رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
أهل الندم
يوم اغتالت الموساد الشهيد يحيى عياش في غزة بمساعدة من الأمن العرفاتي ارتفعت أصوات تبارك هذه الخطوة لتعلن بشماتة وقحة موت " الإرهاب " وموت المقاومة ودفن آخر فلول الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة؛ وشارك " عرب " الصهاينة المتصهينين فرحتهم بذلك وتوقعاتهم المبنية عليه .
وطوى الحزن والصدمة خمسين يوماً من عمر الناس، وهم ينامون ويستيقظون على وعد حماس والجهاد بالانتقام للمهندس؛ واستعدادات العدو لموجهة كل الاحتمالات بالقسوة المعهودة، وضلوع أمن الحكم الذاتي في ملاحقة الشهداء المحتملين لكي يثبت استحقاقه للثقة وللمساعدات المالية من الدول المانحة التي تمسك " إسرائيل " مفاتيح خزائنها في هذه الساحة، واطمأن بيريس وأعوانه وحلفاؤه والمتواطئون معه إلى أن الضربة كانت قاضية. وفي الساعة السادسة وأربعين دقيقة من يوم الأحد 25 / 2 / 1996 ظهر تلاميذ المهندس في القدس وعسقلان في وقت واحد تقريباً ليعلنوا ولادة الجيل الثاني من صنعة الألغام والأجساد البشرية المفخخة؛ وفي لحظات كان ستة وعشرون صهيونياً عنصرياً محتلاً يرحلون عن ديارنا وثلاثة وخمسون آخرون ينتظرون قطار الرحيل. وهدأت روح المهندس التي كانت تحوم في فضاء فلسطين طالبة السُّقيا والراحة، هدأت قليلاً واطمأنت إلى أن الأبناء ساروا على طريق الآباء.
وفي هذه الأثناء تعالت أصوات الاستنكار والغضب والتهديد من فلسطين المحتلة إلى واشنطن، وحلقت مناطيدها في سماء أقطار عربية عدة أبدى حكامها " الاشمئزاز " وأعلنوا إدانتهم لفعل التحرير والمقاومة ذاك؛ ووصلت الحماسة هذه المرة إلى الجامعة العربية التي خلنا أنها معصومة نظرياً من السقوط في فخ الندم على فعل التحرير والمقاومة؛ فإذا بها تستدرك ما فاتها وتبارك لاعني شهداء العرب والمسلمين، وتبدي أسفها هي الأخرى لأن روح عياش انتقلت إلى تلامذة يتقنون فن المقاومة والموت نصراً واستشهاداً وتحريراً، وأنها لم تمت ولم تغادر أرض فلسطين، وهذا يزعج الإدارة الأميركية والعرب الذين ذهبوا بعيداً في دروب التطبيع والذين أصبحوا أكثرية صاحبة صوت وقرار.
ولمن يريد أن يحتج على تلك المواقف ـ القطرية والقومية؟! الرسمية ـ ملء رئتيه من نار تحرق وغبار يخنق؛ فـ " العرب " يرون أن زمن التمسك بالحق والحرية والكرامة قد ولى، وأن منطق " سلام أوسلو ووادي عربة ومحمية غزة " هو المنطق الذي ينبغي أن يسود ويقود، ولمن يخرج على ذلك مصير محتوم في يوم معلوم ؟!.
وحتى لا تفقأ كل العيون وتنعدم الرؤية وتغيب حدود التمايز والتمييز وتغدو البصائر في الذخائر، نود أن نتوقف عند النقاط التالية موضحين موقفاً منها :
أولاً ـ أن يحيى عياش ومن هم على شاكلته في المقاومة من الاتجاهات والفصائل كلها كانوا يخوضون مقاومة شريفة مشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، وهم الصوت الشرعي للشعب الفلسطيني، وليس المتعاونون مع قوات الاحتلال والراضون بخوازيق السلطة هم الشرعيون؛ وإذا كان عياش ومن هم على شاكلته من فلسطينيي الداخل والمنافي إرهابيين بالمعيار الأميركي ـ الصهيوني، وبمعيار من والاهم من " عرب " الانهزام؛ فإن المعيار الأميركي مختل تماماً، والأميركيون وحلفاؤهم الصهاينة هم الذين يمارسون الإرهاب فعلاً وبأشكال مختلفة ضد الآخرين، ويزوِّرون المعايير والحقائق والمفاهيم والمصطلحات والقوانين الدولية؛ ويعلنون كل من يخرج على سلطانهم الجائر خارجاً على القانون وممارساً للإرهاب؛ وهم يستخدمون هذه العصا لإخافة دول وحكام ولمحاصرة شعوب، ولا يلتفتون لحقيقة أنهم ينتهكون شرعة حقوق الإنسان في كل لحظة حتى وهم يتشدقون بالدفاع عن حقوق الإنسان.
ثانياً ـ أن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كل فلسطين، هو مثل حق اللبناني في مقاومة الوجود الصهيوني في جنوب لبنان؛ كلاهما يملك الشرعية التي تقرها الشعوب في مقاومة المحتل حتى التحرير. وقوة لحد هي مثل قوة عرفات قوة متعاونة مع الاحتلال ومحمية منه ومسخرة لملاحقة المقاومة الوطنية وقوى التحرير والحرية المنبثقة من صفوف الشعب والمعبرة عن إرادته وتطلعاته وحقوقه التاريخية، مع بعض الفوارق العارضة .
ثالثاً ـ أن وضع المقاومة الفلسطينية واللبنانية في موقع من لا يريد السلام ويعادي كل من يتطلع إليه، ينطوي على مغالطات كبيرة وخطيرة؛ فالسلام مطلب إنساني وفعل عادل يقوم على العدل ويستقر بالاستناد إليه؛ وليس من العدل في شيء أن تمهد أرض " للسلام " فوق أجساد ملايين الفلسطينيين ومئات ألوف اللبنانيين المبعدين عن وطنهم والمحرومين من ممارسة سيادتهم فوق أرضه بحرية و كرامة؛ وليس من السلام في شيء فرض الأمر الواقع على شعب بقوة القهر، ووصمه بمعاداة السلام إذا لم يذعن لقوة القهر، وإذا ما رفض التنازل عن وطنه للغير. إن من يريد فرض هذا الوقع الظالم على الشعوب هو عدو السلام، لأنه يؤسس للحرب المستمرة بين العدل والظلم، الغزو والدفاع ضد الغزو، الحرية والاستعمار ؟!
إن قوة الضغط الأميركية، المادية والمعنوية، التي تمارس ضد شعوب المنطقة وقواها الحية الرافضة للتسليم بحق المعتدي الصهيوني في جني ثمرة عدوانه وبحقه في حيازة أرض (الغير) التي استولى عليها بالقوة؛ هي في واقع الأمر قوة ظلم وقوة معادية للسلام، لأنها مناصرة للاستعمار ومعادية لحق الشعوب في الاستقلال والسيادة في أوطانها، ومعادية أيضاً لحق تلك الشعوب في الدفاع عن نفسها وعن أوطانها، وهي قوة تناصر العدوان وتزيف العدالة وتمسخ قضايا الشعوب ومعايير القيم وتشوه روح الشرائع والقوانين. وما لم تدرك تلك القوة العالمية أن الصهيونية قوة غزو واستعمار في فلسطين كلها، فإنها ستبقى تمارس الظلم والإرهاب لتفرض دولة على حساب شعب وأمة بكاملها.
رابعاً ـ إن علو أصوات بعض الحكام العرب وبعض المؤسسات العربية، ومجاهرتهم بآراء ومواقف تصب في المصلحتين الأميركية و " الإسرائيلية " لا يعني على الإطلاق أنها تعبر عن آراء أكثرية الشعب العربي. ومن المفارقات الغريبة والعجيبة عند القوى الغربية التي تأخذها الحمية في الدفاع عن الديمقراطية؛ أنها تتهم الأنظمة العربية كلها بالدكتاتورية من جهة، و من جهة أخرى ترى في هذه الأنظمة معبراً عن رأي الشعب ومصلحته عندما يتعلق الأمر بفرض صلح وتسوية لصالح " إسرائيل " حيث يقترن التغاضي عن موقف الشعب ورأيه في هذه القضية بالرضا والتقدير. وهذا يؤكد وجود الخلل الخُلُقي في المعيار الغربي، أمّا المعيار الصهيوني فهو تاريخياً معيار عنصري وغير خُلُقي و مختل لا يعتد به، وهو في حالتنا نحن العرب معيار عدو لا يؤخذ به على الإطلاق.
خامساً ـ إننا نرى في يحيى عياش وفي الذين استهدفتهم وتستهدفهم قوى الاحتلال الصهيوني والمتعاونون معها شهداء ومقاومين وطنيين، يملكون دعم الشرائع والتشريعات والشعوب، وكل من تطوله قواهم المحرِّرَة من الصهاينة المحتلين مقتولاً بعدوانه على الغير وباحتلاله لأرضهم؛ لأنه قوة قهر تسطو على الأبرياء داخل بيوتهم وحقولهم ومزارعهم ومقدساتهم وتمارس عدواناً مستمراً عليهم؛ والمعتدي الذي يهاجم الناس في بيوتهم يقتل بعدوانه ويؤخذ بجرمه ولا شفقة عليه ولا رحمة له، ما لم يسلم بحق الآخرين في العيش بسلام وأمان، و يبـدِ استعداداً للكف عن العدوان ونبذ الاستعمار .
إن قتلى القدس وعسقلان خلال هذا الأسبوع هم محتلون ينفذون مهامهم في أرض فلسطين، سواء أكانوا من المدنيين أم من العسكريين، فضلاً عن حقيقة أن أكثر المقتولين من العسكريين، وأن المجتمع الصهيوني كله حصن عسكري بنسائه ورجاله وإعداده واستعداده، والاستثناء لا يشكل قاعدة أبداً؛ وعلى المتباكين من عرب اتفاقيات الإذعان أن " يعدلوا " على الأقل في ذرف الدموع بين شهداء الأمة وقتلى الأعداء حتى تتبدى للغربيين الذين يطلب أولئك رضاهم بعض ملامح حسهم الإنساني الذي يساوي بين بني البشر فيُكبرون فيهم ديمقراطية من نوع ما .
ويمكن أن يفكروا في هذه الحال بإمكانية أن يكون الذين يقضون نحبهم من العرب والمسلمين بشراً لهم الأحاسيس والمشاعر والعواطف والحقوق والتطلعات التي لسواهم من بني البشر، وأنهم حين يعذبون يتألمون، وحين يموتون يتركون أطفالاً وفراغاً، وتبكي عليهم أمهات وزوجات وأخوات وحبيبات؟! وأنهم ليسوا مجرد أرقام بشرية صماء، أو هياكل كالحة تبعث على " الكراهية والاشمئزاز " وتعكر صفو بعض الملوك المرهفين ؟!؟ وأنهم يمكن أن يكونوا مساوين لغيرهم من بعض الوجوه.
لقد أبدى المقاتلون العرب في السنتين الأخيرتين حرصاً محموداً على إبقاء القضية حية عن طريق إمداد سراجها بالدم وقوداً، وعلى أن يرفعوا من شأن العربي في المواجهات مع العدو؛ فبينما كانت نسبة الشهداء العرب إلى القتلى اليهود في السنوات الأولى من الانتفاضة عشرة إلى واحد أو أكثر قليلاً أصبحت النسبة في السنتين الأخيرتين اثنين إلى واحد وواحداً إلى عشرة في بعض الحالات، وينبغي أن يرفع هذا من الروح المعنوية للمقاتلين العرب من جهة ووتيرة الأمل عند الشعب العربي بإمكانية النصر مستقبلاً من جهة أخرى؛ أمّا الأنظمة فعليها أن تحسب حسابات من نوع آخر؛ إنها مطالبة بأخذ احتياطاتها، في ظل مقاومة مستمرة للعدو، إذ أن جراحه قد تدفعه لشن هجمات واسعة على شعب محاصر بكل المقاييس. فما الذي تستطيع أن تقدمه في تلك الحالة لذلك الشعب؟! إن النواح والصياح وبرقيات التضامن ـ هذا إن وجدت بعد التقارب والتواد اللذين يحدثان مع العدو الصهيوني ـ كل ذلك لن يجدي نفعاً؛ ولن يرد الرصاص أو يوقف المذابح المتوقعة. ومن المسلم به أن العمليات النوعية لن تكون سلاحاً رادعاً في مثل هذه الحال، ولا يتوقع أن تقوم مواجهة متكافئة في وضع محتمل كهذا. إن علينا أن نناقش احتمالاً كهذا إذا ما قرر بيريس كسب الانتخابات القادمة بإظهار قدرته على الردع وعلى توفير الأمن " للإسرائيليين " الذين يعدهم نتنياهو بالأمن مع تكتل ليكود وبعدم الانسحاب من الجولان، وبالرد على هجمات " الانتحاريين " العرب بأسلوب ناجع؟!
المعلن بعد عمليتي القدس وعسقلان أن حماس والجهاد العاملتين داخل فلسطين المحتلة لن تراعيا مطالبات عرفات بوقف العمليات وإلغاء خيار المقاومة، لأنهما مع غيرهما من المنظمات الرافضة لنهج التصفية قد أدركت جيداً أن عرفات ينفذ تماماً المخطط " الإسرائيلي " الرامي إلى تصفية الفلسطيني بيد الفلسطيني، وضرب العربي بسلاح العربي، وإقامة سد منيع من عدم الثقة بين العربي والعربي يجعله يعتمد دائماً على السند الصهيوني القريب في قتاله مع أخيه أو جاره؛ ويقوم بتصدير الصهيوني وتسويقه عربياً بأفواه وأفكار وأيد عربية، ويعمل على إقامة علاقات طبيعية بين الأنظمة العربية والعدو الصهيوني تحت قناع رفض القيام بهذا الدور، كما يفعل أعضاء كنيست عرب الآن في أقطار عربية كان آخرها اليمن .
قد تؤثر هذه العمليات في شعبية بيريس وفي نجاح حزب العمل في الانتخابات القادمة / 29 أيار 1996 / وقد تأتي بنتنياهو وبتكتل الليكود وحلفائه إلى الحكم؛ وقد تذهب إلى أبعد من ذلك كما تسري الأقاويل والهواجس فتؤدي إلى اغتيال بيريس على أيدي يهود كما اغتيل رابين، لأن هذا الأخير ـ كما يروج اليمين الإسرائيلي ـ عرَّض أمن " الإسرائيليين " للخطر ووثق بالفلسطينيين، وكبل يديه بمصالحات مع العرب؟! كل هذا قد يحدث. وبالنسبة لنا نحن الذين اكتوينا بالممارسات الصهيونية لا توجد فوارق جوهرية بين العمل والليكود فكل منهما جناح لطائر واحد، يكون الوضع مختلفاً بعض الشيء بالنسبة لعرفات الذي يرى أنه وحزب العمل في مركب واحد ولكنه لن يكون مختلفاً بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني والعرب الذين يتمسكون بحقهم التاريخي في فلسطين. وينبغي أن يدفعنا هذا لمناقشة كل الاحتمالات الأخرى، والتالي إلى فحص البدائل الممكنة والردود التي قد تمليها الظروف والمعطيات الحالية، ولن يفيدنا كثيراً أن نراوح عند مقولات أهل الندم العربي لأن ما يعنيهم في المقام الأول هو الرضا الصهيوني والابتسامة الأميركية المطمئنة.
دمشق في 27 / 2 / 1996
الأسبوع الأدبي/ع502//29/2/1996
وطوى الحزن والصدمة خمسين يوماً من عمر الناس، وهم ينامون ويستيقظون على وعد حماس والجهاد بالانتقام للمهندس؛ واستعدادات العدو لموجهة كل الاحتمالات بالقسوة المعهودة، وضلوع أمن الحكم الذاتي في ملاحقة الشهداء المحتملين لكي يثبت استحقاقه للثقة وللمساعدات المالية من الدول المانحة التي تمسك " إسرائيل " مفاتيح خزائنها في هذه الساحة، واطمأن بيريس وأعوانه وحلفاؤه والمتواطئون معه إلى أن الضربة كانت قاضية. وفي الساعة السادسة وأربعين دقيقة من يوم الأحد 25 / 2 / 1996 ظهر تلاميذ المهندس في القدس وعسقلان في وقت واحد تقريباً ليعلنوا ولادة الجيل الثاني من صنعة الألغام والأجساد البشرية المفخخة؛ وفي لحظات كان ستة وعشرون صهيونياً عنصرياً محتلاً يرحلون عن ديارنا وثلاثة وخمسون آخرون ينتظرون قطار الرحيل. وهدأت روح المهندس التي كانت تحوم في فضاء فلسطين طالبة السُّقيا والراحة، هدأت قليلاً واطمأنت إلى أن الأبناء ساروا على طريق الآباء.
وفي هذه الأثناء تعالت أصوات الاستنكار والغضب والتهديد من فلسطين المحتلة إلى واشنطن، وحلقت مناطيدها في سماء أقطار عربية عدة أبدى حكامها " الاشمئزاز " وأعلنوا إدانتهم لفعل التحرير والمقاومة ذاك؛ ووصلت الحماسة هذه المرة إلى الجامعة العربية التي خلنا أنها معصومة نظرياً من السقوط في فخ الندم على فعل التحرير والمقاومة؛ فإذا بها تستدرك ما فاتها وتبارك لاعني شهداء العرب والمسلمين، وتبدي أسفها هي الأخرى لأن روح عياش انتقلت إلى تلامذة يتقنون فن المقاومة والموت نصراً واستشهاداً وتحريراً، وأنها لم تمت ولم تغادر أرض فلسطين، وهذا يزعج الإدارة الأميركية والعرب الذين ذهبوا بعيداً في دروب التطبيع والذين أصبحوا أكثرية صاحبة صوت وقرار.
ولمن يريد أن يحتج على تلك المواقف ـ القطرية والقومية؟! الرسمية ـ ملء رئتيه من نار تحرق وغبار يخنق؛ فـ " العرب " يرون أن زمن التمسك بالحق والحرية والكرامة قد ولى، وأن منطق " سلام أوسلو ووادي عربة ومحمية غزة " هو المنطق الذي ينبغي أن يسود ويقود، ولمن يخرج على ذلك مصير محتوم في يوم معلوم ؟!.
وحتى لا تفقأ كل العيون وتنعدم الرؤية وتغيب حدود التمايز والتمييز وتغدو البصائر في الذخائر، نود أن نتوقف عند النقاط التالية موضحين موقفاً منها :
أولاً ـ أن يحيى عياش ومن هم على شاكلته في المقاومة من الاتجاهات والفصائل كلها كانوا يخوضون مقاومة شريفة مشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، وهم الصوت الشرعي للشعب الفلسطيني، وليس المتعاونون مع قوات الاحتلال والراضون بخوازيق السلطة هم الشرعيون؛ وإذا كان عياش ومن هم على شاكلته من فلسطينيي الداخل والمنافي إرهابيين بالمعيار الأميركي ـ الصهيوني، وبمعيار من والاهم من " عرب " الانهزام؛ فإن المعيار الأميركي مختل تماماً، والأميركيون وحلفاؤهم الصهاينة هم الذين يمارسون الإرهاب فعلاً وبأشكال مختلفة ضد الآخرين، ويزوِّرون المعايير والحقائق والمفاهيم والمصطلحات والقوانين الدولية؛ ويعلنون كل من يخرج على سلطانهم الجائر خارجاً على القانون وممارساً للإرهاب؛ وهم يستخدمون هذه العصا لإخافة دول وحكام ولمحاصرة شعوب، ولا يلتفتون لحقيقة أنهم ينتهكون شرعة حقوق الإنسان في كل لحظة حتى وهم يتشدقون بالدفاع عن حقوق الإنسان.
ثانياً ـ أن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كل فلسطين، هو مثل حق اللبناني في مقاومة الوجود الصهيوني في جنوب لبنان؛ كلاهما يملك الشرعية التي تقرها الشعوب في مقاومة المحتل حتى التحرير. وقوة لحد هي مثل قوة عرفات قوة متعاونة مع الاحتلال ومحمية منه ومسخرة لملاحقة المقاومة الوطنية وقوى التحرير والحرية المنبثقة من صفوف الشعب والمعبرة عن إرادته وتطلعاته وحقوقه التاريخية، مع بعض الفوارق العارضة .
ثالثاً ـ أن وضع المقاومة الفلسطينية واللبنانية في موقع من لا يريد السلام ويعادي كل من يتطلع إليه، ينطوي على مغالطات كبيرة وخطيرة؛ فالسلام مطلب إنساني وفعل عادل يقوم على العدل ويستقر بالاستناد إليه؛ وليس من العدل في شيء أن تمهد أرض " للسلام " فوق أجساد ملايين الفلسطينيين ومئات ألوف اللبنانيين المبعدين عن وطنهم والمحرومين من ممارسة سيادتهم فوق أرضه بحرية و كرامة؛ وليس من السلام في شيء فرض الأمر الواقع على شعب بقوة القهر، ووصمه بمعاداة السلام إذا لم يذعن لقوة القهر، وإذا ما رفض التنازل عن وطنه للغير. إن من يريد فرض هذا الوقع الظالم على الشعوب هو عدو السلام، لأنه يؤسس للحرب المستمرة بين العدل والظلم، الغزو والدفاع ضد الغزو، الحرية والاستعمار ؟!
إن قوة الضغط الأميركية، المادية والمعنوية، التي تمارس ضد شعوب المنطقة وقواها الحية الرافضة للتسليم بحق المعتدي الصهيوني في جني ثمرة عدوانه وبحقه في حيازة أرض (الغير) التي استولى عليها بالقوة؛ هي في واقع الأمر قوة ظلم وقوة معادية للسلام، لأنها مناصرة للاستعمار ومعادية لحق الشعوب في الاستقلال والسيادة في أوطانها، ومعادية أيضاً لحق تلك الشعوب في الدفاع عن نفسها وعن أوطانها، وهي قوة تناصر العدوان وتزيف العدالة وتمسخ قضايا الشعوب ومعايير القيم وتشوه روح الشرائع والقوانين. وما لم تدرك تلك القوة العالمية أن الصهيونية قوة غزو واستعمار في فلسطين كلها، فإنها ستبقى تمارس الظلم والإرهاب لتفرض دولة على حساب شعب وأمة بكاملها.
رابعاً ـ إن علو أصوات بعض الحكام العرب وبعض المؤسسات العربية، ومجاهرتهم بآراء ومواقف تصب في المصلحتين الأميركية و " الإسرائيلية " لا يعني على الإطلاق أنها تعبر عن آراء أكثرية الشعب العربي. ومن المفارقات الغريبة والعجيبة عند القوى الغربية التي تأخذها الحمية في الدفاع عن الديمقراطية؛ أنها تتهم الأنظمة العربية كلها بالدكتاتورية من جهة، و من جهة أخرى ترى في هذه الأنظمة معبراً عن رأي الشعب ومصلحته عندما يتعلق الأمر بفرض صلح وتسوية لصالح " إسرائيل " حيث يقترن التغاضي عن موقف الشعب ورأيه في هذه القضية بالرضا والتقدير. وهذا يؤكد وجود الخلل الخُلُقي في المعيار الغربي، أمّا المعيار الصهيوني فهو تاريخياً معيار عنصري وغير خُلُقي و مختل لا يعتد به، وهو في حالتنا نحن العرب معيار عدو لا يؤخذ به على الإطلاق.
خامساً ـ إننا نرى في يحيى عياش وفي الذين استهدفتهم وتستهدفهم قوى الاحتلال الصهيوني والمتعاونون معها شهداء ومقاومين وطنيين، يملكون دعم الشرائع والتشريعات والشعوب، وكل من تطوله قواهم المحرِّرَة من الصهاينة المحتلين مقتولاً بعدوانه على الغير وباحتلاله لأرضهم؛ لأنه قوة قهر تسطو على الأبرياء داخل بيوتهم وحقولهم ومزارعهم ومقدساتهم وتمارس عدواناً مستمراً عليهم؛ والمعتدي الذي يهاجم الناس في بيوتهم يقتل بعدوانه ويؤخذ بجرمه ولا شفقة عليه ولا رحمة له، ما لم يسلم بحق الآخرين في العيش بسلام وأمان، و يبـدِ استعداداً للكف عن العدوان ونبذ الاستعمار .
إن قتلى القدس وعسقلان خلال هذا الأسبوع هم محتلون ينفذون مهامهم في أرض فلسطين، سواء أكانوا من المدنيين أم من العسكريين، فضلاً عن حقيقة أن أكثر المقتولين من العسكريين، وأن المجتمع الصهيوني كله حصن عسكري بنسائه ورجاله وإعداده واستعداده، والاستثناء لا يشكل قاعدة أبداً؛ وعلى المتباكين من عرب اتفاقيات الإذعان أن " يعدلوا " على الأقل في ذرف الدموع بين شهداء الأمة وقتلى الأعداء حتى تتبدى للغربيين الذين يطلب أولئك رضاهم بعض ملامح حسهم الإنساني الذي يساوي بين بني البشر فيُكبرون فيهم ديمقراطية من نوع ما .
ويمكن أن يفكروا في هذه الحال بإمكانية أن يكون الذين يقضون نحبهم من العرب والمسلمين بشراً لهم الأحاسيس والمشاعر والعواطف والحقوق والتطلعات التي لسواهم من بني البشر، وأنهم حين يعذبون يتألمون، وحين يموتون يتركون أطفالاً وفراغاً، وتبكي عليهم أمهات وزوجات وأخوات وحبيبات؟! وأنهم ليسوا مجرد أرقام بشرية صماء، أو هياكل كالحة تبعث على " الكراهية والاشمئزاز " وتعكر صفو بعض الملوك المرهفين ؟!؟ وأنهم يمكن أن يكونوا مساوين لغيرهم من بعض الوجوه.
لقد أبدى المقاتلون العرب في السنتين الأخيرتين حرصاً محموداً على إبقاء القضية حية عن طريق إمداد سراجها بالدم وقوداً، وعلى أن يرفعوا من شأن العربي في المواجهات مع العدو؛ فبينما كانت نسبة الشهداء العرب إلى القتلى اليهود في السنوات الأولى من الانتفاضة عشرة إلى واحد أو أكثر قليلاً أصبحت النسبة في السنتين الأخيرتين اثنين إلى واحد وواحداً إلى عشرة في بعض الحالات، وينبغي أن يرفع هذا من الروح المعنوية للمقاتلين العرب من جهة ووتيرة الأمل عند الشعب العربي بإمكانية النصر مستقبلاً من جهة أخرى؛ أمّا الأنظمة فعليها أن تحسب حسابات من نوع آخر؛ إنها مطالبة بأخذ احتياطاتها، في ظل مقاومة مستمرة للعدو، إذ أن جراحه قد تدفعه لشن هجمات واسعة على شعب محاصر بكل المقاييس. فما الذي تستطيع أن تقدمه في تلك الحالة لذلك الشعب؟! إن النواح والصياح وبرقيات التضامن ـ هذا إن وجدت بعد التقارب والتواد اللذين يحدثان مع العدو الصهيوني ـ كل ذلك لن يجدي نفعاً؛ ولن يرد الرصاص أو يوقف المذابح المتوقعة. ومن المسلم به أن العمليات النوعية لن تكون سلاحاً رادعاً في مثل هذه الحال، ولا يتوقع أن تقوم مواجهة متكافئة في وضع محتمل كهذا. إن علينا أن نناقش احتمالاً كهذا إذا ما قرر بيريس كسب الانتخابات القادمة بإظهار قدرته على الردع وعلى توفير الأمن " للإسرائيليين " الذين يعدهم نتنياهو بالأمن مع تكتل ليكود وبعدم الانسحاب من الجولان، وبالرد على هجمات " الانتحاريين " العرب بأسلوب ناجع؟!
المعلن بعد عمليتي القدس وعسقلان أن حماس والجهاد العاملتين داخل فلسطين المحتلة لن تراعيا مطالبات عرفات بوقف العمليات وإلغاء خيار المقاومة، لأنهما مع غيرهما من المنظمات الرافضة لنهج التصفية قد أدركت جيداً أن عرفات ينفذ تماماً المخطط " الإسرائيلي " الرامي إلى تصفية الفلسطيني بيد الفلسطيني، وضرب العربي بسلاح العربي، وإقامة سد منيع من عدم الثقة بين العربي والعربي يجعله يعتمد دائماً على السند الصهيوني القريب في قتاله مع أخيه أو جاره؛ ويقوم بتصدير الصهيوني وتسويقه عربياً بأفواه وأفكار وأيد عربية، ويعمل على إقامة علاقات طبيعية بين الأنظمة العربية والعدو الصهيوني تحت قناع رفض القيام بهذا الدور، كما يفعل أعضاء كنيست عرب الآن في أقطار عربية كان آخرها اليمن .
قد تؤثر هذه العمليات في شعبية بيريس وفي نجاح حزب العمل في الانتخابات القادمة / 29 أيار 1996 / وقد تأتي بنتنياهو وبتكتل الليكود وحلفائه إلى الحكم؛ وقد تذهب إلى أبعد من ذلك كما تسري الأقاويل والهواجس فتؤدي إلى اغتيال بيريس على أيدي يهود كما اغتيل رابين، لأن هذا الأخير ـ كما يروج اليمين الإسرائيلي ـ عرَّض أمن " الإسرائيليين " للخطر ووثق بالفلسطينيين، وكبل يديه بمصالحات مع العرب؟! كل هذا قد يحدث. وبالنسبة لنا نحن الذين اكتوينا بالممارسات الصهيونية لا توجد فوارق جوهرية بين العمل والليكود فكل منهما جناح لطائر واحد، يكون الوضع مختلفاً بعض الشيء بالنسبة لعرفات الذي يرى أنه وحزب العمل في مركب واحد ولكنه لن يكون مختلفاً بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني والعرب الذين يتمسكون بحقهم التاريخي في فلسطين. وينبغي أن يدفعنا هذا لمناقشة كل الاحتمالات الأخرى، والتالي إلى فحص البدائل الممكنة والردود التي قد تمليها الظروف والمعطيات الحالية، ولن يفيدنا كثيراً أن نراوح عند مقولات أهل الندم العربي لأن ما يعنيهم في المقام الأول هو الرضا الصهيوني والابتسامة الأميركية المطمئنة.
دمشق في 27 / 2 / 1996
الأسبوع الأدبي/ع502//29/2/1996
Comment