إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أدونيس (مختارات: خالدة سعيد)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: أدونيس (مختارات: خالدة سعيد)

    مفرد بصيغة الجمع


    1
    لم تكن الأرض جرحًا كانت جسدًا
    كيف يمكن السفر بين الجرح والجسد
    كيف تمكن الإقامة?
    2
    كان لإقامته بين الشجر والزَّرْعِ شحوبُ
    القصب وسَكْرَةُ الأجنحة
    تآصَرَ مع الموج
    أَغْرى بِهدأة الحجر
    أَقْنَع اللّغَة أن تؤسِّس حِبْرَ الخشخاش
    وكان سُلَّمٌ يقال له الوقت يتكىء على اسْمِه ويصعد
    نبوءةً
    نبوءةً
    من الأجنحة يخرج الأثير
    من المصادفة يخرج الحتْم
    لكن
    أيتها الشمس الشمس ماذا تريدين مني?
    وجهٌ يجتمع بُحيرةً يَفْترق بجعًا
    صدرٌ يرتعش قبّرةً يهدأ لُوتَسًا
    حوضٌ يتفتّح وردةً ينغلق لؤلؤةً
    تلك هي أدغال الهجرة وراياتُ القَفْر
    وللنهار يدا لعبة
    وللفَلكِ نَبرةُ المهرِّج
    لكن
    أيتها الشمس الشمس ماذا تريدين مني?
    يلبس الموتُ حالةَ البنفسج
    يسكن النّرجس آنيةَ الثلج
    يحلم أن الحبّ وجهٌ
    وأنَّه مرآته -
    الحجرُ برعمٌ, الغيمةُ فراشةٌ
    وعلى العتبة جسدٌ - شرارَةٌ لقراءة الليل
    ليس الموتُ عزلةَ الجسد
    الموت عزلةُ ما ليس جسدًا
    لكن,
    أيتها الشمس الشمس ماذا تريدين مني?
    أَبحث عما لا يلاقيني
    باسمه أنغرسُ وردةَ رياحٍ
    شمالاً جنوبًا شرقًا غربًا
    وأضيفُ العلوَّ والعمق
    لكن, كيف أتجه?
    لعينيَّ لونُ كسرة الخبز
    وجسدي يهبط نحو داءٍ له عذوبةُ الزّغب
    لا الحبّ يطاولني
    ولا تَصل إليَّ الكراهية
    لكن,
    كيف أَتَّجه? وماذا تريدين مني
    أيتها الشمس الشمس?
    3
    يمحو وجهه - يكتشف وجهه
    يتقدَّم الخطف تلبسكِ فتنةٌ بفجرها الأول
    يتقدّم الوقت أين المكان الذي تُزْمِنُ فيه الحياة?
    تتقدَّم العتمة أيّة رَجَّةٍ أنْ أوزِّعكِ في كريّات دمي
    وأقولَ أنتِ المناخُ والدّورة والكُرَة
    أيّة زلزلة?
    يتقدّم الضوء يُلْيِلُ في أنحائي
    أنقطع أتَّصل
    والوقتُ يأخذ هيئة البشَرة
    يخرجُ من الوقت
    وسقطَ
    غزوكِ
    عليّ
    وشَهَقَتْ إليكِ أحوالي
    لماذا حين دخلتِ أخَذَتِ الحقول تشتعل وكانت
    يداي أوَّل النار,
    ولماذا, كلّ ليلةٍ,
    كنت أحمل زَغَب نهديكِ لليلةٍ مقبلة?
    أُدخلي
    وعلى ركبتيكِ
    ترابٌ وفي الطريق إليك - إليّ
    الجبالُ
    وسَرْوُ المنحدرات
    وشرْبينُ الأودية أقول نلتقي - نفترق
    وأَستجمع أنحائي:
    أيها الحَنْظَلُ المتناثر ملحًا على موائد الإباحة
    أنت العذوبة وأمنحكَ طعميَ الأول.
    جسدكِ التّيه أخرج
    وأسفارُ خروجي أنتِ
    آخذكِ أرضًا لا أعرفُها
    تلالاً وأوديةً تغطّيها نباتاتُ البحث
    امتدادات غامضةً
    وآخذكِ واقفًا
    قاعدًا
    راقدًا
    ولا أقنع بغيركِ
    آخذكِ
    في تنهداتي
    في اليقظة والنوم
    في الحالات الوسيطة
    وفي ما يُعدّه لي الوقت
    آخذكِ
    ثنيّةً ثنيّةً
    وأفتتح مسالكي
    أتمدَّد فيكِ لا أصل
    أتدوّر لا أصل
    أتسلَّك أنتسجُ لا أصل
    أصلُ من أقاصيكِ لا أصل
    ما بعد المسافاتِ أنتِ ما بعد المفازات
    أنتِ أين وهل وماذا وكيف ومتى وأنتِ
    لا أنتِ
    انْبسطي على جسدي وانْغرسي
    خليّةً في خليَّة
    عرْقًا في عِرْق
    ولتخرجْ منكِ آلاف الشفاه
    آلاف الأسنان
    ولتكن غيرَ معروفةٍ لتكونَ على قَدْرِ حبِّنا
    ( ... )
    وأكون علّقتُ صورتكِ بجميع الصور
    ويكون جاءني الكشف وقلت:
    هذا لقاؤنا الأخير
    من أنتِ?
    آخذكَ
    حيوانًا
    يضع السّمَّ في شفةٍ
    والبلسمَ في شفةٍ
    وكلّ ليلةٍ, أقول
    هذا لقاؤنا الأول
    أيها الأحد
    ق
    م
    ر
    ش ع ش ا ع
    وليس لي معك غيرُ الهواتف
    وغيرُ البوارق
    وما يطوف
    ويهتزّ جسدي بالكُنْهِ اللازمِ له
    والملكاتِ الواجبة في أشيائه
    وأصرخُ: أنتَ الهباءُ
    وأنت القادِر
    من أنتَ?
    جسدٌ يكبَرُ في الخَزَام والخالدة
    ينحدر يعلو يَسْتشرف
    يجمع الضّفاف ويقرأ هذَيان القصب
    جَسَسْتُكِ بِعينيَّ
    رقصًا يتقدَّم في خطوات الفصول
    تنهّدتُ في ناردينٍ
    وأخذتْ أشكالٌ تروح وتجيء في لُججِ
    الخاصرة يصطدم الغريق بالغريق
    أخرج من الخيزران
    أَدخل المِدقّة
    أتغلغل في أخْبية القاعدة
    حيث يكمن البيضُ وينتهي قَلَم السمَّة
    أتجمّع كما يتجمّع اللّقاح
    أخلعك أتزيّا بكِ
    أنسلخ منكِ أتَّحد بكِ
    وأخلق بيني وبينك
    خداعًا بعلوّ الشمس
    رياءً يكسر الزَّمن غصنًا غصنًا
    من أنتِ?
    تحت البَشرة الهويّةُ
    في شراييني خَبْطةُ المسّ
    أتدحرج بين أنا الجمر وأنا الثلج
    وبين
    الياء
    والألف
    أَتدلى
    أَخلق في اليوم يومًا آخر
    وأَربط بحبل الدقائق أهوائي
    تقول المرآة اكسريني
    تقول الخطوات قيِّديني
    وبين آلة الموت وحيوانِ الألفاظ
    أَنْغرسُ أنجذرُ
    وأَلعب نَرْدَ الطبيعة.
    4
    (...)
    دائمًا
    كان
    بيننا
    مسافة قلنا
    يمحوها اللهب الذي نسميه الحبَّ
    والتصقَ النهار بالنهار الليلُ بالليل
    وبقيت بيننا مسافة
    أطفأنا ما لا ينطفىء
    أشعلنا ما لا يشتعل
    وبقيت بيننا مسافة
    وفي ساعات التحام الشهيق بالشَّهيق والنطفة بالنطفة
    بقيت بيننا مسافة
    أيّها الحب, أيها النسل المنطفىء
    تَقدّمْ واجلس على ركبتيَّ - ركبتيها
    خُذْ إبرَ الدمع وانسُجِ الماء
    تحيّينا أجراس الرَّغبات
    نبتكر موتًا يطيل الحياة
    نبتكر خداعًا بعلوِّ الطفولة
    رياءً بصدق الشمس
    من نحن?
    يجمعنا جسرٌ لا نقدر أن نعبره
    يوحّدنا جدارٌ يفصلنا أدخل فيكِ أخرج منّي
    أخرج منكِ أدخل فيَّ
    ما أبنيه يَهدِمني
    تشبّهتِ لي أَنَّك الفضاء
    وأَضْغَثْتُ الرؤيا
    أمسكتُ بوردةٍ هبطتُ واديك انتظرت
    بيننا نهرٌ والجسر بيننا نهر آخر
    سمعتكِ تسألين: أيّنا الكبدُ
    أيّنا النواح?
    اختلطتِ بالجَزَعِ وأعشاشه
    صرختِ اتّحدنا كرةً من النار
    انْطفئي الآن أَنطفىء الآن
    لِنعرفَ نعمة الجمر
    نمحو وجهينا نكتشف وجهينا
    هواجس
    أصدافًا
    مرايا
    ننفذ عِبرَها إلى شخوصنا الثانية
    نفتح صدرينا للأكثر علوّاً
    ينفتح لنا الأكثر انخفاضًا
    ويدخل كلانا في برج الوحْدنة
    في عزلة عصفورٍ يُحتضر
    ويتذوَّق كلانا طعم الآخر
    وتسكر أعضاؤه بالحياة لحظةَ يسكر الآخر
    بالموت
    وكلانا يُسِرّ نعم لحظةَ يجهر لا
    ويُسرّ لا لحظةَ يجهر نعم
    كيف تغسلين جسدك ويزول ماؤك الثاني?
    كيف أغسل جسدي ويعود لي مائي الأول?
    أنا سؤالكِ
    ولستِ أنتِ جوابي
    عرَّفتكِ بحنيني
    بشرَّتك بِه وربطتك بنفسي
    لكي يتحرَّك جسدكِ حركة الحكيم
    وأتحرّك به
    بما فوقه
    بما تحته
    وبالذي بين يديه
    لكي أحيطَ بكِ إحاطةً تخلَّصني من كل قاطعٍ
    يقطعني عنكِ
    أقرأَ كتاب كنهكِ
    أتطوّرَ في أصولكِ
    أذوقَ موجوداتها
    وأشخَّصَهَا في أوهامي
    لكي تكوني النقطة
    وأكون الخطّ والشكل
    لكي تكوني مِنْ وما يتلوها
    عَنْ وما عندها
    حيث لا تسعني الكلمات
    حيث لا يسعني غير التخييل والرمز
    لم أقصدكِ
    لستُ بحركِ
    لست البجع الذي تنتظرينه
    وليس لي غير أطرافٍ
    أطراف تتيهُ
    تتوه في حُمَّى لم أكتشف حدودها بعد.
    محوتكِ - اكتشفتكِ
    بسطت على الورق أجنحتي واستدعيتكِ
    قلتُ: الموت شيخ
    من أين له بعد أن يلحق بنا?
    قلتُ: جسدي شمالٌ والزمن جنوب
    كيف لهما أن يلتقيا?
    ولكِ أَماميَ الذي لا يهرم
    ولك أبديّة الجهات الباقية من أعضائي
    ولكِ منحتُ عينيَّ الأرقَ ويأسيَ النوم
    ولك ساويتُ بين الصحراء والبحر
    العينِ والشّوك
    ولكِ استثنيتُ المعنى من حشود الكلمات
    وسمّيته الصورة
    ووفاءً لأسمائك التي أنزلتها سلطانًا
    قلت للأبجدية: تشهَّيتِ ووحَّمْتكِ
    ولكِ غيْرتُ وأقنعت سنواتي أن تكون جمرة التغير
    ولكِ استوهَبْتُ اللهبَ أخطائي وأقنعت الجسد
    أن يكون مجدَ الصفات
    ألتهمكِ خليّةً خليَّةً لا تروينني
    أَحتويكِ نبضةً نبضةً لا راحةَ لي فيكِ
    لا الغيرة تفصلني عنك لا الكراهية
    يفصلني شعور لا اسْمَ له
    وأنتِ الآن الزّمنُ والموت:
    من أين لي أن أَسترجعكِ?
    تُحتضرينَ أندفع نحوكِ
    أجسُّ بقاياكِ
    وألمس كيف ترحلين
    لم
    أكن
    لستُ إلا رذاذًا يُشهيَّ
    كنت البطيءَ وسبقتْني ثيابي
    موتي سُلَّمٌ لجسدي وجسدي بلا قرار أين أثبت?
    أثبتّ السّحاب قلتُ للزبد أن يكون
    مفتاحَ الموج أين أثبت?
    ليس الاسم جذرًا ليس الجذر امرأةً ليس أين أثبت?
    القشُّ يأتزر بالورد والكلمات تكسر صلبانها أين أثبت?
    وجاءني الأفق سَمَّى نفسه بِاسْمي
    ليس الاسم حضنًا
    ليس الحضن امرأةً
    آخذ شفتيَّ منكِ هذه الليلة
    أيتها الأرض الوَحْمى ولا حَبَل,
    لأعرفَ كيف تهطلين أيتها الصحراء
    كيف تزدادين اتساعًا
    لأعرفَ حَتْمَ اليأس
    لأعرفَ كيف نحبّ دون أن نحبّ
    كيف يذبل ما تسمَّى بأسمائنا الأولى
    وارتوى بما حسبناه لا يعرف الذبول
    الجرح دلتا
    البلسم ألف
    والجسد حروفٌ بلا نقاط
    أيّة هاوية تَتّسع لأعضائي
    ليس للمكان قصبةٌ لأتوكّأ
    ليس في مناخهِ غيومٌ لأتوسّمَ المطر
    وها أسمع في جسدي
    جذوعًا تَنْبتر
    وأشلاءَ تَتطاير
    وها أنسكب في شظايايَ
    وأَسترخي
    أيّها الحبّ - الرأسُ الذي يَشجُّه الجَسد عرقًا عرقًا
    أيها الحب, يا أرومةَ الماء
    اتّسعْ
    كن الهباءَ والشمس
    وأثْبِتِ الغُبار بالغبار.
    تمرحَلْ, أيها الجسد, من الآن إلى الموت
    - متى وُلدتَ, ما عمرك?
    تَمدَّدْ, أيها البخار, يا دمي ورافق استطالاتي
    ثمة أمواجٌ تقبل من شواطىء غير مرئية
    تقول إنّها استطالاتي
    ثَمَّة صلصالٌ غيَّر اسمه
    حَرْفٌ خرج من صوته
    أُفقٌ على شَفَا الأفق
    تقول إنها استطالاتي
    وبين العصب والعصب صَحَارى
    تقول إنها استطالاتي
    وأنتِ, يا زهرة الآلام امْنحينيَ احتمالاتٍ أخرى
    كوني أمومةً زهرةً بآلاف الأَسْدية والمِدَقَّات,
    الكؤوس والتّويجات
    امْنحيني - اذْكري وجهي
    كنتِ تَنْحنين عليه كلّما جمعنا ماءٌ أو هواءٌ
    لِنقرأ الموت
    تمتزج رائحتانا
    تنمو أطرافُنا توائمَ توائمَ
    أقول لكِ: تَموتينَ مأخوذةً بالماء
    تقولين لي: تموت مأخوذًا بالشمس
    لكن,
    لحظةَ تذبلين بين عينيَّ
    يفصلنا لَهَبٌ لَهَبٌ لَهَبٌ
    ومتاهاتُ الأحد السبت الجمعة الخميس
    أصِلُ فيك الشهوة بطعم التراب
    والفرحَ بنكهة الموت
    وها هو جسدي
    موشومًا ببقع الحسرة
    يزحف بين كلماتي
    تتكاثفُ أدغال الأرق
    تعلو أمامي الجبالُ
    الشجر ينام
    ولكلِّ حصاةٍ أذنان تُصغيان إليَّ.
    توهَّمتُ أنَّ اليدَ يَدٌ وأنَّ الوجهَ هو الوجه
    وكان هذا تعاطفًا مع الرمل.
    الجسدُ يتذكّر الحبّ ينسى
    الحبّ أن نذهب الجسدُ أن نجيء
    الحبّ أن نستوهم الجسدُ أن نتَبلبل
    الحبّ - هذا الهَزْل الكوني
    من أجل أن يظلَّ الأبد مشقوقًا
    من أجل أن نُهَسْهِسَ الشّكّ.
    7
    باسم جسدي الميت - الحي الحي - الميت
    ليس لجسدي شكلٌ
    لجسدي أشكالٌ بعدد مَسَامِّه
    وأنا لا أنا
    وأنتِ لا أنتِ
    ونصحّح لفظَنا ولسانيْنا
    ونبتكر ألفاظًا لها أحجامُ اللسان والشفتين,
    الحنَكِ
    وأوائلِ الحنجرة
    ويدخل جسدانا في سديم دَغَلٍ وأعراس
    يَنْهدمان
    يَنْبنيان
    في لُجّةِ
    احتفالٍ
    بلا شكل
    بطيئًا سريعًا
    نحو ما سميناه الحياة
    وكان فاتحةَ الموت.
    باسم جسدي الميت - الحي الحي - الميت
    ارتفع السَّرْوُ بين الاسم والوجه
    عادت اللغة إلى بيتها الأول
    كان الحب قبرًا دخلتُ إليه وخرجتُ
    كان القبر نزهةً لراحة الأوردة
    ومات النحو والصرف
    وحُشرا بين يَديْ أول قصيدة كتبتها وآخر قصيدة
    وأخذ الحَشْرُ يحكم ويَفْصل
    يبرّئ ويَدين
    لكي يأتي الليلُ
    يشرد النهار خارج النهار
    لكي يأتي النهار
    يشرد الليل خارج الليل
    لكي تحتفظ الأرض بذكرى العشب
    تَتَغطَّى بالقش
    باسم جسدي الحي - الميت الميت - الحي
    للجسد أن يفصل بين جسدي وجسدي
    له أن يعتقل عضوًا بعضو
    يحارب خليّةً بخلية
    له أن يزرع دمي ويحصده
    وللجسد أن يكون جسدي
    ضِدّ جسدي.
    8
    ( ... )
    سلامًا لآلاتٍ غير مرئية أَبتكرها لأبتكر أجسادي الأخرى
    قلوبي الأخرى
    سلامًا لكوكبي الجالس على طرف القيد
    يتَّخذ من قدميَّ وذراعيَّ حدودًا وأعلامًا
    سلامًا لوجهي يتبع فراشةً تتبع النار
    // هل أفصل نفسي عن نفسيَ
    هل أجامعها / هل الجما
    عُ لحظة انفراد أم لحظة ازدوا
    ج? هل آخذ وجهًا آخر? وما
    ذا يفعل جسد تبقّعه جراحٌ لا تلتـ
    ـئم? إنها الصحراء
    تطبق عليّ, وها هو
    الجرادُ يَحْتَنِكُ أطرافي //
    أجلسْ, أيها الموتُ, في مكانٍ آخر
    ولْنتبادَلْ وجهينا
    أصنع نبضي نسْغًا لأبجديتي
    أسوّيك الجلد
    أسمّيك النظر
    طعمَ الأشياء
    ( ... )
    وأقول باسمكَ:
    ابتسمْ, أيها النهر, لجفافك
    امرحي, أيتها الزهرة, بين الشّوكة والشوكة
    وأقول باسمكَ:
    في الرّماديّ أفتحُ جسدًا أتجوّلُ في أرجائه
    حيث يتمشّى قوس قزحٍ بخطوة الطفل
    ويكون لخيالي أن يفترسَ عينيَّ
    ويهدم الجسورَ بيني وبين ما حولي
    ويكون لي أن أصعدَ وألتقفَ الهواءَ المحيط.
    وأقول باسمكَ, هامسًا لأشباحك:
    أيتها العطور التي تفرز الرّغبة
    تزيّني
    واسْتهويني.
    وأقول باسمكَ:
    دائمًا على شَفَا الجنون
    لكنني لا أُجنّ.
    اجلسْ, أيها الموت, في مكانٍ آخر ولنتبادل وجهينا
    أُسمّيك الجسدَ وأسأل
    كيف أعيش مع جَسَدٍ أتَّهمه
    وأنا المتَّهَمُ والشاهِدُ والحكَم?
    وأسميكَ جسدي
    وأرى إليك إليه يتفكَّك ويتركَّب
    السَّاعد فخذٌ
    المعصم كاحِلٌ
    اليد قَدمٌ
    الكتف مِرْفقٌ
    وما تبقَّى غيرُ ما تبقَّى
    وأستسلمُ, أنا الراسخ,
    كانهيارٍ ثلجيّ
    عنقي يهبط في التّرقوة
    وتهبط هذه في الصدر
    ويهبط الصدر في ليل الرّدفين
    والرِّدفان في شمس الأحقاء
    وتكون الأحقاء رصاصًا يرسب في أطراف
    الساقين وتتَنَوَّرُ بأعضائي أعضائي.
    وتقول باسمي:
    أسميكَ عاشقًا
    وجْهًا إلى الحيوان
    وجهًا إلى النبات
    وأصغي إلى هذيانك يطلعُ
    في لهاث العناصر:
    دال تاء
    - بحسب حركاتكَ يجري أمري
    والليل والنهار بريدي إليك
    يتراكضان كمُهرين في سباق
    كيف أقمع هوائجي
    والحاجة إليكَ هتكتني?
    واو نون
    - كيف أقمع هوائجي
    والحاجة إليكِ هتكتني?
    تبكين?
    - لا تحرق النار موضعًا مَسَّهُ الدمع
    لذلك أبكي
    ينبت القرنفل في الدمع
    لذلك أبكي
    وأمس قرأت: (كلّ شهوة قسوة إلاّ
    الجماع يُرقِّقُ ويُصفّي)
    لذلك أبكي.
    سين ألف
    - أدخلي, كأنك نقبتِ الجحيم وخرجت منها
    أو كأنك امرأة تشتري العطرَ بالخبز
    أُحْصيك وأستقصيكِ
    أُزمِنُ فيكِ وأُكوكب حولك أعضائي
    وكنت صادَفْتُ نفسي فيكِ
    وحين تبعتكِ
    قلتُ: النَّفَسُ يتبع بعضُها بعضًا.
    لكن,
    لماذا أنا كثيرٌ بنفسي قليلٌ بكِ?
    لماذا, كلما اقتربْتِ إليّ, أشعر كأنّ عضوًا يسقطُ مني?
    مع ذلك, ادخلي
    لا يزال جسدي رطبًا بذكركِ
    وكيف أقمع هوائجي
    والحاجة إليكِ هتكتني?
    وأقول, باسمك, لجسدها:
    جسدكِ صوتي أسمعه
    نظري أتشرد فيه جسدكِ رحيلي وكل خليّةٍ منطلَق
    جسدكِ مرفأي وأضلِّل المراسي جسدك الصخر يستبقيني
    الغبارُ يطير بي
    جَسدُكِ هبائي
    ويظلِّلني
    جسدك فضاؤكِ وأنا وحُوشهُ المجنّحة
    جسدكِ قوسُ قزحٍ وأنا المناخُ والتحوّل.
    وأسأل, باسمكَ:
    أَصْحَرْتُ لا مأوى
    اسْتَأْسَنْتُ من يُطهّرني?
    من يعصمني من العبارةِ
    تكدر,
    من الإشارة
    تضمحلّ
    وكيف يتحرّر القفص?
    وتقول, باسمي:
    أَبْدع لجسدك ما يناقضه
    كُنِ الهباءةَ والحصاةَ في جسدٍ واحد
    أكمل جسدَكَ بنفيه
    ولتكن اللّغةُ شكل الجسد
    وليكن الشعر إيقاعه.
    إجلسْ, أيها الموت في مكان آخر ولنتبادل وجهينا
    أقول باسمك وباسمي:
    نُضلِّل الحياة وهي التي تقودنا
    ماذا أفعل
    وجسدي أوسع من الفضاء الذي يحتويه
    أنا الباحث
    وليس أمامي غير الموت?
    ونقول باسمها وباسمك وباسمي:
    تجوهرتُ بكِ
    وكنت أطمح إلى التبدّد
    وفتحتك بجسدي لكن,
    بماذا أختمك?
    ومع أنني مَشُوبٌ بكِ
    فأنا شيءٌ لا يستند إلى شيء
    ليس مربوطًا
    ولا ملتحمًا
    ولا حالاً
    لكنني أسيلُ لا أقف
    وجسدي رمَى إذ رمى
    بقاب قوسين
    وأنا الصَّحيحُ المريض برزخُ الجنس
    استوليتُ
    إلبْتُ الكَمَّ والكيف
    فُتُّ ما يُقال
    مع ذلك,
    عييت من تصوّرِك على أنحاءَ ومراتب
    وأعوذُ بأسمائنا من علم اليقين
    (أليقينُ شَرَكُ الضمائر
    والمعرفة
    أن
    تعلم وتجهل)
    هكذا أتحرّك في سلاسل جنوني وأنوّع الحلقات
    هكذا أيّها الثابت
    المتبدّل
    المتصوّن
    يا جسدي
    وكذا
    وكذا
    وكذا
    هكذا أسأل:
    أنتَ صِراطي كيف أقطعك?
    أو
    أسأل:
    هل أنتَ حكايةٌ محرَّفةٌ ومكذوبةٌ عليَّ?
    هكذا,
    أُنكر ما يفرّقني
    وما يجمعني
    وأقول باسمكَ:
    أنا الماء يلهو مع الماء .

    تعليق


    • #17
      رد: أدونيس (مختارات: خالدة سعيد)

      أدونيس

      مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف
      بيروت 1970

      وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو ؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد .. /

      (كان رأس يهذي يهرج في الفسطاط في حضرة العساكر محمولاً ينادي أنا الخليفة) / هاموا حفروا حفرة لوجه غليّ/ كان طفلاً وكان أبيض أو أسود يافا أشجاره وأغانيه ويافا .. / تكدسوا، مزقوا وجه عليّ/ دم الذبيحة في الأقداح، قولوا : جبّانة، لا تقولوا : كان شعري ورداً وصار دماء، ليس بين الدماء و الورد إلا خيط شمس، قولوا : رماديَ بيت وابن عبّاد يشحذ السيف بين الرأس و الرأس وابن جَهوَر مَيْتُ.

      لم يكن في البداية
      غير جذرٍ من الدمع / أعني بلادي
      والمدى خيطيَ - انقطعتُ وفي الخضرة العربية
      غرقتْ شمسيَ / الحضارة نقالة و المدينة
      وردة وثنية -
      خيمة :


      هكذا تبدأ الحكاية أو تنتهي الحكاية.
      و المدى خيطيَ - اتصلتُ أنا الفوهة الكوكبية
      وكتبت المدينة
      حينما كانت المدينة مقطورة و النواح
      سورها البابلي، كتبت المدينة


      مثلما تنضح الأبجدية
      لا لكي ألأم الجراح
      لا لكي أبعث المومياء
      بل لكي أبعث الفروقَ .. / الدماء
      تجمع الورد و الغراب / لكي أقطع الجسور ولكي أغسل الوجوه الحزينة
      بنزيف العصور،
      وكتبت المدينة
      مثلما يذهب النبي إلى الموت / أعني بلادي
      وبلادي الصدى
      والصدى و الصدى ..

      كشفتْ رأسها الباء، والجيم خصلة شعرٍ، انقرضْ انقرضْ
      ألف أول الحروف انقرضْ انقرضْ
      أسمعُ الهاء تنشج و الراء مثل الهلال
      غارقاً ذائباً في الرمال
      انقرضْ انقرضْ
      سحر تاريخك انتهى
      أدفنوا وجهه الذليل وموروثه الأبلها
      و أعذري و أغفري
      يا قرون الغزالات يا أعين المها ..
      أحارُ كل لحظة أراكِ يا بلادي
      في صورة،
      أحملك الآن على جبيني، بين دمي وموتي : أأنتِ مقبرة
      أم وردة ؟

      أراك أطفالاً يجرجرون
      أحشاءهم، يصغون يسجدون
      للقيد، يلبسون
      لكل سوطٍ جلده .. أمقبرة
      أم وردة؟
      قتلتني قتلت أغنياتي
      أأنتِ مجزرة
      أم ثورة ؟
      أحارُ ، كل لحظة أراكٍ يا بلادي في صورةٍ ..

      وعليّ يسأل الضوء، ويمضي
      حاملاً تاريخه المقتول من كوخٍ لكوخ :
      (علموني أن لي بيتاً كبيتي في أريحا
      أن لي في القاهرة
      أخوة، أن حدود الناصرة
      مكة.
      كيف استحال العلم قيدا ؟
      ألهذا يرفض التاريخ وجهي ؟
      ألهذا لا أرى في الأفق شمساً عربية؟ )

      آه ، لو تعرف المهزلة
      (سمّها خطبة الخليفة أو سمّها المهرجان
      ولها قائدان
      واحدٌ يشحذ المقصلة
      واحدٌ يتمرّغ .. لو تعرف المهزلة

      كيف ، أين انسللتَ
      في حصار المذابح .. ماذا ، قُتلتْ ؟
      أنظر الآن كيف انتهيتَ ولم تنته المهزلة
      مُتََّ كالآخرين
      مثلما ينشج الدهرُ في رئة السالفين
      مثلما يكسر الغيم أبوابه القزحية
      مثلما يغرق الماء في الرمل أو تُقطع الأبدية
      عنق القبّرة
      كنتَ كالآخرين، انتهيتَ ولم تنته المهزلة
      كنتَ كالآخرين - ارفضْ الآخرين
      بدأوا من هناك ابتدئ من هنا
      حول طفل يموت
      حول بيت تهدم فاستعمرته البيوت
      وابتدئ من هنا
      من أنين الشوارع من ريحها الخانقة
      من بلادٍ يصير اسمها مقبرة
      وابتدئ من هنا
      مثلما تبدأ الفجيعة أو تولد الصاعقة

      مُتَّ ؟ هاصرتَ كالرعد في رحم الصاعقة
      بارئاً مثلما تبرأ الصاعقة
      أنظرْ الآن كيفَ انصهرتَ وكيف انبعثتَ، انتهيتَ
      ولم تنته الصاعقة.

      أعرفُ ، كان مُلككَ الوحيد ظلُ خيمةٍ، وكان فيها خِرقٌ ،
      ومرة يكون ماءٌ مرة رغيف، وكان أطفالك يكبرون
      في بِركةٍ ،
      لم تيأسِ انتفضتَ صِرتَ الحلم و العيون
      تَظَهَرُ في كوخٍ على الأردن أو في غزة و القدس
      تقتحم الشارعَ وهو مأتمٌ تتركه كالعرس
      وصوتك الغامر مثل بحر
      ودمك النافر مثل جبل
      وحينما تحملك الأرضُ إلى سريرها
      تترك للعاشق للاحق جدولين
      من دمك المسفوح مرتين ..

      وجه يافا طفلٌ / هل الشجر الذابل يزهو ؟ / هل تدخل الأرضُ في صورة عذراء ؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق ؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد ..

      سقط الماضي ولم يسقط ( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ؟ )
      دال قامة يكسرها الحزن ( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ؟ )
      قاف قاب قوسين و أدنى
      أطلبُ الماءَ ويعطيني رملاً
      أطلب الشمسَ ويعطيني كهفاً
      سيدٌ أنتَ ؟ ستبقى
      سيداً . عبدٌ ؟ ستبقى
      غيّر الصورةَ لكن سوف تبقى
      غيّر الرايةَ لكن سوف تبقى



      في خريطةٍ تمتد … الخ،
      حيث يدخل السيد المقيم في الصفحة أ راكباً حيواناً بحجم المشنقة، يتحول إلى تمثال ملء الساحات العامة. و (كانت) الحاكمة تغسل عجيزتها وحولها نساء يدخلن في الرمح ويمضغن بخور القصر والرجال يسجلون دقات قلوبهن على زمن يتكوّم كالخرقة بين الأصابع حيث
      ك ترتجف تحت نواةٍ رفضيةٍ بعمق الضوء
      ت تاريخ مسقوف بالجثث وبخار الصلاة
      أ عمود مشنقة مبلل بضوء موحل
      ب سكين تكشط الجلد الآدمي وتصنعه نعلاًُ لقدمين سماويتين في خريطةٍ تمتد … الخ.

      شجر يثمر التحول والهجرة في الضوء جالسٌ في فلسطين وأغصانه نوافذ / أصغينا لأفراحه قرأنا معه نجمة الأساطير / جند وقضاة يدحرجون عظاماً ورؤوساً ، وراقدون كما يرقد حلم يُهجّرون يُجرّون إلى التيه …/

      من أين، هل البحر قادرٌ ، هل حنان الشمس ؟ / ( _ يكفيني رغيفٌ كوخٌ وفي الشمس ما يمنح فيئاً ، لا لستُ خوذة سيّاف ولا ترسُ سيدٍ، أنا نهر الأردن أستفرد الزهور و أغويها / دمٌ نازفٌ / تبطنتُ أرضي ودمي ماؤها دمي وسيبقى ذلك الساهر النحيل : غبارٌ يمزج العاشقَ المشردَ بالريح، ويبقى نسغٌ/)
      يتمتم طفلّ ، وجه يافا طفلّ / هل الشجر الذابل يزهو ؟ /
      ( - متى أتو ؟ كيف لم نشعر / جبال الخليل يدفعها الليل ويمضي والأرض تهزأ / لم نشعر / دم نازف / هنا سقط الثائر / حيفا تئنّ في حجر أسود و النخلة التي فيّأت مريم تبكي / حيفا تسافر في عينيّ قتيل حيفا بحيرة حزن جَرَحَتْ قلبها وسالَتْ مع الشمس إلينا / هَمَسْتُ في قدمي جوعٌ وفي راحتيّ تضطربُ الأرضُ : كشفنا أسرارنا (بُقعُ الدمع طريقٌ) أجسُّ خاصرةَ الضوء يجثُّ الصحراءَ و الكون مربوطاً بحبل من الملائك / هل تشهد آثار كوكبٍ ؟ يسمع الكوكبُ صوتي رويتُ عنه سأروي ..

      في الزمن القاتل شخصٌ رمى تاريخه للنار غطى مدى وجوهنا بحمرة الخجل
      و مات /

      لن تعرف حرية ما دامت الدولة موجودة /
      تذكر ؟ كان السجن بوابة للشمس كان الأمل
      تذكر . × و القاعدة
      وسلطة العمال .. ) ما الفائدة
      تنحدر الثورة بعد اسمه
      في لفظةٍ ، تمتد في مائدة /
      هل تقرأ المائدة ؟ /

      كان فدائيّ يخط اسمه ناراً وفي الحناجر الباردة
      يموت /
      و القدس تخط اسمها :
      لم تزل الدولة موجودة
      لم تزل الدولة موجودة ..

      غير أن النهر المذبوح يجري :
      كل ماءٍ وجه يافا
      كل جرحٍ وجه يافا
      و الملايين التي تصرخ : كلا ، وجه يافا
      و الأحباء على الشرفة أو في القيد أو في القبر يافا
      و الدم النازف من خاصرة العالم يافا
      سمِّنِي قيساً وسمٍّ الأرضَ ليلى
      باسم يافا
      باسم شعبٍ شرّدته البشرية
      سمِّني قنبلةً أو بندقية …..

      هذا أنا : لا ، لستُ من عصر الأفول
      أنا ساعةُ الهتك العظيم أتتْ وخلخلة العقول
      هذا أنا - عَبَرَتْ سحابة
      حبلى بزوبعة الجنون
      و التِيهُ يَمرُقُ تحت نافذتي ، يقولُ الآخرون
      ( يرعى قطيع نجومه
      يصل الغرابةَ بالغرابة)
      هذا أنا أصلُ الغرابةَ بالغرابة
      أرّختُ : فوق المئذنة
      قمر يسوس الأحصنة
      و ينام بين يدي تميمة
      وذكرتُ : بقّعتْ الهزيمة
      جسدَ العصور
      وهران مثل الكاظمية
      ودمشق بيروت العجوز
      صحراء تزدرد الفصول، دمٌ تعفن - لم تعد نار الرموز
      تلد المدائن و الفضاء، ذكرتُ لم تكن البقية
      إلا دماً هرماً يموتُ يموتُ بقّعتْ الهزيمة
      جسد العصور
      .. في خريطة تمتد الخ ،
      حيث تتحول الكلمة إلى نسيج تعبر في مسامه رؤوس كالقطن المنفوش، أيام تحمل أفخاذاً مثقوبة تدخل في تاريخ فارغ إلا من الأظافر، مثلثات بأشكال النساء تضطجع بين الورقة و الورقة، كل شيء يدخل إلى الأرض من سمّ الكلمة، الحشرة الله الشاعر بالوخز و الأرق وحرارة الصوت بالرصاص و الوضوء بالقمر ونملة سليمان بحقول تثمر لافتات كتب عليها (البحث عن رغيف) أو ( البحث عن عجيزة لكن استتروا) أو ( هل الحركة في الخطوة أم في الطريق ؟ )

      و الطريق رملٌ يتقوّس فوقه الهواء و الخطوة زمنٌ أملس كالحصاة ..

      حيث وقف على طرف العمل، وضع الكتاب كالشامة على جبينه ورسم جوقة من الملائكة على شفتيه وأذنيه، أخذ يغرز أصابعه و أسنانه في قصعة الكلام طالت أذناه وسقط شعره وتحوّل، وكان الوقت يشرف أن يصبح خارج الوقت وما يسمونه الوطن يجلس على حافة الزمن يكاد أن يسقط، (كيف يمكن إمساكه؟) سأل رجلٌ مقيدٌ وشبه ملجوم لم يجئه الجواب لكن جاءه قيدٌ آخر و أخذ حشد كمسحوق الرمل يفرز مسافة بحجم لام ميم ألف أو بحجم ص ع ي ه ك ويسير فيها نسيج رايات وبسطاً وشوارع وقبابا ويبني جسراً يعبر عليه من الآخرة إلى الأولى

      حيث عبرت
      ذبابه وجلست على الكلمة، لم يتحرك حرف، طارت وقد استطال جناحاها عبر طفلٌ وسأل عن الكلمة طلع في حنجرته شوكٌ و أخذ الخرس يدبُّ إلى لسانه ..

      في خريطة تمتد .. الخ ، حيث
      (العدو يطغى وهم يخسرون، ويمدّ وهم يجزرون، ويطول وهم يقصرون، إلى أن عادوا إلى عّلمٍ ناكسٍ وصوتٍ خافتٍ، وانشغلَ كل ملكٍ بسد فتوقه،

      .. وعندما يجدّ الجد ويطلب الأندلسُ عونَ الملك الصالح لاستخلاص أقليم الجزيرة وقد سقط في أيدي الأسبان يكتفي بالأسف و التعزية ويقول بأن الحرب سجال وفي سلامتكم الكفاية،

      .. ولم يزل العدو يواثبهم ويكافحهم ويغاديهم القتال ويراوحهم حتى أجهضهم عن أماكنهم وجفّلهم عن مساكنهم أركبهم طبقاً عن طبق واستأصلهم بالقتل كيفما اتفق)

      في خريطة تمتد .. الخ، رفض التاريخ المعروف الذي يطبخ فوق نار السلطان أن يذكر شاعراً .. و البقية آتية،

      في خريطة تمتد .. الخ،
      يأتي وقتٌ بين الرماد و الورد
      ينطفئ فيه كل شيء
      يبدأ فيه كل شيء
      .. وأغني فجيعتي، لم أعد ألمحُ نفسي إلا على طرف التاريخ في شفرةٍ / سأبدأ ، لكن أين ؟ من أين ؟ كيف أوضحُ نفسي وبأي اللغات ؟ هذي التي أرضع منها تخونني سأزكّيها و أحيا على شفير زمانٍ مات أمشي على شفير زمانٍ لم يجئ

      غير أنني لستُ وحدي

      .. وجه يافا طفلٌ / هل الشجر الذابل يزهو؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق ؟ / جاء العصف الجميل و لم يأت الخراب الجميل / صوت شريد ..

      خرجوا من الكتب العتيقة حيث تهترئ الأصول
      و أتوا كما تأتي الفصول
      حضنَ الرمادُ نقيضه
      مَشَتْ الحقولُ إلي الحقول :
      لا ، لستُ من عصر الأفول
      أنا ساعة الهتك العظيم أتتْ و خلخلة العقول . @



      ** * * * * * * * * * * *ADONIS
      Prologue à l'histoire des rois des tâ'ifa1
      Enfant est le visage de Yâfâ 2 L'arbre flétri s'épa -
      Nouira -t-il? La terre entrera - t- elle dans une image vierge?
      Qui, là-bas, ébranlera l'Orient? La belle
      tempête s'est levée mais la belle désolation n' est pas encore
      venue Voix errante...

      (Une tête délirait, se livrait à des pitreries. Portée à bout
      de bras elle clamait : Je suis le calife!) Ils vaguèrent,
      creusèrent une fosse pour le visage de 'Alî C'était un
      enfant, un enfant blanc ou un enfant noir Yâfâ, ses
      arbres, ses chants Yâfâ... Ils ont serré les
      rangs, ont lacéré le visage de 'Alî

      Le sang de l'égorgé emplit les coupes.
      Dites : C'est un cimetière.


      Ne dites pas : Rose était ma poésie,
      elle est devenue sang. Entre le sang

      et la rose, rien qu'un fil de soleil.
      Dites : Ma cendre est ma demeure.
      Ibn 'Abbâd aiguise l'épée entre tête et tête,
      Ibn Jahwar est mort.
      Au commencement il n'y avait
      qu`une racine de larmes (je veux dire mon pays)
      et la distance était mon fil. Je me suis dénoué
      et dans le verdoiement arabe
      mon soleil s'est noyé.
      La civilisation est civière,
      la ville
      rose paienne,
      tente.



      Ainsi commence ou finit le récit :
      La distance était mon fil. J'ai rattaché mes liens,
      moi le cratère astral,
      et j ai écrit la ville
      (lorsqu'on la traînait et que les pleurs étaient son rempart babylonien).
      J'ai écrit la ville
      comme suinte l'alphabet,
      non pour guérir les blessures,
      non pour ressusciter la momie,
      mais pour ranimer les divergences...
      (Le sang unit la rose au corbeau.)
      Pour couper les ponts et laver les visages tristes
      dans le saignement des siècles.
      J'ai écrit la ville, prophète marchant vers la mort.
      Je veux dire mon pays,
      mon pays écho,
      écho, écho...


      Ba s'est dévoilé la tête, djim est une mèche de cheveux.
      J'entends ha suffoquer de sanglots
      et ra telle croissant de lune
      s'abîmer et fondre dans les sables.
      Disparais, disparais,
      sang qui se fige et s'écoule en désert de mots.
      Sang qui tisse le désastre ou les ténèbres, disparais!
      Abolie est la magie de ton histoire.


      Accordez-nous le pardon
      Accordez-nous la grâce
      O cornes des gazelles
      O cils des antilopes


      J'hésite, je te vois, mon pays, à chaque instant
      dans une image.
      Je te porte à présent sur mon front, entre mon sang et ma mort.
      Es-tu rose ou sépulture ?


      Je te vois - horde d'enfants traînant leurs entrailles,
      obéissant, se prosternant devant les chaînes,
      revêtant à chaque coup de fouet
      une peau nouvelle.
      Es-tu rose ou sépulture ?
      Tu m'as tué, tu as tué mes chants.
      Es-tu carnage ou révolution?


      J'hésite, je te vois, mon pays, à chaque instant
      dans une image.

      Et ' Alî interroge la lumière. Il va,
      portant son histoire assassinée
      de cabane en cabane.

      " Ils m'ont dit que j'ai une maison
      comme ma maison d'Arîhâ',3
      que j'ai des frères au Caire,
      que les frontières de Nâssirah4
      sont La Mekke. "

      Comment la connaissance s'est-elle changée en chaîne? Et la distance en feu grégeois, en victime ?
      Est-ce pour cela que l'histoire refuse mon visage,
      que je ne vois plus de soleil arabe à l'horizon?


      Ah, Si tu connaissais la farce !
      (Tu peux l'appeler discours du calife. Ou carnaval.)
      Elle a deux patrons:
      l'un aiguise le couperet,
      le second se vautre dans la poussière.
      Si tu connaissais la farce...
      Comment ? Par où t'es-tu glissé
      entre la nuque du supplicié
      et la lame des bourreaux?
      Comment ? Quoi ? As-tu été assassiné ?
      Tu étais comme les autres. Tu es fini, mais la farce n'en finit pas .
      Tu étais comme les autres. Refuse les autres !

      Ils sont partis de là-bas. Commence à partir d'ici :
      autour d'un enfant agonisant,
      d'une maison qui s'écroule
      sous la poussée d'autres maisons.
      Commence à partir d'ici,
      de la plainte des rues, de leurs vents suffoquants,
      d'un pays dont le nom devient cimetière.
      Commence à partir d'ici, comme la tragédie
      ou comme naît la foudre.
      Es-tu mort ? Voici que tu deviens tonnerre
      dans le giron de la foudre,
      créant comme crée la foudre.
      Vois comment tu t'es dissous
      et comment tu ressuscites.
      Tu es fini, mais la foudre n'en finit pas.

      Ton seul bien était l'ombre d'une tente. On y trouvait des
      haillons, parfois de l'eau, parfois du pain. Tes enfants
      ont grandi dans une flaque, mais tu n'as pas désespéré. Tu t'es rebellé.
      Tu es devenu les yeux, le rêve.
      Tu apparais dans une cabane sur le Jourdain,
      ou dans Gaza, ou Jérusalem.
      Tu assièges la rue en deuil
      puis tu la laisses dans la joie des noces.
      Mer, ta voix déferlante.
      Montagne, ton sang jaillissant.
      Et quand la terre te portera jusqu'à son lit,
      tu laisseras à l'amant, au légataire,
      un double ruisseau
      de ton sang versé deux fois.


      Enfant est le visage de Yâfâ L'arbre flétri s'épanouira-t-il?
      La terre entrera-t-elle dans une image vierge?
      Qui, là-bas, ébranlera l'Orient? La belle
      tempête s'est levée mais la belle désolation n'est pas
      encore venue Voix errante...
      Le passé est dans son déclin mais ne décline pas (Pourquoi le passé décline-t-il et ne décline-t-il pas ?) Dal, silhouette brisée de tristesse.
      (Pourquoi le passé décline-t-il et ne décline-t-il pas ?)
      Qaf, dans l'imminence, plus proche que portée d'arc.
      Je réclame l'eau et il me donne du sable.
      Je réclame le soleil et il me donne une caverne.

      Es-tu maître? Tu le resteras.
      Esclave? Tu le resteras .
      Ainsi va le récit : Il me donne une caverne, à moi qui lui réclamais un soleil. Pourquoi le passé a-t-il décliné et ne décline-t-il pas? Pourquoi cette terre génitrice de douleurs, cette terre monotone?

      Es-tu maître? Tu le resteras.
      Esclave ? Tu le seras toujours .
      Change l'image, change le drapeau ; toi, tu ne changeras pas.
      … dans une géographie qui se prolonge... et se prolonge... Le maître résidant en premiêre page fait son entrée, monté sur une bête de la taille d'un gibet. Il se mue en statue pour remplir les places publiques.(Et l'épouse du gouverneur se lavait le croupion, tandis qu'autour d'elle des femmes chevauchaient un javelot et que des hommes enregistraient leurs battements de coeur sur un temps froissé comme chiffon palpé entre les doigts...)
      Kaf frémit sous un noyau de refus profond comme la lumière. Ta : histoire à toiture de cadavres et vapeur de prières. Alif : potence trempée de lumière fangeuse.
      Ba : couteau qui décortique la peau humaine et la façonne on semelles pour pieds célestes... dans une géographie qui se prolonge...
      et se prolonge...


      Des arbres ont pour fruits la métamorphose et la migration dans la lumière. Ils sont ancrés en Palestine et leurs branches sont fenêtres. Nous avons écouté leurs distances, lu avec eux l'étoile des légendes. Soldats et juges font rouler les os et les têtes. Des hommes dorment comme dort un rêve : chassés, tirés vers l'errance...
      De quelle manière commencer?
      (Un pain me suffira, et une cabane. Dans le soleil je trouverai
      de quoi me donner l'ombre. Non, je ne suis pas le casque du
      gladiateur. Je ne suis pas le bouclier du chef. Je suis le Jourdain.
      Je trie les fleurs et les séduis. Sang qui s'écoule….
      Je m'enfouis dans ma terre - mon sang sera son eau.
      Mon sang sera ce veilleur fragile : poussière mêlant l'amant errant au vent. Restera la sève...)



      Un enfant chuchote Enfant est le visage de Yâfâ
      Ici est tombé le rebelle Haïfa gémit dans une pierre noire
      et le palmier qui a couvert Marie de son ombre pleure J'ai murmuré la faim est dans mes talons et la terre palpite entre mes paumes Nous avons dévoilé nos secrets
      (chemins seront les taches des larmes)
      Je palpe le flanc de la lumière qui déracine
      le désert et l'univers ligoté avec une corde d'anges Vois-tu les traces d'un astre? L'astre entend ma voix
      Je répéterai après lui et répéterai encore Au temps
      des cendres, un homme jeta son histoire aux braises de nos jours et mourut


      (Tant que l'Etat subsiste, tu ne connaîtras pas la liberté.) Te souviens-tu ? La prison était chant. Te souviens-tu ? (La base, le pouvoir des travailleurs...) Quel intérêt? La révolution se dégrade, se réduit à un mot, se rallonge comme une table. As-tu lu la Sourate de la Table? Un feddayin traçait son nom en lettres de feu et mourait dans les gorges glacées.
      Jérusalem trace son nom. L' Etat ne cesse d'exister. L' Etat existe toujours.
      Cependant, le fleuve égorgé suit son cours.
      Toute eau est visage de Yâfâ,
      toute blessure est visage de Yâfâ,
      et les millions qui crient leur refus
      sont visage de Yâfâ.
      Les amants sur les terrasses, dans les chaînes ou dans les tombes sont Yâfâ.
      Et le sang qui s'écoule du flanc du monde est Yâfâ.


      Au nom de Yâfâ,
      Nomme-moi Qays,
      Nomme la terre Laylâ.
      Au nom d'un peuple qui brandit le soleil
      en salut,
      Nomme-moi grenade ou fusil.



      Voilà ce que je suis : (non, je n'appartiens pas au siècle du déclin )
      je suis l'heure du viol immense et le séisme des idées. Voilà ce que je suis. Une nuée est passée,
      enceinte d'un tourbillon de folie.
      L'errance s'est sauvée sous ma fenêtre, disent les autres .
      Mais que disent les autres?


      Il veille sur le troupeau de ses paupières.
      Il lie l'étrange a' l'étrange.
      Voilà ce que je suis : je lie l'étrange à l'étrange .

      Ainsi ai-je écrit l'Histoire :
      Au-dessus du minaret,
      Une lune étrille les chevaux
      Et dort dans les bras d'une amulette.
      J'ai noté : la défaite a maculé la chair des siècles,
      Oran est comme Kâzimiyyah5
      Damas est Beyrouth la vieille -
      Désert qui avale les saisons, sang pourri.
      Le feu des symboles a cessé d'engendrer les cités
      Et l'espace.
      J'ai noté : ce qui reste n'est que sang sénile à l'agonie.
      La défaite a maculé la chair des siècles


      … dans une géographie qui se prolonge… et se prolonge…
      là où le mot devient trame aux mailles criblées de trous
      comme du coton gonflé. Des jours porteurs de membres
      transpercés entrent dans une histoire vide de tout sauf
      d'ongles. Des triangles en forme de femme gisent enre page
      et page. Toute chose vient â la terre à travers le chas du mot :
      insecte, dieu, poète,
      par la piqûre, par l'insomnie et la fièvre dans la voix ; par
      les balles et les ablutions; par la lune; par la formi de
      Salomon; par les champs qui fleurissent de banderoles sur
      lesquelles on a inscrit : " A la recherche du pain ", ou " A la
      recherche d'une fesse, mais on secret ", ou " Le mouvement
      est-il dans les pas ou dans la route ? "
      La route est de sable. L'air se courbe au-dessus d'elle et le pas
      est un instant, lisse comme le galet...



      Et le temps allait se projeter hors du temps, et ce que l'on
      appelle patrie s'asseyait sur le rebord de l'instant et frôlait
      la chute. " Comment la retenir ? " demanda un homme
      enchaîné et à demi-muselé. Pour toute réponse il reçut une autre chaîne,
      et une foule dense comme le sable se mit à sécréter une distance de la taille de lam, mim, alif. ou de sad, ' ayn, ya, hé, kaf, et à la piétiner, tissant étendards, tapis, coupoles, bâtissant un pont pour relier l'au-delà au monde...
      Une mouche passa par là et s'installa sur le mot. Aucune
      lettre ne remuant, elle s'envola sur ses ailes déployées.
      Survint un enfant qui demanda où était le mot. Une épine
      lui poussa dans la gorge et envahit sa langue...
      … dans une géographie qui se prolonge... et se prolonge...
      " L'ennemi gagne, eux ils perdent. Il avance, eux reculent; il s'allonge, eux rapetissent, se réduisent à un drapeau en berne, à une voix éteinte. Et les rois s'acharnent à colmater les brèches... Quand la situation s'aggrave, l'Andalousie sollicite l'aide du bon roi pour sauver la région de Jazîrah, tombée aux mains des Espagnols. Il se contente d'offrir
      regrets et condoléances, disant que la guerre est une compétition
      et qu'ils sauront bien se tirer d'affaire...l'ennemi cesse de les attaquer et les combattre, de jour comme de nuit. Il les chasse de leurs places fortes, les boute hors de leurs demeures. Il les écrase et les extermine par la mort ou la captivité... "
      … dans une géographie qui se prolonge… et se prolonge …

      Viendra un temps entre roses et cendres
      où toute chose s'éteindra,
      où toute chose commencera .

      …. je chante ma tragédie. Je ne me vois plus qu'à la pointe de l'Histoire, sur le fil de la lame. Je commencerai, mais où ? D'où ? Comment m'expliquer, et dans quelle langue Celle dont je me nourris m'a trahi. Je l'attesterai et je vivrai sur la crête d'un temps défunt. Je marcherai sur la crête d'un temps qui n'est pas encore venu.


      Mais je ne suis pas seul Voici la gazelle de l'Histoire. Elle ouvre mes entrailles. Le fleuve des esclaves mugit. Plus Je prophète, plus Je dieu... Nous venons et nous découvrons le pain Nous avons découvert une lumière qui nous guide vers la terre, découvert un soleil qui jaillit d'un poing fermé Apportez vos pioches. Nous portons Dieu tel un vieillard mourant . Nous ouvrons au soleil un chemin autre que les minarets, à l'enfant un livre autre que les anges, au rêveur un oeil autre que Médine et Kûfah Apportez vos pioches Je ne suis pas seul



      Enfant est le visage de Yâfa L'arbre flétri s'épanouira-t-il? La terre entrera-t-elle dans une image vierge? Qui, là-bas, ébranlera l'Orient?
      La belle tempête s'est levée mais la belle désolation n'est
      pas encore venue Voix errante...
      Ils sont sortis des Livres vétustes où pourrissent les origines.
      Ils sont venus comme viennent les saisons.
      Les cendres ont étreint leurs contraires,
      Les champs ont marché vers les champs.


      Non, il n'appartient pas au siècle du déclin:
      Il est le séisme des idées.
      Il est l'heure du viol immense

      تعليق


      • #18
        رد: أدونيس (مختارات: خالدة سعيد)

        أدونيس
        النص القرآني و آفاق الكتابة
        1
        أشير، أولاً، أنني أتكلم على الكتابة القرآنية بوصفها نصاً لغوياً، خارج كل بعد ديني، نظراً وممارسة: نصاً نقرؤه، كما نقرأ نصاً أدبياً. وأشير، ثانيا، إلى أنني لا أدخل في أي تساؤل حول المسافة بين وحيه وتبليغه، وتدوينه، ولا حول نزوله. وأضع جانبا كيفية التدوين، ومن دوّن، وظروف التدوين، والنقاش الذي دار حول هذا كله. وأشير، ثالثا، إلى أنني لا أدخل في الجدل التاريخي حول تسلسل السور أو النصوص: أهي متسلسلة وفقاً لنزولها أو لا. ولا أدخل كذلك في بناء السورة وتركيبها: هل فيها آيات نزلت في فترات متباينة، أم لا. ولا أدخل في بحث التباين بين النزول والكتابة. أكتفي، رابعاً، بالإشارة إلى أن النص القرآني نزل متقطعاً على امتداد ثلاث وعشرين سنة، تبعا للوقائع والأحداث ومقتضيات الحال، وإلى أنه كان يحفظ في الذاكرة، قبل تدوينه، وفي أثنائه، وقبل أن يتخذ هذا التدوين شكله الأخير في مصحف عثمان- الخليفة الثالث.

        وربما أثارت عبارة "الكتابة القرآنية" تساؤلاً، ذلك أن القرآن نزل وحياً، وبلغ شفوياً. والكتابة عمل إنساني قام به أشخاص كلفوا به. والجواب عن هذا التساؤل هو أنني أتحدث عن النص القرآني كما دوّن، استناداً إلى سماعه من ناقله النبي الذي سمعه مباشرة من الوسيط بينه وبين الله: الملاك جبرائيل، مما تجمع عليه الروايات كلها.

        2
        يجيب النص القرآني عن أسئلة الوجود والأخلاق والمصير. وهو يجيب عن ذلك بشكل جمالي- فني، ولهذا يمكن وصفه بأنه نص لغوى- أعني لا بد لفهمه من فهم لغته أولاً. وهذه اللغة ليست مجرد مفردات وتراكيب، وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة، وللكون- أصلاً، وغيباً، ومآلاً.
        وقد تجسّد هذا الشكل الجمالي في كتابة فاجأت العرب، بحيث أجمعوا على أنها فريدة، لم يروا مثلها، وعلى أنها لا تضاهى. وهكذا لم يعرفوا كيف يحددونها، استناداً إلى المعايير التي يعرفونها، فقالوا: إنها نثر لكنها ليست كمثل النثر، وإنها شعر لكنها ليست كمثل الشعر. وهي إذن كتابة أكثر من أن تنحصر في الشعر أو النثر. وقالوا: إنها كتابة لا توصف، وسر لا يمكن سبره. واتفقوا على إنها نقض لعادة الكتابة شعراً، وسجعاً، خطابة ورسالة، وأنها نوع من النظم في تركيب جديد.

        وإذا أضيف إلى ذلك كون النص القرآني هو "جوامع الكلم "، كما جاء على لسان النبي، وأنه نوع من استعادة الوحي قبله، استناداً إلى حديث في صحيح البخاري يقول: "أنا والأنبياء أخوة"، بمعنى أن أمهاتهم متعددة، لكن دينهم واحد، واستناداً إلى الرواية القائلة إن ورقة بن نوفل، ابن عم زوجته خديجة، وصف ما أنزل على محمد بأنه "الناموس الذي نزله الله على موسى"- أقول، إذا أضفنا هذا كله، تتجلى لنا شدة المفاجأة اللغوية والمعرفية: التي مثلها هذا النص، بالنسبة إلى العرب، وكيف أن هذا النص يقدم نفسه على أنه الكون كله في كتاب، أو على أنه، كما وصف نفسه: الكتاب.

        غير أن دهشة العرب الأولى، إزاء القرآن، كانت لغوية. فقد افتتنوا بلغته- جمالاً، وفناً. وكانت هذه اللغة المفتاح المباشر. الذي فتح الأبواب لدخول عالم النص القرآني، والإيمان بدين الإسلام. ولهذا لا يمكن الفصل، على أي مستوى، بين الإسلام واللغة. ويمكن القول إن المسلمين الأوائل الذين شكلوا النواة الصلبة الأولى للدعوة إلى الإسلام، آمنوا به أولاً بوصفه نصاً بيانياً امتلكهم: آمنوا به، لا لأنه كشف عن أسرار الكون، والإنسان، أو قدم لهم نظاماً جديداً للحياة، بل لأنهم رأوا فيه كتابة لا عهد لهم بما يشبهها. باللغة، تغير كيانهم من داخل، وباللغة تغيرت حياتهم. تاهوا معه- لغة وتعبيراً، فصار هو نفسه وجودهم. كأن اللغة هنا هي الإنسان، لا بوصفها أداة تصل بينه وبين العالم، بل بوصفها ماهية له.
        3
        وصف النص القرآني نفسه بأنه "قرآن عجب " (72: 1) لا من حيث لغته وحدها، بل أيضاً من حيث إجابته عن أسئلة الوجود والأخلاق والمصير. ووصف نفسه بأنه "الكتاب"- من حيث أنه مطلق اللغة، ومطلق الوجود، ومطلق المعنى. يتألف النص القرآني من سور، وتتألف السورة من آيات. والسورة لغة، هي المنزلة أو الرفعة. وهي كذلك ما حسن من البناء، وطال. وهي كل منزلة منه. وسمّيت السورة من النص القرآني سورة لأنها تتدرج منزلة منزلة، منقطعة عما يسبقها وعما يليها. أي أن لكل سورة مبتدأ وخاتمة، بهما تتميز عن غيرها. أما الآية فسميت بهذا الاسم، إما لأنها علامة تشير إلى وقف وانقطاع، وإما لأنها مجموعة من حروف القرآن. والسورة، من حيث البناء، مقطعة، متقطعة، مسجعة غالباً، ومقفاة أحياناً، خصوصاً في السور المكية. وهناك سور هي، على العكس، منتظمة، متواصلة، بأوزان متنوعة، وفقاً لإيقاعات تخرج على النظام الوزني. السورة، بشكل عام، مفتوحة كجزء محدود من فضاء غير محدود. إنها كمثل نجمة سابحة في سماء هي الكتاب. وكما أننا نستطيع أن نرى النجمة من جميع جهاتها المرئية، كذلك نستطيع أن نقرأ السورة من حيث شئنا. فهي لألأة وتوهج، أكثر مما هي معمار أحكمت هندسته من خارج. ويمكن أن نشبه السورة بأنها لوحة أو بساط باذخ من الكلمات، منتظمة في خطوط وأشكال وألوان، بتنوع وتعذب وتشابك. البياض بين آياتها جزء من هذا البساط، وهو بياض تكسوه علامة الوقف، الفاصلة بين الآية والآية. والصمت في قراءتها هو أيضاً جزء منها، لأنه يدخل بين الآية والآية بوصفه وفقا كذلك.
        كأن السور بستان هو الكتاب، وكل منها باب له. بستان نقدر أن ندخل إليه من أي مكان شئنا، ومن أية جهة. بستان بلا تخوم، ذلك أنه هو تخوم الأشياء كلها. كتاب للكون، هو الكون كله، والسور صفحاته. أو لنقل: السور كمثل النجوم تتآلف كلها في الفلك الواحد: الكتاب. معظم السور بوتقة تنصهر فيها الخطبة والمثل والنشيد، الحوار والقصص والصلاة، عالم الحضور وعالم الغيب، في نسيج متواصل دون نقط وفواصل وأهلّة (تلك التي كان مالارميه يسميهما عكاكيز). والسورة من حيث بنيتها الموسيقية، خصوصاً السورة المكية، نظام إيقاعي خاص، حلله بيار كرابون دوكابرونا. ( ………) في كتابه المهم (……….) وكان في ذلك رائداً، لم يسبقه أحد، ولم يتابعه أحد، فيما أعلم.
        رأى كرابون أن لبعض السور المكية (رقم 94، 92، 93) شكل الرباعية (……) ورأى أن بعضها يقوم على الترنيم ( ……..) وأن بعضها يقوم على مؤلفات موسيقية غير معهودة، وأن في بعضها أصواتاً كثيرة تتحدث إلى النبي، وأوزاناً متعددة (السور 74، 75، 76، 78، 81) كأنها حوارية أو مسرحية. ورأى في بعضها جملاً لا يربط بينها غير التجاور. وأن الإيقاع المهيمن يجيء من الوحدتين الوزنيتين: فاعلن، متفاعلن. ورأى أن لبعضها وزناً واحداً، وأن بعضها ثنائي الوزن، وبعضها متعدد الوزن، وأن بعضها (سورة 69) يتضمن خمسة عناصر وزنية. وفي أثناء تحليله الموسيقي، أشار إلى أن بعض السور قصصي يستعيد قصص التوراة، وإلى أن بعضها متأثر بالطرق الكتابية القديمة الكنعانية (سورة 72) التي يشبهها بالكائنات ( ……… ). ونشير هنا إلى أن موسيقى الشعر، كما عرفها العرب، أقل غنىً من موسيقى هذه السور. بهذه الموسيقى، تبدو اللغة كأنها نبض القلب، وحركة الجسد، وكأنها عناق حيّ مع حركة الكون. ولا تكمن البنية العميقة، في هذه الموسيقى، في التآلف بين حروف اللفظ المفرد وتناغمها وحسب، وإنما تكمن كذلك، وعلى نحو أخص في طبيعة العلاقة القائمة بين الكلمة والكلمة- أو في النظم. وليس الفكر هو الذي يعيننا على اكتناه هذه الموسيقى، وإنما تكمن طريقنا إليه في الحس والذوق. هكذا تتمثل البنية الداخلية العميقة للنص القرآني في موسيقية لغته. فالنص القرآني نغم، ويمكن أن نتكلم عليه بوصفه نغما. ولا تندرج أنغامه في تسق معين، أو نظام وزني ثابت، وهذا مما يجعلها حركية ومفتوحة.
        4
        ما الاسم الأدبي الذي يمكن أن نسفي به السورة؟
        قبل الإجابة، أعيد طرح السؤال الأساس الذي طرحه النقاد العرب، إزاء النص القرآني، وهو التالي: أين مكان المزية في الكلام، أي في الكتابة؟ أو: ما الخصوصية التي لا تكون الكتابة كتابة إلا بها؟ سأقتصر على إيراد جواب أكثر النفاد العرب عمقاً وفهما، عنيت الجرجاني. فهو، بعد أن يقرر أن النص القرآني نقض لعادة الكتابة العربية، شعراً ونثراً، وبعد أن رأى أن المعايير التقويمية المعروفة لا تجدي في تقويمه، اقترح لتقويمه معياراً جديداً سماه النظم. وتعريف النظم أمر صعب- لكنه يحدده مع ذلك، يقوله إنه طريقة مخصوصة في نسق الكلمات بعضها مع بعض. أي هو نوع خاص من التأليف والترتيب، ومن النسج والصياغة.

        ويشبّه النظم بالديباج. وتكمن خصوصيته إذن، لا في كونه ديباجاً، بل في كيفية ذهاب الخيوط ومجيئها في هذا الديباج- ماذا يذهب منها طولاً، وكيف؟ وماذا يذهب غرضاً، وكيف؟ وبم يبدأ، وبم يثنى، وبم يثلث، وكيف؟ وإذا كان النظم شبيهاً بالنسج والتأليف والصياغة والتحبير والبناء والوشي، فإنه يوجب في تقويمه النظر إلى أجزائه في تآلف بعضها مع بعض لكي نعرف الأسباب التي دعت إلى وضع أحدها حيث وضع، والتي اقتضته بحيث انه لو وضع في مكان آخر، لاختل النسج أو البناء كله. هكذا لا تتفاضل الكلمات من حيث هي ألفاظ مفردة، بل من حيث نسجها ودرجة التلاؤم بين معناها ومعنى اللفظة التي تسبقها واللفظة التي تليها. والنظم على هذا نوع من خلق تطابق محكم وتام بين اللفظ والمعنى. وخصوصيته تنتمي إلى حيز المعنى، أولياً، أي حيز الرؤيا والتجربة. أو لنقل، بتعبير الجرجاني، إن المزية في نظم الكلام "ليست حيث نسمع بالأذن، بل حيث ننظر بالقلب، ونستعين بالفكر" (الإعجاز، ص 51). وتتجسد هذه المزية، على نحو خاص، وعلى مستوى التعبير، في المجاز- استعارة وتمثيلاً، وفي النهاية. فالمجاز والكناية يتيحان للمعنى أن يتجلى في صور مختلفة، تجعله متنوع الأبعاد، متنوع الجمال. وعلى هذا فإن قيمة الصنيع الأدبي ليست في معناه بحد ذاته، بل في لفظه- حاملاً له، مفصحاً عنه. بل إن الشعر حين يفقد الحسن في لفظه ونظمه لا يستحق اسم الشعر (ص 198). ذلك أن اللفظ لا يوصف بالفصاحة من أجل جرسه وصداه، بل من أجل مزية في معناه. فالفصاحة لا تقال عن الألفاظ إلا بوصفها نظما.
        باختصار، إن خصوصية الصنيع الأدبي هي في شكله (ص 255).

        5
        أعود إلى السؤال: ما الاسم الأدبي الذي يمكن أن نسمي به السورة؟ والجواب، انطلاقاً من القول إن خصوصية الصنيع الأدبي هي في شكله، هو أننا لا نقدر أن نسميها، أو أن علينا أن نبتكر لها اسما أدبياً خاصاً. فنحن لا نقدر أن نقول عنها إنها نثر، لأن فيها خصوصية بناء وتعبير، تميزها عن جميع أنواع النثر، بحيث لا ينطبق عليها اسم أي نوع من أنواعه. ولا نقدر أن نسميها شعراً، إذ ليس فيها أي استخدام للأصول التي تجعل منها شعراً، على الرغم من أنها تستخدم مختلف أنواع التعبير المجازي، ومختلف أشكال البيان والبلاغة. نضيف إلى ذلك أن في بناء بعض السور، وفي صيغها التعبيرية حرية عجيبة وكلية لا تجعل تصنيفها وحده داخل نوع أدبي أمراً متعذراً، و إنما تجعل فهمها، هو الآخر أيضاً، أمراً متعذراً. أكتفي، للتمثيل على ذلك ببدايات بعض السور المكية. فمنها ما يبدأ بحرفي واحد: ص، ق، ن. ومنها ما يبدأ بحرفين: حاء ميم، طاء هاء، طاء سين، ياء سين. ومنها ما يبدأ بثلاثة أحرف: ألف لام ميم، ألف لام راء، طاء سين ميم. ومنها ما يبدأ بأربعة أحرف: ألف لام ميم صاد، ألف لام ميم راء. ومنها ما يبدأ بخمسة أحرف كمثل سورة مريم: كاف هاء ياء عين صاد.
        وجميع السور تبدأ بالعبارة: باسم الله الرحمن الرحيم، ما عدا سورة واحدة، هي التوبة (رقم 9). وفي هذا كله ما فرض شروطاً صعبة على من يتصدى لتفسير النص القرآني. فقد اشترط فيه أن يكون على معرفة عليا باللغة- نحواً، وصرفاً، واشتقاقاً، وبعلوم البلاغة، وبعلم القراءات، وبأصول الدين والفقه، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ من الآيات، وبالحديث النبوي، إضافة إلى اشتراط الذوق الرفيع، والإيمان العميق. وهذه شروط لا تتوفر إلا في الأقل الأندر من الناس.

        6
        هوذا، إذن، نجد أنفسنا أمام نص لا يسمى، أو لا تسمح معايير الأنواع الأدبية بتسميته. إنه نص لا يأخذ معياره من خارج، من قواعد ومبادئ محددة، وإنما معياره داخلي فيه. سيكون، إذن، اسمه الوحيد الاسم الذي سمى به نفسه وهو: الكتاب. أي أن الكتاب هنا اسم إلهي، أو هو اسمه لغة وكتابة ومعنى ذلك أنه مطلق: لا ندرك معناه، ولا يبدأ ولا ينتهي. وهو، بوصفه مطلقاً يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرؤه عبر التاريخ.
        في الكتاب، في شكل كتابته، تنصهر الأفكار والأشياء، الحياة والأخلاق، الواقع والغيب. وهذا الشكل شبكة تتداخل خيوطها وتنحبك في علاقات متعددة، ومتنوعة، مفتوحة كالفضاء. إنه فن آخر من القول، وفن آخر للقول. فن في الكتابة، وفن في تكوين النص. كأنه نوع من فكر الكتابة يتبطن نوعاً من كتابة الفكر. أو لنقل: إنه، بوصفه نوعاً من كتابة المطلق، نوع من مطلق الكتابة. إنه الكتابة المطلقة لكتابة المطلق.
        7
        تفتح التجربة الصوفية أفقاً آخر لهذه الكتابة، في قراءتها وفهمها. وهي تعطي للنص القرآني أبعاداً غنية ومتنوعة يجدر الوقوف عندها، ولو بشكل سريع. ذلك أنها أساسية في إضاءة الدلالة الكيانية للغة وللكتابة معاً. النص القرآني، كما ترى إليه التجربة الصوفية، دال لغوى لمدلول هو الوجود. الأول هو رمز، والثاني مرموز إليه. فالكتاب هو كلمات الله التي توازي الوجود، وترمز إلى حقائقه، وتوازي الإنسان، وترمز إليه. إنه البرزخ بين الله والإنسان، بين المطلق والنسبي. والكلمة الإلهية: "كن " هي في آن قول- فعل. فليس الوجود إلا كلمات الله. هكذا تكون اللغة وجوداً، ويكون الوجود لغة. ويكون الكتاب هو نفسه الوجود من حيث أنه القول- أو اللغة ممثلة في الكلمة الإلهية: "كن". واللغة الإنسانية في هذا المنظور، منطوقة ومكتوبة، إنما هي تجل للغة الإلهية. أو هي الصورة الظاهرة للغة الإلهية الباطنة. وفي هذا ما يشير إلى خطورة الكتابة، وإلى أنها مسألة كيانية. نقول، بتعبير آخر، وفقاً للتجربة الصوفية، إن حقائق الممكنات هي الحروف الكامنة في الحبر، والورق وما يكتب فيه انبساط النور الوجود في العالم الذي تتعين فيه صور الموجودات، والكتابة هي سر الإظهار والإيجاد، والقلم هو الواسطة والآلة، والكاتب، بالمعني الأصلي الحق، هو الله من حيث كونه موجداً وبارئاً ومصوراً، له العلم الأولي، وله رؤية الممكنات. وهو كذلك الإنسان الكامل، بوصفه تجلياً له.
        هكذا يكون للغة الكتاب ظاهر وباطن. الدلالة في ظاهر اللغة وضعية، عرفية، اتفاقية. والدلالة في باطنها، ذاتية. فهناك تعارض بينهما يزيله الإنسان الكامل، ذلك أنه البرزخ الجامع بين الظاهر (اللغة الإنسانية) والباطن (اللغة الإلهية).
        ولا يقدر الإنسان أن يفهم هذه اللغة، بوصفها باطناً، إلا إذا تجاوزها بوصفها ظاهراً. ولا يقدر أن يحقق هذا التجاوز إلا إذا حقق في ذاته حالة عليا من الشفافية تصله بالمطلق، أو الغيب، بحيث يتحول إلى نفس إلهي. يدرك آنذاك أنه ليس هو، بوصفه فرداً، من يفكر، وإنما "يُفكَّر"، وليس هو من يكتب- بل النفس الإلهيّ. فهو ليس مفكراً وكاتباً، إلا بوصفه "مفكراً"و"مكتوباً". وفي هذا الأفق الصوفيّ، يمكن القول إن الكتاب، بوصفه مطلقاً، لا يبدأ ولا ينتهي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فهو، في هذا الأفق، الله نفسه: كلي الظهور، وكلي البطون في آن. يرى ولا يرى في آن. يوصف ولا يوصف في آن. يفهم ولا يستنفذ في آن. وكل كتابة خارجه لا تقود إلا استحالة القول. هكذا يكون الكتاب لغة تعيد باستمرار خلق اللغة. لا تعود مجرد علامات وأدوات. اللغة هنا، لحظة هي أبجدية، إنما هي في الوقت نفسه كون وألوهة، أسرار وغيوب. إنها الشيء وما وراءه. إنها اللامتناهي: الأصل والمعاد. والكتاب هنا ضرورة، بوصفه كتابة، لكنه مصادفة بوصفه قراءة. لنقل، بتعبير آخر، إنه بوصفه الأول إحكام، وبوصفه الثاني، الهام.

        ولا تكون الكتابة، في هذا الأفق، كتابة الحياة إلا لأنها كتابة الموت. كتابة الكائن من أجل الموت. كتابة التمحور حول الجذر، لا حول الثمرة، عبوراً إلى جسر الفاجعة- الحياة، جسر ا لزوال. وطبيعي أن الكتاب في هذا الأفق ليس ذاتياً، وأنه يعالج الأشياء بشمولها، لا بجزئياتها. إنه تعالق مع الكون لا مع الذات- لكن عبرها. كأن لما وراء الطبيعة طبيعة خاصة تفصح عنها، وهذه الطبيعة الخاصة هي الكتاب. هل نقول، في هذا الأفق، إن الكاتب هو ذلك الكائن المتخيل في ذلك الاتحاد الإلهي- الإنساني، باللغة وفيها؟ هل هو ذلك الضوء الجامع بين المرسل والمرسل إليه والمرسل؟ بين المطلق والتاريخ؟ هل الكاتب هو اللاكاتب؟ هل غيابه هو نفسه حضوره؟ وهل الكتابة المثلى هي التي تتم دون كاتب؟
        8
        أصل تما تقدم إلى الخلاصات التالية:
        أولاً، إن النص القرآني يتجاوز الشخص: الله هو الذي أوحاه، ونقله إلى النبي ملاك، وبلغه النبي إلى الناس، ودونه كتاب الوحي. إنه عمل إلهي- إنساني. عمل كوني. وهو، بوصفه كذلك، محيط بلا نهاية، للمتخيل الجمعي.
        وربما كان أعقد ما فيه، بوصفه كتابة، خلافاً لما يبدو ظاهرياً، هو أنه متابعة لما قبله وتكملة: إنه خاتمة النبوات، وخاتمة الكتابة. إنه، بمعنى ما، أنهى الكتابة. ذلك أنه لم يكتب الأثر الذي يولده الشيء، وفقاً لتعبير مالارميه، وإنما كتب الشيء ذاته. لهذا لا يطرح النص القرآني مسألة ما الشعر، أو ما النثر، وإنما يطرح السؤال: ما الكتابة، وما الكتاب؟ هكذا تقرأ النص القرآني بوصفه نصاً يجمع في بنيته أشكال الكتابة جميعاً. كأنه أعاد الأبجدية إلى فطرتها، قبل الكتابة، وفيما وراء الأنواع الكتابية. وكأنه وضع هذه الأنواع بين قوسين أو ألغاها، ليخلق نوع! آخر.
        ثانياً، الدين واللغة في هذا النص شكل روحي واحد، أو بنية روحية واحدة. لهذا يتكون من الغامض الذي لا يمكن أن بعرفه الإنسان، ومن الواضح الذي يعرف مباشرة من ظاهـر اللفظ. فهو أفق مفتوح، لكن على الغيب.
        ثالثاً، البعد العميق في هذا النص بعد تراجيدي، لأنه بكشف عن الغياب والزوال والفناء، وعن أن الأرض ليست إلا جسراً نحو الغيب، وأن الإقامة عليها إنما هي إقامة من يرحل، لا من يستقر.
        وما يعطي لهذا البعد، ثقله الكوني، هو أن هذا النص استعادة للنص التوراتي، كما أنزل على موسى، استعادة بالعربية، في الإسلام وباسمه، لكن لا لشعب خاص، بل للبشر جميعاً دون تمييز. إنه نص تذوب فيه النصوص الدينية كلها، ويطمح إلى أن يخلق من البشر كلهم أمة واحدة. ألهذا تذوب أشكال التعبير كلها في شكل تعبيري واحد، يمثله هو؟ وهل هو، بوصفه استعادة، كتابة تقول إن كل كتابة هي إعادة كتابة، لكن في سياقي آخر؟
        رابعاً، نشأ مع النص القرآني، على الصعيد الإنساني، إنسان جديد، ونشأ معه، على الصعيد الأدبي الخالص، قارئ جديد، ونقد جديد، وذوق جديد. وهو، على هذا الصعيد الأدبي الخالص، طريقة في التعبير تلغي الفروقات التقليدية بين الفلسفة والأدب، وبين العلم والسياسة، وبين الأخلاق والجمال. إنه طريقة تخترق الأنواع، من حيث الشكل، وتخترق المقاربات المعرفية التقليدية، من حيث المنهج.

        في هذا التهديم للفروقات بين الأنواع الأدبية، خاصية تفتح للكتابة أفقاً آخر، وتوفر لها إمكانات أخرى. إنه نموذج من الكتابة تتداخل فيه مختلف أنواع المعرفة- فلسفة وأخلاقاً، سياسة وتشريعاً، اجتماعاً واقتصاداً، وتتداخل فيه مختلف أنواع الكتابة الأدبية- سرداً وحواراً، قصص! وتاريخاً، حكمة وأدباً. انه في آن فلسفي أدبب اجتماعي تاريخي يجمع بين الطبيعة وما وراءها. وفي هذا ما يتيح للكاتب أن يعيد النظر في رؤياه للإنسان والعالم والكتابة. ولن تكون هذه الرؤيا إلا كونية وإنسانية. لن تكون إلا مزيداً من الاتجاه نحو الإنسان بوصفه إنساناً، فيما وراء كل عرقي ولون، وفيما وراء كل انتماء. ولن يكون فيها فرق بين الإنسان والإنسان إلا عمق التعبير عن هذه الرؤيا، وفي غناه وفرادته. إنه نمق- دعوة إلى كتابة جديدة برؤيا جديدة هي كتابة ما يمكن أن أسميه بالمجاز في اتجاه الآخر، بالمعنيين اللذين تتضمنهما هذه الكلمة: العبور إلى الإنسان، والتعبير عن هذا العبور بأحسن صورة.

        خامساً، هذا النص مفتاح لفهم العالم الإسلامي. ولن يفهم أحذ المسلمين وتاريخهم، إذا كان يريد هذا الفهم، إلا بدءاً من استيعاب هذا النص، والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه وبين المسلم. دون ذلك سيظل المسلم غريباً، قطعاً، عن الآخر. ولا أعرف كيف يمكن الكتابة أن تكون إنسانية وكونية، مادامت لا تفهم الآخر، أو لا تريد أو لا تحاول أن تفهمه؟ وما تكون قيمة كتابة مغلقة، ومعزولة عن الآخر فالإنسان، خصوصاً في هذا العصر الكوني، لن يكون ذاته إلا بقدر ما يكون الآخر. فأن يكون الإنسان مواطناً حياً وحقيقياً في بلده، هو أن يكون مواطناً كونياً.

        سادساً، لا أعرف ما تكون الصلة بين الكتاب، كما حاولت أن أتحدث عنه، والكتاب كما نظر إليه مالارميه. لكننا نعرف جميعاً أنه قبل أن يسمي مالارميه مشروعه الكتابي باسم الكتاب الذي أراد له أن يكون "أساس العالم وخلاصته "- قبل ذلك بحوالي أربعة عشر قرناً، كان هناك في اللغة العربية كتابة اسمها الكتاب، أساساً للعالم، وخلاصة له، وخاتماً للكلام. وثمة كتابات كثيرة بليت لا نزال نحملها في طريقنا نحو المجهول. فلماذا نستمر في حملها؟ هل نحن أسرى تقليد خانق، من نوع آخر؟ أليست مهمة الكاتب هي أولاً في سؤاله: ماذا آخذ مما سبقني؟ هل هذا القرن الذي يجيء يستدعي نوع! آخر من الكتابة؟ ذلك هو السؤال الذي أود أن يكون ختاماً لهذا البحث.






        ملحق :
        تساؤلات- تأملات

        1
        إذا كان النص، بمعنى ما، قراءته- أي كيفية قراءته، وكان مستواه تابعاً لمستوى هذه القراءة، دقة وفهما وغنىً، فإن للنص مستويات متعددة، تعدد قراءاته. انطلاقاً من ذلك، يمكن أن نطرح هذا السؤال: ما مستوى ا القراءة السائدة للنص القرآني؟ والجواب، كما يبدو لي، هو أن في هذه القراءة ما يشوش الأفق المعرفي الإسلامي، وفيها كذلك ما يقلص الرؤية إلى العالم والإنسان والأشياء. إنها بالأحرى قراءة لا تجعل من هذا النص أفقاً، بقدر ما تجعل منه نفقاً. والسبب في ذلك عائد إلى أمور كثيرة بينها، على الأخص، تغليب المنظور الشرعي، بحيث تبدو الشريعة أساساً وحيداً للفكر والعمل، للكون والأشياء. وهي في هذا قراءة تغلب، بالضرورة، المنظور الإيديولوجي- السياسي. هكذا يجد المسلم نفسه، وفقاً لهذه القراءة الشرعية- السياسية، محصوراً بين الشرعي والسياسي: تزول حريته، وتنطفئ كينونته من داخل، ويشعر أنه آلة تسيرها يد الشرع، أعني يد السياسة.
        أليس الإسلام السائد اليوم، كما يبدو في قراءته السائدة، مجرد شرع وأنظمة سياسية؟ وما الكتابة التي يحاول أن يفرضها؟ إنها ليست إلا شكلاً من التعليم الذي يستمد، بشكل أو آخر، من النص القرآني بوصفه شرعاً وسياسة. وما نسميه الكاتب هنا ليس كاتباً وحسب، بل مشرّع أيضاً. وهو بوصفه مشرعاً، سياسي. وهكذا يمكن القول إن الكتابة في هذه القراءة السائدة للإسلام لا تكون فناً إلا بدءاً من كونها أخلاقاً، بالمعنى الذي تقره هذه القراءة، أي تديناً- علامته الأولى التمسك بالشرع والخضوع له.
        إن القراءة السائدة للإسلام تستعيد هي أيضاً الفكرة السائدة في التوراة من أن "الله مشرع، وحام للشريعة وملك"،- وعلى الأرض أن تسير بمقتضى هذه "الهوية" التي يصف الله بها نفسه، أو يضفيها الإنسان عليه.

        والسؤال الذي يجب أن يطرح في هذا الإطار هو: ماذا يفعل إنسان يرى أن الله ليس في المقام الأول مشرعاً، ولا حامياً للشريعة، ولا ملكاً- وإنما هو، في المقام الأول، جميل وكريم ومحب؟
        وكيف يقدر هذا الإنسان أن يكتب، وماذا يكتب في عالم يحكمه الشرع وتقوده السياسة؟ نضيف أن النص القرآني لا يقرأ، على مستوى الجمهور الواسع، إلا سماعاً: نقلاً إيمانياً، أو غناء ترتيلياً. أليس في هذا كله ما يسمح بالقول إن القرآن، هذا النص المقدس، محجوب بهذا التقديس ذاته؟

        2
        يرى الجرجاتي أن للكتابة القرآنية خصائص لم تعرف قبل نزول القرآن. ويرى أنها لا تكمن في الكلمات المفردة- في جمال حروفها وأصواتها وأصدائها، ولا في معاني الكلمات المفردة، التي هي لها بوضع اللغة، ولا في تركيب الحركات والسكنات، ولا في المقاطع والفواصل. وإنما تكمن هذه الخصائص في النظم والتأليف- اللذين يقتضيان الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز، فمن هذه يحدث النظم والتأليف، وبها يكونان (الإعجاز، ص 300).
        ولا طريق لمعرفة هذه الخصائص إلا النظر، والفكر، والروية. خصوصاً، كما يتابع الجرجاني، أن "مثل واضع الكلام (الكاتب) مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة، فيذيب بعضها في بعض، حتى تصير قطعة واحدة... كالحلقة المفرغة، لا تقبل التقسيم (...) يصنع في الكلم ما يصنعه الصانع حين يأخذ كسراً من الذهب، فيذيبها ثم يصبها في قالب، ويخرجها لك سواراً أو خلخالاً. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت (يشير الجرجاني هنا إلى بيت بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه) عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. فالبيت من أوله إلى آخره كلام واحد... اتحدت معانيه، فصارت الألفاظ من أجل ذلك، كأنها لفظة واحدة" (الإعجاز ص 316- 317).
        بناء على ما يقوله الجرجاني، يطيب لي أن أستطرد فأشير إلى التشابه اللافت بين ما تفرض الكتابة القرآنية قوله، وما قاله مالارميه حول الكتابة. ويجيء هذا التشابه من أن مالارميه كان يرى أنه، بوصفه كاتباً، ذات مطلقة تكتب الكتابة المطلقة المتمثلة في الكتاب. كأنه كان يعد نفسه خالقاً يخلق كتابة مطلقة خاصة لعالمه المطلق الخاص. ولا أريد أن أدخل، في تحليل هذا التشابه، وفي ما يقوله مالارميه عن الكتاب، وعن لا ذاتية الكتابة، فذلك شأن آخر.

        لكن يبقى بين الكتابتين فارق جوهري: فاللغة في الكتابة القرآنية لا تصف: لا الشيء ولا الأثر الذي يحدثه (مالارميه)، وإنما تقول، بوصفها وحياً دينياً، الأشياء ذاتها. وهو قول نهائي، وخاتم القول. والإنسان يعرف هذه الأشياء، لا بالعودة إليها، بل بالعودة إلى هذا القول ذاته. فهي تعرف به، وحده. وليست "موجودة" إلا داخل هذا القول.
        3
        المتكلم في النص القرآني، بوصفه وحياً منزلاً، هو الله، وبوصفه نصاً مكتوباً- مقروءاً، هو الكلام الإلهي- أي اللغة. فنحن لكي نفهم النص، نطلب إلى لغته أن تحاورنا، وأن تكلمنا- فهي، بهذا المعنى، تتكلم معنا. الله أوحى، ولم يكتب. الإنسان هو الذي كتب. لكن، منذ أن دخل الوحي في الزمن وفي التاريخ، منذ أن أصبح الوحي موجوداً في لغة، منذ أن تحول إلى نص مكتوب، صار بوصفه كتابة، هو المتكلم، أي صارت اللغة هي الذات المتكلمة. ومن هنا أهمية إتقانها الإتقان العالي، لكي نقدر أن نصغي إليها، وأن نحاورها، وأن نفهمها. ومن هنا التوكيد على أبديتها، وعدم تغيرها- ذلك أنها هي كيانية النبوّة، وهي لسان الوحي.
        4
        على صعيد الكتابة، يقول لنا النص القرآني: ليس هناك فنياً نوع اسمه النثر، ونوع اسمه الشعر. يقول لنا: حيث يكون نظم للكلمات، تكون هناك إرادة فن، ويكون عمل كتابي فني. وليس للوزن، بحصر المعنى، مدخل في ذلك، إنها كتابة أكثر جذرية وأكثر شمولاً من أن تنحصر في وزن. فالوزن عنصر من خارج لا يدخل، بوصفه وزناً، في الصنيع الشعري. تولد الكتابة، وفي ولادتها ذاتها تولد قاعدتها.
        كان شكل التعبير في النص القرآني العامل الحاسم في الاستجابة لمضمونه التعليمي. كأن اللغة هي التي فتحت للناس الأبواب لدين جديد هو الإسلام. في الرواية ألط الخليفة الثاني عمر آمن بالإسلام، عن طريق سماعه. قال: لما سمعت القرآن، رق له قلبي، فبكيت، ودخلني الإسلام ". وفي الرواية أنه قرأ شيئاً من سورة طه، فيما كان يندد بمن أسلموا، فقال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه "، وأعلن إسلامه.
        والوليد بن المغيرة أحد سادة قريش، قال لقريش لما سمع بعضاً منه: "والله، ما منكم رجل أعلم مني بالشعر، ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله، ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو، وما يعلى". ثم تابع مكملاً: "إن هذا إلا سحر يؤثر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، ومواليه " (السيرة لابن هشام). غير أنه، مع ذلك، استكبر، ولم يسلم. إن في هذا ما يشير إلى الأهمية القصوى لفعالية النص، سلباً أو إيجاباً، وإلى ضرورة دراستها خصوصاً ما اتصل منها بالعلاقة بين علم الجمال وعلم النفس. فتأثير النص فعال- يقرب، أو يبعد. وتلك هي مزية أولى في كل نص عظيم. هذا الدهش أمام النص القرآني أدى ببعضهم إلى القول: "أنا لا أقول في القرآن شيئاً" (سعيد بن المسيب).

        5
        على مستوى الرؤيا، وصف الوحي ا النص القرآني بأنه " ا لكتاب " و" ا لفرقان "، و"النور"، و" ا لهدى "، و" الرحمة " و" الشفاء " و" المبين " و" الموعظة "، و"البشير" و"النذير". ووصفه، على مستوى التعبير، قائلاً: "إنكم لفي قول مختلف " (الذاريات)، وأنه "قرآن عجب "- "استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً" (الجن). ولم ينزل القرآن بلا واسطة إلا مرة واحدة: حين عرج النبي إلى السماء، فأوحى الله إليه ما أوحى مباشرة. ومعنى ذلك أنه كلمه تكليما، كما كان الشأن، قبله، مع موسى. وفي الحديث أن النبي رأى الملاذ جبريل عندما جاءه في حراء "جالساً على كرسي بين الماء والأرض ". وفي الأخبار أن جبريل كان يأتيه بالوحي في أشكال أخرى. كان يأتيه بصورة رجل أعرابي، وهو جالس بين أصحابه، فيرونه ويسمعون كلامه دون أن يعرفوا أنه جبريل. وكان يأتيه في صوت كمثل قرع الجرس، حيث يلقى الوحي في خاطره. وكان يأتيه في صورة ملك له أجنحة.
        وهناك إجماع ديني على أن النبي كان أمياً، لا يقرأ ولا يكتب. والوحي الذي كان يأتيه، كان يستقبله بوصفه حقيقة قائمة في ذاتها وبذاتها، باستقلال كامل عن فكره أو شعوره: كان مجرد ناقل أمين. وهناك إجماع على أن الآيات الأولى من سورة العلق هي الأولى التي نزلت على النبي: "اقرأ، باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ". وكان عمره أربعين سنة، وذلك في شهر آب، سنة 610 ميلادية.

        أما آخر الآيات التي نزلت، فحولها خلاف. (انظر تفصيل لخلاف في كتاب الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: 16/1-38

        لا بد هنا من سؤالين أساسيين:
        أ- كيف رتبت الآيات التي نزلت على مدى عشرين أو ثلاث وعشرين سنة (عشر سنوات في مكة، وعشر في المدينة)،- كيف رتبت في سور بلغت مئة وأربع عشرة؟ والجواب الذي تجمع عليه الأحاديث الخاصة بمسألة الترتيب هو أنه توقيفي، أي أن الرسول لم تكن له يد في ذلك، وكذلك الشأن، بالنسبة إلى صحابته. كان يتلقى ترتيب الآيات وحياً- بوساطة جبريل.
        ب- السؤال الثاني هو كيف جمعت هذه الآيات في قرآن أو في مصحف؟ والجواب الذي تجمع عليه الأحاديث هو أنها جمعت في عهدين: عهد النبوة، وعهد الصحابة- الخلفاء الراشدين. وتم الجمع بطريقتين:
        ا) الحفظ والاستظهار، 2) الكتابة والنقش.
        وكان النبي رأس الطريقة الأولى. وكان جبريل يراجعه فيه، مرة كل سنة. وراجعه فيه مرتين في سنة وفاته. وفي الحديث أن النبي قال مرة لأبي موسى الأشعري يمتدح قراءته القرآن: "لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داوود" (البخاري).
        أما الطريقة الثانية فقام بها كتاب الوحي. بينهم زيد بن ثابت وأبن بن كعب، وكان قبل إسلامه حبرا يهودياً، وهو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، وشارك في جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان. وكان بينهم معاذ بن تجبل، ومعاوية بن أبي سفيان، والخلفاء الراشدون وكانوا يكتبون الآيات على جريد النخل (الغ!ب)، وصفائح الحجارة، وعلى الرقاع (الجلد، أو الورق)، والأقتاب (الخشب الذي يوضع على ظهر الجمل للركوب عليه) والعظام. وهناك إجماع على أن القرآن كتب كله في عهد الرسول، غير أنه لم يجمع في كتاب أو مصحف واحد، بشكله الأخير، إلا في عهد عثمان. ويروى أنه في عهد الخليفة الأول أبي بكر، اقترحت تسمية القرآن باسم "السفر"، فقال: ذلك اسم تسميه اليهود. فاقترحت تسميته باسم "المصحف " نقلاً عن تقليد الحبشة. وفي عهد عثمان، تعددت قراءات القرآن. كان أهل الشام يقرؤون قراءة أبي بن كعب، ويقرأ أهل الكوفة قراءة عبد الله بن مسعود. وكان غيرهم يقرأ قراءة أبي موسى الأشعري، حتى كاد اختلاف القراءات أن يتحوّل إلى نزاع وشقاق، وإلى أن يكفر بعض المسلمين بعض! آخر. هكذا وخد عثمان نسخ القرآن كلها في نسخة واحدة، وأمر بحرق كل ما عداها. وتم ذلك في سنة 25 للهجرة، وكان جمع أبي بكر له سنة 12 للهجرة. والكتاب الذين وضعوا النسخة الأخيرة المعروفة باسم مصحف عثمان هم أربعة: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. والثلاثة الأخيرون قرشيون بينما الأول من الأنصار، وقد قال لهم عثمان: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم (صحيح البخاري 6/ 99). ربما اندفع بعض القراء بعد قراءة هذا كله وسأل: تلك بدهيات، فلماذا تكررها علينا؟ وجوابي هو: إن كونها بدهيات هو بالضبط ما يدفعني إلى أن أكررها. ؤ!يسمح لي أن أتابع فأقول: إن من البداهة لاستغلاقآ.

        7
        النص القرآني، بوصفه نصاً لغوياً، أشبه ببحر تتعانق أمواجه وتتداخل، في بداياته ونهاياته. البدايات تتموّج في الوسط والأطراف، والعكس صحيح. وهو، من ناحية الشكل، خلاصة لأشكال القول السابقة عليه: الشعر والخطابة والمثل والحكمة عند العرب قبل الإسلام، والكتابة البابلية- الكنعانية الآرامية، والكتابة التوراتية. وهو نص يتناول الأشياء كلها في الطبيعة وما وراءها. ولا يتردد في استعادة ما سبقه، وكتابته بشكل مختلف، واصفاً نفسه، في الوقت ذاته، بأنه خاتمة الرسالات النبوية، وخاتم الكلام، مقدماً نفسه بوصفه كتاباً شاملاً، كاملاً، أخيراً، وبوصفه بديلاً عن الكتب جمعاء. وهو، من حيث التقنية والبناء، يعتمد الحوار والسرد، الحكمة والمثل. وهو تشريع وتسبيح في آن. وفيه صفحات يمكن درسها بوصفها شعراً محضاً، و صفحات يمكن، النظر إليها بوصفها "أحسن القصص". ويمكن كل قارئ أن يستخلص منه رؤية معينة للشعر والفكر، ومفهوماً خاضاً للإنسان والكون، ومنهجاً واضحاً في النظر إلى الأخلاق والموت والحب، والطبيعة وما وراءها. والنص هنا لا ينمو خطياً، بل ينمو في فضاء متعدد الاتجاهات، متعدد الأبعاد، كمثل البنية الهندسية غير الاقليدسية. إنه الكتاب الذي ينطبق عليه وصف مالارميه للكتاب الذي حلم بكتابته: "ينبوع للحقيقة تشرب منه الإنسانية جمعاء" (المراسلات، الجزء الرابع، ص 87). وهو، بوصفه كتابة، يتجاوز السابقة عليه الدينية والدنيوية: يكتب الذين بلغة شعرية، ويكتب الدنيا بلغة دينية. وهو، في تمحوره أساساً على اللغة، يؤكد على أن الكائن هو، جوهرياً، لغة. هذا التمحور على اللغة هو مما يجعله، موضوعياً، نصاً أدبياً. وهو، بوصفه كتاباً، يلغي مفهوم الكاتب- الفرد. كأنه يقول: الكاتب جمع لا فرد.
        طبيعي، والحالة هذه، ألا يشبه شيئاً خارجه، أن يكون جنساً كتابياً لذاته وفي ذاته: نثراً لا كالنثر، وشعراً لا كالشعر، وكتابة لا كالكتابة، ولغة لا كاللغة. إنه البداية والنهاية: كتابة في مستوى الكون.
        8
        ينقلنا هذا الكلام إلى الصعوبة التي واجهها المسلم في فهم النص القرآني. وأضرب مثلاً على هذه الصعوبة بأمرين: الأول مرتبط ببنية النص، والثاني مرتبط بقارئه. من الناحية الأولى، حار العرب في تفسير فواتح بعض السور. هذه الفواتح متنوعة. منها ما يبدأ بحرف واحد في ثلاث سور: صاد، وقاف، والقلم، إذ تبدأ هذه السور بهذه الحروف تباعاً: ص، قاف، نون. ومنها ما يبدأ بحرفين، وهي عشر سور. ومن هذه العشر سبع تبتدئ بالحرفين نفسيهما وهما: حم (حاء ميم) وهي: غافر، ا لمؤمن، فضلت، 1 لزخرف، 1 لدخان، 1 لجاثية، 1 لأحقاف. والثلاث الأخرى تبدأ بحرفين مختلفين: طه (طاء هاء) طس (طاء سين) ويس (ياء سين). ومنها ما يبدأ بثلاثة أحرف وهي ثلاث عشرة سورة، تبتدئ ست منها بالحروف ألف لام ميم (البقرة، آل عمران،
        العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة) وتبتدئ خمس منها بالحروف ألف لام راء، وهي يونس وهود ويوسف وإبراهيم، والحجر. وتبتدئ اثنتان بالحروف طاء سين ميم، وهما الشعراء والقصص. ومنها ما يبتدئ بأربعة أحرف: الأولى سورة الأعراف، وتبدأ ب: ألف لام ميم صاد، وسورة الرعد وتبدأ ب: ألف لام ميم راء. وهناك سورتان تبدآن بخمسة أحرف، الحروف في الأولى وهي سورة مريم موصولة، كاف هاء ياء عين صاد. والحروف في الثانية وهي الشورى متقطعة، وهي حاء ميم معاً ثم عين سين قاف معاً.
        وجميع السور تتوجها بسم الله الرحمن الرحيم، ما عدا التوبة التي تخلو من هذا التتويج. ربما رأى بعضهم في هذه الحروف ما يذكر، على نحو أو آخر، بالحروف عند رامبو، في قصيدته المعروفة، لكن لا أدخل في هذا. وأقصر كلامي على حيرة العرب في تفسيرها، فقد ذهبوا في تأويلها مذاهب شتى، وانتهوا إلى الإقرار بغموضها وإلى أنها تحتمل تأويلات كثيرة، ذلك أنها "علم مستور، وسر محجوب " استأثر بهما الله وحده.
        وأكتفي بالإشارة إلى بعض تأويلاتها.

        يقول أهل السنة إن هذه الحروف إذا حسبت على "حساب الجمل" بعد حذف المكرر منها تتطابق مع القول: "صح طريقك مع السنة". ويقول أهل الشيعة إن هذه الحروف إذا حذف منها المكرر، تتطابق مع القول: "صراط عليّ حق". ويرى ابن عربي رأياً آخر. فهذه الحروف هي في رأيه مراتب، منها موصول، ومنها مقطوع، ومنها مفرد ومثنى ومجموع. فالمفرد يشير إلى فناء الإنسان الفرد، والجمع إشارة إلى الأبد. والإفراد للبحر الأزلي، والجمع للبحر الأبدي، والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني، والألف إشارة التوحيد، والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد، واللام بينهما واسطة. ويقول آخرون إن هذه الحروف شبيهة بفواتح بعض القصائد. وأما في ما يتعلق بالقارئ فقد تعددت التفسيرات للنص القرآني. وقبل ذلك اشترط في من يفسر القرآن أن يكون على معرفة عليا باللغة العربية، وبنحوها، وصرفها، واشتقاقها، وبعلوم البلاغة، وبعلم القراءات، وبأصول الدين وأصول الفقه، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ، وبالحديث النبوي، وهذه شروط تقتفي من الإنسان أن يكون واسع الثقافة، عظيم الذوق، عميق الإيمان. وهي شروط لا تتوفر إلا في الأقل الأندر من البشر.
        هكذا جاء التفسير متنوعاً، ويمكن حصره في ستة أنواع:
        التفسير التقليدي القائم على المأثور، والتفسير بالرأي والاجتهاد، والتفسير ا لصوفي، والتفسير الفلسفي، والتفسير الفقهي، والتفسير العلمي، والتفسير الاجتماعي، والتفسير ا لأدبي.

        9
        هذا، بشكل عام، موقف الذين آمنوا بالنص القرآني. ولكي يكتمل الموقف من هذا النص، لا بد من الإشارة إلى الذين حاولوا أن يعارضوه أو أن يأتوا بمثله. بين هؤلاء من ادعى النبوة كمثل مسيلمة النجدي الذي كتب للنبي قائلاً: "شوركت في الأرض معك، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكن قريشاً قوم يعتدون". وكان يزعم أن له قرآناً نزل عليه بوساطة ملاك اسمه "رحمن ".
        وبين هؤلاء الذين ادعوا النبوّة، عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي، وطليحة بن خويلد الأسدي، والنضر بن الحارث، وبينهم كذلك امرأة تدعى سجاح. وهناك أشخاص لم يدعوا النبوة، بل حاولوا معارضته. بينهم، كما يروى، الكاتب المشهور ابن المقفع، وشمس الدين قابوس ب! ؤ! مكير الديلمي، وابن الراوندي الذي يقال انه عارض القرآن في كل كتبه: الفريد، الزمردة، قضيب الذهب، المرجان- وهي كتب لم تصل إلينا. ومن قوله في كتابه "الفريد": "إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم يقدر على معارضته. فيقال لهم: أخبرونا، لو ادعى مدع من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن، فقال: الدليل على صدق بطليموس أو اقليدس أن اقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبؤته تثبت "؟. ويقال إن الشاعرين الكبيرين المتنبي والمعري حاولا كذلك أن يعارضا القرآن.
        10
        هذا النص الذي لا يرتبط بزمان أو مكان، بل هو لكل زمان ومكان، والذي لا يقتصر على موضوع دون آخر، وإئما هو كليّ، والذي ليس ذاتياً ولا موضوعياً، وإئما هو كوني، والذي ليس موجهاً إلى جماعة محددة، أو طبقة محددة، بل للبشر كلهم بوصفهم جماعة واحدة، وللإنسان بوصفه إنساناً، دون أي تمييز من أفي نوع، والذي لا "تنفد كلماته"، ولا تستنفد،- هذا النص كيف لا يزلزل مفهومنا للكتابة، وكيف لا يفتح أمامنا آفاقاً للكتابة، لا سابق لها، ولا حد لها؟
        إنه يدعونا، بدئياً، إلى الإفلات من قيد التصنيف النوعي للكتابة. وإذ يفلت الكاتب من هذا القيد، ينحاز إلى الخيال الخلاق وحركية التأمل. ينحاز إلى اللجة، ويخلق نوعاً من الشواطئ المتحركة. ينحاز إلى طاقة اللغة- البداية الدائمة، التي هي كمثل حركة الموج استئناف دائم. ينحاز إلى اللغة- الحياة، أعني إلى الحياة- اللغة.
        تخرج الكتابة من دائرة التخوم التي تقسمها أنواعاً، وتصبح الكلمات أشبه بالخطوط والألوان في اللوحة. وكما أن اللوحة لا تحدد بنوع معياري من خارج، بل تحدد بتكوينها ذاته، ضمن ذاتها، في تآلف ألوانها وخطوطها، كذلك يصبح النص الكتابي، لا يحدد من خارج بقاعدة ما، أو معيار ما، وإنما يحدد ببنيته ذاتها في تآلف كلماته، وفي نسجها. وهكذا يصبح لكل نص قانونه الخاص، إن كان لا بد من الكلام على قانون ما، ويصبح القانون تالياً للنص، ومنبثقاً منه. لا بد من أن تسير الكتابة العربية في هذا الأفق: كتابة تبتكر أشكالها فيما تنكتب.

        تعليق

        يعمل...
        X