأي، وكانت النتائج العملية لذلك كله سلبية على القضية المركزية في النضال العربي والإسلامي، قضية فلسطين، وعلى مواجهة المشروع الاستعماري ـ الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين مرتكزاً ونقطة انطلاق نحو الوطن العربي والعالم الإسلامي في آن معاً؛ وما زال قادة ذلك المشروع وسدنته يكذبون، ويكسبون حكاماً وسياسات، وترتمي عليهم وتحتمي بهم أقطار وسياسات في بلاد العرب والمسلمين، ويؤخرون نهضتنا ويهدمون مشروعنا ويقتلون فينا الثقة والأمل وحب الحياة.‏
            لقد رفض الشقاقي الاستبداد السياسي أيا كان مصدره، وقال بالدعوة إلى " أوسع مشاركة سياسية شعبية " آخذاً بحقيقة أن الشعب، كل الشعب، لا بد أن يملك الحقيقة، أو أن تكون الحقيقة إلى جانبه؛ مستنداً في ذلك إلى الحديث الشريف " لا تجتمع أمتي على ضلال ". واعتبر الشورى " فريضة إلهية، وليس مجرد حق من حقوق الإنسان". وعلى هذا نادى بالديمقراطية بوصفها ضرورة وحقاً وفريضة، ورأى أن الإسلاميين اليوم هم ـ من وجهة نظره ـ أبرز ضحايا الاستبداد السياسي وأبرز ضحايا غياب الديمقراطية، تلك التي تعني حضور الجماهير في الشارع وفي السياسة، فكيف يكونون ضدها أو متضررين منها؟؟ كما رأى أن الغرب يقاوم الديمقراطية التي تنقذنا ويشوهها، ويقوم بكل ما يمكن لتعطيل ممارستها، لأنه لا يريدها فعلاً منقذاً مجسَّداً على الأرض عندنا وإنما يريدها سلاحاً موجهاً ضدنا يشهَر غيابُه في وجوهنا ويتَّخذ من ذلك ذريعة لمهاجمتنا؛ والغرب لا يريد حقيقة إلا مشروعه الاستعماري ومصالحه، أمّا كل من و ما يعيق مشروعه ذاك فيرفضه ويقاومه ويسحقه بذرائع شتى. ويسوق الشقاقي الجزائر مثلاً على تعامل الغرب مع الديمقراطية عندنا.‏
            ـ وفي توجهه الاستراتيجي لمواجهة العدو الصهيوني المحتل، يرى أولوية المقاومة من فلسطين، وفي القدس أولا وما حولها من الأرض المقدسة، ويجد في هذا واجباً على كل من يعنيه أن يكون وطنياً أو قومياً أو إسلامياً. وينطلق في تفكيره السياسي والعسكري المستقبلي من ضرورة " أن يبقى تغيير موازين القوى الظالمة والتي تعمل لصالح العدو، هدفاً استراتيجياً نسعى إليه على كافة المستويات، وإلى أن نصل إليه لا بد أن نعمل باستمرار لأجل تحقيق توازن الرعب مع العدو " وعملاً بهذا كان يمارس حقه في المقاومة داخل فلسطين المحتلة، ويرفض الحلول الاستسلامية ومشاريع التسوية واتفاقية أوسلو وكل الطرق التي تؤدي في النهاية إلى اعتراف بأي حق للعدو على أرض فلسطين، وبأي وجود مستقبلي له فيها.‏
            كان الشقاقي رحمه الله مبدئياً في مواقفه ونضاله وتفكيره، مدركا تبعات الاختيار الذي اختاره، عارفاً حجم المسؤولية التي يتحملها، ومعنى أن يُصدِر أمراً بالقيام بعمليات نوعية ضد العدو الصهيوني في أماكن حساسة وفي أوقات حساسة أيضاً، ويدرك جيداً ما يعمل وما يؤدي إليه عمله؛ فهو يريد أن يشد الناس إلى تيار المقاومة والرفض في وقت يقبِل فيه مسؤولون فلسطينيون وعرب ومسلمون على قبول العدو والاعتراف به والتحالف معه والارتماء في أحضانه، ويقولون بنبذ المقاومة واتهام المقاومين وإدانتهم، وبشجب الرفض وملاحقة الرافضين وتصفيتهم. ويريد الشقاقي والسائرون في طريق رفض عرفات ونهجه واتفاقياته، ورفض الاستسلام ونتائجه،يريدون أن يشعروا العالم بأن الشعب الفلسطيني لا يفرط بوطنه ولا يرضى عن التفريط والمفرطين، ولا يقبل تلك التسويات التي تحرمه من حقه ومن أرضه وتلحق به الذل والعار، وتجعله ملحقاً بذابح أبنائه وحليفاً لعدو أمته!! ويريدون أن يعرف العالم كله أن السلام الحق لم يستتب في أرض السلام، بل ما يقوم فيها فعلاً هو الظلم والقهر والاستعمار العنصري الصهيوني.‏
            كان أبو إبراهيم يريد أن تبقى نار الثورة مشتعلة والعدو مشغولاً بها، وكانت الانتفاضة، التي تفتَّح على وهجها وساهم في إبقاء ذلك الوهج وضاء، شاغله الأهم، إذ أراد ألا يطفئ الأعداء والمتعاونون معهم نارها وألا يحجبوا عن الناس نورها؛ ولذلك كان همه الأول أن يرتفع صوت الشهادة من خلال العمل الجهادي النوعي الذي يعلن الموقف والمبدأ والوجود والمنهج، واستمرار الانتفاضة بأشكال مختلفة ضد المحتل وصنائعه. وكان يبحث عن الحلفاء الذين يشاركونه توجهه، ليحاورهم وصولاً إلى المشترك الذي يجمعهم ويُجْمعون عليه، بانفتاح على الآخر واحترام له وحرص عليه، لأنه كان يدرك جيداً حجم المعركة وقوة العدو والمتحالفين معه، ومدى الحاجة إلى الجميع في صف المقاومة الآن. وهذا هو أهم ما خسرناه في خسارتنا للشقاقي في هذه الظروف، فضلاً عن خسارتنا لطاقة نضالية كبيرة، ومفكر كان يعِد بالكثير.‏
            في عمليات مثل عملية بيت ليد سجل الشقاقي ورفاقه على درب المقاومة والتحرير مواقف وبطولات نوعية في صفحات استشهادية بهية، ولم يكن العدو الذي اكتوى بنار تلك العمليات ليغفر له شيئاً منها؛ ولذلك كان الشقاقي على رأس قائمة المطلوبين من قبل قادة الصهاينة واستخباراتهم وعملائهم والمتحالفين معهم وكل المتضررين من التصدي لسلام أوسلو ووادي عربة، وكان التحذير له مما ينتظره ويحاك ضده،يقدَّم إليه بحرص عليه؛ ولكن لكل أجل كتاب، ولكل نفس ساعة فإذا جاءت تلك الساعة استسلمت النفس لقدرها. فسبحان القائل: " وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " .‏
            استشهد الشقاقي فغاب مناضل وبقي ما رسَّخه من توجه نحو التحرير والنضال في نفوس تحرص على الحق والعقيدة والأرض، وترى لزاماً عليها نصرة الحق ومقامة الظلم وتحرير المقدسات، وجعل كلمة الله هي العليا. فلشهداء الأمة العربية المجد والخلود، ولقضيتنا العادلة النصر، ولمجاهدي حركة الجهاد الإسلامي قدوة حسنة، ولعدو أمتنا الخذلان، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.‏

            الأسبوع الأدبي/ع487//9/ت2/1995‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #96
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              بعد أن نفق رابين
              نفق الإرهابي اسحق رابين ـ من أبوين أميركيين، مواليد القدس 1922 ـ رئيس حكومة الكيان العنصري الصهيوني بثلاث رصاصات، على يد إيغال عمير، إرهابي صهيوني من تنظيم " ايال ـ أي: المنتقم اليهودي " التابع لحزب كاهانا حي الذي أسسه العنصري الصهيوني المقتول مائير كاهانا، وهو مثل رابين من أصل أميركي. ورابين كان عضواً في العصابات الإرهابية الصهيونية الأولى التي عملت ضد العرب في فلسطين المحتلة قبل قيام الكيان الصهيوني عام 1948، فقد عمل مع البالماخ/ الوحدات الخاصة / ثم مع ألهاغاناه/ قوات الدفاع؟! / اللتين ارتكبتا مع سواهما من العصابات الإرهابية الصهيونية أبشع المذابح ضد السكان العرب المدنيين في فلسطين المحتلة. وكان رابين رئيس أركان جيش العدوان الصهيوني عام 1967 ـ ذلك العدوان الذي أدى إلى احتلال أراضي فلسطين بكاملها وأراضٍ لكل من مصر وسورية والأردن، وشرَّد بسببه مئات الآلاف من المواطنين العرب ـ ورابين هو الذي أمر بسحق عظام أطفال الانتفاضة المباركة في الأراضي المحتلة، وأمر بتنفيذ الكثير من العمليات الإجرامية والإرهابية ضد الأبرياء وأسرى الحرب والمدنيين العرب، وضد المقاتلين من أجل تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني العنصري؛ وكان آخر ضحاياه الشهيد فتحي الشقاقي إذ أصدر أمراً باغتياله في مالطا ـ 26 /11 / 1995‏
              وربما لهذه الأعمال جميعاً ولهذا السجل الحافل بالإرهاب والإجرام ضد العرب، والطافح بالحقد العنصري عليهم، استحق الإرهابي إسحق رابين دموع الملك حسين وزوجه وأن يصفه بأنه أخاه وصديقه وحليفه، واستحق بذلك أيضا أن يكون ابن عم ياسر عرفات الذي ـحسب قوله ـ تجمعه وإياه أسرة واحدة، كما قال لحفيده عندما زار ليئة رابين معزِّياً في تل أبيب !!.‏
              ويشكل حادث اغتيال رابين ـ بتقديري ـ بداية تاريخ وبداية مرحلة :‏
              ـ فهو بداية تاريخ للعنف المعلن، من يهود ضد يهود، في دولة الكيان الصهيوني، على أرضية المشروع العنصري ـ الاستيطاني وتطوراته ونموه في إطار الرؤيتين: التوراتية ـ التلمودية،والقومية، لذلك المشروع.‏
              ـ فالتيار الصهيوني الديني المحض يرى الأرض العربية أرضاً موعودة بكاملها، وكل انسحاب منها ينطوي على إغضاب للرب وخيانة للوعد والشعب والجهد. ويستمر هذا التيار في استراتيجيته القديمة القائلة بإقامة دولة الوعد بحد السيف، وبضرورة طرد العرب من " أرض " إسرائيل " " أو تصفيتهم جسدياً وصولاً إلى الحلم ـ الوعد وإلى نقاء الدولة.‏
              ـ والتيار الصهيوني ـ القومي يرى أن ترسيخ ما تحقق من الوعد في هذه المرحلة، باعتراف رسمي من العرب تشهد عليه الدول والأمم، هو الأهم والأجدر بأن يخدم، ومن ثم يأتي التوسع لاستكماله في اتجاهين :‏
              1 ـ الهيمنة الاقتصادية والسياسية والأمنية على المنطقة العربية كلها ـ من خلال الشرق أوسطية بأبعادها وأهدافها ـ وتفتيت تلك المنطقة من الداخل بإقامة دويلات عربية متناحرة ومتخاذلة وضعيفة، إن أمكن، تحتاج إلى حماية " إسرائيل " وتترامى عليها وتسعى للتحالف معها، سراً وعلناً، وبذلك يتم التوسع مرحلياً من خلال السيطرة الفعلية والعملية على أرض العرب وطاقاتهم وجموعهم وقرارهم، وتسخير كل ذلك لخدمة المشروع الصهيوني، كما يتم عملياً إلغاء المشروع العربي المناقض لذلك المشروع والقضاء على مصداقية القائلين به والعاملين له؛ فالتوسع عند هذا التيار، في هذه المرحلة، ليس من الضروري أن يتحقق جغرافياً وإنما فعلياً وعملياً / اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً / من خلال إحكام السيطرة على الأرض والإنسان والخيرات والطاقات والقرارات في الوطن العربي، لأن الوضع الدولي يتطلب ذلك أو لا يتحمل غيره الآن؛ وحالة الفطام الصهيوني عن الأثداء الغربية، التي أرهقها طول الرضاع اليهودي، تستدعي ذلك أيضاً وتستعجله.‏
              2 ـ التوسع الجغرافي يأتي عندما تحين الظروف المواتية، وبالقدر الذي تستطيع "إسرائيل " قضمه وهضمه. وهذا يتطلب بالنسبة للقائلين بوجهة النظر هذه، إجراء حسابات دقيقة، وتكوين أطر بشرية ومادية كافية وقادرة على حمل أعباء هذا العمل، وخلق المناخ الملائم في السياسة الدولية الذي لا يستفز أصحاب المصالح الكبار ضد "الإمبراطورية " الصهيونية الناشئة !؟!‏
              ونحن نلاحظ هنا استمرار العقيدتين: الصهيونية الروحية والصهيونية المادية في أدائهما المتواصل وحرصهما التام على المشروع ـ الوعد وتفانيهما في العمل على تحقيقه، واختلافهما حول أفضل الطرق المؤدية لإقامته وترسيخه وخدمته والمحافظة عليه، في الظروف والمتغيرات السياسية والدولية؛ إنه خلاف في وجهات النظر حول أفضل السبل المؤدية للوصول إلى الأهداف، وليس حول الأهداف ذاتها. وهذا الصراع كان وما زال بين اليهود، أصوليين وأقل تطرفاً في الأصولية، متدينين وعلمانيين، اشتراكيين ورأسماليين، منذ بدأ التخطيط للمشروع الصهيوني ومنذ مباشرة الاحتلال وانتشاره؛ ولكن الجديد الذي طرأ، باغتيال رابين ـ وهو الحادث الأول من نوعه في الكيان الصهيوني بعد إقامة الدولة ـ هو اللجوء إلى تصفية الخلافات بالسلاح وليس بالحوار. وهذا النهج الذي بدأ الآن أقدر أنه سوف يستمر على شكل عراك ساخن سري وعلني بين اليمين واليسار، الليكود والعمل، نتنياهو من جهة وبيريس وليئة رابين من جهة أخرى وأتباع أولئك وأشياعهم. وسيفتح هذا النهج الطريق أمام سبل جديدة " للتفاهم والحوار " بين اليهود، سبل مليئة بالشوك الذي زرعوه في دروب الأمم وفي دروب العرب من بين الأمم، ليتحقق " وعد التوراة " أيضا: اليهودي يقتل اليهودي ويطارده في الأرض، ولتبدأ بذلك نهاية " الديمقراطية الإسرائيلية " التي يتحدث عنها الغرب بكثير من الحماسة والانحياز، ونهاية دولة العدوان والعنصرية والحقد الأسود في فلسطين.‏
              ـ وهو ـ أي حادث اغتيال رابين ـ يشكل بداية مرحلة جديدة من مراحل المفاوضات على المسار السوري ـ " الإسرائيلي " من جهة، والتحالفات الصريحة ـ الوقحة، بين بعض الأطراف العربية والكيان الصهيوني من جهة أخرى. ولا ندري مدى الانطلاقة التي يمكن أن يصل إليها هذا المسار تحت ضغط هذا الدافع، فالإشارات التي تطلق من عواصم ومسؤولين و"وسطاء " تترنَّح على سيوف التصريحات التي تتواكب معها، ويبقى الفعل السياسي، ذو المرتسمات العملية، هو الفيصل بين القائلين بالتفاؤل والقائلين بالتشاؤم في هذا المجال من مجالات الحدس والتخمين.‏
              فشمعون بيريس، الصديق اللدود للمقتول إسحق رابين وخليفته في رئاسة حكومة العدو، يترجح بين الإقدام والإحجام على هذه الطريق، ففي الوقت الذي يعلن فيه عن عزمه على السير في مسار " السلام مع سورية " من دون أية حسابات انتخابية ودون خوف من النتائج على الصعيد الشخصي، يؤكد تمسكه بمحطات إنذار أرضية في الجولان رفضتها سورية كلياً وأدى ذلك، في حينه، إلى وقف مفاوضات ولقاءات الشهابي ـ شاحاك في واشنطن، وفي الوقت الذي يقول فيه إنه سيضع كل المواضيع مع سورية على الطاولة دفعة واحدة: "الأمن والتطبيع وعمق الانسحاب والجدول الزمني " يؤكد أنه سيحافظ على ثوابت رابين ومنطقه وهو يعرف جيداً أن ذلك المنطق رفضته سورية، وفي الوقت الذي يقدم فيه نفسه بوصفه شخصية سياسية أكثر اعتدالاً من الآخرين، بمن فيهم رابين، وأحرص على السلام، وأنه بهذه الصفة تلقى إشارات إيجابية من سورية ـ منها اجتماع مدير عام وزارة خارجيته إيتان بن تسور مع مدير الإدارة السياسية في وزارة الخارجية السورية في بروكسل مؤخراً ـ كما تلقى تشجيعاً من الإدارة الأميركية، في هذا الوقت بالذات يؤكد على أنه مؤتمن على نهج رابين في هذا المجال وسيقدم حزمة من الأوراق يطلب قبولها أو رفضها.‏
              وكل ذلك وما يعكسه من قلق يشير بوضوح إلى أن بيريس لم يملأ يديه من كل ما تركه رابين وما تلقاه من وعود وما قدمه أو قدم إليه من تعهدات كان يجهلها هو، ومن المعروف ما بين الرجلين من تنافس، وأن رابين كان يتولى بعض الملفات بنفسه ويبعد عنها وزير خارجيته .‏
              ويبقى السؤال الأساس مطروحاً بدقة وحدة: إلى أي مدى يمكن أن يذهب بيريس أبعد مما ذهب إليه رابين، وهل هو طليق الإرادة في اختياراته وقادر على الإقناع بتلك الاختيارات؟! وما الذي ومن الذي يحمي اختياراته فيما إذا اختار نهجاً أقرب إلى المطالب السورية الثابتة؟! وهل " الديمقراطية الإسرائيلية "ستصمد للامتحان بعد أن كشف عما يعتمل في المجتمع، تحت سطحها، من تفاعلات وتوجهات؟! وهل يأتي قريباً الوقت الذي يعلن فيه العسكريون الصهاينة في فلسطين المحتلة البيان رقم 1 في سلسلة انقلابات عسكرية، إذا بدأت لا يعرف متى تنتهي ولا أين تنتهي؟! من الهام والضروري جداً التفكير في كل ذلك الذي فتح الطريق أمامه وكشف عنه مقتل الإرهابي إسحق رابين بيد إرهابي من جنسه، أذاقه عقاباً من نوع العمل الذي قام به ضد الأبرياء والأسرى والمعتقلين والمناضلين العرب في سنوات عمره الثلاث والسبعين العامرة بالإرهاب والعنصرية والعدوان .‏

              الأسبوع الأدبي/ع489//23/ت2/1995‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #97
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                قمة برشلونة
                سورية تذهب إلى مؤتمر برشلونة الاقتصادي الذي تحضره " إسرائيل " ويعقد في أواخر شهر تشرين الثاني الحالي 1995، وقد رفضت سورية حضور مؤتمر قمة عمّان وقبله مؤتمر قمة الدار البيضاء اللذين حضرتهما " إسرائيل " لأن الأخيرة موجودة فيهما بالدرجة الأولى، والسؤال: لماذا؟؟ وما هو السبب والتبرير في هذا التحول والتغيير ؟؟‏
                لا يتعلق الأمر بالمفاوضات على المسار السوري، اللبناني ـ " الإسرائيلي " فقد كان ذلك المسار، قبل الموافقة السورية على حضور قمة برشلونة، في سبات وبقي بعدها في سبات؛ ولا يتعلق أيضا بالمتغيرات التي حدثت والأوضاع التي استجدت في المنطقة باغتيال الإرهابي إسحق رابين، فقد كانت موافقة سورية على المشاركة في مؤتمر برشلونة قد أُعطيت وأُعلنت قبل اغتياله، وبقيت التصريحات الباردة على حالها إلى أن مات رابين، وبعد موته بدأت الحرارة تدب في عروق ذلك المسار، فالتقى " ايتان بن تسور " مدير عام خارجية العدو الصهيوني بمدير الدائرة السياسية في الخارجية السورية في بر وكسل، وصدرت إشارات مشجعة للطرفين تناقلتها وسائل الإعلام. إذن فالموافقة على حضور قمة برشلونة ليس له علاقة بما بعد رابين،وإن كان مناخ المسار التفاوضي المعطل سيتحرك ويكون أرطب وأفضل في برشلونة، بعد زواله، كما تشير التصريحات والدلالات والإشارات المرسلة من هنا وهناك.‏
                تحضر سورية قمة برشلونة لأنها، بالدرجة الأولى، قمة بين أوربا الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط من جهة ودول ذلك الحوض ـ بما فيها " دولة العدوان الصهيوني " ـ من جهة أخرى، ولأنها ليست قمة "إسرائيلية " الغاية والمبنى والمغزى، ولأن تلك القمة تتدارس مشاريع ومواضيع ليست دولة العدوان فيها هي السيد أو المهيمن أو المستفيد الأول على حساب الآخرين، ولأن ما يطرح فيها لا يكرس حصراً لخدمة المشروع الصهيوني المستمر في ظل السلم استمراره في ظل الحرب بوسائل أخرى، ولأنها قمة ترغب بعض أطرافها على الأقل في الخروج من دائرة الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكيتين ـ والولايات المتحدة الأمير كية حصن المتصهينين اليوم ـ ولأن تلك القمة قد تحمل بذور تفكير أوربي مغاير وأكثر استقلالية وموضوعية وأقل انحيازا للعدو الصهيوني مما كان عليه الحال عبر تاريخ طويل *، ولأن سورية أصبحت شبه مستبعدة من مشاريع ومصالح كثيرة تم ترتيبها في المنطقة، ويمتد أثرها إلى مدى زمني بعيد، وليس من مصلحتها أو من مصلحة الأمة العربية أن تُعزل اقتصادياً وتُستبعد من كل تخطيط يرسم للمستقبل، ولأنها خُذلت من الأشقاء العرب الذين يترامون الآن على كل مشروع، وأي مشروع، يلوّح به العدو الصهيوني ويستفيد منه جزئياً من يشاركه فيه، وأخذ تراميهم، للأسف، منحى تآمرياً واستفزازياً مكشوفاً ضد اخوتهم وأبناء أمتهم فضلاً عن كونه مخزياً.‏
                لقد وقفت سورية بعيداً عن كل المشاريع التي شاركت فيها "إسرائيل" في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف، وبدا كما لو أن دولاً عربية بالذات ترتاح لذلك وتطلبه، بل تجهد نفسها وتبذل جهدها ليستمر وليتحول مع الزمن إلى حرمان لسورية من فرص التنمية، وعزلة لها تغيّبها كلياً ـ وتغيّب ما تمثله في الحاضر وما قد تمثله في المستقبل من قدرة على التثوير والتغيير ـ عن الحضور والتأثير والفعل في سياسة المنطقة، وتجعلها خارج معظم الحسابات، عربياً ودولياً؛ وسورية من الصعب، أو من المستحيل، أن تُغلب وتُحصر وتُحرم وتستسلم لذلك أو تسلّم به .‏
                كما بدأ تخطيط سياسي تآمري، قديم متجدد، يرمي إلى إعادة ترتيب المنطقة وتغيير الجغرافية السياسية القائمة فيها حالياً، بدأ ذلك التخطيط يأخذ طريقه إلى الظهور والتحقق، على حساب أقطار عربية ومصالح قومية وقضايا مصيرية وثوابت قيمية وخُلُقية، كما بدأت أحلام سلطوية قديمة تستيقظ وتتحول إلى طموحات وتطلعات صريحة تُوضع لها برامج وتُرصد لها اعتمادات مالية لتأخذ طريقها إلى النور، وهي أحلام وأطماع توسعية تلتقي مع مخططات استعمارية وتخدمها ولا تتم إلا في إطارها، وتشكّل رأس حربة للمشروع العنصري الصهيوني الاستيطاني المستمر، الذي أخذ يكتسح المنطقة العربية في ظل " سلام " الاتفاقيات المنفردة، والتفريط البالغ بالحقوق التاريخية والثوابت الوطنية والقومية.‏
                فالملك حسين الذي يتطلع إلى أن يفوز بثقة الإسرائيليين والأميركيين المطلقة في المنطقة، بعد اتفاقية وادي عربة والتحالف المعلن مع الكيان الصهيوني، والذي يسعى إلى منافسة مصر على ما تعتبره دوراً مكرساً لها، يتطلع إلى استعادة نفوذ الأسرة الهاشمية في العراق، فإذا لم يتمكن من إقامة عرش مباشر ـ وهو يدرك أن ذلك من أصعب الأمور الآن ـ فلا أقل من أن تكون له سيطرة على المعارضة التي قد تنتصر هناك وتنهي نظام صدام حسين، أو يكون راعياً لها، بحكم الدور الذي ترشحه له تحالفاته، بعد اتفاقية وادي عربة، وما يُطلب إليه القيام به من قبل من يعتمدون عليه ويسندون إليه المهام الكبار ويتوقعون أن ينجح في مهامه الموكولة إليه وفي الحصول على ما يعدونه به، لا سيما سدانة الأماكن المقدسة في القدس التي تبقى هي والسنة الجدد تحت السيادة الصهيونية؛ ويشكّل له حضوره على نحو ما في الساحة العراقية أمراً في غاية الأهمية والحيوية، لأن دوره في التطبيع العربي ـ " الإسرائيلي " يستدعي ذلك ويتوقف عليه، لا سيما من الناحية الاقتصادية، فالمصنوعات التي تعاقد مع الكيان الصهيوني على استيرادها وترويجها إلى طرف ثالث، سوقها الأوسع والأفضل هو العراق، والأردن هو الممر الطبيعي إلى ذلك السوق والممر الأكثر ملاءمة إلى أسواق الخليج، والوكيل القادر على إيصال السلع وترويجها هناك، وكذلك اللحوم والأجبان والألبان التي تعاقد الأردن على تصديرها إلى " إسرائيل " مصدرها الأرحب هو العراق وممرها عبره بشكل ما إذا ما فكر الأردن بجلبها من أماكن مجاورة له، تركيا وإيران مثلاً، لأن سورية لن تشارك في ترويج سلع العدو ولن تقدّم سلعاً للعدو.‏
                وخارج النطاق الاقتصادي الهام والمباشر وخلفه تكمن قضية سياسية أشد خطورة في ما تنطوي عليه تحركات الملك حسين ومن وراءه؛ فأميركا و " إسرائيل " تريدان الإمساك بعنق سورية وجعلها تنحني شيئاً فشياً لتقبل بما تمليانه من شروط " للسلام الإسرائيلي "، وجعلها تقبل بكلّ ما يستدعيه استمرار تقدّم المشروع الصهيوني في ظل " السلم " من دون عوائق، وتعملان بتنسيق وإصرار لتنفيذ استراتيجية مشتركة ترمي إلى إلغاء المشروع العربي الذي تعمل عليه سورية، أو تفكر بتطويره والعمل عليه مع أطراف عربية أخرى، إن أمكنها ذلك بوصفها حامله وعماده، لأنه المشروع النقيض للمشروع الصهيوني، إذ يوقف تقدّمه ويؤسّس لنقضه على المدى البعيد؛ ووصولاً إلى ذلك لابد من السيطرة التامة على سورية وتحجيمها وشلّ أثرها العربي ومشروعها القومي، وإغلاق الأفق أمام كلّ تفكير يؤدي بها ومعها إلى رؤية عربية مستقبلية، أو إلى استنهاض مثل تلك الرؤية في الوجدان الشعبي والشارع العربي. وأسلم الطرق وأقربها لتحقيق ذلك، من وجهة نظر العدو وحلفائه، محاصرة الشخصية والإرادة والأمل وأفق التفكير والتحرك، وقطع الطريق على كل من يفكر، أوقد يفكر، أو يحلم بالانطلاق من قيود العجز والوهم، أو بالذهاب أبعد من حدود الجغرافيا السورية، بهدف توسيع دورها وتطوير أدائها القومي أو الإقليمي الذي يخدم مشروعاً نهضوياّ وتحريرياّ عربياً كبيراً، ولذلك يعمل أولئك على تشكيل حزام خانق، يمنع سورية، عند اللزوم من التفكير بإقامة تواصل أو تحالف استراتيجي، يعطيها عمقاّ استراتيجياّ، ويمكّنها، ومَن تتحالف معه، من التحرك بثقة وحرية واقتدار.‏
                والخشية الاستعمارية ـ الصهيونية هي من قيام محور ـ تحت أية ظروف وفي أي وقت ـ يربط سورية بكل من العراق وإيران ولبنان، لأن من شأن هذا المحور أن يجعل سورية ومن يشاركها فيه قوة يحسب لها حساب، ومن شأنه أيضاً أن يقيم مركزاً يقوى ويستقطب ويؤسّس لقوة عربية وإقليمية منقذة؛ ولمّا كان مثل هذا الاحتمال مما يرد في التفكير والتدبير مستقبلاً، فإن العمل على إلغاء كلّ ما يؤسّس لحدوثه أمر مطلوب، من وجهة نظر من يعنيهم ألا تقوم للعرب والمسلمين قائمة.‏
                والمحور الجيوسياسي ـ الاقتصادي الذي تقيمه الصهيونية ـ الإمبريالية / الإسرائيلية ـ الأميركية / يشمل فلسطين المحتلّة بكاملها والأردن والعراق ويلتقي مع تركيا ليشكّل سواراً حول سورية من جهة، وليقيم مساحة عازلة بينها وبين بقية أقطار الوطن العربي الأخرى التي يمكن أن تتواصل وتتعاطف وتتفاعل معها، وهذا المحور يضع دول الخليج، أو بالأحرى يبقيها في القفص وتحت السيطرة التامة، بعيداً عن كلّ ريح عربية تهبّ حاملة دعوة للتغيير والتحرر والتحرير، كما يقيم فاصلاّ كتيماً بين سورية ومصر، ـ محور الإنقاذ التاريخي عربياً ـ والتالي بين سورية وإفريقيا العربية، مع احتفاظ المحور الاستعماري باحتياطي عربي وغير عربي لمشروعه ذاك يستنفره ويستخدمه عند الضرورة.‏
                ويُغذّى هذا المشروع، الذي تُسند قيادته للملك حسين ويلفّ في طيّا ته عرفات، بأفكار وأخبار وأموال ومعطيات طائفية، تنفيذاً لمخططات صهيونية واستعمارية بشعة، من أجل نشرها وتوسيع آثارها وتعميق الشروخ التي ترمي إلى إحداثها في نفوس أبناء الأمة وصفوفهم وبين دولهم.‏
                لقد نفى الملك حسين ما نُسب إليه من عزم على تمزيق العراق، ومن رغبة في إقامة عرش هاشمي في جزء منه، وأكد أنه يريد إخراج العراق من محنته بالتعاون مع المعارضة العراقية، وقد اعتاد العرب على نفي الملك حسين للوقائع الثابتة والحقائق الدامغة، وأخذوا بصدق كل ما يُقال ويُقدم إليهم من تصرفات وتحركات ومخططات تنسب إليه وينفيها، بل ازدادوا يقيناً بحقيقة وقوع كل ما ينفي وقوعه رسمياً، لا سيما بعد أن أكّد الملك بنفسه كلّ ما كان قد نفاه عن لقاءاته بقادة العدو طوال مراحل الصراع العربي الصهيوني التي شهدها، وبعد أن أعلن عن التقائه " بأخيه وصديقه " المقتول بإرهابه إسحق رابين، في أثناء حرب الخليج الثانية التي وقف مع العراق " ظاهرياّ " فيها، بينما كان ينسق فعلياّ مع المستفيدين الرئيسين منها، فقد التقى برابين مرتين خلال أحداثها الفظيعة.‏
                إن سورية " المحظوظة " بمثل هؤلاء الأخوة والشركاء في المصير والمسئولية والانتماء، تجد نفسها بمواجهة حقائق ومعطيات مفزعة، وتجد لزاماّ عليها أن تتحرك على نحو ما، وأن تكسر ما يُراد أن يفرض عليها من عزلة وضعف، واستسلام لإملاء العدو وحلفائه وشركائه، وفي سعيها ذاك بقاء وقوة لها، وفي بقائها وقوتها وبقاء حيويتها بقاء وقوة لنواة المشروع القومي والحضور الحيوي الذي يبقيه ويحافظ عليه وينمّيه .‏
                وقد وجدت سورية، فيما يبدو، أن مؤتمر برشلونة يختلف عن قمتي عمّان والدار البيضاء، وأن من مصلحتها أن تشارك فيه من دون تفريط من أي نوع بالثوابت الوطنية والقومية وبالكرامة والمسؤولية، ومن دون أي إخلال بمرجعية مدريد التي اعتمدتها وتمسكت بها ولم تخرج عليها كما فعل أهل أوسلو ووادي عربة، أهل " الطوق العربي " (؟؟!) الذين تداعوا إلى تنسيق للجهود والمواقف في أثناء مفاوضات واشنطن، فخرج نصفهم من " زيق " العباءة العربية الفضفاضة، وهرول نحو أعتاب العدو معطياً الإشارة إلى جمع المهرولين العرب،الذي بلغ أربعة عشر مهرولاً مطبّعاً للعلاقات مع " إسرائيل " في قمة عمّان الاقتصادية، وثمانية باكين في تشييع جثة الإرهابي رابين الذي تم على بعد أمتار من الأقصى الأسير وفي رحاب القدس المحتلة ذاتها، تلك التي يتناخون ـ كلاماً ـ على إعادتها عربية، بينما يُسمعهم الصهاينة بشأنها، في كل يوم ما يحرك الأموات، ولكن: ما لجرح بميت الكرامة الحي إيلام .‏

                دمشق في24/11/1995‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #98
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  بين فكي العدو واتفاقياته
                  أنهى الرئيس كلنتون وشمعون بيريس رئيس وزراء الكيان الصهيوني اجتماعا هاماً كان مرتقباً منذ مصرع إسحق رابين، وفي نهاية الاجتماع أثنى بيريس على كلنتون ثناء كبيراً لوقوفه إلى جانب " إسرائيل " في كل الظروف والأزمات، ويبدو أن للإطناب في الثناء أغراضاً مزدوجة، تخدم الرجلين في موقعيهما والعلاقات التي ازدادت تطوراً بين العهدين: عهد كلنتون وعهد‏
                  رابين ـ بيريس، لا سيّما بعد الاتفاق الأخير، الذي استكملت به " إسرائيل " سلسلة من الاتفاقيات والتحالفات الاستراتيجية الهامة، التي تضمن لها أن تملك أوراقاً عديدة ومتنوعة تكفل لها البقاء خارج أية محاولة للإحاطة بها والضغط عليها، وتُبقي مشروعها العدواني قائماً ومفتوحاً ومتطوراً.‏
                  فالاتفاقية الأخيرة بينهما ستعزز إلى حد كبير القدرات العلمية والتقنية للصناعات العسكرية والفضائية "الإسرائيلية"وهي تعزز بالضرورة الاقتصاد لأن كل الإنتاج يصب في مجرى مبيعات السلاح وامتلاك التقنيات العالية، التي غدت من أهم مصادر الدخل القومي، وقد أشار إلى ذلك المقتول رابين بشيء من التفاخر والتحدي في قمة عمّان الاقتصادية إذ قال: إن ما حققه العقل الإسرائيلي في مجال الصناعة المتطورة يعادل أو يفوق ما حققه نفط السعودية من دخل ". وخرج بيريس من لقائه بكلنتون راضياً ومتفائلاً بعد أن ملأ يديه من موضوع المفاوضات على المسار السوري، التي لم يكن يعرف كل تفاصيلها بسبب إبعاد رابين له عن ذلك الملف الهام، ومن الالتزام الأمير كي الجاد المعلن ربما للمرة الألف من أعلى المستويات، والمدعّم هذه المرة بمزيد من العطاء والمساعدات والاستعدادات؛ التي تؤكدها اتفاقية دفاع مشترك تأتي في سياق تحصيل الحاصل، لأن أميركا كانت دائماً تخوض الحروب إلى جانب " " إسرائيل " في السرّ والعلن وتدعم سياساتها العدوانية وممارساتها العنصرية، ولا يضيف كلنتون جديداً حين يعلن بعد اجتماعه مع بيريس / واشنطن‏
                  12 ـ 12 ـ 1995 /: " أن أمن " إسرائيل " بالغ الأهمية للولايات المتحدة. وقد التزمنا صراحة بالمحافظة على التفوق النوعي والتكنولوجي الذي تحتاجه " إسرائيل " لضمان أمنها في جو كان أكثر عدائية عمّا هو اليوم، ولذلك أعتقد أن بإمكانكم التأكد من أن أمن " إسرائيل " سيكون أحد الركائز الرئيسة لالتزامات أميركا الدفاعية، وأحد الأمور الرئيسة التي سنهتم بها فيما نسير بعملية السلام قدماً. " * كما أعلن عن اتفاق تكنولوجي جديد معها، وعن تدريب ملاحين فضائيين لصالحها، وعن نيته في جعلها تستفيد " من النتائج التقنية لتعاونهما"*.‏
                  وعلى الرغم من هذا فإن قادة الكيان الصهيوني لم يكتفوا بهذه الضمانات ولم يتوقفوا عند هذا الحد من " الاجتهاد "، بل عقدوا " اتفاقية تفاهم " مع الاتحاد الروسي انطوت على تحالف، واتفاقيات سرية لتعاون تقني ولتقديم أسلحة كتلك التي تدافع بها سورية عن نفسها، فقد وعد بافل غراتشيف وزير الدفاع الروسي مفاوضيه الذين طافوا به فوق هضبة الجولان المحتلة، وعدهم بتقديم المتطوّر الباقي في ساحة التعامل الدولي من الأسلحة الروسية إلى "إسرائيل" إن هي رغبت في شراء أسلحة من الاتحاد الروسي ؟!؟‏
                  ولم يكن هذا ما تم الاتفاق عليه وحسب، فقد ذهبت التحالفات إلى أبعد من ذلك، إذ سيعهد الاتحاد الروسي إلى " إسرائيل " بتحديث وتطوير بعض الطائرات التي يملكها، وبتقديم المحرك لطائرة " لافي " التي تقوم الصين الشعبية بتنفيذ مشروعها بالتعاون مع " إسرائيل " أيضاً؛ وهذا هو موضوع الاتفاق الاستراتيجي الثالث الوليد الذي أقامه قادة العدو مع الصين، القوة الدولية الكبيرة في الشرق، وكان هذا المشروع ـ مشروع تنفيذ وتطوير وإنتاج طائرة " لافي " الذي تنفذه الصين الشعبية اليوم تحت اسم: ف 10 ـ قد أُحيط بتصريحات متضاربة ومشوشة مقصودة دارت حول تزويد " إسرائيل" الصينَ بتقنيات أمير كية متطورة. وإذا ما دققنا في كل هذا فإننا ندرك إلى أين تتجه الرياح، وأية شبكة من التحالفات " والصداقات " يقيمها الكيان الصهيوني !! ولنا بل علينا أن نتساءل: لأية أغراض يفعل ذلك ؟!؟‏
                  وهو لا يكتفي بهذا في ظل " السلام " الذي يسعى إليه بل يقيم تحالفات مكشوفة مع حكومات عربية تذهب إلى مدى بعيد جداً في العمل المشترك والتخطيط المشترك، يغدو معه الحديث عن التطبيع وأبعاده نوعاً من لعب الأطفال؟! فإسرائيل سوف تعيد تحديث وتطوير سلاح الجو الأردني، ولنا أن نتساءل: ترى لماذا يحدّث النظام في الأردن سلاحه الجوي الآن ـ بعد اتفاقية سلام وادي عربة ـ ولمَ يحدّثه في " إسرائيل " ولم يحدّثه معها؟! وضد من سيحدثّه ويطوره يا ترى؟! ومن هم الأعداء الذين يتحالف مع اليهود ضدهم ويضطرونه إلى تحديث سلاحه هناك ليتغلب عليهم؟! هل هم في الشرق أم في الشمال أم في الجنوب، وكل أولئك الذين في تلك الجهات عرب؟! أم أنه يفعل ذلك ليكون الجناح الشرقي للجيش " الإسرائيلي " الذي لم يفارقه ولن يفارقه حلم التوسع العدواني ليحقق وهم الحلم التوراتي ؟!؟ ومن هو الآمر مكان " غلوب باشا " في نهاية هذا القرن؟! هل سيكون إسرائيلياً أم أمير كياً؟! وهل سيكون له قناع عربي أم شبيه ـ بديل ـ عربي لسلامة الواجهات الخارجية وزرع الأوهام الشعبية؟!‏
                  وإذا كان هذا السؤال المتشعب مشروعاً وله ما يبرره فإن إعادة طرح سؤال الرئيس حسني مبارك الذي ألقاه على بيريس في أثناء زيارة الأخير إلى مصر قبل توجهه إلى واشنطن، يساهم في استكمال المشهد وتوضيحه، و يحمل مشروعية سياسية وخُلُقية أكبر، كما ويدعونا إلى تمحيصه والتفكير به، والاستعداد لكل الاستنتاجات التي يقود إليها؛ والسؤال الذي وجهه لبيريس إثر توقيع اتفاق " التفاهم " مع غراتشيف هو، بصيغة تقريبية: إذا كنتم تتجهون بجدية نحو السلام الشامل في المنطقة فما هي حاجتكم للتحالفات العسكرية وللأسلحة الروسية ؟!؟‏
                  إن الكيان الصهيوني الذي يغازل " السلام " بعين ويضع أخرى في ساحة الحرب، يجري استعداداته التامة للحربين الباردة والساخنة معاً، ولن يستمر تماسكه الداخلي وازدهاره والتعاطف الدولي معه من دون استمرار نوع من الحروب والمخاطر، ينمي في ظلها مشروعه الأكبر ويتهيأ لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من ذلك المشروع / سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وجغرافياً / ومشروعه ذاك هو المشروع النقيض لمشروع العرب النهضوي التحريري الوحدوي .. الخ. وعلى أرضية هذه التحالفات والاستعدادات يُقدِم العدو على خوض المرحلة القادمة من المفاوضات على المسار السوري ـ اللبناني، الذي يبدو أنه سوف يخرج من حالة السبات التي دخلها منذ عدة أشهر. وحين يستأنف الوزير كريستوفر مهمته بزيارة المنطقة في الأسبوع القادم سيكون في جعبته بعض الاقتراحات المشجعة على استئناف المفاوضات، وسيجتهد في تقديم حلول للمحاور ـ العقبات ـ الأربعة التي يدور حولها الكلام: الأمن ـ التطبيع ـ محطّات الإنذار المبكّر ـ الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران / 1967 / وكل هذا يتضمّنه، أو يشير إليه، إعلان المبادئ الذي يروّج لصيغة يُقال إنها أصبحت جاهزة تقريباً للإعلان بعد الاجتماع الذي يُزعم أنه عُقد بين مسؤولين سوريين و"إسرائيليين " في قبرص، أواخر تشرين الثاني الماضي، لمناقشتها .‏
                  والأسئلة التي علينا أن نواجهها، ونحن على أعتاب هذا الاستحقاق، أسئلة مرّة، ولا تقتصر على ما عملناه وما يمكن أو ينبغي أن نعمله في مجال مقاومة التطبيع القادم، أو المستشري في بعض المستويات الرسمية العربية، بل تتعدى ذلك إلى السؤال عن شبكة التحالفات والصداقات التي أقمناها أو يمكن أن نقيمها مع الدول والشعوب القادرة على مدِّنا بأسباب القوة والتي تتفهم وضعنا وتتلاقى مصالحها مع مصالحنا، لنتوازن على نحو، ونوازن بين قوانا وقوى العدو على نحو، ونحن نخوض معه صراعاً لن ينتهي أبداً إلاّ بحسم موضوع الخلاف الأساس، موضوع انتزاع فلسطين والسيادة عليها وإقامة مشروع كبير استعماري ـ استيطاني ـ عنصري ابتداء منها، وهو مشروع ينفي مشروعنا العربي ويناحره ويناقضه تماماً في كل المجالات، وعلى الصّعد والمستويات الثقافية والقومية والدينية والحضارية والسياسية والاجتماعية جميعاً؛ إنه المشروع الذي يرمي إلى استنزافنا باستمرار وإحباطنا باستمرار وجعلنا في حالة تنافر وتقاتل وتخلف باستمرار، المشروع الذي يشبع نهم بعض الشرائح في مجتمعنا العربي ولكنه يبقيه ككل في حالة تهافت وانحلال وتآكل من دون أن يتمكن أفراده وروّاده من عمل شيء منقذ، ويرمي إلى تركنا خيولاً مُسْرَجَة تلوك لُجُمَها غيظاً وحسرة، من دون أن تحسم أمراً أو تلقى ستراً !!.‏
                  والأسئلة التي تؤسس لذلك السؤال الرئيس أو تتفرع منه تتصل بالتحرك الذي يمكن أن نقوم به لاستعادة شيء من التضامن العربي أو اللقاء العربي على أمر ذي جدوى ومردود عمليين. إننا لا نتطلّع الآن إلى لقاء استراتيجي مع كل العرب بهدف التحرير، فذاك ليس من شأن عرب القرن العشرين على الأقل، ولكن من حقنا أن نتطلّع إلى بعض ملامح التواصل البناء بين بعض العرب في مجالات حيوية، فمن العسير علينا أن نقبل فكرة موت العرب وزوال كل ذلك الذي كان، إلى مدى قريب، لنا أو بيننا، دفعة واحدة. وعلى هذا الفرع من فروع السؤال هل يحق لنا أن نتطلّع إلى مساع عربية جديدة ومبادرات عربية رشيدة، تعيد بعض الأمل إلى النفوس وتزيل بعض الكوابيس الرازحة فوق قلوبنا ؟!‏


                  وعلى صعيد التواصل مع القوى الأخرى في العالم هل نحلم بإقامة شبكة من العلاقات والصلات وحتى التحالفات، على أساس من المبادئ والمصالح معاً؟! أم أن الوقت قد فات ووقعنا نهائياً في شبكة الآخرين ولن يتاح لنا إلاّ الصراخ؟! إننا في هذه الظروف بالذات نستشعر الحاجة الماسة إلى الرؤية والأمل والآخر، ولا أعتقد أن الطرق جميعاً قد أغلقت ولم يبق إلاّ الطريق المؤدية إلى حضن الصهيوني وحدها مفتوحة، فالعالم يتّسع لمزيد من الحركة والأمل والعمل، إذ فيه ما لا نهاية له من الطرق، ويتوقف الأمر على الرؤى والسالكين. إن سجن الوهم أشدّ فتكاً بالإنسان وأكثر تأثيراً عليه من أقسى السجون !! وإذا كنا نرفض التطبيع مع العدو الصهيوني وندعو إلى التحصّن ضد كل ما يجبرنا على الاعتراف به والتعامل معه، فينبغي ألاّ تكون تلك دعوة إلى الانكفاء على الذات والتقوقع داخلها والغياب عن كل ما حولها، بل إن ذلك يستدعي الإبداع في المبادرات الخلاّقة التي من شأنها أن تقيم صلتنا بالغير، وتعيد لنا الثقة بالنفس، وتفتح أمامنا السبل وتنيرها لنرى طرق الخلاص الحق ونسير عليها باطمئنان وأمان، ولننفتح بثقة واقتدار على الآخر، الذي لا يتقزّم وينحسر ليصبح اليهودي المحتل لأرضنا !؟!‏
                  فهل نتطلّع بأمل إلى أفق أرحب، وصلات أفضل، ووعي أشمل، وفعل نابع من التزام قوميّ ومبدئيّ وأخلاقيّ، يضع العامّ فوق الخاص، والقوميّ فوق القطريّ، والثابت الراسخ فوق المرحلي العابر، وخلاص الأمة ومصالحها العليا فوق خلاص ومصالح أفراد وشرائح منها؟! إن ضغط الظروف واستحقاقاتها، تلك التي تضعنا بين فكي " إسرائيل " وتحالفاتها، تفرض علينا أن نعيد النظر، بجرأة وموضوعية، بكثير من المواقف وأساليب الخطاب والعمل، لنكون أكثر قدرة على المواجهة والمناورة والتجاوز والتقدّم، باتجاه البقاء والقوة والعزة والكرامة واستعادة الحق وحيوية الحضور، لا نريد أن نسلّم بأن الطرق كلها أصبحت مسدودة إلاّ طريق التسليم بما تفرضه قوة العدو الصهيوني وتحالفاته التي ستحيل المستقبل، على أرضية ما يُسمى " السلام "، أشدّ ظلمة وخطراً وقسوة من كل ما مرّ بنا حتى الآن، في ظل استمرار المشروع الصهيوني ـ التلمودي ـ الاستعماري الذي ينمو بعدوانية وغطرسة وجشع في ظل السلم كما في ظل الحرب.‏


                  والمطلوب أن نعمل بعلم ووعي وإيمان، وأن نكون أصلب موقفاً وعوداً، وأن نتحمل المسؤولية بوجدان ووعي واقتدار وثقة بالذات والشعب والمستقبل، " وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسولُه والمؤمنون " صدق الله العظيم .‏

                  دمشق في: 12/12/1995‏

                  * نشرة السفارة الأميركية بدمشق رقم: 5280 ـ تاريخ: 12 / 12 / 1995 ص 4 وقد قال وليم بيري وزير الدفاع الأميركي لشمعون بيريس في المؤتمر الصفي الذي عقداه معاً في واشنطن، إثر زيارة بيريس للبنتاغون في 12 / 12 م 1995 " إن الولايات المتحدة ملتزمة بالمحافظة على تفوّق " إسرائيل " النوعي. إن وزارة الدفاع ملتزمة بذلك، وإنني أنا شخصياً ملتزم بذلك. " ـ نشرة السفارة الأميركية بدمشق رقم :5281 تاريخ: 13 / 12 / 1995 ص 6‏

                  الأسبوع الأدبي/ع492//14/ك1/1995‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #99
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    على مشارف المرحلة الجديدة
                    المفاوضات الثنائية بين سورية والكيان الصهيوني المحتل سوف تبدأ في 27 كانون أول الجاري بالقرب من واشنطن، كما صرح الوزير كريستوفر، وستكون الإدارة الأميركية " شَرَكاً " ـ وكنت أود لو أقول شريكاً باطمئنان، ولكن.. ـ إلى حد ما في هذه المرحلة من مراحل التفاوض التي تعلق عليها أهمية خاصة، لا سيما وهي على أبواب عام الانتخابات، وعلى أبواب استحقاقات سياسية أخرى تفرضها مصالحها والتزاماتها واستراتيجيّاتها في المنطقة. ولا ذنب لنا على الإطلاق في أن تكون نظرتنا للدور الأمير كي سلبيّة إلى هذا الحد وأن تستمر كذلك، فمنذ قدّم صهيوني أميركي لهاري ترومان مبلغ مليوني دولار في حقيبة لدعم حملته الانتخابية عام 1948 كانت سبب نجاحه، ونحن العرب ندفع فوائد المبلغ ولم نصل بعد إلى أقساط رأس المال، فقد بارك ترومان قيام " إسرائيل " على حساب فلسطين والشعب الفلسطيني بسرعة صاروخية، وعودتنا الإدارات الأمير كية المتتالية، بعد ذلك التاريخ، على أن تتخذ مواقف منحازة إلى جانب الصهيونية وضد العرب وقضاياهم العادلة، وأن تدعم العدوان العنصري الصهيوني وممارساته الإرهابية بكل الوسائل، وأن تتغاضى عن حقوقنا وتسمي نضالنا على طريق تحرير أرضنا والعودة إليها: إرهاباً وتخريباً وتطرفاً؛ وبالتالي ليس غريباً ولا عجيباً أن يستمر الشك وانعدام الثقة، ويتنامى الخلل في العلاقة بين الشعب العربي والإمبريالية الأميركية، وليس مستغرباً أن تقوم الأخيرة بتعزيز الخلل والشك دورياً ـ قصدت ذلك أم لم تقصده ـ بتركيزها الاستفزازي على دعم الاحتلال والممارسات العنصرية والسياسة التوسعية الاستيطانية لحليفتها وشريكتها وربيبتها " إسرائيل "، لأنها نظرت إلى الأمور دائماً من وجهة النظر الصهيونية، وأوكلت معالجة ما تسميه قضيّة الشرق الأوسط، إلى الصهاينة أو المتصهينين من ساستها ومسؤوليها، فكيف يمكن أن ينصف أولئك ضحاياهم؟! وهل أنصف جلاّد يوماً ضحيّة !؟؟ ولم تحترم الإدارات الأميركية المتعاقبة في يوم من الأيام " أصدقاءها " من العرب الذين تستمر في نهبهم وحماية ظلالهم الضرورية لاستمرار عمليات النهب تلك، ولم تحترم لهم شعوراً قومياً أو دينياًً أو إنساناً يتصل بالحق والعدل والكرامة، في هذه القضية ـ قضيّة فلسطين ـ التي هزت الوجدان الشعبي العربي من الأعماق لعقود من الزمن مضت، وما زالت تؤثر في ذلك الوجدان أشد التأثير وستبقى تؤثر فيه.‏
                    وعلى مداخل المرحلة الحاليّة، التي يمكن تسميتها: مرحلة ما بعد رابين، قدّم شمعون بيريس أمام الكونغرس نداء " جميلاً " من أجل سلام شامل، ظاهره الطيبة والحرص وباطنه الخبث والنفاق، وكان تلميذ بن غوريون يحتاط للخيبة المحتملة، ويدفع عنه وعن كيانه مسؤولية توقف المفاوضات على هذا المسار الأساس، وظهر نفسه بمظهر رجل السلام الصدوق أمام الداعمين لروح العدوان والاستيطان الصهيونيين، والممولين لهما وللتفوّق الذي يضمن استمرارهما، ونادى بيريس بقمّة عربية واسعة يحضرها عشرون وأكثر من قادة العرب، توقِّع فيها عشرون دولة على اتفاق " سلام " شامل مع "إسرائيل".‏
                    لم يكن بيريس بلا ظلال للمصداقية التي تخدم رؤيته ومصالح كيانه العنصري وحلفاءه الأميركيين، ولكنه لم يخرج عن الأهداف المرحلية البعيدة للاستراتيجية الصهيونية التي تمليها وترسمها وتدفعها إلى التحقق " الإيديولوجيا الدينية اليهودية التلمودية " التي يأخذ بها أشدّ العلمانيين الصهاينة تطرفاً ورسوخاً ولا يستطيعون مجاوزتها والقفز فوق إرادات أصحابها، كما يأخذ بها غير العلمانيين بطبيعة الحال، وتلك الإيديولوجيا لا تسمح بالتنازل عن " أرض " إسرائيل " " !؟! ولا تتوقف عن المطالبة " باسترداد ما لم يسترد منها " أي ما هو وطن بعض العرب اليوم في آسيا وبعض إفريقيا ـ سيناء وغزة والضفة الغربية وسوى ذلك أرض ـ، فبن غوريون " العلماني " قال عن حرب السويس عام 1956 " إن سببها الحقيقي هو: " إعادة مملكة داود وسليمان إلى حدودها التوراتية "، ـ لقد طفا على السطح ما في أعماقه الدينية، ولم يكن ذلك بعيداً عن دوافع القرار التي كانت استعمارية ـ انتقامية بالدرجة الأولى، تتداخل فيها المصالح وتكثر التعقيدات؛ وبيغن، الإرهابي المتديّن، لم يكن أقل تلمودية من ذلك المتعصب المزدان بقشرة علمانية، بن غوريون، فكل من نادى بالمشروع الصهيوني وخدمه هو صاحب رؤية أساسها الدين وسدنتها الحاخامات؛ فالمشروع الصهيوني المستمر على أرضية الحلم الوعد ـ أو الوعد الحلم، هو مشروع توراتي ـ تلمودي ـ استعماري يقوم على أساس "أسطورة وعد الرب " لشعبه المختار، وهو مشروع إمبريالي على أرضية المصالح والأحقاد الدينية والتاريخية، والصورتان أو المرجعيتان تتماهيان في تكامل عضوي وظيفي متجدد الحضور والتأثير، بين الشاغل الديني والغرض الاستعماري والغزو الثقافي؛ ولن يتمكّن بيريس، حتى لو أراد، من الخروج على هذه الإرادة الحاخامية ـ الاستعمارية المستمرة، فكيف وهو ابن بجدتها، ضالعٌ فيها، وصاحب رؤية في موضوعها، ومؤسس أنيابها النووية، والمتطلع إلى " خلود " يتأتّى له من خدمتها والإخلاص لها، وجعلها أكثر قوة وأمناً وهيمنة على الآخرين ؟!؟‏
                    إن صاحب " الشرق الأوسط الجديد " يدرك جيداً أنه لا يستطيع تجاوز الحاخامات والاتجاهات الدينية المتشدّدة، والأصولية اليهودية التي لم يعرف التاريخ لتحجّرها وعنصريتها مثيلاً، وهو لا يريد تجاوز ذلك أصلاً؛ ولا يريد أن يعطي أولئك المتطرفين لغريمه نتنياهو زعيم الليكود، الذي يرى نفسه أقرب إلى طروحاتهم ورؤيتهم وفجاجتهم، وأقدر على مباشرتها؛ ولكن بيريس يريد إقناعهم بما يراه أقرب إلى روح متغيّرات العصر ومعطياتها من دون إخلال بالثوابت والأهداف، يريد إقناعهم بنظرته ورؤيته واستراتيجيته التي لا يمكن أن تخرج عن إطار " الإيديولوجيا اليهودية "، تلك التي تنبع منها وتقوم عليها أصلاً كل الاستراتيجيات الصهيونية و " الإسرائيلية ". ويبدو أن منطق الحمائم يخدم المشروع الصهيوني بشكل أفضل في هذه المرحلة، ولذلك يكْرُز عليه ويتمسك به ويظهر حماسة من أجله، والكل هناك يدرك ألا تنازل عن المشروع من حيث الجوهر، ولكن من يَضيقون بالحمائميّة، ويشدّهم التطرّف إلى حسم للأمور، حسماً أسرع وأكثر دموية يرضي يهوه " رب الجنود " الذي تسكره نشوة الولوغ في دم " الغوييم "، أولئك يرون في ذلك تهاوناً يصل إلى درجة الخيانة، لا سيما إذا كانوا من " الحسيديم " وأضرابهم الذين يعتقدون أن أية إعادة، " أو تخلٍ " عن أرض موعودة أخذوها من " الغوييم " هو كفرٌ وإغضابٌ للرب تُجازى عليه الأمة كلها. ولذلك ينحصر اختلاف " الحمائمي " عن "الصقري " ممن يشكّلون الكيان الصهيوني البغيض: في الوسيلة المتاحة، والطريق المختارة، والتوقيت المناسب؛ أي في " التكتيك " وليس في "الاستراتيجيا "، وهذا أمر شديد الأهمية لا بد أن نأخذه بالاعتبار ونحن نمحّص الأقوال ونتفحّص الوقائع والمواقف، ونتابع الجدل والخلاف اللذين قد يؤديان إلى إراقة الدم بين الأعداء في فلسطين المحتلّة .‏
                    ومن المفيد أن نقف على رأي عميق، من داخل الغيتو الكبير، يقدمه لنا " إسرائيل " شاحاك / مواليد وارسو 1933 / يقول: " دعوني أقدّم إيضاحاً أحدث عن الاختلافات الأساسية القائمة بين التخطيط الإمبريالي الإسرائيلي المتسم غالباً بالطابع العلماني ومبادئ الإيديولوجيا اليهودية. فالأخيرة تقول إن الأرض التي يحكمها أي حاكم يهودي في العصور القديمة، أو وعد الله اليهود بها، سواء كان ذلك في التوراة أو ـ وهذا أكثر أهمية من الناحية السياسية ـ وفق التفسير الديني للتوراة، يجب أن تعود إلى " إسرائيل " ما دامت دولة يهودية. ولا شك في أن " حمائم " اليهود يفضلون تأجيل الغزو حتى تصبح " إسرائيل " أقوى مما هي عليه الآن، أو أن يحصل " غزو سلمي " أي أن يقتنع الحكّام العرب والشعوب العربية بالتنازل عن الأرض مقابل الفوائد التي توفرها لهم الدولة اليهودية. "* وإذا أضفنا إلى ذلك الوصف الذي يقدّمه شلومو غازيت ـ المدير الأسبق للمخابرات العسكرية " الإسرائيلية " ـ للمبادئ التي تحكم الإستراتيجية الصهيونية، ندرك جيّداً أبعاد ما نحن مقبلون عليه وآفاقه، يقول غازيت: " مهمة " إسرائيل " الأساسية لم تتغيّر أبداً، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وما زالت ذات أهميّة بالغة. الموقع الجغرافي لإسرائيل في الشرق الأوسط العربي ـ المسلم، يجعل قدر " إسرائيل " أن تكون حارساً مخلصاً للاستقرار في جميع البلاد المحيطة بها. ودورها هو حماية الأنظمة القائمة، ومنع أو وقف التوجهات الجذرية، ومنع انتشار الأصولية الدينية المتطرفة. ولهذه الغاية ستمنع " إسرائيل " التغيّرات الحاصلة خارج حدودها إذا اعتبرتها لا تطاق لدرجة الشعور بأنها مضطرة لاستعمال قوتها العسكرية لمنعها واستئصالها. " ** فلندقق جيداً في هذين المقتطفَين، ولنتذكّر التمسك الأميركي باستقرار المنطقة لتأمين مصالحها ***، انطلاقاً من الاعتماد الكامل والشامل على " إسرائيل " التي تحمي تلك المصالح بالدرجة الأولى، وتحمي الأنظمة " الحليفة "، وتؤمّن الاستقرار، وترجّح كفة التوازنات في كل المجالات لصالح الولايات المتحدة الأمير كية، التي تقوم بدورها بأداء مماثل نحوها في إطار الشراكة والتحالف المعلنين بينهما؛ فتعزز الولايات المتحدة دور حليفها الأول ـ " إسرائيل " ـ ومكانته واستقراره واستمرار مشروعه الأساس، أعني المشروع الصهيوني ـ التوراتي ـ الاستعماري ـ الاستيطاني، تعززه باتفاقيات عربية مع " إسرائيل " تجعل منها دولة معترفاً بها من الجوار، ذات علاقات طبيعية مع جميع الدول العربية وبعد تاريخي في المنطقة، وصاحبة هيمنة ملحوظة عليها، وذات رأي وقرار نافذين بكل ما يتصل بأمورها، وتملك من أسلحة التدمير الشامل وسواها من الأسلحة، ما يضمن تفوقها على الدول العربية والإسلامية مجتمعة، وما يمكّنها من التدخل عند الضرورة لجعل الأمور والأوضاع مملوكة تماما من قِبَل الطرفين الحليفين ـ الشريكين، وتؤكد الولايات المتحدة الأميركية في كل مناسبة ووقت، قولاً وعملاً، حاضراً ومستقبلاً، ضمانها التام لأمن " إسرائيل " ورفاهية وشعبها، واستمرار تطوير قدراتها العلمية والتقنية والعسكرية في كل المجالات.‏
                    إن " إسرائيل " المقبلة على " سلام " مسلّح بالاتفاقيات والتحالفات مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية والصين الشعبية وبعض الدول العربية، والمدججة بأنواع السلاح التقليدي وغير التقليدي، لا تُقبِل عملياً على السلام بل على مشروعها الأساس ـ التلمودي، الاستعماري ـ ولكن بوسائل أخرى وعلى جبهات مغايرة؛ إنها لا تُقبِل إلاّ على سلوك طريق أكثر ملاءمة لتحقيق أهدافها ومصالحها، ولاستمرار مشروعها القديم بوسائل وأساليب مختلفة، قد يتغيّر القناع ولكن لا يتغيّر الوجه الكالح الذي لها، وقد يتغيّر الأسلوب ولكن الأغراض والغايات ثابتة؛ ويرى بيريس أنه سيحقق لها في هذه المرحلة، التي هي استمرار لمرحلة رابين من حيث الجوهر، ما لا يمكن أن تحققه الحرب المكلفة بشرياً ـ وأشد ما تخافه دولة العدو هو الخسائر البشرية ـ كما يرى أنه سيلجم بذلك الاختيار قوى راديكالية تتحرك تحت الرماد في المنطقة، ترفع راية الرفض والتحرير والتغيير، وقد تُبقي الصراع العربي الصهيوني هدفاً حياً وموحياً حتى التحرير، وتعكّر بذلك صفو أنظمة حليفة وتعطل دورها التفتيتي للمنطقة وقواها، وتُبقي استقرار المتعاونين مع " إسرائيل " مهدداً. ولا مناص لنا من الالتفات الجاد والاهتمام الكبير بكل ما تخطط له قيادات الكيان الصهيوني، حتى لو ظهر اختلاف عميق بينها، لأن أولئك القادة لا يختلفون على ما ينفعنا أكثر بل على ما يضرنا أكثر. إن واجبنا الملح وتجاربنا الماضية ومسؤوليتنا القائمة تحتّم علينا ذلك، وإن غداً لناظره لقريب .‏

                    *‏


                    *: التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية، وطأة ثلاثة آلاف سنة ـ‏
                    ص19،20 ـ تأليف: "إسرائيل" شاحاك ـ ترجمة: صالح علي سوداح.‏
                    **: المصدر السابق ص 22‏
                    *** قال روبرت روبين وزير المالية الأميركي في 13 / 12 / 1995‏
                    أمام مجلس الشؤون العالمية في واشنطن: " إن تبني الأسواق المفتوحة، وإضفاء صفة عالمية على شؤون المال، والتشديد على التنمية، أمور توفر للولايات المتحدة فرصاً هائلة لممارسة زعامتها وتدعيم الاستقرار الدولي وتوفير مستويات معيشية أعلى لبقية العالم، وبالتالي لبلادنا، وعلينا ألاّ نفوِّت هذه الفرصة. " وقال أيضاً: " إذا انسحبنا من العالم سيتأثر سلباً الرفاء الأميركي، كما سيتعاظم الخلل في تكافؤ المداخيل وستزيد إشاعة عدم الاستقرار المالي وسيصبح شركاؤنا الاقتصاديون أقل رخاء. "‏

                    ـ نشرة السفارة الأميركية بدمشق رقم: 5284 ـ تاريخ: 16 / 12 / 1995‏

                    الأسبوع الأدبي/ع493//21/ك1/1995‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      1996 بداية( سلام) بداية الحرب
                      العدو المحتل سوف ينسحب من الجولان، إلى حدود الرابع من حزيران 1967 ومن جنوب لبنان، وفق تعهد قدَّمه بيريس للرئيس كلنتون يحتاج إلى تأكيد في أثناء المفاوضات السورية ـ " الإسرائيلية "، وذلك خلال ثمانية أشهر تقريباً من الاتفاق، الذي يُتَوقع أن تُسفر عنه الاجتماعات التي استُؤنفت يوم الأربعاء 27 كانون أول الجاري في " ميرلاند " قرب واشنطن، بعد سبات دام أشهراً.‏
                      والنقاط التي كانت موضوع خلاف، وأدت إلى توقف المحادثات، إثر جولة الشهابي ـ شاحاك، مثل: مركز المراقبة الأرضية ـ وعمق المنطقة المنزوعة السلاح ـ وتخفيض عدد القوات المسلحة ـ والتطبيع السياسي الرسمي / على أن يكون بارداً / ـ وما إلى ذلك من أمور، كلها ستجد طريقها إلى الحل، في مناخ " إيجابي " دخله المتفاوضون من دون شروط مسبقة، ولكن على أرضية إعلانات و وعود و تعهدات ـ بعضها مكتوب على ذمة بعض الرواة والصحف ـ قدِّمت للراعي الأميركي، هي بمثابة الاتفاق على مبادئْ وشروط مسبقة. ومعنى هذا أن ما يسمى " السلام الشامل " سوف يحبو إلى المنطقة، أو يُتَوقَّع أن يحلَّ فيها، أو يسقط فوقها، حسب التصريحات المتفائلة والأقل تفاؤلاً، قبل الانتخابات الأميركية و" الإسرائيلية " المقبلة ـ خريف 1996 ـ التي يزعم بيريس أن نتائجها لاتهمه أكثر مما يهمه السلام، وأنه يقدِّم السلام عليها!؟ ولكن المؤكد أن حزب العمل تهمه نتائج الانتخابات كثيراً ولا يمكن أن يكون بيريس بعيداً عمَّا يهم حزب العمل أو خارج حدود ذلك الاهتمام، أمّا ما يقلق بيريس وحزب العمل حقيقة فهو المناخ الداخلي الجديد في الأوساط اليهودية، داخل فلسطين المحتلَّة وخارجها، لا سيما بعد مقتل رابين، وما ينبغي أن يوفره، هو وحزبه، للكيان الصهيوني من استقرار، يبدو مزعزعاً بسبب عوامل داخلية بالدرجة الأولى، ولذلك تبدو حاجة العدو إلى " سلام " يوقِّع على صكوكه العرب مجتمعون، ومفتاحه سورية، حاجة لا تقبل التأجيل وتستدعى الركض من أجلها؛ ولم تكن تلك الحاجة وليدة مصرع رابين فقط، إذ هي أقدم من ذلك بكثير، ولكن مصرع رابين فاقم تلك الحاجة وأبرزها للعيان، ووضع تحت المجهر أيضاً حقيقة أن كل ما تمَّ من خطوات في المسارات التفاوضية، وما وقِّع من اتفاقيات ثنائية، يتوقف استمراره ونضج ثماره وجني تلك الثمار، على استكمال المسارين السوري واللبناني، اللذين من دونهما لا يستتب سلام ولا تستقر أوضاع .‏
                      وحين يلوِّح بيريس بإمكانية بحث موضوع إسقاط الخيار النووي " الإسرائيلي " بعد إنجاز سلام شامل مع العرب وإيران، يوحي تماماً بأبعاد الأزمة الداخلية وبالتوجهات المستقبلية الممكنة، ولكن بيريس ليس الوحيد الذي يقرر السياسة الصهيونية وينفذها، فضلاً عن أن إعلانه ذاك لا يخلو من الثعلبيَّة واقتناص الفرص المرحلية، والسعي لتخدير بعض العرب، من أجل كسب الاعتراف والتطبيع والسلام؛ وعلينا ألاّ ننسى أبداً أن بيريس هو الذي كان وراء المشروع النووي " الإسرائيلي " في خطواته الأولى، مطلع الخمسينات من هذا القرن، ولا يمكن أن يفرِّط به بسهولة، فضلاً عن أنه لم يعد ملكه وحده ليتصرف به، فهو ملك العنصرية الصهيونية وتحالفاتها المتعددة ومشروعها الاستيطاني المستمر، ولذلك ينبغي ألا نخدع بكلام بيريس، وأن نأخذ بالاعتبار الاستراتيجية الصهيونية التي تريد امتلاك قوة نوعية متفوقة على قوة العرب والمسلمين مجتمعين، لأن المشروع الذي هي رأس حربته، وتعمل على تحقيقه، هو مشروع غربي ـ استعماري وصهيوني، موجه ضد العروبة والإسلام معاً، ومن أهدافه إعاقة تقدُّم العرب والمسلمين معاً، والحيلولة دون تواصلهم ونهضتهم.‏
                      ما يهمنا، ونحن على عتبة الاحتمالات التي تجود بها المفاوضات، هو أن نواجه أسئلة قاسية بصراحة كافية، وأن نفسح في المجال أمام الفكر وإعمال الرأي لنصل إلى جبهة موقف وموقف جبهة، نواتها الثقافة والمثقفون، وأفقها الشعب العربي في الوطن كله، ومن تلك الأسئلة:‏
                      ـ هل ستوقع سورية اتفاقية سلام مع " إسرائيل " إذا انسحبت الأخيرة من الجولان وعادت إلى حدود الرابع من حزيران 1967؟؟! وهي إن فعلت تكون بذلك قد صادقت ـ طاب لها ذلك أم لم يطب، قصدت ذلك أم لم تقصد ـ على الاتجاه الذي بدأ منذ كامب ديفيد وما زال مستمراً، و دخلت فيه ؟؟؟ كل الدلائل والمعطيات تشير إلى إمكانية حدوث ذلك في عام 1996، إلاّ إذا (...) وإذا لا يُحكم عليها وينبغي الاحتياط لها. وترجمة ذلك عملياً: قيام تعاون علني، و وجود متعاونين شرعيين، وإقبال على التعاون مع العدو الصهيوني، الذي ما زال وسيبقى ـ من وجهة نظر شعبية و وجدانية عربية ـ عدواً عنصرياً محتلاً للأرض متطلعاً للتوسع بأشكال مختلفة، حتى لو انسحب من الجولان وجنوب لبنان، و وقَّع على أوراق مكتوبة وممهورة بالأختام. لأن فلسطين التي يقيم عليها " دولة معتَرَفاً بشرعية وجودها عربياً " في هذا الزمن العربي الرديء و في ظل اتفاقيات الإذعان الكريهة المُذِلة، هي عربية، تاريخياً و وجدانياً، من النهر إلى البحر، ولم تتنازل الأمة العربية عن التاريخ الذي يرتبط بالأرض، ولا عن الذاكرة والكرامة والوجدان، ولا يستطيع أحد أن يجبرها على هذا النوع من التنازل، تحت ضغط أي ظرف من الظروف. وهذا لا ينفي أنه يمكن أن تكون فلسطين وطناً، ذا سيادة عربية، ليهود كانوا فيها مع العرب، أو هاجروا إليها من أقطار عربية أخرى، ولكنها لا يمكن أن تكون دولة لليهود الخزر ذات سيادة إسرائيلية، ومشروع صهيوني توسعي استعماري، ومخلباً استعمارياً منشِباً في العين والقلب معاً من كل عربي، تسكنها أقلية عربية مضطهدة، ويقبَل بها كل العرب شريكاً وصياً، وأن يستقر ذلك في التاريخ والجغرافيا والسياسة والذاكرة والوجدان !! كما أن فلسطين ليست فقط تلك المنطقة التي يقيم عليها عرفات حكماً ذاتياً محدوداً لبعض أهلها، بينما يبقى الملايين من أهلها في الشتات، يذوَّب من يذوَّب منهم في الأمم، ويرحَّل قسم منهم ليوطّن في العراق مثلاً، بغية إقامة توازن طائفي هناك، يريد هواة التفتيت لوطن العرب ودعاته، أن يكون أتون الصراع المستقبلي الذي يحترق فيه الجميع في هذه المنطقة من العالم، وتبقى منهم بقيَّة برسم المعاناة والمقايضة!؟!‏
                      ـ هل سيتوقف، عند توقيع سورية وعلى توقيعها، موضوع انتهاء الصراع العربي الصهيوني بكل أبعاده وامتداده؟؟ وهل ستتحوَّل الأرض من بعد إلى أرض السمن والعسل، أرض المشاريع المشتركة، والازدهار الشامل، والمحبة وأكاد أقول: العشق ـ من فرط ذهولي لأنني ما زلت تحت تأثير ما لمسته من ذلك بفضل البث الإذاعي المشترك عشية عيد الميلاد بين إذاعة الملك حسين وصوت "إسرائيل " باللغة العربية، وتحليق الطيران المشترك في سماء الحليفين: الأردني و الإسرائيلي ـ والسماء هي الحدود بينهما على حد تعبير الأمير الحسن ـ على أرضية حلف " السلام " ضد عرب ما بعد " السلام "؟؟! إنني أشك بذلك وأشكك به، وأقول باستمرار الصراع وبضرورة استمراره، لجملة من المعطيات والأمور والاعتبارات، أذكر منها:‏
                      * أن الشعب العربي عامة، ولا سيَّما في سورية، لم ينس ولن ينسى الدم والشهداء والتضحيات الجسام التي قدَّمها على طريق القضية القومية العادلة، قضيَّة فلسطين، وهو يرفض أن تكون " إسرائيل " جزءاً من النسيج الجغرافي والأمني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي للوطن العربي، ولا يقبل أن يستقر القهر والعدوان والاحتلال بُدَلاء شرعيين للحرية والأمن والاستقلال، للعدل والحق والكرامة، على جزء من وطنه التاريخي، وطن الآباء والأجداد، وفي نفوس أبنائه، إلى أبد الآبدين؛ وسيقاوم عامل التجزئة الدائم " إسرائيل " لأنه لم ينفض يده الأمَّة، ومن الوحدة العربية كهدف بعيد من أهدافه الثابتة، ولا أعتقد أنه سيرضى بما يُفْرَض عليه الآن، بسبب كونه لا يملك مقومات الحرية والقوة والاختيار الصحيح، وينتهي به الأمر دفعة واحدة إلى الخضوع والخنوع، وتحلّ الاستكانة لديه محل الثورة المحتدمة في الأعماق، لأنه لم يفقد ثقته بنفسه وأمله أو وعيه أو الفضاء الروحي الذي يمكن أن يجول فيه، ولأن قراءات الأحداث واستقراء التاريخ كل ذلك يشير إلى معطيات مغايرة، فهل يمكن انتظار مواسم القمح يا ترى من حقول يبذر فيها الزؤان ؟!؟ وهل يصح أن نتوقع فعل الاستخذاء ممن لم يكن ذلك رانُه وديدنه، وممن لم يعتد عليه في طارفه أو تليده ؟!؟ أستبعد ذلك تماماً، ولأنني أستبعده آخذ بما يفضي إليه استنتاج أقرب إلى المعقولية والطبيعة التي للشعب، تلك التي سجلها تاريخه الطويل وترجمها نضاله الأصيل .‏
                      * أن التغيير الذي ترهص به الحياة العربية، وتتبدَّى ملامحه من آن لآخر بشكل أو بآخر، ويعبَّر عنه أحياناً بالعنف الفج المستقبح المُدان، لا يمكن أن يوقفه اتفاق مع العدو الصهيوني، و لا ما يساق من " بشائر " ذلك الاتفاق، تلك التي تسدُّ علينا الأفق في كل أفول وإشراق، ولا ينجح القول بتفرُّغ القوة إلى مقاومته بالقوة بعد تحوُّل العدو إلى صديق أو حليف وانتفاء العداوة ـ وهذا لسان حال بعض السياسات في بعض الأقطار العربية، وما هو في واقع الأمر إلاّ لسان حال الأعداء والطامعين الذين يعنيهم أن تقوم بعض السياسات العربية بتنفيذ ما يحلمون هم بتنفيذه ـ لأن ذلك سيؤدي أولاً إلى ضرب الأمة بالأمة، في المساحتين القطرية والقومية، فيرتاح العدو، وتضعف الأمة ويفني بعضها بعضاً. ومن قال بفناء أمة أو شعب لصالح فكرة أو تيار أو مصلحة، أو لصالح حاكم أو حكْم؟! لم أسمع بذلك من قبل في سياق عقل سليم، ومعيار سليم، ونظام دولي سليم !! أو ليست الأحكام والحكَّام لصالح الأوطان والأمم والأنام، مذ وجدت السياسة و الدول و مذ وجِد الزمام في الزمان ؟!‏
                      ولأن ذلك، ثانياً، سيعطي دفعاً للتغيير، ويسارع وتائره، وينوِّع وسائله، ويوري ناره، ويضاعف ذرائعه ويمنحها شرعية ومصداقية في بعض الحالات والساحات والنفوس، ويبلور توجهاته وأهدافه واختياراته، ويجعله يجد طرقه إلى الشعب و وجدان الناس.‏
                      وعلى الذين يفسرون الظواهر الاجتماعية والسياسية، أن يذهبوا إلى أبعد من قشور المادة والجلد المتشقق الذي للأفراد والمجتمعات واللحظات الزمنية العابرة، عليهم أن ينظروا إلى ما تمليه الروح والُمثُل والعقائد والأفكار، التي تحرك السواعد والإرادات، وتحوِّل الجوع والحاجة والمعاناة وفقدان العدل والحرية والكرامة، إلى طاقة روحية وثورة في الأعماق، تبحثان عن منافذ للانطلاق، وتعبران عن ذلك بإبداع أو تبدعان في التعبير عنه، تحوِّلانه إلى طاقة روحية وثورة وجدان، لا إلى انصياع لمطالب الجسد ومن يتحكم به وبحاجاته ويعزف على أوتار نزواته.‏
                      إن الكيان المادي حين يختلُّ توازنه لسبب ما، يعيده إشباع مادي إلى حالة التوازن؛ ولكن الكيان الروحي حين يختلُّ، وتدقق قواه الواعية السامية جيداً في أسباب الخلل، أفقياً وشاقولياً، وحين يكون ارتكاز ذلك الكيان على حاجات الروح واختياراتها وقواها، لا تعيده إلى حالة التوازن المفقود معطيات مادية مجرَّدة، بل قد يلحق به وضعه في هذا المستوى المادي المحض، إهانة تجعله يضع كل طاقات المادة، جسدية وغير جسدية، في خدمة أهداف الروح وأهداف الاختيار الكريم والاعتقاد الصحيح. ولذلك يخطئ، في تقديري، من يعزو كل التحركات المستهجنة والمرفوضة والمؤذية، أو تلك التي لا تروق له، من البشر في الوطن العربي، إلى قلة فرص العمل، وفراغ المعدة، وهياج الغريزة، والحاجات المادية الخالصة ـ على أهمية ذلك كله ـ و يوجه إليهم إهانة صارخة حين يعرضهم على معيار البهيمة أو البهيمية فلا تستقيم له النتائج، ذلك لأنه يغفل بقسوة الجانب الروحي واحتياجاته ونتائج الإزراء به، يغفل ما أصاب حس العدالة الجريح لدى الإنسان الواعي لذاته بذاته، والشعور القومي والإنساني المهان، يغفل البطولة المنفية، الإيمان المحاصر، والكرامة المسفوحة، والمعيار الخُلُقي المُقال أو المستقيل، و يُغفِل الحقوق الأساسية للإنسان، والممارسة الديمقراطية الواعية لأهدافها وغاياتها ووسائلها، والقيم الاجتماعية والدينية والقومية والوطنية، والبنية الأساسية للفرد والأسرة والمجتمع، بما لكل منها من قيمة وخصوصيات، يغفل ما أصاب كل ذلك من خلل وفساد وعطب وهزال، وما تتعرض له الشخصية العربية، بكل مقوماتها وقيمها ومقدساتها وتطلعاتها، من حصار وتشويه، من إلغاء تعسفي واستهانة وتهديد وانتهاك، من غزو وإلحاق، من إدانات ظالمة وتخريب ومحو وتذويب، من عدوان بلا ضفاف وغياب دفاع دون نهر أو مسيل أو ضفاف؛ وحين لا يؤخذ كل ذلك بعين الاعتبار، يخطئ المشخص التشخيص، ولا ينجح العلاج المبني على تشخيص مغلوط، بل يؤدي إلى مضاعفات خطيرة كما هو معروف.‏
                      وعلى ذلك أقدِّر أن تتوجه الإرادة الشعبية العامة والرسمية، المحكومة بالمصلحة العربية العليا ومعايير الوجدان، تلك التي تولي أهمية قصوى لحكم الشعب والتاريخ، أقدر أن تتوجها إلى فعل البناء الاستراتيجي الذي يؤسس لقوة تحمي الذاكرة والوطن والتاريخ والشعب والوجدان، وتعيد الوطن كله حراً وترابه محرراً، وترفض القبول بشرعية الاغتصاب، وقانون القوة القاهرة التي تملي صيغ الأمر الواقع وتضع الشعوب والأوطان والأحرار أمام خيارات رديئة كريهة مرّة.‏
                      من هنا يجيء يقيني، أو دعوتي لأن يكون اليقين مستقبلاً، هو العمل استعداداً لحرب في ظل " سلام " يبقي " إسرائيل " دولة ذات سيادة وقيادة في وطن العرب، ويبقي العرب خارج حدود السيادة والقيادة الفعلية في وطنهم. ومن هنا يجيء يقيني، أو دعوتي لأن يكون اليقين مستقبلاً، هو العمل على امتلاك القوة، كل أصناف القوة، بكل الوسائل الممكنة، وأولها امتلاك العلم والتقانة امتلاكاً ذاتياً، لنحرر أرضنا المحتلة فلسطين، وإرادتنا المرتهنة أو المكبلة، ولنقاوم المشروع الصهيوني ـ الاستعماري المستمر، ولنعيد الثقة والأمل والحياة والحيوية لإنساننا العربي ولمشروعنا الوحدوي النهضوي، ونعيد النظر بخطابنا الثقافي والتربوي والتعليمي، ليكون قادراً على القيام بأعباء إعادة تأهيل الإنسان والوطن ليكونا قادرين على أداء مهمة من أعسر المهام وأقدسها وأشرفها وأكثرها أهمية وإلحاحاً في آن معاً، مهمة القضاء عل صور الجهل والتخلف بالوعي والمعرفة، والحضور في العصر بحرية واستقلال تام وكرامة واقتدار حضاري شامل، وأن يحقق ذلك في ظرف من أقسى الظروف وأسوئها، وإلاّ فنوع من الموت ينتظرنا وهو لا يليق بنا، ولسنا على الإطلاق أهلاً له، ونوع من الحياة يفر من بين أيدينا وهو الذي يليق بنا وعلينا أن نتمسك به. وعلى ذلك تكون بنظري بداية " سلام " الاتفاقيات التي تعترف بحق " إسرائيل " في السيادة على فلسطين، هي بداية استمرار الحرب بيننا وبينها، لأن " إسرائيل "، بتحالفاتها واستعداداتها وتوجهاتها وبناها الاجتماعية العنصرية، لن تتوقف عن خوض الحرب وشن العدوان بأشكال مختلفة لتصل إلى أهدافها بأشكال وصيغ مختلفة.‏

                      دمشق في: 25 / 12 / 1995‏

                      الأسبوع الأدبي/ع494//28/ك1/1995‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        صراع العصر ورهانه
                        الجغرافية السياسية والنفوذ الأمني أو الهيمنة الأمنية، هما الشاغلان الرئيسان الآن لمن تعنيهم " العملية السلمية " بين العرب والكيان الصهيوني، في هذه المرحلة الحاسمة من مراحلها السياسية، مرحلة: " واي ـ بلانتيشن، ميريلاند ". ولا نقصد تلك المتعلقة بالجولان وجنوب لبنان، المحتلَّين من " إسرائيل "، على أهمية ذلك؛ لأن تلك قضية أصبحت شبه محسومة لصالح سورية ولبنان، مقابل السلام والاعتراف " بإسرائيل " وتطبيع العلاقات معها، فالانسحاب التام إلى حدود الرابع من حزيران 1967 بالنسبة لسورية وتطبيق القرار 425 بالنسبة للبنان أمر لا يتم اتفاق أو " سلام " من دونه، وقد غدا ذلك واقعاً مسلَّماً به عند من يخططون لهذه المرحلة من مراحل المفاوضات أو عند من يخوضونها ومن يشرفون عليهم ويوجهونهم من بعيد .‏
                        إن جغرافية المشاريع السياسية المستقبلية المتناحرة هي التي تحتاج إلى تصميم وحسم فعليين للخلافات التي تنشأ عنها أو تدور حولها، وهي التي تستقطب الاهتمام الآن وتتركَّز عليها العيون الخبيرة التي تتابع المفاوضات، وما جرى قبلها وما يجري في أثنائها.‏
                        والجغرافية السياسية الجديدة، أو جغرافية السلام إن شئت أن تسميها كذلك، تريد أن تعيد رسم المحاور السياسية، وحدود النفوذ الأمني، وشبكة العلاقات والمصالح، لكل طرف من الأطراف المعنية في المنطقة، بما يؤمِّن لكل منها: مظهراً مقبولاً، ودوراً مرْضياً، بارزاً أو غير بارز، وأمناً راسخاً أو قلقاً، ورؤية مستقبلية، بحجم قوته وإمكاناته وقدراته ورصيده العام، وبما يؤمِّن للأقوى، الذي بيده أكثر خيوط اللعب وأشدها متانة، هيمنة قصوى على اللاعبين جميعاً ومصلحة عليا تكاد تستنفدهم جميعاً. ومن المؤكد أن تأخذ خرائط النفوذ الجديدة قدرة اللاعبين على الأداء بعين الاعتبار، وإقناعهم للجماهير بدورهم وجعلها ترضى بهم وعنهم؛ ولذلك ستكون المعادلات التي ينبغي حلها وتلك التي ينبغي تركيبها، معقدة وصعبة وقابلة للتصديق والتسويق وللدفاع عنها في آن معاً. ولن يكون أي من تلك المعادلات على حساب " إسرائيل " بل لحسابها في معظم الحالات، ولحساب المشروع الأكبر الذي هي جزء منه، مشروع الشريك الأعظم: الولايات المتحدة الأميركية، في كل الحالات؛ كما أنه لن يكون أي من تلك المعادلات لحساب المشروع العربي المستقبلي الأوسع / التحريري، النهضوي، الوحدوي، القومي ـ الإسلامي .. الخ / بل على حسابه ومناقضاً نافياً له ومتناحراً معه؛ على الرغم من إرادة المخلصين لذلك المشروع من العرب: المنادين به، والمتوهمين أنهم إنما يخدمونه ويهيئون له مقومات البقاء والنماء والنجاح، ويناضلون من أجله؛ ففي الوقت الذي يشرق إخلاصهم لرؤية عربية مشتركة ويتجسد عملهم لها في بعض الصيغ، تكون رؤية عربية أخرى مهيأة وموظفة تماما وموضوعة على محور الصدام الرئيس مع الأولى، قد حفرت خنادقها تحت الأولى وبرزت لها، لتلتقي معها في محرق الخلاف بينهما. وهكذا يقتل مشروعٌ عربيٌّ مشروعاً عربياً آخر، وتتصادمُ رؤيةٌ عربيةٌ مع أخرى، وإرادةٌ مع إرادة، ويؤدي هذا إلى تآكل الجهد والحلم والمشروع، وإلى انزواء أو تحجُّر أو ضمور كل رؤية عربية، أو تبخُّرها على نار الحريق العربي المتواصل: قطْرٌ ضد قطْرٍ، ونظامٌ ضد نظام، وحاكمٌ ضد حاكم، ورؤيةٌ ضد رؤية، ومشروعٌ ضد مشروع، فكيف يمكن أن تقوم في ظل ذلك التناقض والتناحر والتهافت وحدةُ هدف ونضال ومشروع ومصلحة ومصير؟! وكيف يتم وفاق واتفاق وبالتالي إنقاذ واستنقاذ ؟!؟ ولا تقدم ولا إنقاذ أو استنقاذ من دون ذلك ؟!؟ إنها وحدة الأضداد التي تقيم مشهدية مأساوية كبيرة وخطيرة يتفرج عليها العالم، ولكنها لا تنهي أية مأساة عربية قائمة في قلب العربي ووجدانه ووطنه أمام العالم، إنها عقدة الأفاعي التي تملأ الإناء المزركش وتتناهش في قفصها الكبير، بينما يتسلى السيد الذي وضعها في الإناء ـ القفص بالنظر إليها، ويستثمر نتائج ما يدور بينها في داخل القفص من صراع .‏
                        فلننظر، عربياً، بشيء من التدقيق في مثال مِفْصَلٍ ولنقس عليه بعض الأمثلة المَفَاصِل وما أكثرها في وطن العرب اليوم:‏
                        هناك رغبة أميركية ـ إسرائيلية في تمزيق العراق إلى ثلاث دويلات أو خمس، وهناك بعض استطابة عربية، أو طرب عربي في بعض الحالات، لذلك الأمر. وفي هذا السياق يأتي تهويشُ النظام في الأردن، وتحريضُه ليلعب هذه الورقة، تحت وطأة الماضي والأطماع والأحلام والإغراءات ..الخ، وهو إذ يلعب يعرف أنه ليس بحجم هذه اللعبة، وليس معه حتى ما يصرفه على اللاعبين فيها لبعض الوقت، ويعرف أنه إنما يلعبها لصالح غيره بالدرجة الأولى، وليس له من ذلك إلا القشور المحببة لبعض الناس ولو على حساب المصير والناس، كما يدرك جيداً أنه محمي من نتائجها وانعكاساتها السلبية عليه، بفضل قوة تحالفه مع "إسرائيل " وعراقة ذلك التحالف القائم الآن تحت الضبط والربط والرقابة الأميركية المباشرة، بدلاً من بريطانيا التاريخ، التي تبقى المستشار الاستعماري المتحرك وراء الغيَّابات " الكواليس " في أهم أجزاء هذه المنطقة. وبهذا الشكل وعلى هذا المحور يوضع الأردن ـ على المدى البعيد، وحتى لو لم يحقق ما أوكل إليه تحقيقه من أهداف بشكل كامل ـ يوضع في الخندق المواجه لخنادق العرب الذين لا يوافقون على تقسيم العراق وتمزيقه، ولا على التحالف مع " إسرائيل " حتى لو وقَّعوا معها الوثائق و" صالحوها ". وفي هذه الحالة يكون قد تحقق القدر الأكبر من حزمة الأهداف الصهيونية ـ الغربية المنشودة، ويصبح هاجس نظام الأردن دوماً، وهاجس أي نظام عربي آخر يدخل المدخل ذاته، هو الخوف من جيرانه ـ أشقائه العرب بعد انكشاف أغراضه وتواطئه، والبحث عن حلفاء من غير العرب ليحقق ما يظن أنه الحماية لنفسه والاستمرار لسياسته والمصلحة لبلده، وبذلك يزداد ارتماء في حضن العدو الصهيوني والمستعمر الغربي ليصل إلى أغراضه، ويزداد ولوغاً في دم أخيه، وغطرسة ومكابرة وبعداً عن الصواب، ويصل العدو بهذا إلى أحد أهم أهدافه، ويستمر بالإيحاء إليه ـ وهو هنا مثل ـ أن سورية لها أطماع في أراضيه وتريد أن تبتلع أطرافه وتجرح سيادته، ويطيب له هو العزف على هذا الوتر لينمي أغراضاً وسياسات وأمراضاً عربية مزمنة، فيفتعل ما يغذي ذلك ويسوِّغه ويضخمه، ويكرر اجتراره والعيش عليه، ويصدِّره بغضاً أسود وشقاقاً للداخل والخارج معاً، ويقيم على أساسه السياسات والعلاقات والمواقف، فيؤسس للعداوة التي تصب في النهاية ضمن المشروع الذي أوجده العدو ورسم للاعبه هذا الدور أصلاً .‏
                        وعلينا ألاَّ ننسى أن نظام الأردن والكيان الصهيوني ولدا من رحم واحدة هي رحم الاستعمار البريطاني، وعلينا أن نتذكَّر قول ونستون تشرشل أمام مجلس العموم البريطاني عام 1922 إذ قال: " إن شرقي الأردن العربية ضمانة أساسية لأمن " إسرائيل " في المستقبل، ويستحيل على الدولة الصهيونية الفتية أن تدافع عن خاصرتها المكشوفة في حدودها الشرقية إذا لم يتول ذلك حكام عرب مرتبطون ببريطانيا ويحتاجون لبقائهم على عروشهم إلى السند الكامل البريطاني، مالاً وسلاحاً وغذاء وسياسة، يقاتلون لنصرة السياسة البريطانية في المنطقة الحساسة .. الخ ". وهذا ما فعله الأردن منذ التأسيس، وما يفعله الآن بتطوير للدور والأداء والوسائل وتغيير لنقاط الاستناد، وإعلان للتحالفات منذ وادي عربة. وفي ضوء ذلك علينا أن نعيد قراءة علاقات الملك حسين القديمة مع الكيان الصهيوني وقادته، وكذلك مواقفه وأقواله، وآخرها أقواله في تأبين إسحق رابين، وقوله في الدفاع عن تلك الأقوال: " إن رابين بطل دافع عن بلاده بشجاعة "، وعلينا أن ندقق كثيراً في استعمال الملك لكلمة " بلاده " التي تخفي اقتناعات ومواقف وسياسات واستراتيجيات مستمرة، تبرر لنا أن نوجه إليه السؤال الساذج: إذا كانت فلسطين " بلاده " يا جلالة الملك فلماذا قلتم إنها عربية؟! ولماذا تظاهرتم بالعداء لرابين ـ ولقاءات صداقتكم معه بدأت منذ 1974 كما قلتم ـ ولماذا " حاربتموه " طوال العقود الماضية؟! هل كنتم على خطأ ثم جاءت الصحوة، أم كنتم في حالة تواطؤ مستور ثم جاء وقت كشف الغطاء وإزاحة الأقنعة ؟!؟ وفي الحالتين كنا نحن المضلَّلِين والضحايا الذين دفعوا الثمن الباهظ يا جلالة الملك .‏
                        وقس على هذا المثال المفصل الذي ذكرت، أدواراً ومواقف وفصلية وسياسات عربية أخرى، لبعض الأنظمة والحكومات والحكَّام في وطن العرب، يدخلون لعبة المحاور والمصالح القطرية الضيقة على حساب المصلحة العربية العليا، وتكون جهودهم وأغراضهم في النهاية خدمة المشروعين الاستعماريين: الغربي والصهيوني، أرادوا ذلك أم لم يريدوه ـ قصدوا ذلك أم لم يقصدوه. إن الجهد ينصب الآن على تصميم آلة السياسة الجديدة في المنطقة العربية وتركها بعد ذلك تدور وتعمل تلقائياً؛ وستطحن تلك الآلة نفسها أو تستهلك ذاتها في النهاية، ولن تسلم الجماهير العربية وأحلامها وآمالها ومشاعرها وحقوقها ومصالحها من الطحن والاستهلاك، بل ستكون هي ومشاريعها المنقذة وتطلعاتها المشروعة المستهدفة أولاً، وموضوع الطحن والاستهلاك .‏
                        إن الجغرافية السياسية، وجغرافية النفوذ والهيمنة الأمنية والاقتصادية، اللتين تشغلان المهتمين بإعادة ترتيب ما يطيب لهم أن يسموه " الشرق الأوسط، أو الشرق الأوسط الجديد " تتطلع إلى إقامة مساحات جيوـ سياسية تنتظمها محاور " سيا ـ أمنية، وسيا ـ اقتصادية " تجعلها متهالكة ومستهلكة، متناحرة داخل القفص يحكمها، ومشدودة الخيوط خارجه إلى مرجعية واحدة أو فريق من المستفيدين المتعاونين المتفاهمين ـ ذي المرجعيَّة الواحدة أو المصلحة المشتركة ـ يقوم بين أفراده تنسيق تام يهدف إلى استثمار أقصى للمنطقة وتمزيقها التام، في ظل " السلام التام "، الذي لن يكون بعده سلام أبداً. وكأنما يعيد ذلك إلى الذاكرة تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيماتها وارتباطاتها ومرجعياتها، تلك التي أدت إلى استنبات الكيان الصهيوني، وإلى صراع ونزاع مميتين بين أبناء المنطقة، مدمِّرَين لبناها ومعطِّلين لقواها، وما زال تأثير ذلك مستمراً، ويبدو أن المطلوب هو أن يبقى ويشتد، وأن يستمر ويستشري، ليصبح الكيان الصهيوني ـ الذي لن يتاجر إلا بالسلاح والدم أولاً في السوق العربية السوداء، تلك التي ستفتح لذلك النوع من السلع على مصراعيها وسيفتحها هو على مصراعيها لتلك السلع، إذ تلك هي صناعته وبضاعته الأشهر اليوم، وما يخدم هدفه الأعظم في المنطقة ـ ليصبح سيداً آمراً متفوقاً تعنوا له الرقاب، وسنداً علنياً وحليفاً طبيعياً لأصحاب السلطة والرغاب، ممن لا يعني لهم شيئاً، بقاء الأمة العربية خارج حدود العصر والوعي والحرية والحضور المزدهر الكريم بين الأمم، وحربة في القلب لمن يعملون بالدرجة الأولى على أن يختفي من الوجود كلُّ ما تمثله من خصوصية قومية، وما تحمله من عقيدة سماوية، وما لها من شخصية ثقافية متمايزة عن الشخصيات الثقافية والحضارية للأمم الأخرى.‏
                        وسيبقى ذلك كذلك وسيزداد فتكاً ومحواً وإيلاماً وجبروتاً، ما لم يجمع العرب وعيٌ أعلى، وانتماءٌ أقوى، وتطلُّع أسمى، ورؤية أشمل وأكمل، من كل النظرات والنظريات القطرية الضيقة المستشرية في دنياهم اليوم، والمصالح الشخصية المتشمرخة على حساب القوة النوعيَّة، والأنانيات المتورِّمة، التي مازالت تحكم معظم السياسات والتوجهات العربية وتتحكم بها، وتفتك بكل مقومات القوة العربية، المادية والروحية، وتسخِّرها لأغراضها وتسيِّرها حسب أهوائها .‏
                        إننا في عصر التهافت والانهزام هذا مطالبون: بوحدة الصف على مبدأ ورؤية، وبالعمل الحثيث على مشروع وبرنامج خاصين بنا، محررين من التبعية لسوانا ومن الارتهان له ولسطوته وسيطرته، مشروع وبرنامج تقودهما وتحميهما وتخدمهما وتحققهما قوة بشرية مسكونة بالحرية والوعي والمعرفة والقيم والاحترام، تعمل بآلية أداء عالٍ وقدرة إنجاز متفوقة، يحكمها العلم والإتقان والمسؤولية والضمير الحي والحرص على الحياة والحضور فيها. وأؤمن أن للثقافة، بمفهومها الشامل وشرائحها المتراصة ومسؤولياتها التاريخية، دوراً رئيساً وفعالاً في إقامة هذا التوجه ونشره وترسيخه وجعله يؤتى أُكُلاً .‏
                        إننا باستعادتنا ثقة عالية بالنفس والحق والنصر، وبعدم السماح للانهزام والانهيار بأن يكتسحا الأعماق، وبامتلاكنا قوة منقذة ـ مادية وروحية ـ تُستَنْبَتُ في بيئتنا، وتحمل خصوصيتنا، وتحمي هويتنا، وتصون حدودنا ووجودنا، ويزهر في حماها غصننا ويزدهر عليه ثمرنا ـ الذي لن يكون إلا لنا ولأمم الأرض جميعاً ـ نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيحة؛ طريق استنقاذ ما ينبغي استنقاذه، واستعادة ما تمكن استعادته، وبناء ما يجب بناؤه، لنترك البيت لأبنائنا وأحفادنا قائماً ومتيناً كما تركه، أو ضحى ليتركه، لنا الآباء والأجداد؛ فتلك أمانة السابقين نسلمها غير منقوصة للاحقين، وتلك مسؤوليتنا حيال من جئنا بهم إلى الوجود ومددنا أمامهم بساط الحياة. ولن يكون ذلك غريباً علينا ولا مستحدثاً في تاريخنا، إذا ما قمنا به على نحو ما، فتلك كانت سماتنا، وستبقى ما بقينا مخلصين للجذور التي تثبتنا في أعماق الأرض والتاريخ وتجعلنا نرفع رؤوسنا إلى عنان السماء، عطاء وتفانياً واقتداراً ووفاء، لا غطرسة وتجبراً وتعالياً وكبرياً .‏
                        إننا مدعوون للعمل الآن على حد سيف الزمن الذي لا يرحم، ولن ينتظرنا الزمن حتى نستيقظ على مهل، ونشرب قهوتنا التاريخية على مهل، وندخن نراجيل العقود والقرون السالفة على مهل أيضاً. فهل نحن فاعلون ذلك، لندخل رهان العصر وصراعه من أوسع الأبواب؛ رهان نبذ " سلام " إسرائيل " وعصرها "، سلام الأمر الواقع وسطوة قوة القهر الصلفة، التي تريد أن تصنع الجغرافيا السياسية والأمنية لوطننا من جديد؛ وصراع استعادة الكرامة والوجود والمكانة والسيادة على كل أرضنا وفي مقدمتها فلسطين، كل فلسطين، لا الاكتفاء بإدارة البنية الخدمية التحتية في بعض مدن فلسطين وقراها، وفي أجزاء من الوطن الأكبر، مع البقاء في قبضة المحتل العنصري الصهيوني على نحو ما، ذاك الذي يود لو يتحكم بالأعناق والأرزاق والقرارات المصيرية الكبرى في أرض العرب والمسلمين.‏
                        دمشق في 1 / 1 / 1996‏
                        الأسبوع الأدبي/ع495//4/ك2/1996‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          حلف بغداد بلا بغداد
                          سورية أكبر من مساحتها الجغرافية، مساحة " سايكس ـ بيكو "‏
                          / 185 / ألف كم2، وأكبر من حجم سكانها واقتصادها وقدراتها، وأكبر من الذاكرة الحاليَّة لأجيالها ولأجيال الوطن العربي عنها؛ نعم إنها كذلك، وهي لذلك تعاني من حالة " خلل " مزمنة بين الحلم والواقع، التطلع والإمكان، المشروع والقدرة على تحقيقه وتوفير ما هو ضروري لتحقيقه؛ وليس ما تعاني منه أمراً طارئاً أو حالة عارضة، أو شيئاً مشيناً مكروهاً ينبغي البرء منه، بل ربما كان الأمر على العكس من ذلك. إن مشكلتها، إذا كانت تلك مشكلة، تكمن في التكوين الفكري والوجداني والتاريخي والقومي لجماهيرها وسياستها وتوجهها الوطني العام، وقد تكون أكبر مشكلاتها هي أهم مميزاتها أو مرهِقاتها و موثِّباتها في آن معا، تلك هي ذاكرتها التاريخية ومسؤوليتها القومية؛ فسورية هي المساحة الحضارية التي نشأت فيها أولى الحضارات البشرية، وانتشرت منها الأبجدية، وأقيمت فيها أسس الدولة العربية القوية ـ الأموية ـ بمفهوم الدولة في ظل الإسلام، ومن عاصمتها دمشق وصلت أذرع العرب إلى قمة من قمم انتشارها في الأرض ومجدهم الذي لا ينساه التاريخ؛ وسورية جسد الشام، وثقل الذاكرة القومية، وحساسية الوجدان، وكثافة الرؤية والتطلع العربيين، وهي منذ إنشاء كيانها السياسي الحديث 1945 حالة اعتراضية حية وصارخة على التمزق والقهر والتقزيم والهزيمة ومشاريع الاستعمار في الوطن العربي، لم ينقطع فيضها يوماً عنه ولم يتوقف نزفها بسببه، وسورية هي موقفها القومي وبعدها القومي اللذين يكسِبان كل قضية عربية بعدها التاريخي، ولا سيَّما القضية المركزية التي يتمحور حولها نضال الأمة في العصر الحديث قضية فلسطين؛ نعم إن سورية العربية ملكية أكثر من الملك في كل قضية قومية، أو هكذا ينبغي أن تكون، لأنها الملك ذاته في البعد العربي للقضايا المصيرية، وهكذا ينبغي لكل عربي أن يكون، إذ لا يوجد على أرضية الانتماء للأمة ملكي أو غير ملكي، وإنما منتمٍ لها أو غير منتمٍ، مخلص لنضالها أو غير مخلص؛ ومن هنا يأتي حق العربي في أن يقول: فلان خان قضايا الأمة وفلان بقي وفياً لها ولمبدئيّتها، وعلى هذا بنى من بنى الموقف والقول بأن عرفات خان القضية وتنكر لمطالب الشعب ولتضحيات الشهداء، والملك حسين تحالف مع العدو الصهيوني ضد أمته وقضيتها. وانطلاقاً من هذا وعلى أرضيته كانت مقاومة سورية وأقطار وتنظيمات وأحزاب عربية كثيرة للاستعمار وأشكال وجوده ونفوذه في الوطن العربي. وكان أبرز ذلك هو التصدي للأحلاف الاستعمارية ومنها حلف بغداد الذي كان لسورية دور كبير في إسقاطه في الخمسينات من هذا القرن.‏
                          وسورية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أو منذ تمزيق الشام، بحر المد القومي وساحله، ومنذ الاستقلال 1945 هي أرض المشروع القومي الوحدوي النهضوي التحرري التحريري الحديث، ولم تكن يوماً قطراً عربياً عادياً أو هامشياً منذوراً لمصالحه الضيقة محاصراً بنفعية أو تورم أنانيين؛ ولذلك كانت منذ استقلالها موزعة بين طموحها وواقعها، بين جغرافية أرضها وسكانها وقدرتها من جهة وجغرافيا الأفق العربي بقدراته وطاقاته ودلالاته من جهة أخرى؛ تتطلع إلى أشلائها المبعثرة وتستشعر القضم المؤلم الذي يستشري في أرجاء الوطن؛ ومن مَرْسِين إلى سبتة ومليلة كانت وتراً مشدوداً على قوس التاريخ ينثال منه الحزن والأمل، تحترق في وهج حلمها ونار همها، وتكاليف مقاومتها للاستعمار وأحلافه وعملائه وصنائعه ومخططاته، وللصهيونية ـ ربيبة الاستعمار وقلعته ـ وعدوانها واحتلالها وممارساتها العنصرية ومشاريعها الاستيطانية وتحالفاتها العربية والدولية في يوم الناس هذا.‏
                          أردت أن أدخل من هذا المدخل إلى شجن اليوم ألمتما شج مع شجن الأمس، ذاك الذي لا يمكن إغفاله أو القفز فوقه ونحن نواجه اختيارات صعبة حاسمة في عام الحسم الصعب هذا، عام 1996.‏
                          لقد أعلنت سورية شمولية الحل منذ مؤتمر مدريد وعلى أرضيته ومرجعيته، وبعد الخروق الفظيعة التي أحدثها العدو وحليفه الأميركي في صفوف المفاوضين العرب ـ الذين كانوا يسمون دول الطوق ـ أخذ مفهوم الشمول دلالات مغايرة، وتغير جدول الأعمال " المدريدي " بتغير الموقف العربي، وأخذت تفكر تفكيراً ينسجم وتلك المتغيرات التي حظيت بمباركات دولية وصار لها سياق دولي وعربي إن صح التعبير، فقضية فلسطينيي‏
                          1948 وحتى 1967 ـ كلياً أو جزئياً ـ وقضية القدس والقرارات التي تلفظ أنفاسها في أقبية الأمم المتحدة، كل تلك الأمور تركها المفاوض احترام الاختصاص المبني على واقع تجزئة الحل وثنائيته التي فرضتها الخروق التي أحدثها العدو وحليفه في الصف العربي " من الجولان إلى حدود الرابع من حزيران 1967 ومن جنوب لبنان؛ فهي صاحبة دور رئيس في المنطقة، سياسي وأمني وثقافي واقتصادي.. الخ، تريد أن تحافظ عليه وتطمئن إلى مراعاة الآخرين له واعترافهم به، وهي صاحبة مشروع لا يمكن أن يلغى من الوجود، بل لا بد من احترامه والتذكير به. وحددت تفاصيل عدة لا يجوز إهمالها، إذا ما أريد للمباحثات أن تستأنف لتنجح لا ليغدو التذكير باستئنافها خبز الإعلام وناره، ولا لتضيف رصيداً لمن يريدون رفع أرصدتهم الدعائية في انتخابات 1996.‏
                          وجاءت النتائج الأولية للمفاوضات الخلوية مشجعة لكلا الطرفين وبعيدة عن تشريح الإعلام وتصريحه، وملبية للمطالب السورية في صيغتها الشكلية العمومية، لا سيما ما يتصل من ذلك بالدور السوري أو ما أسميه المشروع القومي النهضوي المستقبلي المنطلق من سورية.‏
                          فقد أشار بيريس إلى أنه يتفهم العلاقة السورية اللبنانية ولا يعترض مستقبلاً على الدور أو الوجود السوري في لبنان، وأكدت الإدارة الأميركية توجهاً مشابهاً، ولم يكن ذلك في إطار السعي لإحداث الوقيعة وبالتالي فصل المسارين السوري واللبناني، لأن الجهد الذي بذل في هذا الاتجاه خلال السنوات السابقة من قبل الغرب و" " إسرائيل " " أثبت فشله، كما أثبت اللبنانيون والسوريون وحدة موقفهم التفاوضي وصلابته وصعوبة، إن لم يكن استحالة، اختراقه. ولكن هذا التسليم بدور سياسي في المنطقة تتطلع سورية إلى أن يُعترف لها به، يجري تحجيمه تماماً والالتفاف عليه، والاستعداد لضربه والتشكيك بقدرته على الصمود ـ ولنتذكر مثلاً التهويش والتحريض المبطن الذي رافق عودة المشاركين في السنودس وخطبة المطران المبشرة بالعصيان الشعبي في لبنان ـ ليبقى لسورية وهم الدور المطوق بتحالفات تجهضه وتقيم في وجهه العراقيل.‏
                          فقبل أن يصل كريستوفر إلى المنطقة سبقه إليها وليم بيري وزير الدفاع الأميركي وأعلن أولاً في الرياض أن بلاده مستعدة لخوض حرب هناك دفاعاً عن مصالحها، ثم انتقل إلى عمَّان ليعلن عن استعداد إدارة كلنتون لبيع 16 طائرة ف 16 و60 دبابة وأسلحة أخرى للملك حسين تبلغ قيمتها 300 مليون دولار أميركي، مع استعداد لتحديث بعض أسلحة جيشه، ويجيء هذا في الوقت الذي يزور فيه الملك اليوم تل أبيب ويعمل على تفتيت العراق وتقسيمه إلى دويلات طائفية تنفيذاً للمخططات والرغبات الغربية ـ الصهيونية.‏
                          وفي " إسرائيل " أكد بيري التزام الإدارة الأميركية بأمن " إسرائيل " واستعدادها لاستمرار تقديم الدعم لمشروع الصاروخ المضاد للصواريخ " آرو ـ حيتس أو السهم " ولخزن مزيد من الأسلحة الأميركية في فلسطين المحتلة، وأعلن عن الاستعداد التام لتقديم كل ما ترى " إسرائيل " أنه ضروري لأمنها. وإذا تذكرنا أن ما يطالب به الكيان الصهيوني هو معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة الأميركية في حال توصلها إلى اتفاق مع سورية، وأن بيريس طالب بمنح " إسرائيل " مبلغ سبعة مليارات دولار وأنظمة رادار متطورة، وبصناعات واستثمارات متطورة، أميركية وأوربية، في " إسرائيل " ليكون هناك سلام ذو ثمار ملموسة، وأن كثيراً من الشركات الكبرى بدأت تفتح لها فروعاً في فلسطين المحتلة، فإننا عند ذلك قد نقف على بعض الملامح التي ترسم للمنطقة من وجهة نظر "إسرائيلوـ أميركية " على أرضية " السلام " القادم.‏
                          ـ بعد أن تراجع نسبياً المشروع الذي كلف به الملك حسين لتقسيم العراق إلى دويلات تجمعها فيدرالية أو كونفدرالية، وهو مشروع صهيوني أميركي، أعلن بيريس قبل أيام عن أهمية بل ضرورة إحياء فكرة حلف بغداد، ورأى أن " " إسرائيل " والأردن والفدراليات العراقية المرتقبة وتركيا يمكن، بل يجب أن تشكل هذا الحلف، الذي لا بد أن يجد عرفات له موقعاً فيه. وهو حلف تشرف عليه الولايات المتحدة الأميركية ويجمع قوى من شأنها أن تعطل كل تطلع عربي أو إسلامي لسورية، إذ بإقامته تُعْزَل تماماً وتنكفئ على نفسها تلعق ما يفتَّق لها من جراح، ويحاصر مشروعها القومي وتطلعها القومي أيضاً، ويصبح أي اتصال حيوي لها مع محيطها العربي والإسلامي محكوماً برضا حلف بغداد الجديد الذي لا ظل لعروبة بغداد فيه، لأنها ستجرد، حسب رؤية المخططين له، حتى من هويتها بعد ما جُرِّدت من أنيابها وأظافرها، وإذا ما أقيم هذا الطوق حول سورية فإنها ستقع في الفخ الأميركي ـ الصهيوني؛ في مناخ الغياب العربي شبه المطلق، فالدول التي تشكل طوقاً حولها ستكون مجهزة بالقوة العسكرية اللازمة، ومدعمة بالولايات المتحدة الأميركية الجاهزة للقتال في هذه المنطقة دفاعاً عن مصالحها ومصالح حلفائها ومن تجمعها وإياهم معاهدات دفاعية، كما أنها تشكل قوة اقتصادية ساحقة، ولا مجال لسورية عند ذلك إلا أن تتعامل من أدنى مع هذا الواقع أو أن تثور عليه فيفرمها؛ أمَّا إذا قررت الرضا والسكوت فستوضع في حجم صغير يهيئ لها من الوهم ما تشاء، حجم ليس له من القوة والقدرة على الحركة إلا ما يشاءون.‏
                          لقد أدرك أعداء سورية حقيقة تطلعاتها، ووقفوا عند مطلبيتها التي لا تتنازل عنها، إذا ما أريد لها أن تسير في طريق " السلام "، كما أنهم استوعبوا جيداً الوضع العربي العام، الذي لا يمكن أن يقدِم الآن على اعتراف رسمي تام " بإسرائيل " وتطبيع شامل للعلاقات معها، قبل أن يتوصل مسار المفاوضات السوري اللبناني ـ " الإسرائيلي " إلى حل، لأن سورية تملك أن تعطل أو تؤخر أو تعرقل مسيرة التطبيع العربي ـ الصهيوني، كما تملك أن تفتح الباب على مصراعيه لإقبال رسمي كثيف على التطبيع مع الدولة الصهيونية إذا ما وقَّعت اتفاق سلام معها، فقاعدة: لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سورية، قاعدة تثبت صحتها مع مرور الزمن.‏
                          فإذا ما تم عزل سورية، أو إشعارها بقرب العزلة وبإمكانية تحققها، فأنها ستسارع إلى أحد اختيارين:‏
                          ـ الحرب في ظروف عربية ودولية غير مؤاتية. وهذا ما لا تستطيع الإقدام عليه، وهو ما يقترحه الآن بعض صقور حزب العمل، حتى قبل تشكل الحلف وقبل التوصل إلى اتفاق مبادئ في " واي بلانتيشن "؛ إذ يرون أن ضغطاً عسكرياً كثيفاً على سورية من جنوب لبنان يصل إلى البقاع، كفيل بجعل سورية " تتنازل وتقبل بسلام لا يعيد إليها حتى الجولان !؟!‏
                          ـ أو القبول بما هو متاح مما تعرضه " إسرائيل " أو مما لا يحرج ساستها ويغيِّر سياستها، قبل مجيء الانتخابات أو تقديم موعدها، أو قبل إجراء استفتاء حول موضوع إعادة الجولان قد تكون نتائجه سلبية، وهو ما وعد به رابين " الشعب " سابقاً.‏
                          وفي حالتي السلم أو الحرب، الاتفاق أو الاختلاف، يسعى الصهاينة وشركاؤهم الأميركيون إلى ضرب المشروع الذي يجعل من سورية حلماً أو أملاً قوميين، أو يجعلها تفكر تفكيراً مستقبلياً قومياً تحريرياً نهضوياً، يجعل ذلك من الأمور المجهضة، المحكوم عليها وليس لها؛ وإذ يجري تطويق سورية لفصلها عن محيطها وفرض الضعف والهيمنة عليها، أو جعلها تقبل بما يقسمه لها القاسمون أرزاق الدول وأدوارها في هذا العصر الصهيوني الأميركي أو الأميركي الصهيوني لا فرق، فهنا وهناك: السياسة تتكامل والأهداف تتكامل والوجوه تتكامل، فمن ذا الذي يفرِّق اليوم بين الخيط الأميركي والخيط الصهيوني في نسيج السياسة الأميركية الذي يُعمل لهذه المنطقة؟! أَوَلَيس صانع القرار الأميركي هو صهيوني بالنسبة لهذه القضية ولهذه المنطقة أيضاً؟! وعلى من يريد التثبت من ذلك أن يتعرف على هويَّات وانتماءات فريق " مفاوضات السلام الأميركي " في كل المسارات منذ مدريد حتى اليوم، بل منذ نشأ الاهتمام بالقضية الفلسطينية حتى اليوم.‏
                          إن "إسرائيل " لا تريد السلام، بالمعنى الحقيقي والمطلق والنظيف للسلام، وتريد أن تنخرط الآن في ترتيب أوضاع المنطقة من الداخل، بصفتها طرفاً شرعياً فيها، لتقيم أحلافاً وبنى وتقسيمات سياسية وجغرافية واقتصادية تلائمها وتحقق مصالحها ومشاريعها الاستيطانية والاستعمارية البعيدة الأمد، وأصحاب المصالح الكبرى من الأميركيين، لا سيما تجار البترول والسلاح والسلع الأخرى يريدون أن تدخل المنطقةُ مرحلة جديدة مسيطراً عليها تماماً، لا ظل فيها لمزاحم لهم حتى لو كان أوربياً، وهم يعرضون أن يدفعوا عمولة لمن يفتح لهم تلك الأسواق ويبقيها مفتوحة وتحت السيطرة تماماً. و"لإسرائيل " مصلحة مباشرة في الأمرين: الهيمنة وفتح الأسواق، ولذلك تريد أن ترتب المنطقة وفق مصالحها واستراتيجياتها البعيدة الأمد، مستفيدة من أوضاع الأطراف المعنية جميعاً.‏
                          ربما كنا نعطي للعدو بهذا حجماً أكبر من حجمه وإمكانياته، فالضعف لديه موجود وبشدة، وكذلك سوء التقدير والتدبير والأزمات، ولكن ذلك يأتي في ظل ضعفنا المستشري وتفككنا المزري وتواطؤ بعضنا على قضيتنا، الأمر الذي يجعل قوة العدو تكمن في ضعفنا، ونجاحه يستمد من إخفاقنا، ولن نفقد الأمل في شعبنا وإنساننا وقوانا الروحية.‏
                          وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .‏

                          دمشق في 9/1/1996‏
                          الأسبوع الأدبي/ع496//11/ك2/1996‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            على قدر أهل العزم

                            صوت المنادي ومضمون النداء كلاهما على شفرة الزمن الحادة، فمن يصمّ أذنيه يخسر ومن يتلكأ يخسر، والنجاح والفضل معاً للمبادرين الواعين الناشطين؛ وليس من الحكمة في شيء أن ننتظر وقوع الكارثة وانتهاء مدِّها حتى نبادر إلى فعل شيء من شأنه أن يوقفها أو يؤسس للصمود في وجهها، لأنه يكون قد فات الأوان ونفذ حكم في الزمان؛ والعزم والحزم يكمنان في تحويل الحدس إلى رؤية والرؤية إلى عمل مؤسس يترجم إلى برامج تقوم على العلم وتستخدمه، وتوفَّر لتنفيذها الإمكانات والطاقة والتقانات، ولا تقوم بذلك إلا همم عالية، وقدرات قيادية تملك القرار والحرية والاقتدار.‏
                            نحن في خضم تغييرات شاملة وعميقة ترمي إلى إعادة ترتيب الأوضاع والعلاقات والتحالفات في المنطقة بشكل عام؛ والجسور العربية، القديمة على هشاشتها وقلتها وضيقها ورداءتها، لم تعد صالحة للمرور الأمن عليها، فعلى جانبي كل جسر عربي، بين قطر وآخر أو بين قلب وآخر، مخفر مشترك مع العدو، مدخول بالوجود " الإسرائيلي ـ الأميركي " أو بالمراعاة لذلك الوجود ومصالحه ومحاذيره وإشارات مروره، وما يسمح به وما لا يسمح به، وبما يرضيه على نحو ما.‏
                            والجغرافية السياسية العربية الجديدة، جغرافية المسارات الثنائية وما بني عليها ونتج عنها، منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، وجغرافيا اتفاقيات الإذعان، لا تسمح ولا يراد لها أن تسمح، بقيام علاقات عربية ـ عربية على أساس من الثقة والاستقلال ووحدة الهدف والمصير العربيين، لا يراد لها ذلك على الإطلاق؛ ويستشعر كل قطر عربي ذلك الأمر ويستسلم له؛ وعلى أرضيته و" حتميته " يعمد إلى اتخاذ الاحتياطات من الجوار العربي أولاً، بالاعتماد على إقامة صلات أو تحالفات أو اتفاقيات مع الصهيوني والغربي، أحدهما أو كلاهما معاً. وهكذا دخلت " إسرائيل " في نخاع سياسة الأقطار العربية، مباشرة أو مداورة، وأصبحت خلال فترة قصيرة من الزمن، طرفياً ملحوظ الدور والمكانة والأهمية في تلك السياسات وفي المعادلات التي تقوم في المنطقة أو توضع لها، بل وفي التوجهات الاستراتيجية لبعض الأقطار.‏
                            فالملك حسين مثلاً يرسم سياساته ويقيم توازناته وتحالفاته آخذاً في الاعتبار محوريته في حلف " بغداد " جديد، وخشيته من أن يسبقه عرفات إلى تحالف أوثق مع " الإسرائيلي "، وتحسبه من دولة فلسطينية " محتملة ـ مقبلة " تسحب البساط الشعبي من تحت قدميه؛ ولذلك يعلن عن استعادة التحالف السري القديم ـ وهو لم يتخل عنه في يوم من الأيام وإنما أخفاه في ظل التقدم العربي ـ الذي كان بين الملك عبد الله واليهود برعاية بريطانيا، وقد كان قاسمه الأعظم اقتسام فلسطين " سايكس ـ بيكو " بينه وبين أولاده وأحفاده من جهة وبين الصهاينة من جهة أخرى. والحسين ـ الذي يحسب حساباً لكثير من الأمور ومنها تأثير اتفاق سوري ـ " إسرائيلي " في دوره ومكانته وعلاقته بحلفائه ـ لا ينسى أيلول الأسود 1970 كما أن عرفات لن ينساه، ولا تريد " إسرائيل " لأي منهما أن ينساه.‏
                            وموريتانيا ـ في مثل آخر ـ ترى في تقاربها السياسي مع " إسرائيل " ، على الرغم من البعد الجغرافي بين فلسطين المحتلة وموريتانيا، ترى في ذلك نصرة لها ضد السنغال ومفتاحاً للرضا الأميركي وللاطمئنان والرضا المغربيين، إذ الحسن الثاني صديق مؤثر للقيادات الصهيونية المتعاقبة، ومعتمد للغرب إلى درجة تستدعي الحذر والانتباه؟!‏
                            وحتى اليمن مدَّت يدها في باريس إلى بيريس، إثر خلافها مع إرتريا أسياس أفورقي على جزر حنيش، لأن لتل أبيب دوراً وتأثيراً في مجريات الصراع ومستقبله في البحر الأحمر، ولأن العرب لا يبدو أنهم يمكن أن يقدموا لليمن شيئاً في ظل الأوضاع القائمة والمعارك القادمة، ولأن ترتيبات الأمن في تلك المنطقة بيد الأميركي الذي يضع مصالح حليفه الصهيوني ومستقبل علاقاته الأفريقية في رأس سلم الأولويات التي تجب مراعاتها، وهو يسند إليه مهمة الحارس اليقظ في تلك البقعة الاستراتيجية من الأرض التي يهمه أمرها كثيراً، حيث منابع للنفط ومعابر له لا بد من أن تبقى آمنة تماماً.‏
                            ومصر العربية التي كان يفترض بها أن تلعب دوراً رئيساً في تقرير مصير تلك المنطقة، ليبقى البحر الأحمر حوضاً عربي الانتماء والهوية والنفوذ، تعيش أزماتها وصراعاتها ومشكلاتها، حتى مع أشقائها وشركاء المصير بالنسبة إليها في تحديد ملامح البحر الأحمر السياسية والأمنية والاستراتيجية، وقرارها محكوم، إلى حد كبير، بمعاهداتها وبالمساعدات الاقتصادية التي تحتاج إليها، ومن ثم فإن الأميركي يستطيع أن يشكمها لمصلحة " الإسرائيلي "، الذي لا يقل عنه رغبة في شكمها وتحجيم دورها وإغراقها في صراعات داخلية وخارجية، لا سيَّما مع العرب الجوار، ويزداد قدرة على التأثير في قرارها بأشكال مختلفة، متسللاً إليها من منافذ كثيرة منها البنك الدولي ومن طريق أصدقائه ونفوذه في مجالات إفريقية ودولية.‏
                            وانطلاقاً من ذلك وبناء عليه، تُؤَسَّسُ استراتيجيات عربية على أساس من المصالح الآنية الضيقة، ومن ضعف الاستقلالية وتهديدها، ومن حالات تبعية للغير أو التحاق به، وعلى أساس من الحقد والخوف والأنانية السلطوية وحماية الذات، وهي تفعل، حتى لو تم الأمر على حساب القيم الوطنية والمصالح القومية، ويجعلها ذلك ترتمي في أحضان العدو، وتبحث عمن يحميها حتى لو كان العدو ذاته، وكلما قامت بفعل يشي بنزوعها ذاك أو يعزِّزه تجد نفسها مدفوعة، تحت ضغطه، لتمضي قدماً في الطريق التي ترى بعض ملامح خطورتها.‏
                            إن الحاجة ملحَّة جداً إلى ايجاد إطار عام يبقي أجزاء الصورة العربية المتشققة داخله، والحاجة أكثر إلحاحاً إلى وقف التنكر للانتماء القومي والاستقالة منه والخروج عليه، ولا مناص من السعي لجبر العظام المكسورة في الجسم العربي قبل فوات كل إمكانية لجبرها، وعامل الزمن أشد حسماً وتأثيراً من كل العوامل الأخرى الآن، كما أن إيجاد معيار دقيق سليم وتطبيقه بموضوعية علمية وحرص قومي واستشعار للبعد الإسلامي، هو أهم ما نحتاج إليه الآن؛ والسؤال الرئيس هو من يفعل ذلك، ومن يبادر إليه؟!‏
                            ربما بدا للبعض، أنه في الظروف الراهنة، وفي في أثناء المد الاستعماري الصهيوني ـ الغربي المتعاظم، والتهافت العربي المتراكم أن ليس هناك من مجال لمثل هذا الفعل، ولا أمل يرتجى من مثل هذا التوجه !!؟ وبداية أقول بخطورة فقدان الأمل والاستسلام لليأس، فالرجاء نصنعه وينبغي أن نصنعه، وأن نرفعه مشعلاً نستضيء به ونهتدي بواسطته إلى طرقنا وفي تلك الطرق.‏
                            إن السياسة العربية المسؤولة مطالبة بمبادرات وجهود ومواقف في هذه المجالات، والتنظيمات السياسية والشعبية والمهنية مسؤولة عن رفع الصوت ووضع هذه الحاجة القومية أمام السياسة العربية والسياسيين العرب بأشكال مختلفة، بوصف ذلك مطلباً جماهيرياً عربياً، ومصلحة حيوية عليا، وحاجة تستدعيها كل رؤية مستقبلية وكل مشروع نهضوي عربي.‏
                            وانطلاقاً من ذلك وتأسيساً عليه: ما الذي يمنع حواراً عربياً ـ عربياً على أعلى المستويات بين الساسة العرب، من أن يقوم ويؤدي إلى مصالحة عربية ـ عربية، في الوقت الذي يجري فيه الحوار مع العدو الصهيوني وتمتد اليد لمصافحته ومصالحته؟! وما الذي يمنع من قيام مصارحة عربية، على أرضية المسؤولية والاحترام والشراكة التي لا تقبل الانفصال عن الماضي والحاضر والمستقبل، ولو في قاعات مغلقة، بين قيادات عربية؟! وما الذي يمنع التنظيمات السياسية والمنظمات الشعبية والمهنية العربية من لقاءات على مستوى الحدث والمسؤولية، لتضع كل طاقاتها وقدراتها في خدمة المصلحة العربية العليا وفي خدمة السياسة التي تخدمها؟! إننا جميعاً مستهدفون في نهاية المطاف، وكل شخص أو قطر أو تنظيم يطوله في النهاية نصيب من الكرامة أو الذل، الأمن أو الخوف، الاستقرار أو الاضطراب؛ وكل حريص على وجود الوطن ومستقبل الأمة ومكانتها معنيٌّ، أو ينبغي أن يكون معنياً، بكل ما يهم الوطن وينقذ الأمة ويوفر للإنسان فيها الأمن والعيش الكريم والمشاركة الفعلية في الحضارة البشرية.‏
                            لم لا نحمل أوزارنا ونداوي جراحنا، ونواجه حقائق الحياة في مجتمعاتنا ومن حولنا؛ ونحن نعلم علم اليقين، أن العدو والمستعمر والمستغل وصاحب الحقد التاريخي على أمتنا وعقيدتنا وثقافتنا، والطامع في خيراتنا، نعلم علم اليقين أن أياً من أولئك لن يرحمنا ولن ينتظرنا، ولن يتردد في استغلال كل الأوضاع السيئة التي نعاني منها حتى النهاية، ليستنزفنا أكثر ويحتقرنا أشد؟! وأن أياً منهم لن يتردد في التحالف مع الآخر ـ حتى لو كان بينهما تنازع مصالح ـ ضدنا نحن العرب؟! وليس ذلك نوعاً من الشعور التآمري المحض الذي نفسر به بعض المواقف والحوادث، والذي يلاحقنا بأشكال مختلفة، وإنما هو نتيجة منطقية موضوعية من نتائج استقراء تاريخ علاقتنا بالغرب الاستعماري، واليهودية التلمودية، والصهيونية العنصرية.‏
                            لم لا تجري مصالحة بين مصر والسودان،" مثلاً " بجهود عربية، وكل العرب يعرفون ما ينال كلاً من مصر والسودان جرَّاء ما بينهما من خلاف، كما أنهم يعرفون من المستفيد الأول من استمرار الخلاف وتطويره، ويعرفون أيضاً من ينمي ذلك ولأي هدف؟؟!‏
                            لماذا يبقى الشعب العربي في ليبيا محاصراً معزولاً عن العالم، ويكتفي العرب، وتكتفي " جامعتهم " بالقول: إن الحصار ظالم وينبغي أن يرفع؟! لم لا يبادرون إلى رفع الظلم وخرق الحصار؟! ولم هذه الانضباطية الفذة من الضحية أمام الجلاد القاسي القلب، الذي لا يكفيه ولا يرويه ولا يفرحه ولا يشفيه إلا دم شعبنا وموت أبريائنا وهدر كل كرامة لنا؟! أيعتقد العرب حقاً أن المنظمة الدولية هي صاحبة القرار الفعلي، وأن قرارها عادل، وأنه ينبغي أن يحترم قرارها؟! أكاد أقطع بأن الكل يعرف من هو صاحب القرار الظالم، ولماذا يستمر، ولأي غرض يستمر؟! كما يعرف من الذي يسيِّر المنظمة الدولية ويصنع قراراتها.‏
                            ولمَ نكتفي عربياً بالتعاطف الميت مع الشعب العربي في العراق ومع أطفال العراق؟! هل نجهل أبعاد المأساة حقاً ـ بصرف النظر عن مسببها ـ وهل نجهل أنها تطال مستقبل أبرياء وصحتهم وسلامتهم الجسدية والعقلية والروحية، وأنه لن ينجو من نتائج ما يصيبهم به الحصار مستقبلاً من يكتفي بالفرجة عليهم، حتى لو ذرف الدموع أسى عليهم. نعم إنهم يدفعون ثمناً غالياً جداً لأخطاء قياداتهم ونظامهم السياسي وممارساته، لا أحد يشك في ذلك ولا أحد يختلف مع أحد حوله، ولكن هل يدفع المسؤول الفعلي عن المصيبة شيئاً من الثمن؟! وهل تجوز معاقبة الأجنة في الأرحام، والنطف في الأصلاب، على فعل ارتكبه من هم أوصياء، بالقوة والقهر، على الأصلاب والأرحام والأجنة والنطف، بحكم وصايتهم الجائرة وغير المشروعة على الحياة والناس هناك؟! إن مواليد من سن أيام وأسابيع إلى سن ست سنوات، على الأقل، يعانون من عقوبات جماعية ليس لديهم القدرة على مجرد التفكير في تجنبها، بَلْهَ العمل على محاسبة مسببها؛ وهم يغرقون في البحار الواسعة التي يحيطهم بها المتشدقون بالكلام على حقوق الإنسان في طول الكرة الأرضية وعرضها، فلم لا نفعل شيئاً إنسانياً من أجل شركاء لنا في المواصفات البشرية، في الشرط الإنساني والمصير الإنساني؟! إنه سؤال ملقى بثقل شديد وإلحاح أشد على ضمير الإنسان العربي أولاً، وعلى من يعنيهم مستقبل الوطن العربي والعلاقات العربية ـ العربية ثانياً وعلى المنظمات الدولية والعالم الذي يسمي نفسه متمدناً ثالثاً وأخيراً.‏
                            لم لا تقوم جهود شعبية في الوطن العربي، تختفي وراءها سياسات عربية مخلصة ـ إذا كانت هناك محاذير من الظهور السياسي المباشر ـ أو حتى جهود شعبية محضة وإنسانية خالصة، يناصر فيها الإنسان الإنسان على أرضية خُلُقية وحضارية؟! هل نحن خارج حدود الوعي بالالتزام القومي والإنساني والخُلُقي؟! أم ترى وجداننا في حالة ضمور وينبغي أن يكون قاصراً؟!‏
                            إن المجالات التي تستدعي مبادرات عربية، رسمية وغير رسمية، عامة وخاصة، مجالات كثيرة تصعب الإحاطة بها، وكل رؤية تؤسس، أو تتطلع إلى أن تؤسس، لحلم عربي وعمل عربي ومستقبل عربي مشترك، على أي مستوى وأي صعيد، مطالب صاحبها ومحكوم توجهها بالانطلاق من العربي الإنسان والاهتمام بالعربي الإنسان، وبالعلاقات العربية ـ العربية على الصعد والمستويات جميعاً، ومن هذا المنطلق نقول بضرورة المبادرات العربية المسؤولة والشجاعة، لتشكيل إطار عام لا يقع العربي خارجه وهو يتشقق ويتمزق ويتهاوى في هذا الزمن العربي الرديء، وتلك مسؤولية تكبر بكبر الأشخاص والمسؤولين، وتضمر بضمورهم وضمور هممهم، وقديماً قال أبو الطيب:‏

                            على قدر أهل العزم تأتي العزائم‏
                            وتأتي على قدر الكرام المكارم‏

                            دمشق في16/1/1996‏
                            الأسبوع الأدبي/ع497//18/ك2/1996‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              سَمك المياه العذبة والتنين
                              بعض السوريين يحبون سَمك المياه العذبة، ليس لأنه الأطيب ولكن لأنه يرتبط أحياناً بالذكريات الحلوة والتاريخ، وهو يرتبط في ذاكرتهم هذه الأيام بطبريا ومياهها العذبة، وإذا ذكرت لهم بحيرة طبريا يستحضرون خضرة الربيع وإشراقة نهر الأردن وبهاء الإطلالة عليه وعليها من هضبة الجولان حين يجتلي المرء المنظر من موقع " الكرسي " أو من السفوح المطلة على البحيرة؛ وهم لا ينسون الحمَّة ويتذكرون مياهها المعدنية جيداً، ولا تغيب عن بالهم سرايا أشجار الموز التي تتوارث المكان وتهديهم فتنته صباح مساء؛ ولا يستقيم معنى للجولان عندهم من دون طبريا والحمَّة، لأن الشعب يعرف الأماكن التي تعشش في الذاكرة وترتبط بلون من متع في الحياة ويعتِّقها سدنة التاريخ، ولا سيَّما تلك التي يخلدها الأدب ويجدد ذكرها، ونحن لمن لا يعرفنا نحب المتنبي ونستذكر منازلته لليث في طبريا، ونستعذب استعادة الشعر في أماكن ولادته.‏
                              وليست بانياس أقل حضوراً في الذاكرة والوجدان عند الشآميين من طبريا، ولا مثلث كَعْوَش والنُّقَيْب أكثر أهمية من قرى الجليل والقدس والخليل، فكل الأرض العربية ذات حضور نوعي وتاريخي عند شعبنا وفي وجدان شبابنا وشاباتنا وأطفالنا؛ وإذا كانت المساحة التي ترضي غرور المحتلين وأطماعهم منها هي بلا حدود، وتمتد في كل اتجاه، فعليهم أن يعرفوا جيداً أن الحد الذي يلبي مطالبنا التاريخية وحقوقنا العربية ـ الإسلامية وتطلعاتنا منها هو الذي يستقر عنده الوجود الاجتماعي والتاريخي لشعبنا عبر الزمن، ابتداء من جذره البشري والحضاري القديم الذي يرقى إلى ما قبل الكنعانيين بقرون، في سورية ـ ومنها فلسطين ـ وفي بقية الأقطار العربية، وانتهاء بتشعبات فروع ذلك الجذر الثقافية والعقائدية والبشرية في هذا العصر، الذي شهد بداية الصراع مع الاستعمار وأداته الصهيونية ومخططاتها التوسعية؛ وما زال شعبنا يخوض ذلك الصراع القديم بأشكال مختلفة، دفاعاً عن أرض الحضارة والأبجدية والخيرات والرسالات السماوية والموقع الجغرافي المتميز؛ أرض البترول اليوم والأسواق الاستهلاكية المفتوحة والفرص الكبيرة التي تفتح شهية تجار الدم والدمار والسلاح من كل نوع.‏
                              أقول هذا على عتبة الرابع والعشرين من كانون الثاني 1996، موعد استئناف المفاوضات في مزرعة " واي بلانتيشن ـ ميريلاند " بين سوريين و " إسرائيليين" برعاية أميركية، وأقوله لا ليتذكر السوريون الحمَّة وطبريا، فهم لا ينسون "فتراً" منها ومن بقية الأرض المحتلة، كما لا ينسون موقعاً ولا ذكرى؛ ولكنني أقوله ليدرك الرعاة الأميركيون والمخاتلون الصهاينة وكل الذين يناصرونهم في الغرب، ليدرك أولئك وهم جلوس إلى طاولة المفاوضات هناك، أن الجولان لا تحدد هويته وجغرافيته وعائديته خرائط ورغبات وأحلام استعمارية واستيطانية، لا هو ولا بقية الأرض العربية المحتلة الممتدة أمامه وأمام حرمون حتى لسان كل من البحرين الأبيض والأحمر؛ وإنما يحدد تلك الهوية والجغرافية والعائدية، ذاكرةُ الشعب العربي ووجدانه وحضوره وحقه التاريخي، وقدرته على فرض وجوده واستعادة سيادته في أرضه وعليها ولو بعد حين. وأقوله ليدرك العرب في أي موقع وأي مكان أن أرض الوطن العربي ينبغي أن تتماسك تماسك اللغة والعقيدة والتاريخ، وأن أي قضم أو تفتت لأي جزء منها هو نذير بتفتت ما يليه وبداية قضم فعلية للكل ابتداء من الجزء، وأن الاحتلال اغتصاب لجزء من الأرض لا تقره إرادة المغلوب، وحين يستأنف المواطن فعل التحرير، على أرضية الإيمان والحق والشرعية التاريخية، يكون كل الوطن أمام رؤية الإرادة الحرة، إرادة الأمة وقدراتها وظروف أدائها، يكون مساحة للكر والفر وعمقاً استراتيجياً ومجالاً حيوياً، وليس مساحة للمقايضة والمساومة، وأن الوطن لا تحميه ولا تستعيد ما اغتصب منه إلا القوة والعزيمة والحكمة.‏
                              وإذا كان الاتفاق مستحيلاً بين السوريين والعدو الصهيوني المحتل من دون الانسحاب التام إلى حدود الرابع من حزيران 1967 ومن جنوب لبنان، فإن السلام مستحيل، على المدى البعيد في هذه المنطقة، مع وجود دولة يهودية ذات سيادة في فلسطين العربية المحتلة، لأن ذلك بحد ذاته ينفي السلام ويتعارض مع جوهره لنفيه العدل والحقائق التاريخية، ولتعارضه مع كل منهما. إن الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود قوى الاستعمار المعاصر في العالم اليوم تحت أقنعة وشعارات براقة ومسميات جديدة مغرية وادعاءات ديمقراطية وإنسانية وحضارية عريضة، تستطيع أن تشتري " سلاماًلإسرائيل"، قلعتها المتقدمة في الوطن العربي، وأن تصنِّع ذلك وتفرضه بالمال والإغراء والإغواء، وببث الطموحات المريضة وبعث القديم منها لدى بعض الحكام العرب؛ ولكنها لا تستطيع أن تقيم السلام الدائم والشامل، بالمفهوم الذي ندركه نحن أبناء الشعب العربي في مصر والشام على الأقل.‏
                              ذلك لأنها تترجم السلام إلى تجارة ومعطيات مادية تتحقق على حساب الأرض والقيم الوطنية والثوابت التاريخية، بينما السلام بالنسبة لنا، مرتبط بالكرامة والأمن وبسيادتنا التامة على أرضنا، كل أرضنا، وباطمئناننا على سلامتنا وسلامة مقومات ثقافتنا وعقيدتنا وشخصية أمتنا من التهديد؛ ولأن السلام مرتبط أيضاً بعدم وجود محتل في وطننا يطرد منه قسماً من شعبنا، ليقيم فيه دولة على حساب الشعب والوطن والكرامة معاً؛ وإذا لم يتحقق لنا سلام روحي يكون حصيلة التحرير والحرية، لا يتحقق السلام، ولا يُؤَسَّسُ فعلياً للسلام، ولا تتعلق قلوبنا بالسلام، ولا تطمئن أرواحنا إليه، ولا تزدهر أوضاعنا في ظله.‏
                              وما دامت الولايات المتحدة الأميركية ـ التي تبعد حتى شركاءها الغربيين عن مشروعها الإمبراطوري في هذه المنطقة ـ تعتقد أن غرس أقدامها بحوافر صهيونية في الوطن العربي، على شكل احتلال مباشر وغير مباشر، وإقامة قلاع صليبية عصرية صهيونية عنصرية، تخيف وتقود وتهدِّد وتنهب وتحقق الهيمنة وتفرض أشكال التبعية على الأنظمة والناس ومقومات التحرر والسيادة في هذه الأرض، مادامت تفعل ذلك وتعتقد أنه يؤمِّن لها مصالحها ويحقق تطلعاتها للسيطرة على هذه المنطقة بالذات ـ موقعاً ومقدسات وأمة ذات عقيدة ومشروع حضاري مغاير لمشروع الغرب ـ فإنها لا تؤسِّس للسلام والاستقرار ولن تؤسس لهما، ولا تحرص أصلاً عليهما بالمعنى النظيف والصحيح للكلمة، ولا تحرص حتى على مصالحها المادية إلا في حدود النظرة المتسرعة المحدودة الأفق، ذلك لأن سلاماً يلغي أبناء المنطقة أو يجردهم من القوة والكرامة والمصلحة، ويفرض عليهم الخضوع لسواهم ويشعرهم بسطوة القوة القهارة المسلطة عليهم، هو " سلام " هش مغشوش يدفع الناس إلى سلوك إحدى طريقين:‏
                              ـ طريق الاستسلام والخوف والذل والدخول في جلود العبيد بشكل جماعي، وهذا يتناقض مع جوهر التكوين البشري الذي فطر فيه الإنسان على الكرامة والحرية والعدالة .‏
                              ـ أو طريق النقمة والحقد الدفين والرفض المستمر والثورة، ومن ثم الخروج على كل ما يُقَدَّم لهم على أنه السلام، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى انعدام الثقة على المدى البعيد، وإلى تأصُّل البغض، بينهم وبين من يفرض عليهم ذلك.‏
                              ولما كان الحرص والجهد الأميركيان البارزان يصبَّان في مجرى محدد واضح تماماً، بالنسبة لنا، وهو إقامة " سلام لإسرائيل "، فرضه أو شراؤه، بثمن أقل من تكاليف الحرب والمقاطعة والاستنفار، وبأموال العرب في نهاية المطاف، وتأمين مستقبل تلك الدولة على حساب العرب ومستقبلهم ـ بصرف النظر عن العدل ومعاناة الشعب ـ مع تعزيز لقدراتها القتالية النوعية بكل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، النووية وغير النووية؛ ومنع العرب الذين ليسوا في الجيب الأميركي ـ الصهيوني ومَن هم فيه، ولكن يمكن أن يخرجوا منه مستقبلاً، منعهم من شراء أية أسلحة أو حيازتها أو التفكير بحيازتها، فإن الهدف الاستراتيجي للأميركيين يغدو واضحاً تماماً: فهم لا يثقون بالعرب ولا يقبلونهم بدلاء لحلفائهم الصهاينة حتى لو أمَّن العرب لهم كل مصالحهم، وذلك ليس لأن العرب لا يوثق بهم ـ فقد جرب الأميركيون أنظمة عربية لعقود من الزمن وأثبتت ولاءها المطلق لهم ـ ولكن لأنهم يريدون وضعهم جميعاً في القفص، واجتثاث الهوية والثقة ومقومات العقيدة والشخصية من الإنسان، في الأرض العربية وفي البلاد الإسلامية التي تشارك العرب العقيدة والثقافة، وقد تناصرهم في صراعاتهم المصيرية على نحو ما؛ ومن ثم فالمشروع الأميركي الصهيوني ليس مشروعاً اقتصادياً تجارياً مادياً فقط، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك كله مشروع ثقافي عَقَدي توراتي ـ تلمودي، مشروع فرض تبعية وإذلال، مشروع يصنعه الصهاينة والمتصهينون في الغرب على أرضية دينية مصلحية استعمارية استيطانية، تفتِّت الوجود العربي وتنفيه، مشروع يريد كل شيء ولكن ليس دفعة واحدة، فيه وعي لدروس الماضي البعيد والحاضر النازف على دروب التاريخ، وفيه من دماء بولدوين الأول وبولدوين الثاني وفولك وسواهم من الملوك الصليبيين وأطماعهم ما يتدفق في العروق ويتخمر في الأعصاب، ويصب أخيراً في رؤوس : ريغان وبوش وتاتشر وكلنتون.. وأمثالهم، التي تتوازى وتتماشى مع سلسلة طويلة من رؤوس يهود تلموديين عنصريين يملؤون صفحات السنوات المئة السابقة.‏
                              إن الولايات المتحدة تستثمر مليارات الدولارات فيما تسميه عملية السلام التي تقام أصلاً على ركائز وأسس تبقي العرب في حالة تبعية وذعر، يلهثون وراء من يؤَمِّن لهم فرصة العمل والحماية من المستقبل الغامض المرعب، الذي يصنَّع لهم ويفرض عليهم بأشكال مختلفة من قبَل أعدائهم وبعض حكَّامهم المتواطئين مع أعدائهم أو المتحالفين مع أولئك الأعداء؛ وليس صحيحاً على الإطلاق أن الإمبراطورية الأميركية تهتم بالسلام لوجه الله وحباً بالناس وتمسكاً بالمبادئ، وهي لا تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بمعناهما العميق والشامل بتجرد ونزاهة، فالمصالح وليست المثل هي التي تحرك القدم الأميركية الوسخة. وعليه فإن التدثُّر بالأخلاق والقيم الإنسانية ليس إلا برقع الذئب وقناع الثعلب، وقد التقى شيلوك وراعي البقر في رحلة صيد طويلة وشاملة في وطننا انطلاقاً من فلسطين، تنشط باتجاه الأماكن المقدسة والأسواق الأكثر تقديساً؛ وهما يتعقبان الهنود العرب والغوييم من أحفاد العماليق في رحاب الأرض، تتبعهم حاشية معروفة التكوين والوظيفة والأغراض.‏
                              إن الولايات المتحدة تولي عناية كبيرة لشكليات مهمة بالنسبة للعرب إذا كان ذلك يؤَمِّن لها أسواقاً تجارية مزدهرة، وتفرُّداً بالسيطرة على منابع النفط ومصادر الطاقة، وفضلاً في بناء الهيكل الثالث وظهور " المسيح " المنتظر، ولكنها لا تولي للجوهري بالنسبة للعرب أية عناية؛ وهي على استعداد تام لتدمير الإنسان والعمران إذا ما هُدِّدَت مصالحها، وتوقف استغلالها للغير، وتقلص دخلها القومي ونفوذها الدولي، فهي قيادة العالم التي لن تسمح لسواها بقيادة، وكل ذلك لا يمكن أن يقوم أصلاً إلا على حساب كرامة الآخرين وحرية أوطانهم وقرارهم وعلى حساب مصالحهم وسيادتهم وتقدمهم واكتفائهم الذاتي وصحتهم الروحية والجسدية.‏
                              من هنا تأتي أهمية التأمل والتروي والتفكير في ضرورة مواجهة تحالف الأفعى والثعلب والتنين، وزواج البراغماتية الذرائعية والإرهاب العنصري المتأصل في النشأتين الأميركية والصهيونية، وفي كيفية تحقيق نجاح في ذلك، وعدم الركون إلى ما يقدمه لنا ذلك الفريق المتحالف وما يضعه على مائدته الملغَّمة بألف لغم ولغم؛ فسَمك المياه العذبة الذي نحبه موضوع على طبق بين شدقي تنين رهيب!! وغسق يوم العرب هذا لا يقدم الشمعة ولا ذا الفقار.‏
                              دمشق في 23 / 1 / 1996‏
                              الأسبوع الأدبي/ع498/25 /ك2/1996.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                أحلام في زمن العم سام
                                تعالوا نحلم، فلم يبق لنا سوى فسحة الحلم مساحة عيش نصوغه كما نشاء، وتلك الفسحة في عالم تُصادر فيه الأحلام ليست قليلة على الإطلاق، وإذا ما نجحنا في تحويل حلمنا إلى واحة عامرة في صحراء الوقت هذه فإننا نكون قد تجاوزنا عتبة اليأس واخترقنا جدار البؤس؛ تعالوا نحلم فالحلم في الظلمة يفتح باباً لضوء ينبجس من الأعماق وهو ما لا يستهان به في جميع الأحوال لأنه يشرع مراكب الروح ويزجيها نحو أفق مفتوح، تعالوا نحلم ونقطع الطريق على من يريد أن يسد علينا دروبنا إلى الغد فدروب الشعوب لا تُغلق وينبغي أن تفضي إلى فجر يعج بنور الأمل؛ تعالوا فقبل دخول الغسق تبقى فسحة وقت لبقية من ضوء قمر يتسلل إلى النفس، وتبقى في النفس بقية قدرة على استساغة الضوء والانتفاع به؛ تعالوا فالوقت قصير وسيف الزمن الرديء الصعب يشيع الرعب في كل متون القلب والدرب، وترتعد منه الأعشاب الغضة وأوراق الشجر الذابلة من فرط الذهول، تعالوا فهذا وقت أغلى من كل الأوقات وأحلى من كل الأوقات وأغنى من كل الأوقات.‏
                                -الحلم الأول: مشهد باهر للملوك والرؤساء والأمراء العرب وهم يعقدون قمة في دمشق أو في القاهرة أو في قرية من قرى الوطن العربي لا ترتفع إلى مستوى مقاماتهم ولكنها تكتسب في أنظارهم سحر بقعة مباركة، تطؤها قدم مباركة، في لحظة مباركة، تكتسب طهر أرض الوطن وقداستها وغنى تاريخها وتتجلى لهم فيها مصلحة الذين يعيشون عليها؛ قمة تتجاوز قمة البؤس التي بلغها وطننا والناس فيه والروح القومي لمواطننا، وقد استشعروا جميعاً في تلك القمة الحاجة الماسة إلى تجاوز ما هم فيه من هوان وتهافت وضعف وتبعية للغرب، وحصار وذل واستسلام للعدو الصهيوني، وما يتملكهم من نزوع عدواني يجعلهم يزرعون أرض العرب شقاقاً يحصده الناس موتاً وشقاء وتخلفاً وجوعاً وذلاً، فإذا بهم وقد أخذتهم نخوة عربية وحمية إسلامية، يندفعون في طريق يتوحّد فيها صفهم، وتجتمع فيها على الحق كلمتهم؛ وإذا الأحقاد والضغائن بينهم إلى زوال، والضعف الذي يفتك بهم إلى اضمحلال، وإذا عناق القلوب يسبق مصافحة الأيدي وعناق الأجسام، ودموع الفرح والمحبة تنساب من عيون مؤمنة بالله وبحق الأمة في الحياة تخط مساربُها على الوجوه سبل النجاة ودموع الندم على ما فرط فيه الأخ بحق أخيه وعلى ما فات وما ضاع من وقت وطاقة وجهد تفتح، في وجه الغيب للمستقبل أخاديد وطرقات. وإذا الذين بكوا على عدوهم رابين تقشعر أبدانهم من هول ما فعلوا، إذ يرون فيه استصغاراً لشأنهم وإزراء بأمتهم واستهتاراً بشهدائهم وبتضحيات أبنائهم وبناتهم، ويرون في لقاء ما بين النيل والفرات مدخل الفذ الخبير إلى وضع حد لـ "إسرائيل من النيل إلى الفرات، ومن وايزمن الأول إلى وايزمن الأخير".‏
                                كذا يعم أرض العرب فرح واستبشار، وتتقافز تطلعات أسيرة مدفونة في الأعماق، ورؤى وطموحات تنشد الانعتاق، وتنطلق من زنازينها الرطبة ومن قواقع الخوف التي تغيبها في ظلمات الرغبة والأشواق، فتنمو الآمال في النفوس كما تنمو الأشجار العملاقة في ظلال من سحر الحلم الحب الذي يصنع المعجزات، وينتعش التوق إلى التقدم في دروب التحرير، ويجلو النور عيوناً كانت مخابئ للحريات تجثم فيها وهي ترتعش هلعاً من عين مخبر متخصص يعري الرغبات الدفينة ويحتجزها، ويضعها تحت أضواء مجهر كشاف وسوط ملحاف؛ وينطلق في وطن العرب صهيل صوت أصيل يعلن ولادة النهار ويدعو إلى الإقبال عليه من دون خوف!!؟‏
                                -الحلم الثاني: مشهد الملوك والرؤساء والأمراء العرب وقوفاً في قوس مهيب، فوق مساحة خضراء أبهى من كل ساحات البيت الأبيض وما في الدنيا من ساحات، يتشامخ فيها الإعجاب والرجاء والإباء، وهم يوقعون الواحد بعد الآخر وثيقة اتحاد يجمع شمل البلاد والعباد في أرض العرب؛ وثيقة تعلن ولادة جيش عربي واحد، وسوق اقتصادية عربية واحدة، وعُمْلَة عربية موحدة، ووزارة خارجية عربية موحدة، وتبقيهم هم -ما داموا قد أدمنوا السلطة ولا دواء لهم من ذلك الإدمان- في عروش التكريم والاحترام حكاماً في أقطار ملكوها أو استقطعوها أو صنعوها أو استولوا عليها، ولكنهم اليوم يربطون بين مزقها، ويقودون الناس فيها إلى تقدم لا غنى لهم عنه، وإلى إعداد واستعداد لتحرير لا بد منه، وامتلاك قوة لا معدى لأية أمة عن امتلاكها ، إذا أرادت أن تعيش بحرية وكرامة في عالم الغاب هذا الذي نعيش فيه؛ وهم مشدودون إلى مجد عريق يستعيدونه بثقة ويصنعونه بشجاعة وحنكة وكرامة. يرتضون ما يرتضي المواطنون من مصير، ويرضون عن تعلُّق أولئك المواطنين بالحرية والعدالة والمساواة أمام القانون والمغانم والمغارِم التي يتعرض لها الوطن ويتأثر بها المواطن، ويمكنونهم من أن يتحركوا عبر حدود بلادهم، التي تتغنى بامتدادها الأشعار والشعارات والدساتير صباح مساء، بشيء من الاحترام والأمان والاطمئنان، شأنهم في ذلك شأن الأميركي أو الأوربي الذي يجوب تلك البلاد بحرية واحترام ترافقه السطوة والمهابة، كأنما هو مالكها أو مليكها أو سيدها، بينما يصطف أهلها -أبناء أمتنا- في المعابر إلى أقطارهم وعند مراكز حدودها وفي مطاراتها، منتظرين حتى يتم التدقيق بامتهان في دمهم وتلافيف أدمغتهم وطوايا قلوبهم وخلايا أبدانهم للتأكد من أنها لا تحوي شيئاً تآمرياً تدميرياً يزلزل العروش الراسيات كالجبال الشامخات؟!‏
                                وإذا قرار العرب ذاك، في ساحة الحلم والأمل تلك، وإعلانهم الصادح في وثيقتهم يغيران في العالم ما لم يكن يتوقع أن يتغير، وإذا بتحالفات جديدة تولد وتحالفات قديمة تتشقق وتتمزق وتتهاوى، وإذا الغرب الأوربي الذي يتربص ويتشمم رائحة فرصة للخروج من الشبكة الأميركية الضخمة، يجد فرصته المواتية لخدمة مصالحه الخاصة التي تتعارض والمصالح الأميركية المسيطرة؛ وإذا عالم جديد ينبعث من تحت أنقاض عالم يتشكل اليوم على حساب وجود العرب وتقاربهم وخيراتهم ومصالحهم وحيوية حضورهم ومستقبلهم، عالم جديد لهم فيه دور وحظ أوفر من دورهم في "النظام العالمي الجديد وشرق أوسط بيريس"، عالم يحقق لهم شرطاً إنسانياً أفضل مما تحققه الهرولة المذلة إلى أعتاب عدوهم العنصري الذي أكسبه ضعفهم وصف القوي وألبسه ثوب "الصديق"؛ عالم لهم فيه شوكة تعفيهم من طأطأة الرؤوس في مجامع الأمم ومن التسكع على أرصفة الموانئ والقطارات بانتظار من يحملهم إلى محطة يلتقون فيها مع مستقبل يعد به "غودو"!! وإذا بهم: البسمة على شفاههم وإشراقة الأمل على جباههم لأنهم أسياد لحظتهم وصناع مستقبلهم!! وإذا هم أصحاب صوت وكلمة وموقف ورأي ومهابة، يستطيعون التنقل بزيهم ولسانهم وتطلعاتهم في العالم الواسع من دون خجل أو وجل، ومن دون احتقار من أي نوع مما يرافق ظلالهم اليوم، لا سيّما في أرض الغرب الذي لا يرى أن لغيره حقوق البشر وحضورهم.‏
                                -الحلم الثالث: مشهد رجال الدين في الوطن العربي والعالم الإسلامي، من شتى المذاهب والطوائف والملل من جهة، والمثقفين والمفكرين والساسة من تيارات فكرية وإنتماءات سياسية وألوان عقائدية مختلفة من جهة أخرى، وقد جمعهم الحرص على اكتشاف المشترك فيما بينهم وتعميقه وترسيخه وجعله منهج حياة وهاجس مصير، يعمقونه ويوسعون أفقه بالحوار البناء المسؤول الذي يجمع ويقوي ويوحي ويوحد. وإذا بهم يصلون إلى برنامجهم الذي يضع مشروعهم الحضاري موضع التنفيذ، ويقيم قوامه على أساس مكين، ويجعله قادراً على مواجهة المشروع النقيض، مشروع عدونا ومن هم خلف عدونا؛ ذلك المشروع الذي يقتحم أرضنا وجماهيرنا وثقافتنا وحضارتنا ومقومات تفكيرنا بقوة المال والسلاح والعلم، وإذا بهم يسندون مشروعهم بالوعي والمعرفة والعمل على أرضية العلم والإيمان والثقة بالنفس والنصر.‏
                                وإذا الطاقات الجبارة يغذي بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً، وتشكل طليعة ترتاد وتحقق على الأرض ما يشير به العلم والارتياد، عقول على قلب وهدف، وقلوب على أمل وغاية، وأبصار تقودها البصائر وتفتح لها مغلقات الأبواب.‏
                                وعلى ضفة الحلم الرابع وكزني مجهول بعصاه ثم دفرني بقبضة يده ونهرني وشد ما تبقى في الرأس من شعر وهو يصرخ: هل هذا وقت الأحلام البلهاء؟! إن العم كريستوفر حفيد العم سام ونذيره إلى العرب يحرث الأرض بالطول والعرض، ويشتري سلاماً "لإسرائيل" بأموال العرب في أرض العرب، وقد زرع لليهود الخزر في هذه الأرض أشجاراً وبشرهم بخير الدارين، و"ابن العم بيريس" يدخل قصور ملوك العرب ويتآمر مع أهلها على العرب ومستقبل العرب؛ وقد فات عصر أحلام وشعارات تهذي بها، أفلا يحين وقت الاستيقاظ هنا أبداً؟! ألا تكون الرؤى إلا ملفَّعة بالوهم والهم والغم وسحر الأباطيل وضلال العقول؟! ما لكم ألا تدركون المعقول من غير المعقول؟!‏
                                لم أستيقظ لأنني لم أنم، ولم أخرج من دائرة حلمي المشروع لأنني لم أتوهم أن كل شيء قد انتهى وأن عالمي وأمتي وماضيَّ وتاريخي وشخصيتي وعقيدتي إلى زوال، ولم أملّ العزف على وتر الأمل، ولم أكف عن ممارسة الحلم النبيل المنقذ الموحي ولا عن إدمانه في ليل العرب هذا، إذ أنني أومن بأن بعد الليل فجراً، وبعد الفجر صبحاً، وبعد الصبح شمساً تتربع على عرش الضحى وتنير كل المسارات والدروب، وتحرق العفن الذي يعشش في النفوس والأماكن المظلمة الرطبة؛ لم أهجر دائرة الحلم الأمل ولن أهجرها، فالحلم أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع، والشعارات التي نلوكها ونتغنى بها اليوم، أو نستعيد التغني بها اليوم، هي مما ينبغي ألا يموت ولو ذبل، لأنها تحمل كل مقومات الحياة والمستقبل، ولا تكون الحياة من دون حلم وتطلع للمستقبل. إن الحياة إذا جرِّدت من ذلك غدت تكليفاً مملاً لا ترافقه بهجة الوعد بغد أفضل وحياة أفضل وعدل يشق برقه لحمة الظلم والظلام وينير القلوب بالحق والحرية.‏
                                وعندما لامست بكفي موضع الوكز والدفر وشد الشعر، أخذت أردد: ويل لنا إذا لم نحول أحلامنا القومية البهية إلى أفعال ومشاريع حياة وإنتاج يعمر الأرض، وويل لنا إذا تركنا الناس على طريق العم سام و"ابن العم بيريس" يصدرون لهم مثُلَهم ويصنعون لهم طموحاتهم وتطلعاتهم ويتركونهم أشلاء من دون أرواح وآمال وأحلام، يزجُونهم في زنازين لا يعرف الرجاء والوعي بالذات إليها سبيلاً. وويل لنا إذا ما أوكلنا أمرنا وأمر أمتنا إلى متعيِّشة الثقافة والسياسة من أبناء أرضنا الذين يزينون طرق القبور ومعابر الموت، ويقتلون الرجاء باسم واقعية عرجاء، ويركبون أمواج الوقت، ويلبَسون لكل حالة لبوساً، ويروجون في كل سوق بضاعة يؤجرون على ترويجها، ويتبعون من يدفع أكثر فيبيعونه الناس بقتل وعي الناس وأحلامهم وآمالهم، ويقدمونهم من بعد إلى الممولين جيفاً مكبلة بالجهل والجبن وذل الحاجة، لا تدفعهم تألقات الروح وتطلعاتها إلى أي فعل نبيل ذي قيمة، يكرس تعلقهم بالقيم التي تميز إنساناً عن إنسان، ويكون علماً على حضورهم بين الناس!؟!‏
                                دمشق في 6/2/1996‏

                                الأسبوع الأدبي/ع500//8/2/1996‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X