رد: الثورة المنسية
الفصل الرابع عشر : أزمة داخلية تواجه الثورة
التحاق الضباط والجنود العراقيين
دعا مولود مخلص كافة الضباط والجنود العراقيين المتواجدين في سورية إلى الالتحاق بالثورة في دير الزور، من أجل تشكيل جيش نظامي لتحرير العراق، ورأى أن وجود ضباط وجنود نظاميين بين العشائر المحاربة، يحسن في الهجوم والدفاع والإغارة على القوات الإنكليزية. واعتبر مولود الجنود والضباط العراقيين عليهم تقع المسؤولية الأولى في تحرير بلادهم من الاحتلال الإنكليزي.
وفعلاً ترك عدد من الجنود العراقيين والضباط عملهم ضمن تشكيلات الجيش العربي في سورية. والتحقوا بالجيش الذي بدأ يتكون في دير الزور بقيادة مولود مخلص، قدرت أعداد الملتحقين من الجنود بما يزيد على /300/ جندي. ومن الضباط مابين 30 إلى 40 ضابطاً.i)
إلا أن عدداً منهم كان يظن أن مولود يملك أموالاً طائلة ستصرف عليهم، فجاؤوا بطمع مادي لا وطني. إلا أن الأيام بخرّت تلك الأحلام، فعرفوا أن مولود لا يملك مالاً ولا ذهباً كما هم يتصورون، بل هو شخص قومي أرادهم من أجل تحرير بلادهم من خلال حسهم الوطني والقومي. ويتبين أن الوعي الوطني والقومي لدى هؤلاء لم يكن إلى الدرجة التي تجعل منهم يضحون في سبيل وطنهم بأنفسهم، دون أية مكاسب مادية.
متاعب رمضان
حين شعر عدد من الجنود والضباط بأن مولود لا يملك مايحلمون من مال، قاموا بأعمال مشينة في دير الزور في أواخر شباط عام 1920، حيث قاموا بالاعتداء على المواطنين لسلبهم أموالاً أو مواد عينية. وشكلوا دوريات عسكرية أقامت حواجز على الطريق العام، لإيقاف المسافرين وسلبهم أموالهم، وخاصة الذهب، بحجة منع التهريب من سورية إلى العراق. مما أغاظ الناس في المدينة. الذين عبروا لمخلص عن استيائهم من هذه التصرفات السيئة. وبسبب هذه الممارسات سقطت سمعتهم داخل المدينةii)، مما أساء لتكوين الجيش الذي بدأ مولود مخلص إعداده، كما زُرع الخوف في قلوب المسافرين خاصة الذين يملكون مالاً وذهباً من المصادرة مما أنشأ أزمة حادة بين مولود والمتمردين عليه .
أزمة مع المتمردين ورمضان شلاش:
كانت التجارة الدولية والعربية تمر مابين سورية والعراق على طريق حلب ـ دير الزور ـ بغداد) مروراً على ضفاف الفرات منذ العصور القديمة، حيث أطلق عليه الرومان طريق الفرات. وعلى مر العصور والأنظمة بقي طريق النهر طريق التجارة، وحتى نهاية السلطنة العثمانية. ولكن بعد الاحتلال البريطاني للعراق. وإقامة الحكومة العربية في سورية. أصبح نقل البضائع والأموال /تهريباً/، حيث أقيمت حدوداً لم تكن موجودة عبر التاريخ إلا في عام 1919. فظهرت مسألة تهريب الذهب من سورية إلى العراق إحدى المسائل المستعصية للمحتل وللدولة السورية. ورغم القوانين الجمركية لم تتوقف عمليات التهريب للذهب، وحتى بعد تحرير دير الزور من الاحتلال البريطاني. لهذا أصدرت حكومة فيصل في دمشق حلاً لمسألة تهريب الذهب. حيث قررت مصادرة الذهب المهرب من تجار التهريب أو الشخص المهرب له، واستبداله بالعملة المصرية الورقية، وإعادة هذا المال لصاحب الذهب مع فرض غرامة عليه بحسم /10%/ من كمية المال المقدرة لقيمة هذا الذهب.
وحدث أن صادرت شرطة دير الزور في أواخر شباط 1920 كمية من الذهب، كانت في سيارة قادمة من دمشق قدرت بسبعين ألف ليرة ذهبية، وهي ثروة دولة صغيرة أو إمارة في ذلك الوقت. سال لعاب عدد من القادة والجنود العراقيين مع زعماء العشائر المتواجدين في المدينة لهذاالذهب. وطالبوا بأن يوزع عليهم، إلا أن مولود مخلص رفض وذلك بصفته حاكماً عسكرياً يمثل الحكومة العربية. وعمل على تطبيق قانون الحكومة العربية حول هذه المسألة، فاستبدل الذهب بالعملة المصرية، وحسم عشرة بالمئة من قيمته لصالح الدولة العربية، تطبيقاً للقانون. فثارت حفيظة الجنود والضباط المغامرين والذين كانوا في الحقيقة وبالاً على مولود والثورة. ورفضوا الإجراء القانوني. وطالبوا بأن يأخذوا الذهب بالقوة، فنشب خلاف بين الطرفين حول أحقية لمن الذهب. للدولة أم للمتمردين وزعماء العشائر؟...
وفي ذروة هذا الخلاف بين مولود وعدد من الجنود والضباط وزعماء العشائر، وصل رمضان شلاش إلى دير الزور قادماً من دمشق. وحين علم بقصة الذهب أراد استغلال هذا الخلاف لصالحه، وتصفية الحساب مع مولود مخلص، فوقف إلى جانب المطالبين بتوزيع الذهب. مما عزز موقف المتمردين في مواجهة مولود. كما أن مولود وجد مساندة من قبل عدد من الضباط والجنود العراقيين الوطنيين، ومن المنتمين حقاً لحزب العهد، وأيضاً من وجهاء المدينة وأهلها والوطنيين فيها. فرفض مولود رفضاً قاطعاً التنازل عن موقفه القانوني، ويذكر محمد طاهر العمري: "أن الوقاحة بلغت برمضان ومن أتباعه من العراقيين أنهم أرادوا قتل مولود وتنصيب رمضان مكانه. وكادوا يفعلون ذلك لو لم يتدخل بعض المخلصين من العراقيين ويحولوا دونه"iii).
واجه الموقف غير اللائق من رمضان استياءً شديداً من قبل الوطنيين، ووجهاء المدينة، والمواطنين. على الرغم من أن المدينة قد تغاضت عن الإساءة السابقة، لما قدم رمضان من فعل وطني في تحرير دير الزور، إلا أن هذه الحادثة أدت إلى ظهور شعور بالغضب وعدم رضا الجميع لموقفه الندّي مع مولود مخلص من أجل الذهب المصادر. ومحاولته إعادة زعامته والتخلص من مولود مخلص على حساب الثورة.
أما كيف عاد رمضان بعد إقصاءه إلى دير الزور، فيبدو أن الأمير فيصل أراد أن يُعزّز به موقف الثورة. ويدعم وضع مولود مخلص، من خلال علاقات رمضان مع العشائر المحيطة بدير الزور، وكونه شيخ عشيرة البوسرايا الواسعة الانتشار في شمال دير الزور. ويذكر رمضان في مذكراته أنه حين غادر دير الزور ووصل إلى قرية جيرور، أرسل شقيقه حمد إلى الأمير فيصل يخبره بقدومه، فأرسل فيصل جميل مردم إليه."حيث أبلغوني سلام جلالته وأن أحضر إلى دمشق بأمان. وبالفعل كان الأمير قد هيأ جناحاً خاصاً لضيافتهم، وأنا أنزلني عند جميل مردم. وبعد ذلك طلبني بصورة سرية في دار طبيبه الخاص الدكتور قدري، وبعد أن أفهمته بحركتي وأعمالي، أثنى عليَّ. وقال لي: يجب أن تداوم على عملك ضد المستعمرين وزودني بالمال والسلاح. وعدت إلى دير الزور".iv) إلا أن رمضان وجد الفرصة سانحة للانتقام من مولود. ومن خصومه الذين أقصوه، فكانت مسألة الذهب التي وجدها حين وصل إلى دير الزور تتأزم بين مولود وعدد من العراقيين، فأراد استغلالها لتصفية حساباته. إلا أن هذا العمل كاد يودي بالثورة ويعرضها للانتكاس والفشل.
وخلال الأزمة حصل أصحاب الذهب على قرار من حكومة فيصل يسمح لهم باستعادة أموالهم، بعد تطبيق القانون عليها، وأعاد مولود الذهب لأصحابه بعد أن خصم 10% من قيمته لصالح الحكومة العربية، مما أغضب الطامعين به. فحاول مولود استمالة رمضان إليه فأعطاه ثلاثة آلاف ليرة عثمانية، إلا أن رمضان شلاش بقي يُعادي مولود مخلص، ويضع العراقيل أمام خططه في اتجاه تعزيز الثورة.v).
إبعاد رمضان مرة ثانية عن دير الزور:
في الوقت الذي كانت الثورة بحاجة ماسة إلى وحدة الصف وإلى موقف موحد ضد الاحتلال البريطاني للعراق، وإلى مساندة مولود لتحقيق أهداف حزب العهد العراقي، والانتباه إلى وضع القوات الإنكليزية التي تستعد لاحتلال مدينة الميادين. كان النزاع مع رمضان والمتعاونين معه يفسد كثير من الخطط المرسومة. وخاصة أن رمضان وأنصاره تعدوا الخط الأحمر في أعمالهم. ففي حين كانت جبهة الميادين التي أشرنا إليها. تستعد لمواجهة القوات الإنكليزية قام رمضان شلاش بإرسال مجموعة من أنصاره لقطع الهاتف بين الجبهة والقيادة في دير الزور، وتخريب خطوط المواصلات بين الطرفين. مما أثار حنق الثوار ومولود مخلص شخصياً، فطلب من رمضان ومجموعته عدم المساهمة في جبهة الميادين، والخروج من دير الزور وعدم دخولهاvi). وكان لهذا القرار أثره على رمضان وأنصاره. فاشتدت الأزمة بين مولود ومخلص.
ومن حسن حظ الثورة أن جاء إلى دير الزور العقيد علي جودت الأيوبي وهو من قادة حزب العهد العراقي، ومن الذين شاركوا في الثورة العربية، وله مركز مرموق في النظام الفيصلي في دمشق. فتدخل بين الطرفين لإصلاح البين. وإعادة اللحمة بين قوى الثورة، ويقول في مذكراته.."فبذلنا أقصى الجهد لإصلاح ذات البين فلم ننجح، فارتأينا إبعاد رمضان شلاش عن المنطقة أولاً، ولكنه كان مصرّاً على البقاء فيها، ولا يريد الانفكاك عنها، فاضطررنا إلى الاستعانة بالملك فيصل. وأعلمناه بالوضع السائد في منطقة دير الزور، والتمسنا من جلالته باسم المصلحة العامة أن يستدعي رمضان شلاش إلى الشام أولاً. وأن يبقيه فيها مدة مناسبة أن أمكن ذلك.
كما اقترحنا على جلالته أن يستدعي مولود مخلص الذي أنجز من الأعمال الوطنية مايشكر عليها، وأن يعين متصرفاً مدنياً لتنظيم الإدارة التي تحتاج إليها المنطقة. فأجاب فيصل التماسنا فوراً".vii).
إضافة إلى خلافات رمضان شلاش مع مولود مخلص، كانت أيضاً القيادة البريطانية بدورها قد غضبت من عودة رمضان إلى دير الزور، واعتبرته نكثاً للوعد الذي قطعه فيصل لها بإبقاء رمضان في دمشق، ومحاسبته على ما أقدم عليه في دير الزور في 11 كانون الأول 1919 بحق قواتها. فأبرق ولسن إلى وزارة الهند في 24 آذار 1920 يعلمها بأن رمضان لم يعتقل من قبل فيصل، وعاد إلى دمشق، وهو يعمل مع مولود في دعم جبهة الميادين، ورفض إعادة القوات البريطانية المحتلة إليها، فقد جاء في نص البرقية:".. إن رمضان شلاش لم يعتقل قط. وقد عاد الآن إلى الميادين. وهو يسمى زعيم الحزب العربي. وذلك بالتواطؤ.إن لم يكن بالمساعدة الفعالة من جانب مولود باشا في دير الزور الذي هو مرشح فيصل أيضاً..."viii).
وباستدعاء فيصل لرمضان شلاش إليه مرة أخرى انتهت أخطر أزمة مرت بها الثورة في دير الزور، والتي بدأت في تحولاتها الثورية التي غيرت وجه المنطقة.
اشتداد العمليات العسكرية والعشائرية ضد الإنكليز:
تصاعدت العمليات القتالية ضد القوات البريطانية في شهر آذار 1920 من قبل القوات العشائرية، التي بدأت تتعزز بما يرسله حزب العهد ومولود مخلص إليها من الضباط والجنود العراقيين، لتنظيم العمليات القتالية، ووضع الخطط الهجومية، وإقامة الكمائن للقوافل العسكرية، وتحسين أساليب القتال في مواجهة القوات الإنكليزية النظامية. ومن أبرز هذه العمليات التي جرت في منطقة البوكمال بقيادة المجاهد مشرف الدندل. حيث استطاعت قواته إسقاط طائرة بريطانية، سقطت بالقرب من بلدة القائم.. "حصيبة" وهي تقع الآن محاذاة الحدود السورية العراقية قرب مدينة البوكمال، وأدى سقوط الطائرة إلى مقتل طيارها وضابط بريطاني كبير فيها برتبة "كولونيل" عقيد. ونجح كمين نصب لقافلة عسكرية بريطانية، في إحداث خسائر كبيرة فيها، حيث قتل معظم جنودها، واستولى الثوار على أربع سيارات مصفحة إنكليزية تحمل رشاشات. ونجح كمين آخر لقافلة من الجند الإنكليزي كانت تعبر /وادي علي/ بين البوكمال وبلدة القائم العراقية حالياً، في إحداث خسائر جسيمة في الجنود الإنكليز حيث قتل منهم /129/ جندياًix). فأثارت هذه الخسائر رعباً في أوساط الجنود الإنكليز، وحنق القيادة البريطانية في العراق. فدعا كل من أرنولد ولسن الحاكم العام البريطاني في بغداد وقائد قواته الجنرال هالدن إلى تقديم طلب سريع لوزارة الحرب البريطانية بضرورة استخدام الطيران الحربي لقصف مدينة دير الزور وقراها، إلا أن وزارة الحرب البريطانية اعتذرت عن استخدام الطيران الحربي في مناطق الحكم العربي. وبل يمكن استخدامه في مناطق الاحتلال البريطاني ضد العشائر الثائرةx) ضمن الحدود العراقية.
i) محمد مهدي البصير ـ تاريخ القضية العراقية ـ بغداد ـ 1923 ـ ص 125.
ii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق السياسية ـ مصدر سابق ـ ج3 ـ ص 365 ـ 366.
iii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق العسكرية ـ مصدر سابق ج3 ـ ص 371.
iv) مذكرات رمضان الخطية ـ مصدر سابق ـ ص 63-64.
v) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ ج2 ـ ص 54.
vi) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ مصدر سابق ، ج2 ـ ص 53-55.
vii) علي جودت ـ "ذكريات"، بيروت ـ 1967، ص 94.
viii) F . o . 371 - 5129 - E 2811-24- march 1920.
ix) هنري شارل ـ عشائر الغنامة في الفرات الأوسط ـ مصدر سابق ص 26.
x) F . o- 371 - 5128- E - 1106 - to . G. H. Q . Baghdad . 6. March 1920
دعا مولود مخلص كافة الضباط والجنود العراقيين المتواجدين في سورية إلى الالتحاق بالثورة في دير الزور، من أجل تشكيل جيش نظامي لتحرير العراق، ورأى أن وجود ضباط وجنود نظاميين بين العشائر المحاربة، يحسن في الهجوم والدفاع والإغارة على القوات الإنكليزية. واعتبر مولود الجنود والضباط العراقيين عليهم تقع المسؤولية الأولى في تحرير بلادهم من الاحتلال الإنكليزي.
وفعلاً ترك عدد من الجنود العراقيين والضباط عملهم ضمن تشكيلات الجيش العربي في سورية. والتحقوا بالجيش الذي بدأ يتكون في دير الزور بقيادة مولود مخلص، قدرت أعداد الملتحقين من الجنود بما يزيد على /300/ جندي. ومن الضباط مابين 30 إلى 40 ضابطاً.i)
إلا أن عدداً منهم كان يظن أن مولود يملك أموالاً طائلة ستصرف عليهم، فجاؤوا بطمع مادي لا وطني. إلا أن الأيام بخرّت تلك الأحلام، فعرفوا أن مولود لا يملك مالاً ولا ذهباً كما هم يتصورون، بل هو شخص قومي أرادهم من أجل تحرير بلادهم من خلال حسهم الوطني والقومي. ويتبين أن الوعي الوطني والقومي لدى هؤلاء لم يكن إلى الدرجة التي تجعل منهم يضحون في سبيل وطنهم بأنفسهم، دون أية مكاسب مادية.
متاعب رمضان
حين شعر عدد من الجنود والضباط بأن مولود لا يملك مايحلمون من مال، قاموا بأعمال مشينة في دير الزور في أواخر شباط عام 1920، حيث قاموا بالاعتداء على المواطنين لسلبهم أموالاً أو مواد عينية. وشكلوا دوريات عسكرية أقامت حواجز على الطريق العام، لإيقاف المسافرين وسلبهم أموالهم، وخاصة الذهب، بحجة منع التهريب من سورية إلى العراق. مما أغاظ الناس في المدينة. الذين عبروا لمخلص عن استيائهم من هذه التصرفات السيئة. وبسبب هذه الممارسات سقطت سمعتهم داخل المدينةii)، مما أساء لتكوين الجيش الذي بدأ مولود مخلص إعداده، كما زُرع الخوف في قلوب المسافرين خاصة الذين يملكون مالاً وذهباً من المصادرة مما أنشأ أزمة حادة بين مولود والمتمردين عليه .
أزمة مع المتمردين ورمضان شلاش:
كانت التجارة الدولية والعربية تمر مابين سورية والعراق على طريق حلب ـ دير الزور ـ بغداد) مروراً على ضفاف الفرات منذ العصور القديمة، حيث أطلق عليه الرومان طريق الفرات. وعلى مر العصور والأنظمة بقي طريق النهر طريق التجارة، وحتى نهاية السلطنة العثمانية. ولكن بعد الاحتلال البريطاني للعراق. وإقامة الحكومة العربية في سورية. أصبح نقل البضائع والأموال /تهريباً/، حيث أقيمت حدوداً لم تكن موجودة عبر التاريخ إلا في عام 1919. فظهرت مسألة تهريب الذهب من سورية إلى العراق إحدى المسائل المستعصية للمحتل وللدولة السورية. ورغم القوانين الجمركية لم تتوقف عمليات التهريب للذهب، وحتى بعد تحرير دير الزور من الاحتلال البريطاني. لهذا أصدرت حكومة فيصل في دمشق حلاً لمسألة تهريب الذهب. حيث قررت مصادرة الذهب المهرب من تجار التهريب أو الشخص المهرب له، واستبداله بالعملة المصرية الورقية، وإعادة هذا المال لصاحب الذهب مع فرض غرامة عليه بحسم /10%/ من كمية المال المقدرة لقيمة هذا الذهب.
وحدث أن صادرت شرطة دير الزور في أواخر شباط 1920 كمية من الذهب، كانت في سيارة قادمة من دمشق قدرت بسبعين ألف ليرة ذهبية، وهي ثروة دولة صغيرة أو إمارة في ذلك الوقت. سال لعاب عدد من القادة والجنود العراقيين مع زعماء العشائر المتواجدين في المدينة لهذاالذهب. وطالبوا بأن يوزع عليهم، إلا أن مولود مخلص رفض وذلك بصفته حاكماً عسكرياً يمثل الحكومة العربية. وعمل على تطبيق قانون الحكومة العربية حول هذه المسألة، فاستبدل الذهب بالعملة المصرية، وحسم عشرة بالمئة من قيمته لصالح الدولة العربية، تطبيقاً للقانون. فثارت حفيظة الجنود والضباط المغامرين والذين كانوا في الحقيقة وبالاً على مولود والثورة. ورفضوا الإجراء القانوني. وطالبوا بأن يأخذوا الذهب بالقوة، فنشب خلاف بين الطرفين حول أحقية لمن الذهب. للدولة أم للمتمردين وزعماء العشائر؟...
وفي ذروة هذا الخلاف بين مولود وعدد من الجنود والضباط وزعماء العشائر، وصل رمضان شلاش إلى دير الزور قادماً من دمشق. وحين علم بقصة الذهب أراد استغلال هذا الخلاف لصالحه، وتصفية الحساب مع مولود مخلص، فوقف إلى جانب المطالبين بتوزيع الذهب. مما عزز موقف المتمردين في مواجهة مولود. كما أن مولود وجد مساندة من قبل عدد من الضباط والجنود العراقيين الوطنيين، ومن المنتمين حقاً لحزب العهد، وأيضاً من وجهاء المدينة وأهلها والوطنيين فيها. فرفض مولود رفضاً قاطعاً التنازل عن موقفه القانوني، ويذكر محمد طاهر العمري: "أن الوقاحة بلغت برمضان ومن أتباعه من العراقيين أنهم أرادوا قتل مولود وتنصيب رمضان مكانه. وكادوا يفعلون ذلك لو لم يتدخل بعض المخلصين من العراقيين ويحولوا دونه"iii).
واجه الموقف غير اللائق من رمضان استياءً شديداً من قبل الوطنيين، ووجهاء المدينة، والمواطنين. على الرغم من أن المدينة قد تغاضت عن الإساءة السابقة، لما قدم رمضان من فعل وطني في تحرير دير الزور، إلا أن هذه الحادثة أدت إلى ظهور شعور بالغضب وعدم رضا الجميع لموقفه الندّي مع مولود مخلص من أجل الذهب المصادر. ومحاولته إعادة زعامته والتخلص من مولود مخلص على حساب الثورة.
أما كيف عاد رمضان بعد إقصاءه إلى دير الزور، فيبدو أن الأمير فيصل أراد أن يُعزّز به موقف الثورة. ويدعم وضع مولود مخلص، من خلال علاقات رمضان مع العشائر المحيطة بدير الزور، وكونه شيخ عشيرة البوسرايا الواسعة الانتشار في شمال دير الزور. ويذكر رمضان في مذكراته أنه حين غادر دير الزور ووصل إلى قرية جيرور، أرسل شقيقه حمد إلى الأمير فيصل يخبره بقدومه، فأرسل فيصل جميل مردم إليه."حيث أبلغوني سلام جلالته وأن أحضر إلى دمشق بأمان. وبالفعل كان الأمير قد هيأ جناحاً خاصاً لضيافتهم، وأنا أنزلني عند جميل مردم. وبعد ذلك طلبني بصورة سرية في دار طبيبه الخاص الدكتور قدري، وبعد أن أفهمته بحركتي وأعمالي، أثنى عليَّ. وقال لي: يجب أن تداوم على عملك ضد المستعمرين وزودني بالمال والسلاح. وعدت إلى دير الزور".iv) إلا أن رمضان وجد الفرصة سانحة للانتقام من مولود. ومن خصومه الذين أقصوه، فكانت مسألة الذهب التي وجدها حين وصل إلى دير الزور تتأزم بين مولود وعدد من العراقيين، فأراد استغلالها لتصفية حساباته. إلا أن هذا العمل كاد يودي بالثورة ويعرضها للانتكاس والفشل.
وخلال الأزمة حصل أصحاب الذهب على قرار من حكومة فيصل يسمح لهم باستعادة أموالهم، بعد تطبيق القانون عليها، وأعاد مولود الذهب لأصحابه بعد أن خصم 10% من قيمته لصالح الحكومة العربية، مما أغضب الطامعين به. فحاول مولود استمالة رمضان إليه فأعطاه ثلاثة آلاف ليرة عثمانية، إلا أن رمضان شلاش بقي يُعادي مولود مخلص، ويضع العراقيل أمام خططه في اتجاه تعزيز الثورة.v).
إبعاد رمضان مرة ثانية عن دير الزور:
في الوقت الذي كانت الثورة بحاجة ماسة إلى وحدة الصف وإلى موقف موحد ضد الاحتلال البريطاني للعراق، وإلى مساندة مولود لتحقيق أهداف حزب العهد العراقي، والانتباه إلى وضع القوات الإنكليزية التي تستعد لاحتلال مدينة الميادين. كان النزاع مع رمضان والمتعاونين معه يفسد كثير من الخطط المرسومة. وخاصة أن رمضان وأنصاره تعدوا الخط الأحمر في أعمالهم. ففي حين كانت جبهة الميادين التي أشرنا إليها. تستعد لمواجهة القوات الإنكليزية قام رمضان شلاش بإرسال مجموعة من أنصاره لقطع الهاتف بين الجبهة والقيادة في دير الزور، وتخريب خطوط المواصلات بين الطرفين. مما أثار حنق الثوار ومولود مخلص شخصياً، فطلب من رمضان ومجموعته عدم المساهمة في جبهة الميادين، والخروج من دير الزور وعدم دخولهاvi). وكان لهذا القرار أثره على رمضان وأنصاره. فاشتدت الأزمة بين مولود ومخلص.
ومن حسن حظ الثورة أن جاء إلى دير الزور العقيد علي جودت الأيوبي وهو من قادة حزب العهد العراقي، ومن الذين شاركوا في الثورة العربية، وله مركز مرموق في النظام الفيصلي في دمشق. فتدخل بين الطرفين لإصلاح البين. وإعادة اللحمة بين قوى الثورة، ويقول في مذكراته.."فبذلنا أقصى الجهد لإصلاح ذات البين فلم ننجح، فارتأينا إبعاد رمضان شلاش عن المنطقة أولاً، ولكنه كان مصرّاً على البقاء فيها، ولا يريد الانفكاك عنها، فاضطررنا إلى الاستعانة بالملك فيصل. وأعلمناه بالوضع السائد في منطقة دير الزور، والتمسنا من جلالته باسم المصلحة العامة أن يستدعي رمضان شلاش إلى الشام أولاً. وأن يبقيه فيها مدة مناسبة أن أمكن ذلك.
كما اقترحنا على جلالته أن يستدعي مولود مخلص الذي أنجز من الأعمال الوطنية مايشكر عليها، وأن يعين متصرفاً مدنياً لتنظيم الإدارة التي تحتاج إليها المنطقة. فأجاب فيصل التماسنا فوراً".vii).
إضافة إلى خلافات رمضان شلاش مع مولود مخلص، كانت أيضاً القيادة البريطانية بدورها قد غضبت من عودة رمضان إلى دير الزور، واعتبرته نكثاً للوعد الذي قطعه فيصل لها بإبقاء رمضان في دمشق، ومحاسبته على ما أقدم عليه في دير الزور في 11 كانون الأول 1919 بحق قواتها. فأبرق ولسن إلى وزارة الهند في 24 آذار 1920 يعلمها بأن رمضان لم يعتقل من قبل فيصل، وعاد إلى دمشق، وهو يعمل مع مولود في دعم جبهة الميادين، ورفض إعادة القوات البريطانية المحتلة إليها، فقد جاء في نص البرقية:".. إن رمضان شلاش لم يعتقل قط. وقد عاد الآن إلى الميادين. وهو يسمى زعيم الحزب العربي. وذلك بالتواطؤ.إن لم يكن بالمساعدة الفعالة من جانب مولود باشا في دير الزور الذي هو مرشح فيصل أيضاً..."viii).
وباستدعاء فيصل لرمضان شلاش إليه مرة أخرى انتهت أخطر أزمة مرت بها الثورة في دير الزور، والتي بدأت في تحولاتها الثورية التي غيرت وجه المنطقة.
اشتداد العمليات العسكرية والعشائرية ضد الإنكليز:
تصاعدت العمليات القتالية ضد القوات البريطانية في شهر آذار 1920 من قبل القوات العشائرية، التي بدأت تتعزز بما يرسله حزب العهد ومولود مخلص إليها من الضباط والجنود العراقيين، لتنظيم العمليات القتالية، ووضع الخطط الهجومية، وإقامة الكمائن للقوافل العسكرية، وتحسين أساليب القتال في مواجهة القوات الإنكليزية النظامية. ومن أبرز هذه العمليات التي جرت في منطقة البوكمال بقيادة المجاهد مشرف الدندل. حيث استطاعت قواته إسقاط طائرة بريطانية، سقطت بالقرب من بلدة القائم.. "حصيبة" وهي تقع الآن محاذاة الحدود السورية العراقية قرب مدينة البوكمال، وأدى سقوط الطائرة إلى مقتل طيارها وضابط بريطاني كبير فيها برتبة "كولونيل" عقيد. ونجح كمين نصب لقافلة عسكرية بريطانية، في إحداث خسائر كبيرة فيها، حيث قتل معظم جنودها، واستولى الثوار على أربع سيارات مصفحة إنكليزية تحمل رشاشات. ونجح كمين آخر لقافلة من الجند الإنكليزي كانت تعبر /وادي علي/ بين البوكمال وبلدة القائم العراقية حالياً، في إحداث خسائر جسيمة في الجنود الإنكليز حيث قتل منهم /129/ جندياًix). فأثارت هذه الخسائر رعباً في أوساط الجنود الإنكليز، وحنق القيادة البريطانية في العراق. فدعا كل من أرنولد ولسن الحاكم العام البريطاني في بغداد وقائد قواته الجنرال هالدن إلى تقديم طلب سريع لوزارة الحرب البريطانية بضرورة استخدام الطيران الحربي لقصف مدينة دير الزور وقراها، إلا أن وزارة الحرب البريطانية اعتذرت عن استخدام الطيران الحربي في مناطق الحكم العربي. وبل يمكن استخدامه في مناطق الاحتلال البريطاني ضد العشائر الثائرةx) ضمن الحدود العراقية.
i) محمد مهدي البصير ـ تاريخ القضية العراقية ـ بغداد ـ 1923 ـ ص 125.
ii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق السياسية ـ مصدر سابق ـ ج3 ـ ص 365 ـ 366.
iii) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق العسكرية ـ مصدر سابق ج3 ـ ص 371.
iv) مذكرات رمضان الخطية ـ مصدر سابق ـ ص 63-64.
v) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ ج2 ـ ص 54.
vi) تحسين العسكري ـ الثورة العربية الكبرى ـ النجف ـ 1938 ـ مصدر سابق ، ج2 ـ ص 53-55.
vii) علي جودت ـ "ذكريات"، بيروت ـ 1967، ص 94.
viii) F . o . 371 - 5129 - E 2811-24- march 1920.
ix) هنري شارل ـ عشائر الغنامة في الفرات الأوسط ـ مصدر سابق ص 26.
x) F . o- 371 - 5128- E - 1106 - to . G. H. Q . Baghdad . 6. March 1920
تعليق