إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الثورة المنسية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الثورة المنسية

    الثورة المنسية

    - زبير سلطان قدوري -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب 2000
    مقدمة
    الفصل الأول: جمعية العهد
    الفصل الثاني: طرفا الصراع في العهد العراقي ياسين الهاشمي والعنف.
    -الفصل الثالث: - الإدارة البريطانية في العراق.
    الفصل الرابع : أسباب قيام الثورة في دير الزور -
    الفصل الخامس: دير الزور والأتراك
    الفصل السادس : دير الزور بين العراق.. والشام
    الفصل السابع: الاحتلال الإنكليزي لدير الزور
    الفصل الثامن : عوامل ثورة دير الزور
    الفصل التاسع : بريطانيا تعتقل ياسين الهاشمي
    الفصل العاشر: انفجار الثورة
    الفصل الحادي عشر: الأشراف والثورة
    الفصل الثاني عشر : بريطانيا.. والثورة.
    الفصل الثالث عشر : العهد يستبدل رمضان شلاش ويعين مولود مخلص
    الفصل الرابع عشر : أزمة داخلية تواجه الثورة
    الفصل الخامس عشر: قيادة جديدة للثورة.
    الفصل السادس عشر : تحرير الميادين والبوكمال من الاحتلال البريطاني
    الفصل السابع عشر: ثورة دير الزور تمتد إلى العمق العراقي
    الفصل الثامن عشر: ثورة مستمرة.. مع ثورة العشرين
    الفصل التاسع عشر: الإدارة البريطانية في العراق.. والثورة
    الفصل العشرون: -نتائج الثورة-
    الفصل الحادي والعشرون: ثورة دير الزور. ونهاية الحكم الفيصلي في دمشق

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: الثورة المنسية

    مقدمة
    كان عام 1919. يموج بالانتفاضات والثورات في العديد من بقاع الوطن العربي بدءاً من مراكش مروراً بمصر ولبنان وسورية والعراق، تحدثت عنها كتب التاريخ العربي التي تملأ المكتبات، وتناولتها المناهج الدراسية في المدارس والجامعات العربية، وأُلفت حولها قائمة طويلة من الدراسات والبحوث الأكاديمية وغيرها. إلا ثورة دير الزور التي تفجرت في كانون الأول عام 1919، بقيت وحدها في طيّ النسيان، فلم يُفرد لها كتاب خاص يبحث في دوافعها السياسية والعسكرية والاجتماعية، أو تطوراتها، وأحداثها ونتائجها، وانعكاساتها على المستويين الإقليمي والعربي.‏
    مما يثير الدهشة أن عدداً كبيراً من الباحثين والكتاب والدارسين في قطرنا لا يعرف عنها شيئاً. حتى إنه لم يسمع بها، وإن سمِعَ فلا تزيد معرفته عن اسم رمضان شلاش قام بحركة في دير الزور. لكن أين؟ ومتى؟ وكيف؟ فذلك يجهله جهلاً مطلقاً!!.‏
    وحين قمت بالبحث والدراسة في وثائق تلك الحركة، ووصلت إلى بعض إنجازاتها، وحقائقها، وتحدثت عنها لعدد من الباحثين والدارسين، رأيت علامات التعجب والاستغراب تعلو وجوههم وطلب البعض أن أسميها بالثورة المجهولة. لأن الغالبية العظمى من الباحثين، وحتى من أهالي دير الزور أنفسهم يجهل عنها الكثير.‏
    ثورة دير الزور لم تكن ثورة عادية، أو انتفاضة مدينة انتهت في حينها، أو صدام جرى بين شعب ومستعمر وانتهى، بل كانت ثورة قومية شاملة بكل الأبعاد، حملت أهدافاً وشعارات عربية كبيرة. وقد قادها تنظيم قومي عربي معروف، وشاركت في أحداثها قوى شعبية وعسكرية، وامتدت ساحة عملياتها الحربية أراض واسعة من سورية والعراق، ولم تتوقف تلك العمليات حتى بعد الاحتلال الفرنسي. وبقيت تواجه القوات البريطانية في العمق العراقي حتى أوائل شهر آب عام 1920. وأشغلت أحداثها الدوائر العربية والبريطانية معاً طيلة فترة نهوضها.‏
    وثورة دير الزور هي الوحيدة من بين الثورات العربية في زمانها، استطاعت أن تحقق أهدافها. في حين أخفقت بقية الثورات، فلم تستطع الثورات العربية أن تنجز الاستقلال، وجلاء القوات الأجنبية المحتلة عن أراضيها، إلا ثورة دير الزور وحدها التي أجبرت القوات الإنكليزية بالجلاء المتكرر عن أراض ومدن عربية، وكادت أن تجبر القوات البريطانية على الجلاء من الموصل ومن ولاية دليم في العراق. بعد أن أجلتهم عن مدينة "عانة" ولولا الاحتلال الفرنسي لدمشق، وسقوط الحكومة العربية الداعم الرئيس للثورة لحققت كثيراً من أهداف الثورة العربية. بعد أن وصلت إلى تكريت والشرقاط واحتلت تل عفر قرب الموصل.‏
    وبفضل الثورة عادت دير الزور بمدنها وريفها إلى قطرها العربي السوري، بعد أن كانت تتبع الحاكم السياسي البريطاني في بغداد. واستطاعت أن تفجر ثورة في العراق بعد ستة أشهر على انطلاقتها. ثم لتحيل العراق إلى بركان ثوري في وجه المستعمر البريطاني.‏
    وساهمت ثورة دير الزور وثورة العشرين في العراق، في بناء دولة عربية خالصة في العراق، بعد أن كاد يلحق بالهند وغيره. فأسهمت ثورة دير الزور إسهاماً قومياً رائعاً في تسطير أنصع صفحات تاريخ العرب الحديث. وتحتاج إلى جهد متواصل من الباحثين والدارسين للكشف عن أحداثها اليومية، ودراسة نتائجها على الصعيد الإقليمي والقومي. وأرجو أن أكون قد أسهمت في الكشف عن وجه هذه الثورة العظيمة لتكون شعلة وضاءة للأجيال العربية القادمة، ولتكون مثالاًُ للجيل العربي القادم الذي أحاطت به قوى البغي من كل مكان، تريد أرضه وثروته، وحتى وجوده. فكانت ثورات الأجداد مثالاً لأجيال المستقبل وطريقاً لتحقيق أهداف أمتنا العربية العظيمة.‏
    زبير سلطان قدوري.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الثورة المنسية

      الفصل الأول: جمعية العهد
      في 28 تشرين الثاني عام 1913. أسس الضباط العرب العاملون في الجيش العثماني جمعية عربية سرية في العاصمة العثمانية الأستانة، أطلقوا عليها اسم "العهد" وقد لعب الضابط عزيز علي المصري(1) دوراً رئيسياً في تأسيسها. وضع المؤسسون أهدافاً كبيرة لجمعيتهم. ومنها:‏
      1. إن العهد جمعية سياسية سريّة هدفها الاستقلال الذاتي للبلاد العربية، واتحادها مع الأستانة على أسس مماثلة لتلك القائمة بالنمسا.‏
      2. ينبغي الاحتفاظ بالخلافة الإسلامية بيد العثمانيين.‏
      3. تولي الجمعية اهتماماً خاصاً بسلامة الأستانة وحمايتها من الدول الغربية والاستعمارية.‏
      4. طيلة ستمائة عام ظل الأتراك يحتلون الحاميات الشرقية في وجه الغرب، وعلى الأمة العربية أن تُعدّ نفسها، لتكون القوة الاحتياطية لهذه الحاميات"(2) .‏
      وكتب أحد مؤسسي الجمعية الضابط "نوري السعيد" في مذكراته "إن غاية جمعية العهد كانت الحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية. على أن يشترك العرب والترك في الإدارة العامة للدولة على أساس اتحادي. وكان بين الأتراك من يؤيد هذه الفكرة. ويؤازرها مثل مصطفى كمال باشا"(3) .‏
      حافظت الجمعية على سريتها التامة. وقد علمت المخابرات التركية بوجودها، إلا إنها فشلت فشلاً ذريعاً بكشف المؤسسين والمنظمين لها، وظهر عجز الأجهزة الأمنية التركية واضحاً خلال المحاكمات التي جرت لمؤسس الجمعية المقدم عزيز علي المصري في نيسان عام 1914. بأن تقدم أي دليل على تشكيله لجمعية مناهضة للنظام، والتي كان عقوبتها الإعدام آنذاك، واقتصرت الاتهامات التي وجهت إليه، بأنه اختلس من أموال الجيش العثماني. وقام بتسليم مدينة برقة الليبية للإيطاليين أثناء وجوده فيها مقابل رشوة مالية(4) . علماً أن الاتهامين باطلين لما عرف عنه بالأمانة والشجاعة، إنما كان الاتهام بحقد شخصي من وزير الحربية آنذاك أنور باشا. ولخلافات عميقة جرت بين الطرفين أثناء الحرب في ليبيا، ولسبب ثان هو دفاع عزيز عن بلاده العربية وحريتها.‏
      ويذكر الفريق الركن طه الهاشمي في مذكراته عن جمعية العهد، أن عزيز المصري أملى عليه برنامج جمعية العهد قبل اعتقاله. وقد أبلغ نوري السعيد بالأمر، فنسخ نوري البرنامج على مسودة ثم نسخة إلى عدة نسخ. ووزعها على أعضاء الجمعية (5) . كما كلف عزيز المصري طه الهاشمي بدعوة الضباط العرب للانضمام إلى الجمعية بسرية مطلقة، وأن يقسم العضو اليمين على السيف والقرآن. بأن يحافظ على سرية الجمعية، ويناضل من أجل تحقيق برنامجها، وقد استطاع طه الهاشمي أن يؤسس عدة فروع للجمعية حين تم نقله من الأستانة إلى اليمن. فاتصل بالعديد من الضباط العرب أثناء سيره لعمله الجديد. فافتتح للجمعية فروعاً عدة في عدد من المدن العربية. مثل بيروت التي ترأس فرعها شريف الشريف. وانضم إلى فرع دمشق صادق الجندي وخالد الحكيم، أما فرع الموصل فترأسه ياسين الهاشمي وضم علي جودت. ومولود مخلص، أما فرع بغداد فضم شخصيات منهم حمدي الباجة جي(6) . ورشيد الخوجة. وعبد الحميد الشالجي. وتحسين العسكري وعاصم الجلبي. أما فرع البصرة فترأسه الأمين الباجه جي.‏
      ومن الذين انتسبوا إليها من سورية: محمد إسماعيل الطباخ. ومصطفى وصفي. وسليم الجزائري وأمين لطفي. ويحيى كاظم- وعارف قوام. ومحيي الدين الجبان. من دمشق). وعلي النشاشيبيالقدس) ومن العراق- نوري السعيد- جميل المدفعي. إسماعيل الصغار- عبد الله الدليمي- تحسين علي رشيد الخوجة- حميد الشالجي.(7)
      ـ وقد خسرت الجمعية ثلاثة شهداء في مجزرة جمال باشا السفاح، وهم سليم الجزائري وأمين لطفي. وعلي النشاشيبي.‏
      حافظت جمعية العهد على سريتها كما أشرنا رغم المحاولات العنيفة التي قامت بها الاستخبارات التركية إلا أنها لم تنجح. وقد كتب أحد ضباط الاستخبارات التركية عزيز بك في كتابه الاستخبارات والجاسوسية في الدولة العثمانية) منهاج حزب العهد الذي ورد سابقاً. وقال إنه يتضمن:‏
      "1-جمعية العهد جمعية سرية تعمل لاستقلال البلاد العربية الداخلي. متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر والنمسا 2-بقاء الخلافة الإسلامية بأيدي العثمانيين. 3-حماية الأستانة من مطامع الدول الأوربية لأنها رأس الشرق 4- إن المزايا الأخلاقية لحفظ كيان الأمة السياسي"(8) .‏
      ويذكر جورج انطونيوس أن تقارير المخابرات تزايدت حول نشاطات الجمعيات القومية، ومنها أن "الجيش مليء بالخلايا الثورية، وإنجلترة وفرنسة هما عملاء في البلاد يحرضون على الثورة. ومن المتوقع نزول قوات الحلفاء على شواطئ الشام، وأن بعض الضباط العرب قد تعهدوا بمساعدة الحلفاء حينما ينزلون هناك. ومن النادر أن تستطيع المخابرات العسكرية متابعة غوامض المؤامرات السياسية، ولم تكن هيئة أركان الجيش الرابع مستثناة من هذه القاعدة، فبينما كانت تصغي بأذنيها للشائعات كان أنفها عاجزاً عن ملاحقة رائحتها حتى مصدرها، وكانت الأخبار في جوهرها صحيحة. ولكن لم يكن من الممكن اقتفاء أثرها للوصول إلى أحد المتآمرين"(9) . وأمام العجز التركي عن اكتشاف التنظيمات داخل الجيش رغم تراكم التقارير بوجودها، عمل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية إلى رفع تقرير إلى أنور باشا وزير الحربية بضرورة نقل وتوزيع الضباط العرب، وإبعادهم عن سورية. فاستجاب له وزير الحربية، فتم نقل الفرقة الخامسة والعشرين التي تضم مجموعة كبيرة من الضباط العرب، والتي ينتمي عدد كبير منهم إلى جمعية العهد في حزيران 1915 إلى تركيا للقتال في جبهة غاليبولي. وبعدها تم نقل عدد من الكتائب العربية من بلاد الشام، وإحلال كتائب تركية بدلاً عنها(10) .‏
      ورغم ممارسة التعذيب والقتل أحياناً وإعدام ثلاثة من قادة العهد هم سليم الجزائري وأمين لطفي وعلي النشاشيبي. لم تستطع المخابرات التركية أن تتكشف تنظيم العهد الذي نجح في الحفاظ على سرية تنظيمه حتى جلاء الترك عن البلاد العربية.‏
      - العهد والثورة العربية‏
      شارك تنظيم العهد في الثورة العربية من خلال ضباطه الذين التحقوا بها، وأسهموا إسهاماً كبيراً في تشكيل الجيوش العربية الأربع التي ظهرت بعد قيام الثورة العربية في الحجاز، وفي المعارك الحاسمة والكمائن والاستخبارات ضد الترك. وكان عدد كبير من هؤلاء الضباط قد التحقوا في السنة الأولى من انفجار الثورة. فمنهم من جاء على ظهر باخرة سواء من ميناء البصرة أو من شواطئ مصر، والبعض تطوع في جيشها وهو في معسكرات الأسر الإنكليزية، ومنهم من هرب ليلاً متخفياً من جبهة القتال التركية إلى خطوط القتال الإنكليزية.‏
      وفي تشكيل أول وزارة للشريف حسين بعد قيام الثورة، عين زعيم العهد التاريخي عزيز علي المصري وزيراً للحربية، وبقي ستة أشهر فيها، وغادر الحجاز بعد أن اختلف مع الشريف حسين لأسباب عديدة أهمها عدم ثقة عزيز المصري بالإنكليز والفرنسيين حلفاء الشريف حسين فلدى البلدين مخططات استعمارية تتصادم مع مبادئ وطموحات وأهداف جمعيته- جمعية العهد، وقد علم كبقية الضباط العرب وسياسي الأحزاب العربية بالاتفاقات السرية التي عقدت بين الطرفين لاقتسام بلاد الشام والعراق. مما حدا به أن يتصل بالفريق فخري باشا قائد الجيش التركي المحاصر في المدينة المنورة مع قواته، ويعرض عليه تحالفاً ضد القوات الغربية، مقابل أن يوافق الترك على منح العرب استقلالاً ذاتياً. وحين علم الشريف حسين بهذا الاتصال، أعطى المصري إجازة إجبارية لمصر، وبدون عودة.‏
      أما ضباط العهد وغيرهم من الضباط العرب حين سمعوا باتفاقات سايكس بيكو ووعد بلفور، أوقفوا القتال ضد الأتراك. وكادت الأمور أن تتحول إلى كارثة على الإنكليز والشريف حسين معاً. لولا تدخل الأمير فيصل شخصياً. الذي أقنع الضباط العرب باستئناف القتال. ومتابعة تحرير بلادهم، فدخلوا سورية في تشرين الأول 1918. وبعد تشكل الإدارة العربية في دمشق. شارك ضباط العهد فيها، واحتلوا أرفع المناصب العسكرية والإدارية.‏
      - انقسام جمعية العهد إلى عهدين‏
      بدأت بذور الانقسام داخل جمعية العهد، منذ أن كانت القوات العربية تتمركز في جنوب الأردن. حيث حدث خلاف بين الضباط السوريين والعراقيين، بسبب تولي الضباط العراقيين المناصب القيادية في الجيش العربي المكلف بتحرير بلاد الشام، في حين كان الضباط السوريون يتولون المناصب الثانوية. وقد سادهم شعور بأنهم أحق بتولي قيادة الجيش الزاحف لتحرير بلادهم. وإن كانت القيادة لإخوانهم في العروبة. إضافة إلى أن السوريين كانوا يشعرون أن فيصل يفضل الضباط العراقيين عليهم. وكاد الخلاف يصل إلى حد انشقاق الجيش العربي، مما يؤثر على قوته ووحدته. فسارع نوري السعيد بالسفر مع وفد رفيع إلى القاهرة، لبحث الخلاف مع قيادات سورية وطنية فيها. فاجتمع في بيت كامل القصاب مع عدد من القياديين السوريين، فشرح لهم خطورة الأمر. فاتفقوا على أن يرسل كامل القصاب رسالة للضباط السوريين تحثهم على الوحدة مع إخوانهم العراقيين، وبأنه قادم إليهم قريباً. وعاد السعيد من القاهرة. ثم بعد فترة جاء القصاب إلى معسكر القيادة في العقبة، والتقى بالضباط السوريين وأقنعهم بإنهاء الخلاف. كما التقى بالأمير فيصل، وحثه على عدم التفضيل بين الضباط العرب، وأن يتولى الضباط السوريون مناصب متقدمة كإخوانهم العراقيين في الجيش العربي، فوعده فيصل بتغيير سياسته. وقبل أن يعود كامل القصاب إلى القاهرة، التقى في اجتماع عام ضم الضباط السوريين والعراقيين، وحثهم على الوحدة في سبيل القضية العربية. وزيادة في الاطمئنان طلب منهم أن يقسموا على يمين كتبه بنفسه ونص على التالي: "أقسم بالله. ألا أشتغل إلا للبلاد العربية. والأمة العربية. وأن أُقاوم كل من يمدَّ يده للأجانب. وكل سلطة تتعاون مع الأجانب. وكل سلطة استبدادية في البلاد" وأقسم الضباط الحاضرون على اليمين، وقبّلوا بعضهم، وانتهى الخلاف. وغادر كامل القصاب المعسكر عائداً إلى القاهرة على أن يصدر الأمير فيصل تشكيلات جديدة للقيادات العسكرية العربية ينصف فيها السوريين. إلا أن الأمير فيصل أصدر تشكيلاته العسكرية الجديدة فاحتفظ العراقيون بالمناصب العليا وأعطيت للسوريين قيادات هامشية. فسقط اتفاق القصاب والأمير فيصل(11) . فعاد الخلاف بين الطرفين الذي استمر إلى مابعد بعد انتصار الثورة وتولي فيصل الحكم في سورية. فجمّدت الجمعية حتى انقسمت إلى حزبين. حزب عهد سوري، وحزب عهد عراقي.‏
      - حزب العهد العراقي.‏
      شكل عدد من الضباط العراقيين وبعض السياسيين المتواجدين في دمشق عام 1919 حزب عهد عراقي وضعوا له برنامجاً. جاء في مادته الأولى. ما يلي.‏
      "إن غاية الجمعية الأساسية هي كما يلي:‏
      أ‌- استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية. وداخل حدوده الطبيعية وهي: يقسم العراق إلى ثلاث مناطق: الأدنى. والأوسط. والأعلى. ويمتد حدود الفرات شمالي دير الزور. وضفة دجلة الممتدة من قرب شمالي دياربكر إلى خليج البصرة. ويشمل ضفتي دجلة والفرات من الشمال واليمين المحدود بالمواقع الطبيعية.‏
      ب‌- أن يكون للعراق الخيار في من يشاء من الأمم الراقية للمعاونة في الشؤون الفنية والاقتصادية إذا اقتضت الحاجة على أن لا تمس تلك المساعدة بالاستقلال التام.‏
      ج- إنهاض الشعب العراقي ليباري أرقى الأمم.‏
      د- السعي لخير الأمة العربية."(12) .‏
      - انقسام الضباط العراقيين‏
      لم يكن الضباط العراقيين في حزب العهد العراقي على رأي واحد تجاه مستقبل العراق السياسي والعلاقة مع بريطانيا المحتلة له، فقد انقسموا إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى ترفض الوجود البريطاني في بلادهم وتدعو إلى الاستقلال التام، ويترأس المجموعة الفريق ياسين باشا الهاشمي(13) المعروف بمعاداته للإنكليز والفرنسيين. والمجموعة الثانية كانت ترى أن لا مستقبل للعراق بدون التحالف مع بريطانيا، ووجودها في العراق للأخذ بيده والنهوض به، ويتزعم هذه المجموعة نوري السعيد(14) 3. وجعفر العسكري(15) ، وبقيت مجموعة وسطية بين المجموعتين فهي تريد الاستقلال التام للعراق ولكن دون استخدام العنف وإثارة بريطانيا، إلا أن هذه المجموعة انضمت بعد انفجار ثورة دير الزور، وتداعياتها، واكتشاف النوايا البريطانية تجاه العراق إلى المجموعة الأولى. ومارست العمل الثوري والقتالي ضد الوجود البريطاني في العراق.‏
      (1) عزيز علي المصري 1880- 1964) من أسرة عربية عريقة سكنت العراق وانتقلت إلى مصر، درس الثانوية في القاهرة، والتحق بالكلية العسكرية في الأستانة، ثم في كلية الأركان فتخرج منها بتفوق عام 1904. انضم إلى جمعية الاتحاد والترقي، وشارك في انقلابها العسكري عام 1908، ترك الاتحاد والترقي بسبب معاداتها للعرب. أسس مع الشهيد سليم الجزائري الجمعية القحطانية، التي نادت بمملكة ذات تاجين العرب والترك). غمل على وقف الحرب في اليمن عام 1910حارب بشجاعة وبطولة في ليبيا ضد الغزو الإيطالي. عاد إلى الأستانة عام 1913 ، وأسس جمعية العهد، اعتقل في 9 شباط 1914، وحكم عليه بالإعدام، وأطلق سراحه في 21 نيسان 1914 ونفي إلى مصر. تولى وزارة الحرب في حكومة الشريف حسين الأول عام 1916، واختلف مع الشريف بسبب ارتباطاته مع الإنكليز وعاد إلى مصر.‏
      (2) أحمد عزت الأعظمي- القضية العربية. أسبابها. مقدماتها. تطورها. نتائجها. بغداد. مطبعة الشعب 1931- ح4- ص23.‏
      (3) نوري السعيد- مذكرات- بغداد- مطبعة الجيش- 1947- ج1- ص5.‏
      (4) جورج انطونيوس- يقظة العرب- بيروت. دار العلم للملايين- طبعة ثانية 1967- ص197.‏
      (5) طه الهاشمي- مذكرات- بيروت- دار الطليعة- 1967- ص255.‏
      (6) عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى- صيدا- مطبعة عرفان 1952- ص43.‏
      (7) عزة دروزه- الحركة العربية الحديثة، تاريخ ومذكرات وتعليقات- صيدا 1950- ص33.‏
      (8) عزيز بك- الاستخبارات والجاسوسية في الدولة العثمانية- تعريب فؤاد ميداني- بيروت- ..‏
      ص28/29.‏
      (9) جورج أنطونيوس- يقظة العرب- مصدر سابق ص279.‏
      (10) المصدر السابق ص279.‏
      (11) د. علي سلطان- تاريخ 1908- 1918- دار طلاس دمشق ج1- 1987 ص469.‏
      (12) عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى مصدر سابق ص44.‏
      (13) ياسين باشا الهاشمي 1882- 1937). ولد في بغداد، وتعلم في الأستانة في الكلية العسكرية ثم مدرسة الأركان. فتخرج ضابط أركان حرب عام 1905. انتسب إلى جمعية العهد. وخلال وجوده في دمشق انضم أيضاً إلى الجمعية العربية الفتاة. فكان حلقة الوصل بين الجمعيتين قاتل في النمسا ضد الروس في غاليسيا. قاتل مع الترك ضد الجيش العربي في الشونة. اختفى بعد وصول فيصل إلى دمشق 1918. فقد رفض الانضمام إلى الثورة العربية لرفضه التحالف مع بريطانيا وفرنسا. وكان في عام 1915 حرض فيصل على الثورة حين كان رئيساً لأركان الفرقة الثالثة عشر. عفا عنه فيصل، وعين رئيساً لأركان الجيش ديوان الشورى) رغم اعتراضات الإنكليز.‏
      (14) نوري السعيد 1888- 1958) ولد في بغداد، وتخرج من ثانويتها عام 1903. وتابع دراسته في الأستانة في كليتها العسكرية وتخرج من الأكاديمية العسكرية عام 1906، وانتسب إلى جمعية العهد 1913، وهرب بعد افتضاح أمره إلى البصرة، وبقي برعاية طالب النقيب حتى هرب إلى الحجاز، والتحق بالثورة العربية، وتولى عدة مراكز قيادية في الجيش العربي. وبعد تولي فيصل الحكم في سورية أصبح قائداً لموقع دمشق وسكرتيره الخاص. وبعد عودته إلى العراق تولى رئاسة الوزارات عدة مرات. كان معجباً جداً ببريطانيا حتى العشق مما اعتبره معظم العرب أحد عملائها في المنطقة وأدت هذه المحبة وسياسته الموالية للغرب إلى قتله وسحله في شوارع بغداد بعد قيام ثورة 14 تموز 1958.‏
      (15) جعفر العسكري 1884- 1936) درس في بغداد والموصل عام 1901. درس في الكلية العسكرية في الأستانة، وتخرج منها ملازماً في عام 1904، أرسل إلى ألمانيا في عام 1910 لدراسة العلوم العسكرية، وبقي حتى عام 1914. لم يشترك في تأسيس العهد. شارك في القتال في ليبيا واعتقل في جبهة القتال من الإنكليز 1916 والتحق بالثورة العربية وأصبح قائداً لجيش فيصل. ثم والياً على حلب. وبعد عودته للعراق تولى وزارة الدفاع ثم رئاسة الحكومة. قتل بعد قيام ثورة بكر صدقي عام 1936.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الثورة المنسية

        الفصل الثاني: طرفا الصراع في العهد العراقي ياسين الهاشمي والعنف.
        أتصف الفريق ياسين الهاشمي بكرهه الشديد للإنكليز والفرنسيين معاً بسبب مخططاتهما الاستعمارية ضد التطلعات العربية في تحرير بلادهم من السيطرة التركية، وتحقيق دولة عربية مستقلة. وقد آلت إليه زعامة جمعية العهد بعد رحيل عزيز المصري بعيداً عن مسرح الأحداث في بلاد الشام. الذي بقي في مصر بعد عودته من تركيا. وقد خدمت الظروف ياسين الهاشمي بين عامي 1914- 1916 في توسيع قاعدة المنتسبين لجمعية العهد بين الضباط. فقد كان رئيساً للفرقة الثالثة عشرة التركية والتي انتقلت من الموصل إلى دمشق، ورابطت حولها فأجرى العديد من الاتصالات مع الضباط، ونسبهم إلى الجمعية. والتقى بالمواطنين والسياسيين السوريين، الذين رأوا فيه الشخصية العسكرية القيادية التي تخدم قضيتهم العربية. كانوا يتصلون به عن طريق نسيب البكري وغيره من رجالات جمعية الفتاة العربية ونظموه بها على الرغم من عدم معرفتهم به كزعيم لجمعية العهد السرية. وكان لانتسابه للجمعيتين أن جعل منه همزة الوصل بينهما. ومنسقاً لتحركاتهما. وقد كان التقى الأمير فيصل عند زيارته إلى دمشق في آذار 1915، وتعرف على انطباعاته تجاه الاحتلال التركي، وممارسات القمع والاستبداد التي يقوم بها الترك ضد العرب. ففاتحه في تفجير ثورة ضد الأتراك، وعرض عليه قيادة الثورة وأعلمه بوجود عدد كبير من الضباط والجنود العرب في الفرق والكتائب العسكرية التركية المتواجدة في دمشق وبلاد الشام، وبقدرته على الاتصال بالضباط وموالاتهم له.‏
        كما عرض عليه الانضمام إلى جمعية العهد، فوافق فيصل على الرغم من انضمامه إلى العربية الفتاة من قبل. وقد ناقش فيصل الهاشمي عن إمكانياته ومجموعته العسكرية في تفجير الثورة.‏
        فسأله الأمير فيصل عما يطلبه من الحجاز؟ وعن نوع المساعدة التي يقترحها؟ أجابه ياسين:‏
        -لا نطلب شيئاً. ولا نحتاج إلى شيء. فعندنا كل شيء. وما عليك إلا أن تقودنا وتسير في الطليعة.‏
        وقال فيصل: -إننا متفقون مع رؤساء الحجازية. وهم مخلصون لنا، ومستعدون للعمل معنا.‏
        وكان جواب ياسين: لا حاجة لنا بهم. فعندنا كل شيء"(1) .‏
        لقد كانت تقديرات ياسين الهاشمي للثورة مضمونة بسبب ما لديه من أعداد كبيرة من الجنود والضباط العرب المتواجدين في الشام أثناء زيارة فيصل إليها في آذار 1915. ولكن هذه الأعداد بدأت تختفي حين زار فيصل دمشق مرة ثانية في أيار 1916. فقد تمّ نقل العديد منها، كما أشرنا سابقاً من قبل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية. بعد انتشار الجمعيات المناهضة للترك في القوات العربية، وتراكم التقارير للمخابرات العسكرية التركية عن نشاط جمعية العهد بين الضباط والجنود العرب، واستحالة الكشف عن أسماء أعضاء تنظيم الجمعية. وبذلك نقلت الفرق والكتائب التي تضم أعداداً كبيرة من العرب إلى خارج سورية. لم يبقى إلا فرقة ياسين الهاشمي في دمشق. وبعد انفجار الثورة العربية في الحجاز، لم يلتحق ياسين الهاشمي بها. رغم أنه كان محرضاً لقيامها. ولقد أرسل الأمير فيصل إليه لورنس متخفياً. في عام 1917. واجتمع به في مزرعة آل البكري سراً، وطلب منه بناءً على أوامر فيصل الانضمام إلى الجيش العربي، وأن يقوم بتفجير الثورة في الشام فرفض ياسين.‏
        وقال لمبعوث فيصل "إن الإنكليز ليسوا مخلصين لفيصل، ولا لأبيه. فبعد أن وعدوا بتأسيس دولة عربية. اتفقوا مع اليهود، وأصدروا وعد بلفور. واتفقوا أيضاً مع الفرنسيين على إعطائهم سورية. كما ربطوا العراق بالهند"(2) . وبقي في دمشق، ولم يلتحق بالثورة حتى دخلت دمشق. فاختفى في أحد أحيائها. ولكن زملاؤه المشاركون في الثورة نوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت، التقوا به في مخبئه، وأتوا به إلى الأمير فيصل الذي عاتبه، ثم أصدر قراراً بتعيينه رئيساً لديوان الشوري "رئاسة الأركان" بدلاً من جعفر العسكري. ويظهر أن هذا التعيين قد جعل من جعفر العسكري عدواً له. فأكثر من الدسّ عليه عند الإنكليز خاصة.‏
        لم يتراجع ياسين الهاشمي عن مواقفه السابقة بعد تعيينه رئيساً للأركان في معاداة المخططات الاستعمارية الإنكليزية والفرنسية التي استهدفت سورية والعراق. وقد وجهت إليه اتهامات من قبل فرنسا وإنكلترا بأنه كان يمدُّ الثوار في جبال اللاذقية بالسلاح لمقاتلة القوات الفرنسية، إضافة إلى اتهامات بإعداد جيش عربي حديث، وأنه كان وراء قانون الخدمة الإجبارية الذي أصدرته حكومة فيصل. وقد وردت تلك الاتهامات في قائمة أصدرتها القوات البريطانية بعد اعتقاله في دمشق أواخر عام 1919، وصفته إحدى البرقيات الاستخباراتية البريطانية بعد تعيينه في منصب رئيس ديوان الشورى الحربي، مقتدر، جندي كفءٌ. ذكي، طموح، متعصب، نصير للاستقلال التام، يحتمل أنه خطر"(3) .‏
        ـ جعفر العسكري ونوري السعيد‏
        على النقيض من ياسين الذي يدعو إلى الاستقلال التام لسورية والعراق، وبرفض أي شكل من أشكال الارتباط مع إنكلترا أو فرنسا ينقص من هذا الاستقلال. كان خط نوري السعيد وجعفر العسكري الذي عمل على زيادة الارتباط بإنكلترا. ولم يتصور جعفر العسكري أو نوري السعيد العراق بدون بريطانيا، أو استقلال سورية بدون بريطانيا، فكانا يعتقدان أن أي تطور للعراق أو سورية لا يتم إلا من خلال الدعم والوجود البريطاني. لهذا رفضا أية فكرة للاستقلال التام للعراق عن بريطانية. وقد أشارت غيرترودبل(4) إلى العقلية التي يحملها جعفر العسكري المشبعة بالولاء لبريطانيا. ففي جلسة ضمتها مع جعفر دارت فيها مناقشات حول مستقبل العراق. أكدت فيها له "الاستقلال هو ما ترغب بريطانيا منحه في النهاية." فردّ عليها جعفر قائلاً "يا سيدتي إن الاستقلال التام يؤخذ دائماً. ولا يعطى أبداً". ثم رفض فكرة استقلال العراق تحت ذريعة أن العراقيين غير مؤهلين لإدارة بلادهم. وقال لها "إن الاستقلال التام مستحيل"(5) .‏
        ولم يختلف نوري السعيد عن جعفر إن لم نقل كان أشد تحمساً للوجود البريطاني، مع وجود إدارة عربية في العراق، ففي رسالته إلى الميجر يونغ(6) . عن المؤتمر العراقي الذي انعقد في دمشق في 7 آذار 1920 وسنبحثه في الفصول القادمة. قال عن الذين حضروه ومن زاوية رؤياه الشخصية طبعاً. وليست بالتأكيد أراء غالبية الحاضرين "أي شخص يحمل آراء غير وديّة تجاه حلفائنا الإنكليز.. بل بالعكس، إنهم منفردين ومجتمعين، مشربون بروح الزمالة مع الإنكليز. وحريصون جداً على المضي في طريق الولاء والتعاون معهم.(7) رغم أن الرسالة أشارت إلى ضرورة تصحيح الأخطاء التي تمارسها الإدارة البريطانية في بغداد، وإلى ضرورة تكوّين حكومة عربية في العراق في ظلال الاحتلال البريطاني.‏
        (1) سليمان الموسى- الحركة العربية- بيروت- دار النهار- 1970 ص132.‏
        (2) أمين محمد سعيد- الثورة العربية الكبرى- تاريخ مفصل جامع للقضية العربية- القاهرة- مطبعة الباب 1935 ص258- 259.‏
        (3) F. O. 882. 24.. 1917. Who is who Damascus 1919.‏
        (4) المس غيرترودبل السكرتيرة الشرقية لديوان المعتمد السامي البريطاني في بغداد، تجولت في المنطقة قبل الاحتلال البريطاني. ومن الجواسيس النشيطين أثناء الحرب العالمية الأولى. كان لها دور هام في الإدارة البريطانية في بغداد، وتقربت إلى الملك فيصل الأول فكانت أهم مستشاريه. أصدرت العديد من الأبحاث والرسائل حول العراق والمنطقة العربية.‏
        (5) د. فيصل جمال عمر نظمي -الجذور السياسية والفكرية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق- بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية 1984- ص161.‏
        (6) الميجر يونغ- عمل في مكتب القاهرة للاستخبارات البريطانية- وسكرتير في وزارة الخارجية- ناصر كثيراً إقامة إدارة عربية في العراق وكان من ألد خصوم ارنولد ولسن الحاكم السياسي البريطاني في العراق.‏
        (7) F.O 941/ 5226/ E2719- 5 April 1920.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الثورة المنسية

          -الفصل الثالث: - الإدارة البريطانية في العراق.
          * وعود بريطانية للعرب.‏
          * منشور الجنرال مود.‏
          في 11 آذار 1917 دخلت القوات البريطانية المحتلة بغداد بقيادة الجنرال ستانلي مود، الذي أذاع لأهالي بغداد بياناً في 19 آذار 1917. أطلق عليه "منشور الجنرال مود" حددّ فيه مهام الاحتلال البريطاني للعراق وأهدافه، ومستقبل البلاد. ولأهميته نورد بعض الفقرات التي تضمنها البيان المذكور: "... لقد ارتبط قومكم بإيالات جلالة ملكي المعظم بعروة المصالح الوثقى. فقد تعاطى تجار بغداد وتجار بريطانيا العظمى بعضهم مع بعض مدة مئة سنة. متبادلين المنفعة والصداقة، أما الألمانيون والأتراك الذين نهبوكم. أنتم وذويكم. فإنهم اتخذوا بغداد مدة عشرين سنة مركز قوة يهجمون منه على نفوذ البريطانيين وحلفائهم في بلاد إيران. والأمصار العربية. فعلى ذلك لم تتمالك الحكومة البريطانية من البقاء ضاربة الصفح عما يحدث في وطنكم حاضراً ومستقبلاً. إذ أنه قياماً بواجب مصلحة الشعوب البريطانية وشعوب حلفائها لا تستطيع الحكومة البريطانية المجازفة في وقوع ما عمله الأتراك والجرمان ببغداد أثناء الحرب مرة ثانية. ولكنكم يا أهالي بغداد. يا من حِرفكم التجارية وتأمينكم من الظلم والغزو. أمر يستوجب أدق اهتمام الحكومة البريطانية هي تكليفكم نظامات أجنبية. فأمنية الحكومة البريطانية هي أن تحقق ما تطمح إليه نفوس فلاسفتكم. وكتابكم مرة أخرى. ولسوف يسعد أهالي بغداد حالهم. ويتمتعون بالغنى المادي والمالي بفضل نظامات توافق قوانينهم المقدسة. وأطماحهم القومية والفكرية.‏
          لقد طرد العرب من الحجاز الأتراك والجرمان الذين بَغّوا عليهم. وقد نادوا بعظمة الشريف حسين ملكاً عليهم وعظمته يحكم بالاستقلال والحرية. وهو متحالف مع الأمم التي تحارب دولتي تركية وجرمانية. وهذه هي حقيقة حال أشراف العرب. وأمراء نجد والكويت. وعسير كثيرون هم أشراف العرب الذين راحوا ضحية في سبيل الحرية على أيدي أولئك الحكام الغرباء الأتراك الذين ظلموهم.‏
          إن التصميم لهو تصميم بريطانية، تصميم الدول العظمى المتحالفة معها. على أن لا يذهب ما قاساه هؤلاء الأعراب الشرفاء هباءً منثوراً.‏
          إن المأمول لهو مأمول بريطانية العظمى والأمنية أمنيتها، بل هما مأمول وأمنية الأمم المتحالفة معها. أن تسمو الأمة العربية مرة أخرى، عظمة وصيتاً، وأن تسعى كتلة واحدة وراء هذه الغاية بالاتحاد والوئام...."(1) من خلال ما ورد في المنشور الذي جاء باسم ملك بريطانيا. بأن بريطانيا ستعمل على تحقيق أماني الأمة العربية في الاستقلال والحرية. وإنها لن تضيع النضال العربي ضد الاستبداد التركي هباءً منثورا،ً وسوف تساند مطالبهم. وأشار المنشور إلى انتفاضة الشريف حسين وإلى مناداة أهل الحجاز به ملكاً، دون أن يشير أن الشريف حسين نودي به ملكاً على العرب. ونرى أن المنشور تضمن أن تدعم بريطانيا أماني العرب بالعيش في كتلة واحدة. وبالاتحاد داخل كيان واحد مستقل.‏
          أما عن أهالي بغداد فقد دعا المنشور "فبناء عليه أنني مأمور بدعوتكم بواسطة أشرافكم والمتقدمين فيكم سناً، وممثليكم إلى الاشتراك في إدارة مصالحكم الملكية لمعاضدة ممثلي بريطانية السياسيين المرافقين للجيش كي تنظموا مع ذوي قرباكم شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً. في تحقيق أطماحكم القومية.". ولم يتضمن إقامة دولة عربية في العراق ولا تشكيل حكومة فيها من الأهالي.‏
          - تعهدات مكماهون لاستقلال العرب.‏
          من يطالع تعهدات السيرهنري مكماهون إلى الشريف حسين يرى المواربة والخداع والتضليل، فهو يعطي العموميات التي تغازل الأماني العربية في الاستقلال وتكوين الدولة العربية الموحدة. فتقدم طروحات تتضمن أماني بريطانيا في الاستقلال والمملكة العربية. ثم تختلف على شكلها وحدودها وأقاليمها. فتقول المذكرة الأولى للسيرهنري مكماهون نائب الملك في القاهرة ".... رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها. وإنا نصرح هنا مرة أخرى أن جلالة ملك بريطانية العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة.‏
          وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم. فالمفاوضة فيها تظهر إنها سابقة لأوانها......"(2)
          كانت هذه الرسالة قد كتبت في 30 آب 1915. وفي مذكرته المؤرخة في 24 تشرين الأول 1915 يوضح بصراحة إخراج عدد من الأقاليم العربية من الدولة العربية الموعودة للشريف حسين. فهو يقول فيها التالي: "إن ولايتي مرسين واسكندرونه، وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماه وحلب، لا يمكن أن يقال عنها عربية محضة. وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة. ومع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض رؤساء العرب نحن نقبل تلك الحدود. وأما من خصوص الأقاليم التي تضمها تلك الحدود حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف بدون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا. فإني مفوض من قبل حكومة بريطانيا العظمى أن أقدم المواثيق الآتية وأجيب على كتابكم بما يأتي:‏
          1. إنه مع مراعاة التعديلات المذكورة أعلاه فبريطانيا العظمى مستعدة بأن تعترف باستقلال العرب وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة.‏
          2. أما من خصوص ولايتي بغداد والبصرة فإن العرب تعترف أن مركز ومصالح بريطانيا العظمى الموحدة هناك تستلزم اتخاذ تدابير "إدارية مخصوصة لوقاية هذه الأقاليم من الاعتداء الأجنبي. وزيادة خير سكانها وحماية مصالحنا الاقتصادية المتبادلة.(3)
          ومن خلال قراءة الحدود السياسية التي رسمتها مذكرة السيرهنري. فقد أخرجت من المملكة العربية الموعودة سورية الداخلية والعراق، وأيضاً دول الخليج العربية ونجد وعدن واليمن. فلم يبق من المملكة العربية سوى الحجاز بما فيها عسير وهذا ما سنلاحظه في سياسة بريطانيا والتي نفذت واقعياً في عام 1920.‏
          ورغم إلحاح الشريف حسين لضم هذه الولايات إلى مملكته العربية. والتي تضمنتها رسالته إلى السير مكماهون في 5 تشرين الثاني عام 1915. إلا أن مكماهون بقي على الثوابت وإن حاول تلطيف اللهجة، وحاول أن يضع الأمر بضبابية واضحة حين قال في رسالته الجوابية لهذا الإلحاح في 13 كانون الأول 1915".. قولكم إن العرب مستعدون أن يحترموا ويعترفوا بجميع معاهداتنا مع رؤوس العرب الآخرين. يعلم منه طبعاً أن هذا لا يشمل جميع البلاد الداخلة في حدود المملكة العربية لأن حكومة بريطانيا لا تستطيع أن تنقض اتفاقات قد أُبرمت بينها وبين أولئك الرؤساء أما بشأن ولايتي حلب وبيروت، فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما ذكرتم بشأنها، ودونت ذلك عندها بعناية تامة، ولكن لما كانت مصالح حليفتها فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظر دقيق وسليم بهذا الشأن مرة أخرى في الوقت المناسب.‏
          إن حكومة بريطانيا العظمى كما سبقت فأخبرتكم مستعدة لأن تعطي كل الضمانات والمساعدات التي في وسعها إلى المملكة العربية ولكن مصالحها في ولاية بغداد تتطلب إدارة وديّة ثابتة كما رسمتم. على أن صيانة هذه المصالح كما يجب، تستلزم نظراً أدق وأتم مما تسمح به الحالة الحاضرة والسرعة التي تجري بها المفاوضات.."(4)
          ـ التصريح الإنجليزي للسوريين السبعة‏
          كما أن وزارة الخارجية البريطانية ردت على مذكرة تقدم بها سبعة زعماء سوريين مقيمين في القاهرة حول مستقبل البلاد العربية بعد انتهاء الحرب. أجابت الوزارة البريطانية في 16 حزيران 1918 بما يلي:‏
          1. إن حكومة جلالة الملك ترغب في أن تكون عامة الشعوب التي تتكلم اللغة العربية منقذة من السلطة التركية. وأن تعيش فيما بعد وعليها الحكومة التي ترغب فيها.‏
          2. إن بعض البلاد العربية إما كانت تتمتع باستقلالها التام منذ مدة، أوجعلت عليه الآن. وهو استقلال اعترفت به إنكلترا اعترافاً تاماً. وهذا يكون شأنها أيضاً مع البلاد التي تحصل على استقلالها من الآن وحتى نهاية الحرب.‏
          3. إن سائر البلاد العربية هي الآن إما خاضعة للترك، أو تحتلها جيوش الحلفاء. فحكومة جلالة الملك تأمل ولها الثقة، أن شعوب هذه البلاد تحصل أيضاً على حريتها واستقلالها. وأن يتخذ بشأنها عند انتهاء الحرب قرار يتفق عليه"(5) .‏
          - التصريح الإنجليزي الفرنسي.‏
          - وهو تعهد آخر من قبل الدولتين عن مستقبل سورية والعراق وفلسطين صدر بصورة بلاغ رسمي عن مركز القيادة العامة البريطانية لقوات الحملة المصرية بتاريخ 7 تشرين الثاني 1918. أي بعد طرد الأتراك من سورية والعراق وجاء فيه "إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وإنكلترا في الشرق تلك الحرب التي أهاجتها مطامح الألمان. إنما هو لتحرير الشعوب التي رزحت أجيالاً طوالاً تحت مظالم الترك تحريراً تاماً نهائياً. وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حراً. ولقد أجمعت فرنسا وإنكلترا على أن تؤيدا ذلك بأن تشجعا وتعينا على إقامة هذه الحكومات والإدارات الوطنية في سورية والعراق المنطقتين اللتين أتم الحلفاء تحريرهما."(6)
          - إضافة إلى كل ما تقدم فإن الحاكم الملكي العام البريطاني في العراق السيرارنولدتالبوت ولسن تعهد في خطاب ألقاه في البصرة في 1 كانون الثاني 1919 أكد على إقامة حكومة وطنية. حيث قال "وثقوا أيها السادة بأن ستشكل حكومة جديدة. ومحاكم أيضاً في بلادكم."(7) .‏
          - السياسة البريطانية بعد التعهدات والعراق.‏
          أوردت النصوص السابقة من التعهدات البريطانية للعرب قبل الثورة العربية، وأثناء مواجهاتها للترك وبعد انتصارها. لأن معظم المطالب للقوى الوطنية والقومية في كل من سورية والعراق، كانت تضغط على الإدارة البريطانية وعلى فيصل لتنفيذ ما تعهدت به بريطانيا. إلا أن التعهدات كانت شيئاً. والممارسات المناقضة لها شيء آخر. والوعد الذي نفذته بأمانة بريطانيا، كان وعد بلفور بإقامة الكيان الصهيوني على حساب شعب وأرض فلسطين.‏
          بعد الحرب برز داخل السياسة البريطانية الرسمية اتجاهان متباينان. حول مستقبل العراق، ومطالب القوى القومية العراقية بتنفيذ التعهدات البريطانية. وتمثل هذا التباين بين المكتبين البريطانيين المتواجدين في القاهرة ودلهي. واللذان يرسمان السياسة البريطانية في المنطقة.‏
          - مكتب القاهرة "الإفريقي".‏
          أطلق عليه المؤرخون عدة أسماء المكتب العربي، ومكتب القاهرة، والمكتب الأفريقي، وهو المكتب الذي كان يديره الجنرال كلاتيون وضم مجموعة من الضباط الإنكليز العاملين في دائرة الاستخبارات البريطانية أمثال لورنس ويونغ وغيرهم. ولعب هذا المكتب دوراً هاماً في التأثير على الحكومة البريطانية بمساندة الحركة القومية العربية الداعية لاستقلال العرب. ورأى المكتب في أسرة الشريف حسين وأبناؤه الحليف القادر على لمّ شمل القوميين العرب تحت قيادتهم، ومحاربة الأتراك بالتحالف مع بريطانيا في الحرب.‏
          وقف المكتب بضباطه الذين اشتهروا بمناصرة فيصل سواء أكان حاكماً في سورية أو في العراق وساندوا مطالبه دون أي تعارض مع مصالح بريطانيا.‏
          - مكتب دلهي‏
          وعمل وفق سياسة وزارة الهند، ونائب ملك بريطانيا في دلهي التي رفضت التوجهات القومية العربية، واعتبرتها خطراً على المصالح البريطانية، ورفضت مساندة الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، وكان المكتب يطالب بمساندة عبد العزيز آل سعود، ويناصره في تولي مقاليد الحكم في شبه الجزيرة العربية ضداً بالشريف حسين. ولعب الجنرال كوكس والكولونيل ولسن دوراً هاماً في توجهات المكتب المضادة للعرب وأمانيهم القومية.‏
          تباينت سياسة المكتبين حول مستقبل العراق السياسي، واختلفا إلى حدّ الصراع في إدارة السياسة البريطانية في المنطقة، إلاّ أن الباحث يرى أن الصراع لم يكن من أجل مصلحة العراق القومية، بل في كيفية تحقيق المصالح البريطانية دون إلحاق الضرر بها. فمكتب القاهرة رأى بحل المسألة العراقية من خلال حكومة عربية برئاسة ملك من أبناء الشريف حسين وعودة الضباط العراقيين وخاصة الموالين للسياسة البريطانية كنوري السعيد وجعفر العسكري. وأن يتم الأمر في ظل الانتداب البريطاني غير المباشر.‏
          أما مكتب الهند الذي كان العراق تحت إدارته ويمثله ولسن كحاكم عام بريطاني، رأى أن مصلحة بريطانيا أن يبقى العراق محمية بريطانية، يحكم من قبل إدارة بريطانية مباشرة بإشراف وزارة الهند بحجة حماية مصالح بريطانيا في الخليج والهند وإيران. مدعياً أن العرب في العراق غير مؤهلين لإدارة شؤونهم وتشكيل حكومة لعدم أهليتهم العلمية والإدارية. ورفض عودة الضباط العراقيين من سورية لأنهم يحملون أفكاراً قومية عربية واستقلالية. ورأى فيهم خطورة على سياسة المكتب حتى وإن كانوا مقربين وموالين لبريطانيا.‏
          ـ سياسة ولسن وآثارها‏
          كان ارنولد ولسن على رأس العاملين في مكتب الهند الرافضين لحركة القومية العربية التحررية. وقف منذ بداية تسلمه لمنصب الحاكم العام السياسي البريطاني في العراق ضد العرب وطموحاتهم، ونظر نظرة دوّنية إلى العرب المسلمين في العراق، واعتبرهم غير مؤهلين حتى لأدنى الوظائف الإدارية. فكيف يشكلون حكومة تدير شؤون بلادهم؟ وقد أوضح هذا الرأي للورد كرزن في 26 نيسان 1920 في برقية أرسلها له جاء فيها ".. إن البلاد هي بالنسبة لذلك الآن تكاد تخلو من العناصر المحلية التي تمتلك خبرة إدارية سابقة ذات قيمة.. وتعاني الإدارة الحالية أعظم الصعوبات في إيجاد المحمديين الصالحيين لإشغال حتى أوطى الوظائف الإدارية."(8)
          لهذا سعى ومن قبله برسي كوكس أن يحل البريطانيون في معظم المناصب الإدارية العليا. ثم يأتي في المرتبة الثانية للوظائف الإدارية العليا والمهمة، الهنود الذين جلبهم الإنكليز معهم. وفي الوظائف الدّونية للعراقيين وحسب تصنيفاتهم الدينية.‏
          وبقراءة سريعة لإحصاء للإدارة المدنية في العراق جرى في آب 1920، يرى القارئ الظلم الذي حاق بالعرب المسلمين نتيجة نظرة الاحتقار الحاقدة لهم من قبل ارنولد ولسن ومن ورائه مكتب دلهي. وكان كالتالي:‏
          ـ المناصب المهمة ـ يقوم بها /507/ من البريطانيين. و /7/ هنود. و/20/ عربياً. بحيث لا تتجاوز نسبة العرب الذين يتولونها 3.5% من مجموع المناصب المهمة.‏
          ـ المناصب غير المهمة نجد /515/ بريطانيا. و/2209/ من الهنود. و/8546/ عربياً. ويقصد العربي دون النظر إلى انتمائه الديني (9)
          فالإدارة البريطانية فرقت بين العرب على أساس مذهبي وديني وطائفي، لزرع الفتنة والشقاق فيما بينهم..، مستخدمة الوظيفة والحاجة المادية لتحقيق أهدافها في شق صفوف العرب، فقد عنيت ما بين عام 1916 إلى عام 1918 من المستخدمين في الإدارة في بغداد /282/ مستخدماً منهم /17/ مسلماً عربياً.(10)
          على الرغم من الأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل في العراق آنذاك، وخاصة ممن فقدوا وظائفهم وأعمالهم بعد خروج الأتراك وانتهاء الإدارة العثمانية، وما تركته من جيش من العاملين من العراقيين. إضافة إلى ما خلفته الحرب على الأوضاع المعيشية لقطاع كبير من الطبقة الفلاحية والعمالية وفقراء المدن. رغم هذا الوضع الاجتماعي والمادي المتردي للعراقيين، عملت الإدارة البريطانية على استقدام أعداد كبيرة من الهنود للعمل في العراق. والاستغناء عن أعمال العراقيين، مما أورث حقداً على الهنود والبريطانيين معاً. فقد كان "عدد الهنود المستخدمين في العراق في كانون الأول 1920 يبلغ /53000/ هندي منهم /24000/ هندي يعمل في دائرة العمل. و /10000/ في النقليات النهرية. وحوالي /19000/ في السكك الحديدية... إضافة إلى أن جيش الاحتلال البريطاني يتألف بكامله من البريطانيين والهنود، ولم يكن يضم في صفوفه أي عربي سواء أكان جندياً أو ضابطاً."(11)
          وأضاف هذا العامل بدوره نقمة داخلية لسياسة أرنولد ولسن في العراق، وسبباً آخر في تفجير الثورة ضد هذه السياسة.‏
          (1) عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى- مصدر سابق ص15-16.‏
          (2) جورج انطونيوس-يقظة العرب- مصدر سابق ص548- 549.‏
          (3) المصدر السابق ص556- 557.‏
          (4) المصدر السابق ص564‏
          (5) عبد الرزاق الحسني- الثورة العراقية الكبرى- ص17.‏
          (6) جورج أنطونيوس- يقظة العرب- مصدر سابق ص590.‏
          (7) جريدة العرب البغدادية- تاريخ 3 كانون الثاني 1919.‏
          (8) F.O- 371- 5226- 4811- 26 April 1920- No 511.‏
          (9) وميض جمال عمر نظمي- الجذور السياسية. مصدر سابق 204-205.‏
          (10) المصدر السابق ص207.‏
          (11) المصدر السابق ص205.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الثورة المنسية

            الفصل الرابع : أسباب قيام الثورة في دير الزور -
            من النصوص السابقة للعهود البريطانية من أجل ضمان الحرية والاستقلال للشعب العربي، الذي ثار وتحالف مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لإنهاء الاحتلال العثماني، وبناء دولة عربية مستقلة في المشرق العربي. وفق ما جاء في تلك المعاهدات. وما رسمته اتفاقيات مكماهون والشريف حسين. إلا أن الممارسات التي جرت في المشرق بعد انسحاب الأتراك من قبل بريطانيا وفرنسا نقضت كل هذه الاتفاقات وانقلبت عليها. وهذا ما يعرفه كل دارسي التاريخ لتلك المرحلة. ويمكن مراجعة العديد من المؤلفات والأبحاث التي درست تلك المرحلة التاريخية، والتي أظهرت خيانة بريطانيا وفرنسا للعرب عامة، والعراق خاصة. وقد أشرنا إلى ممارسات الإدارة البريطانية في العراق التي بدأ ينفذها ارنولد ولسن واستهدفت بذر الشقاق بين العراقيين. واحتقار القدرة والكفاءة لدى العرب في العراق. مع رفض ما تعهدت به بريطانيا من قبل، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى الثورة التالي:‏
            1ـ رفض إقامة حكومة عربية في العراق.‏
            رفض ولسن رفضاً قاطعاً إقامة حكومة عربية في العراق، وإن كانت في ظل الاحتلال البريطاني، ونكث بالوعد الذي قطعه لأهالي البصرة حين التقاهم في الأول من كانون الثاني 1919، وأصر على تنفيذ سياسته الهادفة إلى جعل العراق محمية بريطانية تدار مباشرة من قبله ومن نائب الملك في الهند، وبقي على إصراره أن العراقيين غير مؤهلين لها، ولا حتى أدنى الوظائف كما أشرنا سابقاً.‏
            وقد عملت عدة جهات بريطانية وعربية لتغيير سياسته سواء منهم المكتب البريطاني في القاهرة وخاصة الجنرال فلبي ولورنس ويونغ، أو من العاملين في مكتب دلهي أمثال المس بل وهرتزل واللورد كرزن ثم تشرشل في نهاية المطاف. إضافة إلى الأمير فيصل ونوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهم. إلا أن ولسن رفض وتمسك بسياسته المتشددة، وتوصل في أواسط العام 1919 إلى تقسيم العراق إلى مقاطعات وبلديات تتكون منها مجالس، يمكن للعراقيين أن يعملوا في هذه المجالس.‏
            وقد حاول وفد عراقي ضم كل من ياسين الهاشمي وناجي السويدي ونوري السعيد إقناع ارنولد ولسن أثناء زيارته لدمشق في أيار 1919. بقبول تشكيل حكومة عربية في العراق أسوة بالحكومة العربية في سورية، وتحت ظلال الإدارة البريطانية والسماح للضباط العراقيين المتواجدين في سورية بالعودة إلى بلادهم والمشاركة في إدارة شؤونها. إلا أن ولسن رد على مقترحات الوفد رداً سيئاً اتسم بالجلافة والصلابة، وكما سَخِرَ من هذه المقترحات، وعرض عليهم المشاركة في عضوية المجالس البلدية في المدن العراقية، وهذا العرض يتسم بالاستهزاء لأن الوفد كان يحتل مراكز عليا في الإدارة العربية في دمشق. فالفريق ياسين الهاشمي كان رئيساً لأركان الجيش، والعميد نوري السعيد قائد موقع دمشق والممثل الشخصي للأمير فيصل، وناجي السويدي من القادة الوطنيين في العراق. إضافة إلى وجود العديد من الضباط العراقيين الذين كانوا يحتلون المناصب السياسية الإدارية والعسكرية في سورية.‏
            وقد كتبت المس غيرترود بل التي حضرت الاجتماع عن عقلية ارنولد ولسن المتصلبة والرافضة لأي تغيير في سياسته، جاء في رسالة لها للمكتب البريطاني في القاهرة في 30/ كانون الثاني/ 1921 تضمنت ما دار في الاجتماع. ورأيها في تصرفات ولسن فقالت ".. لقد طرحوا آراءهم بخصوص مستقبل ما بين النهرين. وهي آراء معقولة تماماً. وتدخل ضمن البرنامج الذي نتبعه الآن كانون الثاني 1921). وقد أخبرهم بفظاظة. بأن كل ذلك مجرد كلام فارغ. وإنهم يجب أن يعملوا من المجالس البلدية قبل أن يأملوا باستلام زمام الأمور.. وكانوا آنذاك أيار 1919) يديرون الجهاز العسكري والمدني بكامله في سورية.. وكان من السخف إبلاغ هؤلاء العمداء المدربين بأنهم يجب أن يقنعوا بإدارة المجالس البلدية. ومن ذلك اليوم يئسوا من الحصول على مؤسسات وطنية في ما بين النهرين. كما أن ياسين العنيف والنشيط حث الرابطة العراقية) التي كان بمثابة روحها الموجهة. على تشديد دعايتها المناهضة لبريطانيا.. وبسبب كوّنه ولسن) استفز الشعور القومي، وأساء تقديره وفهمه بالمرة. بلغ في فداحته أن قدرتنا على إصلاحه أصبحت مرهونة الأقدار"(1) .‏
            وقد حاول الأمير فيصل من جانبه الضغط على أصدقائه في الإدارة البريطانية من أجل تبديل السياسة التي يتبعها ولسن في العراق، وتنفيذ التعهدات السابقة. فقد وجه الأمير فيصل رسالة إلى الجنرال اللنبي قائد القوات البريطانية في بلاد الشام، يطلب منه التوسط لدى الحكومة البريطانية للضغط على ولسن لتغيير سياسته التي أساءت للعلاقات بين العرب وبريطانيا. وبدأت تحمل بذور الكره والحقد على بريطانيا في المنطقة، وجاء في الرسالة المؤرخة في 9 حزيران 1919 عن الضباط العراقيين ورؤيتهم لبريطانيا".. . يدركون تماماً أنه ليس بإمكان بلاد ما بين النهرين أن تقف لوحدها. إلا أنهم يشعرون شعوراً قوياً بضرورة الإسراع في تأسيس حكومة وطنية تمهد الطريق للسكان المحليين لكي يثبتوا مقدرتهم مع الاعتماد في الوقت نفسه على مساعدة بريطانيا العظمى ومشورتها وعطفها.. وقال أيضاً حول تعنت ولسن وإدارته والنظرة الدونيّة للشعب العربي في العراق.. .. أما أولئك الذين يرون من المستحيل تأسيس مثل هذه الحكومة بسبب الافتقار إلى الأناس المدربين. فإني أقول لهم أنه لم يبذل حتى الآن أدنى جهد لجمع هؤلاء الناس" وطالب بريطانيا بالإسراع بإقامة المؤسسات التشريعية ووضع دستور للبلاد دون الانتظار لمؤتمر الصلح للبت في وضع البلاد العربية، فقال في رسالته: ".... من المرجح أنه ليس بإمكان بريطانيا العظمى أن تغير الحكومة ما لم يبت مؤتمر الصلح في مسألة الانتداب، وفي هذا الصدد لست أدري أي مانع من أن تقوم السلطات البريطانية بالتباحث مع الزعماء العرب في ما بين النهرين حول تحديد الدستور الواجب صدوره على إثر اتخاذ القرار النهائي. إن هذا سيبدد كافة الشكوك في أذهانهم حول نوايا بريطانيا العظمى"(2)
            كما أن الضباط العراقيين بدورهم رفعوا مذكرة إلى الحكومة البريطانية في شهر حزيران 1919 تتوافق في مضامينها مع رسالة الأمير فيصل للجنرال اللنبي. وقد سلم الضباط المذكرة للميجر يونغ سكرتير وزارة الخارجية البريطانية آنذاك؛ تضمنت الدعوة إلى الإسراع في إقامة حكومة عربية في بغداد والاستفادة من خبراتهم في حال السماح لهم بالعودة إلى بلادهم. مذكرين الحكومة البريطانية بأنهم حلفاؤها. حيث حاربوا معها في الحرب العالمية الأولى في صفوف جيش الثورة العربية. وقد وقعها تحسين العسكري ومولود مخلص وناجي السويدي وعلي جودت(3) .‏
            إلا أن نداءات فيصل ومحاولاته لم تنجح في إطفاء فتيل الانفجار، الذي بدأ يتوضح أمامه نتيجة الممارسات التشددية التي يقوم بها أرنولد ولسن في العراق، فالضباط العراقيون وعدد من الوطنيين القادمين من العراق، بدأت تتوزع آراؤهم بين الثورة، أو التريث. فأنصار الثورة وإن كانوا أقلية في حزيران 1919. إلا أنهم أكثر تأثيراً وأنصار التريث بدأوا يشعرون بالإحباط بعض الشيء، وإن لم يفقد البعض منهم الأمل في إحداث تغييرات في السياسة البريطانية تجاه بلادهم. فقد كان في الإدارة البريطانية والحكومة والاستخبارات من يتفهم الوضع المتأزم في العراق نتيجة سياسة ولسن وخاصة عدد من الضباط البريطانيين المحسوبين على المكتب العربي في القاهرة مثل الجنرال اللنبي ويونغ ولورنس وغيرهم. وقد حاول الجنرال الكلاتيون التأثير على الحكومة البريطانية حين أعلمها بمضمون رسالة فيصل في حزيران 1919 مؤيداً ما جاء فيها خدمة للمصالح البريطانية قبل كل شيء، مما أثار حنق وغضب ولسن ووزارة الهند التي تساند سياسته، فقد وجدت وزارة الهند أن فيصل استطاع أن يخترق الإدارة البريطانية، ويُوجد له أنصاراً داخلها، وخاصة من ضباط المكتب العربي في القاهرة. ولهذا بدأت وزارة الهند تضغط على وزير الخارجية اللورد كرزن بالحدّ من تعاطف أعضاء المكتب مع آراء فيصل؛ فأرسل اللورد كرزن برقية إلى الجنرال كلايتون رئيس المكتب في 24 حزيران 1919 جاء فيها: " إن دعاية فيصل للاستقلال التام للجزيرة العربية قد وصلت إلى مابين النهرين، وهي تثير قلقاً شديداً في بغداد وهنا.. إن وزارة الهند تخشى أن يكون هذا التحريض مستنداً إلى بعض التشجيع من جانب الضباط البريطانيين في سورية الواقعين تحت الاعتقاد الخاطئ بالطموح إلى التأسيس الفوري في مابين النهرين لحكومة عربية غير خاضعة للسيطرة، ومتمتعة بتأييد حكومة صاحب الجلالة. ينبغي إصدار التعليمات من جانبكم إلى الضباط البريطانيين المسؤولين، لإحباط هذه الحركة بكل الوسائل التي تحت تصرفهم..".(4)
            كان اللورد كرزن يشعر بأحقية العراقيين في إقامة دولتهم، إلا أنه بقي في تلك الفترة واقفاً تحت تأثير سياسة وزارة الهند التي يمثلها ولسن، فقد طلب من الضباط العراقيين الذين أرسلوا مذكرتهم إلى الميجر يونغ التي أشرنا إليها في السابق بالموافقة على مجالس البلديات التي اقترحها ولسن. وجاء ذلك في رده على مذكرتهم، والذي أرسل أيضاً إلى الميجر يونغ حيث طلب منه: "إبلاغهم بأن حكومة صاحب الجلالة تدرك تماماً الاعتراضات الكامنة في أي تبلور للأساليب البيروقراطية الغربية في بلاد مابين النهرين، وأن ثمة خطوات معينة يجري اتخاذها لتشكيل مجالس للمقاطعات والوحدات، لأجل ضمان هذا المقدار من المشاركة العربية... وأنه في حال اتخاذ قرار بوضع مابين النهرين تحت الانتداب، فإن لجنة بريطانية تتجه إلى ذلك القطر في أسرع وقت ممكن لتبحث بالتشاور الوثيق مع كل طبقات الشعب في الشكل الذي ستتخذه الحكومة المقبلة"(5) .‏
            وكان اللورد كرزن مقتنعاً بعض الشيء. بسياسة ولسن، التي استبدلت إقامة المؤسسات التشريعية والدستور والحكومة العربية، بما يسمى بمجالس المقاطعات والبلديات. والتي في رأي ولسن، وحتى كرزن بإنها سوف تلبي طموحات القوى الوطنية الطامحة للدولة والحكومة، وسوف تشارك فيها. حيث استطاع ولسن إقناع ناجي السويدي الوطني القومي العراقي المعروف بالمشاركة في ترأس مجلس البلدية: إلاّ أن السويدي لم يبق سوى أيام). فقد كتب اللورد كرزن إلى الميجر يونغ في تشرين الأول عام 1919 رسالة يطلب فيها إبلاغ الضباط بالاعتذار عن إقامة حكومة حتى يبت مؤتمر الصلح. وليقبلوا حالياً بما يقدم ولسن بما يسمى مجالس المقاطعات. وقال كرزن: "مالم يصدر قرار مؤتمر الصلح بخصوص الدولة المنتدبة وطبيعة الانتداب، فإنه من السابق لأوانه محاولة القيام بتجربة دستورية. وليست لدى حكومة صاحب الجلالة أية رغبة في التأثير على ذلك القرار.. وثمة خطوات معينة يجري اتخاذها، مثل تشكيل مجالس للمقاطعات والوحدات. وأن تعيين ناجي بك السويدي في منصب إداري عال في بغداد.. هو مثال على رغبة حكومة صاحب الجلالة في إعطاء العرب ذوي الشخصية والمقدرة المجربين، الفرصة الكاملة لإظهار مواهبهم"(6) .‏
            ومن رسالة اللورد كرزن وزير الخارجية يتبين للقارئ أن اللغة الراجحة في عام 1919 داخل الحكومة البريطانية كانت لسياسات ولسن ووزارة الهند المتشددة الرافضة لإنجاز دولة في العراق، تتشكل فيها حكومة عربية ودستور ومؤسسات تشريعية. ورفضت نداءات الضباط العراقيين حتى من المخلصين لسياسة بريطانيا، وعدم الإصغاء إلى نصائح الضباط البريطانيين في المكتب البريطاني في القاهرة، ولا تحذيرات فيصل الذي بدأ يرى أن الانفجار أصبح وشيكاً أمام العناد البريطاني. وهذا ما تحقق فعلاً.‏
            رفض عودة الضباط العراقيين إلى بلادهم.‏
            مسألة أخرى أدى عدم حلها إلى تفجير الثورة، وهي رفض ولسن عودة الضباط العراقيين إلى العراق جميعاً بدون استثناء على الرغم من تباين الآراء فيما بينهم. من رافض للوجود البريطاني، إلى من لا يرى مستقبلاً للعراق إلا بوجود بريطانيا فيه. فقد كان ولسن كما أشرنا يرفض أصلاً الحركة التحررية العربية. والمنظمات القومية العربية، وكان في الوقت نفسه لا يطيق الضباط العراقيين العاملين في دمشق كونهم يحملون أفكاراً تحررية واستقلالية، ومارسوا العمل السياسي السري ضد الأتراك، والعمل العسكري أثناء الثورة العربية. وللبعض منهم مواقف ضد التواجد الإنكليزي والفرنسي. لقد خشي ولسن من وجود هؤلاء الضباط في العراق لما يشكلونه من خطر كبير على سياسته المتشددة الرامية لإبقاء العراق تحت الحكم البريطاني المباشر، ومن قبل وزارة الهند مباشرة.‏
            ولم تكن سياسة ولسن وحدها الرافضة لعودة الضباط العراقيين العاملين في الحقل القومي العربي، بل هي سياسة وزارة الهند نفسها. التي رفضت أي وجود لهم أثناء الحرب العالمية للمشاركة في تحرير بلادهم من الأتراك. أو تشكيل فرق وطنية تقاتل الأتراك مع القوات البريطانية، حتى لا يكون لهؤلاء في المستقبل رأي أو تأثير في شؤون بلادهم. ففي أوائل عام 1916 اقترح مكتب القاهرة الذي كان يديره الجنرال كلايتون إلى وزارة الهند في دلهي إرسال عدداً من الضباط العراقيين إلى العراق لتنظيم مقاومة شعبية ضد الوجود التركي. فكان ردُّ وزارة الهند في البرقية المؤرخة في /30 آذار 1916/ الرفض، لأن الضباط يحملون أفكاراً تحررية قد تنقلب على الاحتلال الإنكليزي نفسه. حيث قالت البرقية "..يبدو لنا أن آراءهم السياسية متقدمة جداً وغير مأمونة.. وأن وجودهم في العراق هو في رأينا أمر غير مرغوب فيه وغير مريح"(7) مع العلم أن الاقتراح من قبل مكتب القاهرة كان لمساعدة القوات البريطانية، التي تعرضت لصعوبات كبيرة في معارك الكوّت العراقية. وباقتراح من الضابط العراقي الملازم الأول محمد شريف الفاروقي الذي هرب من خطوط القتال إلى الإنكليز وعرض عليهم التعاون مُدعياً أنه يمثل حزب العهد، وكان الإنكليز في القاهرة يثقون به ثقة كبيرة.‏
            وبقي ولسن بعد انتهاء الحرب مصراً على عدم السماح بإعادة الضباط العراقيين إلى بلادهم. وخاصة أن الضباط بدأوا يشعرون بالإحراج بعد الانقسام الذي حدث في جمعية العهد، وتحولها إلى حزبين عهد عراقي- وعهد سوري، وخشية التنافس بين الطرفين قد يتحول إلى صراع بسبب تولي العديد من الضباط العراقيين مناصب عليا في الدولة العربية التي أنشئت في سورية بقيادة الأمير فيصل. إضافة إلى أمل العهد العراقي أن يحصل العراق على ما حصلت عليه سورية من حكومة عربية مستقلة. وإدارة ومؤسسات مدنية وعسكرية ستجعل من سورية دولة حديثة. فكان الطموح لدى العديد من الضباط العراقيين أن يؤسس للعراق مما أسس لسورية.‏
            إضافة إلى الهدف السياسي. فقد كان عدد من الضباط والجنود العراقيين قد سرحوا من الجيش بعد انتهاء الحرب. ولم يعد لهم مورد يعيشون منه فكان هؤلاء المسرحين يرغبون بالعودة إلى بلدهم ليجدوا فرص عمل لهم فيه. فحال رفض ولسن دون تحقيق أملهم، مما أورث في نفوسهم حقداً على ولسن خاصة وبريطانيا عامة.‏
            وقد حاول كل من نوري السعيد وجعفر العسكري الضغط على ولسن بإعادة النظر في سياسته الرافضة لعودتهم. فاتصلوا بالعديد من أصدقائهم البريطانيين. وقد حاول لورنس ويونغ التوسط لدى الحكومة البريطانية لعودتهما إلى العراق باعتبارهما أكثر الضباط العراقيين والعرب إخلاصاً وولاءاً لبريطانيا وسياستها. وقد شعرا برغبة لدى عدد من المسؤولين البريطانيين بالموافقة لعودتهما. فأرسلا رسائلً للعديد من أصدقائهم في العراق يخبرونهم بأنهما عائدان، وسوف تشكل حكومة عربية في العراق. مما أثار حنق ارنولد ولسن وغضبه، فأبرق لوزارة الهند في 14 أيار 1919 يحذر من هذه الرسائل وعودتهما لأنها مضادة لسياسته المعروفة، فقال في برقيته".. أشخاصاً مثل جعفر باشا. ومولود. ونوري السعيد.. وغيرهم كتبوا إلى أصدقائهم وأقاربهم في بغداد بأنهم قادمون إلى بغداد بعد مدة قصيرة للقيام بحملة سياسية من أجل تأسيس حكومة عربية. وقد أرسلوا بالفعل عدداً من الممثلين الذين يقومون بدعاية سرية نشيطة على هذه الأسس، وفي الوقت نفسه بتحيز شديد ضد الأجانب.. نوصي بإبلاغهم هم وغيرهم من ذوي الميول المشابهة بعدم السماح لهم في الوقت الحاضر بالعودة إلى هذا البلد"(8) ونرى في البرقية أيضاً اسم مولود مخلص رغم أنه كان في تلك الفترة محسوباً إلى الفئة المعتدلة في صفوف الضباط العراقيين وإن كانت له مواقف مناهضة للإنكليز.‏
            وقد كان الأمير فيصل أكثر معرفة بحساسية بقاء الضباط العراقيين معه في سورية فهو في موقف محرج من قبل الضباط السوريين وهو أمير بلادهم، ولكنه يعتمد في كثير من المواقع الحساسة سواء بالجيش أو الإدارة على الضباط العراقيين. كما أن صورة الخلاف والانشقاق الذي حدث في العقبة بين الطرفين لا يزال في ذاكرته. لهذا كان راغباً في إعادتهم إلى بلادهم منعاً لإشكالات مستقبلية بين الطرفين. فينهي إشكالية العودة، وينهي الاستياء السوري. فطلب الأمير فيصل من صديقه الكولونيل لورنس في أوائل شهر أيار 1919. السعي لدى حكومته بحل إشكالية عودة الضباط العراقيين إلى بلادهم. فأرسل الكولونيل لورنس جواباً إلى فيصل قال فيها "توافق حكومة صاحب الجلالة على عودة ضباطكم إلى ما بين النهرين، حيث يمكنهم أن يقولوا ما يشاؤون طالما لم يكن ذلك مخالفاً لتعليمات الشرطة".(9) وقد أثارت هذه الرسالة ارنولد ولسن الحاكم السياسي في بغداد الرافض أصلاً عودة الضباط. فكيف يعودون ويقولون ما يشاؤون؟ فضغط على وزارة الهند لمنع لورنس من التصريحات التي تخالفه مع رفض العودة بالأساس. فأبرقت وزارة الهند برقية إلى الوزارة الخارجية البريطانية في 26 أيار 1919 قالت فيها "إن رسالة الكولونيل لورنس التي تخول الضباط البغداديين بـ قول ما يشاؤونه" عند عودتهم إلى ما بين النهرين، ستؤدي بطبيعة الحال إلى تشجيع حماسهم الدعائي"(10) .‏
            وكان الكولونيل لورنس قد أعد مذكرة تتضمن ضرورة عودة الضباط العراقيين لوزارة الخارجية البريطانية وأرسلها في 22 أيار 1919 جاء فيها إن أغلب الرجال مقتنعون بأن عبد الله يجب أن يصبح أمير بغداد. وسيقولون حتماً عند عودتهم. أما فيصل فإنه لن يرسل معهم بالطبع. أو يعبر عن رأيه الخاص حول الموضوع، إنهم ضباط قدموا لنا خدمة جليلة جداً. ومعظمهم موالون جداً لبريطانيا. لا أراني بحاجة للقول بأنهم يريدون انتداباً بريطانياً في بلاد ما بين النهرين"(11) . وقد تأثرت وزارة الخارجية البريطانية وعلى رأسها اللورد كرزن بما ورد في مذكرة الكولونيل لورنس. فطلبت من الحكومة البريطانية العمل على إعادتهم. كونهم كانوا حلفاء وأنصار بريطانيا في الحرب، وقالت المذكرة المؤرخة في 16 حزيران 1919.. "إن من غير العملي تأجيل قرار بخصوص عودة هؤلاء الضباط. فقد ظلوا بعيدين عن وطنهم لمدة طويلة. وهم يقاتلون الأتراك. وأن فخامة اللورد كرزن يستنكر أية بادرة من جانب حكومة صاحب الجلالة في وضع العراقيل في طريق العودة إلى الوطن بالنسبة لرجال تطوعوا للخدمة في قضية الحلفاء. وساعدوا عمليات الحلفاء في سورية"(12) . ولكن وزارة الهند التي بررت موقفها ضد العودة "استطاعت إقناع الحكومة البريطانية برفض العودة، وبضرورة إلزام الضباط البريطانيين في مكتب القاهرة بالكف عن مناصرتهم. ورفض عودتهم وكذلك إبلاغ الأمير فيصل في سورية بهذا الأمر. وفعلاً نجد أن اللوردكرزن وزير الخارجية البريطاني يصدر تعليماته إلى الجنرال كلايتون رئيس مكتب القاهرة يطلب منه إبلاغ ضباطه والأمير فيصل بالكفّ عن العمل على عودة الضباط العراقيين إلى بلادهم. حيث ألح المستر مونتاكو وكيل وزارة الهند في مذكرته إلى الحكومة البريطانية بإيقاف الضباط البريطانيين عن دعم العودة" . جاء فيها: "يحث المستر مونتاكوعلى إصدار تعليمات برقية صريحة إلى السلطات البريطانية في القاهرة. مؤداها عدم السماح لأي شخص في الخدمة الشريفية سواء، كان من أصل بغدادي أم غير ذلك. بالتوجه إلى ما بين النهرين بدون الموافقة المسبقة للمفوض المدني في بغداد..(13) وبذلك أسقطت وزارة الخارجية دعوتها للحكومة بالضغط على وزارة الهند وولسن بالعودة للضباط إلى بلادهم.‏
            وقد شعرت وزارة الخارجية أصلاً إن هذا الأمر لن يكون فيه خير على الوجود البريطاني في العراق، وقد يفجر الأوضاع فيه. كما أن صوتاً من داخل وزارة الهند ومن أصدقاء ولسن هو المستر هيرتزل(14) قد استشرف المستقبل فقدم نصيحة لصديقة ولسن في رسالة في 16 تموز 1919 قال فيها "أما فيما يخص القومية العربية، فأعتقد أنك ستجد نفسك قريباً واقعاً في مشكلة عويصة. وأصارحك القول بأني لا أعتقد أنك تسير في الاتجاه الصحيح لمعالجتها. ويبدو أنك تحاول المستحيل بتغيير التيار بدلاً من توجيهه. إنك ستواجه قيام دولة عربية سواء شئت أم أبيت. وسواء أكانت بلاد ما بين النهرين ترغب في ذلك أم لا. إن هذا أمر لا مناص منه. ومن الحكمة مواجهة الحقيقة. وفضلاً عن ذلك. فستجد كثير من الناس فيما بين النهرين ملأى رؤوسهم بأفكار سخيفة من سورية. وأماكن أخرى لا يعلمها إلا الله. وينبغي عليك أن تجد لهم مكاناً وعملاً. وعندما تحصل عليهم. يجب أن لا تدعهم يستقيلون، وإلا وجدنا أنفسنا أمام مصر أخرى. إن هذه الأمور كلها ستكون معاكسة لآمالنا الغالية على أنفسنا. وليس هناك ما تستطيع أنت أو أنا قوله أو عمله لتغييرها، إن فكرة تحويل ما بين النهرين إلى نموذج لبلد تابع، أو محمية بريطانية تدار بصورة كفءٍ. هذه الفكرة قد ماتت. يجب أن نكيف أنفسنا وأساليبنا وفق النمط الجديد. ونجد طريقة أخرى للحصول على ما نريده".(15)
            وشكلت مشكلة الضباط كما أسلفنا عاملاً هاماً في تفجير الثورة. حيث لم يجد عدد من الضباط طريقاً سوى الثورة في حين بقي قسم كبير من المترجي بالعطف البريطاني لقضيته وبين المتحير والمتردد بين ياسين الهاشمي المتطرف. وجعفر ونوري المواليان والباحثان عن أنصار داخل بريطانيا.‏
            (1) المصدر السابق ص165.‏
            (2) F.O /882/ 23/ MES /19/ 9 June 1919.‏
            (3) F. O 37/ 4149- 91481- 8 June 1919‏
            (4) F. 0371 4146 -95058-142-24 J une 1919.‏
            (5) F.O. 371 - 5228 - E 9020-91491-8 July 1919.‏
            (6) وميض جمال عمر نظمي- الجذور السياسية- مصدر سابق ص165.‏
            (7) F.O 883- 13- UES- 16-7-30 March 1916.‏
            (8) F.O. 311- 4145- 19639- 142- 14 May 1919.‏
            (9) F.O- 371-4145-19623-142.26 Juny 1919.‏
            (10) F.O 371-4145- 19623-142-Muy- 1919‏
            (11) F.O- 311- 4148- 86170- 1212- Muy- 1919‏
            (12) F.O. 371- 4146-86170-142-16 Jun 1919.‏
            (13) F.o 371- 4145-19623-26-May 1919.‏
            (14) ليس تيدور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية.‏
            (15) F.o. 371-4146-86170-142-16 June 1919.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الثورة المنسية

              الفصل الخامس: دير الزور والأتراك

              لمحة تاريخية

              تقع محافظة دير الزور في الزاوية الشرقية الجنوبية للقطر العربي السوري، يشطرها نهر الفرات إلى شطرين. كما يلتقي فيها نهراً الخابور والفرات عند مدينة قديمة تسمى قرقيسيا، ويطلق عليها اليوم البصيرة. سكنها العرب قبل الفتح الإسلامي، وأطلقوا عليها ديار ربيعة، وقبائل ربيعة "امتدت منازلهم من أطراف الجزيرة ما بين نهري الفرات ودجلة، وامتدت عشائرها جنوباً حتى الحيرة وغرباً إلى الشام، وشرقاً إلى أذربيجان([1]). ومن أهم قبائل ربيعة التي سكنت منطقة دير الزور قبيلة تغلب العربية الشهيرة، حيث رحلت إليها بعد نزاع طويل مع قبائل بكر، ثم أمراء كندة والحيرة، وأهم مدن تغلب آنذاك في المنطقة بلدة تدعى "ماكسين"، التي اشتهرت بشجر الزيتون، وكثرة معاصر الزيت، حتى إن الأخطل قال: "مادام في ماكسين الزيت يعتصر"([2]) وقد بنى التغلبيون أديرة عديدة في المنطقة نذكر منها دير حنظلة ودير الرمان ودير القائم الأقصى وأُرجح الدير الأخير أن يكون في موقع مدينة دير الزور الحالية، حيث يحددها ياقوت الحموي "على شاطئ الفرات من الجانب الغربي في طريق الرقة من بغداد"([3]). أكثر من ترجيح الأستاذ المرحوم عبد القادر عياش الذي اختار دير الرمان مكان دير الزور الحالية، التي يقول عنها ياقوت الحموي: "مدينة كبيرة ذات أسواق للبادية بين الرقة والخابور تنزلها القوافل بين العراق إلى الشام"([4]). فدير الرمان تقع في شرق الفرات، في حين دير القائم الأقصى على ضفاف الفرات غرباً، ودير الفيق الذي هدم في الستينات يقع في غرب نهر الفرات.
              فتحها العرب المسلمون في عام /16/ للهجرة الموافق /637/ ميلادية، وكان قائد الفتح عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد لفاف الزهري، حين توجه بقوة من القوات العربية التي كانت تحاصر آنذاك مدينة هيت على الفرات، فباغت حاضرة المنطقة آنذاك مدينة قرقيسيا، صباحاً، وفتحها بسرعة فاجأت أهلها، وأجبرتهم على التسليم ودفع الجزية، والقبول بالحكم العربي الإسلامي. فانشد عمر بن مالك الزهري قصيدة تغنى بهذا النصر السريع على أهل قرقيسيا قال فيها:



              ونحن جمعنا جمعهم في حفيرهم
              بهيت، ولم نحفل لأهل الحفائر



              وسرنا على عمدّ نريد مدينة
              بقرقيسياء سير الكماة والمساعر



              فجئناهم في دارهم بغتة ضحى
              فطاروا وخلوا أهل تلك المحاجر


              فنادوا إلينا من بعيد بأننا
              نديّن بدين الجزية المتواتر


              قبلنا ولم نرد عليهم جزاءهم
              وحطناهم بعد الجزا بالبواتر([5])



              وفي العصر الأموي تحولت قرقيسيا إلى أحدى مراكز المعارضة للحكم الأموي، حين استولى عليها زفر بن الحارث الكلابي المعارض. وفي العهد العباسي تحولت الرحبة إلى أهم حواضر المنطقة، وقد عُقد فيها أهم إتفاق تاريخي خطير، حين عقد البساسيري قائد شرطة بغداد مع الخلافة الفاطمية اتفاقاً حكم الفاطميون بغداد بموجبه عاماً كاملاً.
              وتعرضت منطقة دير الزور لغزوات مختلفة داخلية وخارجية، أتت نتائجها دماراً لحواضرها من بلدان وأديرة. وكان أهمها الغزو المغولي. وبعد الاحتلال العثماني عام 1517 حكمها العثمانيون مدة طويلة بدون استقرار واضح، وظهرت في بداية القرن التاسع عشر دير الزور كبلدة صغيرة، وجد فيها عدد من الموظفين الأتراك. ومخفر عسكري لحماية القوافل. وتعرضت البلدة لغزوات من قبائل البدو إلا أن أهالي المدينة والجنود الترك دافعوا عنها وصدوا الكثير من الغزوات التي كانت منطق ذلك العصر.
              وخلال معارك محمد علي باشا مع السلطنة، وقيام القوات المصرية بقيادة إبراهيم باشا باحتلال سورية في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، أصبحت دير الزور تحت الحكم المصري، وعين إبراهيم باشا حاكماً باسمه يدعى "معجون آغا" ومعه قائد عسكري يدعى "قفطان"، واتبعت منطقة دير الزور بسنجق حماه وبعد انتهاء حكم إبراهيم باشا([6]) عادت السلطة العثمانية إسمياً حتى دير الزور إلى عام 1863 حين أرسلت السلطنة العثمانية مصطفى عثمان باشا الجمركي من آل ملك زاده المشهور بـ(ثريا باشا)، وكان والياً على حلب، على رأس حملة عسكرية لتأديب القبائل الفراتية الرافضة لدفع الضرائب الأميرية، واصطدمت بالرقة بقبائل العفادلة المتمردة وبعد معركة صغيرة قتل شيخ العفادلة.. الشيخ حسين العلي الشاش"، وسيطرت على المنطقة([7])، ووصلت الحملة إلى دير الزور فأسس ثريا باشا مركز قائمقامية في دير الزور أتبعه لحلب. وعين عليه القائمقام عمر باشا، ثم عين بعد ذلك قائمقاماً جديداً عام 1865 خليل بك ثاقب الأورفلي، الذي بنى داراً للحكومة ومستشفى وثكنة وتحسنت المدينة لديه. وفي عام 1868 أصبحت دير الزور سنجقاً مستقلاً عن حلب، واتبع مباشرة إلى الأستانة. سنجقاً ممتازاً حدوده من عانه إلى مسكنة والجزيرة حتى حدود ماردين، وغرباً من البادية ضم السنجق تدمر. وكانت له قائمقاميات الرقة والميادين والبوكمال أما الحسكة والقامشلي آنذاك بادية لا عمران فيها ([8]).
              انسحاب الأتراك من دير الزور

              لم تتعرض دير الزور أثناء الحرب العالمية الأولى. وخلال الثورة العربية لأي هجوم خارجي ضد الأتراك من قبل جيوش الحلفاء والثوار العرب بل بقي الأمر هادئاً فيها. على الرغم أن قراها ومدنها لم تخلُ من جواسيس بريطانيين بصور مختلفة، وكانت حالة دير الزور أثناء الحرب في وضع مترد اقتصادياً، فقد ساد الفقر والعوز والجوع معظم مناطق المتصرفية. فالأتراك قاموا خلال الحرب بمصادرة القمح والمواد الغذائية من المواطنين، وإرسالها إلى جبهات القتال. كما حدث في معظم المدن والمناطق العربية، التي كانت ترزح تحت الاحتلال العثماني.
              ونتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي لحد المجاعة أفرز اضطرابات في المنطقة من قبل عشائر الفرات وأهل الحواضر، وقد سمى أهالي المحافظة تلك السنوات بسنوات الجوع التي أكلت الأخضر واليابس، وأدت إلى كوارث كبيرة ألحقت بنمو المحافظة وأهلها.
              وفي نهاية الحرب بدأت تصل إلى متصرف دير الزور الأخبار التي تحمل أنباء هزائم الترك أمام القوات العربية والحلفاء. وخروجهم من كثير من المناطق العربية. إلا أن أياً من القوات المعادية للترك عرباً وأجانب لم تصل إلى دير الزور أو المناطق التابعة لها.
              وأمام هذه الأنباء اجتهد المتصرف التركي آنذاك "حلمي بك" في جمع كل الوثائق والمستندات والسجلات التي تهم الأتراك، وأرسلها إلى مدينة أورفة التركية تحسباً لهجوم قد تتعرض له دير الزور، رغم وجود ما يزيد على /1500/ جندي وضابط تركي كانوا فيها، إلا أن المتصرف شعر أن أي معركة قادمة لن تكون لصالح الأتراك، ففضل الاستعداد لهذا الاحتمال، فأرسل الوثائق قبل حدوث المعركة المتوقعة.
              ورغم أن تحرير دمشق تم في الأول من تشرين الأول 1918، فإن متصرفية دير الزور لم يصل إليها أحد من القوات العربية أو الإنكليزية التي احتلت عانه، إلا أن وضع المتصرف القلق نفسياً، والخائف من وصول قوات معادية للترك إلى دير الزور. إضافة إلى انسحاب الأتراك من سورية وبلاد الرافدين، وبقاء دير الزور فقط، أوجس خيفة في نفسه، ووضعه في موقف محير لاتخاذ أي قرار. سواء بالبقاء أو الرحيل إلى تركيا لهذا قرر جمع أركان حكمه مع وجهاء المدينة لاتخاذ قرارٍ مناسب في هذا الوضع المقلق.
              وفي يوم الاثنين 4 تشرين الثاني 1918 دعا المتصرف حلمي بك كلاً من قائد الجيش في المتصرفية الأميرألاي /جميل بك/، وقائد الفرسان/ إبراهيم أدهم بك/، ورئيس بلدية دير الزور /الحاج فاضل العبود/، وعضو البرلمان التركي عن دير الزور /محمد نوري الفتيح/، وقائد الموقع العسكري /حامد بك العراقي/، وقاضي الشرع /عاصم لاز/. ورئيس محكمة بداية الجزاء /عثمان نوري بك/، ورئيس المالية /تحسين بك/ وآخرون إلى مأدبة غداء، تقام في دار الحكومة، وبعد تناول الطعام شرح المتصرف الموقف العسكري والسياسي في المنطقة بعد خروج. القوات التركية من سورية والعراق، عدّا متصرفية دير الزور. ولديه احتمالات هجوم على قواته من أطراف عربية أو إنكليزية، وما لديه من قوات للمواجهة ومن غير وجود مساندة له من قبل القوات التركية. وبعد مناقشة الأمر مع المجتمعين رجح رأي الانسحاب التركي عن دير الزور بصورة مؤقتة. ولحماية أرواح الجنود بعد أن أكد أن الخسارة في الجانب التركي، أمام أية مواجهة محتملة. فقرر المتصرف /حلمي بك/ أن ينسحب مع القوات التركية إلى تركيا ودير الزور مؤقتاً، وكلف رئيس البلدية /الحاج فاضل العبود/ بإدارة شؤون المتصرفية حتى عودته من تركيا. وغادرت القوات التركية دير الزور في 6 تشرين الثاني 1918.
              -مصير المتصرف

              كان قرار المتصرف /حلمي بك/ الانسحاب من دير الزور وبالاً وقع على رأسه، وعلى رأس قادته، فما أن وصل إلى مدينة ماردين، حتى ظهر انشقاق داخل صفوف القيادة العسكرية التركية التي كانت في دير الزور. فطلب عدد من القادة من المتصرف أن يعود بقواته إلى دير الزور. حيث لم يجدوا أية قوات تهاجمهم أو تطاردهم، وأن الانسحاب كان خطأً أقدم عليه المتصرف وأعوانه. ولكن موقف قائد القوات العسكرية /الأميرالاي جميل بك/ الحازم بعدم العودة أجبر الجميع بالرضوخ لقراره. وأثناء ذلك صدر قرار الهدنة بين الحلفاء والأتراك والقاضي بإبقاء كل قوة في مكان تواجدها. أصاب الندم الشديد المتصرف وقادته العسكريين لأنهم فرطوا في متصرفية دير الزور بدون سبب قاهر. وفعلاً ما أن علمت السلطات المركزية التركية بتصرف /حلمي بك/، وانسحابه من دير الزور بدون علمها، حتى أبدت انزعاجها وأسفها لهذا التصرف الأحمق. وأحيل المتصرف وقادته العسكريين للتحقيق، ثم المحاكمة العسكرية. وبعد فترة قصيرة أصدرت المحكمة العسكرية حُكمها بالإعدام على المتصرف جميل بك وقائد الفرسان إبراهيم أدهم بك رمياً بالرصاص، كما تم إصدار أحكام بالسجن على البقية. وانتهى الحكم التركي عن دير الزور([9]).


              ([1]) د. شوقي ضيف- العصر الإسلامي- دار المعارف المصرية- القاهرة- 1963- ص258.

              ([2]) ياقوت الحموي- معجم البلدان- دار صادر- بيروت- 1982- ج5- ص43.

              ([3]) ياقوت الحموي- مصدر سابق- ج

              ([4]) ياقوت الحموي- مصدر سابق- ج2- ص511.

              ([5]) ياقوت الحموي- معجم البلدان- مصدر سابق- ج4- ص328

              ([6]) عبد القادر عياش- دير الزور- حاضرة الفرات- مجلة العمران- العدد 39/40 وزارة البلديات السورية دمشق 1971 ص23

              ([7]) أدهم الجندي- بطولات أبناء دير الزور- مجلة العمران- العدد 39/40 وزارة البلديات سورية- دمشق 1971 ص95

              ([8]) المصدر السابق

              ([9]) أدهم الجندي بطولات أبناء دير الزور ص96.
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: الثورة المنسية

                الفصل السادس : دير الزور بين العراق.. والشام
                دير الزور والحكومة المحلية‏
                بعد رحيل الأتراك عن دير الزور وجد أهالي دير الزور أنفسهم بدون سلطة مركزية تتبع لها متصرفيتهم، التي نشأت في نهايات الحكم التركي. وكان الخوف الذي يشعرون به. من المحيط العشائري الذي يسور مدينتهم، فالعشائر اعتادت الغزو والنهب والسلب سواء من بعضهم البعض؛ أو بدخول المدن ونهب البيوت. فكان من الضرورة أن تتواجد سلطة قوية تحمي المدينة وأهلها. وريثما يتفقون على السلطة التي يريدون تابعيتها، اتفقوا على تشكيل حكومة محلية تضبط أمور الأمن، وتسير شؤون المدينة مؤقتاً فأوجدوا فيما بينهم مجلساً محلياً سموه "حكومة الحاج فاضل الأولى"، لأن رئيسها هو رئيس البلدية الحاج فاضل العبود، أو ما أسماه أهل البلد، "حكومة الفلتان" لأنها لا تتبع سلطة مركزية وبعد نقاشات بينهم اتفقوا على تشكيل المجلس على أن يضم /21/ عضواً تتناوب رئاسته ما بين زعماء الأحياء الثلاث في المدينة. واستمرت الحكومة حتى الأول من كانون الأول عام 1918.‏
                دعوة الحكومة العربية.‏
                قررت الحكومة المحلية مع عدد من الوطنيين والوجهاء دعوة الحكومة العربية لضم متصرفية دير الزور إليها. وإرسال حاكم للمتصرفية من قبلها، وتوسطت الحكومة المحلية الشريف علي بن ناصر لتحقيق هذه الدعوة. واستجابت الحكومة العربية للمطلب، وعين الأمير فيصل متصرفاً وقوة عسكرية لدير الزور(1) . وفي الرابع من كانون الأول عام 1918 وصلت إلى دير الزور قوة عسكرية مؤلفة من لواء من الهجانة -قوة عشائرية عسكرية- وبقيادة الشريف علي بن ناصر. وقد استقبلت من قبل أهالي المدينة استقبالاً حاراً فهي أول قوة عربية مستقلة تدخل المدينة، ولأول مرة منذ أربعة قرون للمتصرفية ومناطقها. فكان دخول تلك القوات يوم مشهود للمدينة ومناطقها. وبعد أيام قام الشريف علي بن ناصر بجولة تفقدية في أنحاء المتصرفية، فزار عشائر الفرات، والتقى بشيوخها وزعمائها. وتعرف على أحوالهم، وهل هم راضون بحكم الشريف فيصل لهم وتابعيتهم للحكومة العربية في دمشق، فأكد له زعماء العشائر الولاء والإخلاص للحكومة العربية، ومبايعتهم للشريف حسين ملكاً على العرب. ولابنه الأمير فيصل بإمارة الشام. وأكدوا استعدادهم للدفاع عن الدولة العربية، ووضعوا أنفسهم وعشائرهم تحت تصرف الأمير فيصل.‏
                ووصل إلى دير الزور في السابع من كانون الأول 1918 أول متصرف عربي لها هو "مرعي باشا الملاح"، ترافقه مجموعة من الإداريين والعسكريين لإنشاء الهيكلية الإدارية. وقد رافقه كل من الأميرألاي علي بك العسكري "شقيق جعفر والي حلب/ بصفة قائد للقوات المتواجدة في دير الزور، ورافقهم الشيخ مجحم بن مهيد رئيس عشائر عنزه. وقرر المتصرف حل المجلس الأهلي، والذي سمي /حكومة الفلت/ أو حكومة حاج فاضل، وشكل مجلساً جديداً يعاونه في إدارة شؤون البلدة. وقد ضم السادة: الحاج فاضل العبود. وعمر عبد العزيز ومحمد نوري الفتيح وخضر لطفي ومحمد كامل البعاج. وحسن محمد الجاسم(2) ، وعين حاكمين لكل من قضائي الميادين والبوكمال.‏
                فشل الحكم العربي‏
                سارت الأمور في بدايات عمل المتصرف مرعي الملاح في دير الزور بشكل حسن، وكان المتصرف المذكور محبوباً من أهالي الدير، بما اتسم به من عدل ونزاهة وحبّه لحلّ المشاكل بطرق ودّية وعادلة. إلا أن الأشهر التي تلت العام الجديد 1919 بدأت تشكل ضغطاً على الأهالي لأسباب أهمها:‏
                1-انقطاع الموارد الاقتصادية التي هي المورد الرئيسي لأهالي مدينة دير الزور. التي تقوم على خدمة العمليات التجارية أهم مورد مادي لتجار وعمال المدينة، كونها المحطة الرئيسية التي تقع على نهر الفرات للقوافل التجارية القادمة من تركيا إلى العراق أو بالعكس، أو من دمشق عبر البادية إلى العراق أو بالعكس. فالقوافل التجارية التي كانت تمارس بحرية عمليات الانتقال في العهد العثماني، باتت تتعرض للمضايقات من قبل السلطات الإنكليزية التي تحكم العراق، ومن الاضطرابات التي تحدث في الشام. بسبب التحولات السياسية في داخل الحكم، ورفض المؤتمر السوري للمعاهدات البريطانية والفرنسية، وقرارات سان ريمو بفرض الانتداب الفرنسي على سورية، وتعيين فيصل ملكاً بالرغم من رفض بريطانيا وفرنسا.‏
                انعكست هذه الاضطرابات السياسية والاقتصادية على الحال الاقتصادية في دير الزور سوءاً.‏
                2-الدعايات التي تبثها بريطانيا عن ازدهار العراق بسبب احتلالها له، وتوزيعها المجاني للمواد الغذائية على الأهالي أو بأسعار مخفضة(3) ، في حين كانت دير الزور تحت خط الفقر والعوز، فهي لم تخرج بعد سنوات الجوع التي أشرنا إليها. في حين كان أبناء عانة والرمادي وغيرها من المدن العراقية تصلُ إلى دير الزور، تقول: أن الأسواق غارقة بالرز والسكر والمواد الغذائية المختلفة، كان الإنكليز يتبعون سياسية دعائية بإعطاء الوجهاء وشيوخ العشائر كميات كبيرة من المواد الغذائية، ليقوموا بتوزيعها على مواليهم. وهذه الأنباء بدأت تثير اهتمام الأهالي، وتجعلهم يقارنون بين الوضعين، مما أثار نوعاً من رفض لهذه الحكومة التي لا تقدم لهم أي مساعدات هم بأمس الحاجة إليها.‏
                3-الممارسات الخاطئة التي يقوم بها الشريف علي بن ناصر وجنوده بحق المواطنين وممتلكاتهم، والتي أدت إلى تذمر مضاد للحكومة العربية. فقد استخدم الشريف علي القمع والظلم، ثم السلب والنهب سواء لما يملكه المواطنون البسطاء أو التجار والمزارعون، أو بتدخله المباشر هو وجنوده في شؤون أهل المدينة الاجتماعية والاقتصادية(4)
                أدت هذه العوامل وغيرها إلى تحول في الرأي العام لدى المواطنين، فمن جهة كانت الصعوبات الاقتصادية تشكل ضغطاً على المواطنين ومستواهم المعاشي، مع سقوط الحلم بالرفاهية وإنهاء حالات الجوع والفقر بوصول الحكومة العربية إليهم، وبتابعية متصرفيتهم لها. ومن جهة أخرى تصرفات الشريف علي وجنوده التي أثقلت على المواطنين.‏
                كان الرأي العام يزداد يوماً بعد يوم كرهاً للحكومة العربية، على الرغم من محاولات المتصرف مرعي الملاح، الذي أراد أن يخلق توازناً بين أخطاء الشريف علي، وبين ما يقوم به من عدل وعناية بالمواطنين على مختلف شرائحهم الاجتماعية، وأن يرفع من مستوى معيشتهم. إلا أن الأمور كانت تزداد سوءاً مما جعل محاولات المتصرف تضيع في أدراج الرياح، وأي رياح؟ رياح التحول من الحكومة العربية إلى أعدائها.‏
                (1) هنري شارل -عشائر الغنامة في الفرات الأوسط - المعهد الفرنسي للدراسات العربية - دمشق 1998- ص26.‏
                (2) أدهم الجندي - بطولات أبناء دير الزور- مصدر سابق ص58.‏
                (3) أسعد الفارس - شعب ومدينة على الفرات الأوسط - دار الملاح- دمشق 1993 ص95‏
                (4) محمد طاهر العمري- مقدرات العراق السياسية - بغداد- 1935- الجزء الثالث - ص336.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: الثورة المنسية

                  الفصل السابع: الاحتلال الإنكليزي لدير الزور
                  أمام الاحباطات التي واجهت وجهاء المدينة وزعماءها، واستمرار الحالة المتردية اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وأمام الاغراءات التي تصل رياحها إلى دير الزور للنعيم الذي يعيشه العراق، في ظلال الاحتلال البريطاني، عقد وجهاء المدينة وزعماؤها اجتماعاً سرياً، قرروا فيه أن يتخلصوا من الشريف علي بن ناصر والحكومة الشريفية، وبدعوة الإنكليز لمدّ احتلالهم للعراق إلى دير الزور، وبكتابة مضبطة "عريضة" وقع عليها المجتمعون سرّاً، وحملها أحدهم خفية إلى مدينة عانة في العراق، وسلمها إلى الحاكم السياسي البريطاني فيها. الذي قام بإرسالها إلى الحكومة البريطانية في لندن(1) .‏
                  وقام وجيه المدينة وزعيمها الحاج فاضل العبود بزيارة إلى بغداد، لبحث الأمر مع قادة العراق، واستشارتهم في هذه الأمور. وعارضاً وضع المدينة التي تعيش ظروفاً صعبة وقاهرة آنذاك، والتقى بالعديد منهم، ومن بينهم نقيب بغداد النقيب الكيلاني الذي نصحه.. بقوله: ".. أي ولدي.. أن أحسن ما تعملونه هو أن تستظلوا بظل الحكومة البريطانية لأن البريطانيين معروفون في العالم أجمع بالعدل والأنصاف" (2) . وعاد الحاج فاضل من بغداد بعد أن اقتنع بأن حل إشكالات مدينته سيكون على أيدي الإنكليز.‏
                  وقد يقول البعض إن في ذلك خيانة للوطن والبلد، باستقدام محتل أجنبي عليه. إلا أن الباحث والدارس الموضوعي، هو الذي يُسقط الحدث في زمنه، لا في الزمن الذي يعيشه، حتى يعطيه حقه التاريخي. فالوعي السياسي لم يكن مكتملاً، والأميّة والجهل كانت هي الحالة السائدة في ذلك الزمن، إضافة إلى الجوع القاتل الذي فتك بالمدينة، والمنطقة أثناء الحرب، جعل الناس ترتعب من ذكراه. فكان الأموات يُلقون في الشوارع، وامتلاك لقمة تسد فم الجائع من أثمن الأثمان، وقد استبيحت كل المحرمات أمام هذا الجوع الكافر. لهذا أرى أن أسباب استقدام الإنكليز يحتاج إلى دراسة تاريخية بعين موضوعية. للحكم على هؤلاء الذين وقعوا العريضة، التي تطلب من الإنكليز احتلال إلى بلادهم طواعية. فالأمن مضطرب، والغزو القبلي مستمر، وتهديد المدينة من قبل العشائر المحيطة على قدم وساق، والجوع والعوز يدق أبواب الجميع، إضافة إلى العسف والظلم الذي تمارسه قوات الهجانة بزعامة الشريف علي بن ناصر بحق الأهالي والتجار والمزارعين.‏
                  إن الحل الذي توصل إليه وجهاء المدينة في قياس الوطن خيانة. ولكن أمام التبريرات التي سقناها، تجعلنا نقف طويلاً قبل أن نسمي ما أقدم عليه كُتْاب العريضة "خيانة"، فهم لم يكونوا يوماً عملاء للأجنبي، بل عرفوا بحبهم لوطنهم ومدينتهم، وحافظوا على الأمن والنظام من خلال إدارة محلية بعد أن رحل الترك عنها. ولم تبق أية سلطة تفرض النظام، ولهذا كتبوا إلى الحكومة الشريفية في دمشق لتمدّ سلطتها إلى بلدهم. ولكن الآمال التي حلموا بها لم تتحقق، لهذا رأوا من خلال ما يملكون من معرفة، حيث الجهل والأمية؛ بأن حل إشكالات الجوع تتم ببسط السيطرة البريطانية، لينالوا ما نال العراقيون كما وردت إلى مسامعهم من دعامات الغنى، وإن كان هذا الحل الذي رأوه نخالفهم به. ونرفضه لأن الوطن أهم من كل شيء. إلا أننا نسقط الفترة الزمنية المتباعدة بيننا وبينهم. والظروف التي كانوا يعيشونها فنصل إلى النتيجة الموضوعية، وبعد ذلك نحكم على ما حدث.‏
                  مطامع بريطانيا وفرنسا‏
                  إن أطماع الإنكليز في المنطقة العربية ليست فقط في بداية القرن العشرين، لكنها توضحت أكثر في الحرب العالمية الأولى، واستغلت تنامي الحركة القومية العربية لتنفيذ مآربها، ومنها جمعية العهد التي هي موضوع بحثنا. فنرى في رسالة للسيد مارك سايكس إلى السيد برسي كوكس في 22 تشرين الثاني عام 1915 مطامع إنكلترا وشريكتها فرنسا واضحة، باستغلال مطامح الجمعية وأهدافها فيقول: "إنهم الجمعية العربية) مضطرون لأسباب سياسية إلى المطالبة بالاستقلال المطلق.." ويتابع "إن طموحهم الحقيقي هو استقلال سورية والحجاز، بتأليف دولة تقدمية من ولايات دمشق، وبيروت وحلب والموصل، وبغداد، وسناجق أورفه، ودير الزور، والقدس، تحت حكم الشريف، إلا أن هذا مشروط بالاتفاق مع فرنسا وبريطانيا العظمى، وتكون لفرنسا سيطرة تامة على كافة المشاريع والمرافق التعليمية الخاصة في غربي الفرات وحتى دير الزور، وفي فلسطين، ولا يستخدم أي أوربيين ما عدا الفرنسيين من قبل الدولة العربية في تلك المنطقة. إلا أن الدولة غير ملزمة باستخدام المستشارين الأوربيين بمحض إرادتها. وتكون لبريطانيا العظمى بعض الحقوق في العراق والجزيرة العربية. وتكون البصرة والأراضي الواقعة جنوب الكويت وحتى الفاو تحت السيطرة البريطانية بشكل مطلق. أما الأراضي الواقعة شمالي خط الإسكندرونة، وعينتاب، وأورفه، فتكون فرنسية بشكل مطلق" ويعود في ختام قوله- إذا أصبح لنا احتكار دائم للمشاريع والمساعدات الأوربية العسكرية والمدنية في مقاطعات الموصل وبغداد والبصرة. وإذا أصبحنا ندير مقاطعتي بغداد والبصرة طيلة مدة الحرب، فأعتقد أننا لا يجب أن نخشى المستقبل. سواء نجحت العروبة، أم لم تنجح فلن نكون قد خسرنا شيئاً"(3) .‏
                  فمارك سايكس لا يكترث.. أن تحققت العروبة أم لم تتحقق، المهم أولاً وأخيراً مصالح فرنسا وبريطانيا. وجاءت اتفاقيته مع المسيوبيكو الفرنسي لتقسيم المشرق العربي بين الدولتين ضاربة عرض الحائط كل العهود والمواثيق التي أعطيت للعرب، والتي أشرنا إليها في الفصول السابقة، وفي الاتفاقية كانت دير الزور أرضاً غير متنازع عليها، سوى البوكمال التي رأى فيها البريطانيون أنها تدخل ضمن نفوذهم، إلا أن عريضة دير الزور جاءت ذريعة لديهم فاستخدمت استخداماً جيداً لاحتلال دير الزور.‏
                  احتلال دير الزور‏
                  وافقت الحكومة البريطانية على عريضة وجهاء دير الزور، فطلبت من الحاكم السياسي لمنطقة الدليم الكولونيل /ماجور نلبلاست/ إرسال قوة عسكرية إلى دير الزور مع حاكم سياسي بريطاني. فجهز /نلبلاست/ قوة تتألف من /8/ سيارات و/4/ مصفحات و/60/ دركياً. و/20/ متعاملاً في مدينة البوكمال. ودع نلبلاست) القوة ووضع على رأسها الكابتن /كارفر/ ليكون حاكماً سياسياً بريطانياً على مدينة دير الزور(4) .‏
                  وصلت القوات البريطانية إلى مدينة دير الزور في 11 كانون الثاني عام 1919 واتجهت إلى دار المتصرف /مرعي الملاح / الذي استغرب وجودها، وكانت دهشته أكثر حين طلب منه الكابتن /كارفر/ أن يسلمه المدينة، بعد أن أصبحت منطقة دير الزور بكاملها تحت السيطرة البريطانية وتتبع القيادة في بغداد. رفض الملاح في البداية هذا الطلب، وبعد حوار بين الطرفين توصلا إلى الاحتكام لوالي حلب الذي تتبعه متصرفية دير الزور. واتفقا أن يذهبا سويّة إلى والي حلب شكري باشا الأيوبي، وفي حلبَ وجدَ الملاح نفسه خاسراً حيث وافق واليّ حلب على تسليم دير الزور لبريطانيا، وزوّدَ الكابتن /كارفر/ بكتاب خطي يُقرّ فيه تابعية دير الزور إلى بريطانيا وانسحاب القوات الشريفية منها(5) وبذلك انتهى الحكم الشريفي في دير الزور. وأصبحت تابعة للعراق وللحاكم السياسي البريطاني في بغداد. رغم اعتراض الحكومة العربية في دمشق على هذا الإجراء البريطاني(6) ، إلا أنها لم تقمْ بأيّ عمل لاستعادة متصرفية دير الزور إليها. ويظن أنها أرجأت العديد من قضايا الحدود. ومن بينها تابعية مدينة دير الزور إلى مؤتمر الصلح، الذي سيعقد بعدئذ لحل مشاكل الحدود وقضايا الانتداب الأجنبي.‏
                  (1) محمد طاهر العمري - مقدرات العراق السياسية- المصدر السابق ص336.‏
                  (2) غير ترود بل - فصول من تاريخ العراق القريب - ترجمة جعفر الخياط بيروت 1971 ص474‏
                  (3) f.o. 882- 13- MES- 15-18- 22 November 1915.‏
                  (4) هنري شارل- عشائر الغنامة في الفرات الأوسط - مصدر سابق ص26+ أدهم الجندي- بطولات أبناء دير الزور - مصدر سابق ص97.‏
                  (5) علي الوردي- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث- الجزء 5 - مصدر سابق ص131.‏
                  (6) وميض جمال عمر نظمي- الجذور السياسية.. -مصدر سابق ص178.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: الثورة المنسية

                    الفصل الثامن : عوامل ثورة دير الزور
                    وطأة الاحتلال البريطاني‏
                    كان حلم وجهاء مدينة دير الزور الذين سطروا "المضبطّه"، ووقعوا عليها، أن ينتعش الوضع الاقتصادي في المنطقة. وتحلّ مشاكل الجوع والفقر والعوز كما أسلفنا، إضافة إلى ضبط الأمن الذي انفلت بين العشائر في المنطقة بعد رحيل الأتراك. وانتظر الوجهاء والأهالي طويلاً وصول المواد الغذائية والأرزاق المجانية من بريطانيا إلا أن ما وصل لا يُذكرْ. بل بدأ الإنكليز في فرض الضرائب والغرامات مضاعفة عما كانت تفرضه حكومة الشريف عليهم. وكانت حجة البريطانيين أن الخزينة في دير الزور فارغة من الأموال، فلا بد من فرض الغرامات على المخالفات ليتم بعد ذلك الإصلاح. وقد كان البريطانيون بحاجة للمال من أجل فرض الأمن في المنطقة، وخاصة للقوافل التجارية بتأمين الطرق لها، ومنع نهبها أو سلبها من قبل القبائل المتواجدة على خطوط المواصلات. واستخدمت عدداً من الأهالي المحليين لحراسة تلك القوافل على الطرق. وفعلاً فرضت الأمن على الطرق، واستنب الوضع الأمني، وهذا ما تطلب تكاليف مادية رأى البريطانيون حلّها في زيادة الغرامات، وتحصيلها بالعنف والقسوة من الأهالي. وهذا ما خلق تذمراً من أهالي المنطقة لتلك الإجراءات البريطانية العنيفة.‏
                    ومع تزايد الصعوبات بدأت تتنامى لدى الأهالي والعشائر روح الحقد والرفض للوجود البريطاني، الذي تزداد وطأته يوماً بعد يوم. مع ظهور جيل وطني بدأ يتشكل في مدينة دير الزور يرفض الوجود البريطاني. كان تشكله بعيداً عن سيطرة الوجهاء السابقين وزعماء العشائر النافذين في العهد التركي. هذا الجيل بدأت كوكبته الطليعية تؤلف ما بينها شبه تنظيم قومي عربي واع، يدعو إلى إزاحة الاحتلال البريطاني عن دير الزور. رغم التباين في الانتماء الطبقي والفكري بينهم، إلا أنهم جمع صغير من المتعلمين جمعتهم روح تحرير الوطن من الإنكليز، والنضال لتحقيق أهداف الثورة العربية، بتحقيق استقلال العرب ضمن دولة واحدة حرة مستقلة. وجاء تعيين رمضان باشا شلاش أحد ضباط الثورة العربية. ومن أبناء منطقة دير الزور حاكماً عسكرياً على الرقة في 13 صفر سنة 1338 في أوائل تشرين الأول 1919 تعزيزاً لتوجهات هذه الطليعة، والتي لم تدع فرصتها الزمنية تمر فأرسلت عريضة.. "مضبطة"، تدعو رمضان شلاش إلى التعاون معهم من أجل الخلاص من الحكم البريطاني لبلادهم(1) . وإلحاقها بالحكومة العربية في دمشق. ومن المصادر المتوفرة إن الذين وقعوا عليها.. عياش الحاج ومحمد سيد العرفي. والشاعر محمد الفراتي. وتحسين الجوهري وثابت العزاوي وغيرهم(2) .‏
                    -فشل الوسائل السلمية لتحقيق مطالب حزب العهد العراقي.‏
                    شعر ضباط حزب العهد العراقي أن الدعوات التي وجهها الحزب وضباطه والأمير فيصل وعدد من الضباط الإنكليز من أعضاء المكتب البريطاني في القاهرة لم تجد لها آذاناً صاغية لدى أرنولد ولسن الحاكم السياسي البريطاني في بغداد. في تغيير سياسته المتشددة وسعيه لحكم بريطاني مباشر في العراق، مع رفض شديد لإقامة الحكومة العربية في بغداد أو السماح بعودة الضباط العراقيين إلى بلادهم.‏
                    أمام هذا التعنّت ورفض النداءات من قبل ولسن، انقسم ضباط العهد إلى ثلاث أقسام في توجهاتهم وآرائهم لحل هذه المشكلة، وكيفية إرغام ولسن لتغيير موقفه وسياساته في العراق. فكان هناك رأي ثوري يرى أن الحل السلمي لا يجدي نفعاً مع بريطانيا، وأن استخدام العنف والثورة ضدها سيرغمها على الإقرار بمطالبهم ويتزعم التيار هذا. الفريق ياسين الهاشمي ومعه رمضان شلاش، في حين كان تيار آخر لم يقطع الأمل في أن تحقق بريطانيا وعودها التي طرحتها أثناء الحرب، وإن لا خلاص من الارتباط مع بريطانيا. ويرفض رفضاً قاطعاً العنف أو استخدام أية وسيلة عسكرية ضد بريطانيا، ويتزعم هذا التيار كل من جعفر العسكري ونوري السعيد. في حين كان تياراً وسطاً يضم الغالبية من الضباط العراقيين في حيرة من أمرها، فهي ترى أن الوسائل السياسية لم تستنفذ بعد، وأن الوسائل البديلة كالثورة والعنف له مخاطر كبيرة. وإن لا قدرة لهم على مواجهة بريطانيا، ويضم الغالبية من الضباط أمثال علي جودت وجميل المدفعي وتحسين علي وغيرهم من الضباط.‏
                    -ياسين يوحي لرمضان بالثورة‏
                    كان رمضان شلاش كمعلمه ياسين الهاشمي يكن كرهاً شديداً للأجانب والبريطانيين خاصة، فهو لا يثق بوعودهم. ويشعر بأنهم خانوا الثورة العربية وقائدها الشريف حسين. وقد اصطدم مع زملائه في حزب العهد من الموالين لبريطانيا وبالأخص جعفر العسكري أثناء الحرب من أجل بريطانيا، مما جعله يوضع في مواقع غير حساسة خلال العمليات الحربية. كما أن حادثاً يرويه رمضان شلاش(3) في مذكراته، سبب له عدم المساهمة مع القوات العربية في دخول دمشق في الأول من تشرين الأول 1918. ويتلخص الحادث بأن القنصل البريطاني في جدة ويدعى "الميجرباست" أثناء الثورة العربية قد أمر عدداً من المصريين بإنزال أسلحة من الباخرة ثم بدأ يقسو عليهم بالكلام ووصفهم بالكلاب، فأخذت رمضان شلاش الحمّية، فضرب /الميجر باست/ بعصاً كانت بيده قائلاً له: إنهم عرب. وقد كادت هذه الحادثة أن تودي بحياته، لولا تدخل الشريف حسين والأمير فيصل. حيث جرت له محاكمة من قبل لجنة مشكلة من الجنرال ولسن ونسيب البكري وأحد الأشراف، وأثر فيصل على مجرى المحكمة، فقرروا نفيهُ إلى مكة، حيث بقي حتى انتهاء الثورة بعام، وكان من الحرس الخاص للملك حسين(4) .‏
                    في الأول من تشرين الأول 1919 عاد رمضان شلاش إلى دمشق، وكان الأمير زيد مكلفاً من قبل أخيه الأمير فيصل في إدارة شؤون البلاد، ففيصل كان يقوم بزيارة لأوربا لبحث القضية العربية، والتقى رمضان في دمشق بالفريق ياسين باشا الهاشمي(5) . الذي حثه لاستعداد ثوري في منطقة الفرات، وقرر كل من الهاشمي والأمير زيد تعيينه حاكماً عسكرياً للرقة والخابور والفرات، ويذكر المرحوم رمضان شلاش في مذكراته: "..وعند وصولي دمشق لم أجد فيصلاً وقد كان في دمشق المرحوم الوطني الكبير الفريق ياسين باشا الهاشمي رئيساً لمجلس الشورى، فطلبني لمقابلته بصورة سرية، وقال لي: بالحرف الواحد.. يا رمضان عما قريب. سيأتي يوم نحارب فيه الفرنسيين، وربما يستنجدون بحلفائهم الإنكليز. فعليه عيناك حاكماً عسكرياً لمنطقة الرقة والخابور. ووادي الفرات. وأنت بإمكانك أن تقوم بما يمليه عليك الواجب تجاه وطنك. وعينت بالفعل لهذا المنصب عام 1919 بشهر تشرين الأول" (6) .‏
                    ويذكر علي الوردي أن المركز العام لحزب العهد العراقي في دمشق قد قرر في صيف عام 1919 "استرجاع الدير من قبضة الإنكليز لكي يتخذ منها منطلقاً لإيقاد الثورة في العراق، ولهذا سعى المركز لدى حكومة دمشق لتعيين رمضان شلاش حاكماً عسكرياً في الرقة، وهي بلدة تقع على الفرات في شمال الدير لكي يعمل من هناك على استرجاع الدير. وفي 19 أيلول غادر رمضان حلب متوجهاً إلى الرقة لتسلم منصبه (7) .‏
                    وما إن وصل رمضان شلاش إلى الرقة حتى أخذ يتجول بين القبائل المتواجدة في منطقة الرقة، ويتصل سرّاً بهم، وكسب من خلال إتصالاته عشائر الولّده والعفادله والسبخة والبوسرايا، وشكل حسب قوله في المذكرات جيشاً من العشائر المذكورة بما يقارب ثلاثة آلاف فارس(8) ، وبدأت تلك التحركات تثمر بموافقة زعماء العشائر على خوض المعركة مع الإنكليز لتحرير دير الزور، وتفجير الثورة فيها، ولم يبق إلاّ انتظار إيعاز حزب العهد بإطلاق شرارتها.‏
                    (1) علي الوردي- لمحات من تاريخ العراق الحديث. مصدر سابق ج5 ص132‏
                    (2) أدهم الجندي- صفحات منسية من بطولات أبناء دير الزور- مصدر سابق ص98‏
                    وميض جمال عمر نظمي- الجذور السياسية.. -مصدر سابق ص 157-158.‏
                    (3) رمضان شلاش- 1869-1961- ولد في قرية الشميطية التابعة لمحافظة دير الزور - من رؤساء قبيلة البوسرايا. سافر إلى الاستانة، ودرس في مدرسة العشائر العسكرية. تخرج من المدرسة الحربية في الاستانة عام 1869 ملازماً، وعين مرافقاً للسلطان، ثم انتقل إلى الفرق العسكرية في أورفه، شارك في قتال الإيطاليين في ليبيا. وبعد عودته أصبح أحد قادة الفيلق التركي في المدينة، ثم التحق بالثورة، ثم قائمقام الرقة وشارك في الثورة السورية الكبرى. توفي في دمشق.‏
                    (4) مذكرات أمير اللواء رمضان شلاش- لا تزال مخطوطة لم تنشر ص51‏
                    (5) ياسين حلمي الهاشمي 1882-1937) ولد في بغداد. وتعلم العلوم العسكرية في الأستانة وبرلين. تخرج من كلية أركان الحرب في عام 1905 تولى مسؤولية حزب العهد بعد عزيز المصري. وانتسب إلى جمعية العربية الفتاة. كان ضابطاً متميزاً شارك في العديد من الحروب التركية ضد الحلفاء. رفض الالتحاق بالثورة لرفضه التحالف مع بريطانيا التي يرى فيها مستعمر جديد يسعى لتحقيق مصالحه رغم أنه دعا فيصل للثورة من قبل. دعاه فيصل بعد توسط زملائه له وأصبح رئيساً لديوان الشورى، رئيس أركان حرب- تولى عدة وزارات في العراق. لقبه العراقيون وعدد من العرب بسمارك العرب لدعواته القومية. توفي في دمشق عام 1937.‏
                    (6) مذكرات أمير اللواء رمضان شلاش الخطية- لم تطبع- مصدر سابق ص55‏
                    (7) د. علي الوردي- لمحات من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق ج 5- ص132‏
                    (8) مذكرات رمضان شلاش الخطية- مصدر سابق ص56‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: الثورة المنسية

                      الفصل التاسع: بريطانيا تعتقل ياسين الهاشمي

                      أثارت تحركات ياسين الهاشمي رئيس أركان الجيش العربي بريطانيا، لتجهيزه الجيش وتحديثه، واستبداله بجيش نظامي بدل الجيش العشائري القبلي، الذي دخل مع فيصل الشام، ليكون القادر على مواجهة القوات الفرنسية إن تحركت لاحتلال سورية. كما كان وراء قرار التجنيد الإجباري، وساعد الثورة في المنطقة الغربية ضد فرنسا، ويعمل لتفجير ثورة ضد بريطانيا في العراق. كما شكلت شعبيته داخل الجيش والشعب مثار حقد وكراهية في صفوف القيادة البريطانية، وبعض زملائه من حزب العهد وحتى. من بعض أعضاء السلطة. فكان يحظى باحترام وتقدير الجميع لنزاهته ووطنيته وقوميته الصادقة.
                      كانت تحركات ياسين ثم رمضان المكلف من قبله في أوساط العشائر العربية، وخاصة بعد وصول رمضان شلاش إلى القبائل العربية القاطنة في الفرات والجزيرة، ترصد بعيون الجواسيس والاستخبارات البريطانية، فقد وردت إلى القيادة البريطانية تقارير استخباراتية خلال شباط وتموز ([1]) ثم بعد ذلك في تشرين الأول 1919 تؤكد أن رمضان شلاش يحرض العشائر والقبائل في المنطقة ضد الإنكليز، وبدافع من ياسين الهاشمي الذي يخطط مع رمضان من أجل تفجير الثورة في منطقة الفرات، لتمتد إلى كافة أنحاء العراق([2])، وأمام احتمالات الثورة في العراق التي يسعى إليها رمضان شلاش بتحريض من ياسين، رأت القيادة البريطانية أن بقاء ياسين الهاشمي في منصبه كرئيس لأركان الجيش أصبح خطراً على مخططاتها وأهدافها فتذكر المس غيرترود بل في تقرير لها في 15 تشرين الثاني 1919 بعد أن زارت سورية قالت فيه: ".. إن ياسين هو الروح المحركة للعهد العراقي الذي يوجد فيه حوالي 300 من أعضائه في خدمة فيصل "ثم قالت: ".. واثقون بدرجة مماثلة من أن ثمة استياء شديداً يعم كل الطبقات في العراق". وبينت أن ياسين وجماعته يعملون على تأسيس حكومة عربية في العراق خارج الاحتلال البريطاني. فكان رد فعل أرنولد ولسن الحاكم البريطاني في العراق: ".. إن تأسيس حكومة عربية وفق الأسس التي يدعو إليها ياسين.. وناجي "السويدي" أمر يتناقض مع أي نوع من السيطرة الفعلية. ولمدة من الزمن تستغرق بضع سنوات. لن يؤدي تعيين موظفين عرب. اللهم إلا بصفة استشارية إلا إلى انحلال سريع في السلطة والقانون والنظام"([3]).
                      اعتقال ياسين الهاشمي.

                      يظهر أن السلطات البريطانية قد ضاقت ذرعاً من تحركات ياسين الهاشمي المعادية، وبموافقة الحكومة البريطانية قامت القيادة البريطانية في 22 تشرين الثاني 1919 باعتقال الفريق ياسين باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العربي. حيث دعاه القائد البريطاني في دمشق لتناول الشاي في معسكره، فاستجاب الهاشمي للدعوة، وما إن وصل إلى المعسكر البريطاني، حتى تم اعتقاله من قبل القوات البريطانية، وتم إرساله مخفوراً إلى مدينة الرملة في فلسطين للتحقيق معه. ثم وضع في حيفا تحت الإقامة الجبرية حتى 14 أيار 1920 فأطلق سراحه وعاد إلى دمشق.
                      أسباب الاعتقال

                      في تقرير رفعه الجنرال /اللنبي/ لوزارة الحرب البريطانية بيّن فيه أسباب اعتقال ياسين الهاشمي، وهي: "رئاسته للحزب الوطني المتطرف، ولأنه تحدى سلطاته بشكل مفضوح، واستمر في دعمه للقوات الشريفية في البقاع، مع أنه منعه من ذلك، بالإضافة إلى أن قبيلة الفضل هاجمت مفرزة بريطانية بجوار القنيطرة. وكانت قليلة العدد وأنها اضطرت للانسحاب. وأن هذا الموقف العربي المعادي لبريطانيا في هذه الفترة كان مدعوماً من قبل ياسين الهاشمي. وباستمرار عصيانه لأوامره التي أرسلها لدمشق/ وبتحديه العلني لسلطة اللنبي. فقرر توقيفه"([4]) وأسباب أخرى يسوقها الدكتور علي سلطان في كتابه تاريخ سورية (1918-1920)، فيذكر منها تزعمه للحزب العراقي في سورية الذي يطالب باستقلال العراق التام، مثله مثل سورية، وهذا تحدّ خطير ضد سلطة بريطانية في العراق. وتبدأ قصة إبعاده عن سورية منذ شهر تموز 1919، عندما شعرت القيادة البريطانية بأنه أصبح خطراً على المخططات الاستعمارية الإنكليزية. فأرسلت للعراق تسأل المفوض السامي البريطاني إذا كان يقبل بزيارة الهاشمي لبغداد لبعض الوقت. فأجاب بالرفض. لأنه قد يسبب الاضطراب فيه. وقد وصفه الضابط السياسي البريطاني في العراق بأنه "جندي" ممتاز وذكي وطموح ومتعصب، ويطالب بالاستقلال التام، وهو أيضاً خطير. وبأنه رئيس الحزب العراقي الذي يطالب بالاستقلال التام للعراق، وبأنه يثير القبائل العربية في العراق والجزيرة العربية ضد البريطانيين". ولهذا يرفض المفوض السامي البريطاني في العراق دخوله العراق بشكل قاطع([5]).
                      واتهم ياسين الهاشمي أيضاً بأنه يُجري اتصالات مع الأتراك، للعمل على دعم استقلال سورية. ويقوم بنشر دعاية مضادة للتواجد الفرنسي، ويعمل على تشكيل جيش لمقاومة شعبية مسلحة ضد الفرنسيين، ويقوم بتوزيع السلاح والأموال على القبائل العربية. وكان وراء مشروع التجنيد الاجباري في سورية لمقاومة المخططات الفرنسية الاستعمارية. وفي 10 كانون الأول 1919 بعث الجنرال كلايتون رئيس المكتب البريطاني في القاهرة رسالة إلى الأمير فيصل الذي كان في باريس، تتضمن سبب اعتقال رئيس أركان جيشه. هو قرار الهاشمي بالتدخل عسكرياً في لبنان ضد القوات الفرنسية([6]). فقد كانت آنذاك ضعيفة والقوات العربية قادرة على هزيمتها.
                      ومن التقارير الفرنسية التي بينت أسباب اعتقال ياسين الهاشمي تقرير /لافوركارد/، الذي أرسله قبل الاعتقال في 26 أيلول 1919 أشار فيه إلى خطورة الهاشمي كونه عضواً في اللجنة الوطنية العليا في سورية، وأنه روحها، وعلى استعداد ليس لمحاربة الأوربيين فقط وإنما للانقلاب على فيصل إذا تعاون معهم.
                      وحصل /بيكو/ من أحد العملاء الجواسيس السوريين على تقرير أعدّه الفريق الهاشمي للقيادة تحت رقم /1331/ بتاريخ 2 أيلول 1919، كان ينص على معلومات خطيرة حيث قال فيه: "سوف نضطر لمحاربة دولة كبيرة. ويجب أن نستخدم ما يلي .. اللواء الأول. واللواء الثاني مع قوات البدو والدروز أمام قوات بيروت الفرنسية. واللواء الثالث أمام القوات الفرنسية في الاسكندرون. والكتيبة السادسة الموجودة في حماة. وبطارية المدفعية في حمص. وقوات البدو تحت قيادة /رضا بك العسكري/ أو /جعفر/ أمام القوات الفرنسية في طرابلس مع المجندين. وسوف يسود الأمن في الداخل بواسطة الدرك والشرطة. وعلى كل قائد كتيبة أن يرسم خريطة للجبهة التي تحافظ عليها كتيبته. ويرسم الخرائط والمقاييس الضرورية. ويرسل في الحال أي تطور عن كتيبته. ومن حكمة الرأي اتخذت هذا القرار وعدداً آخر مثله لقضايا أخرى. وسوف أبلغ الإدارة أن تحفظه بسرّية تامة."([7]) كانت خطة قتال ضد فرنسا مما أرعب فرنسا وبريطانيا معاً فهي تنسف مخططاتها الاستعمارية معاً، وكانت هذه الأوامر برأي /بيكو/ سبباً لاعتقاله.
                      -رد الفعل لاعتقال الهاشمي.

                      سارت مظاهرات جماهيرية في سورية والعراق منددة باعتقال ياسين الهاشمي، كما أغلقت دمشق أبوابها احتجاجاً، وصدرت الصحف في دمشق وبعض الدول العربية بإطار أسود، وتحمل تعليقاتها وأخبارها احتجاجات الجماهير العربية على اعتقال الهاشمي. كما طيرت الجماهير والمنظمات والأحزاب الوطنية والعربية برقيات إلى السلطات البريطانية، تطالبها بإطلاق الفريق ياسين الهاشمي، معتبرةً اعتقاله إهانة للعرب وللحكومة الشريفية ولجيشها. وكانت حلقات من الجماهير تُعقد في الساحات تُلقى فيها أشعار التمجيد للهاشمي، وتندد بالإجراء البريطاني التعسفي الحاقد. وقد ألقى الشاعر العراقي معروف الرصافي قصيدة وطنية بحق الهاشمي قال فيها:

                      ياسين إنك بالقلوب مشيع
                      أفأنت للوطن العزيز مودع

                      أين الذمام ونحن من حلفائهم
                      سرعان ما نقضوا العهد وضيعوا

                      إن أخرجوك من المواطن مكرهاً
                      فالشعب خلفك هائج ومائج

                      ولتسعرّن مصامعاً يصلونها
                      ورؤوسهم فيها لسيفك تركع




                      أما الأمير فيصل الذي بلغه أمر اعتقال الهاشمي وهو في باريس يعالج المشكلة السورية والعربية معاً. فقد تقدم باحتجاج شديد للسلطات البريطانية لاعتقال رئيس أركان جيشه، وأوضح للقيادة البريطانية بأنه صاحب الصلاحية في أمره، وأن كانت هناك تهماً بحقه، ولا يحق للسلطات البريطانية أن تحاسبه. إلا إن الحكومة البريطانية لم تستجب لطلبات فيصل المتكررة بتسليم ياسين له، على أن يقوم هو بمحاكمته أن كانت هناك تهم قد ارتكبها حقاً.
                      وعاد فيصل إلى دمشق دون أن يستطيع أن يطلق سراح ياسين الهاشمي. فاستقبلته الجماهير ببرود لهذا السبب. ورّفعت لافتات في شوارع دمشق تحمل عبارات تهكم ضد فيصل حيث كتبت عليها: "أين قائد جيشك يا أمير؟" ([8]) وألح فيصل على الجنرال /اللنبي/، ولإطلاق سراح الهاشمي حاول /اللنبي/ الاستجابة لنداءات فيصل، إلا أن التنسيق الذي كان يجري بين فرنسا وبريطانيا للهيمنة على سورية والعراق منعه من الاستجابة، فقد رفض الجنرال /غورو/ الذي كان في بيروت إطلاق سراح الهاشمي، حين استشاره /اللنبي/ في موضوع إطلاق سراحه([9]) وبعدها لم يستجب /اللنبي/ لفيصل، فاقترح فيصل تشكيل لجنة من ثلاثة مندوبين عسكريين من جنسيات ثلاث لتقرير مصيره، وقال.. "إن اللنبي ليس له أي سلطة قانونية لاعتقال ياسين الهاشمي"، إلا أن نداءات وطلبات فيصل ذهبت أدراج الرياح لأن فرنسا وبريطانيا تشعران بخطورة ما أقدم عليه الهاشمي حين كان رئيساً لأركان الجيش. فحسب تقرير إستخباراتي فرنسي ذكر أن ياسين أصدر أوامره بفرض التجنيد الإجباري في الجيش العربي لـ /12/ ألف رجل. وأن السلطات البريطانية، ألقت عليه القبض لإشعار آخر.. وأن المعونة البريطانية ستوقف عن سورية. وقد أُعتقل الهاشمي لاستجوابه، وأن وزارة الحرب البريطانية تفكر بنقلة إلى لندن كي يحاسبه فيصل. وفي الحقيقة هذا يعني عودته إلى سورية ويمكن اعتبار أعمال ياسين من وحي فيصل لمقاومة الاحتلال الفرنسي([10]).
                      شكل ياسين الهاشمي خطراً حقيقياً على مخططات فرنسا وبريطانيا من خلال موقعه كرئيس لأركان الجيش العربي، وبأفكاره المضادة لهذه المخططات. بل بالعمل على إفشالها، وتحقيق استقلال سورية والعراق معاً. لهذا لم تستجب بريطانيا لفيصل ولا لرأي العام العربي. وبقي ياسين رهن الاعتقال حتى 14 أيار 1920. وعاد إلى دمشق بعد أن استكملت فرنسا استعداداتها العسكرية لاحتلال سورية. ولكن في العراق كان الأمر مختلفاً فقد كانت ثورة دير الزور بدأت تحقق أهدافها، والتي كانت بوحي من ياسين وتخطيطه، نفذها رمضان شلاش، ثم تابعتها جمعية العهد. كما سنرى في الفصول القادمة.


                      ([1]) وميض جمال عمر نظمي الجذور السياسية- مصدر سابق ص178

                      ([2]) علي جودت ذكريات بيروت- مطابع الوفاء- 1967- ص94

                      ([3])f.O . 882-24-sy 19-15 November 1919.

                      ([4]) د. علي سلطان- تاريخ سورية 1918- 1920 دمشق- دار طلاس 1987ص232.

                      ([5]) المصدر السابق ص229-230

                      ([6]) المصدر السابق ص232

                      ([7]) المصدر السابق ص233

                      ([8]) المصدر السابق ص234

                      ([9]) المصدر السابق ص233

                      ([10]) المصدر السابق ص234-235
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: الثورة المنسية

                        الفصل العاشر: انفجار الثورة
                        تحرير دير الزور‏
                        أدت مجموعة من الأحداث لانفجار الثورة في دير الزور، وأهمها اعتقال الفريق ياسين الهاشمي الأب الروحي لحزب العهد العراقي وضباطه. وكانت لطمة عنيفة من قبل الإنكليز لحزب العهد وللضباط العرب جميعاً. وإهانة واضحة لحكومة فيصل وللقوميين العرب. فكان لا بد من رد سريع لهذا الاعتقال بتنفيذ الخطة التي رسمها لتحرير دير الزور من الإنكليز واتخاذها قاعدة لتحرير العراق وكانت الفرصة مؤاتية بعد أن تقدم الوطنيون القوميون بالعريضة التي أرسلوها إلى رمضان شلاش يستعجلونه بالقدوم إلى دير الزور. بعد أن تمت التهيئة الكاملة لإنجاح العمل، فالوجهاء والزعماء في مدينة دير الزور الذين أرسلوا المضبطة السابقة للإنكليز تراجعوا وندموا، وأعلنوا لرمضان بعد اتصالهم به أنهم سيساندوه في حال تفجير الثورة في دير الزورi)، كما أن المجاهد العلامة محمد سعيد العرفي عمل على تهيئة النجاح للثورة بعد أن استمال زعماء العشائر في متصرفية دير الزور لصفوف الثورة، وقام بتوزيع ما يقارب الثمانية آلاف ليرة ذهبية أُرسلت من قبل الشريف حسين والد الأمير فيصل إلى المجاهد العرفي لتوزيعها على الأهاليii) ولمساعدة الثوار ضد الإنكليز الذين خانوا عهداً كانوا قطعوه بإقامة مملكة عربية مستقلة. التي تضمنتها رسائل المعتمد الإنكليزي أثناء الثورة السير مكماهون في القاهرة.‏
                        -أحداث الثورة في روايات مختلفة.‏
                        يقول رمضان شلاش في مذكراته الخطية "اتصلت وبصورة سرية برؤساء القبائل القاطنين بوادي الفرات من عشائر الوّلده. والعفادلة والسبخة والبوسراية، وشكلت منهم قوة فرسان ما يقارب ثلاثة آلاف فارس، وعبرت الفرات إلى الضفة القبلية، وعند المساء زحفت بهم متوجهاً إلى دير الزور لمهاجمة القوة الإنكليزية المحتلة. وكانت حركتي سرّية وسريعة لم تدع مجالاً للعدو لأخذ الاحتياطات اللازمة، وعند وصولي إلى جبل البشري الكائن غربي دير الزور على مسافة خمسة وسبعين كيلو متراً، استرحت مع الجيش عند عشائري عشائر البوسراية مدة أربع ساعات، ثم واصلت الزحف إلى دير الزور طوال الليل، حتى وصلنا إلى وادي الرخام على بعد خمس كيلو مترات عن دير الزور. حيث أُعطيت استراحة للمجاهدين، وانتظرت حتى بزوغ الفجر. وخوفاً من حصول الكسل للمجاهدين وضعف معنوياتهم خطبت فيهم، وأيقظت ضمائرهم، وأثرت حماسهم، ثم قسمت الجيش إلى فرق وأوعزت لكل فرقة أن تهاجم موقعاً عسكرياً في دير الزور ثم صُحت.. الله أكبر.. وبدأ الهجوم بشدة وحماس، وبقيت المصادمة مدة ثماني ساعات. كانت خلالها المدافع والمصفحات والطائرات الإنكليزية تضرب المجاهدين، وكان الصبر والإيمان يعمر قلوبنا، وأيقنا أننا لا شك منتصرون بعون الله، فازداد المجاهدون حماساً، وانكبوا على الموت انكباباً، وأنا اتنقل فيما بينهم من فرقة إلى فرقة أُذكي فيهم روح الحماس. وأخيراً خذل الله الإنكليز فاستسلمت الحامية الإنكليزية، ووقعوا أسرى في أيدينا. وواصلنا الزحف إلى منطقة الميادين، بعد أن عينت حاج فاضل العبود محافظاً لدير الزور بصورة مؤقتة، ثم واصلت زحفي إلى أبي كمال. وهناك اصطدمت في حرب مع الإنكليز استشهد بها رئيس عشائر البوكمال الشيخ عبد الدندل. وفرّ الإنكليز هاربين إلى عانة القضاء الأول من العراق. وبعد يومين عادوا مع قوة كبيرة مجهزة بمدرعات وطائرات ومدافع ثقيلة. وكنت قد أعددت العدّة لهذا العمل، ودامت الحرب فيما بيننا على الحدود العراقية السورية مدة أربعة أشهر، وبأثناء ذلك استحصل الإنكليز على كتاب من الأمير فيصل الذي كان حينذاك في فرنسا يأمرني فيه بالانسحاب، وأن أكف عن حرب الإنكليز، وقد ألقت عليَّ الطائرات الأمر المذكور. وكنت آنذاك في الميادين يقول فيه. يا رمضان إن الإنكليز حلفاؤنا. وأصدقاؤنا يجب أن نكف عن حربهم... "وكان جوابي عليه" إن هذه البلاد بلادنا، ولم تكن بلاد فيصل وأبو فيصل". وأرسلت الجواب مع جندي الإنكليز. وقد أنذرتهم فيه، إما الانسحاب عن بلادنا أو الحرب. وبعد أن دحرنا الإنكليز مع جميع معداتهم . وبالفعل تركناهم. وذهبوا إلى العراق. بلا رجعة" iii) القارئ الباحث لكتاب الذكريات لرمضان يرى اضطراباً في تسلل الأحداث، ومبالغات ونسيان الأحداث. ويظهر أن الذكريات كما هو مدون، كتبت بعد الأحداث بعشرات السنين في نهايات الخمسينيات أي في عهد الوحدة. لذلك كتبت من الذاكرة لهذا لم تكتب بالموضوعية التاريخية.‏
                        قصة الثورة في مصادر أخرى‏
                        تشير المصادر أن رمضان شلاش عمل على تحريض وإثارة القبائل، وفق توجهات ياسين الهاشمي، وقد كشفت الاستخبارات البريطانية تلك التحركات. وأعلمت القيادة البريطانية في بغداد عنها. كما أن مكتب القاهرة البريطانية قد علم بهذه التحركات، فأعلم في 19 تشرين الثاني 1919 السير ارنولد ولسن الحاكم العام البريطاني في بغداد بهاiv). وبذلك تجمعت لدى ولسن الأخبار المؤكدة لحركة رمضان شلاش، فتم تحذير الكابتن "جاميير" الحاكم السياسي البريطاني في دير الزور، الذي حل محل الكابتن "كارفر" بهذه الحركات. وتتابعت الأنباء على الحاكم السياسي البريطاني في دير الزور، حتى أُبلغ بزحف رمضان شلاش وقوات من العشائر نحو دير الزور، فخرج في يوم 10 كانون الأول 1919 بسيارته المصفحة مع أحد ضباطه مستطلعاً على طريق دير الزور- الرقة- وبعد أن قطع شوطاً بعيداً لم ير أي قوات زاحفة، فقفل راجعاً. إلا أنه تعرض في طريق العودة لرشقات من الرصاص، فأسرع بالعودة إلى دير الزور، ولم يصب ولا مرافقه بأية إصابات. فأدرك خطورة الأمور المقبلة فأراد استباقها، فدعا رئيس البلدية الحاج فاضل العبود إليه. وحين لم يحصل منه على شيء أمر بتوقيفه. واتخذت قواته الإجراءات الدفاعية عن المدينةv). ومنذ ظهور ضوء فجر يوم 11 كانون الأول 1919 هوجمت مدينة دير الزور من قبل القوات العشائرية من الناحية الجنوبية. ويقدر السيد محمد طاهر العمري في كتابه .. "مقدرات العراق السياسية"، أعداد القوات المهاجمة بـ /500/ مقاتل من العشائر. كان بعضهم على ظهور الخيل والبعض الآخر على ظهور الإبلvi). وليس كما ورد في مذكرات شلاش بثلاثة آلاف فارس. وهذا أقرب إلى الحقيقة من حيث أعداد السكان في تلك الفترة، ففي الرقة عام 1919 لم يكن عدد سكانها يتجاوزون عدد فرسان شلاش مع عشائرهم، كما أن القوات الإنكليزية لا تصل إلى مئة بما فيها المتعاملون معهم.‏
                        هاجمت القوات العشائرية المدينة من ناحية الجنوب، وليس من الشمال كان يتوقع الكابتن البريطاني ـ كارفر فالرقة تقع شمالاً. واندفعت القوات العشائرية نحو المؤسسات الحكومية بشكل أهوج "فنهبوا السرايّ والمستشفى وكنيسة الأرمن، وكسروا الخزانة الحديدية في دار الحكومة، واستولوا على ما فيها من نقود، ثم أضرموا النار في مستودع البنزين، فانطلق اللهيب منه بشكل هائل أدى إلى وقوع نحو تسعين إصابة، وقد حاول بعض أفراد العشائر نهب بيوت البلدة، وأسواقها، ولكن الرؤساء منعوهم عن ذلك" vii). وكان لسلبيات الهجوم التي قامت تلك القوات بها التي رأت المدينة فيها غزواً عشائرياً. كما كان عليه حال القبائل والبلاد آنذاك. فالغزو والسلب والنهب لم يكن في عرف القبائل عملاً شائناً. بل بطولة وشجاعة، إلا أن حزب العهد في ذلك الوقت كان يرفض هذه الممارسات. والتي أثّرت سلبياً على أهالي المدينة، والتي يحتفظ البعض منهم بصورتها القاتمة حتى الآن. وأحياناً الكرة لرمضان شلاش. رغم هذا العمل البطولي العظيم. فالصورة بقيت سوداء له في المدينة لسنوات طويلة. وإن كنا نظن فعلاً أن رمضان بريء من هذه التصرفات ولا يرضى بها.‏
                        أما القوات البريطانية التي انسحبت من شوارع المدينة، وتحصنت في الثكنة العسكرية في شمال المدينة، بدأت تطلق نيران رشاشاتها من سطح الثكنة على القوات الزاحفة. إلا أن القوات الثائرة استطاعت أن تفرض عليها حصاراً شديداً، وتُسكت رشاشاتها بعد أن تم تدميرها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقتحموها. فبقي الكابتن "جاميير.. وقواته محاصرين في داخلها.viii).‏
                        وفي اليوم الثاني للثورة اجتمع رؤوساء المدينة في دار الحاج فاضل العبود الذي أطلق سراحه) مع عدد من زعماء العشائر الثائرة وقادتهم، ولم يكن رمضان شلاش قد وصل بعد إلى المدينة. وتداولوا أمر القوات البريطانية في الثكنة المحاصرة. وتم الاتفاق على استدعاء الكابتن جاميير وتهديده، ليخرج منها وقواته بسلام. وينتهي احتلال بريطانيا لدير الزور. وفعلاً تمّ استدعاء الكابتن /جاميير/ الذي لبى الدعوة، ولم يكن لديه خيار بسبب قلة المواد الغذائية والماء لديه.‏
                        كان الاجتماع صاخباً وعنيفاً، مارس فيه الثائرون ووجهاء المدينة الضغط على الكابتن /جاميير/ وتهديده وتذكر المس غيرترود بل عن هذا الاجتماع فتقول: "إن الرؤساء كانوا في حالة هياج شديد: وأظهروا له عداءً مفعماً بالتعصب. وأخذوا يهددونه بالقتل هو وأصحابه، وربما كانوا على وشك قتله مع أصحابه. ولكن الذي منعهم من ذلك ظهور طائرتين في الجو، وأخذت الطائرتان تطلقان نيران رشاشاتهما على البلدة، فغير الرؤساء لهجتهم حالاً، ورجوا من جاميير أن يعمل على إيقاف القصفix)" ولم يصل المجتمعون إلى حل مع الكابتن جاميير الذي عاد إلى الثكنة مع عساكره.‏
                        في اليوم الثالث للثورة وصل رمضان شلاش إلى مدينة دير الزور، واجتمع مع وجهاء المدينة وزعماء القبائل الموالية له، الذين أخبروه باجتماعهم مع الكابتن جاميير. فطلب فوراً استدعاء الكابتن.. "جاميير".. وبعد نقاش طويل، وافق /جاميير/ على إخراج قواته واستسلامه لرمضان شلاش. الذي أمر بإبقاء /جاميير/ رهن الاعتقال المنزلي، وأسرّ الجنود في الثكنة.‏
                        رواية تقول: ".. إن رمضان حين اجتمع مع الكابتن جاميير قال له الأخير إنهم ليسوا من الأعداء وإنهم حلفاء الشريف حسين وابنه فيصل، وإن هذا التصرف يغضب فيصل. فرد عليه شلاش إن هذا التحرك ضدهم بأمر من الأمير فيصل. مما أثار دهشة الكابتن.. جامير" فوافق على الاستسلام، وهذا ما أثار القوى الوطنية في المدينة، وعلى رأسها الشيخ محمد سعيد العرفي، الذي قال "انتهى الآن حكم الشريف". فقد كشف رمضان سر علاقة حركته بالأشراف، وأن الأمير فيصل وأخيه زيد لهما علاقة بها. وقد أدى هذا الأمر إلى خلق أول نزاع بين رمضان والعرفي"x).‏
                        الجلاء الإنكليزي المؤقت عن البوكمال.‏
                        بعد استتباب الأوضاع في دير الزور لصالح القوات العشائرية الثائرة، والنجاح السريع الذي تحقق بهزيمة القوات الإنكليزية واستسلامها، أعطت لرمضان وقواته قوة معنوية عالية جعلته يفكر في تحرير بقية المناطق من قوات الاحتلال الإنكليزي. وخاصة بعد أن حصل على تأييد ومشاركة زعماء العشائر في المنطقة، والذين قدموا إلى دير الزور مؤيدين للثورة. فأرسل رمضان شلاش قوة عشائرية كبيرة بقيادة أخيه إلى البوكمال لتحريرها من القوات الإنكليزيةxi)، ووصلت الأنباء إلى الحاكم، السياسي البريطاني لمنطقة الدليم الكولونيل ".. ماجور نلبلاست".، فخشي على قواته من حصار القوات العشائرية، وإبادتها، كونها قوات قليلة وغير قادرة على التصدي. فأمر القوات الإنكليزية بالانسحاب منها في 19 كانون الأول 1919 مؤقتاًxii)، فدخلتها قوات رمضان شلاش، فلم تجد فيها أية قوة عسكرية بريطانية. ووقعت في نفس الخطيئة السابقة حين دخلت دير الزور. فما إن دخلت القوات العشائرية إلى المدينة حتى قامت بنهب سرايا الحكومة والأموال التي توجد في خزانتها. فحدث نزاع بين زعماء العشائر حول تلك الأموال المنهوبةxiii) إلا أن الأمر لم يدم طويلاً في مدينة البوكمال ففي 21 كانون الأول 1919 استعادت القوات الإنكليزية بعد أن دعمت نفسها بالعتاد والرجال والسلاح البوكمال، وكانت معركة حامية جرت في منطقة "الضبيّعه" على الطريق. حيث كمّن الشهيد الشيخ عبد الدندل شيخ العكيدات في منطقة البوكمال مع قوات له على طريق القوات الإنكليزية، وبعد قتال شرس استطاعت القوات الإنكليزية التي تفوق قوات الشيخ عبد الدندل عدداً وعدّة. أن تفك الكمين، وتصيب أعداداً من قوات الشيخ عبد الدندل، بما فيهم الشيخ نفسه الذي أصيب إصابات بالغة أدت إلى وفاته. فكان أول شهيد في منطقة البوكمال ومن زعماء عشائرهاxiv). وفي رواية يذكرها الدكتور علي الوردي أن رمضان شلاش بعد أن حقق انتصاره في دير الزور، واعترفت له الحكومة البريطانية بالحدود الجديدة، ظل رمضان شلاش دائباً على التحرش بالإنكليز ومهاجمتهم بكل وسيلة ممكنة، فصار يحرض العشائر على قطع الطرق، ونشر الفوضى في منطقة النفوذ البريطاني حول عانه والبوكمال. وفي "كانون الثاني عام 1920 هاجمت جماعة من عشيرة العكيدات بلدة البوكمال. ونهبوا بيوت الأشخاص المعروفين بولائهم للإنكليز، ثم انسحبوا منها بعد أن قتل أحد رؤسائهم محمد الدندل. ويزعم الإنكليز أن المهاجمين تحرشوا بالنساء، وانتهكوا حرمات بعضهن. وهذا زعم يصعب تصديقه لما عُرف عن العشائر العربية من صيانة لحرمة المرأة فاضطرت حكومة دمشق إلى عزل رمضان شلاش على إثر هذه الواقعة، وعينت مولود مخلص مكانهxv).‏
                        كان لاستشهاد الشيخ عبد الدندل أثره البالغ على مجرى الأحداث السياسية والعسكرية في منطقة دير الزور، والعراق، والثورة بشكلها الشمولي، حين تحولت عشائر العكيدات وحلفائهم. وخاصة قبيلة الحسون بزعامة الشيخ المجاهد مشرف الدندل إلى أهم ركن عسكري ومادي للثورة بعد ذلك. وشكلت قيادة مشرف الدندل الثورية قوة خطر شديد على الاحتلال البريطاني ثم الفرنسي من بعده في منطقة دير الزور وما حولها.‏
                        لم يدرك البريطانيون الخطأ الجسيم الذي ارتكبوه بقتلهم للشيخ عبد الدندل، وما أفرزته من نتائج عكسية عليهم. بسبب اجتماع عشائر العكيدات على مقاتلتهم، كما جعلت من الثائر الشيخ مشرف الدندل ألد خصوم بريطانيا، فهو من جهة يسعى لأخذ ثأر أخيه منهم، ومن جهة أخرى يناضل لتحرير بلاده. فحاولت القيادة البريطانية استدراك الخطأ وتصحيحه باسترضاء الشيخ مشرف الدندل، فعرضت عليه تسوية الأمر، بإدخال عدد من زعماء العشائر كوسطاء لحل الأمر سلمياً بدفع الدّية، وبما يقرره مشرف نفسه. وكان آخر تلك الواسطات، ما قام به أحد كبار شيوخ عنزه في منطقة العماره في العراق ابن هذال الذي حمل رسالة من قيادة الجيش البريطاني في العراق إلى مشرف الدندل جاء في نصها كما وردت في كتاب "شعب ومدينة على الفرات الأوسط" للسيد أسعد الفارس:‏
                        "الشيخ مشرف بن دندل شيخ البوكمال من العكبدات.‏
                        تحية طيبة وبعد‏
                        بوّد قيادة الجيش البريطاني في العراق أن تعزيكم بمقتل أخيكم المرحوم عبد الدندل باسم حكومة التاج البريطاني. وتأسف لمقتله غير المقصود، وتعتبر غيابه خسارة لبريطانيا قبل أن يخسر العكيدات. ولهذا نسوق إليكم جاه الله، وجاه ابن هذال لحقن الدماء بيننا ونحن على استعداد لدفع الدية من الذهب وزن أثقل رجل من رجالكم. نأمل استجابتكم لهذا المطلب. والسلام عليكم.‏
                        قيادة الجيش البريطاني في العراقxvi)).‏
                        طبعاً إن هذه الرسالة كما يدعي صاحب الكتاب أسعد الفارس بأن والده هو الذي ذهب مع مشرف الدندل في لقاء ابن هذال المذكور، ولم نعرف مدى صحة ما ورد فيها، وأن كانت فيها بعض المبالغات. إلا أن من يتتبع السياسة البريطانية آنذاك. يعرف بإنها تحاول أن تتخذ من الخداع واستخدام الحيّل، وتقديم الهبات المالية، لاسترضاء الشيوخ والمتنفذين وشراء ذممهم لتنفيذ سياستها الاستعمارية.‏
                        ويذكر المصدر أيضاً أن مشرف رفض تلك الوساطة والوساطات الأخرى، وبقي مصّراً على مقاتلة البريطانيين وعاش ثائراً ومناضلاً وطنياً. وتعاون مع عشيرته وأنصاره مع الثورة، التي فجرها حزب العهد في نهايات عام 1919 في منطقة دير الزور. وسوف نبحث في الفصول القادمة أشكالاً نضالية لهذا المجاهد العظيم.‏
                        i) د. علي الوردي- لمحات من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق ج5- ص132‏
                        ii) رواية شفهية من ابن المجاهد محمد سعيد العرفي. الأستاذ حيدر.‏
                        iii) مذكرات أمير اللواء رمضان شلاش الخطية -مصدر سابق ص56-59‏
                        iv) أدهم الجندي- صفحات منسية- مصدر سابق ص18‏
                        v) المصدر السابق ص18.‏
                        vi) محمد طاهر العمري- مقدرات العراق السياسية- بغداد- 1925- ج30- ص241‏
                        vii) المصدر السابق ص241‏
                        viii) المصدر السابق ص241‏
                        ix) المس غيرترودبل - فصول من تاريخ العراق القريب- ترجمة جعفر الخياط- بيروت 1971 ص407-408.‏
                        x) رواية تحدث بها الأستاذ حيدر العرفي ابن الشيخ محمد سعيد العرفي) نقلاً عن أبيه - تم الحديث في 7/10/1999‏
                        xi) د. علي الوردي. لمحات من تاريخ العراق الحديث. مصدر سابق ج5- ص133‏
                        xii) هنري شارل - عشائر الغنامة في الفرات الأوسط- مصدر سابق ص26‏
                        xiii) هنري شارل - عشائر الغنامة في الفرات الأوسط- مصدر سابق ص26‏
                        xiv) محمد طاهر العربي - مصدر سابق ج3-ص344‏
                        xv) عبد الدندل. شيخ العكيدات. من قبيلة الحسون القاطنة في محيط بلدة البوكمال، عرف بتقواه وحسن سيرته الحميدة، وتلقى علومه الدينية على يد الشيخ ملاقحيط المرسومي. تزوج عدة مرات ولكنه لم ينجب، كان يتمنى أن يموت شهيداً، فسأل شيخه مرة إذا قتل على يد الإنكليز هل يموت شهيداً؟ فأجابه الشيخ ملا قحيط : نعم، فنال ما تمناه.. أسعد الفارس..‏
                        -اسعد الفارس- شعب ومدينة على الفرات الأوسط- دمشق- دار الملاح- 1993- ص87‏
                        - علي الوردي - لمحات من تاريخ العراق الحديث- مصدر سابق- ج5- ص 135.‏
                        xvi) سعد الفارس- شعب ومدينة على الفرات الأوسط- دمشق- دار الملاح- 1993-ص90‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: الثورة المنسية

                          الفصل الحادي عشر: الأشراف والثورة
                          فيصل يعلن براءة حكومته ـ من أحداث دير الزور‏
                          في 22 كانون الأول 1919 ألقت الطائرات البريطانية رسالة من الأمير فيصل لأهالي مدينة دير الزور. وللقوات الثائرة. تتضمن برقيته إلى أخيه الأمير زيد نائبه في دمشق. حيث كان فيصل آنذاك في أوربا لبحث المسألة العربية مع الحلفاء. وجاء في نص الرسالة التي ألقيت على مدينة دير الزور التالي:‏
                          "شاع أن جماعة بأمرة رمضان شلاش مع عجمي السعدون هاجمت دير الزور، زاعمة أنها تعمل بموجب الأوامر التي تلقتها من الحكومة العربية. فنحن هنا نصرح بأن هذه الإهانة الموجهة ضد حليفتنا بريطانيا العظمى، وضد مصلحة الأمة العربية هي مخالفة للاتفاق المؤقت بين الحلفاء، والمعمول به من السنة الماضية. وأن هذا الاعتداء هو بدون علم الحكومة العربية وموظفيها. ونصرح أيضاً بأن المسؤولين عن هذا العمل، وكل من يلحق بهم، أو ينضم إليهم هم من الثوار، وسيجازون جزاء العصاة وقد اتخذت التدابير اللازمة لإعادة النظام، وتوقيف المعتدين".(1) .‏
                          تؤكد هذه البرقية الروايات التي تحدثت عن إدعاء رمضان شلاش للكابتن جاميير والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، بأنه يعمل بوحي من الأشراف، وخاصة الحكومة العربية في دمشق. والتي تسببت في نزاعه مع الشيخ محمد سعيد العرفي الذي اعتبر رمضان قد كشف السرّ الذي استخدمه الإنكليز ضد الشريف حسين وابنه فيصل والحكومة العربية. وقال الآن "انتهى حكم الشريف". إضافة إلى ما ذكرناه في حديث رمضان للكابتن جاميير. فإن المؤرخ الفرنسي هنري شارل ذكر إن رمضان شلاش قبل هجوم قواته على دير الزور، أرسل رسالة إلى أحد وجهاء مدينة دير الزور في 10 كانون الأول 1919، تضمنت فيما بعد إشعاراً بقدومه مع قواته، وأشار عن رضا الحكومة العربية، أو إنه يعمل بوحي منها. وكانت هذه الرسالة قد وقعت بأيدي الإنكليز في دير الزور(2) . فسبب هذا الأمر ورقة ضغط استخدمها كثيراً أرنولد ولسن الحاكم السياسي البريطاني في بغداد في زرع الشك لدى الحكومة البريطانية. بأن وراء الأحداث في دير الزور، كان فيصل والحكومة العربية في دمشق. وإنها تمون بأموال بريطانيا وذهبها وسلاحها والتي تعطى لفيصل وأبيه. وهذا ما سوف نفصله في الفصول القادمة.‏
                          زيد والثورة‏
                          من خلال المصادر المتوفرة لدينا، لا نرى لفيصل دوراً في تفجيرها أو التهيئة لها. حتى أن رمضان شلاش حين عاد من مكة بإذن من الملك حسين، لم يجد فيصلاً فيها، بل وجد الأمير زيد نائباً عنه في دمشق. حيث كان كما قلنا في أوربا، ولكن فيصل تبنى الثورة بعد ذلك سرّياً، وبعد أن أثبتت نجاحها في إجلاء بريطانيا عن دير الزور. فهو أرادها عامل ضغط على بريطانيا لتحقيق أهدافه السياسية. وحالة ثأرية له انتقاماً من الغدر الذي أحس به منها. حين نكثت بالعهود التي قطعتها لوالده، إلا أن فيصلاً أبقى تأييده للثورة سرياً وخفياً وفي نفس الوقت يدعي في العلن شجبه لها، ورفضه لقادتها، وتنصله من أعمالها.‏
                          أما الأمير زيد فمن المصادر المتوفرة، لاحظتُ أنه كان داعماً لها، ويعلم بما خططه ياسين الهاشمي ومجموعته في حزب العهد العراقي. وقد وقّع على تعيين رمضان شلاش قائم مقام الرقة، وحاكماً عسكرياً لها. وهو الذي زوده بالمال والسلاح. كما أن زيد كان له أنصار في دير الزور وفي مقدمتهم محمد سعيد العرفي. الذي كان يحرض الناس على الثورة.‏
                          لماذا الأمير زيد دعم الثورة؟‏
                          تساءل راودني في البحث عن أسباب الدعم المادي والعسكري للثورة سرّياً. والتنصّل منها علناً. ففي مصدر رأيت أن أحد أسباب دعم زيد للثورة، يعود إلى بحثه هو الآخر عن مملكة أو إمارة خاصة يحكمها. فقد وجدت اقتراحاً قدمه الكولونيل لورنس للحكومة البريطانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. ووقف القتال، ودخول الجيش البريطاني والجيش العربي بلاد الشام، يدعو إلى تكوين ثلاث إمارات في العراق وسورية. تتوزع على الشكل التالي:‏
                          1-إمارة تضم ولايتي بغداد والبصرة. وتعطى للأمير عبد الله‏
                          2-إمارة تضم ولاية الموصل ومتصرفية دير الزور. وتعطى للأمير زيد.‏
                          3-إمارة سورية وتعطى للأمير فيصل‏
                          وقد جاء هذا المقترح في برقية أرسلها وزير شؤون الهند البريطاني إلى السيد أرنولد ولسن الحاكم السياسي البريطاني العام في بغداد في 18 تشرين الثاني عام 1918 وقد جاء فيها:‏
                          1-".. لقد عرض الكولونيل لورنس اقتراحاً على حكومة صاحبة الجلالة لمعالجة المسألة العربية وهو يقترح: 1-الجزء الأسفل من ما بين النهرين.‏
                          2-الجزء الأعلى من ما بين النهرين‏
                          3-سورية.‏
                          بالتناظر تحت حكم عبد الله وزيد وفيصل أبناء الملك حسين.. ومن المفهوم بطبيعة الحال أن الدول الثلاث ستكون ضمن المنطقة البريطانية. وأن الجزء الأسفل من ما بين النهرين سيخضع لسيطرة بريطانية فعالة"(3) .‏
                          وطلبت وزارة الهند من أرنولد ولسن أن يبدي رأيه في تلك المقترحات. وقد أشرنا فيما سبق إلى مواقف ولسن الرافضة أساساً لفكرة القومية العربية. وأقامة أي دول أو دويلات عربية حتى وإن كانت تحت السيطرة البريطانية. وتمسك بموقفه المعادي للشريف حسين وأبنائه، وعدم تسليمهم أية مناصب عليا في البلاد. فأجاب في رده على تلك المقترحات ببرقية جوابية لوزارة شؤون الهند..طلب فيها "استبعاد هذه البلاد بصورة محددة ونهائية من أية تسويات شريفية مقترحة"(4) ولم يخف ولسن حقده أبداً على العرب في برقيته المذكورة والمؤرخة في 20 تشرين الثاني 1918. ثم اتبعها ببرقية أخرى تاريخ 10 كانون الأول 1918. يؤكد رفضه لأية سيطرة عربية على المناطق العربية فقال.. إذا شجعنا فكرة السيطرة العربية. بدلاً من الأوربية. في المناطق الناطقة باللغة العربية.. فسنثير دون شك أحقاداً دينية كامنة في العراق، وبذلك نحرم أنفسنا من بعض المزايا الاستراتيجية التي يوفرها لنا احتلال هذا الموقع الحيوي"(5) .‏
                          فكان لرفض ولسن لإقامة إمارات عربية شريفية كما أقترح الكولونيل لورنس.. أفقدت زيداً حلم إمارة له تضم ولاية الموصل ومتصرفية دير الزور. ومتصرفية دير الزور كانت آنذاك تشكل أكبر مساحة من أي ولاية في بلاد ما بين النهرين سواء البصرة أو بغداد أو الموصل نفسها. فهي تمتد من حلب والموصل وأورفة وولاية بغداد جنوباً وحتى عانة إلى ولاية حمص غرباً. فهي دولة كبيرة مع الموصل. فَقَدَ زيد إمارة بموافقة بريطانية. فحين لاح له إمكانية تحقيقها بالسلاح وبالقوة، أظهر تعاوناً مطلقاً مع ياسين الهاشمي وحزب العهد. ولهذا قدم المساعدات المادية والعسكرية سرّياً للثورة في دير الزور. ونظن أنه أراد من خلالها تحقيق حلمهُ بالإمارة، وانتقاماً من ولسن، فسعى لإسقاطه، وإسقاط مشاريعه التي ترفض حكماً عربياً في بلاد مابين النهرين.‏
                          رد فعل فيصل الأولي على الثورة:‏
                          علم فيصل بالأحداث التي تجري في دير الزور حين كان يقوم بزيارة لباريس كما قلنا سابقاً، لبحث المشكلة السورية مع الحكومة الفرنسية. وقد أبرق الجنرال "كورنواليس" مدير المكتب العربي البريطاني في القاهرة إلى الأمير فيصل في باريس. يعلمه عن احتلال رمضان شلاش لمدينة دير الزور، واحتجازه للحاكم السياسي البريطاني مع أسر القوات البريطانية فيها. مشيراً إلى خطورة هذا العمل على العلاقة الخاصة بين بريطانيا والحكومة العربية برئاسته في دمشق. وأثرها على دعم بريطانيا له في القضية السورية مع فرنسا. فتأثر الأمير فيصل بما سمع من أحداث. وخاصة أنه في تلك الفترة كان يسعى لدعم بريطانيا لمواجهة طلبات فرنسا تجاه سورية. وما تحمل من قيود لاستقلالها، الذي أُعلن بعد دخول القوات العربية لدمشق في الأول من تشرين الأول‏
                          1918م.‏
                          فأرسل الأمير فيصل البرقية التي أشرنا إليها سابقاً لأخيه زيد نائبه في دمشق، وطلب من أخيه ترحيل الموظفين العرب من دير الزور، وبعث برسالة إلى رئيس الأركان العامة البريطانية في 18/11/1919 تضمنت عدم معرفته وعلمه بما حدث في دير الزور. وأكد على شجبه لما يجري في دير الزور، وبأنه سيعمل على معاقبة الذين أقدموا على هذا العمل، واعتبرهم من المتمردين والعصاة لحكومته، وأرفق بالرسالة نسخة من البرقية التي أرسلها إلى نائبه في دمشق الأمير زيد(6) .‏
                          وقد قامت القوات البريطانية بإرسال طائرات تطير فوق مدينة دير الزور، وألقت نص البرقية التي أرسلها الأمير فيصل لنائبه زيد على مدينة دير الزور من الجو. لتحريض الأهالي والموظفين ضد رمضان شلاش وقواته الثائرة. جاء في نصها ".. وكان الأمير فيصل في باريس، ولكنه عندما سمع بأنباء القتال في الدير. أرسل برقية إلى أخيه ونائبه في دمشق، الأمير زيد، شجب فيها بمنتهى الشدة تصرفات رمضان شلاش، وأمر الموظفين العرب بالانسحاب من الدير، وأضاف أن كافة المسؤولين عن الحادث سيعاقبون كعصاة. وقد ألقيت هذه الرسالة فوق الدير بواسطة طائراتنا البريطانية) في 22 كانون الأول، ديسمبر" (7) .‏
                          كانت الثورة فعلاً مفاجئة لفيصل كما قلنا. ولكنه إن كان غاضباً منها في بداياتها نراه قد تحوّل إلى أهمّ الداعمين لها. حين بدأت تشكّل قوةً تحريريةً، لتشمل العراق بكامله، وتهدّد مصالح بريطانيا في المنطقة. وهذا ما سنعرضه في الفصول القادمة.‏
                          (1) د. علي الوردي- لمحات من تاريخ العراق- مصدر سابق- ج5- ص132‏
                          (2) هنري شارل- عشائر الغنامة- مصدر سابق ص28‏
                          (3) philip willard ireland, iraq, Astudy impolitical developmint- london Jonatham Cape- 1937- p156.‏
                          (4) Ibid - and. F.o" telgrom no 10031- 20- November - 1918 - p. 157‏
                          (5) F.O. 882-23-3133-10- December 1918‏
                          (6) ادهم الجندي ـ صفحات منسية عن بطولات أبناء دير الزور ـ مصدر سابق. ص 98.‏
                          (7) وميض جمال عمر نظمي ـ الجذور السياسية والفكرية الاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق ـ مصدر سابق ص 78.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: الثورة المنسية

                            الفصل الثاني عشر : بريطانيا.. والثورة.
                            وجهت ثورة دير الزور لمخططات ارنولد ولسن الحاكم السياسي البريطاني في بغداد ضربة قاسية، ونسفت خطته في إبقاء العراق تحت الحكم البريطاني المباشر، ورفض أي حكومة عربية في بغداد، أو السماح بعودة الضباط العراقيين المتواجدين في سورية لبلادهم. موهماً الحكومة البريطانية وعلى رأسها وزارة الهند بعدم قدرة العرب في العراق الإدارية والسياسية. وعلى تحمل أعباء الحكم، واستصغر كثيراً من إمكانات العرب، وحطَّ من شأنهم الثقافي والسياسي والعسكري.‏
                            فجاءت أحداث دير الزور لتكذب كل ادعاءاته، وتنسف كل ما رسم للعراق ومستقبله. فاهتزت الأرض من بين قدميه، وأسرع إلى مكان الأحداث، حيث وصل بعد أيام إلى مدينة البوكمال. بعد أن أصدر بياناً اتهم تركيا بأنها وراء ماحدث في دير الزور، وإنها شجعت رمضان شلاش، ليؤكد مرة أخرى بأن العرب لا يقومون بالثورة بأنفسهم. وإنما تركيا هي المحرض والممول لهم، جاء في بيانه الذي نشر على الجمهور العراقي في 15 كانون الأول 1919.‏
                            بيان ولسن حول تحرير دير الزور:‏
                            وافت الأخبار أن رجلاً يدعى رمضان الشلاش، الذي عينته الحكومة العربية مؤخراً قائم مقام في الرقة. أغار مع جماعة كبيرة من القبائل على دير الزور عند فجر اليوم الـ/11/ من شهر كانون الأول. الموافق 17 ربيع الأول. ويستدل من الأخبار أن الأسواق قد نهبت، ونشبت النيران في منازل الحكومة، وسَجنَ الغائرون الموظفين الإنكليز والعرب من العسكريين والملكيين. لكنا لا نرتاب أن الأمر وقع بدون رضا الحكومة العربية، وبغير معرفتها. ويظهر أنه كان يصحب رمضان الشلاش مندوبون أرسلهم إبراهيم الملّي من جهة الحدود التركية.‏
                            ويظهر أن لأرباب الأمر على الحدود التركية يداً في هذه الحادثة. أما دير الزور فكان قد احتلها الإنكليز في السنة الماضية بعد جلاء الترك عنها. وقد تم ذلك باتفاق مع الحكومة العربية والحكومة الفرنسية.وفقاً لشروط الهدنة مع تركية، وقد أرسل خبر هذه الحادثة إلى الحكومة الإنكليزية، وينتظر الآن أوامرها، بخصوصها، والهدوء سائد في عانه.‏
                            وقد أنكرت قبائل عنزة، والعكيدات، والجبور، والبكاره، وغيرها الضاربة جوار دير الزور على رمضان الشلاش وأصحابه هذا العمل المخالف للقانون، وأعربوا عن استيائهم منه...(1) .‏
                            الاعتراف البريطاني بتحرير دير الزور:‏
                            في 21 كانون الأول 1919 وصل إلى دير الزور مبعوثان من قبل والي حلب جعفر العسكري(2) ، هما مرافقهُ العسكري توفيق الدملوجي، ومدير شرطة حلب رؤوف الكبيسي.. لمعرفة الأمور التي حدثت في دير الزور. كما أنهما مزودان بأوامر لرمضان وللكابتن جاميير، وبعد أن قابلا رمضان شلاش، وعرفا منه دوافع العمل. ويظهر أنه رفض أوامر جعفر العسكري والحكومة العربية، بإعادة الأمور إلى نصابها كما كانت قبل الثورة. وإعادة الاحتلال الإنكليزي إلى دير الزور. ثم قابلا الكابتن "جامير" في مكان اعتقاله المنزلي، وأطلعا "جامير" على أنهما مكلفان من قبل جعفر العسكري، بإلقاء القبض على رمضان شلاش، وإرساله مخفوراً إلى حلب، وطلبا منه أن يساعدهما في الأمر. إلا أنّ قوّة شلاش والثورة جعلت إعادة الأمور كما كانت عليه مستحيلاً أمام مندوبي جعفر. فلا إمكانياتهما ولا يوجد لدى "جامير" من القوة التي أُسرت أصلاً القادرة على تنفيذ هذا الطلب(3) فغادرا دير الزور واتجها إلى البوكمال لمقابلة أرنولد ولسن الحاكم السياسي العام البريطاني في العراق، واجتمعا مع ولسن، وعرضا عليه مضمون رسالة جعفر، وطلبا مساعدته في إلقاء القبض على رمضان وإرساله مخفوراً إلى حلب وإنهاء المشكلة. ولكن الأمر كان قد انتهى. فلم يجدا عند ولسن القدرة على استعادة دير الزور، وقد أخبرهما بأن الحكومة البريطانية قد اعترفت بتحرير دير الزور وإعادتها إلى الحكومة العربية في دمشق، وأن وضع الحدود مع سورية قد تغير. حيث أصبح نهر الخابور الحدّ المؤقت مع سورية، ريثما يبت مؤتمر الصلح في الحدود مابين الطرفين. وعادا بخفي حنين إلى جعفر العسكري بحلب. وتشير برقية بريطانية حول هذه البعثة قائلة: "........ في 21 كانون الأول/ديسمبر.. وصل ضابطان عربيان) من حلب. يحملان رسالة من جعفر العسكري إلى الكابتن جامير.. وقد طلب فيها جعفر من الضابط البريطاني التشاور مع الضابطين حول أفضل الطرق لإعادة النظام. وأخبر الضابط العراقي الكابتن جامير بأن لديه تعليمات بفصل رمضان كقائمقام للرقة. وإرساله مخفوراً إلى حلب، والتقى الضابط العراقي بولسن في البوكمال، وطلب معونة بريطانيا لإخراج رمضان. وأخبر ولسن الضابط العراقي بأن الحكومة البريطانية قررت اعتبار الخابور كحد مؤقت بين سورية العراق"(4) .‏
                            وعاد الضابطان إلى حلب وأطلق رمضان شلاش في 25 كانون الأول 1919 سراح الكابت جامير والقوات الإنكليزية، التي عادت إلى البوكمال. إلا أن الحكومة العربية طالبت بريطانيا بالجلاء عن الميادين والبوكمال.(5) ولكن رمضان شلاش رفض الحدود الجديدة التي تعتبر الخابور حداً مؤقتاً بين سورية والعراق، وطالب بالانسحاب البريطاني إلى مابعد وادي حوارن، الذي يبعد عن عانة /50/ ميلاً. واعتبار ذلك الحدّ المؤقت مابين سورية والعراق.(6)
                            وذكر رمضان شلاش أن إطلاق الأسرى البريطانيين كان بطلب من الأمير فيصل، حيث قال في مذكراته".. وردني كتاب ثانٍ من الأمير فيصل ألقته عليَّ الطائرات الإنكليزية طلب فيه ترك الأسرى الإنكليز مع جميع معداتهم. وبالفعل تركناهم.. وذهبوا إلى العراق بلا رجعة".(7)
                            وبذلك انتهى الفصل الأول من الثورة التي انتهت مرحلتها الأولى بتحرير دير الزور. ومن ثم اتخاذها قاعدة انطلاق لتحرير العراق بكامله. ولتبدأ مرحلة ثانية من حياة ثورة دير الزور.‏
                            (1) جريدة العرب البغدادية، رقم 732، تاريخ 15/12/1919.‏
                            (2) جعفر العسكري 1884 ـ 1936)، ولد في بغداد درس في الموصل وبغداد أنهى دراسته الثانوية عام 1901. وأكمل دراسته العسكرية في الكلية العسكرية في الأستانة. تخرج في عام 1904 ملازماً منها. تابع علومه العسكرية في ألمانيا من عام 1910 ـ 1914)، ذهب إلى ليبيا وشارك في الهجوم التركي على مصر. أُسر في 26 شباط 1916، وكان برتبة عقيد. التحق بالثورة العربية، وأصبح قائداً لجيش الثورة.تولى عدة حقائب وزارية في العراق. قتل في انقلاب بكر صدقي عام 1936. حاز على وسام الصليب الحديدي من المانيا ووسام C.M.G البريطاني، صهر نوري السعيد، ذو ميول شديدة لبريطلنيا.‏
                            (3) محمد طاهر العمري ـ مقدرات العراق السياسية ـ الجزء الثالث ص 346 ـ مصدر سابق.‏
                            (4) د.وميض جمال عمر نظمي ـ الجذور السياسية ـ مصدر سابق ـ ص 178/179.‏
                            (5) المصدر السابق ص 179.‏
                            (6) المصدر السابق ص179.‏
                            (7) مذكرات رمضان شلاش الخطية ـ مصدر سابق ص90.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: الثورة المنسية

                              الفصل الثالث عشر: العهد يستبدل رمضان شلاش ويعين مولود مخلص

                              نجحت حقاً التجربة الثورية التي رسمت في ذهن ياسين الهاشمي، ونفذها رمضان شلاش عملياً، وسقط جدار الخوف والتردد عند الكثيرين من ضباط العهد العراقيين المتواجدين في دمشق. فقد تخوف العديد منهم من هذه التجربة حين قارنوا عسكرياً بين القدرة العسكرية البريطانية، وبين قواتهم، ومايمكن أن يحصلوا عليه من مساندة من قبل العشائر في المنطقة. فالفارق في القدرات "لا يمكن أن تكون فيه أي نسبة توازن". والكفة راجحة حتماً في رؤيا هؤلاء الضباط لصالح بريطانيا، ورأوا أن التجربة هي لعب بالنار. فالحليف في رأي البعض أي بريطانيا مهما تصرف يجب أن لا تتم معاداته بل يجب كسب رضاه بالحوار والإقناع، وكسب عدد من المؤيدين في الحكومة البريطانية وصفوف الجيش البريطاني، وأن الحل السياسي هو الوسيلة الناجحة، لتحقيق المطالب العراقية. والحل العسكري هو ضرب من الجنون.
                              كان ياسين الهاشمي يدرك حقاً قدرات بريطانيا، ولم يكن مغامراً كما عرفنا من خلال سيرته الذاتية، ولكنه كعسكري كان يرى أن بريطانيا وزعت قواتها في العديد من البلدان، وركزت قواتها الضاربة في عواصم البلدان والمدن الكبرى. وأن دير الزور تعتبر منطقة بعيدة عن مركز القوات في بغداد والموصل، وهي منطقة قريبة من حدود الحكومة العربية في سورية، وأن نسبة نجاح الثورة فيها كبيرة. من هنا جاء إيحاؤه لرمضان شلاش بتنفيذها. ومن قبل عشائر المنطقة في الذات. فإذا نجحت تم تطويرها، وإذا لم تنجح، كانت تجربة فاشلة يتحمل عواقبها شخص واحد، أو يتحملها هو ورمضان.
                              ولقد كان عدد من ضباط الإنكليز يدركون مايخطط ياسين الهاشمي، فتم اعتقاله قبل التنفيذ. إلا أن رمضان شلاش قام بالثورة على الرغم من غياب المخطط متحملاً وحده نتيجة ما تسفر عنه من نتائج. ولهذا جاء في برقية للكابتن جامير الحاكم السياسي البريطاني في دير الزور مايلي: ".. أعتقد أنه ليس ثمة شك بأن حزب ياسين باشا لم يؤيد الحركة فقط. بل شجعها أيضاً. فإذا ما كتب لها النجاح. تزجى التهاني لرمضان. وإذا لم تنجح يجري التنصل منها".([1])
                              وحين شعر رمضان شلاش أن لديه من القوات التي تحقق له انتصارات جديدة، بدأ في تحريض القبائل وعلى رأسها العكيدات للالتفاف حوله، ومهاجمة القوات الإنكليزية المنتشرة على ضفاف الفرات. وشكلت الهجمات العشائرية ارتياحاً للأمير فيصل، حيث شعر أن الوقت قد حان للانتقام من الإنكليز الذين خانوه، ونقضوا عهدهم لوالده. وفي الوقت نفسه كان يريد أن يقود الثورة رجل أكثر عقلانية وخبرة عسكرية وسياسية معاً، وأن يكون بعيداً عن روح المغامرة، والعقلية العشائرية الضيقة التي يمثلها رمضان شلاش. والتي بدأت تصرفات قواته العشائرية داخل المدينة تسيء للثورة وللأهالي معاً، كما أن الإنكليز كانوا يرون في إبعاد رمضان شلاش انتهاء الثورة ضدهم. وأنهم نفذوا هدفها بتغيير الحدود، وإدخال دير الزور لسورية.
                              كما واجه الأمير فيصل ضغطاً من قبل الإنكليز وتنظيم العهد العراقي وعدد من الأهالي في مدينة دير الزور لتغيير رمضان شلاش عن قيادة الثورة، وحاكمية دير الزور العسكرية. إضافة إلى رغبته الخاصة بتطوير العمل العسكري الثوري ضد الإنكليز وبأساليب جديدة، فاختار العقيد مولود مخلص([2]) ليكون حاكماً عسكرياً لدير الزور في 15 كانون الثاني 1920 بدلاً من رمضان شلاش الذي استدعاه إلى دمشق.
                              وصل إلى دير الزور مولود مخلص يرافقه المرافق العسكري أمين العمري. واجتمع به رمضان شلاش الذي أحسن استقباله. وغادر شلاش دير الزور إلى دمشق. كما وصل إلى دير الزور العقيد تحسين العسكري ليكون مديراً لشرطتها.
                              أثر تعيين مولود على رمضان:

                              من كتابات رمضان شلاش حول حادث تعيين مولود مخلص بدلاً عنه يستدل منها على التأثر العميق الذي أصابه من قرار عزله، وتعيين مولود الذي اعتبره عدوه اللدود. فيقول في مذكراته:
                              ".. جاء أمر تعيين مولود باشا محافظاً لمدينة دير الزور، وكان هذا من ألدّ أعدائي، عندما كنا في الحجاز. وأرسلت برفقته شقيقي الأكبر حمود الشلاش، وعند وصولهم إلى موقع التبني /40/ كيلو متراً عن دير الزور. بقي مولود باشا في الموقع المذكور. وجاءني شقيقي وقال: "يا رمضان الشيء الذي كان فيما بينك وبين مولود يجب أن تنساه. وقد عُين من قبل الحكومة العربية..". فقلت له: .. إنني لا أضمر لأي عربي عداءً. أو حقداً. فيما إذا كان مخلصاً لأمته ووطنه، وسأخرج مع جيش من المجاهدين للقائه.". وبالفعل أمرت الجيش بالخروج للبغيلية، لاستقبال المحافظ الجديد. ولكن الحاكم الإداري الذي عينته من قبلي المدعو حاج فاضل العبود، ورؤساء العشائر المجاهدين احتجوا على تعيين محافظ غريب. فأقنعتهم بأننا جميعاً عرب. وليس ثمة فرق بين ديري أو حلبي وشامي وحجازي.
                              وبعد وصول المحافظ مولود إلى مركز دير الزور، قدمت له أبناء عمومتي، ورؤساء العشائر. وقد أبلغني أثناء ذلك أمر الملك فيصل بأن أحضر إلى دمشق. وبالفعل أخذت معي خمسة فرسان، وذهبت عن طريق تدمر إلى دمشق.([3])
                              مولود يوسع دائرة الثورة:

                              شعرت القيادة البريطانية بالارتياح لإزاحة رمضان شلاش. اعتقاداً منها أن الثورة ستنتهي برحيله. وحتى ذلك التاريخ لم تدرك بأن الثورة لم تكن عملاً فردياً، ينحصر في رمضان شلاش، بل هو عمل تنظيم سياسي عسكري قومي يستهدف أوسع من رؤية فردية أو مصالح عشائرية ضيقة. وأهداف أكبر مما اعتقد ارلوندولسن بأنها مسألة حدودية، تنتهي بحدود جديدة وانسحابات صغيرة.
                              كما جرت تحولات ضمن حزب العهد العراقي بعد النجاحات التي تحققت في دير الزور، فتبدلت مواقف المتخوفين والمترددين، وهو تيار الوسط الذي كان بين تيار الداعي للثورة والعنف، بزعامة الهاشمي وبين تيار المولاة والحوار مع بريطانيا ويقوده نوري السعيد وجعفر العسكري. فكان تيار الوسط المتردد بين الهاشمي والسعيد. والخائف من ردة الفعل البريطاني على أي حركة ثورية مضادة لوجوده في العراق. فانحاز غالبية هذا التيار لصالح الثورة بعدالنجاح الكبير الذي تحقق لهذه الثورة ومن بينهم مولود مخلص، والذي عرف بشجاعته ووطنيته وقوميته منذ أن كان في الأستانة، حين رفض ممارسات السلطان عبد الحميد الثاني، وانضم إلى صفوف جمعية الاتحاد والترقي. وقد فصل مرتين من الجيش لمناهضته لسياسة عبد الحميد الثاني. وبعد أن اتضح له أن زعماء الاتحاد والترقي يستهدفون الوجود القومي العربي باتباعهم سياسة السحق القومي للشعوب المنضوية تحت السلطنة العثمانية ومنها الشعب العربي، فأسرع مولود بالانتماء إلى جمعية العهد، وكان من أبرز ضباطها. ثم ترك الجيش العثماني حين وصلت إلى مسامعه أنباء انفجار الثورة العربية. وغادر الأستانة إلى البصرة ومن هناك انتقل إلى الحجاز، فالتحق بصفوف الثورة. وكان له الموقف القومي في وجه بريطانيا حين رفض متابعة القتال في شمال الحجاز، حين علم بمخططات بريطانيا وفرنسا لاستعمار البلاد العربية وتقسيم بلاد الشام والعراق بين الدولتين بماسمي.. اتفاقية (سايكس ـ بيكو).. وإعطاء فلسطين للصهاينة، بما يسمى "وعد بلفور"، ورفض أوامر الزحف، واصطدم بالكولونيل لورنس وغيره، من ضباط الاستخبارات البريطانية المرافقة للجيش العربي. وتعرض لحادث مفتعل فأصيبت ساقه بطلقة نارية نقل إلى القاهرة للمعالجة. وفي دمشق كان أحد أركان النظام العربي الشريفي.
                              وحين وصل مولود باشا إلى دير الزور في 17 كانون الثاني 1920، لم يكن في ذهنه إلا متابعة الثورة. ولتأخذ أهدافها التي رسمها حزب العهد العراقي في دمشق، فواجه في البدايات المضايقات من أنصار رمضان شلاش إلا أن هذه المضايقات لم تمنعه من مواجهة القوات الإنكليزية، التي أرادت استعادة احتلال الميادين المحررة. حيث اعترف مؤتمر الصلح، بالحدّ الذي رسم بين العراق وسورية وهو نهر الخابور. فزحفت القوات البريطانية من البوكمال باتجاه الميادين. فأعلن رمضان حالة النفير العام في مدينة دير الزور وعشائر منطقة الفرات، وأرسل الرسائل إلى زعماء العشائر يستفزهم لحشد قواتهم لمواجهة الإنكليز، ومنعهم من التقدم إلى الميادين.
                              حشد القوات المحلية لصد الهجوم الإنكليزي
                              على الميادين:


                              رأى مولود مخلص ومعه مجموعة من الوطنيين من أبناء دير الزور ووجهاء المدينة ضرورة إعلان الجهاد ضد القوات الإنكليزية الزاحفة إلى الميادين، وفعلاً أعلن الجهاد ضد الكفار. وتطوع العديد من أبناء محافظة الفرات في الجيش الشعبي لحماية الميادين من الاحتلال الإنكليزي، وسير الوطنيين مسيرة جماهيرية لرفع معنويات الجماهير، ولحشد أكبر عدد من الأهالي في القوة المرسلة إلى الميادين. وألقى مولود فيهم خطبة حماسية، وكذلك عدد من الوجهاء والقادة الوطنيين حثت الجماهير على الدفاع عن المدينة كما ألقى شاعر الفرات الوطني "محمد الفراتي"، قصيدة وطنية وجهها للأمير فيصل لدعم الثورة وحماية الميادين ومنطقة الفرات هذا نصها:

                              أنهض وروَّ العوالي من عِداك دما
                              واستخدم السيف والقرطاس والقلما

                              يابن الحسين وكم تدعى لمكرمة
                              لم نلف إلاك سيفاً صارماً خذما

                              لا تسمعن بنا قول الوشاة فقد
                              بغت علينا ولم تحفظ لنا الذمما

                              الله في أمة لو لم تكن عضدا
                              لها نصير لادمت كفها ندما

                              لأنت أدرى بما قد قيل من قدم
                              ماكان مازعم الواشي كما زعما

                              لا تسلمتها إلى أيدي العداة فقد
                              أضحى بها شمل ذاك العزُّ منتظما

                              ماذا على أمة قامت تدافع عن
                              حق لها كان قبل اليوم مهتضما

                              رأت عدواً لدوداً ملحماً قرماً
                              مستقتلاً طامعاً مستعمراً نهما

                              لا الهند تشبعه لا السند تقنعه
                              أضحى لنصف بلاد الله ملتهما

                              سل الفرات وسل بغداد مافعلت
                              أيدي الطغاة بأهليها سل الهرما

                              سل الهنود سل الأفغان سل عدنا
                              تحطك علماً سل الأكراد والعجما

                              مصائب صوبتها الإنكليز على
                              رؤوسهم تقذف الويلات والحمما

                              فالأرض لله لا الطامعين وأن
                              داموا ستمسي بها أشلاؤهم رمما

                              يرون أنفسهم فيها ملائكة
                              مكرمين لذاك استعبدوا الأمما

                              فأنت يا أرض مجي نحوهم ضرما
                              ويا سماء عليهم أمطري نقما

                              كانوا بنا بين أعزاز وتكرمة
                              أن اللئيم ليأبى طبعه الكرما

                              أفيصل الحق لا تلقى لهم أذناً
                              فصوتهم يورث المصغي له صمما

                              لا تنخدع بأساليب ينمقها
                              منهم غوي يحاكي رسمها الحلما

                              أين العهود ومامنوا وما زعموا.؟
                              كانت وعوداً فأمسى حبلها انصرما

                              قالوا الشعوب لقد قمنا لننقذها
                              من المهاوي فكانت بينهم قسما

                              بعض الطباع لها من جنسها مثل
                              لا تأمن الذئب أن يرعى لك الغنما

                              ففي الجزيرة في وادي الفرات وفي
                              أرض العراق قلوب تصطلي ضرما

                              إن لم تصلها وتطفي غلي مرجلها
                              تضم جيشاً يعم السهل والأكما

                              يكون آخره "بالدير" متصلاً
                              وصدر أوله "بالفاو" مرتطما

                              شلت يميني وبانت أثرها عنقي
                              إن كنت يوماً بغير السيف معتصما

                              بالله ألي يميناً برة قسماً
                              أن لن نُدّين لشعب يهتك الحرما

                              يروم منها استلام "الدير" عن عرض
                              أهلاً بمن للمواضي جاء مستلما

                              وكيف نسلمها منا وتكرمة؟
                              ونحن أرسخ منهم في الوغى قدما

                              بل كيف نسلمها منا وتكرمة؟
                              لما تولى عدو الحق منهزما

                              أن لم ترفرف بها أعلام فيصلنا
                              إذن فلا رفعت كفي بها علما

                              العرب في سائر الدنيا ذوو رحم
                              يا فيصل الحق فاحفظ تلكم الرحما

                              هذي نصيحة من أولاك مهجته
                              وكم وكم قبلها أوليته نعما([4])

                              شكل مولود مخلص قوة عسكرية من جنوده المتواجدين معه ضمت (90) جندياً و(100) دركياً خيالاً ومابين /40/ إلى /50/ دركياً مشاة. مسلحين بالبنادق مع مدفعين صحراويين ورشاشين من طراز .. "فيكرس" إضافة إلى عدد من المجاهدين من أهالي المدينة وأبناء العشائر من ريف، ومناطق المحافظة. وأصدر مولود مخلص قراراً بتسمية أمين العمري قائداً لجبهة "الميادين"، وعين سليم الجراح قائداً للمجاهدين من أبناء محافظة دير الزور([5]). واتجهت القوة إلى الميادين فوصلتها في /31/ كانون الثاني/1920، وتمركزت جنوبها. بعد أن حولتها إلى جبهة للدفاع عنها، وعن باقي مدن دير الزور ضد أي هجوم انكليزي محتمل. حيث توقفت القوات الإنكليزية كما قلنا في منطقة الصالحية التي تبعد عن مدينة البوكمال مايقارب /35/ كيلو متراً.
                              وفي المدينة أعلن النفير العام وشكلت الكتائب من أهلها حيث تسلحوا بالبنادق العثمانية والسيوف ومختلف الأسلحة البيضاء للدفاع عن مدينتهم. ضد أي هجوم مباغت يستغل خلو المدينة من القوات([6]).
                              خيبة بريطانيا من مولود مخلص:

                              شعرت بريطانيا بخيبة الأمل بمولود مخلص، حيث سقط حلمها بانتهاء الثورة برحيل رمضان شلاش. إلا أن أعمال مخلص أثبتت أنه لا يقل روحاً ثورية ووطنية عن شلاش، بل راح يخطط إلى أبعد مما رسم رمضان، وطالب بتوسيع دائرة الثورة لتشمل العراق بكامله. ورفض الاعتراف بالحدود التي رسمها مؤتمر الصلح بجعل الخابور حدّاً بين سورية والعراق. كما رفض إعادة مدينة الميادين إلى الاحتلال البريطاني، حيث تقع ضمنه كما جاء في مؤتمر الصلح، وطالب باستعادة مدينة البوكمال وعانة من الاحتلال.
                              وصدر بيان بريطاني في 16/شباط/1920 جاء فيه:
                              "قد عزل رمضان شلاش وذهب إلى دمشق، وخلفه مولود باشا ممثلاً للحكومة العربية، وقد جعل مؤتمر الصلح نهر الخابور حدّاً مؤقتاً بين سورية والعراق، وعلى حسب هذا الترتيب تقع الميادين ضمن منطقة العراق. على أن مرخص الحكومة العربية أبى قبول هذه الحدود المؤقتة، واحتل الميادين. وطلب منا أن ننسحب إلى موضع تحت "عانة". .
                              وطلائع جنودنا مرابطة في البوكمال والصالحية التي تبعد مسافة /20/ ميلاً من الميادين إلى الجنوب. وستبقى هناك حتى تحسم هذه المسألة حسماً نهائياً."([7]).
                              وخلال تواجد القوات البريطانية على طول الطريق الواصل مابين القائم والصالحية، كانت غارات العشائر عليها متواصلة، مما أرهقها مادياً ومعنوياً. وكانت من أهم المعارك التي حدثت أثناء تواجد تلك القوات في الصالحية معركة بين العشائر والقوات البريطانية سميت بمعركة (النسورية).
                              معركة النسورية:

                              وأطلق عليها (النسورية) نسبة إلى اسم الأرض التي حدثت فيها تلك المعركة. فقد خططت العشائر المحيطة بمنطقة الصالحية بالقيام بهجوم واسع على القوات البريطانية المتواجدة على أرضهم، والتي كانت تستعد لهجوم على مدينة الميادين والاستيلاء عليها. لأنها كما قلنا موضع نزاع حدودي مع مولود مخلص. فحشدت عشائر الدميم والشعيطات والمجاورة قوات من أبنائها بقيادة شيخ الدميم فارس الصياح، الذي خطط لمعركة مباغتة للقوات البريطانية التي تتحرك في المنطقة مابين المجاورة والجلاء.. غربي "نهر الفرات"، والتي كانت تواصل الإمدادات العسكرية والغذائية للقوات الإنكليزية في الصالحية. فكمنوا لهم في منطقة تدعى "النسورية"، وحين مرت القافلة الإنكليزية خرج الكمين العشائري. فدارت رحى حرب ضروس بين الطرفين، تمكن فيها المهاجمون من إلحاق هزيمة كبرى في القوات الإنكليزية وتكبيدها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد والمؤن. كما أن القوات العشائرية خسرت من طرفها أعداداً من الجرحى والقتلى، حيث بلغ عدد شهداء تلك المعركة من العشائر مايزيد على أربعين مجاهداً.
                              أثارت تلك المعركة حقد الإنكليز على أبناء المنطقة بكاملها، فقامت القوات الجوية الإنكليزية بقصف القرى الواقعة على طرفي النهر من الصالحية حتى البوكمال، فزرعت الدمار والرعب في المنطقة، وذهب ضحية هذا القصف العشوائي العديد من الضحايا. بالإضافة إلى خسائر مادية في المنازل والمزارع. ولشدة القصف الذي تعرض له أهالي المنطقة، أطلقوا على ذلك العام "سنة الدَّان" نسبة لضخامة ما ألقي عليها من قنابل من الطائرات، ومشاركة المدافع البريطانية في قصف المنطقة بالقنابل.([8])
                              لم تتوقف هجمات العشائر على القوات البريطانية على الرغم من القصف الجوي والمدفعي على القرى والمدن والمزارع، ولعب المجاهد مشرف الدندل دوراً رئيسياً في تحريض القبائل والعشائر لمهاجمة مراكز وتجمعات القوات البريطانية. وبرز في ميدان القتال قادة شجعان ومقاتلين أرعبوا القوات الإنكليزية، فكانت أسماء مثل "الهامة" البطل الشجاع وزميله "يوسف الحمدان"، وكان الأول من عشيرة الحسون، والثاني من عشيرة المشاهدة، ترعب القوات الإنكليزية لما عرفا عنهما من بسالة وشجاعة وبطولة.
                              مع تواصل الهجمات في شتاء عام 1920، على شكل غارات ليلية على معسكرات الجيش الإنكليزي، ظهر تطوران في نفسيات الطرفين. فالطرف العربي شعر بضعف القوة الإنكليزية، وتبيّن له أن هذا الجيش المرعب. لم يكن سوى جيش عادي، يمكن منازلته وإلحاق الهزيمة به. فأصبح لا يهاب أي نزال مع القوات الإنكليزية. بل هو الذي يبادر في الهجوم وإنزال الخسائر بها وأصبح يغنم من تلك القوات السلاح والمؤونة والمال.
                              أما الطرف الإنكليزي حين فقد هيبته في نفوس العرب، وشعر بقدرة العشائر على مهاجمته، دون خوف من أسلحته المتطورة. جعلت الجندي الإنكليزي خائفاً مرتعباً من أي غارة ليلية قد تفقده حياته. لهذا اختل التوازن بين القوى من الناحية النفسية لصالح العرب. بحيث جعلت من العشائر المغيرة على أي معسكر إنكليزي لا ترى المواجهة القتالية محتملة، فكثيراً ما تدخل إلى المعسكر، وتأخذ ما تريد من المؤن أمام أعين الجند الإنكليز، الذين لا يحركون ساكناً في بعض الأحيان.
                              هذه الهجمات والغارات أثارت قلقاً لدى القيادة البريطانية في العراق، وطالبت مولود مخلص بالعمل على إيقاف هذه الهجمات المتكررة على الجيش البريطاني المتواجد في الصالحية والمراكز المختلفة.
                              وطلب أرنولد ولسن من مولود مخلص بأن يعمل على وقف الهجمات حتى يتم حل مسألة الحدود نهائياً، إلا أن مولود اعتذر لولسن بأنه لا يستطيع أن يوقف غارات العشائر، فليس لديه السيطرة عليها، وفي الوقت نفسه حذر مولود مخلص ولسن. من أن تقوم القوات الإنكليزية المرابطة في الصالحية بأي هجوم على الميادين، وبأنه سوف يتصدى لها بقوة لمنعها من دخول مدينة الميادين.
                              فوجد ولسن بأن مولود مصمّم على منع القوات الإنكليزية من دخول الميادين، فطلب من وزارة الهند أن تسعى الحكومة البريطانية لدى الحكومة العربية في دمشق بتغيير مولود مخلص عن إدارة دير الزور. وتسليمها إلى رجل أقل صلابة وعناداً حيث جاء في برقية له في 25 شباط 1920 مايلي: "حمل الحكومة العربية على إزاحة مولود. والاستعاضة عنه بشخصية أقل عناداً"([9]).. كما أن الجنرال "هالدن" قائد القوات البريطانية قد أرسل في 11 شباط 1920، برقية إلى وزارة الحربية البريطانية يُعلمها أن مولود مخلص أصبح يهدد الوجود البريطاني في منطقة الميادين والبوكمال، ويطلب هو الآخر بالضغط على الحكومة العربية في دمشق على استبداله بشخص آخر أقل ثورية، وعداءاً للوجود البريطاني.([10])
                              إلا أن الأمير فيصل وحكومته في دمشق لم تستمع على مايبدو للنصائح البريطانية وضغوطها لاستبدال مولود مخلص، بل أبقته الحكومة العربية حاكماً عسكرياً لدير الزور، وعززت هذا الموقف إصدار الأمير فيصل مرسوماً بتشكيل لواء دير الزور في "3 شباط 1920"، ضمّ ما تحرر من متصرفية دير الزور ملحقاً به قضاء الرقة. إضافة إلى منطقة الجزيرة التي هي في الأساس تابعة لدير الزور. واستمر مولود مخلص حاكماً عسكرياً مدنياً لدير الزور حتى عين أول متصرف عربي للواء دير الزور، في أواسط أيار 1920 السيد مصطفى بك القنواتي. حيث بدأ عمله الإداري المدني فيها. في حين كان مولود حاكماً عسكرياً.([11])


                              ([1])F.O. 371. 5126 - E - 1264 . Report - From - p.o. Deir - ez 0 zor - January. 1920.

                              ([2]) مولود مخلص (1884 ـ 1954)، درس وعاش في الموصل من أسرة تكريتية. أكمل دراسته الثانوية في الموصل والتحق بالأكاديمية العسكرية بالأستانة عام 1901. فصل مرتين من الجيش بسبب انتقاده للسلطان عبد الحميد. وكان عضواً فعالاً في جمعية العهد، هرب إلى الحجاز والتحق بالثورة العربية. انتقد مخططات الإنكليز التقسيمية أصيب وجرح أثناء الثورة. قاد عدة معارك ضد الترك. بعد انتهاء الحكم الفيصلي في سورية. عاد إلى العراق وكلفه الملك فيصل بتأسيس الجيش العراقي.

                              ([3]) مذكرات رمضان شلاش الخطية ـ مصدر سابق ـ ص 61-62.

                              ([4]) قصيدة من ديوان محمد الفراتي باسم (صوت من الجزيرة)، وفي ديوان "نفحات"، قدمها الأستاذ عقيل عرفي للمؤلف.

                              ([5]) د.علي الوردي ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ مصدر سابق، ج5، ص 136 ـ 135.

                              ([6]) عبد القادر عياش ـ وادي الفرات ـ مجلة العمران السورية ـ دمشق ـ العدد 39(-40) ـ ص 25.

                              ([7]) جريدة الموصل ـ العراق ـ الموصل ـ تاريخ 16 شباط 1920.

                              ([8]) أسعد الفارس ـ مدينة وشعب على الفرات الأوسط ـ مصدر سابق ـ ص 97-98.

                              ([9])F.O - 371 -5-28-E-1393- 25 February 1920.

                              ([10])F. o. 371 - 5128- E - 282 - To Waroffice - 11- Febeuary - 1920.

                              ([11]) عبد القادر عياش ـ دير الزور ـ حاضرة الفرات ـ مجلة العمران. مصدر سابق ص 25.
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X