إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #76
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    لحد.. غزة
    المواجهة في غزة بدأت حسب المخطط الذي رسمته وأرادته ودفعت باتجاهه "إسرائيل" فقد دخل عرفات الآن من الباب الذي حدد له، إلى ميدان حصر فيه، ولن يتراجع أو هو لا يملك أن يتراجع، ربما تأخر توقيت دخوله قليلاً، ولكنه الآن في المكان المحدد، لأداء الدور أو المراحل التالية من الدور المحدد فمنذ أيام أخذت قوة الحكم الذاتي في غزة تلاحق أفراد الجهاد الإسلامي وحماس وتعتقلهم تنفيذاً لمطالب رابين وبيريس بعد العملية الأخيرة، عملية "نتساريم " التي فجر فيها شاب من الجهاد الإسلامي نفسه فقتل بلحمه ودمه ثلاثة من قوات العدو واستشهد هو في المكان.‏
    وبداية هذه المواجهة بين عرفات والإسلامي ين أو بين قوة الحكم الذاتي والرافضين للاتفاقية التي نتج عنها الحكم الذاتي، هذه البداية وضعت عرفات وأتباعه على طريق: سعد حداد وأنطوان لحد، فأصبح هو ومن معه جيشاً متعاوناً مع العدو، تابعاً له، مؤتمراً بإمرته، يوجه حرابه إلى صدور الفلسطينيين ليحمي حدود الكيان الصهيوني والمستعمرات التي يقيمها، يحميها من كل من يريد أن يقاوم "إسرائيل"، ويحرر أرضا عربية من استعمارها، ويستعيد وجوداً عربياً كريماً في فلسطين.‏
    ولم يعد دوره يتوقف عند حدود وقف الانتفاضة، بل انتقل إلى مرحلة مطاردة أفرادها، وقد نسي، ومن الطبيعي أن ينسى، يوم كان يقول: إنه لا توجد قوة في الأرض توقف الانتفاضة وإنها مستمرة حتى التحرير، ويوم كان ينسب تفجيرها لنفسه. اليوم وبعد عملية "نتساريم" وملاحقة من قام بها وأيَّدها وتوعد باستمرار أمثالها، اليوم يدخل الصراع الفلسطيني - الفلسطيني، داخل الأرض المحتلة، مرحلة كانت أحد الأهداف الرئيسة، والبنود الجوهرية في اتفاقيات: " أوسلو - القاهرة - وادي عربة " لأنها ترمي جميعاً إلى جعل القوى الفلسطينية - الفلسطينية، والقوى العربية تتآكل من الداخل وتتساقى الموت، وتستبدل صراعاً بصراع، لتبقى في حالة استنزاف وانعدام وزن، وبحاجة مستمرة لمن تستند إليه وتستعين به في اقتتالها الداخلي؛ وسيأتي اليوم الذي تتحول فيه إلى شظايا في مهب رياح الخصومة.‏
    لقد تأهل عرفات لدوره وأخذ عدته، ونزل ساحة المواجهة، وهذا إيذان بمسيرة الدم التي طالما حذرنا منها وحذرنا الخوض فيها، ولكنها لا تلبث أن تكتسح المعسكر الذي طالما حرصت "إسرائيل" على اكتساحه، وحين يخرج عرفات من مواجهاته ستكون أمامه مواجهات أخرى تهيأ له، ليس الأردن بعيداً عنها، حتى يكتمل التحالف " الإسرائيلي " معهما، أو ينتهي إلى انضوائهما تحت لواء قواته مباشرة / بوصفها حامياً أو داعماً أو حكماً أو حكيماً / وبذلك تدخل كل القوى الفلسطينية والأردنية في نطاق الائتمار الشامل بالآمرة الصهيونية التي تتطلع إلى إشعال مناطق أخرى في الوطن العربي لتروج السلاح وتربح المال وتقتل كل تفكير وأمل بمواجهتها. إن العدو الذي أصر على إشعال النار بين الفلسطينيين في غزة واشترط أن يكون عرفات بمواجهة الإسلاميين الذين يواجهون "إسرائيل" ويرفضونها، حرص على أن يقف الملك حسين الموقف ذاته من الإسلاميين والقوميين المعارضين للاتفاقية في الأردن؛ وعلى أن يكون هو وعرفات على أرضية من العداء المستمر التي تنمو سواء حول القدس أو حول النفوذ في الضفة الغربية، أو حول المستقبل الذي تجري الرهانات فيه على أحصنة عربية رابحة تفتح أبواب العرب - المتهاوية - أكثر فأكثر أمام "إسرائيل" المستكلِبة على المال والهيمنة وعلى المشاركة في رسم مستقبل المنطقة وتحديد حدود الاستقرار والاستنفار في كل جزء منها. العدو الصهيوني يريد أن يطمئن وأميركا من ورائه تريد أن تطمئن عليه وعلى المستقبل الذي ينتظره وينتظر مصالحها أيضاً، ولا يرون ذلك الآن إلا في ظل القضاء على كل أمة تدعو إلى رفض "إسرائيل" والاعتراض على تطبيع العلاقات معها، كما أنهم لا يرون ذلك إلا في غياب كل من يدعو إلى بقاء الذاكرة الشعبية العربية عامرة بالتاريخ القريب ومعطياته وبشيء من الكرامة والتعلق بالحق والماضي .‏
    ولذلك فإن الاقتتال العربي مطلوب، وملاحقة عرب ليزدادوا ركوعاً وخضوعاً وفقراً وجوعاً مطلوب، وإكرام من اعترفوا بـ " إسرائيل " وأقاموا العلاقات معها، ودفعهم إلى مزيد من اللهاث ورائها، ومزيد من القطيعة مع أبناء أمتهم مطلوب هو الآخر. أن "إسرائيل" تريد أن تتفرغ، على أرضية من الراحة والثقة، إلى إدارة الصراع مع سورية ولبنان، بعد أن أبعدت بعض العرب عنهما، وهي من أجل تحقيق أهدافها على هذه الجبهة، ضغطت وتضغط لتجعل الأميركي يزداد شكاً بسورية، وتبذل جهداً خاصاً جداً ليقول شخص مثل "جسي هلمز" رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي القادم "جمهوري" بان سورية تريد الجولان والأموال الأميركية ولا تريد أن تمضي إلى أبعد من ذلك، وتعمل كل ما بوسعها لتثير الرئيس الأميركي ولتثير أمامه - بعد أن لمس جدية وموضوعية وصلابة في موقف سورية - تثير أمامه، وتثير في وجهه أيضاً - قضية عدم التنديد السوري العلني بما تسميه "الإرهاب " وتعني به مقاومة العرب لـ " إسرائيل " في الأراضي التي تحتلها في فلسطين وجنوب لبنان. وكل ذلك الذي تقوم به على جبهة "الراعي الأول لمفاوضات السلام" تشفعه بتحرك محموم في الأوساط العربية، لتستقطبها وتقيم علاقات معها، وتلغي المقاطعة التي تفرضها الدول العربية عليها، تمهيدا لجعل سورية في موقف "ضعيف" في أثناء المرحلة القادمة من الصراع ولممارسة ضغط على لبنان من شأنه - حسب خططها - أن يفصله عن سورية، فيختار ما اختاره الأردن وعرفات. إن العدو يعمل كل ما بوسعه لتحقيق غاياته. وهذا أمر مفهوم يمكن للمرء أن يدرك مغازيه وأبعاده ومخاطره بالنسبة لعدو، أمّا ما يقوم به عرب كانوا إلى يوم قريب ينصبون من أنفسهم محررين ومقاومين شرسين لكل أطماع العدو، فكيف يمكن أن نفهم تصرفهم، ونحدد أبعاد أفعالهم وتوجهاتهم، ونضعها في إطار يبقي لهم صلة ما بالعرب ونضالهم ومستقبلهم ؟! إنه سؤال مطروح على أولئك الذين ما زالوا يرون في من يطاردون المقاتلين العرب ويجهضون الانتفاضة والروح المعنوية والثقة بمستقبل عربي على أي مستوى كان، يرون فيهم عرباً وقادة وأصحاب رؤية تستحق الاعتبار ؟! ...‏

    الأسبوع الأدبي/ع438//17/ت2/1994‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #77
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      قرن المحتالين الكبار
      قال العنصري إسحق رابين للصحفيين يوم الخميس الماضي، والدم يتفجر نذراً من شفق " غزة " عشية جمعتها الحزينة، قال: " إن العناية الإلهية والتاريخ ألقيا على عاتقنا أن نكون الجيل الذي عليه أن يقرر مستقبل الشعب اليهودي والدولة اليهودية ." وأضاف " كنت أفضل جيراناً آخرين، لكنهم جيراننا، وحيال جيران من هذا النوع ليس أمامنا سوى خيار ين، إمّا العيش في حرب وعنف وإرهاب وإمَّا محاولة العيش في سلام ".‏
      ولقد اختار رابين الذي " كلَّفته " العناية " الإلهية والتاريخ " بمسؤوليات معينة!!؟ اختار" السلام" مع عرفات على شرط أن يكون الأخير في حرب مع شعبه، وظل رابين يشترط ويلح ويدفع باتجاه الصدام الدامي، ويمهد لعرفات طريق تنفيذ اتفاقية " أوسلو " التي تشترط على الأخير أن يصفي من تعتبرهم "إسرائيل" " أعداء للسلام.‏
      وحين خير عرفات، في لقاء القاهرة قبل أسابيع، بين "إسرائيل" والسلام" وبين شعبه اختار " إسرائيل"، ووعد بان يلاحق حماس والجهاد الإسلامي بكل قوته، وكان يسوّف ليقبض، ولكنهم اشترطوا عليه أن ينفذ ليقبض، وكان ما كان في غزة؛ وفي الحال ألحَّ الرئيس الأميركي على تزويد عرفات بالمال، وتدخلت " إسرائيل" لتقدم النصح والوساطة و" ما تبقى في جعبة حكمائها من حكمة "، وتم وضع عرفات في الموقع الذي اختاره وسعى إليه وتعشَّقه دائماً : " رئيس مخفر دموي ينفذ أوامر سلطة عنصرية، عجزت عن قمع الانتفاضة وعناصر المقاومة الفلسطينية فعهدت بتلك المهمة إلى أيد فلسطينية ".‏
      ولم يتوقف رابين عند مطالبة عرفات بملاحقة من يعتبرهم " أعداء السلام" وإنما وضع الملك حسين، من خلال اتفاقية وادي عربة، في الصف المؤيد لذلك التوجّه، وانطلق يطلب عوناً عالمياً لكل من يساهم في القضاء‏
      على المتطرفين، وقال رابين أمام " ايباك":‏
      "إن العقبة الرئيسية أمام السلام في الشرق الأوسط ليست الحكومات العربية إنما الحركة الإسلامية المتطرفة " و"سيدرك العالم في نهاية الأمر أن المتطرفين الإسلاميين هم أعداء الاستقرار والهدوء(....) ومن غير تعاون دولي سيستحيل مواجهتهم ".‏
      رابين ومن قبله شامير وحاييم هرتزوغ إضافة إلى "الداعية" بيريس استنفروا الإدارة الأميركية والغرب الاستعماري، بعد حرب الخليج الثانية مباشرة ضد القومية العربية والإسلام، وأخذوا يركزون لتدمير كل قوة وكل أمل يأتيان من هذين المصدرين، لأنهما يرفضان الانصياع والإقرار بالهزيمة وبحق لـ " إسرائيل " في الوجود على حساب العرب. وقد رأوا، حينما اختاروا بين عرفات والانتفاضة، أن عرفات سوف يحقق لهم انهياراً عربياً للمقاطعة والتربص وإرجاء الاعتراف، لأنه سيدخل "باسم فلسطين والشعب الفلسطيني " إلى ساحة الاعتراف بـ " إسرائيل " وبحقها في الوجود بأمان؛ وسوف يوفر ذلك لـ" إسرائيل " إمكانات هائلة لاختراق الوطن العربي، وسياج العلاقات الدولية، ولتحقيق مكاسب مالية لا نهاية لحدودها.‏
      وبعد أن توصل الإسرائيليون والأميركيون إلى وضع عدة عجلات على طريق السير السريع، وهي:‏
      - عجلة انهيار التضامن العربي.‏
      - عجلة الاعتراف العربي بـ " إسرائيل " ورفع المقاطعة العربية لها، وتطبيع العلاقات معها.‏
      - عجلة الدم الفلسطيني، والإنذار بتفجر الدم العربي - على أرضية الخلافات الناشئة عن الاتفاقيات المشينة.‏
      بعد أن توصلتا إلى ذلك تفرغتا للعبث بمن وبما تبقى من مواقع الصمود والتشبث بالمواقف السليمة، وأخذتا تفتعلان المشكلات والعقبات وتصدران الافتراءات على أرضية ازدواجية المكاييل المعروفة والمكشوفة.‏
      وفي هذا الإطار يأتي قول جيسي هيلمز المرشح لرئاسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي الذي قال لمندوب شبكةc. N. N. في مقابلة معه:‏
      " اسمع.. عملية السلام هذه برمتها ما هي إلاّ احتيال، ويحسن بك أن تنظر جيداً إلى ما يحدث، إن سورية لا تريد السلام.. إنهم يريدون مرتفعات الجولان، ويريدون مدخلاً يوصلهم إلى أموال دافعي الضرائب الأميركيين. ثم إنني لا أظن أنه ينبغي لنا أن نقوم بدور شرطي العالم ". فهو يرى أن " عملية السلام ما هي إلاّ احتيال " عندما يتعلق الأمر بمطالبة سورية بالجولان، ولكنه لا يرى فيها احتيالاً عندما تضع أميركا كل ثقلها وثقل الغرب معها لتفرض على العرب الاعتراف بحق " إسرائيل" في فلسطين وتقدم لها عشرات المليارات من الدولارات؛ فسورية من وجهة نظره " تحتال" لتأخذ الجولان، أمّا "إسرائيل" فليست كذلك مع أنها تسرق وطن الغير، وتحتل أرض العرب، وتأخذ أموال دافع الضرائب الأميركي، وتزيِّف حقائق التاريخ ووقائع الحاضر ؟!‏
      وسورية - من وجهة نظر السناتور - تريد أن تصل إلى أموال دافع الضرائب الأميركي، أمّا الاحتيال الأميركي المعلن على أمتنا العربية منذ عقود لسرقة البترول والثروات واستنزاف الأموال، وإشعال الحروب من أجل ترويج السلاح، والاحتلال المباشر لمنابع النفط، والسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي للبلدان العربية، فليس احتيال !؟!‏
      والسناتور الثاقب الرؤية، يرى من خلال توقعاته أن الأمور ستؤول إلى أن تعرف سورية طريقها إلى أموال دافعي الضرائب الأميركيين، ولا يرى أن "إسرائيل" سرقت ما يزيد على ستين مليار دولار من جيوب دافعي الضرائب الأميركيين حتى الآن، والنهب مستمر ؟ ! أليست " إسرائيل" المحتال الأكبر والمستفيد الأكبر مما يسميه السناتور "بعملية الاحتيال" ؟!‏
      ليس جديداً علينا منطق الأميركي الصهيوني، والصهيوني العنصري، فكلهم لم يعرفوا في تاريخهم سوى العدوان والاحتيال والحقد الأسود.‏
      وها نحن ندفع مع شعوب العالم الفقيرة والمستضعفة ثمن " الحضارة " التي يزعم الأميركي - الصهيوني أنه يمثلها في قرن الاحتيال الأكبر هذا، قرن سرقة وطن الفلسطينيين وجعل العرب يقرُّون خائفين بحق "إسرائيل" في الوجود على حساب العرب وعلى حساب السرقة والاغتصاب.‏
      ليس جديداً علينا منطق الأعداء، وليس غريباً أن يقوموا بكل شيء من أجل متابعة عدوانهم وابتزازهم وإضعافنا بكل الوسائل؛ ولكن المستغرب بعد كل ما جدَّ من جديد، هو أن يبقى عرب من العرب يبتلعون الطعم الصهيوني - الأميركي الخبيث، ويركضون كالمنومين وراء ذلك الذي يأخذهم للذبح، ويجعلهم قبل ذلك يذبحون بعضهم بعضاً، حتى لا يكلف أحد منهم العدو مجرد خرطوشة. الغريب العجيب في آنٍ معاً، أن يسقط عرفات إلى أدنى نقطة سقوط وطني ممكنة، ويبقى بنظر البعض وطنياً، وكأنه يعيش أحلاماً ونعيش نحن، الذين نكتوي بنار أحلامه، كوابيس تلك الأحلام. والغريب العجيب أن يشهر المتآمرون سكاكينهم علينا باسم العقل " والواقعية الانهزامية " ومنطق العصر، ولا يرون في فعلهم تواطؤاً علينا وانهزاماً أمام كل منطق وطني ؟! والعجيب الغريب أن تبقى مسيرة الابتزاز والاحتيال والدم المفروضة علينا مستمرة دون أن يحق لنا حتى أن ننفي أننا متهمون "بالوطنية " وبالرغبة في التحرر وتحرير الأرض والإنسان والتوحُّد في كيان قومي، والتمسك بعقيدتنا!؟ لأن كل ذلك يجعلنا بنظر المحتالين الصهاينة والأميركيين، مجرد متطرفين وأعداء للسلام والأمن والاستقرار والهدوء ينبغي القضاء عليهم !؟! ومجرد إرهابيين ومخربين يهددون " حصن التقدم والديمقراطية: "إسرائيل"، التي يجب أن تحيا بسلام ورفاء وأمان، وأن تمتلك سلاحاً وقوة نووية وقدرة توازي قدرة العرب مجتمعين، من دون أن يحق لأي من العرب، الذين يطلب إليهم أن يركعوا عند عتبة إرادتها، أن يرفع رأسه أو يحتج أو يقول: إننا من أمة كريمة لا يليق بها هذا المصير ؟! الغريب العجيب أن يتعاون لحد جنوب لبنان، ولحد غزة، ولحد وادي عربة لحماية " إسرائيل" ويريقون الدم العربي أو يهددون بإراقته من أجلها؛ بينما تتفرج الجماهير العربية كلها على ذلك، وتكتفي بان تلوك الصمت والألم، ويفتك بها الأسى، وتواجه اتهامات المحتالين، وبطش الباطشين بالدموع وصبر أيوب!!‏
      إنه للغريب العجيب حقاً، وكم في هذا العالم الكبير من غريب عجيب ؟ !‏

      الأسبوع الأدبي/ع439//24/ت2/1994‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #78
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        المندوب السامي في غزة مستقبل الدم والدولارات الخضراء
        في محمية غزة اكتسحت شرطة المندوب السامي " الإسرائيلي " جموع المصلين في مسجد فلسطين وحصدت ثلاثة عشر قتيلاً ومئتي جريح وهرولت راكضة باتجاه أمرها لتعلن، وهي تقف بكامل الاستعداد، أنها نفذت المهمة الصعبة، مهمة فتح الطريق أمام المشاركة باغتيال الشعب الفلسطيني، بعد أن عجزت "إسرائيل" عن القيام بذلك وحدها. وفي محمية غزة غسل المندوب السامي " الإسرائيلي " يديه من دم الأبرياء بماء الوضوء، وقرر أن يقتحم على أهلهم المسجد ليسبقهم إلى أداء الصلاة والقرب من الإسلام، بل ليقصيهم بذلك عن العروبة والإسلام معاً فهو أحق منهم بذلك لأنه عاش مع كل العرب في أقطارهم أكثر مما عاشوا هم معهم، وعرف بذلك العادات والتقاليد والأصول، وتفهم مداخل كل بلد وكل أمر وكل قضية، حتى اصبح من أبرع المتفننين بمعرفة من أين تؤكل العرب ومن أين تؤتى جموعهم ! ولأنه كان سباقاً إلى تبني مقولات الإسلام، إذ أسس منظمة اشتقت اسمها منه ومن تاريخه، ومن أكبر أدلته على ذلك أنه يوم قررت إيران الثورة فتح سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية في مكان السفارة الإسرائيلية التي كانت قد افتتحت في عهد الشاه، ذهب إلى هناك، وصلى مع اخوته، وشكر الثورة الإسلامية على صنيعها، إذ لم تكن في ذلك الوقت، دولة تدعم الإرهاب، ولم تكن أيضاً تقدم دعماً بصفتها دولة من الخارج، فهو لم يكن في الداخل، وهو فلسطين والشعب والقضية، ومن يتمسك بأصول القضية اليوم من العرب والفلسطينيين والمسلمين هم من الخارج حتى لو كانوا فلسطينيين في الداخل وفي مسجد فلسطين في غزة، لأن أولئك، من وجهة نظره، لم يعرفوا بعد عمق الأوضاع التي تغيرت ولا عمق التغيرات التي حدثت على الرغم من سماعهم "بأوسلو" ورؤيتهم " للمصافحة التاريخية " التي تمت في الظل العالي للراعي الأميركي، ووقوفهم على مشارف وادي عربة حيث ابتسم الملك للتاريخ واحتضنه رابين في تاريخ. في محمية غزة، وبعد الجمعة السوداء أو الجمعة الحزينة، تبرأ المندوب السامي " الإسرائيلي " من كل ما حدث ورمى المسؤولية على "الإرهابيين والمخربين " والأصوليين وتلقى بركات الأميركي و" الإسرائيلي "، ونام على وعد بملايين الدولارات لأنه حسم أمره لصالح العمل الذي اختاره، العمل عند رابين لاستكمال المهمة الصعبة، مهمة مواجهة الانتفاضة والإسلامي ين و"الإرهابيين والمخربين " الذين يقلقون "إسرائيل" ويزعجون الاحتلال الصهيوني ويرفضون الاعتراف والتطبيع والضياع والانصياع، وجهز نفسه للسفر إلى الأماكن التي تمنح جوائز السلام المشكوك بها، والدولارات الوسخة التي تفتك بالشعوب قبل أن تصل إليها. في محمية غزة نام أطفال على أجنحة الأحلام، وأطفال على مخدَّات من دمع ودماء، وأطفال كانت تتأكَّلهم الكوابيس ويتراءى لهم في زحمتها، " المندوب السامي الإسرائيلي" بزيِّه الثوري الفلسطيني وهو يحزم رقابهم بحبل ويعلقهم على جذع نخلة ويهوي عليهم بالسياط وهم يترنحون على حبال الموت، ففي غزة أطفال ... وأطفال... وأطفال.. كما هي الأوضاع عند السيد رابين في فلسطين المحتلة، التي يريدون منا أن ننسى اسمها، حيث هناك أطفال.. وأطفال.. وأطفال أيضاً.‏
        الشعب الفلسطيني في الداخل وفي بعض مناطق الخارج ـ صيدا مثلا - أُدخل دوامة الدم من جديد، ولكنه هذه المرة مقسوم بين "إسرائيل" وأتباعها وحلفائها من جهة، وبين أعدائها والمتمسكين بفلسطين والقضية من جهة أخرى. وهو من وجهة نظر الصهاينة وأنصارهم مقسم إلى طيبين وأصوليين، وهناك فرق بين الأصولية والراديكالية حسب مفهومهم، فالأولى جريمة تصل إلى درجة العنصرية والفاشية والاتجار بالمخدرات.‏
        وهناك بون شاسع بين الأصولية حسب مفهوم يمضي بها إلى الينابيع النقية، والتأصيل المبدئي، والمواقف الجذرية القائمة على النظافة والتمسك بالحق والتشدد في الأداء على أرضية من العدل والحرية وقيم العقيدة والأخلاق، يذهب سالكو طرقها إلى حد استخدام العنف في الدفاع عن اختياراتهم والوصول إلى غاياتهم التي يرونها مشروعة وإنسانية وحقانية، وبين الأصولية حسب مفهوم يرمي إلى تصويرها وتقديمها على أنها صنف من الإجرام والإرهاب، تنبت في حوض العنصرية والنازية، لها أساليب العصابات العصابية من " مافيا الإجرام إلى مافيا الهيروئين " ويطالب بربطها بالجريمة وبتآخيها مع صنوفها، ويقترح أن يلاحقها " الانتربول " .( تقدمت "إسرائيل" فعلاً بمقترح بهذا المنحى وأيدتها ثلاث دول عربية.)‏
        أمّا الثانية: الراديكالية، فهي أقرب إلى مواقف جذرية حادة يمكن أن تصل إلى الصراخ ولكن يسهل تدجينها في النهاية لأنها تتصل بمصالح لا بمبادئ، وبما يتصل بالدنيا لا بما يتصل بالآخرة والمصير فيها، وبما يتصل بالإيديولوجيات والتنظيمات السياسية لا بالديانات والتنظيمات الاعتقادية. ودوامة الدم التي ادخلها الشعب الفلسطيني قد تتلكأ ولكنها قد لا تتوقف،لأن "إسرائيل" وضعت في سلَّتها بعض القوى وقادتها إلى حدود الاعتقاد بأنها تدخل نوعاً من التحديات الذاتية لوجودها واختياراتها - وهي في واقع الأمر تدخل دوامة تحديات "إسرائيل" ومراهناتها - وجعلت عناصر هذه السلة تعيش أحلاماً وردية لا تلبث أن تتحول إلى أحلام دموية. فمليارات الدولارات التي وعد بها " المندوب السامي " الإسرائيلي " في غزة " والامتيازات والحماية النوعية والوعد بالأمان والاطمئنان والسير فوق رقاب العرب، رغماً عمن أعجب أو أخذه الغضب تجعل من يقف حائلاً دون تحقيق تلك "المكاسب " والامتيازات خائناً بنظر من يريد أن يجنيها. وتجعله - بنظر الفئات المستفيدة على حساب الوطن - جاهلاً وعقبة في طريق المستقبل وشخصاً ينتمي إلى الماضي السحيق أو ديناصوراً كما قال العربي المتصهين أو الصهيوني المستعرب أميل حبيبي، وحين تمضي تلك العجلة في دورانها إلى المدى الذي يريده الأعداء فإن نصف مرحلة " "إسرائيل" الكبرى" جغرافياً تكون قد قطعت بأرجل عربية - فلسطينية أمّا النصف الثاني فسوف تتكفل به الخلافات العربية التي قدمت للعدو ما لم يقدمه العدو لنفسه. ذلك لأن ما وصلنا إليه اليوم من ارتماء عربي على عتبة العدو " الإسرائيلي " ما هو إلا نتيجة لأوضاع عربية متردية جراء خلافات عربية مزمنة، وتطلعات مرضية لبعض الحكام العرب، أدت أيضاً إلى أن يتراخى المد القومي العربي وكدت أقول: يتلاشى.. إلى الحد الذي رُفعت معه رؤوس كانت تتعامل سراً مع العدو وأخذت اليوم تجهر بفجورها وتتغنى به. وما كان يحلم به العدو أصبح، على يدي أولئك وجرَّاء ما أشرنا إليه من أحوال وأوضاع، بمتناول العدو؛ وإلا فمن كان من " الإسرائيليين " والصهاينة يحلم بان يستقر في الأرض العربية بأمان واطمئنان على أرضية الاعتراف "بدولته" والتعامل الرسمي معها أو تطبيع العلاقات بينها وبين أقطار عربية ؟!‏
        إن وضعية اليهودي الغازي، الذي استعمر أرضنا بقوة القهر الغربية وأدواتها، تلك الوضعية القائمة على ما يشبه اليقين بحتمية زوالها حتى عند اليهودي في أعماقه والتي كان أصحابها يحلمون بسراب مستقبل لهم في أرضنا، تغيرت على أرضية الانهيارات العربية والمواجهات الفلسطينية - الفلسطينية - وما يرتب لذلك في المستقبل، ويمكن رؤية بعض ملامحها في أقوال دافيد غروسمان " الإسرائيلي " حيث يقول:‏
        "إن مغزى السلام هو أولاً وقبل كل شيء أنه سيكون لنا مستقبل (...) إن المستقبل بات فسيحاً وحافلاً والوجود مأموناً إلى أقصى حد واصبح صكاً مسجلاً. والمستقبل الذي يقصده غروسمان ويسميه " المستقبل المنشود" هو مستقبل الحلم الصهيوني بالدولة الصهيونية الممتدة في أرض العرب من النيل إلى الفرات " جغرافياً أو اقتصادياً وأمنياً وسياسياً ". إنه مستقبل المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني الذي لا بد أن تستقر قواعده في الأرض والنفوس ليستطيع أن يستمر ويمتد. ويضيف غروسمان " إنني لا أتحدث الآن عن مستقبل جيد أو مستقبل سيئ أتحدث فقط عن احتمال كينونة المستقبل".‏
        ومن الواضع أن المستقبل "لدولة صهيونية " في أرض العرب لا توطَّد دعائمه القوة الاستعمارية العنصرية القائمة في فلسطين إذا ما استمر الصراع العربي الصهيوني، ولكن الذي يوطد دعائم تلك الدولة هو اعتراف العرب بها، وإقامة علاقات طبيعية معها، واستقرارها على أرضية ذلك في مناخ " السلام " والاطمئنان كجزء عضوي من جسم المنطقة، لتبني انطلاقاً من ذلك قوتها التي تحتاج إليها لتكون "إسرائيل" المستقبل :أي: "إسرائيل" الكبرى، ثم "إسرائيل" التوراتية".. .." فلنتخيل السلام " الحلم حسب غروسمان ولنر من خلاله المشروع الصهيوني ؟!؟ لقد شكلت القوة العنصرية حزامها الأمني الحقيقي الذي يسيج حدودها، وأخذت ترسخ أقدام حكام المحميات، وتقيم للحلفاء المعتمدين كياناً ذا ألسنة وأذرع وأنياب، وبدأت فتح جبهات المستقبل بين عرب - وعرب وبين شرائح اجتماعية وسياسية في البيت العربي الواحد؛ وحاكم غزة أو " المندوب السامي الإسرائيلي " فيها أنموذج للعمل المطلوب إذ : سوف يقدم الكثير لـ " إسرائيل " وبرامجها المستقبلية وسوف يسمح بدوران عجلة الدم إلى مداها، وبملاحقة القوميين والإسلاميين الذين يزعجون خاطر أي " إسرائيلي " إلى مقابرهم وليس إلى بيوتهم فقط؛ وسوف يصرخ في أربع جهات الأرض بالمقولات الإسرائيلية حاملاً العوزي والدولار أو العوزي والشيكل لا فرق؛ ولسانه ويده وقلبه كل ذلك مملوك إسرائيلياً، وموظف صهيونياً. أعان الله أهل غزة أولاً وأهلنا في فلسطين ثانياً وأمتنا العربية كلها، والأمة الإسلامية ثالثاً على ما يرتبه لها أعداؤها وعملاؤهم في المستقبل، الذي يرتسم دامياً وفقيراً ومذلاً؛ حتى لو فرش بالآمال والأحلام والدولارات الأميركية الخضراء .‏

        الأسبوع الأدبي/ع441//8/ك1/1994‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #79
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          الانتفاضة والثلاثي الشرير في أوسلو
          في العاشر من الشهر الجاري تم في أوسلو حدث أراه غريباً من نوعه، وقد جاء في توقيت يشكل بحد ذاته مفارقة تزيد حجم الغرابة وشدة وقعها في النفس. ويرتب ذلك الحدث وذلك التوقيت مقارنة تؤول نتائجها - بتقديري - إلى الإزراء بالقيم والشعوب والشهادة والتاريخ وباحتفالات التكريم كلها. ففي أوسلو، المدينة التي شهدت ولادة اتفاقية عرفات - بيريس - رابين الاتفاقية المشهورة بـ - غزة - أريحا، أحتفل بين الساعة الثامنة عشرة - والعشرين بتوقيت دمشق من يوم السبت 10 كانون أول 1994 بمنح جائزة نوبل للسلام - 1994 - للثلاثي العجيب:رابين - عرفات - بيريس، وهو ثلاثي يثير من الزوابع في وجه السلام الحق، ما يطمر السلام وكل المتعلقين به بصدق وبراءة في كل أنحاء العالم. وهو ثلاثي متنافر ظاهرياً إلى أبعد الحدود، ومتمكن من لعبة النفاق إلى أبعد الحدود أيضاً، وكل وأحد من أفراده هو بنظر الآخر مجرم، وبنظر شعب الآخر، ووسائل الإعلام في حقبة من التاريخ، وفي نظر الرأي العام العالمي - إذا ما بقي شيء يسمى الرأي العام العالمي له احترام واستقلال وموقف - هو إرهابي ومثير للحروب وممثل للحقد والكراهية، وباعث على الاشمئزاز ولكن يبدو أن الطينة أو العجينة التي صنع منها أفراد ذلك الثلاثي واحدة وتملك نتنها و"عطرها" في الوقت ذاته وتتحكم بالنشر ورياحه الأربع. فعرفات بنظر رابين وبيريس والصهاينة جميعاً واليهود - كما قيل في السياسية والإعلام - هو إرهابي كريه ويثير أكثر من الاشمئزاز، وقد ارتجف رابين وكاد يغلق أنفة بإصبعيه يوم تصافحا في واشنطن.. وإلى مدى قريب كان عرفات - " أو على الأصح ما يمثله في الظاهر عرفات" بنظر أميركا والغرب نزوعاً عدوانياً شريراً بشكل مطلق، لأنه يمثل رغبة الفلسطيني الحق في العودة إلى بيته ولو بالقوة، وفي هذا نوع من التدمير لـ " إسرائيل "، التي وجدت بنظرهم لتبقى. ومازال عرفات اليوم ينظر لنضال شعبه المستمر من أجل التحرير على أنه إرهاب مدان بعد أن دخل أوسلو.‏
          وبيريس بنظر الفلسطينيين والعرب - لا سيما قبل أوسلو - وربما بنظر عرفات أيضاً، هو ممثل النزوع العنصري الصهيوني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذي يريد أرضاً نظيفة من العرب، وهو الذي أسس للقوة النووية التدميرية في الكيان الصهيوني، وهو وزير حرب خاض ضد العرب كثيراً من المعارك، وهو صاحب المشروع الشرق أوسطي الذي يرمي إلى تغيير هوية المنطقة من الجذور، لا سيما في المجال الجيو- سياسي، والاقتصادي والثقافي. وهو إرهابي عريق كان في العصابات الفاعلة مع بيغن وشامير وشارون وسواهم، وهو أحد الذي بنوا، على حساب الشعب الفلسطيني ووجوده وكرامته وحريات أبنائه، "دولة إسرائيل العنصرية " .‏
          أمّا السيد رابين فهو كاسر عظام البشر في تلذذ سادي مارسه ضد شبان الانتفاضة وأطفال الحجارة، وهو الذي شارك في أكثر من حرب عدوانية ضد العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وهو الذي يرى نفسه تابعاً مخلصاً لإله الجنود الذي لا يرويه إلا دم " الغوييم - دم الأمم " .وسجل رابين في الإرهاب الأسود، والحقد المقيت ضد العرب لا يقل عن حقد بيريس أو كاهانا أو شامير أو باروخ غولد شتاين. وحين سمعته يذكر باعتزاز أنبياء بني "إسرائيل" واينشتاين وفرانز كافكا وفرويد، بوصفهم يهوداً يمشون في موكب شعبه عبر التاريخ، ويمشي هو في ظلالهم، عجبت من تركة لم تثمر إلا ثمراً مراً ولم تترك للإنسانية إلا إرهابيين وعنصريين ومتعصبين وقتلة لا يختلفون في شيء عن النازيين والفاشيين، وازداد عجبي عندما ذكر رابين "مآسي اليهود" وضحايا " المحرقة " ونسي كفر قاسم ودير ياسين - وبحر البقر وصبرا وشاتيلا.. الخ، وما فعله هو بالشعب الفلسطيني وأطفال الحجارة، وبالذين ألقاهم في معتقلات أنصار وفي السجون " الإسرائيلية "، ولم يغير شيئاً من جهنم التعذيب التي يفرضها على المعتقلين العرب إلا الاسم، وقد ساعده الإعلام الغربي والصهيوني على إيصال ذلك لطيفاً ومخففاً وربما إنسانياً رحيماً وحضارياً إلى الرأي العام المغشوش والتعس في كل أنحاء العالم، حيث سمى ذلك التعذيب " ضغطاً جسدياً من أجل الوصول إلى الحقائق". عجبت لثلاثي هو بنظر كل فرد من أفراده الذين يشكلونه صفحة من الشر والإرهاب الأسود، وكل منهم يثير الكراهية بنظر الآخر، وكل منهم،بنظر شعوب كثيرة وبنظر شرائح من شعبه،رمز من رموز الكذب والغش والإرهاب والتضليل والحرب، ومع ذلك فهم " فرسان السلام " الذي يحتفي به " عالم نوبل " وكل منهم قدم لـ " إسرائيل " العنصرية فقط دفعة باتجاه الاستعمار والغطرسة والنزوع النازي الجديد. والمفارقة التي يثيرها التوقيت هي تلك الكامنة في احتفالات المقاومين العرب ومن بقي يقف مع المقاومة من العرب بذكرى الانتفاضة /8/ كانون أول 1987 / حيث يرى المحتفلون بالانتفاضة والذين يحيون ذكراها، ممن يؤمنون بها وبجدواها، أن عرفات اختير ليصفي عناصرها جسدياً، على الرغم من أنه ادعى ـ وادعاؤه باطل ولا أساس له من الصحة ـ بأنه وراء اندلاعها وأن رابين وبيريس راهنا على قدرة عرفات وصلاحه لممارسة هذا الدور، وأقر هو أمام العالم بأنه اختار طريق رابين وبيريس، أي طريق "أوسلو"، وأنه سيثبت جدارته للسير، فيها وأنه سوف يلاحق الانتفاضة التي لم يعد لها وجود أو ضرورة " كما قال، والتي أصبحت أصولية، محكوماً عليها، ينبغي أن يلاحقها " الانتربول الدولي " كما يلاحق المجرمين والهيروئين، ولم تعد هي أحد وجوه ومراحل النضال الفلسطيني على طريق التحرير والدولة.‏
          والثلاثي الأسود، الذي يطأ الثلج النقي في أوسلو هذه الأيام، متواطئ ضد الانتفاضة تواطؤا معلناً،ويربط كل فرد من أفراده مصيره ومصير من يقودهم بالقضاء على الانتفاضة وإبادة عناصرها وملاحقتها، حتى في الوجدان الجمعي العربي كله. وما هي الانتفاضة التي يلاحقها " مجازو نوبل للسلام " ؟! أليست رغبة شعب بكامله في العودة إلى وطنه والعيش فيه باطمئنان وسلام، بعيداً عن الممارسات العنصرية والإبادة الجماعية والقتل والتشريد ووضع مئات الأشخاص في العراء تحت الثلوج والعواصف خارج كل صلة بالوطن وبمقومات الحياة وعالم الأحياء ؟! ما هي الانتفاضة التي يلاحقها ممثلو السلام سوى نضال شعب من أجل الحرية والعدالة والعيش الكريم في وطن؟! وهل السلام هو نقيض الحرية والعدالة والعيش الكريم في وطن؟!‏
          المفارقة المضحكة تكمن في أوسلو، وفي جائزة نوبل، وفي الثلاثي الأسود، وفي الإعلام العالمي المحكوم بالرؤية الاستعمارية والصهيونية، وفي الرأي العام المسكين الذي يخبز عجينه الطغاة والمنافقون والتجار والسماسرة وصانعو الموت،الذين يتربعون على عروشه ويتقافزون من عيونه بوجوه بريئة. ذلك أن نوبل،الصهيونية روحاً وتوجهاً،تصنع للسلام صورة ملائمة للنزوع العنصري الصهيوني وتروج لها، وتصدرها للعالم الذي يقف مبهوراً من حجم الكذب الذي يقدم له بأغلفة زاهية، وتعقد لسانه الدهشة من لعب الحواة، فلا يملك إلا أن يتفرج ثم يصدق، ثم يصفق ثم يهلل ويكبر ويصبح جزءاً من كرة الثلج الإعلامية التي تكْرُج وتكبر ثم تكرج وتكبر إلى مالا نهاية، فتسحق تحت ظلها العالي وثقلها العاتي كل الحقائق والمشاعر الصغيرة والنبيلة في هذا العالم، الذي شوه كل ما فيه أو كاد. والمفارقة المضحكة تكمن في هذا "السلام" الذي تصنعه الصهيونية وتصنع رموزه وبنادقه، وتفرض شروطه، وتقدم إخراجاً ملائماً لتمرير تلك الشروط وخلق مناخ حولها، حيث تبدو بنظر الذي ينسحق تحتها هو وشعبه ووطنه وتاريخه وحقائق الحياة من حوله، أنها إنجاز يعجز الكثيرون عن إنجاز، ويظن ذلك المنجز أنه جاء بفتح مبين يستحق من أجله أن يكون بطلاً شعبياً،ونبياً تاريخيـاً، ومجازاً في السلام من أوسلو، مدينة الإنجازات الصهيونية المصنعة بعناية الغرب وبرعاية المسيحية - الصهيونية،التي عكفت على إخراج "إسرائيل" إلى الوجود منذ القرن الماضي. والمفارقة المضحكة المبكية - هي أننا نحن الذين مازلنا نستطيع أن نستهجن ذلك، ونرى عيوبه ونكشف الغطاء عن ألاعيبه ولاعبيه، نسير نحو مغاطسه، وتنزلق منا الأقدام على جليده، ويشدنا من شعورنا فنسير بلذة المخدرين نحو عالمه، وندخل ذلك العالم ونحن نلعنه، ونبدأ بتذوق ما يقدمه لنا، ولا نلبث أن ندمن ذلك وننسى الرؤية بعد سلامة الرؤية.‏
          إن "إسرائيل" مشروع شرير بكامله،وكل من يخدمه يساهم في شروره، وهو مشروع أسس لشل العرب وتدمير مقومات نهضتهم وثقافتهم وعقيدتهم، مشروع أنشأه الاستعمار لا ليتخلص من اليهود فقط،وإنما ليوجه شرهم وشره من ورائهم نحو أمة يعرف أن مشروعها يناقض مشروعه، ونهضتها تلغي هيمنته ومصالحه،ووحدتها واستقلالها يوقفان استعماره واستثماره وانتشاره كالسرطان في أرجاء أرضها وفي تكوين أبنائها. والعجب العجاب.. أنه ليس فقط ثلاثي أوسلو الشرير، وما نشأ عنه أو بسببه وما ارتبط به من سلاسل شر آخذة بالانتشار في الوطن العربي، ومتكاثفة التأثير سلبياً على روح الانتفاضة ومناخها ومقومات استمرارها، هو وحده الذي يفتك بقوى الصمود والمقاومة في الأمَّة العربية، ويوجه حقده وقوة تدميره نحو بناها الروحية والمادية، وإنما شرائح من أبنائها في مواقع مختلفة ومؤثرة يسيرون في هذا الاتجاه،ويتنكرون لامتهم وتاريخها،ويطعنونها في الصميم، ويرقصون فوق جثتها متباهين،وكأنهم الأعداء أو ما جسده حقد الأعداء من ورم خبيث في جسد الأمَّة. وهم يساعدون قوى العدوان والاستغلال على خلق مناخ سلبي شديد الفتك بقيم ومقومات رئيسة هي في الصميم من تكويننا ومستقبلنا. وذلك المناخ لا يكتسح أقطاراً وحكومات عربية فقط، وإنما يحفر خنادقه تحت جدران قلاع قومية يريد لها أن تنهار، ويحاصرها بأشكال مختلفة،ويزين لها أن تتفاوض معه وتسير وراء كذبه وخداعه معتقداً أنه سينجح في نهاية المطاف في الدخول إلى قلبها كما نجح مع سواها. فهل ترانا نترك سرطان أوسلو ينتشر في ما بقي من خلايا سليمة وقوية في جسم الأمَّة العربية، ونستسلم للمرض الخبيث، جاعلين من بقية الجسد لقمة سائغة للصهيونية - العنصرية، التي لا يكفيها أن نعترف لها بحق في إقامة " دولة إسرائيل " في وطننا، بل نسلم لها بأننا نعيش على ما بقي من أرضنا بكرم وسماحة منها، وان نتحمل جراء ذلك كل تكاليف استمرار المشروع الصهيوني في البقاء والنمو والانتشار والازدهار ؟!‏
          إن السؤال ملقى على مدى الجغرافيا والتاريخ في وطن العرب، ولكنه متوجه كالسهم الناري نحو أولئك الذين يؤمنون بحق الإنسان في المقاومة من أجل رفع القهر والاحتلال والاستعمار والابتزاز، ونحو أولئك الذين يحتفلون بالذكرى الثامنة لانطلاقة الانتفاضة المباركة في فلسطين المحتلة، ونحو أولئك الذين اختارا المقاومة طريقاً للوصول إلى الحرية والحق والسلام القائم على ركائز متينة، لا ينخرها سوس الصهيونية والاستعمار وسلاسل الشر المنبثقة من الثلاثي الأسود،الذي يكلل باسم السلام والذي لم يقم على الأرض أي نوع من أنواع السلام تنمو في ظله الحرية وترتاح في فيئه الشعوب ويستنبت في تربته الأمل. فلتغلق أبواب "أوسلو" على ما تختار من أشرار،ولتنر طرق الانتفاضة المباركة بدم الشهادة والكلمة الصادقة والرأي الشجاع، حتى تكون هناك حرية، ويكون هناك سلام، وتنتهي حقبة الصهيونية السوداء وما خلفته في أرضنا وشعبنا من ندوب؛ ولن يكون ذلك إلا بالعلم والعمل والإيمان الصادق. فهل نحن فاعلون ؟!‏

          الأسبوع الأدبي/ع442//15/ك1/1994‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #80
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            على مدخـل المفاوضات من جديد
            استؤنفت المفاوضات الثنائية بين سورية والكيان الصهيوني في واشنطن برعاية أمير كية خاصة ومباشرة وبمشاركة من إدارة كلنتون، وبناء على طلب منها هذه المرة حيث أبدت رغبة في دفع المفاوضات على هذا المسار المعطل ليلحق بالمسارات الأخرى. حماية لتلك المسارات بالدرجة الأولى، واستمراراً " لعملية السلام" التي تحرص الإدارة الأميركية على تحقيقها لتضمن مصالحها ولتضمن لـ " إسرائيل " حاضنة عربية دائمة، وهيمنة في الوطن العربي لقد تم التأكيد على احترام مرجعية مدريد قبل استئناف المفاوضات، وعلى المبادئ التي استندت إليها المفاوضات في الأصل: قرارات مجلس الأمن‏
            /242 - 338 - 425/ والأرض مقابل السلام. ولكن الإدارة الأميركية المسكونة بالهم والطموح الصهيونيين اتخذت في الوقت ذاته مواقف مستهجنة لا تنم عن احترام لمرجعية مدريد، أو قرارات الأمم المتحدة أو الحق والعدل اللذين يحرص عليهما أي وسيط نزيه. فقد صوتت إدارة كلنتون في الأمم المتحدة ضد قرار يدعو "إسرائيل" إلى الانسحاب من الجولان وهو استمرار للتأكيد الدوري على ذلك القرار منذ اتخذ قبل أكثر من عقدين من الزمن. وموقف الولايات المتحدة هذا وسعيها إلى فصل المسار السوري عن المسار اللبناني، ورفضها التأكيد على القرار /425/ الخاص بالانسحاب من جنوب لبنان، بل إهمالها له وتجاهلها إياه تجاهلاً تاماً. كل ذلك يدعو إلى مراجعة دقيقة للموقف الأميركي من المفاوضات على هذا المسار الأساس بالنسبة للعملية كلها. فالموقف الثابت للإدارة الأميركية هو في نهاية المطاف الموقف " الإسرائيلي " سواء أ كان حزب العمل هو الحاكم أو حزب الليكود أو ائتلاف بين الأحزاب هناك. ومن المسلم به أن الإدارات الأميركية قد تركت للصهاينة في أميركا، مدعومين من المتصهينين الأميركيين من غير اليهود، موضوع رسم السياسة الأميركيين في هذه المنطقة، وغطت كل التكاليف والقرارات والسياسات والمواقف في هذا المجال تغطية مالية ودبلوماسية وسياسية وعسكرية وليس هذا لا من الأسرار ولا من المكتشفات بل هو أمر معلن يتم التأكيد عليه في كل أن وبكل وسيلة ولسان. ولكن العرب الذين يقع عليهم وحدهم غرم ذلك ويقعون دائماً بين لسانين ومكيالين يروجان النفاق ويقدمان الكذب والخداع، العرب يقبلون ذلك أو يصبرون عليه أو يستسلمون له سواء صدقوه أو كذبوه. ويبدو أن ذلك يتم لسببين:‏
            إمَّا لأنهم يدركون جيداً ألا وسيلة لهم ولا حيلة، وليس أمامهم إلا أن يتعاملوا مع هذا السيل من كذب الأقوياء الذي تصبح له من الزمن رائحة الصدق.‏
            وإمَّا أنهم كالعاشق المنبوذ الذي لا يملك إلا أن يجلس على باب معشوقته التي تتعلق بسواه، لعلها تجود عليه بنظرة ولو حملت لعنة، بينما هي مشغولة كلياً عنه، كارهة له، منصرفة إلى شأنها وشان من تهواه وحين تغزوه من آن لآخر حقيقةُ أنه منبوذ وأنه ليس له من ذلك الحب نصيب يعتصم من تلك الحقيقة الصارخة بالكذب على الذات لأنه يحبذ الموت لا الفراق. وأياً ما كان السبب فإننا لا نملك إلا أن نقول: إن لله في خلقه شؤون.‏
            ويبقى أن نعود إلى الوضع الذي نحن فيه، أياً كان السبب الذي أدى إلى أن نكون فيه، فليس أمامنا إلا أن نواجه حقيقة أن المفاوضات: المفروضة - المرفوضة، التي يصدق علينا فيها قول المتنبي.‏

            ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى‏



            عدواً له ما من صداقته بـــــد‏

            ستقود إلى " سلام " يكون من شأنه أن يثبت وجود " إسرائيل " في تاريخ المنطقة ووجدان أبنائها على أرضية الاعتراف، ويتم حسب شروط " إسرائيل " ومصالحها، وتخيم عليه قوة القهر الإسرائيلية والأميركية بمظلة نووية لن يكون أكثر نفعاً لنا من الوضع الحالي إذا ما استمر حسبما أشار الرئيس الأسد.‏
            والمفاوضات التي تتم تحت مظلة الإقرار الأميركي بحق " إسرائيل " في احتلال الجولان، أو برفض أمير كي لتأييد انسحابها من الجولان؛ لن تؤدي إلى احترام حقوق السوريين التاريخية ولن تؤدي من ثم إلى سلام من أي نوع، لأن شعبنا لن يقبل سلاماً منقوصاً واحتلالاً إسرائيلياً من أي نوع ولأية مساحة من الأرض؛ هذا إذا سلمنا بأننا يمكن أن نقف من القضية الفلسطينية موقفاً قطرياً يحصر النظر إليها في حدود العلاقة المتصلة بالجولان، أو بالجولان وجنوب لبنا ن!! فالرؤية القومية لسورية هي بالضبط الالتزام القومي والتاريخي لها؛ وتكتسب كل القضايا العربية بالنسبة لها بعداً قومياً لا يجوز تقزيمه في الحدود القطرية. من المؤكد أن ذلك يرتب عبئاً كبيراً علينا في الوقت الذي ينصرف العرب كل إلى شأنه الخاص وهمه الصغير، ويركض بعضهم خلف " إسرائيل " ليتعامل معها ويركض آخرون خلفنا لنقبل ما تعطيه لنا " إسرائيل " ونسير في الزفة. لا سيما بعد أن قبل عرفات باسم الفلسطينيين بأقل من الفتات وبوظيفة المندوب السامي " الإسرائيلي " عند رابين واختار الملك حسين أن يكشف الغطاء عن المخفي منذ بداية القرن ويسير في اتفاقية وادي عربة في صلح منفرد آخر مع " إسرائيل ". إن سورية بحكم الموقع والموقف والتاريخ والالتزام القومي تختار الطريق الأصح والأصعب والأكثر كلفة، وتشعر أنها تحمل عن الآخرين ما ترك الآخرون حمله ولاذوا في ظلال أكثر متعة. ولكنها في الوقت ذاته تدرك أن ما تركوه أثقل من أن تتحمله وحدها فما هو المخرج المشرف والسليم الذي يحقق الوصول إلى الحق ويحفظ للقضية شيئاً في الوجدان ويمكن سورية من استنقاذ ما يمكن استنقاذه والحفاظ على البعد القومي للقضية وعلى ما يمكن أن نسميه " الحق القطري" غير منقوص ؟! إن ذلك هو السؤال الذي لا بد أن نواجهه ونحن نخوض المفاوضات من جديد على أرضية مرجعية مدريد التي لا يحترمها راعي مدريد، وأرضية الرغبة الصهيونية المستمرة بالاحتلال والتوسع والقضم، وفرض حلول على الآخرين تضمن " لـ إسرائيل " بقاء وهيمنة واستمراراً لمشروعها الاستراتيجي الأساس وهو " إسرائيل الكبرى" بكل المقاييس ؟!.‏

            الأسبوع الأدبي/ع443//22/ك1/1994‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #81
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              الروس في بلاد الشاشان
              يبدو لي أن الروس طيبون، وأن ملايين الضحايا الذين قدمتهم روسيا لا سيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية يستحقون الأسف، وأن ما لحق بذلك البلد من دمار وبسكانها من معاناة، لا يجعل المرء مرتاحاً لذكرى أي نوع من الحروب والمعاناة. وحين يرى المرء الروس معتدين يتساءل: من الذي يقودهم إلى العدوان، ومن يجعل منهم عنصريين أو في خدمة العنصرية؟!.‏
              من المؤكد أن الروس ليسوا ملائكة، ومن المؤكد أيضاً أنهم لا يزعمون أنهم كذلك، وهم يعرفون جيداً أن لهم من الأطماع والمصالح والتطلع نحو السيطرة والهيمنة ما يجعلهم يمدون أيديهم إلى الآخرين، وأن يبطشوا عندما يتاح لهم ذلك، وما زالت للروس مصالح ومطامح وتطلعات، وهم لا يريدون التنازل عما " كان لهم " من محميات ومكانة دولية، وهيمنة ونفوذ، ولو في أجزاء من العالم الذي أخذ ينسحب من تحت أجنحتهم. والروس لا يفرطون بمستعمراتهم التي استوطنوها وأصبحوا ينظرون إليها كجزء من التكوين العضوي لروسيا، لا سيما تلك التي تقع في آسيا الوسطى والقوقاز.‏
              في ظل الإمبراطورية القيصرية، كما في ظل الإمبراطورية السوفيتية المنهارة، أخضع الروس شعوباً وقوميات لسلطانهم وحكموها بقوة القهر، وكانت لهم وما زالت لهم أطماع يريقون من أجلها الدماء؛ ولكن الشعب الروسي البسيط بقي فقيراً وبائساً وملحقاً بسادته وملاكيه، سواء أكانوا من إقطاعيي القيصر أو من ديكتاتوريي البروليتاريا، أو من قطط يلتسين السِّمان. وكل ما استنزفته العهود الماضية من الآخرين في ظل الطُّغيانيَّات المتعاقبة من جهد بشري وطاقات وموارد وأموال، سواء من شعوب الاتحاد السوفييتي أو من الشعوب التي خضعت للروس أو تحالفت معهم أو ارتبطت بإمبراطورياتهم، تم توظيفه لخدمة آلة الحرب ولإقامة واجهات ومواجهات أيديولوجية وإعلامية ومخابراتية نمَّت الحرب الباردة إلى الحد الذي زحفت معه شعوب على ركبها ورموشها لتخوض حروباً ساخنة وباردة بالوكالة، وانتهت تلك المواجهات في النهاية لمصالح الإمبريالية من دون أن يستخدم السلاح ضدها، ومن دون أن تتكلف الكثير من أجل بلوغ أهم أهدافها.‏
              وفي المراحل الكبرى من عمر الإمبراطورية الروسية الثانية، إمبراطورية قياصرة البروليتاريا، بلغت نسبة اليهود الصهاينة في مجموع القيادات العليا والمتدرجة في الأهمية نسبة بين: 83 و83.5% في أعوام دورة الحسم وهي الأعوام الآتية:‏
              1919-1921/ و /1938-1940/ و /1986-1991/‏
              نهاية الإمبراطورية.‏
              وحين استأنفت روسيا الاتحادية مسيرتها الإمبراطورية في دورتها الثالثة، تلك الزاحفة على بطنها والتي تقتات بثدييها، في عهد بوريس يلتسين، معتمدة على كثرة من المستشارين اليهود.‏
              كان الشعب الروسي في كل هذه المراحل مستمراً في دفع ثمن باهظ وخدمة قضية ليست قضيته الأولى: أمَّا الثمن الباهظ فهو ذلك الذي يدفِّعه إياه اليهود جرَّاء ما جرى لهم من القيصر في إمبراطورية الخزر، التي تعرضت لنقمة القيصر فآذاها وقرر اليهود الانتقام من الروس لذلك ولمذابح أخرى جرَّها عليهم سلوكهم وعنصريتهم. وأمَّا القضية فهي خدمة المشروع الصهيوني العنصري، وإقامة دولة يهودية في فلسطين على حساب العرب.‏
              ومن المؤكد أن الشعب الروسي، الذي يشمئز في أعماقه من مثل هذه المهام والأعباء ما زال يترنح تحت وطأة الخدمات التي قدمها ويقدمها للصهيونية؛ سواء من بداية إمدادها بالمهاجرين وتقديم التغطية السياسية والإعلامية والإيديولوجية لمشروعها العنصري وتقديم السلاح لتأسيس "الدولة العبرية" ـ السلاح التشيكي بتغطية سوفييتية ـ التي كان يطمح في أن تكون مدخلة للهيمنة على الوطن العربي، حيث كان يمضي في دعم إقامة قلعة شيوعية- تقدمية لا تلبث أن تجعل المنطقة كلها تسقط كالثمرة الناضجة بين يديه.‏
              والنتيجة هي أن الشعب الروسي الفقير والطيب كان يدفع الثمن، ويجعل غيره يدفع الثمن أيضاً، وتذهب الفوائد الكبرى لآخرين: سواء أكانوا قياصرة ـ إمبرياليين وشيوعيين ـ أم يهوداً أم إمبرياليين بأثواب متواضعة.‏
              في ظل الإمبراطورية الروسية "السوفييتية"، كما في ظل الإمبراطورية الروسية القيصرية، خاض الروس حروباً عدوانية شرسة ضد شعوب وقوميات وأخضعوها لسلطانهم، ومارسوا ضدها القهر وألحقوا التدمير بالعمران، وكانت لهم أطماعهم وقلوبهم السوداء وأحقادهم الكالحة التي دفعت ثمنها شعوب آسيا الوسطى بالدرجة الأولى. وانصبَّت معظم تلك الأحقاد، وفي كثير من الأحيان، على المسلمين وثقافتهم، منطلقة من منابع العرق والدين والمصلحة، مؤدية إلى الموت والدمار والشر والمعاناة البشرية بألوانها المختلفة، وقد مارس الروس ذبح المدن وإعدام الثقافة في ظل الإمبراطوريات الروسية الثلاث:‏
              - ففي حروبهم في بلاد القوقاز، أيام القياصرة، شردوا مئات الألوف وقتلوا أمثالهم ودمروا المدن، وعاش الشركس بشكل خاص، والأتراك المنتشرون من خِيوَة حتى أذربيجان ألواناً من القسوة والرعب. وألحقت بلدانهم بقيصر بعد أن ضعفت الإمبراطورية العثمانية عن حمايتهم.‏
              - و "في 18شباط /1918/ استولى الجيش الأحمر على "خوقند" ونهبها ودمر معظم المدينة وذبح سكانها، معتمداً على مساعدة المستوطنين الروس في ذلك، وفي استعمارها من بعد ذلك.‏
              - وفي عام 1918 "كان شعب كازاخستان قد أعلن الحكم الذاتي وطلب مساعدة القائد القيصري، الأميرال كولتشاك في الدفاع عن نفسه ضد البلشفيك، وإذا بالشعب الكازاخي يكتشف أنه هو أيضاً عدوهم".‏
              - وفي /2/ أيلول 1920 دمر الجيش الأحمر بخارى "وقد التهمت ألسنة اللهيب المكتبة التي ربما كانت تحتوي على أعظم مجموعة في العالم من المخطوطات الإسلامية.‏
              - وفي الأعوام السوداء من عقد الثمانينات دفعت أفغانستان ثمناً لا يقدَّر جراء العدوان والاحتلال اللذين قامت بهما الإمبراطورية الروسية السوفيتية.‏
              - وفي 30-31 /12/1994 دخلت جيوش الإمبراطورية الروسية الثالثة التي تزحف على بطنها وتقتات بثدييها، دخلت "غروزني" عاصمة الشاشان بعد أن حصدت آلاف الضحايا، لا لسبب إلا لأن الشاشان يريدون الاستقلال، وعدم الالتحاق بحمى روسيا الاتحادية، فقد ضاقوا بالإلحاق والاستعمار ومحو الشخصية والتبعية، شأنهم شان شعوب آسيا الوسطى المستعمرة من الروس منذ عقود من الزمن.‏
              وعلى الرغم من حاجة روسيا إلى المال والاستقرار، وحاجة الشعب الروسي إلى الغذاء والأمن فإن "قيصره" الجديد يعلن الحرب على الشاشان والأنغوش، وعلى سائر أهل بلاد القوقاز إن استدعى الأمر لكي يحفظ ما أخذ يظهر على أنه الكيان العضوي لروسيا التي غطت استعمارها المزمن للآخرين وأظهرته على أنه وحدة وطنية.‏
              إن الشعب الروسي يدفع الثمن في كل ذلك، ويجعل الآخرين يدفعون الثمن. فما هي مصلحة الروسي البسيط في أن يكون عدوانياً ومستعمراً وعنصرياً في هذه الظروف بالذات؟ ومن يخدم مثل هذا الوضع سوى الصهاينة الذين يتحكمون بجانب من قرارات موسكو، والأميركيين الذين لا يريدون أن تقوم للشعب الروسي أيَّة قائمة ؟؟‏
              ولماذا ينصبُّ حقد الروس المزمن على شعوب مسلمة وثقافة إسلامية، وبلاد يقطنها المسلمون؟! إذ هم الذين يقفون وراء استمرار فظائع الصرب التي ترتكب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وما زالوا يمنعون مجلس الأمن من التحرك الجاد لوضع حد لممارسات العنصرية الصربية التي لا يجاريها في إجرامها سوى العنصرية الصهيونية، يدفعهم إلى ذلك تعصب عرقي "سلافي"، وتعصب مذهبي، ولماذا يتركون حرية الاختيار لبلدان مثل لاتفيا وأستونيا وليتوانيا لتأخذ استقلالها من غير تدخل أو ضغط، بينما يشنون الحرب ويقتلون الخلق، ويؤسسون للفتن، فيما لو طلب أحد من أوزبكستان أو طاجيكستان أو الشاشان أو الأبخاس أو الأنغوش استقلالاً أو حكماً ذاتياً منقوصاً؟!.‏
              ولماذا نجد الغرب، الذي يزعم أنه يمثل الرأي العام العالمي، يضغط لإعطاء دول بحر البلطيق السوفيتية استقلالاً، بينما يتغاضى عن مذابح الروس في غروزني معتبراً أن ذلك قضية داخلية روسية؟!‏
              إن الإمبراطورية تعبت بما فيه الكفاية، فالروس يريدون المحافظة على إمبراطوريتهم الثالثة؛ ويخشون من تفكك الكيان الهش الذي أزال إطاره العام غورباتشوف وتركه يتهاوى في أحضان الأميركيين ولمصلحتهم في النهاية . والروس ويغذون نزوعاً قومياً تعصبياً، وعداوة دينية، في وقت يستعيدون فيه "إيمانهم" بعد الإلحاد المتهافت؛ والروس يغرقون، قبل ذلك كله وبعد ذلك كله، في المستنقعات التي تدفعهم إليها الصهيونية والإمبريالية الأميركية لكي تبقيانهم في حالة إنهاك وتهالك وتدهور اقتصادي، وليزدادوا نزفاً وفقراً واحتياجاً. وربما كان ذلك استمراراً لمخطط يرمي إلى دفن الروس دائماً في المشكلات باللعب على أوتار حساسة لديهم مما يجعلهم يندفعون نحو الهوة، فيحصدون الألم والندم، ويستغرقون في الفقر والسكر، ويقودهم القياصرة وراء الأوهام والأحلام، التي يمسك بأطراف أجنحتها اليهود والأميركيون، فلا يذهب العصفور بعيداً، ولا يشعر أنه محروم من الطيران أو ممنوع منه. إنها عملية التسميم بالوهم !!.‏
              لكن الذي يسترعي الاهتمام - بصرف النظر عن أوهام الروس وأطماعهم وخطط اليهود وخبثهم ـ هو سكوت العالم عما يجري للشعوب الصغيرة، وللثقافات المحرومة من هويتها. فلا البلدان التي تدعي أنها تدافع عن الحقوق والحريات والممارسات الديمقراطية ترفع صوتاً، ولا تلك التي تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة من حيث القوة والحضور تحرك ساكناً؛ ويبقى الإنسان قيد الإبادة والحرية رهن الاعتقال، والثقافة في حالة تبعية. كما يبقى الموت الأسود والقهر المقيت يلاحقان شعوباً وأفراداً يريدون العيش بحرية تحت الشمس، التي تنير دروب خلق الله جميعاً وتقف عند عتبات بعض القلوب والبلدان والشعوب لا تتجاوزها؛ لأن " قيصر" أو من يوجهون "قيصر" ويحركونه يقف بينهم وبين الشمس وينشر ظله على دروبهم وقلوبهم.‏
              إن من حق الشاشان والأبخاس والأنغوش والغبردين / الغبرداي / وغيرهم من سكان القفقاس أن يستعيدوا استقلالهم وأن يقرروا بحرية مسألة التحاقهم "بروسيا الاتحادية" روسيا الإمبراطورية الثالثة. ومن حقهم أن تصان دماؤهم وحقوقهم وحرياتهم ومعتقداهم، وأن يتمتعوا بالأمن والاستقرار، وهم يمارسون عباداتهم ويحيون ثقافتهم ويستعيدون انتماءهم الحضاري.‏
              وليس طبيعياً ولا منطقياً، ولا هو من مستلزمات عالم ما بعد الحرب الباردة وعالم "النظام العالمي الجديد"، أن تُشنَّ حروب الإلحاق والاستعمار والهيمنة على شعوب مثل الأبخاس والشاشان وسواهم لمجرد أنهم يريدون الشعور بالكرامة والحرية واستقلال الإرادة والقرار.‏
              وإن عالماً يسكت على ما يجري في البوسنة والهرسك، وغروزني، وما جرى في أبخاسيا وسواها، مما لم نسمع عنه وما زال يشمله الستار الحديدي الجديد؛ هو عالم محكوم بالجبن والتواطؤ، ومتهافت بين يدي قوى لا يحق لها أن ترفع شعارات إنسانية براقة في حين تمارس ممارسات شريرة قذرة، تلحق العار بالإنسانية والعدل وبظلال قيم الأديان السماوية كلها.‏
              ولا أظن أن السكوت يشرف الإنسان بينما الروس يذبحون الشيشان .‏

              الأسبوع الأدبي/ع445//5/ك2/1995‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #82
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                من الخطيئة إلـى القمة
                منذ وقع المأزوم الدائم، ياسر عرفات، اتفاق أوسلو وألحقه باتفاقي القاهرة، ومعبر "إريتز" وهو يغوص في الخطيئة والذل والمأساة أكثر فأكثر، ويغري آخرين بالجهر بما ارتكبوا ويرتكبون من خطيئة بحق أمتهم وقضاياها وشهدائها ومواطنيها، ولم يكن أولئك بحاجة إلى إغراء ليغرقوا فيما يحبون، أو ليستغرقوا فيما كانوا فيه يستغرقون، بل كانوا بحاجة إلى من ييسر عليهم رفع الغطاء عما يفعلون.‏
                ولم تكن اتفاقية "وادي عربة" التي وقعها الملك حسين مع أصدقائه القدامى، وشركائه في اقتسام فلسطين والفلسطينيين، لم تكن تلك الاتفاقية أكثر سوءاً وتهالكاً من اتفاقيات عرفات مع الصهاينة، وإنما نازعتها على كثير مما تضمنته من أدوار وأهداف وسقوط، وذهبت إلى الحد الذي أيقظ جراحاً عربية قديمة وثارات وخلافات، ومهد لإقامة متاريس جديدة للدفاع عما بقي لدول عربية أخرى من أدوار ومصالح ومهام من جهة، ولما بقي لدول عربية أخرى من نقاط استناد وحقوق وأهداف تحريرية وقومية.‏
                وحين فتح الملك حسين أردن العرب ل" إسرائيل " ولوح باستعادة الدور القديم الذي كان له ولجده الأقرب مع الصهاينة وحماة دولتهم وغارسيها في منطقتنا، وكشف عن تطلعات ومخططات عربية وصهيونية يخدمها ويستفيد من وضع نفسه في خدمتها، خلق حالة هرولة في بعض الساحات العربية تستند إلى أرضيات ومصالح ومعطيات مختلفة، ولكنها حالة تدعو إلى التأمل والتتبع والاهتمام.‏
                فبعض الدول العربية بادرت إلى تعزيز ارتباطاتها القديمة بالغرب عن طريق فتح أبوابها لإسرائيل، لتكسب الرضا وتمتن الثقة، وتفوز بدعم شاهد لا يكذب في واشنطن، وبعضها أخذ يتلمس رأسه لأنه أحس بأنه سيفقد شيئا كان له وسيصبح لغيره، والبعض الآخر أدخل دوامة عنيفة فلم يعد يميز اتجاه الريح،وقلة قليلة استشعرت الخطر الشديد من كل ما يجري وأرادت أن تستدرك ما يمكن استدراكه، وتنقذ ما يمكن إنقاذه ليبقى لها، على الأقل، أرض تقف بثبات ونقاط استناد لا تتحول إلى ثغرات تكشف الظهر وتقود إلى المهاوي..‏
                كان مؤتمر الدار البيضاء أحد أهم المحطات التي توقف فيها قطار العرب وكاد لا يستأنف السير، إذ أين هم، ومن هم في عالم اقتصاد الغد وصلاته واتفاقياته؟! وهل بقي لهم شيء، أو قوة تحمي لهم شيئا ؟! وترك ذلك المؤتمر أسئلة دون أجوبة، وأثار حالة من البحث المحموم عن شركاء للعرب خارج أرض العرب، وكانت " إسرائيل " في مقدمة الشركاء بالنسبة لبعض الدول والتجار والمؤسسات والشخصيات، لأنها وضعت في موضع البوابة التي لا بد من عبورها نحو "سوق الحياة".‏
                وكان ملتقى القدس الذي حضره اقتصاديون عرب، وكانت زيارات " الإسرائيليين " لبعض دول الخليج؛ وأومض في الفضاء العربي برق من جهات معينة: فالمستقبل ينذر بان من كان له دور رئيس في قطف ثمار بعض الدول لن يكون له حتى أن يجمع النُوى من تحت تلك الأشجار عندما يحتل السيد " الإسرائيلي " مكانه بوصفه الوكيل الأول للأميركي، و"الصديق" الأقرب بالنسبة للعربي، الذي لُذِع بنار أخيه مرة أو مرات، فتزعزعت ثقته بالأخ وأخذ يبحث عن الحامي القوي ولو كان عدواً يتسع فكه لكل شيء؛ فعند العرب، فيما يبدو، استعداد كبير لأن يسعدوا حين يأكلهم غريب ويبتئسوا حين يتعشى بهم قريب..‏
                وعندما أخذ الجمهوريون الصاعدون في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين يلوحون بتخفيض المساعدات، وطمأنوا " إسرائيل " إلى أن ذلك لن يكون على حسابها بل على حساب شركائها الكبار في المساعدات، ازدادت حمى القلق، وازداد اللهاث في دوائر ثلاث، معنية جداً بذلك الأمر، أضعفها واشدها تلهفاً على أخذ موقع مناسب لها في ذلك الصف، وعلى كسب الرضا والثقة والحظوة "الأردن" وأكثرها استعداداً للتنازل وبيع الأخوة والشركاء طمعاً في مستقبل أفضل يقيم دعائمه الحلفاء التاريخيون، وتثبيتاً للاختيار الاستراتيجي، اختيار التحالف مع " إسرائيل "، كما أنه ـ أي الأردن ـ من جهة أخرى سرَّعَ وتيرة انفراط عقد الدول العربية التي كانت تنتظر نتائج المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية لتتخذ موقفاً علنياً، فجعلها تترك تلك الطريق وتسارع إلى الاعتراف ب" إسرائيل " وتطبيع العلاقات معها، واستقبال موفديها، وإقامة علاقات دبلوماسية متبادلة فيما بينها، وهذا ما كاد يبطل، أو يضعف دور مصر الذي كان موكلاً إليها منذ " كامب ديفيد "، والذي تتقاضى من أجله مساعدات؛ ولم يكن ذلك خفياً، فقد صرح أسامة الباز منذ فترة بان المساعدات التي تقدمها أميركا لمصر ليست دون ثمن أو دون مقابل، فمصر تدفع الدول العربية إلى المصالحة مع " إسرائيل " وتهيئ المناخ الذي يجعل " إسرائيل " جزءاً من نسيج المنطقة، ولهذا ومن أجله تتلقى مساعدة أميركية..‏
                وعلى هذه الأرضية، وتلك الخلفيات والمعطيات تصاعدت حمى القلق والأرق أكثر فأكثر، وبدأت " إسرائيل " تفتح نيرانها السياسية على مصر، الشريك الأكبر في اقتسام المساعدة والمنافس الرئيس على أسواق الخليج، والقوة التي يمكن أن تلغي دور الأردن؛ وبدا الأردن شريكا ل" إسرائيل " في ذلك، وبدأت مصر سعياً للرد على ذلك الفعل الذي تنكره وتستنكره؛ وكان من جملة ردودها وخططها إظهار تأثيرها على الساحة العربية، وتوقفهاً مؤقتاً عن تطويع العرب للتطبيع، لتشعر أميركا بالذات بان دورها باق ورئيس، وبان حصتها من المساعدات ينبغي ألا تمس. وألقت بعض ظلالها على الأردن فارتجف أو كاد، ولكنه استحلى أن يكون في موقع المنتَقَد من قبل العرب لأن ذلك يزيده زلفى عند " إسرائيل " وأميركا..‏
                وقد أدى ذلك كله إلى مزيد من الضغوط السياسية المتبادلة والمناورات المتبادلة، واستمر الزحف على الركَب نحو استحكامات جديدة، للدفاع عن الذات والمواقع والمكتسبات.‏
                وساد غبار التوقيع على اتفاقيات نزع أسلحة الدمار الشامل فضاء المعركة، ولكنه ليس المعركة وكل ما فيها؛ على حين أنه يجب أن يكون كل المعركة وكل ما فيها ...‏
                فمصر تعرف، كما يعرف العرب جميعاً، أن " إسرائيل " تملك سلاحاً نووياً كثيفاً، قبل التوقيع على اتفاقية " كامب ديفيد " وتعرف أن أميركا خاصة والغرب عامة، يرفضون إلزام " إسرائيل " بالتوقيع على اتفاقيات نزع السلاح النووي وحتى بالانضمام إلى دائرة الدول التي تخضع للرقابة على جهودها وترسانتها النووية، ومصر تعرف كما يعرف العرب جميعاً أن أميركا تزود " إسرائيل" بكل ما تحتاج إليه لتكون المتفوق المميز من حيث قوة التسليح ونوع الردع العسكري /نووي أو غير نووي/ على العرب مجتمعين، وعلى العرب والمسلمين الذين قد يملكون سلاحاً نووياً مثل إيران وباكستان..‏
                ومع ذلك فإن هذه القضية لم تُثَر عند توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" أو اتفاقية " أوسلو "، أو اتفاقية " وادي عربة"‏
                ولم يكن العرب صفاً واحداً، بل لم يرغب أكثرهم في أن يكونوا صفاً واحداً في تلك المواقف .‏
                وعندما كانت سورية تدعو إلى شيء من التنسيق أو إلى احترام نتائج التنسيق، بعد مؤتمر مدريد، كان من يخرِّب ذلك المطلب من العرب أكثر ممن يسكت على غش ويكتفي بالسكوت.‏
                وكان من يدفع الفلسطينيين في السر إلى توقيع اتفاق " أوسلو "، يعرف ما الذي يقوم به الملك حسين هنا وهناك ليقفز فوق جثة عرفات السياسية نحو اتفاقية وادي عربة والتحالف الجديد مع " إسرائيل " ضد الشركاء العرب والأمة العربية؛ ولم يكن ذلك موضوع تصريح أو تلميح أو انتقاد من أحد من العرب، الذين يتفرجون على المفاوضات ويدفعون من لديه استعداد للتنازل إلى مزيد من التنازل؛ وهم يدركون جيدا أنهم يضعفون بذلك سورية ولبنان، ويجعلون العدو يستفرد بهما، ويضاعف من ضغط الأميركيين والصهاينة والغرب الاستعماري كله عليهما .‏

                الأسبوع الأدبي/ع446//12/ك2/1995‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #83
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  سحر دمشق قرارها
                  ترددت في الاستجابة لدعوة "السفير" أو استدعائها الذي وجّه إليّ لأواجه الامتحان في معرفة قضايا العصر والأوان مما يتعلق بالتطبيع مع العدو، وإلا فهي المحنة. وجاء ترددي ذاك بعد أن قرأت ما كتبه بعض القائمين على شأن الرأي والثقافة والموقف فيها، وهالتني منهم اتهامات وتجرؤات ومحاولات لقلب الحقائق والوقائع مما لا ينتظر منهم، وهم بعض ضحايا من يزيفون الحقائق ويلفقون الوقائع ويحرفون الأفكار، كما هالني منهم جنوح نحو الاستفزاز والتعميم، وتغافل عن معطيات الواقع نعيشه ونعاني مر المعاناة منه وفيه.‏
                  وازدادت حيرتي حين فكرت في الكيفية التي سأفِد فيها على الصديق الكبير طلال سلمان، ودون بابه عسس وحرس وأوصياء على الناس، يحولونهم بنظرة ثاقبة من ضحايا إلى جلادين، ومن كتاب ومفكرين إلى بُداة وإرهابيين، ومن أصحاب رأي وموقف إلى غزاة ومدمرين للقيم!! وأنا أحد أولئك البدو الحفاة الجفاة القساة العتاة، الذين عادوا لتوهم من غزوة همجية طالت أحد معاقل الثقافة والحضارة الإنسانية، حيث عاثوا هناك فساداً وتبَّروا ما علوا تتبيرا.‏
                  وخرجت من حيرتي إلى ظل حقيقة أيقنت أنها قد تشفع لي، وهي أن الرجل كريم، ولم يقطع حباله كلياً مع البداوة، ولا بد أن يتفهم وضع أولئك الهمج البُداة القادمين من دمشق أو القابعين فيها؛ وستأخذه الأريحية الجنوبية فيأمر بفتح باب كل سفير خطير في جريدة السفير لينظر في أمرنا، ويتفهم وضعنا، ويغفر لنا زلتنا، ويقيل عثرتنا، هذا من جهة؛ وليتيح لنا أن نرى ونتعلم فنصبح قرب إلى الإدراك ونغيِّر طبعنا وربما مواقفنا وقراراتنا، التي نقسم إنها اتخذت بالأكثرية ، على الرغم من محاولات التحريف التي تريد لها أن تصبح إرهابا شخصياً ، بعد أن نميِّز تمييزاً دقيقاً بين الدعوة النظرية ـ الإعلامية ـ لرفض التطبيع مع العدو الصهيوني ـ وهي دعوة مسموح بها حتى الآن ـ وبين الممارسة الفعلية لذلك الحق لنظري المباح، سواء باتخاذ موقف من دعة التطبيع ورموزه، أو باللجوء إلى أداء من أي نوع يؤدي إلى فرز وتمايز في صفوف المثقفين، على أرضية ذلك الموضوع.‏
                  وعندما اهتديت إلى هذه الفكرة زالت عني الغمة وخطر لي أن أكتب إليه قبل أن أفِد عليه لأعلمه بأمر وفد البدو المجلوب من الشام إلى بيروت، أو المجلود وهو في الشام بحد القلم والحسام، حتى لا ينال ذلك الوفد وهو في الطريق إليه ما ناله قبل أن يُرفع أمره بين يديه. وبدا لي أن أشرح له بعض ما دار في المضارب المتخلفة المقامة في حي المزة من دمشق الشام، حيث يتخذ "أهل الغزوة الهمجية" من البدو الكتاب مقراً لهم. وأبسط الأمر بين يدي أهل الرأي في السفير ليتفهموا معنى لخروج أولئك البدو إلى الوجود بقرار اتخذوه بالأكثرية في مؤتمر لهم ـ عفو سدنة الديمقراطية ـ حيث قرروا تطبيق القانون والأنظمة النافذة في مؤسستهم ـ عفو المؤسسات الفردية ـ على من يخالف الأهداف المعلنة لتلك المؤسسة، التي يطلع كل من يطالب الانتساب إليها على أهدافها، ويعلن التزامه ـ إن شاء ـ بالموافقة على تلك الأهداف واحترامها والعمل على تحقيقها، ويبقى له الحق، في كل وقت، في أن ينسحب منها إذا رأى ذلك.‏
                  وأسترعي انتباههم إلى أن الجلد المدني الذي تعرض له أولئك البدو يبقى جلداً حتى ولو صدر من مدنيين وحضاريين وحداثيين، وأن الخروج بالأمر إلىحدود الاتهام ـ الشخصي والعام ـ بالإرهاب وممارسة القتل بسكين قلم، هو الإرهاب والقتل مجسدان، لا سيما حينما يرافقان بتعصب وعصاب واستعلاء حضاري، وتطورات ثقافية ومعرفية تجرد الآخرين من حقهم وتشوه حقائقهم، وترهبهم باسم الدفاع عن الإرهاب ، وتدينهم من هذا الباب، وتلك طرق سئمنا من ترداد ممارسة الصهيونية لها ، ولا نحب أن تكون هي الدروس المستفادة منه ليطبقها بعضنا على بعض.‏
                  واستسغت أن أشير ولو تلميحاً ، إلى أن من يرى للصهاينة، أعداء السوريين وللبنانيين حقاً في الوجود والبقاء على أرض السوريين واللبنانيين يمكن أن يكون مخطئاً حتى ولو كان كبيرا ، ويمكن أن يرفض فعله على الأقل في الوقت الذي يموت فيه الأبرياء ، ويستشهد الشهداء، من أجل تغيير الواقع المر الذي يراد لنا أن نستسلم له، وأن نقبله تحت اسم "الواقعية الانهزامية" والمظهرية الحضارية التي قدَّم لنا صيغة لها المقتول السادات.‏
                  وأنه ليس من العدل في شيء، بعد الذي جرى وكان، أن يبقى غلط الكبار" قانوناً أو فوق القانون، وقيمة تقاس عليها القيم، بينما يعاقب "الصغار" على غلطهم بالحديد والنار؟!‏
                  وخطر لي أن أقول بصوت يكتمه حبر الورق حتى لا يخدش سمع الحضارة والحداثة أن قول ببراءة البدوي وجلافته معاً :‏
                  فسروا لي من فضلكم كيف تجمعون بين نقيضين في جلد واحد وتسيرون إلى المدى الذي لا يُحَدّ في الدعوة إليهما معاً؟!‏
                  ـ كيف تكونون جنوبيين تتألق جراحكم وتندفعون مقاومة جليلة للعدو الصهيوني الذي ينحركم ويحاول أن يزيف حقكم وهويتكم، ووجوهكم فيرسمكم إرهابيين ومخربين وأعداء للسلام وهمجاً يقتحمون صروح الأمن والحضارة التي يشيدها ، وأنتم ماضون في طريقكم طريق الحرية والتحرير مصممين على رفض الاعتراف بالعدو ورفض تطبيع العلاقات معه، ورفض وجوده على الأرض التي لكم ولآبائكم ولأبنائكم من بعدكم؛ وتقفون في الوقت ذاته مع من يصافح ناحركم ويبارك وجوده "وجهاً حضارياً" ومسيرة ديمقراطية "؟!؟" يفتقدها الهمج الذين يقاومونه، ويعدُّ التقرب منه والحوار معه نضجاً فكرياً، وسمة حداثية!! ويتهم كل من لا يعمل على الاعتراف "بالأمر الواقع"، الذي يكرس وجود العدو واحتلاله وكل من لا يعترف به ويعمل على تطبيع العلاقات معه، بأنه متخلف لا يفهم معطيات العصر وتغيرات الدنيا، ولا يليق به أن يكون معبراً عن ثقافة أو تقدم أو حضارة، بل هو لا يستطيع أن يجاري بفهمه ووعيه الناضجين؟!‏
                  فسروا لنا كيف نكون حضاريين وحقانيين ومقاومين قوميين أصلاء حين نقف مع فعلكم المشرف في دفاعكم المشروع عن أرضكم ـ أرضنا، وحقكم ـ حقنا، وضد عدوكم ـ عدونا، ثم نصبح همجاً وإرهابيين وقتلة حين نرفض موقف من يقر لذلك العدو بشرعية ومشروعية وقيم إنسانية وحق في المنطقة، جغرافياً وتاريخياً؛ ويدعو إلى حوار حضاري معه ـ لا يتقنه البدو الجفاة القساة ـ وذلك العدو أنموذج للعنصرية والعدوان والهمجية، ويقدم أبشع صور القهر ويمارس إبادة الجنس والعمران ضد أبناء شعبنا ـ شعبكم سواء في فلسطين المحتلة أو في جنوب لبنان؟!‏
                  فسروا لنا كيف تكونون ضد تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني ومع من يدعو إلى ذلك التطبع ويمارسه ويروج له ويتهم الآخرين بالدونية تحت مظلته في الوقت ذاته؟! هل ينسجم الموقفان في كيان ، ويتعايشان في جمجمة واحدة من دون أدنى صراع داخلي أو من دون شعور بالانقسام ولا أقول الازدواج؟! إذا كان ذلك كذلك فإنني " أغبطكم " على ما أنتم فيه من عجب !!.‏
                  كتبت وكتبت.. ثم فجأة توقفت... وقررت ألا أدفع رسالتي إلى صديقي، وألا أذهب إلى هناك إلا مجلوباً بقوة القانون لا بقوة الصحافة وحقائق الإعلام، الذي أرى أن ما يسود واقعنا ليس إلا حقائقه للأسف ، وهي ليست الحقائق بالضرورة؛ ولا ترفرف في ساحاتنا إلا أعلام أعلامه، وليس بالضرورة أن يكون أولئك الأعلام أعلاماً!؟.‏
                  توقفت وشدني إلى الوراء ألف مسيل ومسيل دم على جباه بعدد الرمال، قضت من أجل شرف للوطن يستنبت في شرايين الأرض وشرف الكلمة وأحشاء الأمهات ليكون للوطن أبناء وليكون الوطن!! قررت أن أبقى في خيمة البدو الكبييرة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ في الشام، وأن احتفظ بقلمي ـ سكيني، وأن أضم الأصوات الحديثة التي تتهمني بالإرهاب إلى الأصوات التي أسمعها منذ سنوات تتهم بعض الجنوبيين والفلسطينيين بالإرهاب لأنهم يقاومون الاحتلال وتشويه الحقائق وتزييف صورة العرب وحضاراتها وتاريخها وثقافتها.‏
                  قررت أن أحتفظ بهدية السفير / أحد البدو وأحد الإرهابيين/ لأنني اخترت أن أنضم إلى المقاتلين والشهداء والمؤمنين بعروبة الأرض والإنسان في هذا المكان من العالم والذين يعتزون بموقفهم حتى ولو وقف "كبار الدنيا" ضدهم وضد ذلك الحق.‏
                  قررت أن استنشق عبير دمشق ، فسحر دمشق قرارها ، ممزوجاً بروح بداوة كتَّابها من أمثالي، لأنهم اختاروا رفض التطبيع مع العدو الصهيوني المحتل ، ونبذ رموزه، والإزراء بشرق أوسطية بيريس ، وبكل من يعترف لإسرائيل بحق في الوجود والبقاء في أرض العرب، أرض الشام، أرض فلسطين العربية، أرض القدس الشريف وكنيسة المهد .‏
                  وأرسلت لصديقي الكبير طلال سلمان ألف تحية حب وتقدير لقلمه، الذي يسكب في عروقي معاناة الجنوبيين وبعض حقائق لبنان، ويميز بين الضحية والجلاد، العدو والصديق، البدوي الصادق والمديني الآبق.‏
                  وله ولكل سفير في السفير خالص الحب والتقدير .‏
                  والسلام ختام .‏
                  الأسبوع الأدبي/ع451//16/شباط/1995‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #84
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    الرد على مايور السيد فيديريكو مايور
                    اطلعنا على تصريح السيد فيديريكو مايور المدير العام لمنظمة اليونيسكو، الذي يستنكر فيه قرار مؤتمر اتحاد الكتاب العرب فصل أدونيس، بعد أن دعا إلى تطبيع العلاقات الثقافية العربية مع " إسرائيل". وإننا إذ نجد من البديهي أن يقف المدير العام لمنظمة اليونسكو مع حرية التعبير وحقوق الإنسان، ليؤسفنا ويحزننا معاً أن يختار الموقع الخطأ، وأن يكون ضحية لازدواجية المعايير؛ فلا يرى في ممارسة الكتاب العرب لحقوقهم وتعبيرهم عن آرائهم ومواقفهم المبدئية من قضايا أمتهم، من خلال شرعية وديمقراطية تامتين، ومشروعية قانونية وخُلُقية مُرْضِية. كما لا يرى في الاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان وجنوب لبنان وفي إبادته للعرب هناك، جسدياً وثقافياً عبر ممارسات عنصرية تجسدها معسكرات الاعتقال والسجون وملاحقة المدنيين واضطهادهم واغتصاب أراضيهم، لا يرى في ذلك انتقاصاً من حقوق الإنسان وعدواناً صارخاً على تلك الحقوق، يستحق منه الإدانة والشجب. وأنه ليؤسفنا انحيازه الصارخ لمواقف وتوجهات ثقافية وفكرية ترمي إلى الاعتراف بشرعية احتلال أرض الغير بالقوة، وبطرد السكان الأصليين من فلسطين لإسكان آخرين في بيوتهم بالاغتصاب والقهر، وإضفاء شرعية قانونية وخُلُقية على ذلك العمل بفرض إقامة علاقات طبيعية مع الاستعمار الاستيطاني المستمر في فلسطين، والقبول بكل نتائج ما يحققه العدوان والقهر، وذلك باسم مناصرة " الانفتاح الذهني وإرساء ثقافة السلام والتفاهم الدولي" !؟!.‏
                    وكم كنا نود لو أن المدير العام لليونيسكو أبدى حزنه وأسفه لما يلحق بالشخصية الثقافية العربية في فلسطين المحتلة والجولان وجنوب لبنان من تدمير وتشويه على يد " الإسرائيليين "، ولما يتعرض له المثقفون والمطالبون بأبسط حقوقهم من العرب هناك من اضطهاد وقمع وإبادة روحية لا تُقِرُّها القوانين والشرائع والمواثيق الدولية وأدنى المستويات الخُلُقيَّة .‏
                    إن حزن مدير عام اليونسكو وأسفه مشروعان وكم يكونان متألقين ومؤثرين عندما يكونان عادلين ومستندين إلى أرضية إنسانية ـ خُلُقية منطقية منصِفة، وغير مجيَّرين لقضية تواطؤ مع الاستعمار والعنصرية تحت أغطية ثقافية وحضارية واضحة الأغراض.‏
                    وكم شعرنا بالأسف والرثاء ـ نحن أعضاء اتحاد الكتاب العرب ـ لمواقف السيد مايور، الذي أراد أن ينتصر لممارسات ومواقف شخصية مشبوهة ضد مبادئ منظمةٍ ومشروعية ممارساتها لقوانينها، لا سيما عندما تقوم مؤتمراتُها بتطبيق تلك القوانين والأنظمة على أعضائها في جو من الديمقراطية والحرية والعلنية!؟ وكم ازداد أسفنا ورثاؤنا حين وصل مدير عام اليونسكو في تصريحه إلى حدود وضع أعضاء مؤتمر اتحاد الكتاب العرب، الذي قرر في 27/ 1/ 1995 فصل الشاعر أدونيس لخروجه على الأهداف المعلنة للاتحاد الذي ينتمي إليه ، وضعهم في صف ما يصفه السيد مايور " بقوى الظلام" التي يقف ضدها دفاعاً عن حرية التعبير وحقوق الإنسان؟!! ويمكننا القول بكل الاطمئنان والثقة بعد هذا التصريح: إن مدير عام اليونسكو لم يكن منصفاً، وإنه ما هكذا يتكلم مدير عام لمنظمة دولية للثقافة والتربية والعلوم عن كتاب واتحادات المثقفين في بلدانها .‏
                    وإننا إذ نستنكر هذا الموقف المنحاز من السيد فيديريكو مايور ونستهجن استنكاره لممارستنا الديمقراطية لحقوقنا وحرياتنا المشروعة داخل مؤسستنا الثقافية حسب قوانينها وأنظمتها الداخلية، وباحترام تام لتلك الأنظمة والقوانين؛ حفاظاً على مؤسستنا وحقوقنا القومية والوطنية في بلداننا،التي يتمسك بها كتابنا ومثقفونا؛ نعلن أن هذا التصرف من السيد مايور يعتبر تدخلاً في شؤوننا الداخلية، وهذا ما نرفضه ونستنكره تماماً، كما يرمي تصرف السيد مايور إلى إصدار حكم إدانة جماعية على كتَّاب ومفكرين ومبدعين، ومصادرة حقهم في مؤسستهم ويحرض على فعل ذلك عبر العالم. وهذا الفعل المرفوض مبني على مواقف مسبقة ونابع من انحياز لسياسة تُتَرْجَم عبر الثقافة، وقد تجلت في غرناطة؛ ويُرَاد فرضُها على الآخرين من خلال المنظمات الدولية، التي تُستخدَم في هذه الحالة كأدوات بيد بعض السياسات.‏
                    ونقدر أنه لا يجوز وضع الشخصيات التي تمثل منظمات دولية كأدوات في خدمة سياسات وتوجهات معينة منحازة لهذا الغرض أو ذاك .‏
                    ونود أن نؤكد للسيد مايور مدير عام اليونسكو أننا لسنا قوى ظلام، وأننا لا نناصر قوى الظلام، وأن لنا مفهومنا وتعريفنا ومعاييرنا التي نحدد في ضوئها تلك القوى سليمة وتختلف عن معاييره ، وتستند إلى إرث حضاري عريق وتستمد منه . إننا قوى خير وحق ونور تتصدى للظلامية التي نعاني منها، وأكثر ما يجسدها في منطقتنا الاستعمار والعنصرية الصهيونية وازدواجية المعايير وسياسات القمع والإحباط وتشويه الحقائق والوقائع والمواقف والمبادئ والثقافات والقيم .‏
                    إننا قوى تعمل على ربط الحرية بالتحرير والتحرر، وربط السلام بالعدل، والإبداع بالقيم؛ قوى تقاوم الاحتلال والاستعمار والاستغلال والتجويع والنهب والقهر، بكل أشكالها. وقد كنا وما زلنا ضحايا ظلامية العنصرية، وضحايا من يزعمون أنهم قوى الحرية والانفتاح والتنوير، من الاستعماريين والصهاينة ومن يربط مصيره بوجودهم ويناصر ظلمهم، ولا يجرؤ على رفع إصبع الاتهام في وجوههم.‏
                    ونود أن نؤكد للسيد مايور أن من قدَّموا له المعلومات والنصيحة باتخاذ هذا الموقف من اتحاد الكتاب العرب غشوه تماماً، ولم يكونوا مخلصين للحرية والحقيقة والثقافة، بل مخلصين لأنانيتهم المفرطة؛ وأرادوا أن يجيِّروا مواقف المنظمة لخدمة تطلعاتهم ومشاريعهم. كما نحب أن نوضح ونؤكد أننا لا نخضع للتخويف، وأننا مهما قيل، فينا وعنا، سوف نرفض تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الذي يحتل أرضنا ويشرد شعبنا ويشوه ثقافتنا ويفسد قيمنا، ويبيد الإنسان العربي في مدننا وقرانا المحتلة، في فلسطين والجولان وجنوب لبنان؛ وبذلك نكون أخلاقيين وإنسانيين فعلاً ، مع السلام الحق والحرية وحقوق الإنسان. وأننا لن نتخلى عن حقوقنا التاريخية وثوابتنا وقيمنا وعقائدنا تحت تأثير حملات الإرهاب التي تُشن علينا بأشكال مختلفة وتحت مسميات وشعارات وذرائع مكشوفة ومرفوضة؛ ولسنا بحاجة مطلقاً إلى شهادات على " الحضارية " ندفع ثمنها أرضنا وكرامتنا وهويتنا الثقافية. وندرك جيداً أن هدف تلك الحملات هو أن نصاب بالإحباط واليأس ونُجبَر على الانصياع لمشروع " سلام الاستسلام" الذي تمليه "إسرائيل" بدعم غربي وتهديد نووي، لتكريس وجودها واحتلالها على حساب حقوقنا وكرامتنا وتقدمنا؛ وهذا ما لا نرضاه ولن نستسلم له أبداً.‏

                    إن وضوح حقنا ومواقفنا ومبادئنا كوضوح الشمس، ولكن هناك من اعتاد على الضباب ولا يحب أن يرى الشمس، فماذا نعمل له يا سيد مايور؟ على أن هذا لا يغير من حقيقة أن الشمس موجودة ومشرقة وكذلك حقوقنا .‏

                    دمشق في 16/ 2 / 1995‏

                    الأسبوع الأدبي/ع452//23/شباط/1995‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #85
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      توكيد على المؤكد
                      لا يذهب بي الظن إلى حدود اتهام كاتب بعدم القدرة على فهم ما يقال أو ما يكتب، لا سيما إذا كان ذلك الذي يقال أو يكتب: واضحاً مباشراً دقيقاً ومحدداً، يرتبط موضوعه بما تعج به البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية المحيطة به، من معطيات وتوجهات وممارسات.‏
                      ولا أسوِّغ لنفسي، كما لا أستسيغ من غيري، قراءة مشوهة أو مشوشة لأي موضوع أو قضية، سواء أَ أملاها التسرع أو فرضتها السرعة، أو أوحى بها الإغراض والهوى، أو تسببت بها عوامل موضوعية؛ ومن ثمة فإنني لا أقر إصدار حكم، أو القول برأي، أو اتخاذ موقف، استناداً إلى هكذا قراءة. وأنا أربأ بكاتب أو متصل بالكتابة، أن يتخذ موقفاً من قضية أو موضوع من دون أن يكون مزوداً بكل ما يمكنه من تكوين رأي وموقف يرتاح إليهما تماماً.‏
                      واستهجن إلى حدود الدهشة والامتعاض، القفز المتعمد فوق معطيات ووقائع وحقائق وتوجهات ملموسة، والذهاب إلى حدود الافتعال الموظف توظيفاً سلبياً واعياً لأهدافه وغاياته؛ وإبداء آراء، واتخاذ مواقف، مشحونة بالمغالطات، ومبنية على معطيات اللحظة الانفعالية، أو على رصيد من التوهم والمغالاة، ثم المضي من ذلك وبعده إلى تغليف ذلك كله ببراءة وشجاعة المدافعين عن الحق والحرية والتعددية وشرعية الاختلاف وضرورته، حيث يبنى على جدث الحق عرش باطل.‏
                      وأجدني مشدوداً إلى مشهدية مسرحية مريعة حين أرى إلى نفر من هذا الفصيل أو ذاك، يفعل كل ذلك ويوظفه على هواه، ويعوِّم نفسه ويعوم فوق الحدث، ويركب التيار باستكبار؛ من دون أن يرف له جفن. ويزيد الأمر سوءاً حين يتسنم أولئك النفر سدة الوعظ والإرشاد بتعال سقيم يرشح منه التظاهر الخشن بحرص على الثقافة: دورها وأدائها، وعلى مناخ المثاقفة والديمقراطية و"الانفتاح الفكري"، بينما تاريخ من الممارسات السلبية السوداء يجرجر نفسه ويسحب ظلاله ويصرخ بعكس كل ذلك الذي يسيل به الوعظ والإرشاد والانتقاد!؟!.‏

                      أما المزاد المفتوح، باسم ثقافة السلطة وإيحاءاتها وتدخلاتها، فلم يعد يثير في النفس أكثر من السأم، بعد أن تدنى مستوى ذلك النشيد، وتكشف ما تكشف من زيف وخفايا وممارسات؛ وبعد أن تبيَّن لكل من يريد أن يرى ويعرف ويعي، مَن الذي يضرب بسيف السلطة ومَن هو المقتول بذلك السيف، مَن يأخذ قرارها ويصادر باسمها ويشوه إرادتها ووجدانها ويتستر من بعد بمعارضة يستغلها، ويستمر في ضرب الآخرين سراً وعلناً، بسيفي السلطة والمعارضة معاً؛ قاطفاً ثمر اللعبة التي غدت خشنة وكئيبة.‏
                      لقد أشرت إلى هذا لأنني أثق بقدرة الكتاب على الرؤية والتمحيص والوصول إلى قراءة الخلفيات التي للمواقف، وما يخفى بين السطور؛ وبقدرتهم في الوقت ذاته على التمييز والاختيار، والدفاع عما اختاروه. وأشرت إليه في مطلع تأكيد وتوضيح لا بد منهما بعد أن تبيَّن لي، من متابعتي للآراء التي أبديت حول موضوع إزالة صفة عضوية اتحاد الكتاب العرب عن الشاعر أدونيس، أن هناك ضرورة لتكرار المُعاد وتأكيد المؤكد وتوضيح الواضح؛ لعل في ذلك خير، وتوفير لجهود وطاقات قد تصرف في مواجهات ومتابعات ملحة.‏
                      1- إن رفضنا للتطبيع مع العدو الصهيوني، كان ولم يزل وسيبقى، رفضاً شاملاً لكل أشكال التطبيع وأنواعه ومستوياته في كل مجال من مجالاته: السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي... الخ. ولا نعرف من أين أتى الكلام على تطبيع ثقافي بمعزل عن سواه. وقد نصَّ ميثاق المثقفين العرب الذي أقره المؤتمر العام للأدباء والكتاب العرب في عمان نهاية 1992 وأقره مؤتمر اتحاد الكتاب العرب وأكده في مؤتمراته، نصَّفي الفقرة الأولى منه على ما يلي:‏
                      "الصراع العربي الصهيوني صراع وجود مع وجود، ولم يكن يوماً ولن يكون أبداً نزاعاً على حدود بين العرب والكيان الصهيوني الدخيل المفروض عليهم. ويتحدد موقف المثقفين من السياسات والتيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية في ضوء مواقفها من ذلك الصراع ونظرتها إليه. وينسحب هذا الرأي والموقف على كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني وكيانه في فلسطين المحتلة، وعلى دعاة التطبيع ورموزه وممارسيه والمروجين له."‏
                      وقد بينا في مؤتمراتنا وكتاباتنا- نحن الذين اخترنا هذا الاختيار- أننا ضد الاعتراف بالعدو الصهيوني وضد ما يُبنى على ذلك الاعتراف من تطبيع للعلاقات في أي مجال. وهذا يتضمن موقفاً واضحاً وصريحاً مما يتم على الساحة السياسية العربية كلها، في زمن من التراجع والمتغيرات التي أتت لمصالح العدو الصهيوني ابتداء من قمة فاس وانتهاءً بما نتج وما قد ينتج عن مؤتمر مدريد. فالمفاوضات ستؤدي- في حال نجاحها- إلى اعتراف والاعتراف إلى تطبيع، ونحن نرفض الاعتراف والتطبيع، كما نرفض المماحكات اللفظية، والشكلانيات التي تريد أن تزجَّنا في تفحُّص تفاصيل النتائج بينما لا نقبل بالمقدمات. ولأننا نرفض الاعتراف بالعدو فإننا نرفض التطبيع بَلْه تعريفه الذي لا يحتاج إلى شيء.‏
                      وقد أعلنا عن ذلك الموقف وأكدناه في مؤتمراتنا وفي اجتماعات مجلس الاتحاد وفي بياناتنا ومقالاتنا، وتؤكده أحكام المرسوم التشريعي الذي أحدث بموجبه الاتحاد، ونظامه الداخلي واللائحة التنفيذية للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ومواثيقه وقرارات مؤتمراته وبياناته بما لا يقبل الشك. فلماذا يتم التغاضي المتعمد عن ذلك، أو القفز فوقه؟ ولماذا يلجأ بعض الكتاب إلى إشاعة شكوك وأوهام حول هذا؟‏
                      إننا منذ بداية الأزمة التي أدت إلى حرب الخليج الثانية، وحتى يوم الناس هذا، مروراً بمدريد والمفاوضات والاتفاقيات التي يتلطَّى خلفها مثقفون ويدافعون عنها بأشكال مختلفة، نتابع ونعلن أننا لن نعترف بـ " إسرائيل " حتى لو اعترفت بها الدول جميعاً، ولن نقبل أي تطبيع لأية علاقات معها لأننا نرى في وجودها ذاته تكريساً للعدوان وإلغاء للدور المبدئي الخُلُقي والإنساني والشرعي- للثقافة المتمسكة بعدل وحرية ومبدئية قيمية؛ فضلاً عن حقنا القومي الذي سخر منه في يوم قريب من يرون مستقبلاً للمنطقة لا يرتبط لا بالقومية العربية ولا بالهوية الثقافية التي لهم عبر التاريخ؟!.‏
                      وقد دعونا إلى الحوار على أرضية الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف، واحترام حرية الرأي تحت سقف الحق والحرية والوطن، فلماذا يصادر"التطبيعيون" هويتنا واختياراتنا وحقنا في أن نختار ونعلن الاختلاف، وفي أن نطبق قوانين أظلت الجميع، في الوقت الذي يُقبلون فيه على الدفاع عمن اختار أن يعتبر العدو الصهيوني المحتل لأرضنا صاحب حق طبيعي وتاريخي في"أن ينتمي جغرافياً لمنطقتنا" ودعاه لأن يصبغ "هويتنا غير المعطاة" بصبغة ثقافته وعقيدته وصهيونيته العنصرية، التي تمتد وتشتد تحت وطأة القوة النووية والدعم الأميركي والتراخي العربي أو الانهيار العربي؟.‏
                      إننا مع كل ممارسة للوعي والحرية والاختيار. وحق الاختلاف يغدو مشروخاً ومريضاً عندما يتم على أرضية التسليم لقوة الاحتلال والقهر بما تريد، وإقامة الحوار على أرضية الاعتراف بالعدو الصهيوني العنصري وحقه في أن يطارد الشعب الفلسطيني وأن يبيده.‏
                      2- في المجال الثقافي يؤخذ بالحوار ويقود الحوار إلى إنضاج رؤى ومواقف وإلى اختيارات واضحة، وإلى تشكيل قناعات معينة، وبعد ذلك. كيف ستحسم القضايا التي تحكمها قوانين وأنظمة ومواثيق داخل مؤسسات قائمة على أرضية تلك القوانين والأنظمة والمواثيق؟ أليس بالممارسة الديمقراطية؟! وهل تقبل الممارسة الديمقراطية والقوانين غير التطبيق لها باحترام ومساواة ؟! أم أن المثقفين فوق القانون، حتى ذلك الذي يضعونه بأنفسهم لأنفسهم؟! وهل يكونون في تلك الحالة، رواد حضارة، وطليعة مجتمعات تسودها مؤسسات المجتمع المدني التي يدعون إليها؟!.‏
                      ولِمَ يقبل بعضهم أن يعيش تحت رحمة مواد"قانونية" أو تنظيمات إدارية متدنية في بلدان غير بلدانهم؟! هل لذلك من تفسير ؟!.‏
                      في المؤسسة[الاجتماعية- السياسية- الثقافية الكبرى] الدولة، يتساوى المواطنون أمام القانون، ويحتكمون إلى نصوصه ويقبل الناس"المتمدنون" حكم القانون، لأن في ذلك حماية للفرد والمجتمع والمؤسسة الاجتماعية/ الدولة، في ظل عدالة وشرعية منشودتين؛ ويبقى التمايز قائماً بين الأفراد في المعرفة والمكانة والتضحية وخدمة الوطن، دون أن يشكل ذلك خللاً في تطبيق القوانين. وفي المؤسسات الثقافية[اتحادات- نقابات- روابط- أندية... الخ] لا بد أن يصل أعضاؤها[المبدعون- المفكرون- الأدباء- الكتاب- الفنانون.. الخ..] ، بعد الحوار على ما قد يختلفون عليه، إلى ضرورة اتخاذ قرارات في ضوء الأنظمة والقوانين والمواثيق التي تحكم مؤسستهم فكيف يصلون إلى ذلك؟! أليس بإعمال الديمقراطية!؟.‏
                      - حيث تأخذ الديموقراطية في نهاية المطاف تعريفاً عملياً هو : " نتيجة 50 + 1 " التي تقود إلى قرار لا ينهي الاختلاف في الرأي، ولا يلغي حرية التعبير، ولا يصادر الأعماق، ولكنه يرجِّح كفة على كفة وموقفاً على موقف؛ تطبيقاً للقوانين والأنظمة؟!.‏
                      3- لقد أكدنا مراراً وتكراراً أننا في المؤتمر العام لاتحاد الكتاب العرب 27/1/1995 لم نقوّم أدونيس/ الشاعر- الكاتب- المثقف/ بل ناقشنا موقفه المعلن من قضية تمس أهداف الاتحاد المعلنة. والقرار الذي اتخذه المؤتمر العام للكتاب بإزالة صفة عضوية الاتحاد عنه يرفض موقفه السياسي، أو ذلك الذي أراد أن يوظف الثقافي في خدمة سياسة معينة هي اتفاقية أوسلو تحديداً؛ وذلك لا يلغي مكانته الشعرية أو الثقافية، ولا يحرمه من حرية التعبير، ولا يضيِّق عليه في شيء. فلماذا تعمُّد الخلط بين الأداء الإبداعي والأداء السياسي الشخصي؟! ولم التغاضي المتعمَّد عن توجه ثقافي يريد أن يوظف الثقافة توظيفاً سياسياً فاقعاً يخدم المحتل الصهيوني والخط الأميركي والاستسلامية العربية المفرِّطة بأبسط الحقوق الثابتة ؟ وشد شَعر توجه سياسي يريد أن يرفض الاحتلال الصهيوني والتفريط والهيمنة الأميركية على المنطقة، وزجه في موقف"ثقافي" يريد أن يرفض توظيف الثقافة لأغراض سياسية لا تتلاءم وأبسط الثوابت المبدئية والقومية والخُلُقيَّة والإنسانية؟!.‏
                      ماذا يسمى هذا المنصفون الحضاريون؟! ومن ثم هل مكانة مبدع ما/أدونيس أو سواه/ تضعه فوق القوانين والأوطان ودماء الشهداء ومعاناة الشعوب؟! وتبرر خرقه لما يراه مبدعون ومثقفون آخرون وأبناء أمة- الشرائح العظمى منها- حقاً تاريخياً مقدساً يريقون عند جذعه الدماء؟! أليس هذا التطويب والتطريب -لخرق القيم وجرح مشاعر الناس باسم"حرية.. "- هو تدمير للقيم والحق والحرية، وإهدار للإبداع الذي ما كان ولا يكون إلا من أجل الناس والحق والعدل وقيم الحرية؟!.‏
                      حاول البعض أن يرى في قرار المؤتمر العام لاتحاد الكتاب العرب بإزالة صفة العضوية عن الشاعر أدونيس، بسبب ما قاله في غرناطة، وما دعا إليه ويدعو إليه من تطبيع، بعبارات ومواقف مدروسة وموظفة جيداً في آنٍ معاً؛ قراراً متسرِّعاً. ونسي أولئك أن القضية مطروحة فعلياً منذ 8 - 11/12/1993 أي منذ ندوة غرناطة التي حضرها بيريس وعرفات للاحتفاء"بتنفيذ أحكام" اتفاقية أوسلو، حيث أريد لذلك الاجتماع "أو الندوة" أن يحقق الاختراق الثقافي عربياً بعد أن تحقق الاختراق السياسي.‏
                      إن رابين هو الذي لم يتمم فرحة أولئك لأنه أجل التنفيذ: " لا يوجد مواعيد مقدسة " نسي أولئك الأمر أم تناسوه، أم أن قسماً منهم لم يتابعه، وتناسوا ما دار من حوار وما كتبه أدونيس رداً على ذلك.. ولا أجد لهذا المذهب في الحكم والقول مبرراً بل أرى فيه ذرائعية غير موفقة.‏
                      وحاول آخرون أن يزعموا أن أهداف الاتحاد ومواثيقه وأنظمته لا تنص على إزالة صفة العضوية عن أحد، وأن قراراً من ذلك لم يتخذ سابقاً!؟! وأبسط ما يقال في هذا إنه جهل أو تجاهل لا يغير من حقائق الأمور ولا من الوقائع المثبتة.‏
                      كما حاولت"ميليشيات" ثقافة التطبيع، والتطبيع الثقافي، أن ترى في القرار لا عدواناً على حرية التعبير والرأي فقط، بل تطرفاً وإرهاباً وظلامية"وبَدْوَنَة دمشقية" -يا للعجب- ومضى فريق"معتبر المكانة" إلى تشبيه ذلك بطعن نجيب محفوظ، بل إنه لم يفرق بين الحدثين !؟.‏
                      وقد أشرت بما أظنه كافياً لتوضيح ذلك في مقابلتين إحداهما مع الشرق الأوسط منشورة أيضاً في مجلة"إلى الأمام" وفي "الأسبوع الأدبي"*، والأخرى مع مجلة(فتح) /أشرت إلى ذلك تجنباً للإطالة هنا/ ولا أظن أن من ذهب هذا المذهب ـ متأثراً بالدروس الصهيونية المستفادة التي تتعمد التشويه والتزوير وخلط الوقائع والذهاب إلى المدى الأبعد في الهجوم حتى لا تكون في موضع الدفاع، ووضع الضحية في موضع الجلاد، وربما كنا المعتدى عليهم وعلى وطنهم ـ من أولئك الذين يناصرون المحتل لأرضنا ويقفون معه ويعترفون بحقوقه الجغرافية والتاريخية، لا أظن أن ذلك أو أولئك ، يريدون أن يرونا أو أن يسمعونا أو أن ينصفونا ؛ بل هم يعمدون إلى اختراق قلوبنا وعقولنا ووجداننا، بأسلحة الغرب وتهمه وأساليبه وتهجمه وتعاليه، في الوقت الذي يجردوننا فيه من حقنا في أن نصرخ ونحن نُذبح... بحجة أننا"متخلفون" وأنهم شربوا حليب"الحضارية- الحداثية التقدمية- المدنية".. من أثداء الصهينة بالذات فحق لهم بذلك إلغاؤنا، وفرض"حريات إذعان" علينا، بقوة الانتماء إلى من يملكون"الحضارية والديمقراطية والأسلحة النووية والممارسات العنصرية معاً"!؟.‏
                      وهكذا يتوهمون أنهم سينجحون -وقد ينجحون فعلاً- في ركوب الموجه المتقدمة دائماً، في عصر الحرب الباردة وسواه ؛ فذاك نهج أناس معروفة تواريخهم وممارساتهم .‏
                      يحاول أدونيس ومن يوافقه أو يقتبس منه آراءه أن يُدخلوا في روعنا وبأسلوب لا ينقصه التعالي، أن التطبيع ومقاومة التطبيع- لا سيما الثقافي، وهم الذين فرقوا وليس نحن- ألهية للمثقفين!! وفي ظل ذلك الطرح بالذات يمارس"التطبيع الثقافي" الذي يرمي إلى أن يجعل من وجودنا كله، كمثقفين، مجرد ألهية؟! فهل في هذا احترام للعقل، وإعمال للوعي، واحترام للآخر الشريك في الشرط الإنساني والمصير الإنساني؟! ولا نقول: القومي- الثقافي- الخُلُقي.. الخ ..؟!‏
                      لقد بقي الكثير مما ينبغي التأكيد عليه، ولكن المجال لا يتسع لذلك سوف أكتفي بإشارة مقتضية إلى أمرين:‏
                      - أولهما أن القضية لم تعد -وربما لم تكن أصلاً- قضية إزالة صفة عضوية اتحاد الكتاب العرب عن أدونيس- تلك العضوية التي نحترمها ولا يرى آخرون رأينا بحكم تمسكهم بفردية فوق المؤسسات والوطن والمجتمع المدني!؟ ـ بل هي قضية التطبيع وموقف الرافضين له، ومحاولة حصار أولئك قبل أن يكوِّنوا جبهتهم، ويكون لهم شأنهم؛ وقبل أن تحين مواعيد استحقاقات معينة قد"يشاغبون" عليها.‏
                      ومن الملاحظ أن بعض الكتاب الذين أبدوا رأيهم ودافعوا عما سموه"قضية الشاعر أدونيس" لم يقرؤوا جيداً كلمته في غرناطة، ولا دفاعه ولا لقاءاته اللاحقة.‏
                      - وثانيهما أن القرار المشار إليه اتخذ في مؤتمر عام للكتاب، وحاول بعض سدنة الأيديولوجيا تحويله إلى مسؤولية شخصية، وذلك نهج لا جديد فيه ويكفي أن نشير إلى استمراره وآثاره وأخطاره.‏
                      ختاماً أيها الكرام.‏
                      إننا بحاجة ماسة إلى إعادة نظر جذرية بكثير مما ثبت واستقر وران عليه الماء، وبكثير من حقائق الإعلام، وحقائق فترة الحرب الباردة، لأنها ليست حقائق على الإطلاق. ونحن بأمس الحاجة إلى إعادة النظر بتراتبيات وبدهيات ومسلمات لإعادة ترتيب البيت الثقافي العربي، الذي يحتاج، على أيَّة حال، إلى إعادة ترتيب.‏
                      ـــــــــــــ‏
                      * نصوص هذه اللقاءات منشورة في ملحق بنهاية الجزء الأخير من الكتاب .‏
                      الأسبوع الأدبي/ع453//9/آذار/1995‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #86
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        نحو الحقيقة
                        لا أريد الآن أن أتوقف عند حملات التهويش والتشويه والتهييج التي تنظم ضد اتحاد الكتاب العرب وضد قرار مؤتمره العام بفصل الشاعر أدونيس لمخالفته أهداف الاتحاد، فقد تعرفنا منذ زمن بعيد على هذا الفرع من فروع الاختصاص الإعلامي ـ السياسي وعلى رموزه وأساليبه وممارساته الميليشياوية المقنَّعة بالحضارة والملمعة حسب الأصول الغربية، وندرك جيداً أن الخبرات المكتسبة ستوظَّف تحت ذرائع مختلفة لمهاجمة كل من يتمسك بمبدأ وقانون وميثاق وحق وأرض وكل من لا يقبل بأن تمسح ذاكرته ويتعرى من كل ما يتصل بهوية عربية وأصالة قومية واعتقاد لا يعجب العنصرية الصهيونية والمناصرين للاعتراف بها ولاستقرارها في المنطقة وهيمنتها عليها.. ندرك جيداً أن حملة التعمية ستظلل سماء العقل، وتغرق القيم، وتعطل الرؤية والقدرة على التمييز، وأنها تستهدف إرادتنا وتعمل على إلحاق الإبادة الروحية بنا، وأنها تستمر في ظل النظام العالمي الجديد ورعايته وحمايته وتشجيعه وبإشراف سدنته؛ وأدواتها: قوى حسنة التدريب والاطلاع والتنظيم تعمل خلف ستار من البلور المسلح، يضاهي قوة الستار الحديدي الذي طالما انتقده الغرب .‏
                        إن عسكرتاريا ثقافية تعمل لتنفيذ خطط هدفها تخريب ثقافتنا وقيمنا ومقومات هويتنا، وتدمير كل أنواع المقاومة التي نبديها للحصول على حريتنا وللوصول إلى امتلاك القوة والحصانة القيمية والقومية اللتين تمكناننا من السير في طريق التحرير والتحرر، على أرضية الانتماء والأصالة والتمايز. لا أريد الآن أن أتوقف عند ذلك الذي يستمر منذ زمن بأشكال مختلفة، ويتجدد الآن بشراسة بعد انتصار " الكابوي " على الدب الأبيض؛ بل أود التوقف عند أمر استشعر الحاجة إلى التوقف عنده وهو أن كثيرين من المهتمين لم يطلعوا على ما تضمنه مؤتمر غرناطة الذي عقد بين 8 - 10/ كانون الأول 1993 ذلك المؤتمر الذي وظَّف الثقافي في خدمة سياسة لا تخدم سوى الكيان الصهيوني، ورسم سياسة ثقافية من شأنها أن تحدث تغييراً في العمق التربوي والتاريخي والقيمي والوجداني لأبناء أمتنا، هدفه الاستسلام لمشاريع التحالف الجهنمي الأميركي - الصهيوني، الذي ما زال مستمراً منذ أكثر من اثني عشر عاما في تركيز التحالف العسكري وتخزين السلاح، وإجراء التدريبات المشتركة في فلسطين المحتلة، ليمارس من هناك هيمنة مطلقة ـ رأس حربتها الكيان الصهيوني المحتل ـ على المنطقة كلها؛ وليعد من هناك هجماته على من يصنفهم الأعداء الخطرين والأهداف الرئيسة لحلف شمال الأطلسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو. أولئك الأعداء الذين يرى أنه من دون إبادة فاعليتهم لن تبقى مصالح الأميركيين وقلعة الصهيونية المتقدمة بأمان؛ وهم: العناصر القومية والإسلامية في المنطقة (تلطيفاً) والمعني فعلاً العروبة والإسلام بشكل مطلق مكشوف صريح هناك في دوائر القرار والتخطيط والتنفيذ.‏
                        حضر مؤتمر غرناطة خمسون " تقريباً " من المثقفين العرب واليهود والأوربيين، وعُقد تحت شعار "الانتقال من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام"، وتم برعاية اليونسكو؛ وهو توظيف للمنظمة الدولية في خدمة أهداف سياسة معينة هي تلك التي حققت اتفاق / أوسلو / غزة - أريحا / ثم وادي عربة؛ وأهدافها أوسع من أن تحصى.‏
                        كان من بين المشاريع الأربعة عشر التي ناقشها المشاركون أو تلك التي أريد توظيف قدراتهم لمساندتها المشاريع الآتية:‏
                        ـ إحداث مركز علمي في مرتفعات الجولان‍‍. والجولان أرض سورية محتلة.‏
                        ـ إعادة كتابة تاريخ المنطقة الذي سيحققه (يقوم به) مؤرخون من عدة جنسيات في الشرق الأوسط .‏
                        ـ اتفاقيات ثقافية متضمنة النشر والإعلام (إذاعة وتلفزيون) كانت قد وقعت ويجري تنفيذها والبرمجة لذلك .‏
                        ـ موضوعات التربية وإعادة النظر في المناهج لأنها " الوسيلة الناجعة لبناء السلام الإيجابي " إضافة إلى " مشروعات الزراعة وتقاسم المياه والتعاون بين الجامعات الفلسطينية والإسرائيلية والأوربية.‏
                        وقد ركز شمعون بيريس الذي شارك ياسر عرفات في افتتاح الملتقى على الهدف الأساس لهذا التوظيف المكشوف للثقافي في خدمة سياسة - "سياسة صهيونية - أميركية استعمارية - استيطانية بالذات " حين قال للمثقفين: " إن السلام القادم ـ يعني ذلك الذي يُبنى في ظل اتفاقية أوسلو - أثمن جداً من أن يُترك بين يدي السياسيين، أكلمكم بصفتي سياسياً ". ولذلك يريد أن تلعب الثقافة دورها في الاعتراف والتطبيع، وأن يزج مثقفين في ذلك لأنه يدرك تماماً أن المدخل الفعلي لقبول الكيان الصهيوني في النسيج الجغرافي والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني للمنطقة هو مدخل ثقافي يستند بالدرجة الأولى إلى التربية وإلى مقومات ما يكوِّن الوجدان الفردي والجمعي وما يتصل بالذاكرة والتاريخ والوعي؛ وكل ذلك فعل تقوم به الثقافة بمفهومها الشامل. ولم ينس مدير عام اليونسكو أن يشير إلى ذلك ويركز عليه، حيث جاء على لسانه في الإعلان المعد من قبل المثقفين في غرناطة: " إن بعد الخُلُقي " الأدبي " والثقافي والإنساني يتقدم على ما سواه، ومن دونه لا يدوم أي اتفاق سياسي أو اقتصادي" . وهذه بصريح العبارة دعوة لإحداث خروق كبرى في المجال الثقافي ترسخ اتفاقيات الإذعان ونهج التصفية والتسوية.‏
                        على هذه الأرضية عقد لقاء المثقفين في غرناطة، الذي شارك فيه أدونيس، وهو لقاء عقد للاحتفال بمرور ثلاثة أشهر على توقيع اتفاق " أوسلو" ليكون ختامه يوم بداية تنفيذ الانسحاب العسكري الذي رفضه رابين؛ وقال يومها لا يوجد تاريخ مقدس. لأن عرفات والمثقفين الذين يقرون اتفاق " أوسلو" وما هو أردأ من اتفاق " أوسلو " لم يقوموا بعد بالمهمة المطلوبة ليكسبوا الثقة وليحققوا لـ " إسرائيل " أمنها الراسخ، الذي لا يمكن أن يتم من دون تزييف الوجدان القومي العربي، وتشويه المعرفة، وتدمير الثقة بالذات والهوية والتراث والقومية والإسلام معاً؛ على أرضية شهادات "الحضارية" و"الحداثة " والحرية الفردية التي هي، حسب ذلك المفهوم، أعلى من الوطن والقانون والأنظمة والناس ـ عند أشخاص معتمدين ـ وليس بالنسبة لكل شخص؛ وعلى أرضية ديمقراطية مزدوجة المعايير .‏
                        وبعد هذه الإلماحة إلى خلفيات ملتقى غرناطة أجد أن البعض لم يطلع على كلمة الشاعر أدونيس التي حدد فيها موقفاً، واتخذ مؤتمر اتحاد الكتاب العرب قراره بشأنه حول ذ لك الموقف السياسي، الذي وظَّف ثقافةً لخدمة سياسةٍ تتعارض وأهداف الاتحاد ومواثيقه. ولذلك أود أن أتوقف عند بعض ما جاء فيها موضحاً، للذين يدأبون على خلط الأمور والأوراق، أن اتحاد الكتاب العرب ليس نقابة مهنية يُكْرَه كلُّ كاتب على دخولها لتتاح له ممارسة " المهنة "، وأنه حين تُزال صفة العضوية عن كاتب عضو فيه لا يعني ذلك حرمانه من شيء على الإطلاق أو التضييق عليه في شيء، وإنما يعني بالدرجة الأولى إعلان الاختلاف وبداية الحوار على أرضية الاختلاف احتراماً للجميع.‏
                        عندما يقول أدونيس " بانتماء " إسرائيل " جغرافياً إلى منطقتنا "، أي بإقرار شرعية اغتصاب أرض الغير بالقوة وبشرعية الاحتلال، وبحق المحتل في أن يمنح أرضاً سرقها وطرد أهلها منها، أن يمنحها هويته الثقافية ويصبغ ما تبقى من الناس فيها بصبغته، ويقول بهوية ثقافية مفتوحة للمنطقة مما يعني زلزلة هويتها الثقافية العربية أو بعدم تمكن الثقافة العربية عبر كل تلك الآلاف من السنين التي عمَّر خلالها العربُ هذه الأرض وقدموا، انطلاقاً منها، للعالم كله: الكتابةَ، وأول أبجدية في التاريخ، والعقائدَ المفتوحة لكل بني البشر،التي تحترم كل بني البشر. وعندما يأخذ على مفكري الغرب أنهم لم يعملوا بما فيه الكفاية للخروج بمشكلة المنطقة " من خناق العداء والحرب إلى أمن حضاري هو أفق الاعتراف المتبادل وإحياء الروابط التاريخية وتشجيع آمال مستقبلية في التعايش والتبادل والتعاون .." أي اعتراف العرب بـ " إسرائيل " واعتراف "إسرائيل" بالعرب (؟!..) وإحياء " الروابط التاريخية " بينهم ؟! أي الروابط التاريخية بين اليهود الخزر وسلالات العرب منذ ما قبل العموريين مروراً بالكنعانيين ووصولاً إلى الفلسطينيين المعارضين لاتفاق " أوسلو "؛ والتعايش بين الجلاد والضحية، بين العنصرية الصهيونية والذين تعتقلهم في معتقلات أنصار، وأولئك الذي تبيدهم يومياً وتشوه ثقافتهم وآدميتهم وحضورهم البشري، حتى لا يطالب أحد منهم بفلسطين. "وإقامة التبادل " بكل أنواعه وأشكاله وكذلك " التعاون "، نعم تعاون كذالك الذي يقوم بين الموساد وعرفات ضد المنتفضين في غزة وضد حماس والجهاد وكل من يطالب بأرض وحق وكرامة؛ وكذالك الذي يقوم أيضاً بين سَدَنَة اتفاقية وادي عربة و" الإسرائيليين " . / الاقتباس بين قوسين من مقالة أدونيس: الصلاة والسيف والديمقراطية المتوحشة /‏
                        عندما يقول أدونيس بكل ذلك ويزيد عليه "متحدياً إسرائيل" بأن تحقق الانفتاح والتطبيع الذي تريده هي، إنعاشاً لمشروعها الاستيطاني التوسعي وتثبيتاً لمرحلة سرقة وطن الفلسطينيين واحتلال هوامش إضافية عليه؛ يزيد عليه المطالبة بالزواج المختلط بين العرب واليهود لتحقق " إسرائيل " أيضاً خصائص التمازج والتنوع في ثقافة المنطقة، التي تنتمي إليها " وعندما يدعو في غرناطة / في الندوة التي وظَّفت الثقافة لمصلحة حدث سياسي معين: اتفاق أوسلو تحديداً / وهدفت إلى أن تكون احتفالاً بتطبيق ذلك الاتفاق بعد ثلاثة أشهر من توقيعه 8 - 10 /12/1993 بحضور رمزيه بيريس وعرفات؛ أقول عندما يدعو إلى ربط مسألة السلام / ذاك السلام / بمسألة الهوية ويؤكد أنه " دون هذا التمازج سيبقى السلام سطحياً إذا حدث قائماً بين هويات مغلقة ومتنافية سيبقى سطحياً ومن خارج" ويصل بعد ذلك إلى إقرار في صيغة تقرير أو قرار نصه الآتي : / هكذا يستلزم السلام - أي السلام المحتفى به في غرناطة، سلام أوسلو النووي ـ على المستوى الثقافي إعادة ابتكار الأفكار والمفهومات حتى الهوية ذاتها، لا تعود في هذا الإطار معطاة - / وأرجو أن يلاحظ ذلك / وإنما تصبح سؤالاً وبحثاً، تصبح بتعبير آخر " انتظاراً متواصلاً " - الاقتباسات من كلمة أدونيس في ندوة غرناطة 10/12/1993 وكالة الصحافة الفرنسية - عندما يدعو أدونيس إلى ذلك كله، ويرى أن الذين لا يقرونه على ذلك، أو الذين يعارضونه أو يرفضون ما ينادي به، ويعلنون اختلافهم معه، لا سيما من أبناء المنطقة الذين يعانون يومياً من الصهيونية والاحتلال ويتعرضون للترويع والتجويع وأشكال الاستنزاف والقمع يومياً، يرى فيهم: " الظلامية والضغينة وعقلية الدس والاتهام والغباء والانحيازية الأيديولوجية الشخصية والمسكنة العمياء " / من رسالته إلى أصدقائه في 10/4/1994/ عندما يقول أدونيس كل ذلك وما هو أكثر منه، ويستعدي " الحضاريين " ـ أي الصهاينة والغربيين ـ على أبناء المنطقة المتخلفين ليخلصوهم من هويتهم ووطنهم وخصوصيتهم وانتمائهم الضيق.. الخ، ويذهب إلى حدود أن يرفض تحريراً يأتي به الإسلاميون، ويقبل بسلام ناقص - أي استسلام أو اتفاقات إذعان مثل " أوسلو " ووادي عربة - فهو بذلك يعلن كما يعلن الصهاينة والغرب الاستعماري هذه الأيام وكما وضح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الذي دعا إلى مقاومة الإسلام بوصفه الخطر القائم الآن والذي يشكل الخطر البديل للشيوعية التي كان يحاربها الحلف؛ ويرضى من موقعه أن يضع الثقافة في خدمة كذا سياسة؛ عندما يفعل ذلك يجعلنا نتساءل ما الذي يقوم من فرق بين هذا الذي يؤمن به ويعمل له ويدعو إليه وبين من دعوا فرنسا وبريطانيا في مطلع القرن الحالي إلى احتلال بلاد الشام ليتخلصوا من الحكم العثماني ؟! وهل كان في ذلك الاستعمار خلاص فعلاً ؟!. عندما يقول أدونيس بذلك كله وبسواه مما لا يتسع المجال لذكره هنا فإنه يغدو من المشروع أن يوجه إليه سؤال ينشر وينتشر في الفضاء الثقافي العربي، يقول: هل هذا هو انتماء للحقيقة والعدالة والحرية، وهل فيه إنصاف لأدونيس ذاته، الذي عانى يوماً من حصار الصهاينة لبيروت وأهلها ؟!‏
                        * إنني أتفهم هذا في الإطار المعرفي الإنساني العام إطار المثاقفة على أرضية الأمن والثقة والسلام الحق ولا أفهمه حينما يصبح أيديولوجيا سياسية عنصرية ترمي إلى محو هوية الآخرين أو تشويهها بالتعاون مع قوى تعلن عزمها على ذلك !‏

                        الأسبوع الأدبي/ع454//16/آذار/1995‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #87
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          مواجهات واحتمالات قائمة
                          بعد عملية "بيت ليد" تأتي عمليتا "كفارداروم" و"نتساريم" في غزة - ثمانية قتلى وعشرات الجرحى من الجنود الصهاينة- وترافقت عمليتا الجهاد الإسلامي وحماس مع عملية حزب الله في جنوب لبنان؛ وكلها عمليات ناجحة، وجهت ضد جنود الاحتلال الصهيوني والمتعاونين معهم، ونفذِّت بعناية، وبنيت على قاعدة ينبغي الحرص عليها وهي "ألا يكون الدم العربي رخيصاً"، وحققت أغراضاً عدة بوسائل وأساليب ممكنة، يملكها من يملك إرادة المقاومة، ويتحكم بظروفها من لا يملك تقانة عالية ولكنه يملك إيماناً وثقة، ورؤية لا تزوغ جرَّاء بريق الدينار وإغراء الدولار وشهوة السلطة وسلطة الإعلام.‏
                          وقد تركت العمليتان الأخيرتان للجهاد الإسلامي وحماس غزَّة ساحة ساخنة حاسمة في لحظات حرجة، حيث تدفع كل من قوة الاحتلال الصهيوني، وقوة النظام الإمبريالي الدولي عرفات وسلطته إلى مواجهة مع الشعب الفلسطيني ليثبت أنه أهل للثقة من خلال قدرته على تنفيذ ما عجز الصهاينة عن تنفيذه؛ وهو إخضاع غزة ـ التي لم يبتلعها البحرـ للعدو الصهيوني والمؤتمرين بأمره، المتحالفين معه، المنفذين لمشروعه. وتبدو عناصر سلطة "الحكم الذاتي" مستعدة للقيام بممارسات قمعية، لا تقل عن تلك التي كانت تقوم بها قوة الاحتلال في غزة، تؤهلها للثقة ولاستحقاق ما يُدفع لها ولما تُوعد به من عطاءات وما ترشَّح له من أدوار؛ كما تبدو دوائر أخرى في إطار تلك السلطة جاهزة تماماً للقيام بكل ما يُطلب إليها القيام به من إصدار أحكام، وملاحظات واتهامات. وتركَّز على المقاومين للاحتلال الآن اتهامات لها وقع شديد لدى الرأي العام من مثل: " الإرهاب- الأصولية- التطرف- ومعاداة السلام- والتخريب- وتهديم أسس العملية السلمية- وتقويض " سلطة وليدة "؛ هي سلطة عرفات في غزة، التي تحاول الإمبريالية- الصهيونية اليوم امتحانها من جهة، وتدعيم أدائها من جهة أخرى.‏
                          ويترافق هذا الاتهام الموجه للمقاومة مع حشد طاقات سياسية وإعلامية واجتماعية /في الساحة الفلسطينية خصوصاً/ ترمي إلى تسويغ كل فعل يؤدي إلى توطيد التحالف مع الكيان الصهيوني ليغدو استراتيجياً وذلك على أرضيتين:‏
                          -أرضية كسب العدو الصهيوني فلسطينياً قبل أن يكسبه الأردن الرسمي حليفاً على حساب الفلسطيني.‏
                          وهذا التوجه الذي يضاف لكل ما تحفل به الساحة الدولية المناصرة للمشروع الإمبريالي- الصهيوني يضغط على المقاومة ويهددها ويلاحقها نفسياً وإعلامياً في ظل ضياع وتآكل عربيين، وأحياناً في ظل تحالف بعض العرب مع ذلك التيار المتصهين، حيث يغدو كل تحرك للمقاومة مكلفاً وعسيراً.‏
                          وفي هذا المناخ تتم مقاومة نوعية مع ذلك تجعل غزة في هذه اللحظات التاريخية ساحة المواجهة الساخنة والحسم، وساحة الصراع العربي الصهيوني المرشحة -للأسف- إلى صراع فلسطيني فلسطيني، يخوضه أنصار الحكم الذاتي لمصلحة المشروع الصهيوني واتفاقيات الإذعان التي فرضها، ضد إرادة الشعب الفلسطيني ومصالحه وقواه وطلائعه التي ترفض الاستسلام واتفاقيات الإذعان والذل وأشكال التركيع والتطبيع والترويج له. فهل يمكن أن تتجاوز أمتنا المحنة المحتملة، أم أننا سندفع ضريبة الدم، والحرب الأهلية من جديد في غزة بعد لبنان؟!‏
                          إنه سؤال مطروح في ظل تحول السلطة العرفاتية إلى سلطة قمع متصهينة تعمل لخدمة شرق أوسطية بيريس، ولإرضاء رابين وإنقاذه في مجتمعه، ولمصالح المشروع الأميركي، الذي سيبقى موجهاً ضد أمتنا ما دام لهذه الأمَّة مشروع خاص، وشخصية مستقلة، وثقافة وعقيدة وحضور أو تشبث بنوع من الحضور.‏
                          إن الحرب المعلنة اليوم ضد "الإرهاب والأصولية" والتطرف "القومي- والإسلامي " هي حرب معلنة على الأمَّة وعلى المقاومة وفكرة التحرير وعلى الهوية القومية والعقيدة الإسلامية. فكيف سنواجه من يعملون صباح مساء لتعبئة الرأي العام ضد شرعية وجودنا، ومشروعية نضالنا، وحقنا في التمايز والاختلاف؟! وكيف نقدم أنفسنا ومشروعنا ونضالنا المشروع؟! وكيف نملك قوة تحمي إرادتنا، وتوجهاً عاماً يوحد تلك الإرادة؟ تلك أسئلة سوف نسعى إلى مواجهتها بمنطق واستعداد مناسبين .‏

                          الأسبوع الأدبي/ع458//13/نيسان/1995‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #88
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            محاكم عرفات وشرعنة الاحتلال
                            أصارِحكم القول: إنني لم أتخيل، مجرد تخيل، أن يأتي وقت يقوم فيه فلسطيني بملاحقة فلسطيني آخر، ومعاقبته وتجريمه وسجنه، دفاعاً عن أمن الكيان الصهيوني العنصري، واحتلاله و فرض "شرعية وجوده" فوق الأرض الفلسطينية التي يحتلها .‏
                            ولم يخطر ببالي أن تدشِّن أول محكمة ينشئها الحكم الذاتي الفلسطيني أعمالها بالحكم على من يقاومون الاحتلال، ومن يدربون أطفال الانتفاضة المباركة على رشق حجر في وجه جلاديهم ومحتلي وطنهم ومصادري مستقبلهم. ولم أتصور يوماً أن تصل سلطة "الإسرائيلي" على الفلسطيني الذي كان يقود النضال ضده في الخارج، حدود أن يجعله يغرس خنجره في صدر أخيه المقاتل في الداخل عندما يتعانقان على أرض الوطن، وان يحول مصافحتهما الأولى إلى جحيم الشك على أرضية الموقف منه بالذات؟؟!‏
                            ولم أكن أفكر بان أصحاب "أوسلو" ووادي عربة سوف يصلون بهذه السرعة إلى شَرْعَنَة الوجود الصهيوني واتفاقياته معهم، والتحول إلى الهجوم على كل من يناهض اتفاقيات الإذعان تلك، ويقاوم التطبيع مع العدو، ويرفض الانصياع لكل ما يطلبه المهرولون في ركب الصهيونية والإمبريالية الأميركية، حليف عدونا وحاميه والمستفيد من تقويته علينا؟!‏
                            كنت أفترض ـ في أقصى درجات السوء ـ أن يتم شيء من ذلك ببطء، وأن تُراعى المشاعر الوطنية والقومية والجمعية والفردية، قليلاً في مجتمع ما زال ينزف، ويدفن الشهداء، ويقدم التضحيات على طريق أعدل قضية، وأقدس فداء؟! وكنت أفترض أن يطبق، من يطبق اتفاقيات الإذعان، عهودَه ومواثيقه واتفاقياته بشيء من الحياء والانزواء وأن يقدم أعذاره ومبرراته ليستر عاره وعوراته؟! وأقول: إن بعض أولئك على الأقل سيجد المنافذ الملائمة ليحول دون مذابح الوجدان والقيم لا أن يهلل لكل أنواع المذابح المعنوية والمادية التي يدعو الكيان الصهيوني لارتكابها، معتبراً إياها قرابين على مذبح "صلحه"، وبراهين يقدمها إليه من يطلبون ثقته بهم، وشهاداته على أهليتهم لممارسة ما يُسند لهم من أدوار؟!‏
                            لم أكن أفكر بأن عنف أولئك لن يجيء ولكنني كنت أفترض أنه قد يتأخر. ولكن ما يحدث اليوم، وبعد أن حولوا اتفاقيات الإذعان إلى قوانين في بلدانهم، وأخذوا يلاحقون الناس باسمها، ويطبقونها بقسوة، ما يحدث يشير إلى عمق الاستخلاصات في معسكر المتصهينين، وتكاتف الإرادات في ذلك المعسكر، واختيار المبادرة والهجوم الحازم الحاسم على الشعب والوجدان والذاكرة ومن يناهضون اختياراتهم تلك أو يقاومونها؛ وهذا الاختيار الصُّراح لم تعوزه الوسائل والذرائع والاتهامات والقوة والإمكانات، فهو لا يستخدم قدراته الذاتية التي هي بالنتيجة قدرات السلطة، بل يضيف إلى ذلك المساعدات المادية والمعنوية، وقدرات العدو، وما هيأته الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً من دعم لمن يسير في هذه الطريق؛ ويختار الصهينة ولو تحت تسميات وشعارات ملونة. وحيال هذا المد العنيف المتسارع، من قِبَل معسكر اتفاقيات الإذعان- على ما بين أطرافه من خلافات ينسقها وينميها ويبرمجها المشرفون عليه والموجهون لتحركاته وجهوده - ما الذي يمكن أن يفعله المناهضون الرافضون، وهم لا يملكون قوة سلطة، ولا دعم معسكرات ولا وسائل إعلام؟! وكيف يمكن أن يحموا ساحتهم من جهة، وينظموا صفوفهم وجهودهم ومواجهتهم من جهة أخرى؟! في ظل البؤس الذي سيطر على تاريخ المواجهات السابقة، والإحباط الذي ينتشر على كل المسارات التي يطرقونها؟!‏
                            الحق، والأمل، والإيمان، والثقة، والمستقبل العريض.. الخ كل ذلك جيد ومفيد وضروري، ويشكل رصيداً معنوياً طيباً، ولكنه -على أهميته- لا يكفي، وقد لا يصرف بشيء في بعض الاستحقاقات.‏
                            ونحن في مواجهة نفترض أن أطرافها، أو أنه في تلك الأطراف:‏
                            -بعض الأنظمة العربية بما تملك وتحشد، والقوى التي تقف وراء التسوية، بما تقدم وتريد، وشرائح اجتماعية هي مع ولكنها تتحين فرصة الانقضاض.‏
                            -شرائح من المثقفين وقطاعات اجتماعية واسعة مثقلة بالمعاناة والجراح، وتتراكم لديها نتائج الممارسات التي تمت عليها؛ وهي ترفض رفضاً سلبياً، وتنقصها الإمكانات والمبادرات والحريات والمناخ الملائم لتجعل من مشاعرها وإراداتها قرارات وإمكانيات في ساحة المواجهة.‏
                            والمتأمل في طرفي المتراجحة يرى بوضوح أن معسكر التسوية هو الأقوى، وهجومه هو الذي يثير الغبار؛ وبينما يفعل ذلك الطرف فعله بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والخُلُقيَّات والمبدئيات يتربع الطرف الثاني في حضن الثوابت المبدئية، والخُلُقيَّات، والقيم.. الخ ويقول كلاماً فيه الصدق والحق ولكنه يفتقر إلى القوة. ونحن نعرف جيداً أن حقاً بلا قوة يساوي نبيلاً شريداً في الصحراء.‏
                            وإذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه الآن فسوف يفضي باستمرار إلى قوة الطرف المتصهين وضعف الطرف الرافض للصهينة والهيمنة.‏
                            وحين يراهن الطرف الثاني على الحق والشعب والعدل والثقافة.. فهو مدعو إلى التفكير والتدبُّر والتأمل في كثير من المعطيات والوقائع ليصل إلى استخلاصات موضوعية لا بد منها في مرحلة بناء استراتيجيات المواجهة ووضع برامج العمل ومن ذلك:‏
                            -أن الشعب المسحوق يمكن أن ينسى لا سيما إذا سيَّج سمعه بأبواق تنسيه حتى ذاته.‏
                            -أن الثقافة قد تكون فعلاً ملغماً وأن ألغامها شديدة التأثير ولا بد من سبر ساحاتها جيداً.‏
                            -وأن كل الصفات والآمال والتطلعات الطيبة لا بد أن يصقلها العمل، ونجد ترجمة لها في الواقع والممارسات اليومية لتنمو في حقل الحياة حتى لا تظل حبيسة فضاء المعرفة والمُثُل.‏
                            -وإن الاستفادة من الزمن والإمكانات القليلة والإرادات والتوجهات النظيفة يحتاج إلى مبادرات وتضحيات وأرضية من الثقة لا تتزعزع، كما يحتاج إلى زيت الروح الذي لا ينفد، ليبقى شعلة مضيئة، في زعزع يجتاح كل مناخ اتقادها.‏
                            أقول هذا، وهو بعض ما في طريق الطرف الثاني من أشواك، لأنبه إلى ضرورة أن تتلاقى الأيدي والإرادات في ساحة العمل، في الوقت الذي تلتقي فيه في ساحة الأمل، ولتعزز كل إرادة رافضة للعدو الصهيوني ولمناخ الصهينة العام الذي يزحف في فضاء وطننا، الإرادة الأخرى وتحتضن جرحها ولهفتها وأملها؛ وأقوله لكي يبادر القادرون على تحمل مسؤوليات تاريخية والمدعوون إلى تحمل تلك المسؤوليات، ممن اختاروا الحق والشعب والعدل وعروبة فلسطين ورفض الصهيونية والصهينة والإمبريالية الغربية التي تستلب الشعوب؛ ليبادر أولئك إلى الحوار وتنمية المشترك، والالتقاء حوله، وإعلاء شأنه فوق كل اختلاف، لأن الجميع مستهدفون، ولأن اللحظة هي لحظة مراجعة حقيقية على أرضية الانتماء القومي والوطني، وعلى أرضية الوعي بالذات، وباستهدافات آخر- عدو- لها.‏
                            وهي لحظة يستفيد فيها- أو ينبغي أن يستفيد فيها- كل حريص على مستقبل الوطن، وعلى مستقبل له ولأبنائه في الوطن، يستفيد من كل ما يساعد على تعزيز المواجهة، وتعزيز الأرضية التي يقف عليها، ليرفض الكيان الصهيوني واتفاقيات الإذعان والذل القادم، وكل رفاه الوعد الصهيوني الذي لن يكون إلا خدمة للعنصرية والإمبريالية وسحقاً لأبناء الأمَّة العربية- عدا أولئك الذين باعوا أرواحهم للشيطان، واشتروا مركزاً ومستقبلاً شخصيين خاصين لا يحققان كرامة أو احتراماً أو حتى وقاية من الإذلال اليومي تحت أقدام العدو الصهيوني.‏
                            إن رئيس مخفر أريحا لن يتطور إلا باتجاه التنازل والاستخذاء، وصاحب وادي عربة يضخم تاريخاً من الارتباط بالعدو لن يحرره من ذلك القيد ولن يمنحه أماناً من جوع وخوف؛ لأن مثل ذلك الأمان لا يكون إلا في ظل الاطمئنان إلى محبة الشعب واحترام التاريخ والراحة في عمق الإيمان وفضل الإنسان. ومن باع روحه وشعبه ووطنه وتاريخه.. لا أمان له ولا أمان منه.‏
                            فلنبادر إلى حماية صفنا قبل أن يكتسحنا الخائفون القانطون من كل رحمة، فإن الزمن والإنسان أكبر ما يمكن أن نستثمر فيهما لمصالح أعدل قضية وأنبل اختيار... فهل نحن فاعلون؟!‏

                            الأسبوع الأدبي/ع460//27/نيسان/1994‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #89
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              أهل القمر الصهيوني الناقص
                              ـ 1 ـ‏
                              يقوم بعض دعاة التطبيع بترويج مقولة مفادها: "أن العرب و "إسرائيل" ضحايا للتسلط والاستعمار الأميركيين، وعندما يتم صلح بينهما واعتراف متبادل، وتطبيع شامل للعلاقات والمعاملات، يتخلص كل من العرب و"الإسرائيليين" من تكاليف الحرب المفروضة عليهم من قبل الأميركيين ولصالح الأميركيين"، ولذلك فهم يدعون إلى الاعتراف بـ "إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها للتخلص من هذا النوع من السخرة والاستنزاف.‏
                              ويبدو أن هذا النوع من الدعاة، الذي يعمل على ترسيخ الكيان الصهيوني في الوطن العربي، مأخوذ بالحرص الإنساني ومعاداة الاستعمار(؟!؟) يتذاكى إلى الحد الذي يستغفلنا معه؛ ويذهب في دعواه مذهباً "نضالياً" واعياً، حيث يريد إقناعنا بأن على "المظلومين"/ العرب واليهود (!؟!)/ أن يتحالفوا ليصون كل منهم وجوده وثرواته من الاستغلال وليحرر إرادته وقراره من التبعية للغرب.(؟!؟) ويبهِّر نفر من ذلك الفريق دعوته ليسوِّقها أكثر، بالقول: إننا ضد الصهيونية ومع اليهودية، متناسياً فلسطين عن عمد. وعندما تسايره وتطالبه بيهودي يرفض دولة " إسرائيل " ويقول بعودة الفلسطينيين إلى أرضهم لتتعاون معه، يقفز قفزة "ماراثونية" فوق الوقائع والحقائق والتاريخ، ليطالبك بأن ترفض دولتك ومنطق أمتك القومي" لتجد "الآخر" الذي يرفض دولته.‏
                              وهو عند هذا الحد يكشف منطقه أو المنطق الذي سكنه عن طريق الإيحاء والإغواء والإغراء، حيث يعلن من خلال ذلك المنطق أن:‏
                              -"إسرائيل" حقيقة واقعة أوجدتها الصهيونية وورثتها اليهودية فأصبحت ملكاً لها لا يجوز لأحد أن يطالبها بالتنازل عنه.‏
                              -أن اليهودية التي رأت أن الصهيونية أدت مهمتها وانتهت ريادتُها بإقامة الدولة، مساوية للعربي بالحقوق والواجبات في المنطقة.‏
                              -إنه يقول بوجود "إسرائيل" مكان فلسطين، وباليهود مكان الفلسطينيين، ويختلف مع الصهاينة على من يحكم في "إسرائيل" وكيف تُحْكَم. إنه لا يرفض المشروع الصهيوني الذي ورثه اليهودي، وإنما يحاور ويحاجج حول الوسائل والأدوات والأساليب التي تجعله أكثر قبولاً من قبل العرب.‏
                              -إنه يرى في "رفض" يهود للصهيونية مشروعية لمطالبة كل عربي برفض القومية العربية وأحلامها. فمقابل انكسار "الحلم الصهيوني الكبير" في مشروع من الفرات إلى النيل، ينبغي أن ينفي العرب القومية العربية وأهدافها التحريرية والوحدوية، والأبعاد القومية للقضية الفلسطينية، وبذلك يتم "الصلح" على أرضية لا غالب ولا مغلوب؛ إذ أن القوميتين خسرتا وانكسر حلمهما وتقلص مشروعهما، ولا بد من اللقاء على أرضية المتغيرات.‏
                              وفي الوقت الذي يطالب فيه هذا النفر بقبول اليهودي "ودولته" لا يذكر حق العودة، ولا فلسطين التاريخية، ويغيِّب أسسَ الصراع وتاريخَه وأهدافَه قافزاً فوق الجغرافية والتاريخ والناس.‏
                              وهو يعيد إلينا ظلال وأنغام أغنية قديمة شاعت أيام الحرب الباردة، حيث كان بعض الشيوعيين العرب يقولون إنهم يعتبرون القضية الفلسطينية منتهية "بحكم المحلولة" إذا وصل راكاح إلى السلطة، لأنه لا خلاف بين الأمميين على الأرض. وكان أولئك يحولون صراعنا مع العنصريين الصهاينة أصحاب المشروع الرئيس، ومع الكيان المزروع في فلسطين إلى "صراع داخلي" إن صح التعبير، يستمد بعض العالمية من ارتباطه بمصير الصراع الطبقي في العالم؛ وقد حل ذلك، بصورة ما، مكان الصراع من أجل التحرير في بعض الأحيان والأذهان. ولكن الشيوعيين كشفوا ـ أو اكتشفوا ـ الآن الدور القذر الذي لعبته وتلعبه الصهيونية لا سيما بعد مشاركتها في تدمير الاتحاد السوفييتي والاشتراكية التي ناصرتها في فترة من الزمن.‏
                              ويتناسى ذلك الفريق من دعاة التطبيع، الذي يقول اليوم بوحدة المظلومين وضرورة اتحادهم" أن الولايات المتحدة الأميركية، كانت وما تزال، في خدمة الصهيونية ومشروعها، وأن التحالف المعلن بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" هو تحالف بين الصهيونية وامتدادها الاعتقادي- الاستعماري- العنصري في الغرب الإمبريالي كله؛ وأن كلنتون، على سبيل المثال، أكثر إخلاصاً "لإسرائيل" من أميركا ذاتها، فهو على الأقل لا يستطيع أن يقدم مصلحة أميركية على مصلحة "إسرائيلية" أو صهيونية إذا ما تعارضتا.‏
                              فالمدخل: "على أرضية محاربة الاستعمار" الذي يدخل منه أولئك الدعاة المتذاكون، لا يمكن أن يمسح جانبه النفسي عقول الناس، ولن ينجح في إقناع أحد بمعطياته، كما أنه لا ينجح في إخفاء ثغراته وكونه في خدمة الصهيونية والولايات المتحدة ذاتها، التي يهمها أن تفرض على العرب اعترافاً بـ "إسرائيل" وأن تدفع ثمن ذلك الاعتراف من جيوبهم بعد أن يمر بجيوبها. وهذا المدخل كسائر مداخل القائلين بالتطبيع، على أرضية الاعتراف، يموه رأسه ببعض الأغصان والحشائش والأتربة التي تعج بها البيئة العربية ليتلاءم مع المنطقة التي يحارب فيها ويتماهى مع طبيعتها، ولكنه مدخل مكشوف. ومن الغريب أن يتغافل ذلك النفر عن حقيقة أهداف التحالف الأميركي - الإسرائيلي، وعما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة الأميركية "لإسرائيل" من دعم مالي - وعسكري- واقتصادي- وتقني- وأمني، وعن تعهدات الإدارات الأميركية المختلفة بالحفاظ على تفوق "إسرائيل" عسكرياً على العرب ومن يناصرهم من المسلمين مجتمعين، والتزامها بأمن "دولة إسرائيل" وبرفاء المجتمع "الإسرائيلي"؛ كما يتغافل أولئك عن حقائق ووقائع صارخة منها:‏
                              -استخدام الولايات المتحدة الأميركية لحق النقض "الفيتو" في وجه أي مشروع قرار يدين "إسرائيل" أو يلزمها باتخاذ أي إجراء من شأنه أن يحد من سيطرتها وممارساتها العدوانية، ومن قدرتها على تنفيذ مشروعها التوسعي -الاستيطاني، وفرض هيمنتها الأمنية على المنطقة. وأنها استخدمت ذلك المعطى التمييزي لها، كقوة عظمى مسيطرة، ضد أي مشروع قرار ذي أهداف إنسانية خالصة يتعارض مع رغبة القيادات الصهيونية؛ ففي عام 1982، على سبيل المثال، في أثناء حصار القوات الصهيونية لبيروت، استخدمت الإدارة الأميركية حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يرمي إلى إيصال الماء والدواء والغذاء إلى المحاصرين في العاصمة اللبنانية، كما يتناسى أولئك، عن عمد ربما، حقيقة أن الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية يتسابقون على خدمة "إسرائيل" إرضاء للحركة الصهيونية ولمنظمة "إيباك" -اللوبي الإسرائيلي/ الصهيوني الأهم في الولايات المتحدة الأميركية -وما يرضي "إيباك" هو ما يخدم "إسرائيل" الصهيونية أولاً، وما يجسد، أو يساعد على تجسيد، الحلم الصهيوني كله.‏
                              وربما يتناسى ذلك النفر من دعاة التطبيع ما يجري اليوم في مجلس الكونغرس من صراع هدفه التسابق على خدمة الصهيونية في موضوع القدس حيث يتقدم "بوب دول" بمشروع قرار لنقل السفارة الأميركية إلى القدس في هذا الظرف بالذات ولا يستطيع حتى كلنتون أن يعارض ذلك إذا رأى أنه يتعارض مع مصالح أميركا ودورها كراعية لمؤتمر "سلام مدريد".‏
                              وبعد أن خاض رجال الكونغرس معارك تنافسية لمصلحة " إسرائيل " في موضوع القدس لجعلها "عاصمة موحدة أبدية للدولة العبرية"، وقرروا مع إدارتهم اليوم استخدام حق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار يمس "إسرائيل" أو يمنعها من مصادرة أراضي عرب القدس بحرية، لإقامة اليهود فيها بهدف تغيير تكوينها السكاني، ولفرض أمر واقع على العرب بشان القدس. وصراع الأميركيين ذاك هو لمصالح " إسرائيل " ومشاريعها ومشايعة لأحزاب فيها، كما أنه صراع ذو توجهات مصلحية انتخابية داخلية يراعي الحركة الصهيونية ومطالبها، وليس هو مصلحة أميركية عليا بمقدار ما هو مصلحة صهيونية - "إسرائيلية" عليا، وأحياناً تخوض الإدارة الأميركية والكونغرس صراعاً مرتبطاً بصراعات داخلية ضمن الحركة الصهيونية والأحزاب في "إسرائيل".‏
                              فمن المعروف "بشكل جيد"، أن جميع الأحزاب في الكيان الصهيوني متفقة على أن تجعل من "القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل" وعلى أن تكثف برنامج الاستيطان اليهودي فيها تحقيقاً لهذه الغاية، ولكن من منها يحقق ذلك‍؟‍ تلك نقطة سبق يريد أن يسجلها المتصهين قبل الصهيوني، والأميركي قبل "الإسرائيلي"، مع مراعاة شكلية لبعض الشروط الشكلية التي رافقت تقديم ضمانات القروض "لإسرائيل" بقيمة عشرة مليارات دولار للمساعدة على الاستيطان.‏
                              إذن فالمصلحة "الإسرائيلية -الصهيونية" تحكم إلى حد بعيد المصلحة الأميركية ذاتها والقرار الأميركي ذاته، فأي ظلم ذاك الذي يقع على اليهود جراء السياسة الأميركية؟ وأية مساواة يسعون إلى رفع شعارها بين العرب واليهود في مجال استثمار الإمبريالية الأميركية لهما؟ إن ذلك فريد في جرأته على الحقائق والوقائع والعقول والوجدان.‏
                              ويذهب نفر من دعاة الاعتراف والتطبيع إلى حدود لعبة الاستغفال، وما يستغفلون إلا أنفسهم وما يشعرون، فهم يريدون الربح المادي بكل المقاييس، ويرون في هذا الأمر تجارة رابحة تقرهم في مجتمعات يعيشون فيها، وفي هيئات يتعالمون معها، وتقربهم من جهات يرتبطون بها، ويقدرون أنها ترتاح لنهجهم ذاك ولا تبخل في تقدير قيمته، وهم يقبلون على ذلك كل الإقبال، ولا يريدون -رغم ذلك الاختيار- أن يقطعوا صلاتهم بالفريق الآخر، فربما بقي لاختياره الطعم المبدئي -القيمي- التاريخي، الذي قد تتمسك به الجماهير، وهم يريدون الفوز بالمال والشهادات الحضارية، وبرضا السلطات الزمنية، وبحيازة ريادة عصموية في كل المراحل، وبالمبدئية التي قد ترضي وتفيد‍‍.‏
                              وما يثير العجب من هؤلاء، قدرتهم على طرح ذلك كله في سلة واحدة، والتشبث به، وإدعاء الحق فيه، واستغفال الفهم وقدرة العقل على إدراكه لدى الآخرين . وهم يذهبون في ترويج بضاعتهم وتسويغ مواقفهم وأفعالهم إلى المدى الذي يؤكدون معه حقهم في رفض القوانين، بذريعة مرور الزمن، لرفض ما فيها من ثوابت مبدئية لا يلغيها مرور الزمن ولا يغيرها؛ ورغبتهم في تقديم صياغات وتفسيرات تمكِّن من اللعب على كل الحبال، مدعين حقهم في إخضاع كل التوجهات الفكرية والاجتماعية والديمقراطية، وكذلك إخضاع الثقافي والسياسي معاً، والتحكم بصلاتهما وصياغاتهما ومفارقاتهما ليكون كل ذلك ملك يمينهم؛ فهم دنيويون وسلطويون أكثر من الدنيويين والسلطويين جميعاً، وهم في الوقت ذاته كَنَزَة للذهب ومنابع لإلهام الروح (؟؟؟) وهم طلاب الشهرة والمتنسكون في محاريب الرفض، وهم أصحاب المراكب السريعة التي تستطيع الوقوف على صهوات كل الأمواج، التي قد يجود بها محيط في أرض البشر؟!!‏
                              ومما يطرحه أولئك، بجراءة يقدمونها على أنها شجاعة الواقعيين، أنهم سيذهبون إلى "تل أبيب" ليناقشوا الصهاينة ويدحضوا حججهم، وبعد أن يفعلوا ذلك لا مانع لديهم في أن يستقر بهم المقام أياماً وليالي في ضيافة السلطة "الإسرائيلية" تحت عنايتها ورعايتها وحمايتها، وسيذهبون بنشوة غامرة إلى عناق " الإسرائيليين " تحت وهم البصاق عليهم.‏
                              -فهم بتأثير نشوة المحاجّة، يتمتعون ويستمتعون بما تقدمه إليهم سلطة الدولة العنصرية المحتلة التي يحاجُّونها وينامون تحت علمها وحراسة جنودها، وهم "مختلفون" معها رافضون لصهيونيتها ومقرون بيهوديتها؟!‏
                              ويحق لنا أن نتساءل:‏
                              -ألا يدخل أولئك -بهذا الطرح- تحت اسم نوع المعارضة السياسية الداخلية في كيان "الدولة العبرية"؟! التي يقرون بشرعية وجودها، ومشروعية قدراتها النووية التي تخدم مشاريعها الاستيطانية، ويباركون "الأهداف الإسرائيلية" ما داموا يختلفون معها على الوسائل والتفاصيل، وليس على الأهداف والاستراتيجيات، ولم يعد موضوع بقاء " إسرائيل " واستمرارها على حساب زوال فلسطين واندثارها وتشرد أهلها، يعنيهم في شيء أو يعني لهم شيئاً؟! وعن أي شيء مما يتصل بمبدئية الصراع العربي الصهيوني ومشروعيته التاريخية والخُلُقيَّة وحقانيته، يتحدث أولئك الذين "يحاجون الصهيونية" بشرعية "إسرائيلية"، ويقولون بدولة يهودية تقوم على ما احتلته الصهيونية من أرض العرب؟! ويجادلون في محراب "إسرائيل" مشروعية القمر الصهيوني الناقص؟!‏
                              ـ 2 ـ‏
                              إن أولئك رغم أنهم يذكروننا بالطائر الذي غير ريشه فنسي المشيتين، إلا أنهم لا يثيرون فينا الحزن والرثاء فقط، لبؤس مواقفهم وتفكيرهم، ولما يقدمونه للناس من صورة شائهة يرسمونها تحت وهم تصورهم لإدراك الناس وفهمهم لهم، بل هم يثيرون لدينا إحساساً بالضيق والغضب للمدى الذي وصلت إليه جراءة بعض "مثقفي" الأمَّة على شهدائنا وقيمها وقضاياها وحقوقها وتاريخ النضال والفكر لديها.‏
                              ولكن ذلك يبقى حصاداً طبيعياً لما بُذر في أرضنا من زؤان خلال عقود مضت، ولما سكتنا عليه وابتلعناه طوال تلك العقود، من تلفيق وتزوير وتشويه للفكر والنضال والتقدم، وأنواع الصراع المبدَّاة على أنواع أخرى منه؛ وكذلك ما تواطأنا عليه جميعاً في السكوت على من يزيفون قيمنا ومبادئنا وتاريخنا ليقدموا لنا صورة "الحضاري" و "الحداثي" و "العقلاني" و "الواقعي" على حساب أصالتنا وانتمائنا، وكل ما يمت لوجودنا الفاعل فوق أرضنا وفي عالمنا، بصلة.‏
                              إننا نحصد ما زرعت أيدي الأعداء في تربيتنا النفسية والثقافية مما سوَّغنا زرعه، وساهمنا بسقياه ورعايته، يوم لم نبادر إلى رفضه واجتثاثه، ولم نتجرأ على ذلك الاجتثاث أصلاً؛ ويوم سمحنا لبذره أن يتساقط وينمو في العقول والوجدان ودروب الحياة والتربية والتكوين الاجتماعي لدينا.‏
                              *إن دعاة الاعتراف بالعدو الصهيوني وتطبيع العلاقات معه، يذهبون إلى المدى الأبعد في استثمار الظروف والمعطيات والمتغيرات العربية والدولية، ويؤكدون على واقعية انهزامية تأخذ أبعادها على الأرض وفي العقل والنفس، وتصل إلى حدود القيام بفعل مؤثر يؤدي إلى اجتثاث كل مبدئية وحقانية تاريخية باسم مجاراة العصر والتطورات.‏
                              فإذا كان هناك من يدعو إلى استمرار الصراع مع العدو الصهيوني- بأشكال الصراع المختلفة وتلوناته وهوامشه- على أرضية التمسك بالأرض وبعروبة فلسطين، فعليه ـ من وجهة نظرهم- أن يغير كل ما يقول به لأن السياسة تغيرت وأصبحت مطلبياتها مختلفة عن كل ما كان سائداً في الماضي، وأتى تغيُّرُها مؤسَّساً على تغيُّر الصراع في العالم؛ ذلك الذي حُسم في نهاية الحرب الباردة لمصلحة معسكر الولايات المتحدة الأميركية بعد أن دَمَّر المعسكر المقابل. وعند هذه النقطة المبدئية يمكن التوقف قليلاً لطرح السؤال الآتي:‏
                              هل القضية الفلسطينية بمجملها، والصراع العربي الصهيوني، هل ذلك أحد منتجات الحرب الباردة، وجزء من تلك الحرب؟! هل هو أحد أسبابها وعواملها؟! أم أنه مجال مختلف في نشأته وأسبابه، ولكنه متأثر بتلك الحرب وبصراع المعسكرين بحكم تشابك الأحداث وتداخل السياسات والمصالح، وتنوع جبهات المواجهة؟!؟‏
                              وهل ينهي انتصار الأميركي وحليفه " الإسرائيلي " قضية فلسطين من التاريخ والوجدان العربيين، ومن الواقع في آنٍ معاً، على الرغم من أنه حتى في أثناء الحرب الباردة كان هناك عرب في معسكر الغرب وآخرون في معسكر الشرق؟!‏
                              وهل كان الغرب والشرق، أو حلف الأطلسي وحلف وارسو على خلاف أصلاً حول قيام الحركة الصهيونية بمشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين ومشروعية وجودها واستقرارها في فلسطين؟!‏
                              أم كانا على اتفاق حول المبدأ، ويستمران في دعم الكيان الصهيوني، ويريدان كسبه، أحدهما من دون الآخر، من خلال ذلك الدعم، وأن الكيان الصهيوني استطاع أن يستثمر المعسكرين لمصالحه، بمعرفة أهل المعسكر وموافقتهما ورضاهما؟!؟‏
                              وهل كان التنافس الحاصل بين المعسكرين حول هذه القضية ينصب على تقديم الدعم للكيان الصهيوني ضد العرب، أم أنه كان يأخذ، في بعض الحالات، صورة التنافس على مصالحهما لدى العرب/ النفط وبيع السلاح وتصدير السلع ونهب الثروات وكسب الولاءات والحروب بالوكالة / من دون أن يمس ذلك بالثوابت حول الموقف الجذري من " إسرائيل " والصهيونية، الذي اتخذه المعسكران ونفذاه واحترما تعهداتهما والتزاماتهما بشأنه؟!‏
                              إن المتغيرات العربية والدولية أثَّرت وتؤثر في كل صراع رئيس، ولا ينكر ذلك أحد، ولكن السؤال يتمحور حول "مدى التأثير وعمقه ونتائجه"؛ فهل يشمل ذلك جوهر الصراع وثوابته وما قام أصلاً بسبب منه، أم أنه ينصب على البحث عن وسائل وبدائل وأساليب تساعد على الوصول إلى استمرار الصراع بغية حسمه على أرضية ثوابته ومبدئيته وسلامة أهدافه وصحتها؟!‏
                              ـ3ـ‏
                              إن دعاة التطبيع يرون أن تأثير التغير ينبغي أن يكون شاملاً ونهائياً، أفقياً وعمودياً، بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع المتصل بها برمته. أي أنهم ينادون بإنهاء القضية على أرضية الاعتراف بالهزيمة الشاملة الأبدية، وبحق العدو بدولة واستقرار وأمان، والتحول إلى صداقة وتعاون وتحالف مع"إسرائيل" و"الصهيونية" على أرضية المقولات الصهيونية، التي يرون أنها كُسرت نسبياً بانكسار هوامش الحلم الصهيوني القديم/من الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل/‍؟؟.‏
                              أما الذين يدعون إلى أن تنصب المتغيرات العربية والدولية، التي انعكست سلبياً على العرب وقضاياهم، على الوسائل والأساليب والبدائل، من دون أن تمس الجوهر والأهداف، فإنهم يرون أن يتم التسليم بوقوع هزيمة مؤلمة للعرب ولكنها ليست أبدية، ويرون أن الترويج لأبدية الهزيمة هو ما يريده الغرب وما تريده الصهيونية بشكل رئيس، لأن ذلك سيدمر الثقة ويكرس المد الإمبريالي الصهيوني على الأرض وفي النفوس، كما سيكرس استمرار المشروع الصهيوني مع تغيير هام في الأولويات والوسائل وأساليب استمرار الصراع.‏
                              ويبدو لي أنه من الواضح لكل ذي بصر وبصيرة أن مقولات دعاة التطبيع وتوجهاتهم واختياراتهم هي مكملات استراتيجية وتكتيكية لأصحاب المشروع الصهيوني الأصلي المستمر، ويريدون أن ترسِّخ المتغيرات مناخاً نفسياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً يساعدهم على تنفيذ برامجهم وتحسين أدائهم لمهامهم تلك، التي أُوحي إليهم بها في مناخ مشبع بالإغراء وبالعزف على أوتار يستطيبون العزف عليها، وتشيع لديهم أحاسيسَ التفوق والريادة والقيادة، تلك التي تعوض إحساساً بالدونية سحقوا تحته، وإحساساً بتقليد الغرب الغالب بعد أن شعروا بضعف وانسحاق لشخوصهم أمام شخوصه.‏
                              وقد أمَّن الغرب وأمَّنت الصهيونية لأولئك الغطاء والأمان والنفوذ والحماية والإمكانات والأجور"والشرفة" التي يطلُّون منها على من يرون أنهم دونهم، أمَّنت لهم ذلك وأعلمتهم به، ودعتهم إلى الحركة انطلاقاً من ثوابته ومعطياته وعلى أرضيته الصلبة.‏
                              وانطلقوا في دعاواهم تلك من وهم الإحساس بأن ذلك الذي أُمِروا به هو اختيار حر للوعي والإرادة، وبأن نجاحه هو نجاح للمنطق والواقعية ولمحاكمات مبنية على الرائج والسائد من معطيات راهنة.‏
                              - إن عداءنا مع الصهيونية ليس عداء عرقياً أو دينياً أو قومياً، بل هو عداء ناشئ عن الاحتلال المستمر والاستيطان في أرضنا وطرد شعبنا منها، وإقامة المشروع المناقض لمشروع وجودنا وتقدمنا؛ إنه عداء يتصل بالحق التاريخي لنا في وطننا فلسطين.‏
                              ولا يجوز أن نسكت على محاولات حرف الموضوع الرئيس عن مقوماته وأصوله وأسسه، لتصبح القضية في إطار العداءات العنصرية التي لا نؤمن بها نحن العرب؛ وإن كنا ندرك أن الصهاينة هم من يقوم اعتقادُه وإيمانُه على أسسها وتتم ممارساتُه بوحي منها.‏
                              والتاريخ يثبت أننا عشنا مع اليهود بتسامح وحميناهم من المذابح، ووفرنا لهم فرص العيش الآمن، حتى وهم يكيدون لنا ويدبر بعضهم الحروب ضدنا. إن القضية تتصل بالحق في الأرض، بالخلاص من الاحتلال، وبوضع حد للعدوان والاضطهاد والتشريد الذي يتعرض له شعب بأكمله هو الشعب العربي الفلسطيني .‏
                              - إنهم يريدون أن يختطفوا منا بَرَكة السلام وتعلقنا به ليضعونا في الموقف المعادي للسلام، إذا ما رفضنا القبول بشرعية الاحتلال ومواصفات "السلام الإسرائيلي" وتبعاته.‏
                              ودائماً تتجه السياسة الأميركية هذا الاتجاه، وتسعى إلى تشويه موقف من لا يتفق معها ولا يقدم مصالحها حتى على مصالحه، وتقوم بتشويه صورته وملاحقته بكل الوسائل، ومنها استخدام كلمات حق يراد بها باطل؛ وهذا ينطبق على كلام الرئيس كلنتون في خطابه أمام"بذور السلام" القاهرة.‏
                              * إننا بكل تأكيد من شرائح أبناء هذا المجتمع البشري الكبير الذي ينتشر ويعيش فوق الكرة الأرضية، ومن أبناء هذا العصر الذي يشهد تطوراً كبيراً، سواء أساهمنا في ذلك التقدم مباشرة أو بشكل غير مباشر- من خلال نهب المتقدمين منا ومن أوطاننا، وتوظيفهم في مشاريع حققت لهم التقدم- ولأننا أبناء هذه القرية الكبيرة /العالم/ فإن لنا الحق في العيش فيها والاستفادة من كل ما فيها. ونستطيع(ويحق لنا)، عندما نحرم من حقوقنا تلك، أن نعكِّر مزاج الذين يقفون في قمة هرم استغلال حياتنا واستثمارها والانتفاع بمعطياتها وخيراتها.‏
                              إن لنا شراكة مع الآخرين، هي شراكة في الشرط الإنساني والمصير الإنساني، وذلك يؤهلنا للمطالبة بحصتنا من عائدات الخير، كما تصلنا نتائج الشر وخلاصته حتى لو لم نطلب " حصتنا منها "؛ وإذا ما استمر حرماننا من ذلك فإننا سنضطر لاستخدام أنيابنا ومخالبنا للدفاع عن حقوقنا وربما عن أنفسنا ووجودنا الجسماني ذاته. وعلى من يريد حرماننا من كل شيء بوسائل منها اصطناع صفوة يرضيها فتكفيه مؤونة"العناية بنا حسب الأصول"؛ أن يفكر بثورتنا على تلك الصفوة، وعلى نظامه الانتقائي الذي يقوم على أساس مزدوج مراوغ من الأخلاق والمعايير لاحتكار المنافع وخدمة مصالحه فقط.‏
                              إن مستقبل الصراع العربي " الإسرائيلي " مرتبط إلى حد ما بالتكوين العقائدي والاجتماعي والثقافي لكل من الصهاينة والعرب، ومرتبط بالاستراتيجيات الفكرية- الأيديولوجية المستندة إلى أرضيات عقائدية وقومية- تربوية لدى كل من الطرفين.‏
                              - التوسع الإسرائيلي- فتح باب الاستيطان- استقدام مهاجرين يهود- التوسع في امتلاك القدرة العسكرية- كل ذلك لا يبشر بخير ولا يؤشر على إمكانية إقامة أي نوع من السلام والتعايش في المنطقة...‏
                              - الغيتو اليهودي انتقل من الأحياء في المدينة إلى غيتو أوسع هو فلسطين المحتلة، ولا مجال للتفكير في أن يخرج اليهودي من تلموديته العنصرية لينصهر مع الأمم ويذوب فيها، أو ليتفاعل معها وينسى عداءه التاريخي لها وعنصريته المصوَّبة إليها.‏
                              والذين يعلقون أهمية على:‏
                              - قدرة الثقافة العربية على استيعاب الآخرين.‏
                              - سعة المجتمع العربي والوطن العربي وقدراتهما على الاستيعاب والهضم.‏
                              - إمكانات التسامح والانفتاح والاتصال في الطبيعة العربية- الإسلامية، وما تقدمه دروس التاريخ من تفاعل مع الأمم أغنى ثقافتنا ولم يخرجها من دائرة انتمائها ولا هو ذوب شخصيتها.‏
                              ويذهبون، بسبب من ذلك وانطلاقاً منه، إلى دعاوى التطبيع؛ يقعون في وهمين كبيرين:‏
                              الأول: أن التطبيع لا يكون إلا على أرضية الاعتراف أو وجهاً من وجوهه فهو تمهيد أو نتيجة لاعتراف عربي بالعدو، وفي ذلك تجاوز على الحق والعدل والأرض، إذ القضية بيننا وبين الكيان الصهيوني لا يتحقق فيها عدل وحق إلا بعودة الأرض كل الأرض لنا؛ وفي هذا نفي للمشروع الصهيوني الذي يتعارض كلياً مع الوجود العربي، ومع المشروع النهضوي العربي. والصهاينة يدركون ذلك وهم يقبلون قبولنا لهم لأن في ذلك نفي لنا واستقرار لمشروعهم في وطننا وبمواجهة مشروعنا. وحتى حين يستبعدون كل منطقية وعصرية وواقعية عن هذا النوع من التفكير يذهبون إلى الضغط على أبناء أمتهم ويقومون بإيحاءات من شأنها التيئيس بغية فرض التسليم.‏
                              والثاني: أن العدو الصهيوني سوف يتمترس في"الغيتو" الواسع، ولن يتفاعل مع"الغوييم" ولن يتخلى عن مشروعه التوسعي الاستيطاني، لأنه لن يتخلى عن عقيدته التلمودية، ولا عن الوعود الأسطورية التي كتبت من قبل مؤرخية من التوراة فألزم مؤمنين بها وأخذ يسوطهم ليصلوا به إلى تحقيقها.. كما أنه لن يتجاوز رغبات الغرب الاستعمارية التي تقمصها أو تقمصته، ولن يتجاوز أيضاً عنصريته النابعة من قوميته ونوع الإيمان الذي يؤمن به، ونوع القيم التي يتربى عليها؛ فالآخرون"الغوييم" خدم له، وما في أيديهم، كل ما في أيديهم، وديعة له عندهم يأخذها متى شاء وكيف شاء.‏
                              والمشروع الصهيوني يقوم على الاعتقاد التلمودي، وعلى أصولية مغرقة في التعصب والخرافية، وعلى إيمان متعال واقتناع بتميُّز اليهودي وبتمييز على كل من هم سواه؛ على أرضية عنصرية من ادعاء الانتماء والانتساب إلى سلالة وعدها"يهوة" بان يجعل أرض الغير "والغير" كلهم في خدمتها‍‍‍‍‍؟؟ فهي سلالة نازلة من السماء، والآخرون سلالات خرجت من طين الأرض وتطورت من ديدانها، ولن يبلغوا مبلغ من يهبط من سماء الله إلى أرض موعود بها من قِبَلِه حسب عقيدة الصهاينة.‏

                              الأسبوع الأدبي/ع464//1/حزيران/1995‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #90
                                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                الجولان يعود
                                ـ1ـ‏
                                الجولان عائد ليحتل مكانته التاريخية اللائقة به من جغرافية سورية السياسية المعاصرة وتاريخها، وهو إذ يعود لم يكن مفارقاً ولم يفارق ذاكرة العرب السوريين ووجدانهم لحظة من زمن، رغم أن الاحتلال الصهيوني له زاد على ربع قرن، فقد كان دائماً يسكن الذاكرة والوجدان، ويحرك السواعد ويستقطب الجهود، في الحرب والسلم، ليتحرر من دنس "اليهودي- العنصري" ويعود حراً نظيفاً أصيلاً إلى حضن الوطن.‏
                                الجولان عائد ليأخذ مكانه في مسيرة البناء والتقدم والإعداد والاستعداد، ليوم تكون فيه حيفا مثل القنيطرة فضاء عربياً يرفرف في سمائه علم عربي وتحكمه سيادة العرب. وحين يعود الجولان لن تبقى منه قطعة: من "بانياس" الداخل، أو"الحمة" لتكون "طابا" جديدة تفرض من خلالها شرعية لحدود "دولة عبرية" يرسم حدودها القضاء الدولي. فالمساحة الجنوبية الغربية من "بانياس" أهم، في هذه المرحلة، عند السوريين من أيَّة مساحة أخرى لأنها تؤكد العزم والحق والإرادة من جهة وتفتح الأفق نحو تجدد العزم والإرادة والحق من جهة أخرى.‏
                                يقول الصهاينة الملفَّعون بالخزي العنصري اليوم إن الجولان أرض سورية ولم تكن "إسرائيلية" في يوم من الأيام؟ وهذا الكلام الذي تصدعت به قلوب من عتاتهم، وشق بعض الصفوف في الكيان الهجين، لا يشكل جديداً عند السوريين، لأنهم يعرفون حقهم ويعرفون جيداً أن فلسطين بكاملها لم تكن يوماً أرضاً "إسرائيلية" وأنها لا بد أن تعود بمجملها إلى حقيقتها التاريخية: أرضاً عربية تتوارثها أجيال أبناء الأمَّة منذ ما قبل اليبوسيين- الكنعانيين إلى يوم الناس هذا وما يمتد بعده من أيام، ذلك أن العدوان والقهر والغزو لم يدم ولن يدوم في ظل وعي أمة تعرف ما لها وما عليها، وتعرف من هي وما تؤمن به بين الأمم عبر التاريخ.‏
                                الجولان يعود.. وعودته تصدِّع قلوباً في صفوف الأعداء، وتقسم تلك الصفوف، وتمهد لجديد في المواقف والتحالفات والسياسات والتطلعات، لن يكون آخرها تصدع "الليكود" الذي يرفض سياسة حزب العمل في الجولان، ولا تململ أحزاب صغيرة وسعيها لتحريك الكنيست وتجمعات المستعمرين المجلوبين إلى أرض الجولان لإعاقة إعادته لأهله، ولا اعتراضات عسكريين " إسرائيليين" يرون أنهم "يخسرون" بعودته مواقع استراتيجية حصينة.‏
                                بل سيكون لذلك مفاعيل أخرى سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية مختلفة، وسيكون انعكاسها على العدو الصهيوني سلبياً، وانعكاسها على سورية العربية وأمتها إيجابياً؛ ولكن ليس من دون جهود ورؤية واستراتيجية وتوجهات عملية.‏
                                فالجولان مدخلنا من سورية إلى الجليل، وإطلالتنا على طبرية والماء، وكفنا التي تتشابك أصابعها بقوة وعزم مع امتدادات الجنوب اللبناني إلى الناقورة، فهو الموقع الاستراتيجي والأرض الخصبة والإطلالة على أرض المعارك الحاسمة في التاريخ، لا سيما اليرموك. وهو أرض الماء والنماء ومستقر جبل الشيخ " حرمون " وامتداد أجنحته وعيونه في فضاءات الأرض والسماء؛ فهل نحوِّله إلى أفضل مما كان عليه كموقع حصين قبل حزيران الأسود، ونتعلم في الوقت نفسه كيف نحافظ عليه وعلى حصانة الجبهة التي يشكلها، بعد استخلاص العبر من حزيران الأسود؟ سؤال يتوقف عليه الكثير، ويقف من دونه الكثير.‏
                                إن الاتفاقات التي تسفر عن عودة الجولان تحمل في طياتها التزامات تشكل قيوداً أو علاقات في وجه أحلامنا، وترتب علينا مثلما ترتب على سوانا شروطاً وواجبات؛ ولا بد من التفكير في كيفية التوفيق بين معطيات الواقع والتزاماته وتطلعات المستقبل واستحقاقاته.‏
                                في الجبهة المقابلة يتوقعون حرباً عربية مقبلة بعد سنوات تزيد على عقد من الزمن أو تقل، وهم يرونها قادمة، ويخططون لمواجهة استحقاقاتها انطلاقاً مع واقع ما بعد عودة الجولان، وإقامة محمية عرفات الصهيونية، والتحالف القادم أو القائم مع صانع "وادي عربة".‏
                                يقولون إن الجولان موقع استراتيجي- جغرافي يصعب عليهم تعويضه أو اتقاء مخاطره عندما يعود لأصحابه، ويذهبون إلى تعويض في عمقين استراتيجيين تحققهما معطيات الحرب الحديثة، وتزيد من إمكاناتهما وتأثيرهما ما توفره التكنولوجيا العصرية في المجالات العسكرية من عناصر قوة. وهما: الفضاء وامتداده الأعلى، والبحر وعمقه الممتد حتى أوربا وأساطيل الغرب.‏
                                في الفضاء والجو ترتكز "إسرائيل" على سلاح الطيران الذي تطوره وتزيد من قدراته، وعلى الصواريخ من أجيال وطرز مختلفة [أريحا: 1-2-3] و"حيتس" وبطاريات الباتريوت وسوى ذلك، وفي الفضاء على أقمار التجسس [أفق 1-2-3] وما تخطط لزرعه من أقمار صناعية أخرى. وتستفيد استفادة هائلة من القدرات والإمكانات والمساعدات التي حققها لها الدعم الأميركي، لا سيما منذ أن أدخلها الرئيس الأميركي "ريغان" في برنامج الدفاع الاستراتيجي "حرب النجوم" الذي مكنها من اكتساب تقنيات ومعلومات وخبرات جعلتها تحقق إنجازات واسعة في مجالات تطوير الصواريخ والطائرات والأقمار الصناعية. وهي لا تخشى نقصاً له، ويكاد ما قاله الرئيس نيكسون الذي يتوسط تقريباً عمر دولة العدوان ويعبر عن الالتزامات السابقة واللاحقة في استمراريتها وكثافتها، يكاد ذلك القول يصدق عنواناً لاعتماد " إسرائيل المستقر" على دعم أميركا الذي لا ينفد، فقد قال:‏
                                "نحن و" إسرائيل " لسنا حليفين طبيعيين عاديين، بل إن لدينا التزاماً خُلُقياً معها هو أسمى من أيَّة اتفاقية أمنية(...) وليس لأي رئيس أميركي أن يترك " إسرائيل " تغرق في الوحل".‏
                                وقد جسد هذا الالتزام كل الرؤساء السابقين وخير من عبر عنه مؤخراً الرئيس كلينتون أمام لجنة الشؤون الأميركية -الإسرائيلية "إيباك" في السابع من أيار 1995.‏
                                في البحر وامتداده الغربي: تملك دولة العدوان /33/ قطعة بحرية بينها غواصتان من نوع دلفين بنتهما ألمانيا ثمناً لابتزاز الصهاينة المستمر لها، وثلاث سفن حربية نووية بتسهيلات أميركية. عدا عما أصبح بإمكان ميناء حيفا الحربي الذي يطوره ويوسعه الأسطول الأميركي بالتعاون مع "إسرائيل" أن يقدمه، بعد أن اعتُمِد هذا الموقع للعمل التحالفي المشترك/ الأميركي -الإسرائيلي/ ضد المنطقة ومن أجل الحفاظ على مصالح الحليفين الشريكين في الوطن العربي كله.‏
                                أما امتدادات القوة القادمة من هذا العمق الاستراتيجي: "البحر" فحدث عنها ولا حرج، فهي تهيئ استقدام القوة واستخدامها في جميع الأحوال، مع الحفاظ على تدفق وأمن وطول ذراع يشمل البحر كله وامتداد شرايينه في العمق عبر السويس والعقبة ليصل إلى مضيق هرمز.‏
                                ولا تتوقف استعدادات "إسرائيل" عند هذين العمقين الاستراتيجيين البديلين المبشرين، ولكنها تستند وبقوة إلى استعداد ثالث عملت له منذ الخمسينيات من هذا القرن وهو السلاح النووي الذي تطور مفاعلاته وتزيد من قدرتها على الأداء في ظل سكوت غربي عنها، ودعم أميركي لها، وتواطؤ الأمم المتحدة ومجلس الأمن معها؛ حيث هي "الدولة الوحيدة في العالم" التي تفتح أمامها آفاق امتلاك السلاح النووي وتطويره من دون قيود، ومن دون إلزام لها من أي نوع باتفاقيات أو مراقبات دولية من أي نوع؛ بينما يجري الحصار والتفتيش والتضييق على أية دولة عربية أو إسلامية/ على الخصوص/ تفكر مجرد تفكير في امتلاك قدرة نووية للأغراض السليمة. وإذا كان لدى "إسرائيل" ما يزيد على مئتي رأس نووي من أحجام وقدرات مختلفة فإن على غيرها من دول العرب ألف سيف يرهبها ويمنعها من التفكير بامتلاك صاروخ أو دبابة لتدافع عن نفسها حيال الهيمنة الإسرائيلو- أميركية. عدا عن الدفع الداخلي الذي يجعل أنظمة وحكاماً عرباً يندفعون طوعياً للارتماء في أحضان "قوة العدو" للاحتماء بها والاستقواء بها على ذويهم.‏
                                في ظل هذا تعمل "إسرائيل" وأميركا على تحقيق "سلام" مفيد لهما ومغيِّب لسواهما على نحو ما. وفي ظل هذا تتخذ ترتيبات عدة، مع الحرص على عدم إيقاظ الفيل العربي المتراخي.‏
                                إذن في الجبهة المقابلة يعملون للتعويض عن كل ما يسمونه "خسارة" لهم، ونحن أصحاب الحق والذين يوجه إليهم التهديد نعيش الغيبوبة أو يتأكل بعضنا القلق، فكيف السبيل إلى يقظة أو إلى أمن؟!‏
                                إن الموقع الحصين مفيد، ولا يمكن أن تحصِّن الجغرافية وحدها - في عصر العلم- شعباً أو أمة، فلا بد من حصانة تُكتسب من خلال العلم والثقافة والقوة، من خلال وعي معرفي يحوِّل معطيات العلم الحديث إلى أسلحة تحرر الإرادة والقرار والإنسان، وتحفظ له مقومات البقاء بأمان فوق أرضه، وتعطيه ثقة ودفعاً باتجاه التفاعل الحضاري، على مستوياته وصعده جميعاً؛ تحت مظلة قوة لا تجعله مسحوقاً تحت ظل الآخر وقوته، يعيش حالة تقليد له، أو حالة تبعية مزرية ومقيتة لمصالحه وثقافته وسياسته وإنتاجه.‏
                                إن الجولان العائد إلى سورية بقوة الموقف والحق والإرادة والاستعداد ينبغي أن يضع أبناء هذا القطر بالذات وأبناء الأمَّة العربية، الذين تعنيهم شؤون المستقبل ومستقبل الصراع العربي الصهيوني، بمواجهة الحقائق والمعطيات المستقبلية القادمة وكذلك الاستحقاقات التي ترتبها؛ وهي ليست برداً وسلاماً على إبراهيم، وليست مجرد قشور صراع اقتصادي، وازدهار مادي شكلي، ولا مجرد سلع وبضائع وسواح يخترقون مواقع التطبيع، إنها تحديات حقيقية تتصل بالأمن والبقاء وحرية القرار وحرية الوطن والمواطن.‏
                                إنها قدرات قتالية تقدمها علوم وتقنيات وتحتاج إلى إمكانات بشرية ومالية، ووعي بضرورة ذلك، وتوجه سياسي يبرمج هذه الاحتياطات والاستحقاقات زمنياً ويوظف لها الطاقات ويحشد لها الإمكانات.‏
                                الجولان عائد ومع المسؤولية والتطلعات والتحديات المطروحة علينا في المستقبل، وهو عائد لينشر رياح الحرية ويرتب حدود المسؤولية، وليفتح العيون على القلق المشروع الذي يحتاج إلى استثمار كل دقيقة وقت، وكل قرش، وكل طاقة بشرية في هذا البلد، الذي يبقى قلعة الصمود والوعي والالتزام العربي، ومنطلقنا نحو مستقبل فيه الحرية والتحرير والوحدة والأمل؛ مستقبل الأمَّة العربية التي لم تذب ولم تنهزم ولم تغير ثوابتها على الرغم من الكوارث والحروب وتقلبات الزمان وتداول الدول منذ أقدم عصور التاريخ المكتوب وحتى يوم الناس هذا.‏
                                فأهلاً بالجولان يعود ومعه القلق والمسؤوليات والتحدي الذي يرفض العدو الصهيوني ويعمل من أجل استكمال التحرير بكل الوسائل، طال الزمن أم قصر.‏

                                ـ 2 ـ‏
                                الجولان عائد إلى حضن الوطن، عائد إلى أهله، وعائدون إليه أهله، يحملون الشوق، وآثار المعاناة والأحلام الكبيرة، وتطلعات مشروعة إلى المستقبل يشارك في رسمها وتلوينها وتحديدها الوطن والأمة فالجولان جزء من الوطن والأمة.‏
                                أهل الجولان وأفئدة ملء سهول الوطن ووهاده وجباله وبواديه، مدنه وقراه، عائدون وفيهم من حزيران أشياء، ومن تشرين أشياء، ومما يشكله تاريخ الجولان وموقعه ووقائعه ومواقعه في ذاكرتهم ووجدانهم ما لا يمحى ولا يحصى من المعطيات والذكريات والعبر، التي تلون تلك الأشياء وتوظفها وتجعل لكل فعل وقول وتحرك معنى في أرض الجولان وامتداداتها في عمق الوطن وعمق الوجدان.‏
                                الجولان عائد.. فكيف يكون ذلك؟‍ وكيف يصبح؟‍ وما موقعه في الأحداث ومنها؟‍!؟‏
                                أسئلة تتشمرخ في فضاءات النفس والفكر، وقلق ينمو ويتشعب ليعانق الأسئلة والأجوبة والهواجس، ويعطيها لوناً وطعماً ودلالات، وهي تحاول التشكل في صورة وتوجه يقدمان بعض ملامح المستقبل ويساعدان على استقراءات له، في ضوء مكانة الجولان وموقعه وما يمثله للوطن والأمة والتاريخ.‏
                                الجولان اليوم، بعد أن استقرت في المصورات الجيوـ سياسية العربية نتائج اتفاقية سايكس -بيكو وغدت مرعية الاعتبار، وبعد أن وقعت اتفاقيات: كامب ديفيد- أوسلو- وادي عربة بأبعادها والتزاماتها وانعكاساتها على الوضع العربي حاضراً ومستقبلاً؛ أصبح قوس الحدود وملتقاها بين سورية وكل من الأردن وفلسطين المحتلة ولبنان، ونقطة تماسنا مع "أم قيس" وطبرية والجليل وامتدادات جنوب لبنان نحو جبل الشيخ أو امتدادات الجبل في لبنان؛ وكل تلك الجغرافية سيكون لها معنى مغايراً لما كان عليه وضعها قبل 1967 أو في أثناء حرب تشرين، لأن الخريطة السياسية العربية تغيرت، والمنظور إلى الأهداف القومية تغير، بل إن الأهداف ذاتها دخلت مرحلة التآكل وذاب ما ذاب منها وتغيَّر ما تغيَّر.‏
                                العدو الصهيوني الذي يفاوضنا اليوم في واشنطن حول الجولان، على أساس القرارين 242 و 338 ومبدأ الأرض مقابل السلام وأرضية مدريد، اخترق بشكل سافر وعميق كل المحرمات والجبهات القومية ودمر ما كان يُنظر إليه على أنه استراتيجيات عربية، لا سيما في مواقع ما كان يسمى دول المواجهة، أو دول الطوق، وأصبح حليفاً للأردن وفلسطيني أوسلو بموجب اتفاقيات ومصالح ومن أجل الحفاظ على مصائر زعامات وأنظمة في ذينك الموقعين العربيين؛ ويستطيع أن يلزمهما بما لا تستطيع أن تلزمهما به جامعة الدول العربية بل ويجبرهما- بموجب الاتفاقية- على اتخاذ قرارات ومواقف وتوجهات مغايرة تماماً لكل ما قد تتخذه من قرارات قومية في منحى التضامن العربي أو مناصرة أي قطر يفكر بمعاداة الكيان الصهيوني.‏
                                وانطلاقاً من تلك الاتفاقيات التي كبَّلت مصر والأردن وكثرة لا يستهان بها من الفلسطينيين، وامتدت تأثيراتها إلى الأقطار العربية، أصبح الجولان موقعاً مرصوداً بدقة من معظم الجوار، ومركز اهتمام العدو الصهيوني بدرجة قصوى، والمساحة التي تهتم بما يجري فيها الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني والدول الغربية بشكل عام.‏
                                في المفاوضات الثنائية بين سورية والكيان الصهيوني، الجولان لا يمثل أرضاً عادية مثل سيناء، أو المساحة التي أجَّرها الملك حسين للصهاينة بموجب اتفاقية وادي عربة، ولكنه يمثل الأمن والمستقبل وأبعاد الاتفاق الذي يُبحث الآن.‏
                                ولذلك يتمسك العدو الصهيوني:‏
                                1-بانسحاب محدود جداً في المرحلة الأولى يشمل أربعة قرى محتلة وإخلاء مستوطنة واحدة فقط.‏
                                2-وبتطبيع العلاقات بعد هذه المرحلة من الانسحاب المحدود. وفي ضوء الاطمئنان إلى تطبيع العلاقات وما يقدمه من نتائج ملموسة على الأرض، يجري إتمام الانسحاب إلى خطوط يتفق عليها في أثناء المفاوضات، يمكن أن تكون الحدود الدولية وليس حدود الرابع من حزيران. وذلك يعني على وجه التقريب عدم رغبة العدو بالانسحاب من بانياس والسفوح المطلة على سهل الحولة ومن الحمة وبعض المساحات الصغيرة الأخرى.‏
                                ولا يتوقف الأمر في الجولان، الذي يعني: الأمن والمستقبل والثقة ومعاني الاتفاق الذي يتم التباحث حوله، لا يتوقف الأمر عند التعامل الجغرافي؛ فالعدو الصهيوني يعتبر المياه جزءاً من الأمن ولذلك يريد الاحتفاظ بمواقع تغزُر فيها الينابيع، وتتدفق منها المياه أو تجري عبرها.‏
                                3-بإقامة موانع طبيعية في الجولان تحول دون عبور القوات البرية إلى فلسطين في أي وقت وتحت أي ظرف؛ ومن تلك الموانع المطروحة :‏
                                أ ـ إقامة مانع مائي بين عين الزيوان والقنيطرة يمتد امتدادات طبيعية في بعض المناطق.‏
                                ب ـ إقامة مشروع "فحطل" ـ رجل الأعمال اليهودي- الذي يطرح إقامة مانع مائي طبيعي ضخم يمتد على طول الحدود وتُجر إليه المياه من تركيا، ويصبح مشروعاً لاستثمار المياه في الري ولاستخدام ذلك الحاجز ـ المانع الطبيعي الذي يشكله ـ استخداماً أمنياً. ولا يبدو حتى الآن أن هذا المشروع يحظى بأولوية ولكن مشروع جر المياه من تركيا عبر سورية مشروع تدرسه الجهات المعنية في الكيان الصهيوني باهتمام وجدية، وتوجد الآن لجنة تزور أماكن تجمع المياه في شرق تركيا لمتابعة هذا الأمر.‏
                                ولن يكون لمثل هذا المشروع وجود واستمرار من دون وجود القبول السوري والأمن والتطبيع والمصالح المتبادلة والاعتراف القائم على الاقتناع، فهل يرشِّح المستقبل شيئاً من ذلك للوجود، وهل يكون الجولان أحد مستودعات المياه للعدو الصهيوني أو ممراً لشريان المياه؟! سؤال ترتبط الإجابة عليه بمستقبل الصراع العربي- الصهيوني وبالتاريخ النضالي لسورية الذي كان وما يزال مرتكز النضال القومي ومركزه.‏
                                4 -يعمل العدو على إقامة منطقة منزوعة السلاح، وسيكون لنا- في ظل اتفاق ما- منطقة مماثلة في الجليل قد لا تكون بنفس العمق الجغرافي ولكنها متوازنة عسكرياً من حيث وجود الأسلحة والقوات، ولكن العدو يذهب إلى مدى أبعد لن يتحقق له وهو المطالبة بتقليص القوات في منطقة دمشق، وتقليص الجيش السوري نفسه.‏
                                ومن الطبيعي أن يكون الجولان في هذه الحالة، حالة المنطقة المنزوعة السلاح، موقع مرابطة لقوات دولية: أميركية ويابانية على الأرجح، وربما أكثر تنوعاً، وسينطبق الأمر ذاته على مساحة من الجليل حيث سترابط فيها قوات دولية بوصفها منطقة منزوعة السلاح لمصلحة سورية؛ وفي كل من الجانبين يُقام موقع للرصد.‏
                                أ-موقع في جبل الشيخ يطلبه الكيان الصهيوني.‏
                                ب- وموقع ترشح له صفد يكون لسورية.‏
                                ومن الموقعين يتم رصد عادي للتحركات.‏
                                ولكن هل من الممكن فعلاً أن يكون هناك توازن وتماثل في الرصد والسلاح يضمنان الأمن والثقة ومن ثمة الاستقرار، انطلاقاً من الجولان وفيه؟!‏
                                إن امتلاك العدو الصهيوني لنوعية عالية من أجهزة الرصد ووسائله يجعل الخلل قائماً، ومن ثمة يجعل الثقة مهتزة ويقيم المنطقة على أسس من التوازن القلق جداً، هذا إذا قام فيها توازن أصلاً!!‏
                                فلدى العدو الأقمار الصناعية /أفق2.1 3/ وعدداً آخر من أقمار التجسس الأخرى، وكثافة عددية ونوعية في الطيران، ولديه إضافة إلى ذلك قدرات حليفه الأميركي على الدعم والتجسس وتصوير قطعة الحديد الصغيرة من مسافات بعيدة، وكل أجهزة الاستشعار عن بعد تلك التي بأيدي العدو وحلفائه مضافة إلى اختلال التوازن أصلاً؛ وكلها تخلق حالة من انعدام الثقة قائمة على اختلال ميزان القوى لمصلحة العدو، ومن ثمة تجعل الجولان مساحة قلقة أمنياً وسياسياً بين سورية وامتدادها الجغرافي- التاريخي فلسطين، الذي تعشِّش فيه قوى الاستعمار الاستيطاني- العنصري قوى الاحتلال الصهيوني المدعومة غربياً، التي تحلم بتحقيق مشروعها التوسعي، الذي يتحقق بأشكال مختلفة خارج حدود التحقق الجغرافي المباشر المستبعَد في الوقت الراهن. ومن تلك الأشكال: الهيمنة الأمنية والاقتصادية، والتمكن من إحداث الخلخلة في المنطقة كلما استدعت مصالح العدو ذلك، والقيام بتحالفات وتحركات تجعل قرار عرب من العرب بيد العدو، وتحرم العربي من ثقة العربي وعزمه؛ ومن ثمة تنمي المشروع الصهيوني على حساب المشروع العربي الذي سيبقى النقيض الدائم له، ولا يتفقان إلا في استشعار النفي المتبادل، إذا كان هذا الاستشعار يشكل مظهر اتفاق؟‍!‏
                                ومن للمشروع الحضاري العربي، أو للمشروع النهضوي غير سورية أصلاً؟! وهو مشروع من مقوماته:‏
                                -التضامن العربي وصولاً إلى الوحدة.‏
                                -امتلاك العلم والتقانة وصولاً إلى القوة.‏
                                -إقامة القاعدة الاقتصادية العربية المشتركة، وصولاً إلى تقدم الفرد والمجتمع وتحرير القرار السياسي العربي وتحرير الإنسان العربي من أشكال التخلف، والتمكن من تحويل معطيات العلم والتقانة والمعرفة إلى مستويات حضارية وصناعات عسكرية ومدنية، تحقق الحصانة وتقيم التوازن العسكري، إن لم نقل التوازن بيننا وبين العدو الصهيوني، الذي سيبقى في ظل كل اتفاقية تبرم عدواً تكرسه الذاكرة كما يكرسه الوجدان، ويستمر ذلك باستمرار احتلاله لفلسطين وسيطرته بالقوة على مصيرها، وحضوره فيها من خلال سيادة ودولة وقوة قهر نووية، وعنصرية تمارس إبادة الجنس واضطهاداً متنوع المظاهر والأشكال لشعبنا وتعويقاً مستمراً لتقدمنا، واستنزافاً دائماً لخيراتنا وقوانا وطاقاتنا البشرية والروحية والمادية.‏
                                -إقامة جسور الثقة بين العربي والعربي على أرضية الأهداف المستقبلية التي لن تتنازل عنها سورية، وهي الأهداف القومية التي استمرت سورية مركزاً لها عبر تاريخ الأمَّة العربية، التي أعطت لهذه الأرض هويتها وشخصيتها وملامحها الحضارية.‏
                                5-يريد العدو الصهيوني في مرحلة المفاوضات الأولى والانسحاب المحدود، أن يتمدد بمقابل ذلك الانسحاب ليخترق جسم الجولان إلى دمشق في شريان هو مجس التطبيع مع سورية ورائده الأول، حيث يطالب بمد خط اتصال مباشر بين قيادتي الجيشين لتبادل الاتصال في أثناء المرحلة الانتقالية التي تمد ثلاث سنوات، يتم خلالها الإعلام المتبادل عن كل ما قد يطرأ من تحركات كما يعلم كل من الطرفين الطرف الآخر بالمناورات التي تتم، ويتفقان على تسيير دوريات مشتركة مع القوات الدولية أو بإشرافها.‏
                                وهذا المطلب، إضافة إلى مطالب أخرى تبحث في الجانب السياسي، تتعلق بالتبادل الدبلوماسي، وأساليب تعزيز "الثقة" يرمي إلى تحقيق ما يحرص العدو الصهيوني على تحقيقه مع سورية على وجه التخصيص وهو الوصول إلى سبر مدى التطبيع الممكن وما يمكن أن يصل إليه أفقه مستقبلاً، وذلك قبل الدخول في مرحلة الانسحاب النهائية التي يصر كما أسلفنا على أن تكون إلى ما يسمى بالحدود الدولية وليس إلى حدود الرابع من حزيران.‏
                                من المؤكد أن سورية ترفض التنازل عن ذرة تراب من أرض الوطن، وتتمسك بعودة الشبر الأخير من الأرض العربية التي كانت فيها قبل الرابع من حزيران 1967، وتتطلع إلى استعادة الأرض العربية المحتلة، وإحقاق حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة وتقرير المصير فوق ترابه المحرر وفي عاصمته القدس.‏
                                ومن الطبيعي أن يكون لنا نحن أبناء الأمة، المتمسكين بثوابتها وحقوقها وتطلعاتها المشروعة، مشروعنا وأحلامنا وبرنامجنا الذي يتناقض كلياً مع الوجود الصهيوني على أي شبر من أرض الأمة، ويتناحر مع المشروع الصهيوني ليكمل معه الصراع حتى نهايته؛ ومن الطبيعي أن يكون لنا حضور ووجود وفاعلية، وأن نتوجه للأجيال والجماهير في آنٍ معاً مقدمين رؤية ومشروعاً وبرنامج عمل يجعل من الجولان موطناً للثغور والحصون المنيعة، بشرياً وعمرانياً، ويجعل من أرض الجولان الخصبة قاعدة للإنتاج المتقدم، كل أشكال الإنتاج المتقدم، كما يجعل منها -عبر الرؤية الرسمية والتاريخية لها ـ الموقع الذي يتأثر بالمواقع العربية الأخرى ويحميها ويتفاعل معها. فالجولان لا يستقر دون استقرار الجنوب اللبناني، ولا يتحرر بالمعنى الفعلي من دون تحرر ذلك الجنوب وجلاء العدو عن ترابه، وسيبقى الجولان متفاعلاً مؤثراً ومتأثراً، بما يجري في الجنوب والجليل ويبقى المسبار الحساس لانعكاسات الوعي القومي والعمل العربي، والاشتباك المرئي وغير المرئي، بيننا وبين العدو، سواء أتمَّ ذلك على الأرض أو في مجالات الإعداد والاستعداد والبحث والتطوير وامتلاك القوة وتوسيع المشاريع.‏
                                فالجولان العائد إلى حضن الوطن وإلى أهله يعود بنظرنا معقلاً للمواجهة بأساليبها وأدواتها ومعطياتها الجديدة، والمستقبل الذي يرسمه أو يرتسم انطلاقاً منه لا يشير -بتقديري- إلى استقرار على أرضية السلام العادل والشامل، إذ لا سلام عادل وشامل ودائم مع العدو الذي يحتل الأرض ويشيع الرعب والقمع والقهر، ويطور أسلحة الدمار الشامل ويمتلك الأسلحة النووية ويستمر في تطوير قدراته في مجالاتها المختلفة، ويزيد من اتساع عمقه الاستراتيجي وقدراته في مجالي:‏
                                1-الفضاء والجو بمعطياتهما التي توفرها برامج حرب النجوم والأسلحة المتطورة (صواريخ -طائرات- أقمار تجسس..)‏
                                2-البحر وعمقه الغربي- الاستعماري بمعطياته الحديثة: الغواصات النووية والصواريخ والقطع الحربية العملاقة والأساطيل التي تعسكر في الماء.‏
                                إن الجولان يساعدنا اليوم من خلال المباحثات وإشارات الانسحاب والموقع الاستراتيجي، والدور الأمني بتشعباته، يساعدنا على استقراء الخلل والقلق والسباق المحموم على تحقيق التوازن وخرق التوازن، مما يجعل صورة المستقبل صورة تصيح بمقومات الصراع الساخن حتى في ظل سلام بارد.‏
                                إن الجولان العائد إلى أهله عائد بما يحمله من زاد في الذاكرة والوجدان لعرب سورية حول ما كانه الجولان في 1967 و /1973/ وما يمكن أن يكون عليه على أرضية الثوابت المبدئية والقيمية والقومية والاستراتيجية للعرب في سورية ولسورية العربية. وربما نظرنا نحن الكتاب إلى الاستراحة التي قررنا إقامتها على السفوح الجنوبية الغربية من بانياس الداخل في أقصى مساحة متاخمة لحدود الأرض الفلسطينية المحتلة، ربما نظرنا إليها كحصن يتحفز للعناق مع أرض حيفا ويافا والقدس، ليعود النقاء والصفاء والأمن والاستقرار الفعلي لهذه المنطقة، التي لن يكون لها أمن وسلام واستقرار إلا بزوال الاحتلال كلياً، وبعودة الحق إلى أهله، وباستعادة فلسطين لهويتها وانتمائها العربيين في ظل سيادة عربية يكون الفلسطيني كل فلسطيني فيها جزءاً من أمته وقرارها واستقرارها وليس خنجراً أو بعض خنجر يمسكه المحتل ليهدد به الفلسطيني الآخر، والعربي الذي يُوحى إليه الآن بأن لا شان له بالقرار الفلسطيني المستقل؛ ذاك الذي بدا في استقلاله هلاكه واستعماره وهلاك أمته واستعمارها في الوقت ذاته.‏
                                الجولان عائد والمواجهة لم تنقطع والعدو يبقى عدواً وفلسطين تبقى عربية؛ ونحن في اشتياق إلى القنيطرة ، إلى بيتنا الحصين في الجولان، وأرضنا الممدودة للأشقاء العرب على أرضية المشترك العتيد الذي لا تزعزعه الحوادث الكبار.‏

                                ـ 3 ـ‏
                                من شرفتها المتواضعة تنظر القنيطرة، سيدة شهيدات المدن، إلى تل أبي الندى المكبل بالعيون الصهيونية الصدئة وبألف لون ولون من الحقد؛ ومن شرفتها تراقب أولاد جبل الشيخ الذين يفترشون الأرض أمامه ويتوزعون في مساحة حساسة من أرض الجولان، فتلملمهم حولها كالأم الرؤوم وتبكي جراحاً في صدرها وقلوبهم.‏
                                بين الهضاب والوهاد تتوزع مزارع الأعداء ومزارع الألغام وتتلفع كل غيمة قادمة من الغرب بالحسرة وهي تعبر المسافة بين شاطئ فلسطين وقلب الجولان، والآراء الممتدة من جمجمة العربي الناظرة من شرفة المدينة الشهيدة إلى التلال تصطدم بالأشرطة الشائكة فتزيدها تجريحاً. وفي العيون ترتسم صورتان:‏
                                -الماضي الدامي بحرائقه ودماره وعذاباته وبطولاته ومذاق ما كان له من أيام.‏
                                -والمستقبل المجرح بألف رغبة دون كل منها خرط القتاد، وبألف حلم ينام على بُسُطِها ملايين العباد.‏
                                *الجولان:‏
                                -وعد يمتد أمام الفلاحين المتعبين الذين طال تشردهم عن قراهم ومزارعهم، ولا يعلمون عن بيوتهم وقبور آبائهم شيئاً. ويتطلعون بشوق إلى فجر نظيف ندي يعانقون في ضوئه الأرض وأحجار البيوت.‏
                                -وجبهة لا يستطيع الجندي أن يعود إليها عندما يعود، لأن الجولان العائد ينبغي أن يكون بلا أسنان وبلا أظافر، جلباً للراحة والاطمئنان‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟؟‏
                                -وكتلة من التطلعات والمصالح والاستعدادات تنداح، في فجر يبحث عن شفقه، ونهار يبحث عن ظلاله، وليل مات قمره وتسامقت فيه النجوم، مشدودة إلى تعال عن أرض يتناءى عنها تاريخ، وعن تاريخ يتباعد عن عن أرض.‏
                                *الجولان: حلم عند الشباب والصبايا باستقرار وفرحة وبيت ينفتح على المستقبل والأطفال، ومآل عند الكبار يحمل الراحة النفسية والاطمئنان إلى يوم ترجع فيه النفس إلى ربها راضية مرضية، وتذوب في أرض جاءت منها، وتكونت فيها، وآلت إلى بعض تكوينها أو تكاد تؤول، وملعب لصغار طالما وعدوا بملاعبهم في أحلى الأرض، وأكثرها تجلياً في روح الشعب.‏
                                وعندما تقرأ في عيون أبناء القنيطرة، على مختلف مستوياتهم، حب الأرض، وتاريخ النفي، وسجل الشوق، تعرف أية تجربة غنية ستكون، بعد العودة، لشعب مع أرض، ولإنسان مع قضية.‏
                                مجرحة أرض الجولان اليوم بالشوك والجفا وظلمة التوقعات، ومبرقعة بمساحات من الضوء وزهو الحلم لا حدود لعطاءاتها المستقبلية، ومنذورة لألف لون من الأداء مرتسمة بأعين البشر وعقولهم ومخططاتهم, فأي جولان سيكون لنا الجولان العائد إلى حضن الوطن والشعب؟‏
                                - منزوع السلاح..... نعم، وقاعدة مستقبلية لحمل كل سلاح أرجو أن أقول: نعم. فالجولان المعمور بإرادات أهله، وعزم الشعب العربي السوري، وإرادة الأمَّة بأن يكون دار ازدهار، وعنوان تقدم حضاري، وموقعاً يعز على ساكنه أن يفرِّط به بكل المقاييس، وأن لا يعمل على الدفاع عنه بكل الأسلحة والمقاييس؛ الجولان بهذه الصفات هو العائد من الأسر ناثراً أمامنا كل الجراح والمآسي ليزيد تعزيز ما في الوجدان والذاكرة من معطيات تكرس العدو عدواً وتجعل الاستعداد لمقاومته ديدناً. إذ بذلك فقط ندافع عن الوجود في الجولان، وعن انتمائه لأمته وجغرافية الوطن، وبذلك نعمِّد عودة كان ثمنها غالياً.‏
                                -مبنياً بناء حصيناً، ذا طبيعة دفاعية، تجمع عمرانه بين العصرية ومتطلباتها، والأصالة ومقوماتها، والمواجهة وتبعاتها.... نعم... فالجولان العائد سيبقى الجبهة ما بقي الكيان الصهيوني، والاحتلال، والنزوع العدواني الذي يتزود بأشكال القوة جميعاً. ففي قرى الجولان الجديد ومدنه أرى الملاجئ الحصينة ذات المواصفات العالية، القادرة على حماية السكان من كل أسلحة الحرب الحديثة، أرى تلك الملاجئ تحت الحدائق والبيوت، وفي المواقع والمساحات المناسبة التي يقررها أهل الاختصاص، وأرى الأبنية القادرة على حماية السكان من القصف بأشكاله، وأرى الاستقرار والتجذُّر في الأرض يستنبتان في التاريخ والإرادة ويحميان بالإعداد والاستعداد وتقديم الأنموذج الذي يبعث في النفس الاطمئنان، ويجعل الفرد المقيم في مساحة المواجهة يشعر بأن كل الشعب خلفه ومعه، يقدم له ويحميه ويعمر قلبه.‏
                                فالجولان، شئنا أم أبينا، شفرة التصادم مع عدو لم يترك الاستعداد للعدوان، ولم يلغ مشاريعه التوسعية، ولا يُنْتَظَر أن يغير طبيعته العنصرية- التلمودية، وارتباطاته بالاستعمار وأغراضه الممتدة نحو هذه المنطقة من العالم.‏
                                وليس لنا من خيار سوى أن نأخذ تلك الوقائع والحقائق بعين الاعتبار لأغراض الدفاع قبل أغراض التحرير، وانطلاقاً من ذلك أرى أن نقاط المواجهة الجغرافية على طول الحدود مع فلسطين المحتلة لا بد أن تكون ثغوراً بالمعنى العصري الحقيقي الفعال، من حيث التجمع السكاني المختار في بعض المواقع؛ حيث يقطن القادرون على الأداءين المدني والعسكري في مواقع مختارة، ويتم تدريبهم، بعد اختيارهم، على أساليب الأداء المبدع في ظروف الحياة والمواجهة الصعبة. - مزوداً بالأدوات والإمكانات والتجهيزات والخبرات التي تجعله المزرعة الأولى في القطر، من خلال قدرات أبناء الملاك بكرامة على الإنتاج المتطور بتسهيلات الدولة وإمكاناتها على غرس جذر الشعب في عمق الأرض، واستخلاص خير ما عند الفرد من قدرات وجعلها في حالة تفاعل خلاق مع قدرة الأرض الخصبة المخدومة جيداً، علمياً وعملياً، على الإنتاج. وليكن الجولان مساحة تصب فيها خبرة الخبرات المستخلصة من تجاربنا وأدائنا طيلة السنوات الماضية.‏
                                وعندما يكون الجولان مزرعة سورية المزدهرة، ووجهها الحضاري، وأحد مستودعات خيراتها الوفيرة فإنه؛ يكون قادراً على الاستقطاب والأداء والمواجهة، بأساليب العصر، ويكون مخرزاً في عين العدو، لا عيناً يخترقها مخرز العدو.‏
                                وإذا كنا نرى إلى الجولان بعيون مستقبلية ونتوقف عند نظرة ذات أبعاد خصوصية تتعلق به، فلا بد من أن يكون التحرير والعمق الاسترتيجي لهذه النظرة، وطنياً وقومياً، عاملان يستندان إلى أهداف قومية ومبدئية نضالية ورؤية استراتيجية؛ فالجولان ليس مساحة مقتطعة من الأرض والتاريخ والأمة، معزولة عن الأداء العام والأهداف العامة، ولكنه المساحة الأهم في إطار الأمَّة والوطن والأهداف الاسترتيجية العامة.‏
                                وانطلاقاً من ذلك، وتفعيلاً له، وبناء عليه، أرى أن يتم التركيز على الأمور والتوجهات العامة الآتية ليكون هناك مناخ عام تنمو فيه رؤيتنا المستقبلية للجولان وللصراع الذي سيكون أهم ساحاته المستهدفة أو التي يجري منها الانطلاق:‏
                                1- العمل على توجيه المجتمع نحو تطلعات مستقبلية تتعلق بالتحرير في إطار وعي المسؤوليات والمستلزمات والتبعيات والقيام بالإعداد النفسي والفردي والاجتماعي لذلك، على أرضية من العلم والإيمان والانتماء القومي والوعي المعرفي في كل يتكامل ليجسد المعرفة والعقيدة والتوجه في سلوك وإنجاز وقوة وإنتاج، في المجالات والمستويات جيمعاً التي تستدعيها تلك التوجهات؛ مع التنبيه والتهيئة على أساس المدى البعيد والصراع الطويل النفَس، والاستعداد لكل احتمالات المستقبل والخيارات التي تفرضها أهداف المواجهة على أسس مبدئية.‏
                                2-تنمية المشاعر القومية والدينية المتكاملة والمتداخلة والمتفاعلة معاً، حيث يصبح لزاماً على كل فرد مؤمن /مسلم أو مسيحي/ أن يختار طريق المقاومة للاحتلال الصهيوني على أرضية الكرامة القومية والدفاع عن جوهر الاعتقاد. وتغذية ذلك بدروس التاريخ، وبمعطيات الصراع العربي الصهيوني، وبالممارسات الكريهة للصهيونية وسجلات الغيتو اليهودي عبر التاريخ؛ لإقامة قناعات راسخة على أرضية الوعي التاريخي، واستنبات مقاومة يؤسس لها الانتماء القومي والاعتقاد الإيماني، وتصبح من ثمة فرض عين على كل عربي، وتعبيراً عن ولائه للوطن والأمة والعقيدة التي يدين بها ويدين لها. والسعي لاستثمار تلك المشاعر حسب برنامج علمي مدروس يراعى فيه عامل الزمن، لإقامة كل البنى التي يحتاج إليها تحرير القرار السياسي القومي، وتحرير الإرادة، وتحرير الجماهير، وامتلاك مقومات القوة جميعاً على أرضية الاستقلال التام؛ والخلاص من كل أشكال التبعية وألوانها، بحيث لا يعيق القرار القومي المتخذ مستقبلاً أي عائق، ولا تلجمه أو تحكمه أيَّة قوة أو أيَّة اعتبارات من خارج الوطن العربي.‏
                                3- العمل على تغيير أسلوب العمل السياسي والعلاقات الدبلوماسية لا سيما مع دول العالم وشعوبه وتنظيماته، وإقامة شبكة من الصلات على أساس من الاحترام والمعرفة وتبادل المصالح والمنافع، والمبدئية الخُلُقيَّة والسياسية.‏
                                وهذا يحتاج إلى تكوين أطر بشرية مهيأة لاستيعاب المتغيرات والتعامل معها من جهة وإلى وضع استراتيجية عمل -سياسي- دبلوماسي-اقتصادي من جهة أخرى؛ تكون بمجملها قادرة على التحرك، وتغيير الصورة الراهنة عن العربي وقضاياه، وعن الوطن العربي وإمكاناته، وقادرة على إقامة علاقات وطيدة مع الآخرين، بوصفهم بشراً لا يكنون العداء لنا، وليسوا محكومين أبدياً بسيطرة الصهيونية أو أيَّة قوى أخرى عليهم.‏
                                وهذا يستدعي أن يترافق ذلك مع:‏
                                ـ استراتيجية عمل إعلامية وثقافية مغايرة كلياً للسائد. حيث نتوجه بخطابنا الجديد إلى الآخرين من مواقع مختلفة عن القائم حالياً، سواء في نظرتنا للفرد أو للدولة، أو في نظرتنا للآخر فرداً كان الآخر أو دولة، مجتمعاً أو عقيدة. نظرة تقوم على المعرفة والاحترام والتعاون واحترام الاختلاف وحرية الرأي، والسعي للحوار وصولاً إلى تفاهم أعمق، وتفاعل أسلم مع الثقافات والسياسات والعقائد في المجتمعات البشرية الأخرى.‏
                                والسعي لكسب الرأي العام وإعادة تكوين مفاهيمه عنا ونظرته إلينا وتقديم معطيات علمية منطقية واقعية ووثائقية مرافقة باستنتاجات منطقية واستقراءات موضوعية للواقع والتاريخ، واستشراف للمستقبل يبنى على تلك الاستقراءات وعلى ما يمكن أن تقدمه القدرات الجديدة من معطيات تؤثر في رسم صورة ذلك المستقبل، الذي يهدف إلى تغيير الواقع القائم والوصول بالمنطقة وبالأمة وبالعلاقات الدولية والبشرية معاً إلى مستوى أفضل من الصلات والتبادلات والتفاعلات السياسية والثقافية والاقتصادية.‏
                                مستوى يحترم الشعوب وثقافاتها وعقائدها وخصوصياتها ومصالحها، ويحقق خلاصاً من أشكال الاستعمار والتبعية والعنصرية والاحتواء، وينبذ أساليب القهر والقمع وأدواتهما.‏
                                ـ إعادة الثقة للعربي بنفسه وأمته ووطنه ومستقبله، باستقاء عبر التاريخ الماضي، وتعزيز دوافع العقيدة الدينية، وتقديم خلاصات نضال الشعوب. وإجراء المقارنات الفردية الخلاقة بين أبناء البشرية الأفذاذ وبيان قدرتهم على تغيير الواقع وقيادة الأمم وتحقيق المعجزات، ومن بين أولئك أفذاذ عرب لهم تأثير عميق على البشرية كلها.‏
                                وذلك يعزز المكانة، ويقرب شأو البعيد من التطلعات والطموحات المشروعة والأحلام الإنسانية والقومية النظيفة. ويمكن أن يلعب الأدب والإبداع خصوصاً، والثقافة عموماً دوراً مؤثراً في هذا المجال عن طريق استلهام البطولات، وتوظيف التاريخ والوقائع والمعطيات، والتعامل الإيجابي مع معطيات الواقع والوقائع وما تزخر به حياة الناس من تضحيات وبطولات ومعاناة؛ ليكون في ذلك تحريض وقوة ونماذج عليا من السلوك والبطولة والتضحية تُقْتَدَى .‏

                                الأسبوع الأدبي/ع467//22/حزيران/1995‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X