إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الثورة المنسية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: الثورة المنسية

    الفصل الرابع عشر : أزمة داخلية تواجه الثورة
    التحاق الضباط والجنود العراقيين‏
    دعا مولود مخلص كافة الضباط والجنود العراقيين المتواجدين في سورية إلى الالتحاق بالثورة في دير الزور، من أجل تشكيل جيش نظامي لتحرير العراق، ورأى أن وجود ضباط وجنود نظاميين بين العشائر المحاربة، يحسن في الهجوم والدفاع والإغارة على القوات الإنكليزية. واعتبر مولود الجنود والضباط العراقيين عليهم تقع المسؤولية الأولى في تحرير بلادهم من الاحتلال الإنكليزي.‏
    وفعلاً ترك عدد من الجنود العراقيين والضباط عملهم ضمن تشكيلات الجيش العربي في سورية. والتحقوا بالجيش الذي بدأ يتكون في دير الزور بقيادة مولود مخلص، قدرت أعداد الملتحقين من الجنود بما يزيد على /300/ جندي. ومن الضباط مابين 30 إلى 40 ضابطاً.i)‏
    إلا أن عدداً منهم كان يظن أن مولود يملك أموالاً طائلة ستصرف عليهم، فجاؤوا بطمع مادي لا وطني. إلا أن الأيام بخرّت تلك الأحلام، فعرفوا أن مولود لا يملك مالاً ولا ذهباً كما هم يتصورون، بل هو شخص قومي أرادهم من أجل تحرير بلادهم من خلال حسهم الوطني والقومي. ويتبين أن الوعي الوطني والقومي لدى هؤلاء لم يكن إلى الدرجة التي تجعل منهم يضحون في سبيل وطنهم بأنفسهم، دون أية مكاسب مادية.‏
    متاعب رمضان‏
    حين شعر عدد من الجنود والضباط بأن مولود لا يملك مايحلمون من مال، قاموا بأعمال مشينة في دير الزور في أواخر شباط عام 1920، حيث قاموا بالاعتداء على المواطنين لسلبهم أموالاً أو مواد عينية. وشكلوا دوريات عسكرية أقامت حواجز على الطريق العام، لإيقاف المسافرين وسلبهم أموالهم، وخاصة الذهب، بحجة منع التهريب من سورية إلى العراق. مما أغاظ الناس في المدينة. الذين عبروا لمخلص عن استيائهم من هذه التصرفات السيئة. وبسبب هذه الممارسات سقطت سمعتهم داخل المدينةii)، مما أساء لتكوين الجيش الذي بدأ مولود مخلص إعداده، كما زُرع الخوف في قلوب المسافرين خاصة الذين يملكون مالاً وذهباً من المصادرة مما أنشأ أزمة حادة بين مولود والمتمردين عليه .‏
    أزمة مع المتمردين ورمضان شلاش:‏
    كانت التجارة الدولية والعربية تمر مابين سورية والعراق على طريق حلب ـ دير الزور ـ بغداد) مروراً على ضفاف الفرات منذ العصور القديمة، حيث أطلق عليه الرومان طريق الفرات. وعلى مر العصور والأنظمة بقي طريق النهر طريق التجارة، وحتى نهاية السلطنة العثمانية. ولكن بعد الاحتلال البريطاني للعراق. وإقامة الحكومة العربية في سورية. أصبح نقل البضائع والأموال /تهريباً/، حيث أقيمت حدوداً لم تكن موجودة عبر التاريخ إلا في عام 1919. فظهرت مسألة تهريب الذهب من سورية إلى العراق إحدى المسائل المستعصية للمحتل وللدولة السورية. ورغم القوانين الجمركية لم تتوقف عمليات التهريب للذهب، وحتى بعد تحرير دير الزور من الاحتلال البريطاني. لهذا أصدرت حكومة فيصل في دمشق حلاً لمسألة تهريب الذهب. حيث قررت مصادرة الذهب المهرب من تجار التهريب أو الشخص المهرب له، واستبداله بالعملة المصرية الورقية، وإعادة هذا المال لصاحب الذهب مع فرض غرامة عليه بحسم /10%/ من كمية المال المقدرة لقيمة هذا الذهب.‏
    وحدث أن صادرت شرطة دير الزور في أواخر شباط 1920 كمية من الذهب، كانت في سيارة قادمة من دمشق قدرت بسبعين ألف ليرة ذهبية، وهي ثروة دولة صغيرة أو إمارة في ذلك الوقت. سال لعاب عدد من القادة والجنود العراقيين مع زعماء العشائر المتواجدين في المدينة لهذاالذهب. وطالبوا بأن يوزع عليهم، إلا أن مولود مخلص رفض وذلك بصفته حاكماً عسكرياً يمثل الحكومة العربية. وعمل على تطبيق قانون الحكومة العربية حول هذه المسألة، فاستبدل الذهب بالعملة المصرية، وحسم عشرة بالمئة من قيمته لصالح الدولة العربية، تطبيقاً للقانون. فثارت حفيظة الجنود والضباط المغامرين والذين كانوا في الحقيقة وبالاً على مولود والثورة. ورفضوا الإجراء القانوني. وطالبوا بأن يأخذوا الذهب بالقوة، فنشب خلاف بين الطرفين حول أحقية لمن الذهب. للدولة أم للمتمردين وزعماء العشائر؟...‏
    وفي ذروة هذا الخلاف بين مولود وعدد من الجنود والضباط وزعماء العشائر، وصل رمضان شلاش إلى دير الزور قادماً من دمشق. وحين علم بقصة الذهب أراد استغلال هذا الخلاف لصالحه، وتصفية الحساب مع مولود مخلص، فوقف إلى جانب المطالبين بتوزيع الذهب. مما عزز موقف المتمردين في مواجهة مولود. كما أن مولود وجد مساندة من قبل عدد من الضباط والجنود العراقيين الوطنيين، ومن المنتمين حقاً لحزب العهد، وأيضاً من وجهاء المدينة وأهلها والوطنيين فيها. فرفض مولود رفضاً قاطعاً التنازل عن موقفه القانوني، ويذكر محمد طاهر العمري: "أن الوقاحة بلغت برمضان ومن أتباعه من العراقيين أنهم أرادوا قتل مولود وتنصيب رمضان مكانه. وكادوا يفعلون ذلك لو لم يتدخل بعض المخلصين من العراقيين ويحولوا دونه"iii).‏
    واجه الموقف غير اللائق من رمضان استياءً شديداً من قبل الوطنيين، ووجهاء المدينة، والمواطنين. على الرغم من أن المدينة قد تغاضت عن الإساءة السابقة، لما قدم رمضان من فعل وطني في تحرير دير الزور، إلا أن هذه الحادثة أدت إلى ظهور شعور بالغضب وعدم رضا الجميع لموقفه الندّي مع مولود مخلص من أجل الذهب المصادر. ومحاولته إعادة زعامته والتخلص من مولود مخلص على حساب الثورة.‏
    أما كيف عاد رمضان بعد إقصاءه إلى دير الزور، فيبدو أن الأمير فيصل أراد أن يُعزّز به موقف الثورة. ويدعم وضع مولود مخلص، من خلال علاقات رمضان مع العشائر المحيطة بدير الزور، وكونه شيخ عشيرة البوسرايا الواسعة الانتشار في شمال دير الزور. ويذكر رمضان في مذكراته أنه حين غادر دير الزور ووصل إلى قرية جيرور، أرسل شقيقه حمد إلى الأمير فيصل يخبره بقدومه، فأرسل فيصل جميل مردم إليه."حيث أبلغوني سلام جلالته وأن أحضر إلى دمشق بأمان. وبالفعل كان الأمير قد هيأ جناحاً خاصاً لضيافتهم، وأنا أنزلني عند جميل مردم. وبعد ذلك طلبني بصورة سرية في دار طبيبه الخاص الدكتور قدري، وبعد أن أفهمته بحركتي وأعمالي، أثنى عليَّ. وقال لي: يجب أن تداوم على عملك ضد المستعمرين وزودني بالمال والسلاح. وعدت إلى دير الزور".iv) إلا أن رمضان وجد الفرصة سانحة للانتقام من مولود. ومن خصومه الذين أقصوه، فكانت مسألة الذهب التي وجدها حين وصل إلى دير الزور تتأزم بين مولود وعدد من العراقيين، فأراد استغلالها لتصفية حساباته. إلا أن هذا العمل كاد يودي بالثورة ويعرضها للانتكاس والفشل.‏
    وخلال الأزمة حصل أصحاب الذهب على قرار من حكومة فيصل يسمح لهم باستعادة أموالهم، بعد تطبيق القانون عليها، وأعاد مولود الذهب لأصحابه بعد أن خصم 10% من قيمته لصالح الحكومة العربية، مما أغضب الطامعين به. فحاول مولود استمالة رمضان إليه فأعطاه ثلاثة آلاف ليرة عثمانية، إلا أن رمضان شلاش بقي يُعادي مولود مخلص، ويضع العراقيل أمام خططه في اتجاه تعزيز الثورة.v).‏
    إبعاد رمضان مرة ثانية عن دير الزور:‏
    في الوقت الذي كانت الثورة بحاجة ماسة إلى وحدة الصف وإلى موقف موحد ضد الاحتلال البريطاني للعراق، وإلى مساندة مولود لتحقيق أهداف حزب العهد العراقي، والانتباه إلى وضع القوات الإنكليزية التي تستعد لاحتلال مدينة الميادين. كان النزاع مع رمضان والمتعاونين معه يفسد كثير من الخطط المرسومة. وخاصة أن رمضان وأنصاره تعدوا الخط الأحمر في أعمالهم. ففي حين كانت جبهة الميادين التي أشرنا إليها. تستعد لمواجهة القوات الإنكليزية قام رمضان شلاش بإرسال مجموعة من أنصاره لقطع الهاتف بين الجبهة والقيادة في دير الزور، وتخريب خطوط المواصلات بين الطرفين. مما أثار حنق الثوار ومولود مخلص شخصياً، فطلب من رمضان ومجموعته عدم المساهمة في جبهة الميادين، والخروج من دير الزور وعدم دخولهاvi). وكان لهذا القرار أثره على رمضان وأنصاره. فاشتدت الأزمة بين مولود ومخلص.‏
    ومن حسن حظ الثورة أن جاء إلى دير الزور العقيد علي جودت الأيوبي وهو من قادة حزب العهد العراقي، ومن الذين شاركوا في الثورة العربية، وله مركز مرموق في النظام الفيصلي في دمشق. فتدخل بين الطرفين لإصلاح البين. وإعادة اللحمة بين قوى الثورة، ويقول في مذكراته.."فبذلنا أقصى الجهد لإصلاح ذات البين فلم ننجح، فارتأينا إبعاد رمضان شلاش عن المنطقة أولاً، ولكنه كان مصرّاً على البقاء فيها، ولا يريد الانفكاك عنها، فاضطررنا إلى الاستعانة بالملك فيصل. وأعلمناه بالوضع السائد في منطقة دير الزور، والتمسنا من جلالته باسم المصلحة العامة أن يستدعي رمضان شلاش إلى الشام أولاً. وأن يبقيه فيها مدة مناسبة أن أمكن ذلك.‏
    كما اقترحنا على جلالته أن يستدعي مولود مخلص الذي أنجز من الأعمال الوطنية مايشكر عليها، وأن يعين متصرفاً مدنياً لتنظيم الإدارة التي تحتاج إليها المنطقة. فأجاب فيصل التماسنا فوراً".vii).‏
    إضافة إلى خلافات رمضان شلاش مع مولود مخلص، كانت أيضاً القيادة البريطانية بدورها قد غضبت من عودة رمضان إلى دير الزور، واعتبرته نكثاً للوعد الذي قطعه فيصل لها بإبقاء رمضان في دمشق، ومحاسبته على ما أقدم عليه في دير الزور في 11 كانون الأول 1919 بحق قواتها. فأبرق ولسن إلى وزارة الهند في 24 آذار 1920 يعلمها بأن رمضان لم يعتقل من قبل فيصل، وعاد إلى دمشق، وهو يعمل مع مولود في دعم جبهة الميادين، ورفض إعادة القوات البريطانية المحتلة إليها، فقد جاء في نص البرقية:".. إن رمضان شلاش لم يعتقل قط. وقد عاد الآن إلى الميادين. وهو يسمى زعيم الحزب العربي. وذلك بالتواطؤ.إن لم يكن بالمساعدة الفعالة من جانب مولود باشا في دير الزور الذي هو مرشح فيصل أيضاً..."viii).‏
    وباستدعاء فيصل لرمضان شلاش إليه مرة أخرى انتهت أخطر أزمة مرت بها الثورة في دير الزور، والتي بدأت في تحولاتها الثورية التي غيرت وجه المنطقة.‏
    اشتداد العمليات العسكرية والعشائرية ضد الإنكليز:‏
    تصاعدت العمليات القتالية ضد القوات البريطانية في شهر آذار 1920 من قبل القوات العشائرية، التي بدأت تتعزز بما يرسله حزب العهد ومولود مخلص إليها من الضباط والجنود العراقيين، لتنظيم العمليات القتالية، ووضع الخطط الهجومية، وإقامة الكمائن للقوافل العسكرية، وتحسين أساليب القتال في مواجهة القوات الإنكليزية النظامية. ومن أبرز هذه العمليات التي جرت في منطقة البوكمال بقيادة المجاهد مشرف الدندل. حيث استطاعت قواته إسقاط طائرة بريطانية، سقطت بالقرب من بلدة القائم.. "حصيبة" وهي تقع الآن محاذاة الحدود السورية العراقية قرب مدينة البوكمال، وأدى سقوط الطائرة إلى مقتل طيارها وضابط بريطاني كبير فيها برتبة "كولونيل" عقيد. ونجح كمين نصب لقافلة عسكرية بريطانية، في إحداث خسائر كبيرة فيها، حيث قتل معظم جنودها، واستولى الثوار على أربع سيارات مصفحة إنكليزية تحمل رشاشات. ونجح كمين آخر لقافلة من الجند الإنكليزي كانت تعبر /وادي علي/ بين البوكمال وبلدة القائم العراقية حالياً، في إحداث خسائر جسيمة في الجنود الإنكليز حيث قتل منهم /129/ جندياًix). فأثارت هذه الخسائر رعباً في أوساط الجنود الإنكليز، وحنق القيادة البريطانية في العراق. فدعا كل من أرنولد ولسن الحاكم العام البريطاني في بغداد وقائد قواته الجنرال هالدن إلى تقديم طلب سريع لوزارة الحرب البريطانية بضرورة استخدام الطيران الحربي لقصف مدينة دير الزور وقراها، إلا أن وزارة الحرب البريطانية اعتذرت عن استخدام الطيران الحربي في مناطق الحكم العربي. وبل يمكن استخدامه في مناطق الاحتلال البريطاني ضد العشائر الثائرةx) ضمن الحدود العراقية.‏
    i) محمد مهدي البصير ـ تاريخ القضية العراقية ـ بغداد ـ 1923 ـ ص 125.‏
    ii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق السياسية ـ مصدر سابق ـ ج3 ـ ص 365 ـ 366.‏
    iii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق العسكرية ـ مصدر سابق ج3 ـ ص 371.‏
    iv) مذكرات رمضان الخطية ـ مصدر سابق ـ ص 63-64.‏
    v) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ ج2 ـ ص 54.‏
    vi) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ مصدر سابق ، ج2 ـ ص 53-55.‏
    vii) علي جودت ـ "ذكريات"، بيروت ـ 1967، ص 94.‏
    viii) F . o . 371 - 5129 - E 2811-24- march 1920.‏
    ix) هنري شارل ـ عشائر الغنامة في الفرات الأوسط ـ مصدر سابق ص 26.‏
    x) F . o- 371 - 5128- E - 1106 - to . G. H. Q . Baghdad . 6. March 1920‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #17
      رد: الثورة المنسية

      الفصل الخامس عشر: قيادة جديدة للثورة.
      المؤتمر العراقي:‏
      لم يكن العمل العسكري وحده الخيار الوحيد أمام حزب العهد العراقي، بل عمل على كافة الخيارات الأخرى، لتحقيق أهدافه في سبيل استقلال العراق، وإنشاء حكومة عربية وطنية فيه. لهذا دعا إلى مؤتمر عام عراقي يضم كل القوى الوطنية أحزاباً وهيئات وشخصيات في العراق يعقد في دمشق، في نفس الفترة الزمنية التي يعقد فيها المؤتمر السوري العام.‏
      وفعلاً تزامن انعقاد المؤتمر العراقي مع المؤتمر السوري، وفي نفس المدينة /دمشق/ العاصمة العربية، التي تتواجد فيها حكومة عربية متحررة. وذلك في 7 آذار 1920.‏
      ومن الشخصيات التي حضرت المؤتمر من بغداد: الفريق جعفر العسكري ـ العقيد سعيد الشيخلي ـ المقدم تحسين علي ـ المقدم اسماعيل الصفار ـ المقدم سامي الأورفلي ـ النقيب فرج عماره ـ ناجي السويدي ـ توفيق السويدي ـ يونس وهبي ـ حميد صدر الدين ـ أحمد رفيق ـ نوري القاضي ـ رشيد الهاشمي ـ صبيح نجيب ـ رضا الشبيبي ـ محمود أديب ـ عزت الكاظمي ـ عبد اللطيف الفلاحي ـ توفيق الهاشمي ـ محمد خيري.‏
      ومن الموصل: العقيد علي جودت الأيوبي ـ العقيد عبد الله الدليمي ـ العقيد جميل المدفعي ـ مكي الشربتي ـ إبراهيم توحله ـ ثابت عبد النور ـ أسعد صاحب ـ الحاج محمد خيري.(1) .‏
      وقد غابت عن المؤتمر شخصيتان عراقيتان هامتان الأول: /الفريق ياسين الهاشمي/. الذي كان في المعتقل الإنكليزي في الرملة، والثاني /نوري السعيد/ الذي كان وقتها في أوروبا. ويلاحظ عدم تمثل كل من البصرة ومتصرفية دير الزور. حيث أن المدينة "دير الزور" أُعترف بها تابعة للحكومة العربية في دمشق. أما بقية مناطقها فإن الإنكليز كانوا يصرون على بقاء الميادين والبوكمال. ضمن العراق الذي يحتلونه.‏
      وأهم قرارات المؤتمر كان إعلان "استقلال العراق"، وتنصيب الأمير عبد الله ملكاً عليه، والاتحاد بين سورية والعراق على أساس فدرالي(2) .‏
      مقابلة هامة مع الملك فيصل:‏
      بعد المؤتمرين العراقي والسوري، رفضت بريطانيا وفرنسا مقررات كلا المؤتمرين، واعتبرتهما مخالفين لسياسة مؤتمر الصلح، التي ستقرر بعدانتهاء أعماله مصير سورية والعراق. ففي برقية أصدرتها وزارة الخارجية البريطانية في 13 آذار 1920 إلى مندوبها السامي في مصر طلبت منه.. إبلاغ فيصل على الفور بأن.. حكومة صاحب الجلالة لا تستطيع الاعتراف بحق مؤتمر دمشق.. في تحديد مستقبل سورية، أو فلسطين، أو الموصل أو مابين النهرين. إن هذه الأقطار قد انتزعت من الأتراك على يد الجيوش الحليفة، وأن مستقبلها، الذي هو مطروح الآن أمام مؤتمر الصلح، لا يمكن أن تحدده إلا الدول الحليفة بالاتفاق مابينها. إن "حكومة صاحب الجلالة، لا تستطيع بأي حال أن تعترف لهيئة تأسست من تلقاء ذاتها. بالحق في تنظيم هذه الأمور، وأن حكومة صاحب الجلالة سوية مع الحكومة الفرنسية، مضطرة إلى القول بأنها تعتبر هذه الإجراءات باطلة ولاغية.. ينبغي عليكم تجديد الدعوة للأمير فيصل للعودة إلى أوربا وطرح قضية أمام مؤتمر الصلح"(3) .‏
      أدرك العرب في سورية والعراق أن بريطانيا وفرنسا تسعيان لتحقيق أهدافهما في فرض الانتداب على كلا البلدين. ناكثتان بكل المواثيق والعهود التي قطعتهما للعرب قبل الثورة العربية، وأثناء فعالياتها العسكرية. فذهب كل من العقيد علي جودت الأيوبي والعقيد جميل المدفعي وثابت عبد النور إلى الملك فيصل ليبلغوه نيتهم في الذهاب إلى دير الزور، ويستأذنوه في ذلك. ويقول علي جودت في مذكراته حول تلك المقابلة.. قلنا له: إننا التحقنا بثورة الملك حسين في الحجاز.. فحاربنا.. وضحينا حتى وصلنا إلى سورية. وكلنا أمل في أن نحصل على أهدافنا، ثم تبين لنا مع الأسف.. أن الحلفاء الذين آزرناهم في أحلك أيامهم. قد تنكروا لنا، واقتسموا بلادنا. أما نحن فعرفنا لا ملجأ لنا، ولا مأوى. وبدأنا نشعر بأننا غرباء، غير مرغوب فيهم. ولهذه الأسباب قررنا الذهاب إلى دير الزور لمحاربة الإنكليز الذين نكثوا بعهودهم للعرب. فإما ننجح في مسعانا أو نموت دونه".‏
      فأخذ الملك فيصل يناقشهم في هذا الأمر. حيث ذكر لهم صعوبة قيامهم بمحاربة دولة قوية كبريطانيا، وطلب منهم التريث لكي لا يضطرهم الموقف على مواجهة عدوين قويين في آن واحد "أي بريطانيا وفرنسا". فرد عليه الثلاثة قائلين له: "أن الروس والأتراك مستعدون لمساعدة أية حركة مناوئة لبريطانيا، وأن من الممكن الحصول على المال والسلاح منهم وطلبوا منه أن يمدهم هو أيضاً بالمال والسلاح. وأن يسمح لأخيه زيد بالذهاب معهم ليكون رمزاً للثورة.‏
      وبعد أخذ ورد، وافق الملك فيصل على إمدادهم، غير أنه امتنع عن إرسال زيد معهم، لأن ذلك يعني إشهار الحرب على الإنكليز، بينما هو في وضع لا يساعده على معاداتهم في الوقت الحاضر".(4)
      لم يكن هؤلاء الثلاثة فقط يشعرون بالإحباط وفقدان الأمل والغربة فقط، بل هو لدى معظم الضباط العراقيين، وخاصة أن بعض المتطرفين من حزب العهد السوري كانوا يشعرونهم أنهم يحتلون أماكنهم. وهم أحق بها منهم، لهذا جاء الإيعاز من قبل حزب العهد العراقي للضباط العراقيين في سورية، بالتوجه إلى دير الزور. لخدمة القضية العراقية. وكان الملك فيصل في السرِّ يشجع ذلك.(5) .‏
      وقبل أن يغادر علي جودت ورفيقاه دمشق إلى دير الزور، منحهم الملك فيصل مبلغاً من المال من أجل الثورة قدر بثلاثة آلاف جنيه مصري، وسمح لهم سراً بالذهاب إلى مخازن السلاح في إحدى القطع العسكرية العربية لأخذ ما يريدون من أسلحة وعتاد للثورة، حيث حملوها بالعربات، وأرسلوها إلى دير الزور.(6)
      أما لماذا لم يرسل الملك فيصل أخاه الأمير زيد على رأس الحملة إلى دير الزور؟، فهي حسابات سياسية. كان الملك فيصل بارعاً فيها. فهو على الرغم من معرفته التامة بالنوايا الاستعمارية لبريطانيا في البلاد العربية، فإنه كان يحاول أن يكسبها إلى صفه في معركته ضد الضغط الفرنسي لفرض الانتداب على سورية، الذي هو ملكها. ويعرف جيداً وجود بريطانيا أو جزءاً من قادتها أو سياسيها إلى جانبه، وخاصة مكتب القاهرة، مسألة هامة ومصيرية في مباحثاته في أوروبا مع لندن وباريس.‏
      أما زيد الذي كان كما قلنا راغباً في إمارة أو مملكة له، وخاصة لمتصرفية دير الزور وولاية الموصل كما اقترح لورنس. يبدو أنه كان راغباً في الذهاب إلى دير الزور ليكون على رأس الثورة. رداً على رفض وزارة الهند البريطانية وارلوند ولسن الحاكم البريطانيا في بغداد الرافضين لهذا المقترح المقدم من الكولونيل لورنس. ولكن زيد في الوقت نفسه لم يترك الأمور دون تبيان دوره في الثورة من خلال إمداد حزب العهد العراقي بالمال، فقد أعطى الحزب مبلغاً من المال قدر بخمسة آلاف جنيه مصري، لكي تصرف على الثورة في دير الزور.(7) . وهذا ماقاله تحسين العسكري الذي كان مديراً لشرطة دير الزور أثناء ثورتها.‏
      ووصلت دفعات من الضباط العراقيين إلى دير الزور في آذار 1920، وشكل حزب العهد قيادة جديدة للثورة، سميت "باللجنة الوطنية" على الشكل التالي:‏
      1 ـ العقيد علي جودت الأيوبي ـ رئيساً.‏
      2 ـ العقيد مولود مخلص ـ عضواً ـ وحاكم دير الزور العسكري.‏
      3 ـ العقيد تحسين علي ـ عضواً.‏
      4 ـ العقيد جميل المدفعي ـ عضواً. (8) .‏
      وتم تكليف العقيد جميل المدفعي بتشكيل جيش عراقي يضم ضباطاً من داخل العراق، والمتواجدين في سورية، وجنوداً عراقيين مع تجنيد عدد من أبناء العشائر "العكيدات، وشمر، والجبور"،(9) ، والتحق بالثورة أيضاً عدد من المجاهدين أمثال فهد البطيخ من رؤساء عشائر شمر طوقة. وكان لفهد دورٌ هامٌ في مناوشات الإنكليز مابين الموصل والشرقاط. وباشرت الهيئة "اللجنة الوطنية"، في رسم الخطط العسكرية لتوسيع الثورة لتشمل العراق بأكمله. شمالاً بين الموصل وتكريت وجنوباً مابين دير الزور وعانه.‏
      (1) د.وميض جمال عمر نظمي ـ الجذور السياسية ـ مصدر سابق ـ ص 171.‏
      (2) المصدر السابق: ص 171‏
      (3) المصدر السابق ، ص 173.‏
      (4) علي جودت، ذكريات، بيروت 1967، مصدر سابق، ص 90-92.‏
      (5) عبد الرزاق الحسني ـ الثورة العراقية الكبرى ـ مصدر سابق ، ص 47.‏
      (6) د.علي الوردي ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ـ ج5 ـ ص 149 ـ مصدر سابق.‏
      (7) تحسين العسكري ـ "الثورة العربية الكبرى ، والثورة العراقية"، ـ بغداد 1936 ـ ج2 ـ‏
      ص56.‏
      (8) د.وميض جمال عمر نظمي ـ الجذور السياسية ـ مصدر سابق ص 194.‏
      (9) علي جودت ، ذكريات) / مصدر سابق ـ ص 60.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #18
        رد: الثورة المنسية

        الفصل السادس عشر : تحرير الميادين والبوكمال من الاحتلال البريطاني
        لم تستطع القوات البريطانية أن تهاجم مدينة الميادين حيث توقفت في منطقة الصالحية، ويعود السبب إلى توزع وحداتها على امتداد مناطق الفرات، وتمكن العشائر والثوار من النيل منها، وقطع الكثير من إمداداتها. مما وضعها في موقع الدفاع بدل الهجوم. وإلى تعزيز جبهة الميادين من قبل الوطنيين في دير الزور والتعزيزات التي قدمها مولود مخلص. إلى جانب القوة العشائرية التي شكلت قوة هامة يمكن أن تنزل في القوات البريطانية خسائر هامة في حالة الهجوم على الميادين.‏
        فأدى عدم قدرة بريطانيا على استعادة الميادين، وتعرض قواتها إلى خسائر كبيرة فتقدّم الملك فيصل. باقتراح لحل المشكلة للحكومة البريطانية، من خلال إرسالها إلى الجنرال اللنبي بأن الحدود بين العراق وسورية غير طبيعية، فهي تقسم العشائر القاطنة حول الفرات إلى قسمين. مما يؤدي إلى استمرار الحوادث والاضطرابات في المنطقة، وخلق سوء فهم بين الحكومة العربية وبريطانيا، واقترح الملك فيصل تأليف لجنة مشتركة من عرب وإنكليز لتعيين حدود جديدة. فأبرق الجنرال اللنبي إلى حكومته يعلمها بمقترحات الملك فيصل، فأجابته الحكومة البريطانية بالموافقة على مقترحاته. فأبرق الجنرال اللنبي،إلى الكولونيل لجمن الحاكم السياسي العسكري البريطاني لمنطقة الفرات(i)، يعلمه بموافقة الحكومة البريطانية على تشكيل وفد من الطرفين. فدعا "لجمن" مولود مخلص حاكم دير الزور لتشكيل وفد لبحث مسألة الحدود. فتشكل الوفد من مولود مخلص وعلي جودت الأيوبي وتحسين علي(ii) ليمثلوا الجانب العربي. والملاحظة أن الوفد لم يضمّ أحد من أبناء متصرفية دير الزور، بل من ضباط العهد العراقي، مما يدل على تبني حزب العهد مسألة الثورة ورسم خطوطها وتنفيذها، بحيث لم تُعدّ ثورة دير الزور ثورة مدينة وعشائر، بل ثورة قومية شملت ساحة نضالها سورية والعراق.‏
        تحرير البوكمال والصالحية:‏
        اجتمع الوفدان في 5/أيار/1920 في بلدة العشارة الواقعة إلى الجنوب من مدينة الميادين، وقد مثل الجانب العربي العقيد علي جودت الأيوبي، والعقيد تحسين علي، وتخلف العقيد مولود مخلص بسبب مرضه، حيث كان مصاباً بالزحار. وبعد نقاش وجدال بين الطرفين، انتزع الوفد العربي من الإنكليز اعترافاً جديداً بالانسحاب عن مدينتي الميادين والبوكمال.‏
        وأن تكون الحدود الجديدة عند نقطة "كرد درناج" القريبة من قرية "الهري" الحالية، وعلى الجنوب من حدود بلدة القائم "حصيبة"، أي تصبح ضمن الحدود العراقية، وهي تبعد عن مدينة عانة مايقارب / 50/ ميلاً.‏
        وعادت الصالحية والبوكمال بموجب هذا الاتفاق إلى سورية. بعد أن كانت دير الزور قد أُعترف بها، وحررت الميادين من قبل، إلا أن بريطانيا لم تعترف بها إلا ضمن الاتفاقية الحدودية الجديدة. وهذه الحدود هي نفسها اليوم ولم تتغير منذ اتفاقية 5/أيار/ 1920.‏
        الجلاء عن البوكمال:‏
        عمّت الأفراح متصرفية دير الزور لهذا النصر الجديد، الذي حققته الثورة بجلاء القوات الإنكليزية المحتلة عن مناطق عربية، وإعادتها إلى سورية العربية. وأبرقت اللجنة الوطنية إلى الحكومة العربية بما تم الاتفاق عليه من رسم جديد لحدودها بين العراق وسورية، فبادرت الحكومة العربية بتعيين السيد عبد الرزاق منير قائم مقام لمدينة البوكمال. وفي 11/أيار/1920 وصلت إلى البوكمال بعثة من حزب العهد ضمت العقيد علي جودت الأيوبي. والعقيد تحسين علي، والعقيد تحسين العسكري، ومعهم قائمقام البوكمال الجديد، وسرية من الخيالة التابعة للجيش العربي، ومفرزة من المشاة لديها أسلحة خفيفة مع مدفع صحراوي ورشاشين. وكانوا يرفعون أعلام الدولة العربية. وما أن وصلوا إلى مشارف مدينة البوكمال، حتى وجدوا أهالي المدينة وعشائرها في استقبالهم بحماس منقطع النظير. وقد أنشدت المفرزة والحشود نشيد الثورة والأناشيد القومية والعربية. فثارت ثائرة الكولونيل لجمن لهذه الصورة الشعبية، ورفض أن يدخل الوفد القادم من دير الزور والقوات العربية بهذه الصورة إلى مدينة البوكمال، وجرت مناقشات بين الطرفين حول دخول الوفد والقوة. وبعد اجتماع بين علي جودت وتحسين علي مع الكولونيل لجمن اتفق الطرفان على أن تخرج القوات الإنكليزية أولاً من البوكمال. ثم تدخل الإدارة العربية والوفد. وأنزلت القوات البريطانية علمها من دار الحكومة، وخرجت إلى الحدود الجديدة، وأخليت مدينة البوكمال منهم. فدخلت القوة العربية إلى البوكمال في عرس جماهيري لم تشهد له المدينة مثيلاً من قبل، ورفع العلم العربي على دار الحكومة وسط دموع الجماهير والأهالي والقيادة الثورية.(iii)‏
        إلا أن المجاهد مشرف الدندل وقواته لم يتركوا القوات الإنكليزية تجلوا بسلام، فما أن خرجت من البوكمال، وعبرت /وادي علي/. حتى بدأت قواته في مهاجمة قوافلهم، ومناوشتهم بالرصاص حتى خرجوا من سورية. وتابعهم حتى وصلوا إلى مدينة عانة في العراق.(iv)‏
        نتائج انتصار الثورة الجديد:‏
        أعطى انتصار الثورة الجديد بتحرير البوكمال والصالحية من الاحتلال البريطاني دفعة معنوية للشعب العربي في العراق وسورية بشكل عام، وللقوات الثائرة ضد ا لاحتلال بشكل خاص، فلم تعد الخشية والرهبة من مواجهة القوات الإنكليزية موجودة في نفوس الجماهير، ولا في صفوف الضباط العراقيين. فتحول القسم الأعظم من المترددين وحتى المناصرين للتحالف مع بريطانيا عدا نوري السعيد وجعفر العسكري. إلى المشاركة بالثورة ومناصرتها. حيث أدت النتائج الثورية التي تحققت إلى مصداقية الرأي الذي أبداه ياسين الهاشمي، ونفذه رمضان شلاش، وتابعهُ مولود مخلص، ثم اللجنة الوطنية من بعد. بأن الإنكليز وغيرهم من المحتلين لن يرحلوا إلا بالقوة والعمل الثوري المسلح. ولن يستجيبوا لمطالبهم إلا بعد التأكد من قدرتهم وقوتهم.‏
        أما على المستوى الشعبي فحظيت نتائج الثورة إلى رفع المعنويات، وخلق حالة من المواجهة مع الإنكليز في كافة أنحاء العراق. وهذه الحالة كانت بتصاعد مستمر شعرت القيادة البريطانية بها، وتأكد لها أن بركاناً سوف ينفجر في وجه تواجدهم في حال استمرار الثورة. ولهذا كتب الجنرال هالدن قائد القوات البريطانية في العراق عن /ثورة دير الزور/ قائلاً:".. إن سقوط هذه البلدة (يقصد دير الزور)، أصبح دعاية رائعة بين عشائر الفرات الأوسط. وقد صار واضحاً في ذهن البعض أن الثورة العراقية آتية لا ريب فيها، فإن قبيلة مستضعفة كالعكيدات التي لا تتمتع بشهرة حربية كبيرة، استطاعت أن تطرد الإنكليز من دير الزور، فكم يكون من السهل إذاً على عشائر الفرات الأوسط التي اشتهرت بقوة الشكيمة أن تقوم بالعمل نفسه ويستشهد بنصيحة فهد بن هذال شيخ عنزة في منطقة العمارة للقيادة الإنكليزية. حين قال لهم بالحرف الواحد. لكم أن تصدقوني أولا تصدقوني. ولكن إذا لم تعيدوا احتلال دير الزور، فستكون هناك ثورة في الفرات الأسفل خلال ستة أشهر.."(v)‏
        صدقت نبوءة ابن هذال ففي الشهر السادس واليوم الثلاثين منه كان انفجار الرميثة الذي فجر ثورة العشرين في العراق.‏
        (i) اللفتانت كولونيل جيرار لجمن (1880-1920) أحد أهم ضباط الاستخبارات البريطانية ـ دخل المنطقة باسم "إنجيمان"، درويش بسيط جاء إلى دير الزور ثم البوكمال ـ وكان يعيش في المساجد ويبيع الأطفال حلوى ويضع نجوم على صدره فسمي "بإنجيمان"، كان أهم ضحايا الثورة العراقية الكبرى ـ حيث قتل على يد أبناء الشيخ قاري.. خميس وسلمان"، وأبناء عمومتهم وهم من شيوخ عشائر الزوبع في العراق.‏
        (ii) د.علي الوردي ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ مصدر سابق ج5 ـ ص 141.‏
        (iii) مذكرات تحسين العسكري ـ مصدر سابق ـ ج2 ـ ص 84.‏
        (iv) د.علي الوردي ـ مصدر سابق ـ ج5 ـ ص 142.‏
        (v) Haldane - The Insarrection in Mesopotamia P. 235.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #19
          رد: الثورة المنسية

          الفصل السابع عشر: ثورة دير الزور تمتد إلى العمق العراقي
          كانت رؤيا القيادة البريطانية قاصرة في تلك المرحلة، حيث كانت تظن أن أسباب الثورة في دير الزور هي مسألة حدود بين سورية والعراق، ولم يخطر في ذهنها أن الثورة تسعى لتفجير الأوضاع في العراق، وإرغام ارلوند ولسن على التراجع عن سياساته، والقبول بمطالب العهد والقوى الوطنية في العراق. لهذا وجد الإنكليز أنفسهم في معارك مستمرة على الرغم من الجلاء عن البوكمال. والتراجع إلى داخل العراق، وعلى عمق بعيد عن الحدود السورية. فأبرق ارلوند ولسن الحاكم العام البريطاني إلى وزارة شؤون الهند البريطانية في 15/أيار/1920 يقول فيها إن :"احتلال دير الزور كان الخطوة الأولى". في حملة تغلغل سورية إلى مابين النهرين. إن احتلال البوكمال عقب الاتفاق الأخير هو الخطوة الثانية، فخلال الأسبوع الماضي كانت قواتنا تقوم بفعاليات يومية ضد غارات جيدة التنظيم. واحتلال عانة هو الخطوة الثالثة. وإذا تم تحقيقها بصورة فعالة على يدّ الحكومة العربية، فإنها ستهدد وضعنا في الموصل. وهناك دلائل تشير إلى أننا قد نواجه في المستقبل القريب انفجاراً جديداً في النشاط العربي المتعصب"(1)
          اتهام الحكومة العربية‏
          كانت اتهامات ارلوندولسن ووزارة الهندتصب باتجاه فيصل وحكومته العربية في كل حادثة أو هجوم تتعرض له القوات الإنكليزية في العراق، إلا أن الإثباتات التي يقدمها لم تصل إلى درجة القناعة التامة لدى الحكومة البريطانية عن دور فيصل في تأجيج الثورة في دير الزور. وبتقديمه المعونات المالية والعسكرية للثوار، ورغم كل محاولات ولسن لدفع الحكومة البريطانية لمحاسبة حكومة فيصل باستمرار وادعاءاته بأن الضباط الذين يقاتلون الجنود الإنكليز هم ضباط الشريف فيصل. وأمام البرقيات المتلاحقة من ولسن حول اتهامات فيصل، خرج ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطانية بتساؤل قال فيه في اجتماع الحكومة البريطانية في 22 حزيران 1920 "من أين جاء هؤلاء الضباط الشريفيون؟ ثم أنهى كلامه: "لا أريد أن أوجه اتهامات لا أستطيع إثباتها"(2) وبذلك فوت على أرلوند ولسن اتهام فيصل. ولكن الحكومة البريطانية لم تكن من الغباء الذي لا يعرف أن فيصل يقدم الدعم للثوار إلا أنها لا تريد أن تخسره كورقة لديها في المنطقة آنذاك. ولكنها تخلت عنه بعد فترة حين وجدت بقاءه خطراً عليها في العراق، فدفعت فرنسا للإسراع باحتلال سورية قبل توسع الثورة في العراق، التي انفجرت في 30 حزيران‏
          الثورة تفجر قطاراً في الشرقاط:‏
          وصلت إلى دير الزور أعداد من الوطنيين من داخل العراق للمساهمة في الثورة بعد الانتصارات التي حققتها. ومنهم المجاهد الشيخ فهد البطيخ أحد رؤساء عشيرة شمر الطوقة، والتي تسكن على الضفة اليسرى من نهر دجلة، ومابين الصويرة والعزيزية. وكان هذا المجاهد معتقلاً في سجون الإنكليز في العراق، حيث بقي في السجن من أيلول 1919 إلى أذار 1920. بسبب مناهضته للاحتلال البريطاني للعراق. وما أن خرج من السجن حتى اتجه إلى دير الزور، ووصلها في نفس الشهر في آذار، فقد كانت حياته مهددة بسبب عداءه لكل من الإنكليز والأتراك معاً، فهو لم يتوقف عن مناهضة الأتراك حين كانوا يحتلون العراق، واصطدم بقواتهم، وأنزل بها الخسائر. وكذلك مع القوات الإنكليزية، فقد كان يهاجم قوافلهم في مناطقه، وينزل بها الخسائر المادية والبشرية.‏
          التقى المجاهد فهد البطيخ في دير الزور في شهر آذار 1920 بالعقيد تحسين العسكري الذي كان يشغل مدير شرطتها، وأحد زعماء حزب العهد، وحدث العسكري عن خططه في تفجير الثورة في مناطقه. وعرض عليه أن يلتقي بالملك فيصل ويسمع مشورته، وفعلاً سافر تحسين وفهد إلى دمشق، والتقيا بالملك فيصل الذي أشاد ببطولات فهد البطيخ ضد الأتراك والإنكليز، ومنحه رتبة عسكرية مكافأة لبطولاته، وهي ـ "رتبة مقدم" ـ وعاد بعدها إلى دير الزور.(3)
          عرض فهد البطيخ على مولود مخلص حاكم دير الزور تأليف قوة عشائرية مسلحة بقيادته، ونقل أعمالها الحربية مابين تكريت والموصل، فتقوم بضرب خطوط المواصلات الإنكليزية مابين البلدتين، ولتكون بداية حرب عصابات ضد الوجود البريطاني هناك. وفعلاً تم تشكيل قوة بلغ تعدادها مايزيد على ثلاثمئة مجاهد، كما التحق بها إِمام الجيش العربي في حلب الشيخ محمد فتيان الراوي.‏
          ويذكر تحسين العسكري في مذكراته أن هذه القوة العشائرية عبرت الحدود السورية، واتجهت شرقاً حتى وصلت إلى مقربة من بلدة الشرقاط وشاهدت قطيعاً من الأغنام يرعى فيها، وحين علمت من رعاتها بأن صاحبها هو متعهد اللحوم للقوات الإنكليزية صادروها، واعتبروها غنائم حرب. ثم اتجهوا إلى بلدة تكريت. وفي 24/أيار/1920، وصلت القوة بقيادة فهد البطيخ إلى محطة القطار في بلدة "البلاليج" التي تبعد ثلاثين كيلو متراً عن بلدة الشرقاط جنوباً. وحينها رأى عدداً من عمال سكة الحديد، يقومون بإصلاح الخطوط الحديدية. أمرهم بقلع مسامير السكة بآلاتهم، مع إبقاء السكة على وضعها وكأن أي تخريب لها لم يحصل. ونفذ العمال ماطلب منهم فهد البطيخ، فقلعوا المسامير تحت تهديد السلاح، وفي الساعة العاشرة مساءً وصل قطار عسكري بريطاني إلى المكان المخرب، فانحرف عن السكة، وانقلب ليسقط في وادي قريب يسمى "وادي أم غربة"، وما أن انحدر القطار في الوادي، حتى انطلق فهد وقواته بسرعة نحوه وهم يطلقون النيران على القطار وركابه، فاشتعلت النيران في مرجل القطار التي اندفعت مسرعة واللهب يتطاير منها.‏
          واندفع رجال فهد إلى داخل القطار، وأمطروا ركابه بوابل الرصاص، فأبادوا من كانوا فيه من القوات الإنكليزية، واستولوا على ما يحمل من أسلحة وعتاد، وكانت غنائم كبرى حصلت عليها القوة، التي أقفلت عائدة إلى دير الزور بغنائمها، بعد أن تركت دعاية واسعة للثورة في المنطقة. وأصبح اسم فهد البطيخ ينتشر بين سكان العراق ووادي الفرات كبطل شجاع، وقائد محنك وقد كذبت القيادة البريطانية أن يكون القطار محملاً بالركاب. رغم تأكيدات الثوار على ذلك. كما وسارعت الحكومة العربية في دمشق بالاعتذار عما وقع للقطار، وتأسف لهذا الحادث، كما جرت العادة(4) وأنها سوف تتخذ كل الوسائل الممكنة لمنع حدوث مثل هذه الأعمال المرفوضة من جانبها.‏
          تحرير تل العفر‏
          أصبح فرع حزب العهد في الموصل من الفروع الهامة للحزب، بعد أن أنضمت إليه جمعية "العلم" ذات التوجهات العروبية. وضم الفرع شخصيات قومية من مختلف الفعليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكانوا يسعون جميعاً لإنهاء الاحتلال الإنكليزي للعراق. إلا أن وضع الموصل المتنازع عليها من قبل بريطانيا والأتراك/ جعل الفرع يحسب حساب الأتراك أيضاً في أي عملية عسكرية أو تحررية ضد القوات الإنكليزية في الموصل، حتى لا يقعون في احتلال تركي من جديد. كما أن الحسابات لا تعني الأتراك والإنكليز فقط، فالتركيبة الأثنية في الموصل لها حساباتها الأخرى، فالموصل ليست خالصة للعرب، فهناك التركمان والأكراد والآشوريون وغيرهم ممن يقطن في ولاية الموصل. ولكل فئة حساباتها الخاصة مع الطرفين التركي والإنكليزي. ففي حين الأكراد ثاروا ضد الاحتلال الإنكليزي في عام 1919. فإن لهم عداءاتهم ضد الترك.‏
          في حين أن التركمان كانوا يرون أنهم أشقاء الترك ومن جنس واحد، ولكنهم يعادون الإنكليز. أما الآشوريون فهم يميلون للإنكليز الذين الذي يدغدون مشاعرهم الدينية، وفي الوقت نفسه يعادون الترك لممارستهم الاستبدادية ضدهم.‏
          وكان الترك لا ينقطعون عن مطالبتهم بولاية الموصل منذ عام 1918، وحتى عقد معاهدة لوزان 1925 حين اعترفت تركيا رسمياً بأن ولاية الموصل جزء من العراق ولم تعد تطالبها رسمياً.‏
          ورغم ذلك بقيت كتابات بعض الأتراك تطالب بولاية الموصل لضمها إلى تركيا. ومن هنا كانت حسابات القوميين العرب في الموصل دقيقة حتى لا تقع في خطأ لا تحمد عقباه. فقام فرع العهد في الموصل بالاتصال بالقيادات الكردية، وتفاهموا معهم حول خطوط مشتركة لمواجهة الاحتلال الإنكليزي. تصبّ حلّها لتحقيق استقلال العراق. وتم كسب العديد من هذه القيادات إلى جانب العهد المطالب بالاستقلال. وقد رفعت /32/ شخصية كردية في الموصل التماساً لمؤتمر الصلح تطالب بوحدة العراق واستقلاله، وبإقامة علاقات قوية مع الأقطار العربية الأخرى،‏
          وأعلنوا في مذكرتهم بأنهم ينتدبون الأمير فيصل ومولود مخلص وعلي جودت الأيوبي ليمثلوهم في مؤتمر الصلح(5) .‏
          حين وصلت أنباء ثورة العهد في دير الزور وما حققته من جلاءات إنكليزية، تطلع فرع العهد في الموصل إلى دعوة قادة الثورة إلى التعاون معهم لتحرير الموصل أيضاً، وإعادته إلى الحكومة العربية في دمشق. وجاءت الدعوة بعد أن عَلِموا أَن غالبية القيادة التي تقود الثورة في دير الزور هي من أبناء الموصل مثل مولود مخلص وعلي جودت الأيوبي وجميل المدفعي وغيرهم.‏
          وفي نيسان 1920 وصل إلى دير الزور قادماً من الموصل أحد أعضاء جمعية العهد السيد عبد الحميد دبوني، الذي عمل معاوناً للضابط السياسي البريطاني في ناحية تل عفر القريبة من الموصل، وقد استقال من منصبه هذا بعد اختلافه مع القيادة الإنكليزية هناك. حيث اتهمه الكولونيل لجيمن بالاختلاس، وعامله بفظاظة مست شخصيته وكرامته(6) ، ويظهر أن الاتهام كان على خلفيته الوطنية المعادية للإنكليز.‏
          والتقى الدبوني في دير الزور بمولود مخلص والقيادة فيها، وبدأ يحرضهم على إرسال قوات إلى تل عفر ثم إلى الموصل لتحريرها، مؤكداً لهم أن العشائر هناك سوف تنضم إلى الجيش القادم من دير الزور. مما يحقق نصراً سهلاً هناك، وخاصة أن شيخ عشائر الأعافرة سيد عبد الله سيهب هو من أعضاء حزب العهد العراقي، سوف يقدم المساعدة العشائرية من القوات والمؤن للقوات العربية المهاجمة لتل عفر.‏
          وبعد دراسة مقترحات الدبوني، قررت قيادة الثورة في دير الزور، مهاجمة تل عفر. وكلفت في أوائل أيار 1920 العقيد جميل المدفعي الذي التحق بالثورة في دير الزور. بالإعداد لحملة عسكرية من أجل تحرير تل عفر القريبة من مدينة الموصل واتخاذها قاعدة لتحرير الموصل وشمال العراق من الاحتلال الإنكليزي.‏
          معركة تل عفر‏
          في نهايات شهر أيار 1920 انطلقت الحملة العسكرية باتجاه تل عفر مستخدمة طريق الجزيرة، وفي نفس الوقت بدأ فرع العهد في الموصل وتل عفر يعدُّ خطة لانتفاضة جماهيرية في تل عفر تساند القوات القادمة من دير الزور، وبمشاركة روؤساء العشائر مع أنصارهم، وأعضاء حزب العهد في السلك المدني والعسكري في أجهزة السلطة بتل عفر. واستفاد العهد من وجود عضوين له في قوة الدرك التابعة للإنكليز هما: جميل محمد، ومحمد علي من ضباط الشرطة.‏
          وفي الثاني من حزيران، دعا حزب العهد إلى اجتماع في تل عفر، حضره إضافة إلى أعضاء الحزب عدد من الآغوات. وزعماء العشائر، فأخبروهم بوصول قوات عربية تابعة للحكومة العربية على مشارف بلدة تل عفر، وقد تجمعت على الطريق قريباً من قرية "عوينات"، وأن يكونوا على استعداد لاستقبالها ومناصرتها. وفي نفس الوقت قام جميل محمد معاون ضابط الشرطة في تل عفر بقطع أسلاك البرق. فانقطعت الاتصالات البرقية ما بين تل عفر وبقية المدن العراقية.‏
          وفي الرابع من حزيران 1920 دخلت قوات من عشائر المنطقة تل عفر، ثم دخلتها القوات العربية معلنة الثورة ضد الإنكليز وقواتهم المتواجدة في البلدة. وبدأ القتال مابين العشائر والقوات القادمة من دير الزور وبين القوات الإنكليزية، وانقلب الشرطة العرب ضد الإنكليز، فقتل أحدهم اللفتانت /ستيوارت/ قائد الدرك. فاستسلم بقية الدرك، في حين اعتصم مرشد الدرك والكاتب ورامي المدفع وهم من الإنكليز على سطح دار الشرطة، وأخذوا يطلقون النار على القوات العربية، فردت عليهم القوات العربية، واستطاعت أن تقضي عليهم. وبذلك تمت سيطرة القوات العربية على بلدة تل عفر.‏
          وفي اليوم التالي /5/ حزيران/ 1920/ تقدمت قوات إنكليزية على شكل رتل من السيارات المصفحة نحو تل عفر لاستعادتها، إلا أنها وقعت في كمين نصبته القوات العربية، فأبادت الرتل الإنكليزي بما فيه من جنود، وغنمت القوات العربية عدة سيارات مصفحة وأسلحة وأعتدة وتموين(7) .‏
          معركة تل عفر من خلال رواية إنكليزية.‏
          كتبت المس غيرترود بل حول أحداث تحرير تل عفر ".. في شهر مارس، بدأت غارات صغيرة تُشن على سكة الحديد وطريق بغداد -الموصل. وفي /21/ نيسان/ 1920/، وصلت إلى الموصل عن طريق دير الزور أول قافلة من حلب. فدشن وصولها هذا حلول فترة مليئة بالشغب والفتن في الموصل نفسها، حيث عقدت الاجتماعات الوطنية، وعلقت على الجدران في الليل الإعلانات المناوئة للبريطانيين، حاملة ختم جمعية العهد العراقية. كما ازدادت الغارات على خطوط مواصلاتنا، وبلغت ذروتها في /4 مايس/ أيار/ بحرق القطار، فيما يقرب من عين دبس، فكانت جميع المعلومات تدل على قرب وقوع هجوم على الموصل. ثم وصلت الأخبار منبئة بوقوع تحشدات على /الفدعمي/ وعلى الخابور، بقيادة جميل بك المدفعي أحد الضباط الموصليين في الجيش السوري العربي.‏
          وفي 2 حزيران كتب معاون الحاكم السياسي بأن اجتماعاً وطنياً قد عقد في تل عفر. القرية المنعزلة غرب الموصل، التي يسكنها خليط من الأكراد والتركمان والعرب. وبعد يومين دخلتها خيالة القبائل المحيطة بها . فكان ذلك إشارة تدل على وقوع الثورة. حيث الخطة لها كانت قد وضعت بعناية، فكانت نية جميل بك أن جميع الضباط البريطانيين والموظفين، يجب أن يقضي عليهم الدرك قبل وصوله.‏
          فقتل ضابط الدرك الكابتن /ستيوارت/ من قبل الضباط التابعين إليه، ثم حصر البريطانيون الثلاثة الباقون وهم مدرب وكاتب وجندي رشاش في سطح الدار التي كانوا فيها حتى وصلت عصابة جميل. وعندئذ قتلوا بقنبلة هناك. كما قبض على الكابتن /بارلو/ معاون الحاكم السياسي الذي كان يتجول في المنطقة وجيء به إلى تل عفر، وعندما قارب البلدة أبصر سيارتين قادمتين من الموصل، فحاول الفرار غير أنه أطلق عليه الرصاص. فقتل. ثم اختبأ قسم من قوة جميل في كمين للسيارتين، فانقضت عليهما القوة، وقتل من كان فيهما، من دون أن يسلم أحد منهم.‏
          فكان سقوط تل عفر إشارة إلى القبائل بالثورة.. وقبل أن يسمح الوقت لجميل بالاستعداد للزحف إلى الموصل. فوجئ برتل بريطاني. ففر مع ضباطه إلى دير الزور، ثم تفرقت القبائل من غير مقاومة تذكر. فاحتلت تل عفر مفرزة من الجنود. وأعيدت الإدارة المدنية إليها /856/(8) .‏
          ومن وثائق احتلال تل عفر والمشاركين في إحداثها من العشائر والضباط، يذكر المؤرخ فريق المزهر آل فرعون ".. إن قوة من المجاهدين توجهت نحو الموصل بقيادة جميل المدفعي. انضم إليها أكثر عشائر الشمال كشمر برئاسة عجيل الياور، والجبور برئاسة مسلط باشا، وعشائر الكركية والجحيش والبوحمد. وغيرهم. وكان يقود المشاة من المجاهدين القادة: محمود بك السنوسي، ومحمود أديب، وكانت الرشاشات بقيادة إسماعيل صفوت باشا. والعقيد محمد علي سعيد. وكثير غيرهم من الضباط توجهوا نحو تل عفر والموصل(9) .‏
          الانسحاب من تل عفر‏
          رغم النصر الذي تحقق في تل عفر على القوات البريطانية فيها. وقتل عدد من الضباط وصف الضباط الإنكليز والسيطرة التي فرضتها القوات الثائرة العربية والعشائرية.‏
          إلا أنها لم تستمر إلا يومين فقط، لقد أدرك الإنكليز أن القوات العربية إن استطاعت أن تعزز وجودها في تل عفر، ستنطلق حتماً نحو الموصل، وستكون المعركة كبيرة. وأنصار العهد فيها قوة يحسب لها حساب. وقد يتمكنون من طرد الإنكليز منها، فيكون الأمر صعباً للوجود البريطاني في العراق برمته. لهذا قررت حسم المعركة بسرعة واستعادة تل عفر، فانطلقت القوات البريطانية نحو تل عفر. قدّر جميل المدفعي وضباطه أن المعركة ستكون حتماً لصالح القوات الإنكليزية. كما أن القوات العربية التي كانت تتوقع وصول إمدادات عسكرية لها من دير الزور، وخاصة أن الذخيرة قد نفذت تقريباً، إلا أن الإمدادات لم تصل من دير الزور فقرروا الانسحاب من تل عفر والعودة إلى دير الزور، وهكذا انتهى تحرير تل عفر، وانتهت خطة تحرير الموصل، وعادت القوات في 6 حزيران 1920.‏
          إلا أن نتائج معركة تل عفر لم تذهب سدى. فكانت أصداؤها تملأ العراق بكامله. وأثبتت قدرة العرب على تحقيق هزيمة القوات الإنكليزية. وأن الضباط الإنكليز يمكن أن يقتلوا كما هم يقتلون العرب. وكانت إحدى مقدمات انفجار ثورة العراق الكبرى التي انطلقت في الفرات الأوسط في 30 حزيران 1920.‏
          (1) F.O 371 . -5073 - T o India Office - 15 may 1920.‏
          (2) د. وميض جمال عمر نظمي ـ الجذور السياسية ـ مصدر سابق ـ ص 171.‏
          (3) تحسين العسكري ـ مصدر سابق ـ ج2 ـ ص 88.‏
          (4) تحسين العسكري "الثورة العربية الكبرى" مصدر سابق ج2 ص 84- 91- د. علي الوردي -لمحات من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق ج5 ص 41.‏
          (5) د. وميض جمال عمر نظمي- الجذور السياسية- مصدر سابق ص 192.‏
          (6) د. علي الوردي- لمحات من تاريخ العراق- مصدر سابق ج5- ص 149.‏
          (7) د. وميض جمال عمر نظمي -الجذور السياسية- مصدر سابق ص 193.‏
          (8) Review of the Civil administration of Mesopotamia. P. 133. تعريب جعفر الخياط.‏
          (9) فريق المزهر آل فرعون ـ الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920 ـ بغداد ـ مطبعة النجاح ـ 1952 ـ ص 333.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #20
            رد: الثورة المنسية

            الفصل الثامن عشر: ثورة مستمرة.. مع ثورة العشرين
            لم تهدأ الثورة في دير الزور رغم اشتعال الثورة في مناطق الفرات والجنوب بكامله، التي انطلقت من الرميثة في 30 حزيران 1920. وانتقال مركزية الثورة إلى جنوب العراق. وبعد دخول القوات الفرنسية المحتلة إلى سورية في 24 تموز 1920 تابعت ثورة دير الزور عملياتها العسكرية وتقف إلى جانبها الثورة في جنوب العراق، ومن تلك العمليات التي جرت في تموز وآب 1920 نذكر:‏
            حركة المجاهد نجرس العكود‏
            اتفق مشرف الدندل شيخ العكيدات في البوكمال مع نجرس العكود أحد رؤساء عشائر الدليم، والمغير بن عفتان الشرجي رئيس عشيرة البو محل، وعدد من رؤساء عشائر البونمر والجفايفة على تشكيل مجموعات مسلحة، تقوم بالإغارة على مراكز ومعسكرات الجيش البريطاني في العراق. وبدأت تمارس الإغارة، ونصب الكمائن للقوافل العسكرية البريطانية، على مساحة واسعة في العراق تمتد على طريق الشرقاط وحمام العليل. ما بين تكريت والموصل. شلت تلك الغارات والكمائن خطوط المواصلات في تلك المنطقة.‏
            وكانت غنائم المغيرين كبيرة، مما أثار حنق القيادة البريطانية في العراق. حيث قواتها تقاتل في الجنوب والشمال، وهم في الوسط، وصبَّ الإنكليز حنقهم وغضبهم على الشيخ نجرس الكعود. ووصفه الجنرال هالدن قائد القوات البريطانية في العراق بأنه من أشد الخصوم للإنكليز في العراق، وفي منطقة الفرات الأعلى خصوصاً. لما شكلت حركته من خطر وعبءً على القوات الإنكليزية.‏
            أما أسباب حركة الشيخ نجرس الكعود ضد الإنكليز فيقول المؤرخ العراقي علي الوردي: "هناك قولان في تعليل هذا العداء من نجرس للإنكليز. أحدهما أنه كان بينه وبين علي السليمان منافسة على رئاسة عشائر الدليم. ولما كان علياً موالياً للإنكليز، صار نجرس بطبيعة الحال معادياً لهم، والثاني أن نجرس كان له ثأر مع الإنكليز لأن ليجمن كان قد قتل أخاه "صبار"(1) . إلا أن هذه الأسباب قد يكون عاملها الثاني معقولاً. حيث أن الثأر عادة لا تزال مستمرة في عشائر الفرات. أما السبب الأول فهو موضوع تساؤل، فنجرس عُرف بوطنيته وحبه لوطنه وعدائه المطلق للإنكليز، ولم يكن أبداً هذا العداء بدافع سلطة. لقد كان الشيخ نجرس أهم رؤساء عشائر الدليم، ومن الرافضين للتعاون مع الإنكليز. كما كان حال علي السليمان رئيس اتحاد عشائر الدليم.‏
            واستعصى أمر الشيخ نجرس على الإنكليز، فلم يستطيعوا القضاء عليه بالمواجهات القتالية. فاستخدموا طريقة خبيثة. وهي خلق صراع داخلي بين العشائر ليقاتلوا بعضهم بعضاً، فيتخلصوا من أعدائهم، فاستمالوا إلى صفوفهم الشيخ عاكوب رئيس عشيرة البوحمد بالمال والجاه. بعد أن كان من ألدِّ أعداء الإنكليز. وله جهاد ضد قواتهم بالإغارة والكمائن على قوافلهم، فمنح الإنكليز الشيخ عاكوب أراضي "بنجمه" في منطقة "القيارة" وأعطوه راتباً شهرياً قدره ألفا) روبية. ولقاء هذه المنح طلبوا منه حراسة الطريق بين "القيارة- وحمام العليل(2) وهي المنطقة التي تتحرك فيها قوات الشيخ نجرس العكود.‏
            بدأ الشيخ عاكوب وقوته العشائرية تتصدى لقوات نجرس المُغيرة على القوات الإنكليزية، وتأخذ منها ما غنمته من تلك الغارات، وأربكت حركة عاكوب الخيانية الثورة في الموصل التي يقودها حزب العهد. ووجدوا أن ارتداد عاكوب سوف يحبط عملياتهم المناصرة للشيخ نجرس. فأرسلوا إلى عاكوب أحد أعضاء حزب العهد هو /سعيد العبد/ يبحث معه أسباب هذه الردّة وأثرها على الثورة، وليوجه له عتاباً على تعاونه مع أعدائهم الإنكليز، ويذكره بأنه كان وطنياً ثائراً له سمعته في نفوس الشعب.‏
            وبعد أن تم لقاء سعيد مع عاكوب ونقل إليه ما طلب منه، نفى عاكوب تعاونه مع الإنكليز. وأما تصديه لجماعة نجرس الكعود، تعود لعداء شخصي مع نجرس نفسه، وكذلك مع الجغايفة والعكيدات. وسبب هذا العداء يعود بأنهم قاموا بالإغارة عليه من قبل. وخرج سعيد من عاكوب بعد أن وعده بأن لا يتصدى بعد للمغيرين من الثوار على الإنكليز، وأنه سيتعاون مع الثوار، ولكنه رفض إعادة الغنائم التي سلبها من الثوار(3) .‏
            دخول عانه‏
            استمرت حركة التحالف بين مشرف الدندل ونجرس والمغير وبقية الحلفاء بالإغارة على خطوط نقل القوات البريطانية. ولم يمنعهم احتلال فرنسا لدمشق من مهاجمة القوات الإنكليزية. فقامت مجموعة من العكيدات بنصب كمين لقافلة إنكليزية على طريق "البارج" القريب من مدينة عانه، وقتلوا ثلاثة من الجنود الإنكليز، وغنموا كميات كبيرة من العتاد والسلاح، كما استشهد عدد من الثوار من بينهم /علوان الفرحان/ من البوخاطر، وكان هذا الشهيد بطلاً أثناء الكمين، حيث قتل وحده الجنود الثلاثة. واستشهد أيضاً /فرحان العلوان/ من البوخاطر - و /عبد الله الحسين/ من البومريح- و /خشان العبد الله المحمد/ من الحسون و /ابن ربيدان/ من العبيد. كما أن هناك العديد من الجرحى(4) .‏
            وقامت مجموعة أخرى من عشائر العكيدات في البوكمال بمهاجمة مقرات الجيش الإنكليزي في مدينة "راوه" المجاورة لمدينة "عانه". ثم دخلت قوات من عشائر العكيدات بلدة "عانه"، ونهبوا دار الحكومة فيها، ودور كل المتعاونين مع الإنكليز في البلدة. وازداد ضغط العشائر على القوات الإنكليزية في مدينة عانة وحولها، فقررت القوات الإنكليزية في /5/ آب /1920/ الجلاء عن عانه(5) . وبعد ذلك قتل اللفتانت كولونيل ليجمن الحاكم السياسي في الدليم السيء الصيت.على يد أبناء الشيخ ضاري بن ظاهر شيخ آل زوبع.‏
            تحولت منطقة الدليم بفعل عمليات العكيدات المنطلقة من البوكمال جحيماً للقوات الإنكليزية، فلم يشفع لها الانسحاب من عانه. بل بقيت حركة الثورة مستمرة، لهذا استخدمت أيضاً حلفاءها من شيوخ العرب للاستعانة بهم ضد العشائر الثائرة، فاستعانت بالشيخ علي السليمان رئيس اتحاد الدليم، ومحروث الهذال شيخ العنزة لوقف حركة العشائر الثائرة. إضافة إلى استخدام الطيران والدبابات والمدفعية لقصف مساكن العشائر الثائرة. وأمام هذا الضغط انسحبت العشائر الثائرة من سورية. واستعادت القوات الإنكليزية مدينة عانه بعد تحريرها.‏
            مولود مخلص يحرض العشائر العراقية على الثورة.‏
            كان مولود مخلص حاكم دير الزور العسكري يقدم الدعم للحركات العشائرية في مناطق دير الزور لمتابعة الثورة على الإنكليز. وبعد انفجار الثورة في مناطق النجف وكربلاء والرميثة. واصل مولود رسائله التحريضية ضد الإنكليز والتي كان يرسلها لزعماء العشائر في كافة أنحاء العراق. وقد أبرق أرلوند ولسن الحاكم العام البريطاني برقية إلى وزارة شؤون الهند في 30 تموز 1920 يقول فيها حول نشاط مولود مخلص "ليس فقط لا يقف موقفاً مختلفاً، بل هو ينشط بتحريض العشائر في أنحاء ما بين النهرين على التمرد والعصيان. وقد وصلت رسائله إلى العشائر إلى حد العماره"(6) .‏
            كما أخبر ارلوند ولسن وزارة شؤون الهند بأن حربه مع القوات الثائرة المنطلقة من دير الزور حرب حقيقية، وفي حالة حرب فعلية تقوم بين القوات الشريفية وقوات صاحب الجلالة في ما بين النهرين(7) .‏
            مقتل الكولونيل ليجمن‏
            جاءت حادثة مقتل الكولونيل لجمن لتكون نهاية إفرازات ثورة دير الزور، والتي بدأت تخبو نيرانها بعد الاحتلال الفرنسي لسورية، وانقطاع الإمدادات العسكرية والمالية التي كانت ترسلها حكومة فيصل العربية من دمشق. حيث بقيت القوات العشائرية اللاعب الرئيسي المتبقي لدى الثورة، تقوم بأعمال الإغارة والهجوم ضد القوات الإنكليزية.‏
            أما كيف قتل الكولونيل /لجمن/ فقد كتبت جريدة "بغداد تايمر Baqhdad Tims " خبراً جاء فيه: "ننعي بكل أسف وفاة اللفتنت كولونيل جيرار لجمن. . I. A ) من آلاي سبكس الملكي. الملحق بالإدارة الملكية في العراق. المتوفي في خان النقطة. في 12 آب 1920. وعمره /40/ سنة.‏
            والظاهر أن قتله جرى عمداً، وأن قاتله هو خميس. أكبر أولاد الشيخ ضاري المحمود، زعيم عشيرة الزوبع وقد فتك به، وهو ضيفه. وفي الليلة التي كان فيها نائماً تحت خيمته، وقتل معه حوذي سيارته، وهو من أبناء العرب. ووجد جثمان المقتول بعد قليل في الخان، فحمل إلى الفلوجة، ودفن في إحدى المحطات العسكرية.(8)
            أما قصة مقتله كما يروي المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني، إن الشيخ ضاري كان عدواً لدوداً للإنكليز كما كانوا هم يعرفونه كذلك. وقد دعا الكولونيل لجمن، الشيخ ضاري المحمود، لمقابلته في "خان النقطة" بين بغداد والفلوجة في الساعة العاشرة والنصف زوالية من صباح يوم الخميس الموافق في 27 ذي العقدة 1338. و 12 آب 1920، فحضر الشيخ في الوقت المعين، وحضر معه ولداه خميس وسلمان، مع جماعة من أولاد عمه بينهم "صكب وصعب". ولما حضر ليجمن صار يقص على الشيخ ضاري قصة قبض حكومته البريطانية على الشيخ أحمد الداود في اليوم الفائت 11 آب 1920. وكيفية تخلص كل من السادة: جعفر أبو التمن، ويوسف السويدي. وعلي أفندي، وهربهم إلى منطقة الفرات الأوسط. وكيف أن الحكومة جادة في استئصال أعمال الشغب في بغداد، وإنهاء الموالد النبّوية، وإعلان الإدارة العرفية... إلخ.‏
            وفيما هو يتحدث بهذه المواضيع أُتصل به أن عصابة من الأعراب هاجمت سيارة أهلية على مقربة من "خان النقطة" الذي اجتمعا فيه، فأُوعز إلى "قائد الشبانة" أن يصطحب الشيخ خميس الضاري مع اثني عشر من رجاله لتعقب الجناة، واستعادة ما سلبوه من السيارة.‏
            وما لبث أن عاتب الشيخ ضاري على هذا العمل، موجهاً إليه تَبعتهُ، ثم أسمعه كلاماً لا يمكن لرئيس قبيلة -مثله- أن يتحمله. فما كان من الشيخ إلا أن خرج من "الخان" وهو يحمل ألماً في نفسه، وبعد لحظات، عاد، وعاد معه ولده سلمان، وابنا عمه صكب وصعب. فوجه كل من سلمان وصكب وصعب فوهات مسدساتهم إلى رأس الكولونيل لجمن، وأطلقوا النار عليه. فأردوه قتيلاً، واتجهوا إلى قبيلة المحامدة، قرب الصقلاوية. حيث أخذ الشيخ ضاري يُراسل زعماء الثورة في كربلاء. فعّم الهياج منطقة الدليم. من خان النقطة إلى عانه. وصدر البلاغ البريطاني التالي "قطع الشيخ ضاري، رئيس عشيرة الزوبع السكة الحديدية الممتدة من بغداد إلى الفلوجة. قرب خان النقطة. لكن السكون سائد في فلوجه ورمادي. كذا، والحاميات القوية القائمة في هاتين البلدتين سالمة، ولم تزعج، على أن الأنباء تفيد أن ملاحي بعض المراكب الصغيرة التي بين الرمادي وفلوجه، قد ضايقهم الثوار. فاضطروهم إلى إخلاء مراكبهم والسكون سائد في عانه التي يحتلها الدليم"(9) .‏
            أشعل الشيخ ضاري ثورة واسعة في منطقة الدليم، وبدأ ينتقل من عشيرة إلى أخرى، يحرضها على مجابهة القوات الإنكليزية. وقد طارده الإنكليز الذين عجزوا عن إلقاء القبض عليه، على الرغم من تدمير معظم مساكن عشيرته. فاستخدموا حلفاءهم من زعماء العشائر. فطلب الشيخ علي السليمان من الشيخ ضاري الرحيل عن منطقة الدليم، حتى لا يتحرج موقفه مع الإنكليز، ورحل إلى أراضي /الرزازة/ فحاول ابن هذال إلقاء القبض عليه، وتسليمه لأصدقائه الإنكليز. ولكنه فلت من كمين ابن هذال.‏
            وأصبح الشيخ ينتقل من مكان إلى آخر والقوات الإنكليزية تطارده، وأقدم الإنكليز في 3 أيلول 1920 على هدم قلعة الشيخ ضاري، وقطعوا المياه عن مزارعه التي ماتت عطشاً، ورد عليهم الثوار باحتلال مدينة /حديثة/ على نهر الفرات، ثم أحرقوا سراي /عانه/. وفي 18 أيلول أحرق الثوار إحدى طائرات القوات البريطانية التي اضطرت للنزول قرب الفلوجه، وأسروا ركابها. ولكنهم أطلقوا سراحهم بضغط من الشيخ ابن هذال(10) ، وفي 24 أيلول 1920 استطاعت القوات البريطانية استعادة خطوط المواصلات من أيدي الثوار. فغادر الشيخ أراضي العراق. ودخل إلى سورية عن طريق البوكمال. حيث حلَّ ضيفاً على الشيخ مشرف الدندل. ثم انتقل إلى دير الزور والتقى الشيخ محمد سعيد العرفي وعدداً من الوطنيين. وبقي في سورية رغم صدور العفو البريطاني عن الثوار في العراق في 30 أيار 1921 حيث رفض الإنكليز العفو عن الشيخ ضاري. وفي خريف 1927 خان به أحد السائقين الأرمن فبدلاً من أن يوصله إلى حلب، قام بنقله إلى الحدود، بعد أن عرفه وسلمه في /سنجار/ للسلطات البريطانية. حيث حكم عليه بالإعدام الذي أبدل إلى المؤبد. توفي في السجن بعد أيام، ودفن جثمانه الطاهر في 1 شباط 1928 في بغداد بعد أن شيعه العراق بكامله.‏
            (1) د. علي الوردي. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق- ج5- ص 144- 145.‏
            (2) المصدر السابق ص 145.‏
            (3) قحطان أحمد عبوش التلعفري "ثورة تلعفر" بغداد 1966 ص 138- 140.‏
            (4) أسعد الفارس -مدينة وشعب على الفرات الأوسط- مصدر سابق ص 111‏
            (5) د. وميض جمال عمر نظمي -الجذور السياسية- مصدر سابق- ص 385.‏
            (6) F. O- 371- 5128- E- 115- 30 June 1920.‏
            (7) F. o. 371- 5129- E- 634- 8 June 1920.‏
            (8) جريدة العراق- العدد / 69/ 20 آب- 1920.‏
            (9) عبد الرزاق الحسني- الثورة العربية الكبرى- مصدر سابق ص 161- 162.‏
            (10) المصدر السابق ص 163.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #21
              رد: الثورة المنسية

              الفصل التاسع عشر: الإدارة البريطانية في العراق.. والثورة
              ظهر العجز العسكري البريطاني واضحاً منذ بدايات الثورة بدير الزور، فلم تستطع أن تُعيد دير الزور، بل اكتفت برسم حدود بين سورية والعراق. حين جعل أرنولد ولسن الحاكم العام البريطاني في العراق نهر الخابور حدّاً بين سورية والعراق. ورفض استعادة دير الزور، على الرغم من تحريض حعفر العسكري والي حلب لاستعادة دير الزور، وإلقاء القبض على رمضان شلاش. فأكد وهو في البوكمال لمبعوث جعفر أن دير الزور أصبحت تتبع سورية.‏
              كان للضعف العسكري البريطاني دوره في تحريض المترددين في حزب العهد العراقي للانضمام إلى الثورة. ورأينا كيف تتابعت قوافل العسكريين العراقيين بالمجيء إلى دير الزور والالتحاق بالثورة. وأعطاهم هذا الضعف قوة في تطوير الثورة نحو الميادين والبوكمال، التي تم تحريرها من الاحتلال البريطاني. ثم امتدت الثورة إلى عمق العراق، لتصل إلى عانة وتكريت والشرقاط وتل عفر والموصل وغيرها من المدن العراقية الأخرى. واستمرت حتى اشتعلت الثورة في الرميثة، ثم عمّت كل أنحاء العراق.‏
              يذكر أرلوند ولسن في كتاب له صدر في لندن عام 1930 أن السبب في الضعف العسكري البريطاني وعدم القدرة على إيقاف الثورة في دير الزور إلى النقص في الآليات العسكرية، وقلة أفراد الجيش البريطاني، بسبب التسريح الذي قامت به الحكومة البريطانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. فيقول: "أن النقص في النقليات والقوات الناجم عن التسريح كان يجعل العمليات العسكرية على هذا البعد عن قاعدتنا في بغداد أمراً شبه مستحيل، وأنه في حالة قيام أية اضطرابات، فسيكون من المستحيل المحافظة على الاتصال بين دير الزور، وبغداد أو الموصل(1) .‏
              لم يتخلَ ولسن عن استعراض القوة، واستخدامها، حين أرسل قوات إلى الصالحية، لتنطلق لاحتلال الميادين كما أشرنا سابقاً. ولكنه كان يعرف أن ميزان القوى ليس لصالحه، أمام الرفض المطلق لمولود مخلص بالانسحاب من الميادين، بل أرسل مولود الجنود كما أشرنا لتكوين جبهة الميادين. لذلك بقيت هذه القوات في الصالحية. فتعرضت لجملة من النكسات العسكرية.‏
              نتائج الهجمات والكمائن العشائرية في المنطقة.‏
              حَمَّل ولسن حكومة فيصل في دمشق مسؤولية الأحداث التي تجري في دير الزور ومحيطها، واعتبرها مسؤولة عنها. وأكد لحكومته ولوزارة الهند أن حكومة فيصل العربية هي التي تمدّ الثورة بالمال والعتاد والضباط والجنود وطلب تكراراً قطع المعونات المالية البريطانية عن حكومة فيصل متهماً إياها بتحويلها ضد القوات البريطانية. وأمام إدعاءات ولسن المتكررة باتهام حكومة فيصل، طلبت وزارة شؤون الهند البريطانية من شقيقتها وزارة الحربية، وكذلك وزارة الخارجية بالتحقق من هذه الإدعاءات، عن طريق ضباط المخابرات البريطانيين المتواجدين في سورية(2) .‏
              كما طالب ولسن وقائد جيشه الجنرال هالدن من وزارة الحربية ووزارة الطيران في آذار 1920 استخدام الطائرات لقصف مدينة دير الزور وما حولها، لتدمير القوات العربية فيها. إلا أن وزارة الحربية أجابت ولسن برقياً بأنها لا تستطيع أن تستخدم الطيران إلا في المناطق التي تحتلها بريطانيا، أي ما بعد الحدود الجديدة "نهر الخابور"(3) . واقترح وزير المستعمرات البريطاني ونستن تشرتشل أن يتم استخدام وسائل أخرى غير الوسائل الحربية العسكرية، رغم أنه كان يطرح القصف الجوي كعمل استراتيجي ضد القوات الثائرة. حيث قال: ينبغي استنباط وسائل أخرى غير عسكرية) إذا كنا نريد المحافظة على ما بين النهرين(4) .‏
              وشعر ولسن بالإحباط رغم استخدام الطيران البريطاني في العديد من الحالات العسكرية، فالأمر أصبح ثقيلاً على إدارته. والخوف بدأ يسري في أوصال القوات العسكرية البريطانية نتيجة شدة الهجمات والانتكاسات الخطيرة التي تتعرض لها القوات البريطانية في المعارك؛ فأبرق في 10 آذار 1920 يخبر حكومته عن طريق وزارة الهند بخطورة ما يجري في العراق من جراء الثورة في دير الزور فقال في برقيته، إن الوضع الناشيء في هذا البلد خطير إلى أقصى الحدود. إنه يدمر الثقة العامة. ويضع على عاتق الضباط الباقين في هذه الإدارة عبئاً ثقيلاً لا يستطيعون احتماله".(5)
              دعوات بريطانية بتغيير ولسن‏
              أدت نتائج سياسة ولسن المتشددة في مناطق الاحتلال البريطاني إلى تفجير الثورة في دير الزور، ثم انفجر الوضع في العراق كالبركان بعد ستة أشهر من قيام ثورة دير الزور. كانت حصيلته عشرات القتلى من الجيش الإنكليزي، وخسائر وهزائم أذاقت بريطانيا المرارة والحسرة.‏
              لهذا بدأت تتشكل داخل المؤسسة البريطانية مجموعة مضادة لسياسة ولسن، التي سببت هذه الكوارث للجيش البريطاني، وللإدارة البريطانية أيضاً. وتكونت بدايات المعارضة البريطانية في المكتب البريطاني في القاهرة. الذي كان أقرب المؤسسات السياسية والعسكرية فهماً لحركة تطور النمو القومي العربي، وتطلع العرب نحو الاستقلال بعد أربعة قرون من الاحتلال التركي.‏
              وكان أوائل البريطانيين الذين طالبوا بتغيير سياسة ولسن في العراق، وحتى استبدال ولسن نفسه، كان الكولونيل لورنس والميجر يونغ.. ثم تتالت الدعوات لتشمل معظم مكتب القاهرة. لتنتقل الدعوة إلى وزارة الخارجية نفسها. وشعر ولسن بأن قوة المعارضة له تزداد يوماً بعد يوم في داخل الإدارة البريطانية، وأن هناك اتجاهاً لتحميله وحده مسؤولية الأحداث التي جرت في دير الزور والعراق. وإن كان الأمر في بداياته، فهو يعلم أنه ينفذ سياسة الحكومة البريطانية عامة، ووزارة شؤون الهند خاصة. لذلك حاول الالتفاف على سياسته ليعطيها شكلاً جديداً، ولكن ثوابتها بقيت بفرض الهيمنة والاستعمار المباشر. فقد أرسل رسالة إلى صديقه هرتزل(6) في 19/ آذار/ 1920 جاء فيها ".. لا أرغب في أن أبدو كمن يتخلى عن سفينة غارقة، إني مستعد لمحاولة إيجاد شيء بناء لمواجهة الضرورات الراهنة، ربما على أساس قيام مجلس تشريعي مركزي يرأسه "المندوب السامي". مع قيام أعضاء محليين بترؤس الدوائر مع أمناء بريطانيين"(7) .‏
              من يقرأ بتمّعن الأفكار الجديدة لولسن في رسالته لهرتزل؛ يرى أن ولسن أبقى شمولية الاحتلال وسيطرته فما معنى مجلس تشريعي يكون رئيسه المندوب السامي البريطاني، وحتى أنه يمُّن على العرب العراقيين بأن يكونوا رؤساء دوائر. ولكن في ظل أمين بريطاني، الذي سيكون صاحب القرار ورئيس الدائرة الفعلي. إن هذا التراجع ما هو إلا محاولة للالتفاف على الأصوات البريطانية، التي تدعو ولسن للتخلي عن سياسة الاستعمار المباشر في العراق.‏
              أما هرتزل فقد أجابه برسالة تدعوه إلى تغيير سياسته. ففي رده على رسالة ولسن في 7 نيسان 1920 قال فيها: ".. كما قلت لك دائماً أن حكومة صاحب الجلالة ملتزمة بإقامة حكومة عربية، وهي تنوي تحقيق ذلك فعلاً لا زوراً.(8) . أكد هرتزل لصديقه ولسن أن بريطانيا تنوي حقاً إقامة حكومة عربية في العراق، إلا أن ولسن بقي يسبح ضد التيار، على الرغم من تساقط العديد من مناصريه. حيث لم تعد سياسته تلقى التأييد الذي كان قبل ثورة دير الزور، حتى صديقته ومعاونته المس /غريترودبل/ السكرتيرة الشرقية لديوان الحاكم العام، بدأت هي الأخرى تعيد الكثير من حساباتها السابقة، وتعمل على تغييرها وفق المعطيات الجديدة التي خلقتها الثورة.‏
              كذلك بدأت تظهر أصوات معارضة لولسن في داخل وزارة الهند، فقد قال المستر مونتاغو وكيل الوزارة "إن ولسن يوصي بعدم استشارة الشعب يقصد الشعب في العراق) وأنه لا يوافق على ذلك شخصياً.. وما يريد قوله هو أن نيتنا إقامة حكومة وطنية في دولة عربية" وبلغ الأمر لدى مونتاغو برفض سياسة ولسن شكلاً ومضموناً، وحتى وإن أُلغي الاحتلال البريطاني. وقال: "أنه يرحب بأي شيء يلغي فكرة الانتداب التي تعتبر فعلاً بمثابة إهانة. وهو يفضل كثيراً قيام دولة مستقلة في ما بين النهرين مشابهة للاتفاقية الأنكلو- فارسية، وتعاطف اللورد كرزن وزير الخارجية مع طرح مونتاغو وبين أنه لا‏
              يحبذ الانتداب وسياسته فقال: "أنه شخصياً حريص على التخلص من‏
              الانتدابات بالمرة".(9)
              هذه التراجعات لم تأت من فراغ، بل هي جاءت بعد النجاحات التي حققتها ثورة دير الزور، حيث جاءت تلك التصريحات في شهري آذار ونيسان 1920. وهي الأيام التي كانت ثورة دير الزور وحدها في العراق تقارع الاحتلال الإنكليزي، ولم تتفجر ثورة العشرين المعروفة في الرميثة بعد. وأن طروحات مونتاغو وكيل وزارة شؤون الهند، وتعاطف معها اللورد كرزن وزير الخارجية، كانت ثمار ثورة دير الزور.‏
              وإن كانت تلك الأماني والتصريحات البريطانية لم تؤد إلى إزاحة ولسن وسياسته، إلا أن الأيام بدأت توجه الرياح وجهةً مخالفة لسير سفن ولسن. حيث بدأ يتشكل رأي عام بريطاني في لندن، يدعو إلى تغيير سياسة ولسن وإزاحته. فالصحافة في لندن بدأت تنتقد بشدة تلك السياسة، التي أدت إلى خسائر في الأرواح والعتاد، وأجبار بريطانيا على الانسحاب لأول مرة عن أراض احتلتها في القرن العشرين. مما أغضب ولسن واعتبر معارضيه بالمتطرفين كما اليوم من يعادي الصهيونية وأمريكا). فكتب إلى وزارة شؤون الهند غاضباً من الحملة الصحفية والمعارضين من الإنكليز ضد سياسته فقال: ".. قد اعتادوا على إبلاغ المتطرفين بكافة الإشارات الواردة في الصحافة الإنكليزية ضد السياسة المحلية، والإمبراطورية لحكومة صاحب الجلالة. لا سيما مقالات "التايمز" والمناقشات في مجلس العموم، والتي يشير إليها المتطرفون في خطبهم وأحاديثهم"(10) .‏
              ومع اشتداد الأزمة السياسية والعسكرية لإدارة ولسن، وخاصة بعد تواصل الثورة إلى العمق العراقي. ونسف القطار في الشرقاط، والهجوم على تل عفر قرب قرب الموصل. استمرت اتهامات ولسن لحكومة فيصل، ملقياً عليها أسباب الفشل الأمني والعسكري لقواته. واعتبر أن الأمر ليس سوى معركة بين قواته وقوات الحكومة العربية في دمشق.‏
              حيث قال في برقيته إلى وزارة شؤون الهند في 8 حزيران 1920 بأن "حالة حرب فعلية تقوم بين القوات الشريفية، وقوات حكومة صاحب الجلالة في بلاد مابين النهرين(11) .‏
              وتتابعت اتهامات ولسن كما أشرنا من قبل لفيصل وحكومته وللثورة. وأمام سيل تلك الاتهامات طالبت الحكومة البريطانية في برقية لها في 11 حزيران 1920 ولسن أن يُقّدم "بياناً مختصراً عن التصرفات الشريفية العدائية. وارتباطها بحكومة دمشق"(12) فرد ولسن على حكومته ببرقية جوابية في 18 حزيران 1920 قال فيها: "إن إرسال مجموعات متعاقبة من المتطرفين إلى دير الزور بصفة رسمية من عهد العراق، الجمعية العراقية في سورية، وهو في حدّ ذاته دليل كاف على عدم رغبتهم في التعاون"(13) وطالب ولسن في برقيته بأن تضغط الحكومة البريطانية على الأمير فيصل بطرد الضباط العراقيين من دير الزور، وبذلك تتوقف العمليات الهجومية للقوات العشائرية ضد القوات الإنكليزية.‏
              واستمرت دعوات ولسن المضادة لفيصل، وبضرورة قطع المعونات المالية له. واتهم حكومته بالتساهل بطلباتها لفيصل ولضباط العهد، وأسماها بالتصالحية واعتبرها تخدم أهداف حزب العهد المعادي لسياسته، والمناهض لها بالسلاح والسياسة. وفضل ولسن الجلاء عن بلاد مابين النهرين أي /العراق/ على أن تلبى مطالب حزب العهد العراقي. فقد كتب في 29 حزيران 1920 إلى حكومته ".. إننا لانستطيع المحافظة على مركزنا كدولة منتدبة بسياسة المصالحة مع المتطرفين. وإذا كانت حكومة صاحب الجلالة تعتبر هذه السياسة غير عملية، أو فوق طاقاتنا. فإني أرى الأفضل بالنسبة لها مواجهة البديل الآخر، مهما كان جسيماً ومخيفاً ألا وهو الجلاء عن مابين النهرين"(14) .‏
              وتابعت سياسة ولسن بإلقاء هزائم جنده في العراق على الحكومة العربية في دمشق وعلى الأشراف، وحزب العهد، التي تنطلق قواتهم وإمداداتهم من دير الزور. فيقول في برقيته في 18 حزيران 1920 : ".. ثمّة سيل متواصل من المال والدعاية. ويستخدم في الأخير اسم عبد الله، وكذلك اسم فيصل والدولة السورية، وذلك من دير الزور إلى هذا البلد. ومن الصعب أن‏
              يكون هناك مصدر آخر لهذا السيل لاسيما الأموال. غير حكومة دمشق‏
              أو موظفيها"(15) .‏
              معارضة بريطانية قوية لولسن:‏
              منذ شهر حزيران 1920 بدأت الأصوات البريطانية تشتد ضد سياسة ولسن وأنصاره من العاملين في وزارة شؤون الهند، وتنتقد بشكل عام السياسة البريطانية في المنطقة العربية حيث تنازع مكاتب الاستخبارات البريطانية. حيث كان لكل مكتب بريطاني رؤية سياسة خاصة تجاه القضايا العربية، فمكتب القاهرة يناصر القضايا القومية العربية، في حين مكتب الهند يعادي هذه السياسة. مما أدى إلى تقلبات حادة في سياسة بريطانيا في المنطقة. ويصف الميجر يونغ سكرتير وزير الخارجية البريطانية هذه السياسة قائلاً: ".. إن سياستنا في الشرق الأوسط خلال السنوات الثلاث. أو الأربع الأخيرة قد تأثرت كثيراً جداً.. ولأقول خضعت بشخصيتين قويتين. ففي الجانب السوري، كان هناك الكولونيل لورنس الذي يشجع المطامح العربية بدوافع مناوئة لفرنسا. وفي الجانب العراقي. نجد السير ارنولد ولسن الذي يكبح المطامح، ولايبذل أي جهد لإخفاء أسباب عمله هذا"(16) . وأصبح الميجر يونغ أكثر القادة البريطانيين إدراكاً لمخاطر سياسة ولسن، التي تسببت بكوارث لبريطانيا في المنطقة عبر الانتفاضات والثورات، التي بدأت في مدينة دير الزور. ثم توبعت في بقية المناطق. وبدأ يسعى من داخل وزارة الخارجية البريطانية لإقصاء ولسن عن العراق. واستبداله بشخص آخر أكثر تفهماً للمسألة العربية في المنطقة. فكتب في 14 حزيران 1920 "أخبرني الكولونيل كريبون اليوم 14 حزيران /يونيو/ 1920: تلفونياً بأن وزارة الحربية لم تكن مرتاحة لاتهامات السير .أ. ولسن المتكررة حول التواطؤ الشريفي في اضطرابات الحدود". وأشار في مذكرته إلى سياسة ولسن المعادية لفيصل وللعرب، حيث تسبب إفساد العلاقات بين فيصل وبريطانيا، وإلى خلق تصادم بين الطرفين. فقال: ".. إن رأيي الخاص -كما كان دائماً- هو أنه من المؤسف بالنسبة لأي ضابط كان مع فيصل أن يتخذ موقفاً مضاداً لبريطانيا. إن روح إدارتنا في مابين النهرين هي مسؤولة إلى حد كبير -إن لم يكن كلياً- عن ذلك، إن عداء ولسن الشديد لكل ماهو شريفي، قد خلق لنا الكثير من المتاعب في الماضي، وسيسبب لنا المزيد منها في المستقبل. وإني أعارض بشدة اقتراحه حول القيام بأعمال هجومية بالطائرات فيما وراء حدود مابين النهرين، وآمل مخلصاً أن لاتتم المصادقة عليه.."(17) . تقدم يونغ بهذه المذكرة لمجلس الوزراء عن طريق وزير الخارجية، موضحاً أن أسباب هذه الأحداث سياسة ولسن، وينذر محذراً أنها سوف تسبب المزيد من المشكلات لبريطانيا في المستقبل، وهذا ماحدث فعلاً. وكان لتحذيرات /يونغ/ فعلها حين امتنعت وزارة الحربية والطيران عن قصف مدينة دير الزور بشكل فاعل ومدمر، وإنما استخدم الطيران بقصف المدينة بشكل غير مؤثر، في حين قصفت جزيرة ابن عمر ملتقى الحدود السورية العراقية على نهر دجلة، وكانت معبراً للعديد من القبائل الثائرة. حيث ورد في إحدى البرقيات شجب قصف دير الزور وابن عمر من قبل الحكومة البريطانية "وزارة الهند ووزارة الحربية تشجبان قصف دير الزور وجزيرة ابن عمر لاعتبارات سياسية. وقد استشيرت وزارة الطيران أيضاً، وهي ترى لأسباب فنية أن قصف دير الزور بشكل فعال هو أمر غير وارد"(18) .‏
              لم يتراجع ولسن عن سياساته بل دافع كثيراً عنها. واعتبر الضباط العراقيين في سورية وحكومة فيصل والأشراف، هم سبب إثارة أشكال العنف في العراق، وليست سياساته المتشددة الرافضة لحكومة عربية، أو إعادة الضباط إلى بلادهم.‏
              دعوة لإعادة احتلال دير الزور‏
              حين بدأت الأوضاع في العراق تتفجر في كل مكان، بعد حوادث الرمثية وكربلاء والنجف، لتتكامل الصورة التي رسمها العهد في تفجير الثورة في العراق. وأدرك ولسن جسامة وخطورة الأحداث، والعجز عن ردع الثائرين، وإيقافهم بدون عاصفة قد تطيح به. كما أدرك عمق المعارضة البريطانية التي تنامت إلى حدّ كبير في داخل بريطانية بمؤسساتها المدنية والعسكرية، وحملات الصحافة، لتشكل رأي عام مضاد له ولسياساته في العراق. فتقدم باقتراح لحكومته يطلب منها إعادة احتلال دير الزور، وبما فيها الرقة، ليستأصل جذور المعارضة العربية، وبؤرة الثورة المضادة لسياساته، لأنه الحل الأمثل لإنهاء الثورة في العراق.‏
              فكتب ارنولد ولسن إلى حكومته في 9 حزيران 1920 التالي "في شباط /فبراير/ الماضي. حذرت الحكومة من أننا يجب أن نتمسك بما لدينا آنئذ بواسطة القوات الموجودة في البلاد، أو نجلو عنها، وأنه ليس ثمة طريق وسط. إننا لانستطيع تنفيذ الانتداب بدون مجازفة بكارثة، إلا إذا كنا مستعدين للاحتفاظ خلال العامين القادمين بنفس العدد من القوات الموجودة في البلاد الآن على الأقل. وفي حالة من الكفاءة بأكثر بكثير مما هي عليه الآن. يجب أن نسترجع دير الزور، ومن ضمنها الرقة. لايمكننا أن نحافظ على مركزنا كدولة منتدبة باتباع سياسة مصالحة مع المتطرفين. يجب أن نكون مستعدين بنفس النظر عن عصبة الأمم، للسير ببطء شديد في إقامة المؤسسات الدستورية أو الديمقراطية. وإذا كانت حكومة صاحب الجلالة تعتبر مثل هذه السياسة غير عملية أو فوق طاقتنا، وهذا جائز) فإني أرى أنه من الأفضل مواجهة البديل.. والجلاء عن مابين النهرين.. إني لعلى ثقة من أن أنصاف الحلول ستؤدي إلى كوارث"(19) .‏
              وضع ولسن حكومته بين خيارين إما احتلال دير الزور، وتدمير مواقع الثائرين "المتطرفين"، أو الجلاء نهائياً عن العراق. وهذا هزيمة نكراء لبريطانيا العظمى. إلا أن يونغ عدو ولسن وسكرتير وزارة الخارجية رد على مذكرته بأن ولسن كان يصرح: "هناك خياران فقط أمامنا. إما الاحتفاظ بما بين النهرين بالقوة، أو الانسحاب نهائياً". ثم يقول "إن ولسن لايذكر شيئاً على الإطلاق عن الخيار الثالث الذي كان يمثل دائماً سياسة حكومة صاحب الجلالة، وهو البقاء في مابين النهرين برضاء الشعب، وليس من الصعب معرفة سبب ذلك، وهو يعلم أننا لانستطيع الحصول على رضاء الشعب إلا بإقامة حكومة ذات طابع عربي غالب. وإني لواثق تماماً من أن الكولونيل ولسن سيبذل قصارى جهده للحيلولة دون تحقيق هذا الهدف"(20) .‏
              إقصاء ولسن وتحقيق أهداف العهد نسبياً‏
              بعد انفجار الوضع العام في العراق، شعرت الحكومة البريطانية مدى الخطأ الجسيم الذي ارتكبته بتأييد سياسات وزارة شؤون الهند، والتي كان ينفذها ولسن ويتشدّد في تطبيقها، ورفض كل دعوات الأصدقاء والناصحين بتغيير هذه السياسة قبل ثورة دير الزور وأثناء نشوبها، وحتى خلال تداعاياتها، وإلى أن تفجر كل شيء في العراق. فبدأ البحث الجدّي في ضرورة إقصاء ولسن عن بغداد، واستبداله بشخص بريطاني آخر، يستطيع أن يمتص النقمة الشعبية، وينهي الثورة الشعبية، ويبدو الندم واضحاً في تصريحات وزير الخارجية البريطاني اللورد كرزن حين قال: "من المؤسف جداً أن الكولونيل ولسن بقي طيلة هذه المدة في مابين النهرين"(21) . وفي اجتماع 16 حزيران 1920 أكد /كرزن/ على ضرورة إقصاء ولسن واستبداله. وتحقيق مطالب العهد في عودة الضباط العراقيين إلى بلادهم فقال ".. إنه من غير العملي تأجيل قرار عودة هؤلاء الضباط. فقد ظلوا بعيدين عن وطنهم لمدة طويلة وهم يقاتلون الأتراك، وأن فخامة اللورد كرزن يستنكر أية بادرة من جانب حكومة صاحب الجلالة في وضع العراقيل في طريق العودة إلى الوطن بالنسبة لرجال تطوعوا للخدمة في قضية الحلفاء، وساعدوا عمليات الحلفاء في سورية"(22) . وبعد المداولة تمّ الاتفاق أيضاً على تشكيل حكومة عربية وفق إرادة الشعب. فقد أُذيع بيان صادر من الحكومة البريطانية إلى الشعب العراقي، تم إرساله إلى وزارة شؤون الهند في 17 حزيران 1920 أي بعد انعقاد الجلسة التي أشرنا إليها في 16 حزيران، وقد أُذيع التصريح علناً في 20 تموز 1920 جاء فيه: ".. إن حكومة صاحب الجلالة تتوقع أن الانتداب سوف يتطلب منها صياغة قانون أساسي ضمن فترة محدودة لا تتجاوز سنتين على الأرجح، على أن يتم وضعه بالتشاور مع السلطات الأهلية. إن حكومة صاحب الجلالة أخذت بعين الاعتبار الرغبات المعلنة لشعب مابين النهرين في إعادة السير برسي كوكس. قد قررت تكليفه بالدعوة إلى تشكيل:‏
              1-مجلس دولة ذي طابع عربي غالب. يرأسه عربي.‏
              2-جمعية عامة تمثل شعوب مابين النهرين كمجموع.‏
              وسيكون من واجبه تهيئة قانون أساسي دائم بالتشاور مع هاتين الهيئتين المؤقتتين"(23) وأعلنت الحكومة إنهاء السير ارنولد ولسن كمندوب سامٍ في العراق، وتعيين السير برسي كوكس بدلاً عنه. وفي 21 أيلول 1920 نشرت جريدة العراق قرار الحكومة جاء فيه:‏
              "سيمثل السير برسي كوكس الحكومة البريطانية بصفة مندوب سامي،ـ وستقع عليه مسؤولية إدارة الحكومة الملكية في البلاد، إلى أن يتمكن من تنفيذ سياسة حكومة جلالة الملك لتأسيس حكومة عربية في العراق. وستكون مهمته هذه الأولى، التي يقوم بها عند سنوح الفرصة. وينتظر ورود السير برسي كوكس إلى البصرة في أول الشهر المقبل /تشرين الأول"(24) .‏
              وفعلاً تشكلت أول حكومة عربية في العراق برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب.‏
              (1) Wilson- mesopotamia- 1917- 1920- Aclush of Loyalties- A personal and Historical Record London- Oxford. University press- 1930 p. 234.‏
              (2) F. o. 371- 5128- E- 95- 12 February 1920.‏
              (3) F. o 371- 5128- E- 6453- From war office. 15 March 1920.‏
              (4) No- 52455- vol- copy Deleted from Revtera- 26 March 1920.‏
              (5) F. o. 882- 23- Mes- 20-1- 10 March 1920.‏
              (6) ليس تيدور هرتزل مؤسس الصهيونية‏
              (7) No. 52455- Vol. 2- To HISTZEL- No 3517 A. 19 March 1920.‏
              (8) No 52455- Vol. 1- 7 April 1920.‏
              (9) F. o. 371- 5068- Mimutes- of p. C. p. Dated- 13 April 1920.‏
              (10) F. o 371- 5228- E- 984- From Civil Conmissiner. Boyhad- Dated- 15 Auqast 1920.‏
              (11) F.0.371-5129-E6324-8June 1920.‏
              (12) F.0.371-5130-E6905. 4June 1920‏
              (13) F.0.371-5130-E7219-18 June 1920‏
              (14) F.0.371-52455-6948.9 June 1920‏
              (15) F.0.371- 5130-E-7219. 18 June 1920‏
              (16) F.0.371- 5228-E-8483- 4 June 1920‏
              (17) F.0.371- 5129-E.6324-18 June 1920‏
              (18) F.0.371-5128- E-6531- 15 Marsh 1920.‏
              (19) F.0.371- 5227- E- 6509- 9 June 1920.‏
              (20) F.0.371- 5227- E- 6509. Dated 16 June 1920.‏
              (21) F.0.371-4146-8610- 14-16 June 1920.‏
              (22) F.0.371-4146- 86170-14-16 June 1920.‏
              (23) F.0.371-5228-23 Jugy 1920.‏
              (24) جريدة العراق العدد /95/ 21/أيلول 1920.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #22
                رد: الثورة المنسية

                الفصل العشرون: -نتائج الثورة-
                حققت الثورة في دير الزور معظم أهدافها الكبرى التي سعت من أجلها، وإن لم تستطع أن تحقق الاستقلال التام للعراق، وإقامة حكومة عربية غير موالية لبريطانيا فيه، كما كان يريد ياسين ورمضان وبقية ضباط العهد. إلا أنها أنجزت نتائج هامة. وأهمها:‏
                1-تحرير منطقة دير الزور بريفها ومدنها من الاحتلال البريطاني، وإعادتها إلى القطر العربي السوري الذي كان وقتئذ يتمتع باستقلال تام وحكومة وطنية. وهو إنجاز لم يتحقق لأي ثورة وطنية قطرية في الوطن العربي.‏
                2-إشعال الثورة في كافة أنحاء العراق، وهو هدف أراده حزب العهد، حين اتخذ من دير الزور قاعدة انطلاق إلى كل العراق شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. ففي حين اشتعلت الثورة في دير الزور من 11 كانون الأول 1919. واستمرت حتى نهايات آب تقريباً من عام 1920. فإنها كانت تحريضاً أسهم في انطلاقة ثورة العشرين في الجنوب العراقي.‏
                3-نزعت ثورة دير الزور من نفوس القوميين العرب والعشائر والأهالي في وادي الفرات وغيره عامل الخوف والرهبة تجاه جيش بريطانيا العظمى، الذي كان في رأي الكثير من الضباط والزعماء السياسيين أن مواجهته ستكون ضرباً من الجنون.‏
                فقوات الثورة من عشائر بسيطة لم تتدرب في مدارس حربية أو أكاديميات عسكرية، سطرت نصراً في أكثر من موقع مع هذا الجيش العظيم، وألحقت به العديد من الخسائر الجسيمة في الأرواح والمعدات، وزرعت الرعب والخوف في نفوس الجنود البريطانيين. قالبة المعادلة رأساً على عقب، وأعطت جرعة عالية من الروح المعنوية للجماهير العربية الشعبية. فكتبت المس /بل/ حول انسحاب الجيش البريطاني أمام الثورة وتخليها عن دير الزور وعن الانصياع البريطاني لطلبات الثورة:‏
                "إن استعداد الإدارة البريطانية للنزول عند رغبة الحكومة العربية والانصياع إلى مقترح ينبعث منه أمل معقول في تطمين ادعاءاتها في الفرات، قد أسقطته من الحساب جمعية العهد العراقية ووكلاؤها، حيث لاحظت صعوبتنا الواضحة في المحافظة على خط مواصلاتنا الطويل. ضد هجمات القوات غير النظامية عليه. ثم اعتبرت موقفنا الاسترضائي العام دليلاً على ضعفنا العسكري. وعلى هذه الشاكلة كان موقفنا هذا شيئاً متحفزاً، وليس مهدئاً لها. وكانت كتابات الصحافة السورية المحلية عن المناوشات التي جرت معنا مهما كانت لهجتها غير معقولة تُقابل بالتصديق من الجميع، فقد كتبت تقول: إن الجيش البريطاني طرد من دير الزور، وأن القوات العربية أجبرته على إخلاء البوكمال، وأنه ينتظر الضربة الأخيرة التي سوف تنزل به في عانة على يد الأمير عبد الله وقوته التي لاتقهر. وفي الوقت الذي كانت هذه الإشاعات تتردد في مقاهي بغداد. بدأ العمل في البادية"(1) .‏
                ويشهد على رفع المعنويات العربية لدى الجمهور بعد أن تحققت عدة انتصارات لثورة دير الزور. ارنولد ولسن نفسه، فقد كتب: "إن تقلص حدودنا المستمر في الفرات الأعلى، والغارات على تل عفر وطرق الموصل. قوى الاعتقاد السائد لدى الناس، بأن وضعنا العسكري ليس في مقدوره ضبط العشائر في حال قيامها. ففي أوائل شهر حزيران أعطانا علي السليمان تحذيراً خطيراً. وهذا الرجل يُعدُّ من أكثر مؤيدينا ثباتاً بين شيوخ العشائر بالقرب من بغداد، وفي الوقت نفسه أعطانا مثل هذا التحذير شيخ مشايخ عنزة. وهو الذي أعطى آذاناً صماء للدعاية الثورية الموجهة إليه. فهو أعلن بجدية أننا إذا لم نحصل على بعض الانتصارات، فإنه لايستطيع أن يعطي جواباً مقنعاً لأفراد عشيرته.."(2) .‏
                4-إلحاق الهزيمة بالسياسة البريطانية التي يمثلها ولسن الذي يحتقر العرب، ويرفض إشراكهم في أية إدارة مدنية أو عسكرية بحجة عدم الأهلية، حتى وإن كانت الوظائف متدنية ومحتقرة. وكان ينظر إلى العرب المسلمين بعين الاحتقار والعداء.‏
                وأفشلت الثورة خطة ولسن الساعية إلى خلق صراع ديني وطائفي في العراق، وإلى تفضيل دين على دين فكتب يقول: "كنا نعتقد أن مساهمة بريطانيا في رفاهية البشرية تكمن في تشرب حكومتها بمبادئ المسيحية. وأن العراق بحاجة إلى ماهو أكثر من فوائد الحضارة المادية، كنا نعتقد أنه مالم يتشرب العراق بمبادئ المسيحية فإنه لم يكن صالحاً للحرية"(3) . لقد أثبتت الثورة أن العرب كتلة واحدة سواء من كان منهم مسلماً أو مسيحياً، وعلى مختلف مذاهبهم وطوائفهم.‏
                5-حققت الثورة في دير الزور وإن كانت بعد انفجار ثورة الجنوب إقامة دولة عربية في العراق، بعد الرفض المطلق من قبل وزارة شؤون الهند وولسن، كما نصب الملك فيصل ملكاً عليها.‏
                ثورة دير الزور الإرهاصات الأولى لثورة العشرين.‏
                إن دير الزور في ثورتها التي امتدت مايزيد على ثمانية أشهر كانت الإرهاصات الأولى التي أشعلت الثورة في العراق والتي تعتبر من أهم الثورات في وادي الرافدين. وقد أنكر بعض الباحثين أو المؤرخين أية صلة بها. إلا أن المنصفين من المؤرخين أقروا بذلك وجعلوا ثورة دير الزور أهم مقدمات ثورة العشرين. إن لم تكن ثورة الجنوب هي التواصل للثورة في دير الزور، ففي حين كانت تخبو وتهدأ في دير الزور نتيجة الاحتلال الفرنسي لسورية، وانقطاع الإمدادات المادية والسلاح عنها. تنفجر في الرميثة في 30 حزيران 1920 لتعم العراق بكامله. ومن الذين كتبوا إنصافاً للحقيقة نذكر منهم: د.علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث حيث يقول: "إن اندلاع الثورة المسلحة في الرميثة في 30 حزيران 1920. سبقت أمور أربعة يمكن اعتبارها عوامل ممهدة له هي: 1-أحداث دير الزور 2-واقعة تل عفر. 3-أحداث رمضان في بغداد. 4-نفي ابن شيرازي."(4) .‏
                *ويقول الدكتور وميض عمر جمال نظمي في كتابه القيم "الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق" مايلي: "في أيار /مايو 1920 كان الضباط العراقيون قد نظموا جيشاً فعالاً نسبياً، يمثل خطراً جدياً للإنكليز، ويهدد وجودهم في الموصل. إلا أن الغزو الفرنسي لسورية في تموز 1920، بدد حلم الضباط بـ تحرير العراق بحرمانهم من مؤازرة دمشق. ومع ذلك كان الدير وتل عفر مقدمة لانتفاضة عامة"(5) .‏
                *أما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فكتب: ".. والذين قدر لهم أن يكتبوا عن.. الثورة العراقية الكبرى" اختلفوا في بيان مقدماتها وعواملها، وأسبابها، حتى نتائجها. اختلافاً جعل دارسي تاريخ هذه النهضة على حداثة عهدها. غير مطمئنين إلى ماوصلت إليه يد البحث، ولا مؤمن بمعظم مانشر عنها. فقد وصفها فريق بأنها كانت جزءاً من ثورة "الملك حسين". وأدلى آخر بأنها كانت من متممات الحوادث الدامية التي جرت في دير الزور وتل عفر، وغالى فريق ثالث فقال: إنها كانت فراتية بحتة"(6) .‏
                *ويعترف وزير في العهد الملكي جلال بابان بقوله: "إن من الواجب أن أذكر بأن حصول الحجاز على استقلاله كدولة مستقلة، وما كان جار من قبل الملك فيصل بن الحسين من جهود فعالة لضمان استقلال سورية، ومقاومة الاستعمار الفرنسي لها. والحركة الاستقلالية التي قام بها العراقيون في دير الزور وتل عفر. فقد كان لهذه النتائج الأثر البالغ في نفسية العراقيين"(7) .‏
                *أحمد قدري طبيب الملك فيصل ومرافقه قال: ".. كان رمضان الشلاش قد أخرج الإنكليز منها في 11 كانون 1919، وعين فيصل مولود مخلص حاكماً لها يقصد دير الزور). وقد سافر إلى الدير بعد إعلان الاستقلال بقليل جميل المدفعي وعلي جودت وتحسين علي لترؤس الحركة. ولم يكد ينتهي شهر آذار حتى بدأت العصابات تشن هجماتها، وتبلو بلاءها في العراق، وكان في بادرة أعمالها تخريب سكة الحديد بين سامراء والشرقاط. كما أن قوى جميل المدفعي هاجمت تل عفر، وقتلت الميجر باولو والكابتن استوارت، ونسفت دار الحكومة بالديناميت بمن فيها، فسيرت إليه القيادة البريطانية من الموصل قوى كبيرة، فانسحب إلى الدير. وكان ذلك إيذاناً باندلاع ثورة العراق"(8) .‏
                *الدكتور أحمد طربين المؤرخ العربي المعروف قال "لما نشبت ثورة العراق في ربيع عام 1920 على الإنكليز، وتألفت في دمشق لجنة خاصة للإشراف على الثورة، وإجراء الاستعدادات اللازمة لإنجاحها. وكان ذلك أن توترت العلاقات بين بريطانيا والحكومة العربية المؤقتة. بل إن أول قوة وطنية عراقية أضرمت نار تلك الثورة خرجت من دير الزور السورية"(9) .‏
                (1) المس غرتيرودبل- "فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر الخياط -بيروت- 1971- ص417-418.‏
                (2) د. علي الوردي -لمحات من تاريخ العراق الحديث -مصدر سابق ص147.‏
                (3) Sunday Times- 20 September 1920.‏
                (4) د.علي الوردي- لمحات تاريخية من تاريخ العراق الحديث -ج5- ص130- مصدر سابق.‏
                (5) د. وميض جمال عمر نظمي -الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق. مصدر سابق ص195.‏
                (6) عبد الرزاق الحسني -الثورة العراقية الكبرى- مصدر سابق ص101.‏
                (7) المصدر السابق ص206.‏
                (8) د. أحمد قدري- مذكراتي عن الثورة العربية - طبعة ثانية- وزارة الثقافة السورية- دمشق 1993-ص207.‏
                (9) د.أحمد طربين- الوحدة العربية بين 1916-1945- القاهرة- المطبعة الكمالية- 1959-‏
                ص26.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #23
                  رد: الثورة المنسية

                  الفصل الحادي والعشرون: ثورة دير الزور. ونهاية الحكم الفيصلي في دمشق
                  مع ازدياد عمليات الثورة في العراق، انطلاقاً من دير الزور منذ نهايات آذار، وحتى أواسط شهر حزيران 1920. شعرت الحكومة البريطانية أن وجودها في العراق خاصة، والأردن وفلسطين عامة، يتعرض لخطر قد يؤدي إلى اضطرارها إلى الجلاء عن تلك المناطق. كما حدث في دير الزور والميادين والبوكمال، فحرب العصابات مستمرة منطلقة من دير الزور إلى عمق العراق حيث يتوسع مسرح عملياتها الحربية، الذي أصبح يمتد من شمال بغداد إلى الموصل إضافة إلى مناطق دليم والرمادي. ومع ماتحققه من نتائج يتراكم لدى الرأي العام في العراق احتقاناً لانفجار ثورة عارمة لايمكن تقدير نتائجها.‏
                  وتلك خطة قد رسمت بدقة من قبل قيادة حزب العهد. فيقول أحد قادتها العقيد جميل المدفعي الذي أصبح فيما بعد رئيساً لعدة وزارات في العهد الملكي): "اضطر الإنكليز إلى الانسحاب من دير الزور فعين مولود مخلص حاكماً عسكرياً فيه. وبدأت الحركات وتوسعت الأعمال هناك. فاتخذت دير الزور قاعدة للبدء بأعمال الثورة، وإرسال العصابات إلى داخل العراق. وقررت جمعية العهد تعيين هيئة لإدارة الحركات من جميل المدفعي. وعلي جودت الأيوبي من دمشق، وتحسين علي من حلب. فسافرت مع نخبة ممتازة من الضباط والجنود العراقيين المسرحين. وبعض المجاهدين من أمثال فهد البطيخ من رؤساء شمر الطوقة، الذي أبلى بلاء حسناً في شمال الموصل والشرقاط. كما أن الكثير من الضباط العراقيين وصلوا من العراق للاشتراك في الثورة. باشرت الهيئة بتأليف عصابات متعددة، أرسلت البعض منها إلى أعالي الفرات، وقد ساعدها رؤوساء العكيدات والدليم. أمثال نجرس القعود ومشرف الدندل. وغيرهم. فصارت تقطع الطريق، وتهاجم المراكز الإنكليزية مابين عانة والدير، ومابين تكريت والشرقاط"(1) .‏
                  أمام ازدياد حرب العصابات المنطلقة من دير الزور وبدعم واضح من قبل الحكومة العربية التي عينها الملك فيصل في دمشق، سعت الحكومة البريطانية بصورة سرية إلى تسريع الاحتلال الفرنسي لسورية للتخلص من تلك الحكومة، وإنهاء الثورة في دير الزور، بقطع الإمدادات المادية والعسكرية عنها والإسراع بسقوط الحكومة الفيصلية في دمشق. وتم هذا برفع اليد عن فيصل وحكومته من قبل الحكومة البريطانية، والطلب من فيصل بالرضوخ لشروط وإنذارات الجنرال غورو.‏
                  ففي الأول من حزيران 1920 بعث الملك فيصل رسالة إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، يطلب منه التدخل لإيقاف الحركات العسكرية المضادة لسورية من قبل قوات غورو الفرنسية، إلا أن فيصل لم يتلق أي جواب منه. ووجه في 10 حزيران 1920 رسالة إلى الجنرال اللنبي قائد القوات البريطانية في فلسطين يستغرب فيها سياسة بريطانية، التي تعمل على إرضاء فرنسا، ولا تكترث بنداءات الحكومة العربية، ويطلب بترجٍ إلى دعم موقفه ضد فرنسا(2) . وأرسل فيصل مرافقه العميد نوري السعيد إلى لندن، ليبحث أمر إنذارات غورو، وطالباً بدعم بريطاني ضد فرنسا إلا أن نوري السعيد فشل في مهمته.‏
                  وتتابعت صرخات فيصل مستغيثاً بالحليف البريطاني عبر رسائل وبرقيات، وجهت لقادة بريطانيا بدءاً من لويد جورج وحتى كرزن واللنبي وغيرهم. وكانت أهم رسائل الاستغاثة هي التي أرسلها الملك فيصل إلى الجنرال اللنبي في 11 تموز 1920 أي قبل الاحتلال بأيام جاء فيها: ".. أدعوكم باسم الإنسانية، ومصالحكم ومصالح حلفائكم. التدخل حالاً. كما تدخلتم من قبل لمنع الخطر، وإراقة الدماء، وقبل أن يلهب غورو النار في المنطقة المسالمة، حيث لم يأخذ بعين الاعتبار مايترتب على حربه الجديدة من نتائج. والعالم كله شاهد على إخلاص العرب. على ماعملوه لحفظ السلام"(3) . وذهبت صرخات فيصل مع دخان مدافع غورو. واحتلت دمشق، وطرد فيصل منها من قبل الغزاة المستعمرين.‏
                  إن الحكومة البريطانية أرادت بدعمها أوحتى وقوفها على الحياد في معركة فيصل وحكومته العربية مع الفرنسيين انتقاماً منه. وتنفيذاً لعقود ومعاهدات استعمارية بين بريطانيا وفرنسا، إلا أن بريطانيا كانت تريد إزاحة هذه الحكومة التي سببت لها المتاعب في العراق. ويقول المجاهد فوزي القاوقجي في مذكراته :"كانت حوادث البوكمال. والاستيلاء على دير الزور وتنظيم ثورة العراق، وإمدادها بالأسلحة والأموال. كانت تستدعي الإنكليز والفرنسيين بالنظر إلى الحكومة العربية بالارتياب"(4) . ويذكر القائد المجاهد فوزي القاوقجي الذي كان آنئذ ضابطاً من ضباط الملك فيصل، وعاش أحداث المرحلة". وكان من أهم العوامل التي حدت ببريطانيا إلى تقديم النصح لفيصل لقبول إنذار غورو، رغبتها في التخلص من الحكومة العربية الفتية في سورية، والقضاء على نفوذ دمشق، التي أضحت معقلاً لأحرار رجالات العرب خاصة رجالات العراق الذين أمدوا الثورة القائمة آنئذ في العراق بالأموال والرجال والأسلحة.. وساندوها بنفوذهم السياسي والأدبي. وعجز الإنكليز عن إخمادها مع كثرة ماحشدوا من قواهم، وفقدوا عدداً عظيماً من القتلى والجرحى يزيد عن العشرة آلاف جندي. كما فقدوا بعض معداتهم التي استولى عليها الثوار، كما أسروا كثيراً من ضباطهم وجنودهم"(5) .‏
                  ويذكر مؤلف آخر /سليمان موسى/ في تأثير ثورة دير الزور على الإنكليز، واندفاعهم ليتعاونوا مع الفرنسيين لإسقاط الحكومة العربية في دمشق، ويُسّرعوا مااتفقوا عليه من قبل سايكس-بيكو" أو مااتفق عليه لويد جورج مع كليمنصو، فقد باتت ثورة دير الزور من الخطورة على وضعهم في العراق مما يستدعي قطع شريان الحياة عنها. وهي الحكومة العربية في دمشق فيقول: "في هذه الفترة وقع حادث آخر كان له أيضاً تأثيره العميق على مجرى الأحداث، وذلك أن حاكم قضاء الرقة العسكري رمضان شلاش قام بمهاجمة بلدة دير الزور، التي كان العرب قد احتلوها في كانون الأول 1918، ثم استولى عليها الإنكليز في الشهر التالي. والاستيلاء عليها في 11 كانون الأول 1919. وقد أثار هذا العمل سخط الإنكليز، وزاد في اعتقادهم بأن الوضع في دمشق أخذ يعكس آثاره على العراق وفلسطين، وبأنه من الأفضل عدم تشجيع العرب على مقاومة الفرنسيين. وربما كان من نتائج حركة رمضان شلاش هذه أن الحكومة البريطانية قررت بعد هذا بأيام التخلي عن لواء دير الزور بكامله. وبقي مع سورية منذ ذلك الحين"(6) .‏
                  كان عامل الثورة في دير الزور أحد عوامل الدفع البريطاني الذي لم يشر إليه إلا القليل في احتلال سورية من قبل الفرنسيين. وهكذا لعبت ثورة العهد دورها السياسي والعسكري في العراق والمنطقة العربية، فحققت عدداً من الأهداف كما أشرنا. فساهمت في تاريخ العراق الحديث وأعادت الضباط العراقيين الذين كانوا في سورية. وقد احتل معظمهم مناصب سياسية وعسكرية أدت دورها التاريخي في العراق والوطن العربي.‏
                  (1) فريق المزهر آل فرعون الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920- ونتائجها -بغداد- مطبعة النجاح -1952- ص333.‏
                  (2) د.علي سلطان -تاريخ سورية 1918-1920- حكم فيصل بن الحسين- دمشق- دار طلاس- 1987-ص347.‏
                  (3) المصدر السابق ص357.‏
                  (4) فوزي القاوقجي- مذكرات- تقديم وإعداد د.خيرية قاسمية - دمشق- دار النمير -طبعة ثانية 1995- ص78.‏
                  (5) المصدر السابق ص82.‏
                  (6) سليمان موسى- الحركة العربية 1908-1924- بيروت- دار النهار للنشر- 1970- ص532.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق

                  يعمل...
                  X