رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية
الفصل السادس الوحدة السورية اللبنانية بعد إنشاء جامعة الدول العربية 1945-1949
قبيل وبعد مولد جامعة الدول العربية في 22/3/1945، حدث تحول جديد وتطورات حاسمة في البلاد العربية نفسها وفي العلاقات الدولية. لقد تبدلت سياسة بريطانيا إزاء الجامعة تبدلات أساسية، وانتقلت بريطانيا من مؤيد وشفيع إلى معارض يسعى لتحطيمها. وتبدل بالتالي موقف بريطانيا من المشاريع الهاشمية، فأخذت تدعمها وتعمل لها بعد أن كانت تتحفظ تجاهها. وتبدلت الأوضاع السياسية داخل الوطن العربي، أقيلت حكومة الوفد في مصر في 8/10/1944 وتحول الحزب بقواه الشعبية وقاعدته الواسعة إلى معارض لبريطانيا، ويتزعم رجل الشارع في المطالبة بالجلاء التام والوحدة مع السودان.
وانسحبت القوات البريطانية من سورية (15نيسان1946) ولبنان (31 كانون الأول 1946) وزال بانسحابها النفوذ الذي حاولت بريطانيا فرضه على البلدين تحت ستار صداقتها التقليدية للحكومتين الوطنيتين وخصومتها التقليدية للأطماع الفرنسية. (كما انسحبت أيضاً القوات الفرنسية).
وازدادت نقمة الرأي العام العربي على الحكومة البريطانية بعد أن اتضح له سعيها لتهويد فلسطين.
وتبدلت من ناحية ثانية العلاقات الدولية، وأثرها في الوطن العربي، إذ دخلت الولايات المتحدة المنطقة بصورة مرسومة ومنظمة، واستطاعت السيطرة على بعض أوضاع المملكة العربية السعودية بشراء امتياز النفط. كما استطاعت أن تزعزع ولاءات بعض أصدقاء الانجليز في البلدين الهاشميين (شرقي الأردن والعراق)، وأن تستثمر هذه الولاءات لصالحها. ودخل الاتحاد السوفييتي منطقة الشرق العربي دخولاً غير مباشر وبشكل مختلف بواسطة الأحزاب الشيوعية في بعض الأقطار العربية، وبفضل تفاقم نفور العرب عامة من سياسة الدول الغربية في المنطقة(1).
ومع زوال السيادة الأجنبية اختفى الرابط الذي كان يربط البلدين سورية ولبنان أحدهما بالآخر، وبقي الاتحاد الجمركي يجمع البلدين(2). وبقي عدم وجود تبادل دبلوماسي بين البلدين، مع أن لبنان كان يفكر به، وانتقال الأفراد بينهما بالهوية الشخصية مع حرية الإقامة، يدل على الوحدة التي كانت قائمة حتى نهاية الاحتلال الأجنبي(3).
1- موقف لبنان من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية :
وأما موقف لبنان من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية فيتضح في خطب الشيخ بشارة الخوري : فلقد كان دعاة لبنان الصغير (أي جبل لبنان الوطن القومي المسيحي) المطالبين بارتباطه بفرنسا وانعزاله عن العرب، يروجون أن الاستقلال الذي يطالب به الوطنيون الاستقلاليون محاولة تهدف إلى تحقيق غايتين :
أ - استبدال الانتداب الفرنسي بانتداب انكليزي .
ب- استبدال الوصاية الفرنسية بوصاية شرقية او غربية(4).
وفي هذه الفترة كانت تجري عملية جلاء القوات الفرنسية والبريطانية عن سورية ولبنان مما كان يسبب خوفاً لدى دعاة لبنان الصغير وكان لابد لدعاة الاستقلال من التصدي لهذه الأفكار بحزم، فيرد بشارة الخوري عليها في خطاب موجه إلى المغتربين في 20/10/1945 قائلاً : " ...... لم نقصد من وراء ذلك استبدال انتداب بانتداب، مهما قالوا ومهما افتروا، كما أننا لم نترك أحضان الغرب لنرتمي في أحضان الشرق ... إننا ننادي بأن لاوصاية ولاحماية ولارقابة ولامعاهدة تمنح مركزاً ممتازاً لدولة على أخرى ولانقصد دولة مخصوصة بل جميع الدول على السواء".
وفي معرض دفاعه عن مواقف الدول العربية الداعمة لاستقلال لبنان في محيطه العربي، كان بشارة الخوري يركز على النقاط التالية :
أ - ليست للدول العربية أطماع في لبنان ولاتسعى إلى إرغامه على الدخول معها في وحدة أو اتحاد. ففي خطبة له في 28/10/1945 قال : " .... الدليل على أننا لم نرتم في أحضان الشرق أنه لم يخطر على بال إخواننا العرب في وقت ما أن نفقد كياننا بانضمامنا إلى الدول العربية المجاورة عن طريق الاتحاد أو الوحدة ..... وإذا آمنا برسالة لبنان في البلاد العربية وانضممنا عن طيبة خاطر إلى جامعة الدول العربية ووقعنا ميثاقها في القاهرة، فقد فعلنا ذلك راضين مختارين. واشتراكنا في هذه الجامعة إنما هو اشتراك دولة مستقلة بحدودها الحاضرة المعترف بها من المتعاقدين معنا، اتفاق الند للند..." .
ويشدد بشارة الخوري دوماً على فكرة استقلال لبنان المدعوم من الدول العربية وعلى علاقات مع هذه الدول الشقيقة على أساس المساواة التامة بينها. وأن علاقات لبنان مع العالم العربي تنبع من الايمان الكامل بأن الدول العربية لاترغب إطلاقاً في التضييق على هذا الاستقلال أو في تذويب لبنان داخل المجموعة العربية.
ويقول : " ..... فحقنا في الاستقلال صريح. .... لقد وطدناه بانتظامنا في هيئة الأمم المتحدة القائمة على أساس استقلال كل منها، خمسون دولة تعترف لنا بذلك الحق وتضمنه. وإلى جانب هذا الضمان البعيد أيضاً ضمان قريب في جامعة الدول العربية التي دخلناها بملء الحرية والاختيار ..... لقد أيدنا استقلال لبنان وسيادة لبنان دون وحدة أو اتحاد، كما أننا حافظنا على حدود لبنان الحالية ". وفي نفس الوقت يؤكد الخوري على الوحدة الروحية اللغوية بين العرب وعلى عروبة المصلحة الاقتصادية.
ب - لاحياة للبنان المستقل إلا بالخروج من العزلة السابقة التي فرضتها عليه سياسة القوى الاستعمارية خاصة الفرنسية منها. وجماهير الانعزال اللبناني عند بشارة الخوري هي جماهير طائفية مسيحية .... " قد كان بعض المسيحيين يتحفظون، بل يتخوفون من الاستقلال لأنهم كانوا يرون فيه مجلبة للمشاكل، وهي فئة قليلة سيطرت عليها دعاوات السوء فاستسلمت لها .... ".
وكان بشارة يؤكد على وجود مثل هذا الخوف المسيحي على مستقبل الاستقلال داخل العالم العربي، ففي 8/8/1945 يقول : " .... لاأكتمكم أنها لأسباب سياسية أو تاريخية لاتزال في البلاد فئة يخامرها الشك بمستقبل هذا العهد ... ".
وكان الرئيس يسعى دوماً إلى تطمين هذه الفئة مذكراً أن الاستقلال اللبناني مضمون من الغرب والشرق معاً لذا " ..... لايمكن للبنان أو لسواه أن يعيش بعد اليوم في عزلة عن إخوانه وجيرانه، لأن العالم قد تطور في حياته الجديدة تطوراً يجعل من العزلة سجناً وقيداً، وسيخلق عالم مابعد الحرب أوضاعاً وأسـساً لحياة جديدة لاتتفق بوجه من الوجوه مع مبدأ العزلة والانكماش في الدنيا الواسعة ".
ويقول بشارة أيضاً : " .... كان جل مافعلناه أننا أخرجنا لبنان من عزلة قاتلة هدامة لمصالحــه فكان بدء التعاون النزيــه بيننــا وبين سائر الدول العربية على أساس معاملـــة النــد للنــــد "(5).
ويقول الخوري : " ولما سرنا على هذه السياسة الاستقلالية الجريئة ودفعنا عن أنفسنا تهمة الانعزال والعزلة وتلفتنا إلى العرب الذين تجمعنا وإياهم رابطة اللغة والعادات والأخلاق الشرقية والمصلحة والأماني، لم يعد في لبنان لاسلبيون ولاايجابيون، لامسلمون ولانصارى، بل أصبح اللبنانيون شخصاً واحداً لبنانياً قومياً عربياً بكماله .... وكما أردنا الاستقلال تجاه الغرب، فقد أردناه كذلك تجاه الدول العربية الشقيقة، فقلنا لها بصراحة وايمان : نريد استقلالاً كاملاً ناجزاً. وقد قدروا هذا الموقف لأنهم أحرار يقدرون الحرية، وهكذا مددنا لهم يداً نزيهة شريفة، تلك اليد التي غلت عن أن تمد لهم طوال ربع قرن ..".
لقد كانت هذه العروبة الاستقلالية هي عروبة الميثاق، والتي استطاع بها بشارة الخوري أن يحقق آمال الانعزاليين أنفسهم بتأمين مصالحهم مع الدول العربية والابتعاد عن مشاكلهم، إنها عروبة المصلحة، إنها شراكة الغنم فقط، " لبنان ذو وجه عربي "، ولذلك التف جماعة (لبنان اللبناني) حول أبطال الاستقلال والميثاق كي يفتحوا لهم أبواب الوطن العربي الاقتصادية على مصراعيها .
فسارع دعاة الاستقلال اللبناني إلى رفض مشاريع الوحدة (المشبوهة) مع التأكيد بأن لبنان متمسك دوماً بجامعة الدول العربية وميثاقها الذي ينص على الاعتراف بسيادة كل دولة في حدودها الحالية دون أية وحدة أو اتحاد. وقد اعتبر بشارة الخوري في 25/10/1945".... أن فكرة سورية الكبرى هي فكرة مضادة لجامعة الدول العربية ولامجال لتحقيقها على الإطلاق .... وإن فكرة سورية الكبرى تتنافى ومانطمح إليه من حرية واستقلال صحيحين".
واستمرت خطب الخوري تركز على استقلال لبنان وحياده لتطمئن العناصر المسيحية الخائفة من الوحدة العربية ومن زوال الحماية الأجنبية. وأن لبنان لجميع طوائفه.
وتفننت الصحف المعارضة لمشروع سورية الكبرى في اتهامه وتعداد أضراره في عام 1945 وأنه أحد مشاريع ضد الوحدة الحقيقية وهي مشبوهة وغايتها تثبيت أقدام الاستعمار(6).
إلا أنه يمكن لمن يقرأ مذكرات الشيخ بشارة الخوري (حقائق لبنانية) أن يرى أن الاستقلال لم يكن يعني في النهاية الاستقلال عن فرنسا. إذ ما أن فرح اللبنانيون بالاستقلال الذي ساعدهم فيه الصراع البريطاني - الفرنسي في المشرق، حتى راح الرئيس الخوري الذي كان يشكو الفرنسيين لدى الانكليز، راح هذه المرة يشكو من ... الانكليز! لمن ؟.. لقد كانوا في تلك المرحلة أسياد كل شيء من بشارة الخوري إلى.... يتذكر المرء الآن من (حقائق لبنانية) الخطاب الذي ألقاه الشيخ بشارة على مائدة النائب يوسف الهراوي في ذكرى الاستقلال لعام 1945 قال : " الذي يهمنا جميعاً هو الاحتفاظ باستقلالنا المقدس. إن هذا الاستقلال الذي نفديه بالأرواح والمهج تضمنه بحول الله وبقوة عقيدة رجاله. هؤلاء الرجال الذين إذا ماتكلموا صدقوا وإذا عاهدوا أو تعاهدوا وفوا بالوعود" .
واستشهد الخوري على صدق كلامه بقضية الشائعات عام 1942 عندما قام بزيارة مصر واجتمع مع جميل مردم والنحاس، بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد. وها قد مضى سنتان ولم يحصل ذلك(7).
وقد عبر بيار الجميل عن موقف الانعزاليين بكل صراحة إذ قال : ".... الذين يتوخون التدرج بنا من لبنان ذي الوجه العربي كما اتفقنا عام 1943 إلى لبنان العربي، فالشعب العربي في لبنان، فعبثاً يتوخون ....". هذا في الوقت نفسه لاينسى فيه الجميل التأكيد على عروبة الميثاق النفعية : ".... نحن مع إصرارنا على وجوب التعاون الرحب مع الدول العربية، لانرى موجباً لإضافة وصف العروبة إلى القومية اللبنانية، ذلك أن التعاون لايؤلف عنصراً كيانياً ثابتاً، بل هو عرض سياسي خاضع لمستلزمات السيادة والاستقلال، ومرتبط بالظروف السياسية وماتنطوي عليه من تقلبات جوهرية "(8).
2- موقف سورية من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية :
أما موقف سورية التي يحكمها رجال الكتلة الوطنية، فقد تنازلت عن مطالبها في لبنان أثناء توقيع بروتوكول الاسكندرية في 7/10/1944 في عهد وزارة سعد الله الجابري. وكان المجلس النيابي السوري يميل إلى عدم الثقة في الحكومة القائمة وفي قدرتها على معالجة الأمور فاستقال الجابري وشكل فارس الخوري وزارته الأولى في 14/10/1944. وفي بيانه أشار إلى التعاون الوثيق بين الدول العربية حتى تصبح ركناً من أركان المسلم. ثم جرى توقيع ميثاق الجامعة في 22/3/1945 من قبل مندوبا سورية وهما فارس الخوري (رئيس الوزارة) وجميل مردم بك (وزير الخارجية). وفي 31/3/1945 أقر المجلس النيابي السوري ميثاق الجامعة وملاحقه. ومدح الخوري مشروع الجامعة(9).
ولكن النواب استمروا في تقديم ملاحظاتهم بشأن الوحدة السورية، فرد عليهم الخوري في 4/4/1945 وقال إن سورية بعد توقيعها ميثاق جامعة الدول العربية تبدأ صفحة جديدة من صفحات تاريخ العرب المجيد. واستقال في نفس اليوم وكلف بتشكيل وزارته الثانية فشكلها في 6/4/1945.
وعلى الرغم من أن القوتلي (ورجال الحكومة) سار في اتجاه الصدام مع الفرنسيين واضطر للاعتماد على البريطانيين في أثناء عدوان 29/5/1945 وطلب منهم تدخلهم لوقف الاعتداء ومعالجة الأمر بسرعة. إلا أنه لم يتخذ أي موقف تجاه لبنان يزعج فرنسا، بل سار في الطريق الذي سلكته الكتلة الوطنية وهو التنازل عن لبنان مقابل سيره في الطريق العربي في إطار جامعة الدول العربية. (وكانت فرنسا حريصة على تعطيل أي حركة نحو الوحدة أو الاتحاد بأي شكل أو نطاق حتى تبقى سورية ولبنان منطقة نفوذ لها)(10).
وفي 7/6/1945 تبنى مجلس جامعة الدول العربية القرار: "إن المجلس يؤيد مطالبة سورية ولبنان بجلاء القوات الفرنسية عن أراضي الجمهوريتين"(11).
واستمر النواب في انتقادهم للحكومة وعدم الثقة بها في جلسة 20/8/1945، وخاصة في موضوع استلام الجيش السوري. فاستقالت وزارة الخوري في 23/8/1945، وكلف الخوري بتشكيلها فألفها للمرة الثالثة في 26/8/1945. ولكن استمر المجلس النيابي في انتقاد الحكومة في قضية الجلاء خاصة. وكانت المعارضة لاتعتقد بأهلية بعض الوزراء. وخاصة أن أغلبية الوزارات من الكتلة الوطنية. فاستقالت وزارة الخوري الثالثة في 30/9/1945. وعاد سعد الله الجابري فألفها(12).
وماكاد الحكم الوطني يبدأ حتى أخذ يواجه الأزمات ومنها الداخلية الناجمة عن الامتيازات التي أعطيت للأقليات في زمن الانتداب. ومن صعود موجة القومية العربية بقيادة حزب البعث(13). فقد ترادف المحتوى العملي للاستقلال مع الشعور العربي بالتحرر من الاستعمار والقضاء على وجوده داخل الوطن العربي تحت ستار " حماية الأقليات فيه "(14).
3- استمرار جهود الملك عبدالله لمشروع سورية الكبرى
وموقف سورية ولبنان :
كما استمر الأمير عبدالله في محاولاته لتحقيق مشروع سورية الكبرى (من طوروس شمالاً إلى الحدود المصرية جنوباً). ففي خطاب ألقاه في افتتاح الدورة الرابعة للمجلس التشريعي الأردني الخامس (1/11/1945) أشار إلى الوحدة العربية. وأوضح دور بلاده المنتظر في بعثها، وأكد أن شرقي الأردن حريص على مبدأ الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد (الشام) وأنه يعارض كل تقسيم يشوه جمال الوطن العزيز ويحول دون التقاء أفراد الأسرة الواحدة على أرض الأجداد. وأعلن أن حكومته بدافع الوعي القومي، ستعمل على تحقيق الوحدة رغم الأطماع الشخصية، لأنها أمل الوطن والأجيال العربية(15).
هذا وإن التطورات الحاسمة التي حدثت في البلاد العربية وفي العلاقات الدولية عام 1945، قد أخذت تظهر بشكل واضح منذ ربيع 1946. فتراجعت بريطانيا عن تأييدها للجامعة العربية، وازدادت اقتراباً من الهاشميين ليقفوا في وجه الكيانات التي تحررت من النفوذ البريطاني (سورية ولبنان). وفي وجه النفوذ الأميركي والسوفييتي، وفي وجه الجامعة العربية، وفي وجه مصر بالذات. وليقفوا أخيراً في وجه التيار العربي الدافق الذي غذته الجماهير الشعبية وانطلاقات الطبقة الوسطى بدم جديد في عدد من الكيانات(16).
وقد بدأت الصحف الغربية تشير إلى هذا التحول الجديد. فقد نشرت الأهرام في 29/3/1946 عن (لوموند) الفرنسية مقالاً افتتاحياً بعنوان (نحو سورية الكبرى) جاء فيه : "إن لفرنسا وبريطانيا مصالح مشتركة تعتقدان أنهما تحققاتها من وراء إنشاء سورية الكبرى. وفي مقدمة هذه المصالح إعادة توزيع القواعد الاستراتيجية من غير أن تثير عداء العالم العربي. ثم إزالة نفوذ روسيا السوفياتية المتزايد والمتجه جنوباً نحو تركيا وايران(17).
وكان الملك عبدالله قد توصل إلى استقلال شكلي أبعد مايكون عن السيادة الفعلية في سنة 1946 وأخذ يحيي فكرة سورية الكبرى(18)، وبدا الأمير عبدالله هذه المرحلة من مراحل مطالبته وسعيه لتحقيق مشروع سورية الكبرى، بخطاب ألقاه في المجلس التشريعي الأردني الخامس في 11/11/1946، دعا فيه إلى " وحدة عاجلة تمليها رغبة من البلاد وأبنائها البررة ". وأكد أن سلامة الشام في وحدته، و "الخطر عليه من فرقته". وأنه يعاهد الله على السعي لتحقيق ذلك الهدف. وتبنى المجلس التشريعي الأردني الخامس هذه الدعوة وأخذ على عاتقه العمل لها والسعي في سبيلها مما يعني أنه لم يكن يؤمن أن فكرة جامعة الدول العربية كافية.
رفض لبنان هذا المشروع وأعلن وزير خارجيته فيليب تقلا أمام المجلس النيابي اللبناني في 13/11/1946 أن : " لبنان قد دخل الجامعة العربية على أساس استقلاله بحدوده الحاضرة واستقلال كل دولة من دول الجامعة. وعلى ذلك فإن القضية التي تثار من وقت لآخر تحت اسم سورية الكبرى، لايمكن أن تكون موضع بحث، فنحن لانريد سورية الكبرى، ولانقبلها على أي وجه من الوجوه "(19).
ورد محمد الشريقي وزير الخارجية الأردني (وهو من أبناء اللاذقية بشمال سورية) على بيان فيليب تقلا ببيان مضاد ألقاه في المجلس التشريعي الأردني الخامس في 18/11/1946 جاء فيه :
" إن المملكة الأردنية الهاشمية لن تتخلى قط عن ميثاق الوحدة أو الاتحاد السوري، ليس بصفتها دولة سورية فحسب، بل ليقينها أن نقض هذا الميثاق هو نقض لحقوق سورية الطبيعية وإنكار لجهادها الوطني ووجودها الجغرافي ومصالحها الإقليمية المشتركة أيضاً ". وأشار إلى أن " السياسة الأردنية ستظل تعتبر الوحدة السورية الشاملة أساساً وأصلاً في منهاجها القومي، وهي لاتستلهم ذلك إلا من المواثيق الوطنية والمثل العربية العليا "(20).
ولم يجد دفاع الشريقي عن المشروع، فقد اقترع البرلمان اللبناني في 26/11/1946 بالإجماع على رفضه(21).
وكانت القوات الأجنبية قد جلت عن سورية في نيسان 1946. كما كان موضوع الاتحاد العربي وكيفية تشكيله يمثل مكان الصدارة في سورية، ويشكل موضوع الحوار الرئيسي بين الأحزاب والقوى السياسية(22).
ورفضت سورية المشروع أيضاً، فأعلن خالد العظم وزير المالية والاقتصاد الوطني ووزير الخارجية السورية بالوكالة (في وزارة سعد الله الجابري) أمام المجلس النيابي السوري في 23/11/1946، أن موقف الحكومة الأردنية " يناقض القواعد المتبعة بين الدول وميثاق جامعة الدول العربية، من وجوب احترام كل دولة لنظام الحكم القائم في الدول الأخرى وعدم التعرض إلى شؤونها، ويخل بروح التعاون والوئام التي يقوم عليها ميثاق الجامعة ". وأكد أن " سورية لاترغب في اتحاد يكون غير مجرد من كل شائبة ". وأنها حريصة على النظام الجمهوري وهي "لاترضى عنه بديلاً"(23). ولم يكن في سورية أحد حتى ولو أخذ مالاً من الملك عبدالله، ليجرؤ على إعلان رغبته في وضع البلاد تحت حكمه(24)مكرر.
وقررت الحكومة السورية رفع الأمر إلى جامعة الدول العربية، التي وافقت في 25/11/1946 على إحالة الموضوع إلى اللجنة السياسية (المؤلفة من وزراء الخارجية ). وبعد مداولات اللجنة أصدر مجلس الجامعة في 28/11/1946 بياناً أعلن فيه أن " أحداً لم يقصد من تناوله هذا الموضوع (أي مشروع سورية الكبرى) التعرض لاستقلال أو سيادة إحدى دول الجامعة، أو النيل من نظام الحكم القائم فيها ". وأكد تمسك الدول العربية بميثاق الجامعة، وأنها جميعاً تعمل على احترامه وتنفيذه نصاً وروحاً(25). وقد تحفظت حكومة الأردن بشأن هذا التصريح وقالت أنها تعتبر مسألة سورية الكبرى من الأحداث الوطنية(26).
والواقع أن بيان الجامعة العربية يعتبر تخلصاً لبقاً من الموضوع كلية، فهو يرضي السوريين واللبنانيين ويريح الدول العربية المعارضة للمشروع، ولايسيء إلى شعور الملك عبدالله. ومع ذلك أصدر المجلس التشريعي الأردني الخامس في أوائل كانون الأول 1946 قراراً يؤيد فيه مشروع سورية الكبرى ويعلن تمسك الأردن بالميثاق الذي أقره المؤتمر السوري العام في آذار 1920(27) والذي تمثلت فيه جميع مناطق سورية الكبرى .
وبدأت الصحف العربية تتناقل أنباء متعددة عن تأييد الحكومة البريطانية للمشروع، حتى اضطرت مفوضياتها في الدول العربية إلى إصدار بلاغ عام في 17/12/1946 أعلنت فيه : " إن وجهة النظر الرسمية البريطانية هي أن هذا المشروع قضية خاصة بالأقطار العربية دون سواها "(28). وهذا البلاغ بالفعل لم يكن يعبر تعبيراً صادقاً عن وجهة النظر البريطانية.
واستمر الملك عبدالله بالعمل لتحقيق مشروع سورية الكبرى باتباع عدة وســـــائل :
1- ايجاد مؤيدين للمشروع من بين السوريين واللبنانيين أنفسهم مثل محمد كرد علي(29). واعتمد على بعض السياسيين التقليديين في سورية مثل فارس الخوري وشيوخ القبائل والعلماء وصغار الملاك والفلاحين الذين نقلوا ولاءهم إلى عبدالله بعد وفاة فيصل. كما اعتمد على بعض السياسيين اللبنانيين التقليديين (رياض الصلح)، أو المعروفين بانعزاليتهم وطائفيتهم وتخوفهم من الفكرة العربية(30) (الحزب القومي السوري بزعامة انطون سعادة). ومع ذلك فإن المشروع أثار في لبنان اعتراضاً شديداً أظهره البطريرك الماروني الذي صرح بأن لبنان سيظل مستقلاً ضمن حدوده القائمة، وطلب ضمان استقلاله من كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي(31).
وعلى كل فإن موظفي المفوضيتين البريطانيتين في دمشق وبيروت لم يكونوا بعيدين عن مجريات الأمور. إنما المهم أن مؤيدي المشروع في سورية ولبنان كانوا أقلية ضئيلة ؟. وقــد بدأوا ينكشفون أمام الشعب عندما أخذوا يترددون على عمان جماعات وأفراداً(32).
2- دعم مركز الهاشميين داخل منطقة سورية الكبرى نفسها بتأييد دولة مجاورة هي تركيا (والتي تقع فيها أجزاء من سورية الطبيعية وآخر جزء ضمته إليها لواء الاسكندرون في 1939).
فقد عقد العراق معاهدة صداقة معها في 29/4/1946. ووصل وفد تركي إلى عمان في 2/12/1946. ودعي عبدالله لزيارة تركيا فزارها في 1/1/1947 (33) وعقد معاهدة صداقة في 11/1/1947 (34). وقد أثارت هذه المعاهدة قلقاً عظيماً في سورية(35) لأن الملك عبد الله حرص في ذهابه وعودته أن يمر بلواء الاسكندرون(36).
3- محاولة تنفيذ المشروع بالقوة إذ نشرت مجلة (أخبار اليوم) في 1/2/1947 أن الجيش الأردني موزع على حدود سورية وفلسطين لتنفيذ المشروع بالقوة وأن نوري السعيد يؤيد هذا العمل، وأنه من الممكن أنه قد اختير لهذه الحركة وقت انشغال مصر بقضيتها إلى حد ما عن قضايا الوطن العربي، إذ قررت عرض قضيتها على مجلس الأمن بعد فشل المفاوضات مع بريطانيا في كانون الثاني 1947. وتأكد لدى المقطم (19/2/1947) أن الخطة الموضوعة تقضي بتحريك قبائل البادية السورية وغيرها بجميع الوسائل لإحداث فتنة واضطرابات تهدد الأمن العام والنظام، والقيام بحركات معينة على حدود سورية وشرق الأردن، لكي يؤدي كل ذلك إلى تدخل القوات الأردنية المسلحة بحجة تعزيز الأمن على الحدود والسلام في الداخل. وتنتهي الخطة الموضوعة باحتلال دمشق والمناداة بالملك عبدالله ملكاً على سورية. ومع أن مفوضية الأردن في القاهرة نفت كل مايتعلق بالموضوع(37)، وأصدرت الحكومة الأردنية بلاغاً رسمياً أكدت فيه بلاغ مفوضيتها في القاهرة. كما أصدرت القنصلية العراقية في فلسطين وشرق الأردن بلاغاً آخر ينفي علاقة نوري السعيد بمشروع سورية الكبرى وينفي كذلك عدم تأييد نوري السعيد للقضية المصرية إلا مقابل تأييد مصر لمشروع سورية الكبرى(38).
ويبدو أن الذي حال دون الملك عبدالله وتنفيذ مشروعه بالقوة، كان موقف الشعب العربي في فلسطين وسورية ولبنان ومعارضته للمشروع، وعمل الحكومة السورية بسرعة خارقة على تهدئة الأوضاع على الحدود في أوساط القبائل، ورفعها الكثير من الضرائب عنها، ودعوتها لعودة بعض القبائل السورية التي هاجرت إلى شرقي الأردن وتقديم المساعدات المالية والغذائية لها.
4- الحصول على تأييد فعلي من العراق. حيث وجد البلدان أن المنافسة لن تجدي نفعاً أمام تكتل معارضي مشروعيهما فقامت رغبة بينهما بإنشاء جبهة ضد الجامعة العربية ودولها المعارضة لهما.
ولكن فشلت فكرة الوحدة أو الاتحاد بشكل رئيسي لمعارضة الشعب العراقي بصحافته وأحزابه لعبدالله الذي يروا فيه رمزاً للخضوع لبريطانيا. وثانيهما خوف عبدالله نفسه من أن يذوب شرقي الأردن في الكيان الجديد ويذوب نفوذه وتصبح السيطرة لعبد الإله ونوري السعيد(39). فاكتفيا بمعاهدة أخوة وتحالف في 14/4/1947.
وكان العرش الهاشمي في بغداد يتطلع إلى مشروع الهلال الخصيب مستنداً إلى بعض الأنصار من السوريين الذين ينتمون إلى بيئات إقطاعية تخشى من تقلبات السياسة في ظل النظام الجمهوري، ومن أمثلة هؤلاء حسن الحكيم ومنير العجلاني. ولم يكن حزب الشعب كحزب قد اتخذ موقفاً حاسماً من هذه القضية، ولكن عرف كثير من أعضائه بالميل إلى الفكرة(40).
وكان حسن الحكيم (رئيس وزراء سوري سابق) قد قدم في 25/3/1947 مذكرة إلى رئيس الحكومة السورية (جميل مردم بك) بخصوص مشروع سورية الكبرى وطالب فيها بالوحدة، والتي وصفها بالهدف الأسمى. وأن الأمر يستدعي توحيد أجزاء البلاد الشامية (سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن) وإنشاء دولة سورية الكبرى ضمن دائرة جامعة الدول العربية، وقدم الحقائق التاريخية الثابتة حول وحدتها الجغرافية الطبيعية من كيليكيا وخليج اسكندرون وحتى رفح والعريش على البحر الأبيض المتوسط، والتي يحدها من الشرق البادية الشامية ونهر الفرات والخابور والخط الممتد من البوكمال إلى شرق الجوف ثم إلى العقبة. ويحدها من الشمال جبال طوروس، وتمتد جنوباً حتى جنوب شبه جزيرة سيناء وساحل البحر الأحمر. وطولها بزيد عن (800) كم ومساحتها أكثر من مليونين كم2 فالطبيعة منحت سورية حدوداً طبيعية واضحة.
وسورية الطبيعية ذات وحدة عنصرية، إذ يسكنها عنصر من دم واحد ولغة واحدة وعادات وتقاليد واحدة وله خصائص حيوية كاملة مستمدة من طبيعة الإقليم الذي يعيش فيه، وهي من أصل عربي وهضمت كل العناصر الوافدة.
واستدل الحكيم على الإجماع الشعبي بشأن دولة سورية وحدودها الطبيعية من المؤتمر السوري العام في سنة 1919 وموقفه من لجنة كنج - كراين وقراره باستقلال سورية في 8/3/1920 بحدودها الطبيعية واختيارهم فيصل بن الحسين ملكاً عليها ..
وكذلك أشار إلى مواقف الهيئات القومية ومنها (حزب الاستقلال العربي) وحزب الشعب 1925 والكتلة الوطنية. ونبه إلى خطر الصهيونية وأن سورية الكبرى تكون أقوى في دفع هذا الخطر(41).
واستغل الملك عبدالله أيضاً المعاهدة الأردنية العراقية، (14/4/1947) وأصدر في 7/9/1366هـ (4/8/1947) بياناً عاماً أشار فيه إلى الرأي الذي أجمع عليه العرب بشأن (لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين)، وهو استبعاد التقسيم وإلغاء الانتداب واستقلال فلسطين. ثم بين وجوب مواصلة الجهاد المشترك لتحقيق الوحدة في بلاد الشام والهلال الخصيب بالفعل لا بالقول. ويتضح من البيان أن الملك عبدالله كان يرى أن قرار المؤتمر السوري العام في حزيران 1919 لايزال قائماً. وأن الرغبات الشخصية وشهوة الحكم هي المانع الحائل دون تنفيذه. وأن النظام الجمهوري في سورية الذي أوجدته التجزئة الاستعمارية في رأيه، لاينسخ ميثاقاً قومياً انبثق عن إرادة شعب سورية الطبيعية.
ولكي يقطع الملك سبل الاعتراض قال : إن نظام الدولة السورية الكبرى مازال منوطاً بإرادة الأمة. فإما رجوع إلى الأصل، أو استفتاء جديد ومجلس تأسيسي واحد يضم ممثلي الأقاليم السورية جميعاً. مع ترك الخيار للبنان لتحديد علاقته بالأجزاء الثلاثة الأخرى. وشجب الملك في بيانه القول بأن ميثاق الجامعة العربية يوجب المحافظة على الوضع القائم. وفي نهاية بيانه دعا إلى عقد مؤتمر قومي تمهيدي يقرر الأمور التالية :
1- رفع شعار الوحدة أو الاتحاد السوري موضوعياً ... .
2- اعتبار الوحدة أو الاتحاد السوري قضية خاصة بالدول السورية الإقليمية وبإرادة الشعب السوري وحده في حدود وطنه الكامل جغرافياً وتاريخياً وقومياً.
3- وضع التحفظات الضامنة براءة الوحدة أو الاتحاد من كل ماينتقص الحقوق القومية الاستقلالية المكتسبة ... .
4- تحديد مركز فلسطين من الوحدة أو الاتحاد على الوجه الذي يوقف خطر الصهيونية وقفاً تاماً.
5- دعوة الحكومات السورية الإقليمية إلى اتفاق مشترك ينتهي إلى عقد جمعية عمومية ومجلس تأسيسي، تضم ممثلي الأقاليم السورية جميعاً لوضع دستور الدولة على أساس الوحدة أو الاتحاد.
6- حال قيام الدولة السورية الكبرى يجب العمل على إنشاء (الاتحاد العربي العهدي) في الهلال الخصيب (الشام والعراق)، تحقيقاً لما رسمته مبادىء الثورة العربية التحررية وأوجبه ميثاق 8/3/1920 وأفسح له السبيل ميثاق الجامعة العربية(42).
هذه دعوة جديدة لتحقيق مشروع سورية الكبرى أعلنها الملك عبدالله مستغلاً ظروف القضية الفلسطينية، ومستغلاً قدرة الجيش العربي الأردني الذي كان أقوى فعلاً من الجيش السوري ومن الجيش اللبناني. ومستغلاً أيضاً تأييد بريطانيا الخفي لتحقيق مشروعه الذي سعى له طيلة أيام حياته(43).
وكان قد أعلن في 14/6/1947 أنه لايضيره مايقرر الشعب من أن يكون الحكم ملكياً أو جمهورياً وأنه لايريد هدفاً ذاتياً ولايريد أن يفسد هذا الرأي مابينه وبين رئيس الجمهورية السورية، وأنه في غنى عن أمل ذاتي بماورثه من عهد الرسول الأعظم(44).
لقد رأى الشعب العربي في هذه الدعوة الجديدة مظهراً من مظاهر فرض النفوذ البريطاني على الشرق العربي. وكان يحمل على الاعتقاد بأنه يرمي إلى تأييد الصهيونية في فلسطين ؟.
وقد أيدت الحكومة العراقية المشروع. وكان ذلك موقفاً طبيعياً لأن المشروع يوسع ملك الهاشميين ويرفع أسهمهم في الوطن العربي ويمكنهم من الوقوف موقفاً صلباً من المملكة العربية السعودية، في داخل الجامعة العربية أو خارجها(45).
أما سورية ولبنان فقد اختلف الوضع بالنسبة إليهما، إذ اجتمع في قصر بيت الدين في لبنان كل من شكري القوتلي وبشارة الخوري رئيسي الجمهوريتين، ورافقهما رئيسا مجلس الوزراء ووزيرا الخارجية في البلدين. وأصدرا في 27/8/1947 بياناً نددا فيه ببيان الملك عبدالله الذي كان موضع استغرابهما واستنكارهما لتدخله في شؤون الجمهوريتين، وتعرضه لنظام الحكم فيهما ومخالفته في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومبادىء القانون الدولي. وأكد البيان اتفاق الطرفين على الخطط المشتركة الواجب انتهاجها في هذا الموضوع(46).
ولعل القوتلي كان حريصاً على إرضاء ابن سعود في رفضه لمشروع سورية الكبرى الذي يمتد ليشمل أراضي القسم الجنوبي منها التي سيطر عليها عبدالعزيز آل سعود في عام 1925(47). فإذا تشكلت دولة سورية القوية فقد تطالب بالأجزاء المفصولة عنها ومنها فلسطين.
وعبر محمد كرد علي في مذكراته أحسن تعبير عن المشروع بقوله : " قدر الله لنا معشر السوريين ونجونا من سلطان الانتداب بأعجوبة، فكيف بنا نعود سيرتنا الأولى بعد أن تمتعنا باستقلالنا وأخذنا نعيش أحراراً، فما شأننا والعبودية"(48).
كما أن المجلس النيابي السوري الجديد (125 نائباً) الذي اجتمع في يوم السبت 13 ذي القعدة 1366-27/9/1947، وطلب أحد النواب من المجلس أن يعلن استنكاره لمشروع سورية الكبرى الذي نادى به الملك عبدالله. وأرجىء البحث إلى جلسة قادمة. وفي جلسة 29/9/1947، قدم اقتراح من بعض النواب (12 نائب) بشأن المشروع طالبين اتخاذ قرار استنكار للمشروع إذ رأوا فيه نزعة إلى تقييد سورية بقيود الأردن، وفتح ثغرة لأطماع الصهيونية ومحاولة للتآمر على الحكم الجمهوري، وتأييدهما لبيان الرئيسين في 27/8/1947. وقرر المجلس بالإجماع استنكار المشروع(49).
ويشير باتريك سيل إلى المنافسة بين دمشق وحلب تجارياً وتأثير ذلك على الاتجاه السياسي حيث كان الحلبيون يطالبون بالوحدة مع العراق لأن لهم اتصالاً مع الموصل... (50).
ويذكر دروزة أن الحزب القومي السوري الذي كان يعتبر أن سورية التي ينادي بها مفصولة عن العراق بالصحراء.. إذ به عام 1947 ومابعدها يدخل العراق في حدود سورية ويطلق اسم (سورية الطبيعية)، على بلاد الشام والعراق ويسميها الهلال الخصيب السوري. ويقرر الوحدة الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والبشرية التي تجمع هذا الهلال وسكانه في نطاق طبيعي واحد(51).
ولقد أغضب هذا الحزب كل مصلحة يمكن تصورها، أوجد له اتجاهه العلماني الكره في الجامع والكنيسة. وضمن له ضمه فلسطين إلى الوطن السوري الاصطدام بالصهيونية. وجعله اعتقاده أن رأس المال والعمل يجب أن يتحدا في ظل حكومة أبوية لعنة في نظر الاشتراكيين.. وأدت معارضته لسلطة الدولة المنظمة إلى نفي زعيمه ثم مقتله. فقد حاكم الفرنسيون انطون سعادة في عام 1936 بتهمة التآمر على الدولة. وبعد سنتين انسحب من لبنان إلى أمريكا الجنوبية حيث أمضى فترة الحرب. ثم رجع في عام 1947 إلى المنطقة التي أحبها وتحدى الدولة اللبنانية التي خلفت الانتداب الفرنسي. وإذ أساء تقدير مدى انسجام لبنان المستقل مع رغبات اللبنانيين المسيحيين وخصوصاً الموارنة، قام بانقلاب فاشل وهرب إلى سورية(52).
واستنكرت مصر بيان الملك عبدالله ودعوته بتاريخ 24/9/1947. وقد جاء في البيان المصري أن الحكومة ترى: " أن الخير كله في احترام عهد جامعة الدول العربية وميثاقها والذي قام على أساس المحافظة على حقوق كل دولة منضمة إليها ". ولاشك أن موقف مصر ناتج عن خوفها من قيام سورية الكبرى لأن ذلك يفقدها قدرة الحركة والسيطرة في داخل جامعة الدول العربية(53).
أما موقف السعودية فهو نابع من عدم رضائها أو موافقتها على قيام دولة هاشمية في شمالها وشمالها الغربي، مما يقطع صلتها بالبحر المتوسط، وهو الأمر الذي كانت تهتم به السعودية اهتماماً عظيماً. وكان الملك عبدالعزيز يرى أن الملك عبدالله يقف إلى جانب الزعماء الصهيونيين .وأصدرت الحكومة السعودية بياناً رسمياً في 31/10/1947 رداً على بيان الملك عبدالله وأكدت أنها تعتبر أن هذا العمل افتئات على سورية ودستورها الجمهوري.
كما عارض المشروع مفتي فلسطين أمين الحسيني معارضة شديدة وذلك بسبب عدائه للبيت الهاشمي وتأييده المطلق للملك عبدالعزيز .
ولاشك أن المنافسات الحادة التي احتدمت حول المشروع بين الحكام والملوك العرب تفسر بوضوح طبيعة العلاقات القائمة بينهم ومدى تأثير هذه العلاقات في القضايا العربية.
وكانت الحكومة البريطانية ترحب بالفكرة، وإذا كانت حبست تأييدها في بعض الأوقات فإما بسبب قضايا معينة شغلتها في الشرق العربي. وعلى كل حال فإن بريطانيا كانت ترى أن تحقيق المشروع يساعد على حل القضية الفلسطينية ويشكل دولة حاجزة قوية ضد الاتحاد السوفييتي. وسيعطي العرب الثقة في أنفسهم ويقلل من عدائهم للانجليز(54).
أما فرنسا فرأت في المشروع امتداداً للنفوذ البريطاني في سورية ولبنان، حيث فقدت فرنسا إلى حد كبير نفوذها التقليدي القديم، وكانت تخشى بالفعل قيام جامعة دول عربية قوية تؤثر على نفوذها في امبراطوريتها في شمال أفريقيا. وكانت فرنسا تأمل أن يشعر اللبنانيون بضرورة ربط بلادهم بدولة تعد مصالحها مقاومة لمصالح بريطانيا. وفي هذه الحالة سيكون على اللبنانيين عامة والمارونيين منهم بصفة خاصة، أن يحولوا وجوههم شطر فرنسا العدو التقليدي لبريطانيا والصديق التقليدي للمارونيين. ومع ذلك فإن فرنسا كانت تأمل أيضاً أن يتم بينها وبين بريطانيا نوع من التفاهم بشأن هذا الموضوع، حتى يمكن إعادة توزيع قواعدهما الاستراتيجية، وذلك لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي المتزايد.
وكذلك فإن الولايات المتحدة لم تكن تميل إلى تأييد عبدالله في مشروعه وذلك بتأثير عبدالعزيز آل سعود، بينما تميل إلى تحقيق المشروع بواسطة ممثلي الشعب وأنه سيؤدي إلى حل القضية الفلسطينية.
أما الصهيونيون المتطرفون فقد عارضوه خوفاً من تكوين كتلة عربية قوية قد تقضي على آمالهم في المستقبل. أما المعتدلون فقد أيدوه لأنه يقوي مركز عبدالله ضد المتطرفين العرب المؤمنين بالوحدة والاستقلال. ولأن المشروع يخدم الانجليز الذين يعتمد عليهم الصهيونيون. بينما أغلب الصهيونيين أخذوا بعد عام 1940 يأملون بالنجاح على أيدي الأمريكيين. ويرى الصهيونيون أن الوحدة السورية الهاشمية المرتبطة بالانجليز تبعد خطر الوحدة الصحيحة. وأن الصهيونيين عندما يصبحون أعضاء في دولة سورية الكبرى يمكنهم التغلغل إلى أجزاء عديدة من الوطن العربي... (55).
ومهما يكن من أمر فإن الملك عبدالله لم يتوقف عن السعي لتحقيق مشروعه بالرغم من معارضة معظم الدول العربية وبعض الدول الكبرى ومعارضة فئات عريضة واسعة من الشعب العربي. وكان يرى أن لاحل لقضية فلسطين إلا بقيام سورية الكبرى.
4- سورية ومشروعي الوحدة 1947-1949 :
وفي سورية بعد الجلاء، كان النشاط الحزبي قد بدأ يفعل فعله في دمشق وبقية المدن السورية وضمن المجلس النيابي، فنمت روح وطنية في النفوس وانتشرت الأحزاب بكثرة حتى بلغ عدد الأحزاب في سورية ماينوف عن الخمسة عشر حزباً. وبدأ التطاحن الحزبي يأخذ مجراه، إلى أن بوغتت الكتلة الوطنية بتفسخ صفوفها وانسحاب رشدي الكيخيا وناظم القــدسي منها وتأليفهما حزباً خاصاً أسـسا له مكتباً في حلب أطلقا عليه اسم (حزب المعارضة) (56) الذي تحول إلى حزب الشعب عام 1948.
ولم تكن الأحزاب العقائدية قد اكتسبت نفوذاً جماهيرياً بل انحصر نشاطها في بعض البيئات كالطلاب والأقليات الدينية أو العنصرية. فكان البعث والشيوعي والقومي السوري والاشتراكي العربي التي كان لها شبه فلسفة سياسية تلقن للأتباع. أما الأحزاب التقليدية فكانت تعتمد على الولاء لشخصيات معينة(57).
وكانت الوحدة السورية اللبنانية من ضمن مشاريع الأحزاب القومية والدينية وخاصة الحزب القومي السوري الذي كان ينادي بالوحدة السورية وبالأمة السورية فقط أو الأحزاب التي تنادي بها كجزء من وحدة أكبر.
وأوشكت مدة المجلس النيابي المنتخب في عام 1943 على الانتهاء في عام 1947. فطاف رئيس الجمهورية البلاد السورية بجولة عامة معلناً فيها إجراء انتخابات حرة. وبعدها قفل عائداً إلى دمشق. وأثناءها سافر سعد الله الجابري (رئيس الوزارة) إلى القاهرة لحضور دورة الجامعة العربية التي عقدت من أجل قضية فلسطين. وهناك انتابه مرض فجائي فعاد إلى حلب بعد أن مكث مدة في مستشفيات مصر. وتوفي في ليلة الجمعة 28/6/1947. وعلى إثر وفاته كلف جميل مردم بك بتأليف وزارة جديدة كي تشرف على إجراء الانتخابات النيابية المقبلة(58).
كانت رئاسة الحكومة تنحصر في السنوات السابقة بين الشخصيات الثلاثة (فارس الخوري وجميل مردم والجابري). وكان الجابري يعتبر من أكثر أعضاء الكتلة نزاهة. وقد أظهر اعتراضه لرئيس الجمهورية حينما أبدى رغبته في تجديد رئاسته. وكان ذلك منافياً لروح الدستور. إذ أن واضعي الدستور السوري تأثروا بالنظريات السائدة في فرنسا إبان عهد الجمهورية الثالثة وهي لاتحبذ مبدأ التجديد. وقد تصادف أن وافت المنية الجابري قبيل إجراء الانتخابات النيابية فكان ذلك من عوامل إضعاف الكتلة، ولكنه قوى في نفس الوقت مركز شكري القوتلي وسهل له مسألة التجديد(59).
وماكادت الوزارة الجديدة تمارس أعمالها الحكومية حتى قامت بعض الأحزاب تحرض الشعب على المطالبة بتعديل قانون الانتخاب وجعله على درجة واحدة بدلاً من درجتين. وقد راقت للطلاب الجامعيين بدمشق هذه الفكرة المعقولة فتظاهروا وجاؤوا إلى المجلس النيابي مؤيدينها ومطالبين بتحقيقها تخلصاً من حكم الناخب الثانوي، فتداول النواب كثيراً بهذا الأمر وقدم بعضهم تقاريراً لمقام الرئاسة بهذا الخصوص، فرفعت هذه التقارير إلى اللجنة القضائية لتبت فيها فأقرتها. ثم طرحت على الهيئة العامة. وبعد أخذ ورد وافق المجلس بالأكثرية على جعل الانتخابات في سورية على أساس الدرجة الواحدة.
وجرت الانتخابات النيابية في 7/7/1947. وتمت الانتخابات التكميلية في 18/7/1947. واعتبر المنتخبون نواباً منذ 8/8/1947. وقد خاض المعركة الانتخابية رجال الكتلة الوطنية فأخفقوا ولم يوفقوا، وخاصة في حلب، اللهم إلا بعض الأشخاص فازوا بها في دمشق عن طريق التزوير ومنهم (أحمد الشراباتي). وأما النجاح فكان حليف المعارضين والمستقلين. فأخذ رجال المعارضة المنتسبون لحزب رشدي الكيخيا يطوفون الأقضية داعين النواب فيها للانضمام في صفوفهم، فمنهم من لبى ومنهم من أبى. وقبل انعقاد دورة المجلس الاستثنائية الأولى تنادى المعارضون لعقد اجتماع سياسي في مدينة فالوغة بلبنان خلال أيام 12-15/8/1947، وحضر هذا الاجتماع كثيرون من نواب حزب المعارضة وأقروا فيه منهاج حزب الشعب ونظامه الداخلي. وبعد ذلك جاؤوا إلى دمشق قبيل افتتاح الدورة وأذاعوا بياناً على الرأي العام أعلنوا فيه خطتهم ومبادءهم وماتنطوي عليه حزبيتهم من إصلاح للبلاد وسعي جدي لإخراجها إلى عهد جديد، وأطلقوا على حزبهم اسم (حزب الشعب) (60).
ونظراً لتكون حزب الشعب أساساً بواسطة الأعضاء المنشقين عن الكتلة ومعظمهم من أبناء حلب، لذلك قيل أن الحزب إقليمي وإقطاعي بمعنى أنه تعبير عن مصالح إقليم حلب خاصة، وعن طبقة كبار الملاك الزراعيين الذين ينتشرون في الشمال وفي الوسط، وقد وصف حزب الكتلة بأنه حزب شامي أي خاص بإقليم دمشق ويعبر عن برجوازية المدينة. ومع التسليم بتأثير النزعة الإقليمية في الحياة السياسية السورية، فقد كان هناك أعضاء بارزون في حزب الشعب من خارج إقليم حلب وعلى رأسهم أبناء أسرة الأتاسي من حمص. أما أن حزب الشعب كان يعبر عن مصالح الإقطاعيين فهذه تبدو بصورة أوضح.
كذلك نسب إلى حزب الشعب نزعته الملكية، فكان معظم أعضائه يناصرون مشروع الهلال الخصيب، ويبدو أنه لم يكن هناك إجماع على هذه المسألة إذ ليس من السهل على من يتمتع بالسلطة التضحية بالنظام الجمهوري. ومع ذلك سيظهر معظم الأعضاء في مناسبات عدة استعداداً للاتحاد مع العراق في ظل العرش الهاشمي. ولو أن الانقسام والتردد أفسدا على أنصار الهلال الخصيب خططهم.
والحقيقة المؤكدة هي أن حزب الشعب كان في تطلعه إلى العراق يريد أن يحقق مصالح تجار حلب، فإن صلاتهم التجارية ببغداد والموصل والأناضول ليست أقل منها مع دمشق، فكان الحزب يسعى على الأقل لرفع الحواجز الجمركية، فلم يكن حزباً هاشمياً ولاملكياً، ولكنه حزب حلبي أولاً. ولذلك فقد ألقى بثقله السياسي كي يزيل الحدود السورية العراقية ويحطم الحواجز التجارية والحدود السياسية التي خنقت سورية .
واشتدت حملة المعارضة للنظام القائم، وروجت الأنباء عن انتشار المحسوبية والاتجار بتراخيص الاستيراد. وتزعم المعارضة حزبا الشعب والبعث. وقد كان هذا الاتفاق غريباً بين حزبين يختلفان تماماً في تكوينهما الاجتماعي وعقيدتهما السياسية.. وقد فسر ميشيل عفلق هذا التعاون بأن " حزب الشعب لم يكن قد كشف بعد عن وجهه الرجعي ". وكان حزب البعث حركة عربية نامية(61).
وبعد انتخاب القوتلي للمرة الثانية لرئاسة الجمهورية، في 18/4/1948 والطريقة التي اتبعها من أجل ذلك بتعديل الدستور، انفض عنه أصدقاؤه القدامى كهاشم الأتاسي (والجابري توفي) ومردم والحفار. وحزب الشعب ضده والحزب الوطني كذلك. وانبرت المعارضة تطعن وتقدح في هذا التجديد الذي فتح باب الأقاويل في الحياة السياسية والحزبية(62).
وظهرت آثار كارثة فلسطين في سورية قبل غيرها من الدول العربية، ففي أثناء الجولة الأولى من المعركة استقال وزير الدفاع أحمد الشراباتي في 25/5/1948 محتجاً على سوء القيادة العربية، ولم يفعل رئيس الوزارة جميل مردم شيئاً أكثر من ضم وزارة الدفاع إلى اختصاصاته وتغيير القيادة العامة، فكلف حسني الزعيم الذي كان مديراً للأمن بقيادة أركان الجيش السوري. ولم تسكت الأحزاب الجديدة عن هذا التخاذل. وشن حزب البعث حملة في الصحف على الحكومة(63).
وفي 12/8/1948 قامت مظاهرات دامية في دمشق وعمت البلاد، وفي حلب كانت المظاهرات عنيفة وأنزل الجيش إلى الشوارع وأعلنت الأحكام العرفية. وعلى إثر ذلك قدم حزب الشعب مذكرة إلى رئيس الجمهورية طالب فيها باتحاد عربي بتوحيد سورية والعراق كوسيلة وحيدة قادرة على مجابهة التهديد الإسرائيلي. وهذا مايجعل المرء يظن أن الفتنة التي عمت البلاد غير بريئة من الاتصال بزعماء العراق الذين كانوا يريدون الوحدة وإتاحة عرش لعبد الإله. ومهما كان الأمر فقد أظهر الشعب استياءه من وزارة جميل مردم فاستقالت. وبدأ الرئيس الأتاسي مشاوراته لتشكيل وزارة. وزار القوتلي وطلب إليه الموافقة على المذكرة التي قدمها حزب الشعب لتؤلف الوزارة على أساسها فراوغ القوتلي. واعتذر الأتاسي عن تأليف الوزارة(64).
وكانت قد وقعت مظاهرات عنيفة في المدن السورية في 29/11/1948، أي في الذكرى الأولى لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. وأدت المظاهرات إلى صدام مع رجال الشرطة وسقوط عدد من الضحايا، مما اضطر الحكومة إلى الاستنجاد بالجيش في 3/12/1948، ففتح ذلك الباب أمام القادة العسكريين للاحتكاك بالشؤون السياسية.
وشهدت البلاد على إثر ذلك أطول أزمة وزارية في تاريخها منذ الاستقلال. وأخيراً عهد القوتلي للمرة الأولى منذ توليه السلطة إلى أحد المستقلين برئاسة الحكومة ووقع اختياره على خالد العظم الذي كان يعمل سفيراً في باريس(65).
استدعي خالد العظم من باريس لتأليف الوزارة، فودع وزير الخارجية الفرنسية (روبير شومان) في 10/12/48. وشكره على مابدا منه من عطف على إنجاز قضيتي الأسلحة والنقد. وأكد الوزير الفرنسي أن فرنسا حريصة على بقاء سورية متمتعة باستقلالها الكامل. وأنها تعارض أية فكرة بضم سورية إلى أية منظمة تقضي على استقلال سورية، وصرح بأن حكومته تنازلت عن الانتداب... ولاتقبل أن يحل محل نفوذها نفوذ بريطانيا أو الولايات المتحدة ولو بشكل مستتر. فأجابه العظم بأن سورية ستدافع عن استقلالها وحريتها تجاه أي عدوان وتقاوم كل المشاريع السياسية .
وأكد وزير الخارجية الفرنسي أن حكومته تلتزم الحياد، ومع ذلك فهي تعطف على أماني السوريين والمسلمين بصفتها دولة إسلامية كبرى، وأشار إلى أن سياسة حكومته كانت أقرب إلى سورية لولا مضاعفات ليس من اليسير ايضاحها، وعنى بذلك أن الحزب الاشتراكي الفرنسي يضم عدداً كبيراً من اليهود الذين يسيرون خطاه بعكس سائر الأحزاب الفرنسية التي تكره اليهود(66).
ومما يؤكد هذا الموقف الفرنسي وأن الاتجاه الشعبي ضد اليهود، ماذكره وكيل الخارجية الأميريكية أنه أثناء زيارته إلى باريس في 7/3/1940 قابل ليون بلوم فتلقى بعدها آلاف الرسائل من فرنسيين ينكرون عليه زيارته لبلوم ويحتجون عليها فقد كانت زيارة ممثل رئيس أمريكا إلى رجل يهودي. ولكن الأمريكي نظر إلى الأمر على أنه نزعة اللاسامية وأنه أدرك مبلغ ماوفق النازيون إلى أن ينفثونه من السموم في أوروبا الغربية(67).
ولما قابل القوتلي العظم في 12/12/1948 لتكليفه بالوزارة، استعرضا مذكرة حزب الشعب فأوضح العظم رأيه في عدم الموافقة على الاتحاد مع العراق وعدم الرضى بمشروع سورية الكبرى، فزاد انشراح الرئيس لأن من سيتعاون معهم معارضون لهاتين الفكرتين.
وفي مقابلة ثانية للقوتلي مع العظم قال القوتلي الذي رأى نفسه بطل الجلاء : " لم ينته الأمر بعد، العراق ومن ورائه الانكليز يطمعون في بلادنا ويسعون لإقامة عرش لعبدالإله. والملك عبدالله لايزال يحيك المؤامرات على بضعة كيلومترات من حدودنا ليصنع لنفسه عرشاً في عاصمة معاوية. لانقبل. إذا أرادوا توحيد سورية وشرق الأردن فلتكن جمهورية عاصمتها دمشق، والشعب ينتخب رئيسها بحرية، لامكان لعبدالإله في سورية. أنا هنا أدافع عن استقلال البلاد ولو بقيت وحدي "(68).
وشكل العظم الوزارة في 16/12/1948 بدون أعضاء من حزب الشعب الذين اشترطوا اعتماد مذكرة الحزب بشأن وحدة سورية والعراق. ويذكر العظم أن وزارته عملت على :
1- تصديق اتفاقات إمرار البترول السعودي عبر سورية وتقديمها إلى مجلس النواب.
2- إنجاز الاتفاق المعقود مع فرنسا في 7/2/1949 بشأن النقد وعرضه على مجلس النواب، وكانت مباحثاته قد دارت في باريس بين الفرنسيين وبين العظم وحسن جبارة وزير المالية .
3- معالجة الموقف في فلسطين وعقد الهدنة مع اسرائيل .
4- مسألة الخبز (خبز الفقير ذو السعر المنخفض). وتخفيف خسائر الدولة بسببه حيث قام بإلغائه .
5- تأمين المال اللازم لتسديد ثمن الأسلحة المشتراة من فرنسا.
أما بالنسبة لاتفاقية التابلاين (مرور البترول السعودي)، فقد سبق أن قُدم أول مشروع لها في عام 1946. إذ أنه في عهد وزارة الجابري (26/4/1946-27/12/1946) قدمت شركة التابلاين أول مشروع اتفاقية إلى الحكومة السورية. أرسله الملك عبدالعزيز إلى شكري القوتلي، فكتب العظم بصفته وزيراً للاقتصاد الوطني، تقريراً مفصلاً عن المشروع أبان فيه اعتراضاته على النصوص ومخالفته لإبرامه. مما سيكون سبباً لتحامل القوتلي عليه كما يقول : " فلقد استحسن القوتلي المشروع لأنه كان يعلق أهمية كبرى على إرضاء صديقه الملك سعود والنزول عند طلباته ليسدد بهذه الوسيلة الأموال الوفيرة التي كان ولايزال العاهل السعودي وابنه من بعده يقدمها عليه بسخاء وكرم. أما مصلحة البلاد وخطر وقوعها تحت نفوذ الأجنبي، فأمره يعالج كما عالجت البلاد مصيبة الانتداب. لكن غضب ابن سعود، فأعوذ بالله. أنقبل أن يغور النبع الذي يغذي بقاءنا على رئاسة الحكم بعد أن غذى وصولنا إليه ؟. هذا ماكان يهتم به القوتلي. لقد اعترض في الماضي على اتفاقية مد أنابيب النفط العراقي عبر البلاد السورية ووجد في الاتفاق إجحافاً ليس بعده إجحاف. أما البترول الأميركي - السعودي فمروره عبر سورية نعمة كبرى، حرام أن نفوتها. وكان جميل مردم وقع بالحروف الأولى على المشروع لكنه لم يجسر على تقديمه إلى مجلس النواب لأنه خشي أن يتهم بقبض عمولة "(69).
وكان الأمريكيون قد بدأوا مرحلة مفاوضات طويلة ومعقدة مع كل من شرق الأردن وسورية ولبنان لمد خط الأنابيب من الظهران إلى صيدا. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة السورية ترفض باستمرار اتخاذ قرار بهذا الشأن، كان الانجليز يجدون الفرصة لإجبار الشركات الأمريكية حتى توافق على عقد اتفاقيات جديدة، وعلى مشاركة بريطانية أمريكية على استغلال النفط في الشرق الأوسط تكون أكثر مساواة من اتفاقية سبق أن أبرمت بين الشركات الأمريكية والبريطانية عام 1946. وكادت الشركات البريطانية تصل إلى تحقيق أهدافها لولا ظهور حسني الزعيم في سورية(70).
وذكر العظم أن القوتلي أصر عليه لتقديمها (اتفاقية التابلاين) إلى مجلس النواب مع اتفاقية النقد اللازمة والمفيدة لسورية وليس فيها أي التزام لسورية (والتي كان العظم حريصاً على تصديقها). فناور معه وذكر له أن المصلحة تقضي بالتفاهم مع لبنان لمجابهة الشركة جبهة واحدة. ولكن لبنان انفرد بتوقيع اتفاقية النقد ثم انفرد بتوقيع اتفاقية التابلاين. بالرغم من أن الحكومة السورية حرصت على التفاهم معه على مجابهة الشركة جبهة واحدة، وطلبت تعديل بعض الأحكام. واجتمعت لجنة مؤلفة من وزيري المالية والاقتصاد الوطني عن سورية ومن زملائهما اللبنانيين ووضعت صيغة جديدة وطلبت من شركة التابلاين الموافقة عليها فوافقت ووقعت بالأحرف الأولى وأرسلت إلى مجلس النواب.
واتضح للملأ أن مجلس النواب معارض للاتفاقيتين وغير مبال بتصديق اتفاقية النفط، مما كان في طليعة الأسباب التي حملت حسني الزعيم على القيام بانقلابه العسكري في 30/3/1949، فعمد فوراً إلى إصدار مرسومين اشتراعيين صدق وأبرم بهما كلاً من الاتفاقيتين(71).
وهكذا انصرف العظم، وهو من كبار رجال الأعمال في سورية، إلى معالجة الوضع الاقتصادي دون مراعاة للإحساسات الوطنية الجياشة، فعقد الاتفاق المالي مع فرنسا لتسوية الخلاف الناشىء من انفصال سورية عن منطقة الفرنك. وطلب إلى مجلس النواب الموافقة على مشروع التابلاين بالرغم من الاعتراضات العديدة التي أثيرت حول الاتفاق، إذ أنه يمنح سورية رسوماً هزيلة مقابل مرور الأنابيب في أراضيها.
وحقيقة لم تكن شركة نفط العراق تدفع شيئاً من الرسوم حتى ذلك الوقت، ولكن الوطنيين كانوا قد شرعوا في مطالبة هذه الشركة أيضاً بدفع رسوم مناسبة. وقد عرضت شركة التابلاين على سورية 5ر1 جنية عن كل (1000) طن تمر بأراضيها. إلا أن المشكلة بالنسبة للمعارضة لم تكن قاصرة على قيمة الرسوم، بل رأى الوطنيون في سورية ضرورة استخدام العرب للنفط كأداة للضغط على الولايات المتحدة التي منحت كل تأييدها لإسرائيل، ولذلك حثوا المجلس النيابي على رفض الاتفاق. وأيد النواب المنتمون إلى حزب الشعب هذا الموقف ربما لوجودهم في المعارضة. لذلك ظل مجلس النواب متردداً أمام مشروع التابلاين حينما وقع انقلاب حسني الزعيم فتم توقيع الاتفاق دون مجلس نيابي(72).
وأكد العظم معارضته لمشروعي الوحدة بقوله : " اتخذت موقفاً معاكساً لفكرة سورية الكبرى أو الاتحاد السوري العراقي إذ كنت وما أزال أخشى أن تضيع سورية استقلالها الناجز حينما تنضم إلى العراق أو إلى الأردن وهما يرزحان تحت وطأة المعاهدتين المعقودتين بينهما وبين بريطانيا ". واتفق مع القوتلي على العمل سوياً على تفشيل هذه المؤامرة، كما يقول(73). وكأن القوتلي لم يجد غيره يتعاون معه لتعطيل وحدة سورية الكبرى ثم مع العراق لإرضاء صديقه ابن سعود وحكام مصر، أو لأسباب أخرى كالتمسك بالكرسي مثلاً كما يقول.
وفي نفس الوقت كان (بن غوريون) أثناء حرب 1948 يرى أن الحلقة الضعيفة في الائتلاف العربي هي لبنان. وأن سلطة المسلمين مصطنعة ومن السهل تقويضها، وأنه يجب إقامة دولة مسيحية يكون نهر الليطاني حدها الجنوبي ثم أنه يجب عقد حلف معها. وبعد ذلك تحطيم قوة شرقي الأردن فتسقط سورية .... (74).
قبيل وبعد مولد جامعة الدول العربية في 22/3/1945، حدث تحول جديد وتطورات حاسمة في البلاد العربية نفسها وفي العلاقات الدولية. لقد تبدلت سياسة بريطانيا إزاء الجامعة تبدلات أساسية، وانتقلت بريطانيا من مؤيد وشفيع إلى معارض يسعى لتحطيمها. وتبدل بالتالي موقف بريطانيا من المشاريع الهاشمية، فأخذت تدعمها وتعمل لها بعد أن كانت تتحفظ تجاهها. وتبدلت الأوضاع السياسية داخل الوطن العربي، أقيلت حكومة الوفد في مصر في 8/10/1944 وتحول الحزب بقواه الشعبية وقاعدته الواسعة إلى معارض لبريطانيا، ويتزعم رجل الشارع في المطالبة بالجلاء التام والوحدة مع السودان.
وانسحبت القوات البريطانية من سورية (15نيسان1946) ولبنان (31 كانون الأول 1946) وزال بانسحابها النفوذ الذي حاولت بريطانيا فرضه على البلدين تحت ستار صداقتها التقليدية للحكومتين الوطنيتين وخصومتها التقليدية للأطماع الفرنسية. (كما انسحبت أيضاً القوات الفرنسية).
وازدادت نقمة الرأي العام العربي على الحكومة البريطانية بعد أن اتضح له سعيها لتهويد فلسطين.
وتبدلت من ناحية ثانية العلاقات الدولية، وأثرها في الوطن العربي، إذ دخلت الولايات المتحدة المنطقة بصورة مرسومة ومنظمة، واستطاعت السيطرة على بعض أوضاع المملكة العربية السعودية بشراء امتياز النفط. كما استطاعت أن تزعزع ولاءات بعض أصدقاء الانجليز في البلدين الهاشميين (شرقي الأردن والعراق)، وأن تستثمر هذه الولاءات لصالحها. ودخل الاتحاد السوفييتي منطقة الشرق العربي دخولاً غير مباشر وبشكل مختلف بواسطة الأحزاب الشيوعية في بعض الأقطار العربية، وبفضل تفاقم نفور العرب عامة من سياسة الدول الغربية في المنطقة(1).
ومع زوال السيادة الأجنبية اختفى الرابط الذي كان يربط البلدين سورية ولبنان أحدهما بالآخر، وبقي الاتحاد الجمركي يجمع البلدين(2). وبقي عدم وجود تبادل دبلوماسي بين البلدين، مع أن لبنان كان يفكر به، وانتقال الأفراد بينهما بالهوية الشخصية مع حرية الإقامة، يدل على الوحدة التي كانت قائمة حتى نهاية الاحتلال الأجنبي(3).
1- موقف لبنان من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية :
وأما موقف لبنان من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية فيتضح في خطب الشيخ بشارة الخوري : فلقد كان دعاة لبنان الصغير (أي جبل لبنان الوطن القومي المسيحي) المطالبين بارتباطه بفرنسا وانعزاله عن العرب، يروجون أن الاستقلال الذي يطالب به الوطنيون الاستقلاليون محاولة تهدف إلى تحقيق غايتين :
أ - استبدال الانتداب الفرنسي بانتداب انكليزي .
ب- استبدال الوصاية الفرنسية بوصاية شرقية او غربية(4).
وفي هذه الفترة كانت تجري عملية جلاء القوات الفرنسية والبريطانية عن سورية ولبنان مما كان يسبب خوفاً لدى دعاة لبنان الصغير وكان لابد لدعاة الاستقلال من التصدي لهذه الأفكار بحزم، فيرد بشارة الخوري عليها في خطاب موجه إلى المغتربين في 20/10/1945 قائلاً : " ...... لم نقصد من وراء ذلك استبدال انتداب بانتداب، مهما قالوا ومهما افتروا، كما أننا لم نترك أحضان الغرب لنرتمي في أحضان الشرق ... إننا ننادي بأن لاوصاية ولاحماية ولارقابة ولامعاهدة تمنح مركزاً ممتازاً لدولة على أخرى ولانقصد دولة مخصوصة بل جميع الدول على السواء".
وفي معرض دفاعه عن مواقف الدول العربية الداعمة لاستقلال لبنان في محيطه العربي، كان بشارة الخوري يركز على النقاط التالية :
أ - ليست للدول العربية أطماع في لبنان ولاتسعى إلى إرغامه على الدخول معها في وحدة أو اتحاد. ففي خطبة له في 28/10/1945 قال : " .... الدليل على أننا لم نرتم في أحضان الشرق أنه لم يخطر على بال إخواننا العرب في وقت ما أن نفقد كياننا بانضمامنا إلى الدول العربية المجاورة عن طريق الاتحاد أو الوحدة ..... وإذا آمنا برسالة لبنان في البلاد العربية وانضممنا عن طيبة خاطر إلى جامعة الدول العربية ووقعنا ميثاقها في القاهرة، فقد فعلنا ذلك راضين مختارين. واشتراكنا في هذه الجامعة إنما هو اشتراك دولة مستقلة بحدودها الحاضرة المعترف بها من المتعاقدين معنا، اتفاق الند للند..." .
ويشدد بشارة الخوري دوماً على فكرة استقلال لبنان المدعوم من الدول العربية وعلى علاقات مع هذه الدول الشقيقة على أساس المساواة التامة بينها. وأن علاقات لبنان مع العالم العربي تنبع من الايمان الكامل بأن الدول العربية لاترغب إطلاقاً في التضييق على هذا الاستقلال أو في تذويب لبنان داخل المجموعة العربية.
ويقول : " ..... فحقنا في الاستقلال صريح. .... لقد وطدناه بانتظامنا في هيئة الأمم المتحدة القائمة على أساس استقلال كل منها، خمسون دولة تعترف لنا بذلك الحق وتضمنه. وإلى جانب هذا الضمان البعيد أيضاً ضمان قريب في جامعة الدول العربية التي دخلناها بملء الحرية والاختيار ..... لقد أيدنا استقلال لبنان وسيادة لبنان دون وحدة أو اتحاد، كما أننا حافظنا على حدود لبنان الحالية ". وفي نفس الوقت يؤكد الخوري على الوحدة الروحية اللغوية بين العرب وعلى عروبة المصلحة الاقتصادية.
ب - لاحياة للبنان المستقل إلا بالخروج من العزلة السابقة التي فرضتها عليه سياسة القوى الاستعمارية خاصة الفرنسية منها. وجماهير الانعزال اللبناني عند بشارة الخوري هي جماهير طائفية مسيحية .... " قد كان بعض المسيحيين يتحفظون، بل يتخوفون من الاستقلال لأنهم كانوا يرون فيه مجلبة للمشاكل، وهي فئة قليلة سيطرت عليها دعاوات السوء فاستسلمت لها .... ".
وكان بشارة يؤكد على وجود مثل هذا الخوف المسيحي على مستقبل الاستقلال داخل العالم العربي، ففي 8/8/1945 يقول : " .... لاأكتمكم أنها لأسباب سياسية أو تاريخية لاتزال في البلاد فئة يخامرها الشك بمستقبل هذا العهد ... ".
وكان الرئيس يسعى دوماً إلى تطمين هذه الفئة مذكراً أن الاستقلال اللبناني مضمون من الغرب والشرق معاً لذا " ..... لايمكن للبنان أو لسواه أن يعيش بعد اليوم في عزلة عن إخوانه وجيرانه، لأن العالم قد تطور في حياته الجديدة تطوراً يجعل من العزلة سجناً وقيداً، وسيخلق عالم مابعد الحرب أوضاعاً وأسـساً لحياة جديدة لاتتفق بوجه من الوجوه مع مبدأ العزلة والانكماش في الدنيا الواسعة ".
ويقول بشارة أيضاً : " .... كان جل مافعلناه أننا أخرجنا لبنان من عزلة قاتلة هدامة لمصالحــه فكان بدء التعاون النزيــه بيننــا وبين سائر الدول العربية على أساس معاملـــة النــد للنــــد "(5).
ويقول الخوري : " ولما سرنا على هذه السياسة الاستقلالية الجريئة ودفعنا عن أنفسنا تهمة الانعزال والعزلة وتلفتنا إلى العرب الذين تجمعنا وإياهم رابطة اللغة والعادات والأخلاق الشرقية والمصلحة والأماني، لم يعد في لبنان لاسلبيون ولاايجابيون، لامسلمون ولانصارى، بل أصبح اللبنانيون شخصاً واحداً لبنانياً قومياً عربياً بكماله .... وكما أردنا الاستقلال تجاه الغرب، فقد أردناه كذلك تجاه الدول العربية الشقيقة، فقلنا لها بصراحة وايمان : نريد استقلالاً كاملاً ناجزاً. وقد قدروا هذا الموقف لأنهم أحرار يقدرون الحرية، وهكذا مددنا لهم يداً نزيهة شريفة، تلك اليد التي غلت عن أن تمد لهم طوال ربع قرن ..".
لقد كانت هذه العروبة الاستقلالية هي عروبة الميثاق، والتي استطاع بها بشارة الخوري أن يحقق آمال الانعزاليين أنفسهم بتأمين مصالحهم مع الدول العربية والابتعاد عن مشاكلهم، إنها عروبة المصلحة، إنها شراكة الغنم فقط، " لبنان ذو وجه عربي "، ولذلك التف جماعة (لبنان اللبناني) حول أبطال الاستقلال والميثاق كي يفتحوا لهم أبواب الوطن العربي الاقتصادية على مصراعيها .
فسارع دعاة الاستقلال اللبناني إلى رفض مشاريع الوحدة (المشبوهة) مع التأكيد بأن لبنان متمسك دوماً بجامعة الدول العربية وميثاقها الذي ينص على الاعتراف بسيادة كل دولة في حدودها الحالية دون أية وحدة أو اتحاد. وقد اعتبر بشارة الخوري في 25/10/1945".... أن فكرة سورية الكبرى هي فكرة مضادة لجامعة الدول العربية ولامجال لتحقيقها على الإطلاق .... وإن فكرة سورية الكبرى تتنافى ومانطمح إليه من حرية واستقلال صحيحين".
واستمرت خطب الخوري تركز على استقلال لبنان وحياده لتطمئن العناصر المسيحية الخائفة من الوحدة العربية ومن زوال الحماية الأجنبية. وأن لبنان لجميع طوائفه.
وتفننت الصحف المعارضة لمشروع سورية الكبرى في اتهامه وتعداد أضراره في عام 1945 وأنه أحد مشاريع ضد الوحدة الحقيقية وهي مشبوهة وغايتها تثبيت أقدام الاستعمار(6).
إلا أنه يمكن لمن يقرأ مذكرات الشيخ بشارة الخوري (حقائق لبنانية) أن يرى أن الاستقلال لم يكن يعني في النهاية الاستقلال عن فرنسا. إذ ما أن فرح اللبنانيون بالاستقلال الذي ساعدهم فيه الصراع البريطاني - الفرنسي في المشرق، حتى راح الرئيس الخوري الذي كان يشكو الفرنسيين لدى الانكليز، راح هذه المرة يشكو من ... الانكليز! لمن ؟.. لقد كانوا في تلك المرحلة أسياد كل شيء من بشارة الخوري إلى.... يتذكر المرء الآن من (حقائق لبنانية) الخطاب الذي ألقاه الشيخ بشارة على مائدة النائب يوسف الهراوي في ذكرى الاستقلال لعام 1945 قال : " الذي يهمنا جميعاً هو الاحتفاظ باستقلالنا المقدس. إن هذا الاستقلال الذي نفديه بالأرواح والمهج تضمنه بحول الله وبقوة عقيدة رجاله. هؤلاء الرجال الذين إذا ماتكلموا صدقوا وإذا عاهدوا أو تعاهدوا وفوا بالوعود" .
واستشهد الخوري على صدق كلامه بقضية الشائعات عام 1942 عندما قام بزيارة مصر واجتمع مع جميل مردم والنحاس، بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد. وها قد مضى سنتان ولم يحصل ذلك(7).
وقد عبر بيار الجميل عن موقف الانعزاليين بكل صراحة إذ قال : ".... الذين يتوخون التدرج بنا من لبنان ذي الوجه العربي كما اتفقنا عام 1943 إلى لبنان العربي، فالشعب العربي في لبنان، فعبثاً يتوخون ....". هذا في الوقت نفسه لاينسى فيه الجميل التأكيد على عروبة الميثاق النفعية : ".... نحن مع إصرارنا على وجوب التعاون الرحب مع الدول العربية، لانرى موجباً لإضافة وصف العروبة إلى القومية اللبنانية، ذلك أن التعاون لايؤلف عنصراً كيانياً ثابتاً، بل هو عرض سياسي خاضع لمستلزمات السيادة والاستقلال، ومرتبط بالظروف السياسية وماتنطوي عليه من تقلبات جوهرية "(8).
2- موقف سورية من مشاريع الوحدة وجامعة الدول العربية :
أما موقف سورية التي يحكمها رجال الكتلة الوطنية، فقد تنازلت عن مطالبها في لبنان أثناء توقيع بروتوكول الاسكندرية في 7/10/1944 في عهد وزارة سعد الله الجابري. وكان المجلس النيابي السوري يميل إلى عدم الثقة في الحكومة القائمة وفي قدرتها على معالجة الأمور فاستقال الجابري وشكل فارس الخوري وزارته الأولى في 14/10/1944. وفي بيانه أشار إلى التعاون الوثيق بين الدول العربية حتى تصبح ركناً من أركان المسلم. ثم جرى توقيع ميثاق الجامعة في 22/3/1945 من قبل مندوبا سورية وهما فارس الخوري (رئيس الوزارة) وجميل مردم بك (وزير الخارجية). وفي 31/3/1945 أقر المجلس النيابي السوري ميثاق الجامعة وملاحقه. ومدح الخوري مشروع الجامعة(9).
ولكن النواب استمروا في تقديم ملاحظاتهم بشأن الوحدة السورية، فرد عليهم الخوري في 4/4/1945 وقال إن سورية بعد توقيعها ميثاق جامعة الدول العربية تبدأ صفحة جديدة من صفحات تاريخ العرب المجيد. واستقال في نفس اليوم وكلف بتشكيل وزارته الثانية فشكلها في 6/4/1945.
وعلى الرغم من أن القوتلي (ورجال الحكومة) سار في اتجاه الصدام مع الفرنسيين واضطر للاعتماد على البريطانيين في أثناء عدوان 29/5/1945 وطلب منهم تدخلهم لوقف الاعتداء ومعالجة الأمر بسرعة. إلا أنه لم يتخذ أي موقف تجاه لبنان يزعج فرنسا، بل سار في الطريق الذي سلكته الكتلة الوطنية وهو التنازل عن لبنان مقابل سيره في الطريق العربي في إطار جامعة الدول العربية. (وكانت فرنسا حريصة على تعطيل أي حركة نحو الوحدة أو الاتحاد بأي شكل أو نطاق حتى تبقى سورية ولبنان منطقة نفوذ لها)(10).
وفي 7/6/1945 تبنى مجلس جامعة الدول العربية القرار: "إن المجلس يؤيد مطالبة سورية ولبنان بجلاء القوات الفرنسية عن أراضي الجمهوريتين"(11).
واستمر النواب في انتقادهم للحكومة وعدم الثقة بها في جلسة 20/8/1945، وخاصة في موضوع استلام الجيش السوري. فاستقالت وزارة الخوري في 23/8/1945، وكلف الخوري بتشكيلها فألفها للمرة الثالثة في 26/8/1945. ولكن استمر المجلس النيابي في انتقاد الحكومة في قضية الجلاء خاصة. وكانت المعارضة لاتعتقد بأهلية بعض الوزراء. وخاصة أن أغلبية الوزارات من الكتلة الوطنية. فاستقالت وزارة الخوري الثالثة في 30/9/1945. وعاد سعد الله الجابري فألفها(12).
وماكاد الحكم الوطني يبدأ حتى أخذ يواجه الأزمات ومنها الداخلية الناجمة عن الامتيازات التي أعطيت للأقليات في زمن الانتداب. ومن صعود موجة القومية العربية بقيادة حزب البعث(13). فقد ترادف المحتوى العملي للاستقلال مع الشعور العربي بالتحرر من الاستعمار والقضاء على وجوده داخل الوطن العربي تحت ستار " حماية الأقليات فيه "(14).
3- استمرار جهود الملك عبدالله لمشروع سورية الكبرى
وموقف سورية ولبنان :
كما استمر الأمير عبدالله في محاولاته لتحقيق مشروع سورية الكبرى (من طوروس شمالاً إلى الحدود المصرية جنوباً). ففي خطاب ألقاه في افتتاح الدورة الرابعة للمجلس التشريعي الأردني الخامس (1/11/1945) أشار إلى الوحدة العربية. وأوضح دور بلاده المنتظر في بعثها، وأكد أن شرقي الأردن حريص على مبدأ الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد (الشام) وأنه يعارض كل تقسيم يشوه جمال الوطن العزيز ويحول دون التقاء أفراد الأسرة الواحدة على أرض الأجداد. وأعلن أن حكومته بدافع الوعي القومي، ستعمل على تحقيق الوحدة رغم الأطماع الشخصية، لأنها أمل الوطن والأجيال العربية(15).
هذا وإن التطورات الحاسمة التي حدثت في البلاد العربية وفي العلاقات الدولية عام 1945، قد أخذت تظهر بشكل واضح منذ ربيع 1946. فتراجعت بريطانيا عن تأييدها للجامعة العربية، وازدادت اقتراباً من الهاشميين ليقفوا في وجه الكيانات التي تحررت من النفوذ البريطاني (سورية ولبنان). وفي وجه النفوذ الأميركي والسوفييتي، وفي وجه الجامعة العربية، وفي وجه مصر بالذات. وليقفوا أخيراً في وجه التيار العربي الدافق الذي غذته الجماهير الشعبية وانطلاقات الطبقة الوسطى بدم جديد في عدد من الكيانات(16).
وقد بدأت الصحف الغربية تشير إلى هذا التحول الجديد. فقد نشرت الأهرام في 29/3/1946 عن (لوموند) الفرنسية مقالاً افتتاحياً بعنوان (نحو سورية الكبرى) جاء فيه : "إن لفرنسا وبريطانيا مصالح مشتركة تعتقدان أنهما تحققاتها من وراء إنشاء سورية الكبرى. وفي مقدمة هذه المصالح إعادة توزيع القواعد الاستراتيجية من غير أن تثير عداء العالم العربي. ثم إزالة نفوذ روسيا السوفياتية المتزايد والمتجه جنوباً نحو تركيا وايران(17).
وكان الملك عبدالله قد توصل إلى استقلال شكلي أبعد مايكون عن السيادة الفعلية في سنة 1946 وأخذ يحيي فكرة سورية الكبرى(18)، وبدا الأمير عبدالله هذه المرحلة من مراحل مطالبته وسعيه لتحقيق مشروع سورية الكبرى، بخطاب ألقاه في المجلس التشريعي الأردني الخامس في 11/11/1946، دعا فيه إلى " وحدة عاجلة تمليها رغبة من البلاد وأبنائها البررة ". وأكد أن سلامة الشام في وحدته، و "الخطر عليه من فرقته". وأنه يعاهد الله على السعي لتحقيق ذلك الهدف. وتبنى المجلس التشريعي الأردني الخامس هذه الدعوة وأخذ على عاتقه العمل لها والسعي في سبيلها مما يعني أنه لم يكن يؤمن أن فكرة جامعة الدول العربية كافية.
رفض لبنان هذا المشروع وأعلن وزير خارجيته فيليب تقلا أمام المجلس النيابي اللبناني في 13/11/1946 أن : " لبنان قد دخل الجامعة العربية على أساس استقلاله بحدوده الحاضرة واستقلال كل دولة من دول الجامعة. وعلى ذلك فإن القضية التي تثار من وقت لآخر تحت اسم سورية الكبرى، لايمكن أن تكون موضع بحث، فنحن لانريد سورية الكبرى، ولانقبلها على أي وجه من الوجوه "(19).
ورد محمد الشريقي وزير الخارجية الأردني (وهو من أبناء اللاذقية بشمال سورية) على بيان فيليب تقلا ببيان مضاد ألقاه في المجلس التشريعي الأردني الخامس في 18/11/1946 جاء فيه :
" إن المملكة الأردنية الهاشمية لن تتخلى قط عن ميثاق الوحدة أو الاتحاد السوري، ليس بصفتها دولة سورية فحسب، بل ليقينها أن نقض هذا الميثاق هو نقض لحقوق سورية الطبيعية وإنكار لجهادها الوطني ووجودها الجغرافي ومصالحها الإقليمية المشتركة أيضاً ". وأشار إلى أن " السياسة الأردنية ستظل تعتبر الوحدة السورية الشاملة أساساً وأصلاً في منهاجها القومي، وهي لاتستلهم ذلك إلا من المواثيق الوطنية والمثل العربية العليا "(20).
ولم يجد دفاع الشريقي عن المشروع، فقد اقترع البرلمان اللبناني في 26/11/1946 بالإجماع على رفضه(21).
وكانت القوات الأجنبية قد جلت عن سورية في نيسان 1946. كما كان موضوع الاتحاد العربي وكيفية تشكيله يمثل مكان الصدارة في سورية، ويشكل موضوع الحوار الرئيسي بين الأحزاب والقوى السياسية(22).
ورفضت سورية المشروع أيضاً، فأعلن خالد العظم وزير المالية والاقتصاد الوطني ووزير الخارجية السورية بالوكالة (في وزارة سعد الله الجابري) أمام المجلس النيابي السوري في 23/11/1946، أن موقف الحكومة الأردنية " يناقض القواعد المتبعة بين الدول وميثاق جامعة الدول العربية، من وجوب احترام كل دولة لنظام الحكم القائم في الدول الأخرى وعدم التعرض إلى شؤونها، ويخل بروح التعاون والوئام التي يقوم عليها ميثاق الجامعة ". وأكد أن " سورية لاترغب في اتحاد يكون غير مجرد من كل شائبة ". وأنها حريصة على النظام الجمهوري وهي "لاترضى عنه بديلاً"(23). ولم يكن في سورية أحد حتى ولو أخذ مالاً من الملك عبدالله، ليجرؤ على إعلان رغبته في وضع البلاد تحت حكمه(24)مكرر.
وقررت الحكومة السورية رفع الأمر إلى جامعة الدول العربية، التي وافقت في 25/11/1946 على إحالة الموضوع إلى اللجنة السياسية (المؤلفة من وزراء الخارجية ). وبعد مداولات اللجنة أصدر مجلس الجامعة في 28/11/1946 بياناً أعلن فيه أن " أحداً لم يقصد من تناوله هذا الموضوع (أي مشروع سورية الكبرى) التعرض لاستقلال أو سيادة إحدى دول الجامعة، أو النيل من نظام الحكم القائم فيها ". وأكد تمسك الدول العربية بميثاق الجامعة، وأنها جميعاً تعمل على احترامه وتنفيذه نصاً وروحاً(25). وقد تحفظت حكومة الأردن بشأن هذا التصريح وقالت أنها تعتبر مسألة سورية الكبرى من الأحداث الوطنية(26).
والواقع أن بيان الجامعة العربية يعتبر تخلصاً لبقاً من الموضوع كلية، فهو يرضي السوريين واللبنانيين ويريح الدول العربية المعارضة للمشروع، ولايسيء إلى شعور الملك عبدالله. ومع ذلك أصدر المجلس التشريعي الأردني الخامس في أوائل كانون الأول 1946 قراراً يؤيد فيه مشروع سورية الكبرى ويعلن تمسك الأردن بالميثاق الذي أقره المؤتمر السوري العام في آذار 1920(27) والذي تمثلت فيه جميع مناطق سورية الكبرى .
وبدأت الصحف العربية تتناقل أنباء متعددة عن تأييد الحكومة البريطانية للمشروع، حتى اضطرت مفوضياتها في الدول العربية إلى إصدار بلاغ عام في 17/12/1946 أعلنت فيه : " إن وجهة النظر الرسمية البريطانية هي أن هذا المشروع قضية خاصة بالأقطار العربية دون سواها "(28). وهذا البلاغ بالفعل لم يكن يعبر تعبيراً صادقاً عن وجهة النظر البريطانية.
واستمر الملك عبدالله بالعمل لتحقيق مشروع سورية الكبرى باتباع عدة وســـــائل :
1- ايجاد مؤيدين للمشروع من بين السوريين واللبنانيين أنفسهم مثل محمد كرد علي(29). واعتمد على بعض السياسيين التقليديين في سورية مثل فارس الخوري وشيوخ القبائل والعلماء وصغار الملاك والفلاحين الذين نقلوا ولاءهم إلى عبدالله بعد وفاة فيصل. كما اعتمد على بعض السياسيين اللبنانيين التقليديين (رياض الصلح)، أو المعروفين بانعزاليتهم وطائفيتهم وتخوفهم من الفكرة العربية(30) (الحزب القومي السوري بزعامة انطون سعادة). ومع ذلك فإن المشروع أثار في لبنان اعتراضاً شديداً أظهره البطريرك الماروني الذي صرح بأن لبنان سيظل مستقلاً ضمن حدوده القائمة، وطلب ضمان استقلاله من كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي(31).
وعلى كل فإن موظفي المفوضيتين البريطانيتين في دمشق وبيروت لم يكونوا بعيدين عن مجريات الأمور. إنما المهم أن مؤيدي المشروع في سورية ولبنان كانوا أقلية ضئيلة ؟. وقــد بدأوا ينكشفون أمام الشعب عندما أخذوا يترددون على عمان جماعات وأفراداً(32).
2- دعم مركز الهاشميين داخل منطقة سورية الكبرى نفسها بتأييد دولة مجاورة هي تركيا (والتي تقع فيها أجزاء من سورية الطبيعية وآخر جزء ضمته إليها لواء الاسكندرون في 1939).
فقد عقد العراق معاهدة صداقة معها في 29/4/1946. ووصل وفد تركي إلى عمان في 2/12/1946. ودعي عبدالله لزيارة تركيا فزارها في 1/1/1947 (33) وعقد معاهدة صداقة في 11/1/1947 (34). وقد أثارت هذه المعاهدة قلقاً عظيماً في سورية(35) لأن الملك عبد الله حرص في ذهابه وعودته أن يمر بلواء الاسكندرون(36).
3- محاولة تنفيذ المشروع بالقوة إذ نشرت مجلة (أخبار اليوم) في 1/2/1947 أن الجيش الأردني موزع على حدود سورية وفلسطين لتنفيذ المشروع بالقوة وأن نوري السعيد يؤيد هذا العمل، وأنه من الممكن أنه قد اختير لهذه الحركة وقت انشغال مصر بقضيتها إلى حد ما عن قضايا الوطن العربي، إذ قررت عرض قضيتها على مجلس الأمن بعد فشل المفاوضات مع بريطانيا في كانون الثاني 1947. وتأكد لدى المقطم (19/2/1947) أن الخطة الموضوعة تقضي بتحريك قبائل البادية السورية وغيرها بجميع الوسائل لإحداث فتنة واضطرابات تهدد الأمن العام والنظام، والقيام بحركات معينة على حدود سورية وشرق الأردن، لكي يؤدي كل ذلك إلى تدخل القوات الأردنية المسلحة بحجة تعزيز الأمن على الحدود والسلام في الداخل. وتنتهي الخطة الموضوعة باحتلال دمشق والمناداة بالملك عبدالله ملكاً على سورية. ومع أن مفوضية الأردن في القاهرة نفت كل مايتعلق بالموضوع(37)، وأصدرت الحكومة الأردنية بلاغاً رسمياً أكدت فيه بلاغ مفوضيتها في القاهرة. كما أصدرت القنصلية العراقية في فلسطين وشرق الأردن بلاغاً آخر ينفي علاقة نوري السعيد بمشروع سورية الكبرى وينفي كذلك عدم تأييد نوري السعيد للقضية المصرية إلا مقابل تأييد مصر لمشروع سورية الكبرى(38).
ويبدو أن الذي حال دون الملك عبدالله وتنفيذ مشروعه بالقوة، كان موقف الشعب العربي في فلسطين وسورية ولبنان ومعارضته للمشروع، وعمل الحكومة السورية بسرعة خارقة على تهدئة الأوضاع على الحدود في أوساط القبائل، ورفعها الكثير من الضرائب عنها، ودعوتها لعودة بعض القبائل السورية التي هاجرت إلى شرقي الأردن وتقديم المساعدات المالية والغذائية لها.
4- الحصول على تأييد فعلي من العراق. حيث وجد البلدان أن المنافسة لن تجدي نفعاً أمام تكتل معارضي مشروعيهما فقامت رغبة بينهما بإنشاء جبهة ضد الجامعة العربية ودولها المعارضة لهما.
ولكن فشلت فكرة الوحدة أو الاتحاد بشكل رئيسي لمعارضة الشعب العراقي بصحافته وأحزابه لعبدالله الذي يروا فيه رمزاً للخضوع لبريطانيا. وثانيهما خوف عبدالله نفسه من أن يذوب شرقي الأردن في الكيان الجديد ويذوب نفوذه وتصبح السيطرة لعبد الإله ونوري السعيد(39). فاكتفيا بمعاهدة أخوة وتحالف في 14/4/1947.
وكان العرش الهاشمي في بغداد يتطلع إلى مشروع الهلال الخصيب مستنداً إلى بعض الأنصار من السوريين الذين ينتمون إلى بيئات إقطاعية تخشى من تقلبات السياسة في ظل النظام الجمهوري، ومن أمثلة هؤلاء حسن الحكيم ومنير العجلاني. ولم يكن حزب الشعب كحزب قد اتخذ موقفاً حاسماً من هذه القضية، ولكن عرف كثير من أعضائه بالميل إلى الفكرة(40).
وكان حسن الحكيم (رئيس وزراء سوري سابق) قد قدم في 25/3/1947 مذكرة إلى رئيس الحكومة السورية (جميل مردم بك) بخصوص مشروع سورية الكبرى وطالب فيها بالوحدة، والتي وصفها بالهدف الأسمى. وأن الأمر يستدعي توحيد أجزاء البلاد الشامية (سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن) وإنشاء دولة سورية الكبرى ضمن دائرة جامعة الدول العربية، وقدم الحقائق التاريخية الثابتة حول وحدتها الجغرافية الطبيعية من كيليكيا وخليج اسكندرون وحتى رفح والعريش على البحر الأبيض المتوسط، والتي يحدها من الشرق البادية الشامية ونهر الفرات والخابور والخط الممتد من البوكمال إلى شرق الجوف ثم إلى العقبة. ويحدها من الشمال جبال طوروس، وتمتد جنوباً حتى جنوب شبه جزيرة سيناء وساحل البحر الأحمر. وطولها بزيد عن (800) كم ومساحتها أكثر من مليونين كم2 فالطبيعة منحت سورية حدوداً طبيعية واضحة.
وسورية الطبيعية ذات وحدة عنصرية، إذ يسكنها عنصر من دم واحد ولغة واحدة وعادات وتقاليد واحدة وله خصائص حيوية كاملة مستمدة من طبيعة الإقليم الذي يعيش فيه، وهي من أصل عربي وهضمت كل العناصر الوافدة.
واستدل الحكيم على الإجماع الشعبي بشأن دولة سورية وحدودها الطبيعية من المؤتمر السوري العام في سنة 1919 وموقفه من لجنة كنج - كراين وقراره باستقلال سورية في 8/3/1920 بحدودها الطبيعية واختيارهم فيصل بن الحسين ملكاً عليها ..
وكذلك أشار إلى مواقف الهيئات القومية ومنها (حزب الاستقلال العربي) وحزب الشعب 1925 والكتلة الوطنية. ونبه إلى خطر الصهيونية وأن سورية الكبرى تكون أقوى في دفع هذا الخطر(41).
واستغل الملك عبدالله أيضاً المعاهدة الأردنية العراقية، (14/4/1947) وأصدر في 7/9/1366هـ (4/8/1947) بياناً عاماً أشار فيه إلى الرأي الذي أجمع عليه العرب بشأن (لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين)، وهو استبعاد التقسيم وإلغاء الانتداب واستقلال فلسطين. ثم بين وجوب مواصلة الجهاد المشترك لتحقيق الوحدة في بلاد الشام والهلال الخصيب بالفعل لا بالقول. ويتضح من البيان أن الملك عبدالله كان يرى أن قرار المؤتمر السوري العام في حزيران 1919 لايزال قائماً. وأن الرغبات الشخصية وشهوة الحكم هي المانع الحائل دون تنفيذه. وأن النظام الجمهوري في سورية الذي أوجدته التجزئة الاستعمارية في رأيه، لاينسخ ميثاقاً قومياً انبثق عن إرادة شعب سورية الطبيعية.
ولكي يقطع الملك سبل الاعتراض قال : إن نظام الدولة السورية الكبرى مازال منوطاً بإرادة الأمة. فإما رجوع إلى الأصل، أو استفتاء جديد ومجلس تأسيسي واحد يضم ممثلي الأقاليم السورية جميعاً. مع ترك الخيار للبنان لتحديد علاقته بالأجزاء الثلاثة الأخرى. وشجب الملك في بيانه القول بأن ميثاق الجامعة العربية يوجب المحافظة على الوضع القائم. وفي نهاية بيانه دعا إلى عقد مؤتمر قومي تمهيدي يقرر الأمور التالية :
1- رفع شعار الوحدة أو الاتحاد السوري موضوعياً ... .
2- اعتبار الوحدة أو الاتحاد السوري قضية خاصة بالدول السورية الإقليمية وبإرادة الشعب السوري وحده في حدود وطنه الكامل جغرافياً وتاريخياً وقومياً.
3- وضع التحفظات الضامنة براءة الوحدة أو الاتحاد من كل ماينتقص الحقوق القومية الاستقلالية المكتسبة ... .
4- تحديد مركز فلسطين من الوحدة أو الاتحاد على الوجه الذي يوقف خطر الصهيونية وقفاً تاماً.
5- دعوة الحكومات السورية الإقليمية إلى اتفاق مشترك ينتهي إلى عقد جمعية عمومية ومجلس تأسيسي، تضم ممثلي الأقاليم السورية جميعاً لوضع دستور الدولة على أساس الوحدة أو الاتحاد.
6- حال قيام الدولة السورية الكبرى يجب العمل على إنشاء (الاتحاد العربي العهدي) في الهلال الخصيب (الشام والعراق)، تحقيقاً لما رسمته مبادىء الثورة العربية التحررية وأوجبه ميثاق 8/3/1920 وأفسح له السبيل ميثاق الجامعة العربية(42).
هذه دعوة جديدة لتحقيق مشروع سورية الكبرى أعلنها الملك عبدالله مستغلاً ظروف القضية الفلسطينية، ومستغلاً قدرة الجيش العربي الأردني الذي كان أقوى فعلاً من الجيش السوري ومن الجيش اللبناني. ومستغلاً أيضاً تأييد بريطانيا الخفي لتحقيق مشروعه الذي سعى له طيلة أيام حياته(43).
وكان قد أعلن في 14/6/1947 أنه لايضيره مايقرر الشعب من أن يكون الحكم ملكياً أو جمهورياً وأنه لايريد هدفاً ذاتياً ولايريد أن يفسد هذا الرأي مابينه وبين رئيس الجمهورية السورية، وأنه في غنى عن أمل ذاتي بماورثه من عهد الرسول الأعظم(44).
لقد رأى الشعب العربي في هذه الدعوة الجديدة مظهراً من مظاهر فرض النفوذ البريطاني على الشرق العربي. وكان يحمل على الاعتقاد بأنه يرمي إلى تأييد الصهيونية في فلسطين ؟.
وقد أيدت الحكومة العراقية المشروع. وكان ذلك موقفاً طبيعياً لأن المشروع يوسع ملك الهاشميين ويرفع أسهمهم في الوطن العربي ويمكنهم من الوقوف موقفاً صلباً من المملكة العربية السعودية، في داخل الجامعة العربية أو خارجها(45).
أما سورية ولبنان فقد اختلف الوضع بالنسبة إليهما، إذ اجتمع في قصر بيت الدين في لبنان كل من شكري القوتلي وبشارة الخوري رئيسي الجمهوريتين، ورافقهما رئيسا مجلس الوزراء ووزيرا الخارجية في البلدين. وأصدرا في 27/8/1947 بياناً نددا فيه ببيان الملك عبدالله الذي كان موضع استغرابهما واستنكارهما لتدخله في شؤون الجمهوريتين، وتعرضه لنظام الحكم فيهما ومخالفته في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومبادىء القانون الدولي. وأكد البيان اتفاق الطرفين على الخطط المشتركة الواجب انتهاجها في هذا الموضوع(46).
ولعل القوتلي كان حريصاً على إرضاء ابن سعود في رفضه لمشروع سورية الكبرى الذي يمتد ليشمل أراضي القسم الجنوبي منها التي سيطر عليها عبدالعزيز آل سعود في عام 1925(47). فإذا تشكلت دولة سورية القوية فقد تطالب بالأجزاء المفصولة عنها ومنها فلسطين.
وعبر محمد كرد علي في مذكراته أحسن تعبير عن المشروع بقوله : " قدر الله لنا معشر السوريين ونجونا من سلطان الانتداب بأعجوبة، فكيف بنا نعود سيرتنا الأولى بعد أن تمتعنا باستقلالنا وأخذنا نعيش أحراراً، فما شأننا والعبودية"(48).
كما أن المجلس النيابي السوري الجديد (125 نائباً) الذي اجتمع في يوم السبت 13 ذي القعدة 1366-27/9/1947، وطلب أحد النواب من المجلس أن يعلن استنكاره لمشروع سورية الكبرى الذي نادى به الملك عبدالله. وأرجىء البحث إلى جلسة قادمة. وفي جلسة 29/9/1947، قدم اقتراح من بعض النواب (12 نائب) بشأن المشروع طالبين اتخاذ قرار استنكار للمشروع إذ رأوا فيه نزعة إلى تقييد سورية بقيود الأردن، وفتح ثغرة لأطماع الصهيونية ومحاولة للتآمر على الحكم الجمهوري، وتأييدهما لبيان الرئيسين في 27/8/1947. وقرر المجلس بالإجماع استنكار المشروع(49).
ويشير باتريك سيل إلى المنافسة بين دمشق وحلب تجارياً وتأثير ذلك على الاتجاه السياسي حيث كان الحلبيون يطالبون بالوحدة مع العراق لأن لهم اتصالاً مع الموصل... (50).
ويذكر دروزة أن الحزب القومي السوري الذي كان يعتبر أن سورية التي ينادي بها مفصولة عن العراق بالصحراء.. إذ به عام 1947 ومابعدها يدخل العراق في حدود سورية ويطلق اسم (سورية الطبيعية)، على بلاد الشام والعراق ويسميها الهلال الخصيب السوري. ويقرر الوحدة الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والبشرية التي تجمع هذا الهلال وسكانه في نطاق طبيعي واحد(51).
ولقد أغضب هذا الحزب كل مصلحة يمكن تصورها، أوجد له اتجاهه العلماني الكره في الجامع والكنيسة. وضمن له ضمه فلسطين إلى الوطن السوري الاصطدام بالصهيونية. وجعله اعتقاده أن رأس المال والعمل يجب أن يتحدا في ظل حكومة أبوية لعنة في نظر الاشتراكيين.. وأدت معارضته لسلطة الدولة المنظمة إلى نفي زعيمه ثم مقتله. فقد حاكم الفرنسيون انطون سعادة في عام 1936 بتهمة التآمر على الدولة. وبعد سنتين انسحب من لبنان إلى أمريكا الجنوبية حيث أمضى فترة الحرب. ثم رجع في عام 1947 إلى المنطقة التي أحبها وتحدى الدولة اللبنانية التي خلفت الانتداب الفرنسي. وإذ أساء تقدير مدى انسجام لبنان المستقل مع رغبات اللبنانيين المسيحيين وخصوصاً الموارنة، قام بانقلاب فاشل وهرب إلى سورية(52).
واستنكرت مصر بيان الملك عبدالله ودعوته بتاريخ 24/9/1947. وقد جاء في البيان المصري أن الحكومة ترى: " أن الخير كله في احترام عهد جامعة الدول العربية وميثاقها والذي قام على أساس المحافظة على حقوق كل دولة منضمة إليها ". ولاشك أن موقف مصر ناتج عن خوفها من قيام سورية الكبرى لأن ذلك يفقدها قدرة الحركة والسيطرة في داخل جامعة الدول العربية(53).
أما موقف السعودية فهو نابع من عدم رضائها أو موافقتها على قيام دولة هاشمية في شمالها وشمالها الغربي، مما يقطع صلتها بالبحر المتوسط، وهو الأمر الذي كانت تهتم به السعودية اهتماماً عظيماً. وكان الملك عبدالعزيز يرى أن الملك عبدالله يقف إلى جانب الزعماء الصهيونيين .وأصدرت الحكومة السعودية بياناً رسمياً في 31/10/1947 رداً على بيان الملك عبدالله وأكدت أنها تعتبر أن هذا العمل افتئات على سورية ودستورها الجمهوري.
كما عارض المشروع مفتي فلسطين أمين الحسيني معارضة شديدة وذلك بسبب عدائه للبيت الهاشمي وتأييده المطلق للملك عبدالعزيز .
ولاشك أن المنافسات الحادة التي احتدمت حول المشروع بين الحكام والملوك العرب تفسر بوضوح طبيعة العلاقات القائمة بينهم ومدى تأثير هذه العلاقات في القضايا العربية.
وكانت الحكومة البريطانية ترحب بالفكرة، وإذا كانت حبست تأييدها في بعض الأوقات فإما بسبب قضايا معينة شغلتها في الشرق العربي. وعلى كل حال فإن بريطانيا كانت ترى أن تحقيق المشروع يساعد على حل القضية الفلسطينية ويشكل دولة حاجزة قوية ضد الاتحاد السوفييتي. وسيعطي العرب الثقة في أنفسهم ويقلل من عدائهم للانجليز(54).
أما فرنسا فرأت في المشروع امتداداً للنفوذ البريطاني في سورية ولبنان، حيث فقدت فرنسا إلى حد كبير نفوذها التقليدي القديم، وكانت تخشى بالفعل قيام جامعة دول عربية قوية تؤثر على نفوذها في امبراطوريتها في شمال أفريقيا. وكانت فرنسا تأمل أن يشعر اللبنانيون بضرورة ربط بلادهم بدولة تعد مصالحها مقاومة لمصالح بريطانيا. وفي هذه الحالة سيكون على اللبنانيين عامة والمارونيين منهم بصفة خاصة، أن يحولوا وجوههم شطر فرنسا العدو التقليدي لبريطانيا والصديق التقليدي للمارونيين. ومع ذلك فإن فرنسا كانت تأمل أيضاً أن يتم بينها وبين بريطانيا نوع من التفاهم بشأن هذا الموضوع، حتى يمكن إعادة توزيع قواعدهما الاستراتيجية، وذلك لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي المتزايد.
وكذلك فإن الولايات المتحدة لم تكن تميل إلى تأييد عبدالله في مشروعه وذلك بتأثير عبدالعزيز آل سعود، بينما تميل إلى تحقيق المشروع بواسطة ممثلي الشعب وأنه سيؤدي إلى حل القضية الفلسطينية.
أما الصهيونيون المتطرفون فقد عارضوه خوفاً من تكوين كتلة عربية قوية قد تقضي على آمالهم في المستقبل. أما المعتدلون فقد أيدوه لأنه يقوي مركز عبدالله ضد المتطرفين العرب المؤمنين بالوحدة والاستقلال. ولأن المشروع يخدم الانجليز الذين يعتمد عليهم الصهيونيون. بينما أغلب الصهيونيين أخذوا بعد عام 1940 يأملون بالنجاح على أيدي الأمريكيين. ويرى الصهيونيون أن الوحدة السورية الهاشمية المرتبطة بالانجليز تبعد خطر الوحدة الصحيحة. وأن الصهيونيين عندما يصبحون أعضاء في دولة سورية الكبرى يمكنهم التغلغل إلى أجزاء عديدة من الوطن العربي... (55).
ومهما يكن من أمر فإن الملك عبدالله لم يتوقف عن السعي لتحقيق مشروعه بالرغم من معارضة معظم الدول العربية وبعض الدول الكبرى ومعارضة فئات عريضة واسعة من الشعب العربي. وكان يرى أن لاحل لقضية فلسطين إلا بقيام سورية الكبرى.
4- سورية ومشروعي الوحدة 1947-1949 :
وفي سورية بعد الجلاء، كان النشاط الحزبي قد بدأ يفعل فعله في دمشق وبقية المدن السورية وضمن المجلس النيابي، فنمت روح وطنية في النفوس وانتشرت الأحزاب بكثرة حتى بلغ عدد الأحزاب في سورية ماينوف عن الخمسة عشر حزباً. وبدأ التطاحن الحزبي يأخذ مجراه، إلى أن بوغتت الكتلة الوطنية بتفسخ صفوفها وانسحاب رشدي الكيخيا وناظم القــدسي منها وتأليفهما حزباً خاصاً أسـسا له مكتباً في حلب أطلقا عليه اسم (حزب المعارضة) (56) الذي تحول إلى حزب الشعب عام 1948.
ولم تكن الأحزاب العقائدية قد اكتسبت نفوذاً جماهيرياً بل انحصر نشاطها في بعض البيئات كالطلاب والأقليات الدينية أو العنصرية. فكان البعث والشيوعي والقومي السوري والاشتراكي العربي التي كان لها شبه فلسفة سياسية تلقن للأتباع. أما الأحزاب التقليدية فكانت تعتمد على الولاء لشخصيات معينة(57).
وكانت الوحدة السورية اللبنانية من ضمن مشاريع الأحزاب القومية والدينية وخاصة الحزب القومي السوري الذي كان ينادي بالوحدة السورية وبالأمة السورية فقط أو الأحزاب التي تنادي بها كجزء من وحدة أكبر.
وأوشكت مدة المجلس النيابي المنتخب في عام 1943 على الانتهاء في عام 1947. فطاف رئيس الجمهورية البلاد السورية بجولة عامة معلناً فيها إجراء انتخابات حرة. وبعدها قفل عائداً إلى دمشق. وأثناءها سافر سعد الله الجابري (رئيس الوزارة) إلى القاهرة لحضور دورة الجامعة العربية التي عقدت من أجل قضية فلسطين. وهناك انتابه مرض فجائي فعاد إلى حلب بعد أن مكث مدة في مستشفيات مصر. وتوفي في ليلة الجمعة 28/6/1947. وعلى إثر وفاته كلف جميل مردم بك بتأليف وزارة جديدة كي تشرف على إجراء الانتخابات النيابية المقبلة(58).
كانت رئاسة الحكومة تنحصر في السنوات السابقة بين الشخصيات الثلاثة (فارس الخوري وجميل مردم والجابري). وكان الجابري يعتبر من أكثر أعضاء الكتلة نزاهة. وقد أظهر اعتراضه لرئيس الجمهورية حينما أبدى رغبته في تجديد رئاسته. وكان ذلك منافياً لروح الدستور. إذ أن واضعي الدستور السوري تأثروا بالنظريات السائدة في فرنسا إبان عهد الجمهورية الثالثة وهي لاتحبذ مبدأ التجديد. وقد تصادف أن وافت المنية الجابري قبيل إجراء الانتخابات النيابية فكان ذلك من عوامل إضعاف الكتلة، ولكنه قوى في نفس الوقت مركز شكري القوتلي وسهل له مسألة التجديد(59).
وماكادت الوزارة الجديدة تمارس أعمالها الحكومية حتى قامت بعض الأحزاب تحرض الشعب على المطالبة بتعديل قانون الانتخاب وجعله على درجة واحدة بدلاً من درجتين. وقد راقت للطلاب الجامعيين بدمشق هذه الفكرة المعقولة فتظاهروا وجاؤوا إلى المجلس النيابي مؤيدينها ومطالبين بتحقيقها تخلصاً من حكم الناخب الثانوي، فتداول النواب كثيراً بهذا الأمر وقدم بعضهم تقاريراً لمقام الرئاسة بهذا الخصوص، فرفعت هذه التقارير إلى اللجنة القضائية لتبت فيها فأقرتها. ثم طرحت على الهيئة العامة. وبعد أخذ ورد وافق المجلس بالأكثرية على جعل الانتخابات في سورية على أساس الدرجة الواحدة.
وجرت الانتخابات النيابية في 7/7/1947. وتمت الانتخابات التكميلية في 18/7/1947. واعتبر المنتخبون نواباً منذ 8/8/1947. وقد خاض المعركة الانتخابية رجال الكتلة الوطنية فأخفقوا ولم يوفقوا، وخاصة في حلب، اللهم إلا بعض الأشخاص فازوا بها في دمشق عن طريق التزوير ومنهم (أحمد الشراباتي). وأما النجاح فكان حليف المعارضين والمستقلين. فأخذ رجال المعارضة المنتسبون لحزب رشدي الكيخيا يطوفون الأقضية داعين النواب فيها للانضمام في صفوفهم، فمنهم من لبى ومنهم من أبى. وقبل انعقاد دورة المجلس الاستثنائية الأولى تنادى المعارضون لعقد اجتماع سياسي في مدينة فالوغة بلبنان خلال أيام 12-15/8/1947، وحضر هذا الاجتماع كثيرون من نواب حزب المعارضة وأقروا فيه منهاج حزب الشعب ونظامه الداخلي. وبعد ذلك جاؤوا إلى دمشق قبيل افتتاح الدورة وأذاعوا بياناً على الرأي العام أعلنوا فيه خطتهم ومبادءهم وماتنطوي عليه حزبيتهم من إصلاح للبلاد وسعي جدي لإخراجها إلى عهد جديد، وأطلقوا على حزبهم اسم (حزب الشعب) (60).
ونظراً لتكون حزب الشعب أساساً بواسطة الأعضاء المنشقين عن الكتلة ومعظمهم من أبناء حلب، لذلك قيل أن الحزب إقليمي وإقطاعي بمعنى أنه تعبير عن مصالح إقليم حلب خاصة، وعن طبقة كبار الملاك الزراعيين الذين ينتشرون في الشمال وفي الوسط، وقد وصف حزب الكتلة بأنه حزب شامي أي خاص بإقليم دمشق ويعبر عن برجوازية المدينة. ومع التسليم بتأثير النزعة الإقليمية في الحياة السياسية السورية، فقد كان هناك أعضاء بارزون في حزب الشعب من خارج إقليم حلب وعلى رأسهم أبناء أسرة الأتاسي من حمص. أما أن حزب الشعب كان يعبر عن مصالح الإقطاعيين فهذه تبدو بصورة أوضح.
كذلك نسب إلى حزب الشعب نزعته الملكية، فكان معظم أعضائه يناصرون مشروع الهلال الخصيب، ويبدو أنه لم يكن هناك إجماع على هذه المسألة إذ ليس من السهل على من يتمتع بالسلطة التضحية بالنظام الجمهوري. ومع ذلك سيظهر معظم الأعضاء في مناسبات عدة استعداداً للاتحاد مع العراق في ظل العرش الهاشمي. ولو أن الانقسام والتردد أفسدا على أنصار الهلال الخصيب خططهم.
والحقيقة المؤكدة هي أن حزب الشعب كان في تطلعه إلى العراق يريد أن يحقق مصالح تجار حلب، فإن صلاتهم التجارية ببغداد والموصل والأناضول ليست أقل منها مع دمشق، فكان الحزب يسعى على الأقل لرفع الحواجز الجمركية، فلم يكن حزباً هاشمياً ولاملكياً، ولكنه حزب حلبي أولاً. ولذلك فقد ألقى بثقله السياسي كي يزيل الحدود السورية العراقية ويحطم الحواجز التجارية والحدود السياسية التي خنقت سورية .
واشتدت حملة المعارضة للنظام القائم، وروجت الأنباء عن انتشار المحسوبية والاتجار بتراخيص الاستيراد. وتزعم المعارضة حزبا الشعب والبعث. وقد كان هذا الاتفاق غريباً بين حزبين يختلفان تماماً في تكوينهما الاجتماعي وعقيدتهما السياسية.. وقد فسر ميشيل عفلق هذا التعاون بأن " حزب الشعب لم يكن قد كشف بعد عن وجهه الرجعي ". وكان حزب البعث حركة عربية نامية(61).
وبعد انتخاب القوتلي للمرة الثانية لرئاسة الجمهورية، في 18/4/1948 والطريقة التي اتبعها من أجل ذلك بتعديل الدستور، انفض عنه أصدقاؤه القدامى كهاشم الأتاسي (والجابري توفي) ومردم والحفار. وحزب الشعب ضده والحزب الوطني كذلك. وانبرت المعارضة تطعن وتقدح في هذا التجديد الذي فتح باب الأقاويل في الحياة السياسية والحزبية(62).
وظهرت آثار كارثة فلسطين في سورية قبل غيرها من الدول العربية، ففي أثناء الجولة الأولى من المعركة استقال وزير الدفاع أحمد الشراباتي في 25/5/1948 محتجاً على سوء القيادة العربية، ولم يفعل رئيس الوزارة جميل مردم شيئاً أكثر من ضم وزارة الدفاع إلى اختصاصاته وتغيير القيادة العامة، فكلف حسني الزعيم الذي كان مديراً للأمن بقيادة أركان الجيش السوري. ولم تسكت الأحزاب الجديدة عن هذا التخاذل. وشن حزب البعث حملة في الصحف على الحكومة(63).
وفي 12/8/1948 قامت مظاهرات دامية في دمشق وعمت البلاد، وفي حلب كانت المظاهرات عنيفة وأنزل الجيش إلى الشوارع وأعلنت الأحكام العرفية. وعلى إثر ذلك قدم حزب الشعب مذكرة إلى رئيس الجمهورية طالب فيها باتحاد عربي بتوحيد سورية والعراق كوسيلة وحيدة قادرة على مجابهة التهديد الإسرائيلي. وهذا مايجعل المرء يظن أن الفتنة التي عمت البلاد غير بريئة من الاتصال بزعماء العراق الذين كانوا يريدون الوحدة وإتاحة عرش لعبد الإله. ومهما كان الأمر فقد أظهر الشعب استياءه من وزارة جميل مردم فاستقالت. وبدأ الرئيس الأتاسي مشاوراته لتشكيل وزارة. وزار القوتلي وطلب إليه الموافقة على المذكرة التي قدمها حزب الشعب لتؤلف الوزارة على أساسها فراوغ القوتلي. واعتذر الأتاسي عن تأليف الوزارة(64).
وكانت قد وقعت مظاهرات عنيفة في المدن السورية في 29/11/1948، أي في الذكرى الأولى لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. وأدت المظاهرات إلى صدام مع رجال الشرطة وسقوط عدد من الضحايا، مما اضطر الحكومة إلى الاستنجاد بالجيش في 3/12/1948، ففتح ذلك الباب أمام القادة العسكريين للاحتكاك بالشؤون السياسية.
وشهدت البلاد على إثر ذلك أطول أزمة وزارية في تاريخها منذ الاستقلال. وأخيراً عهد القوتلي للمرة الأولى منذ توليه السلطة إلى أحد المستقلين برئاسة الحكومة ووقع اختياره على خالد العظم الذي كان يعمل سفيراً في باريس(65).
استدعي خالد العظم من باريس لتأليف الوزارة، فودع وزير الخارجية الفرنسية (روبير شومان) في 10/12/48. وشكره على مابدا منه من عطف على إنجاز قضيتي الأسلحة والنقد. وأكد الوزير الفرنسي أن فرنسا حريصة على بقاء سورية متمتعة باستقلالها الكامل. وأنها تعارض أية فكرة بضم سورية إلى أية منظمة تقضي على استقلال سورية، وصرح بأن حكومته تنازلت عن الانتداب... ولاتقبل أن يحل محل نفوذها نفوذ بريطانيا أو الولايات المتحدة ولو بشكل مستتر. فأجابه العظم بأن سورية ستدافع عن استقلالها وحريتها تجاه أي عدوان وتقاوم كل المشاريع السياسية .
وأكد وزير الخارجية الفرنسي أن حكومته تلتزم الحياد، ومع ذلك فهي تعطف على أماني السوريين والمسلمين بصفتها دولة إسلامية كبرى، وأشار إلى أن سياسة حكومته كانت أقرب إلى سورية لولا مضاعفات ليس من اليسير ايضاحها، وعنى بذلك أن الحزب الاشتراكي الفرنسي يضم عدداً كبيراً من اليهود الذين يسيرون خطاه بعكس سائر الأحزاب الفرنسية التي تكره اليهود(66).
ومما يؤكد هذا الموقف الفرنسي وأن الاتجاه الشعبي ضد اليهود، ماذكره وكيل الخارجية الأميريكية أنه أثناء زيارته إلى باريس في 7/3/1940 قابل ليون بلوم فتلقى بعدها آلاف الرسائل من فرنسيين ينكرون عليه زيارته لبلوم ويحتجون عليها فقد كانت زيارة ممثل رئيس أمريكا إلى رجل يهودي. ولكن الأمريكي نظر إلى الأمر على أنه نزعة اللاسامية وأنه أدرك مبلغ ماوفق النازيون إلى أن ينفثونه من السموم في أوروبا الغربية(67).
ولما قابل القوتلي العظم في 12/12/1948 لتكليفه بالوزارة، استعرضا مذكرة حزب الشعب فأوضح العظم رأيه في عدم الموافقة على الاتحاد مع العراق وعدم الرضى بمشروع سورية الكبرى، فزاد انشراح الرئيس لأن من سيتعاون معهم معارضون لهاتين الفكرتين.
وفي مقابلة ثانية للقوتلي مع العظم قال القوتلي الذي رأى نفسه بطل الجلاء : " لم ينته الأمر بعد، العراق ومن ورائه الانكليز يطمعون في بلادنا ويسعون لإقامة عرش لعبدالإله. والملك عبدالله لايزال يحيك المؤامرات على بضعة كيلومترات من حدودنا ليصنع لنفسه عرشاً في عاصمة معاوية. لانقبل. إذا أرادوا توحيد سورية وشرق الأردن فلتكن جمهورية عاصمتها دمشق، والشعب ينتخب رئيسها بحرية، لامكان لعبدالإله في سورية. أنا هنا أدافع عن استقلال البلاد ولو بقيت وحدي "(68).
وشكل العظم الوزارة في 16/12/1948 بدون أعضاء من حزب الشعب الذين اشترطوا اعتماد مذكرة الحزب بشأن وحدة سورية والعراق. ويذكر العظم أن وزارته عملت على :
1- تصديق اتفاقات إمرار البترول السعودي عبر سورية وتقديمها إلى مجلس النواب.
2- إنجاز الاتفاق المعقود مع فرنسا في 7/2/1949 بشأن النقد وعرضه على مجلس النواب، وكانت مباحثاته قد دارت في باريس بين الفرنسيين وبين العظم وحسن جبارة وزير المالية .
3- معالجة الموقف في فلسطين وعقد الهدنة مع اسرائيل .
4- مسألة الخبز (خبز الفقير ذو السعر المنخفض). وتخفيف خسائر الدولة بسببه حيث قام بإلغائه .
5- تأمين المال اللازم لتسديد ثمن الأسلحة المشتراة من فرنسا.
أما بالنسبة لاتفاقية التابلاين (مرور البترول السعودي)، فقد سبق أن قُدم أول مشروع لها في عام 1946. إذ أنه في عهد وزارة الجابري (26/4/1946-27/12/1946) قدمت شركة التابلاين أول مشروع اتفاقية إلى الحكومة السورية. أرسله الملك عبدالعزيز إلى شكري القوتلي، فكتب العظم بصفته وزيراً للاقتصاد الوطني، تقريراً مفصلاً عن المشروع أبان فيه اعتراضاته على النصوص ومخالفته لإبرامه. مما سيكون سبباً لتحامل القوتلي عليه كما يقول : " فلقد استحسن القوتلي المشروع لأنه كان يعلق أهمية كبرى على إرضاء صديقه الملك سعود والنزول عند طلباته ليسدد بهذه الوسيلة الأموال الوفيرة التي كان ولايزال العاهل السعودي وابنه من بعده يقدمها عليه بسخاء وكرم. أما مصلحة البلاد وخطر وقوعها تحت نفوذ الأجنبي، فأمره يعالج كما عالجت البلاد مصيبة الانتداب. لكن غضب ابن سعود، فأعوذ بالله. أنقبل أن يغور النبع الذي يغذي بقاءنا على رئاسة الحكم بعد أن غذى وصولنا إليه ؟. هذا ماكان يهتم به القوتلي. لقد اعترض في الماضي على اتفاقية مد أنابيب النفط العراقي عبر البلاد السورية ووجد في الاتفاق إجحافاً ليس بعده إجحاف. أما البترول الأميركي - السعودي فمروره عبر سورية نعمة كبرى، حرام أن نفوتها. وكان جميل مردم وقع بالحروف الأولى على المشروع لكنه لم يجسر على تقديمه إلى مجلس النواب لأنه خشي أن يتهم بقبض عمولة "(69).
وكان الأمريكيون قد بدأوا مرحلة مفاوضات طويلة ومعقدة مع كل من شرق الأردن وسورية ولبنان لمد خط الأنابيب من الظهران إلى صيدا. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة السورية ترفض باستمرار اتخاذ قرار بهذا الشأن، كان الانجليز يجدون الفرصة لإجبار الشركات الأمريكية حتى توافق على عقد اتفاقيات جديدة، وعلى مشاركة بريطانية أمريكية على استغلال النفط في الشرق الأوسط تكون أكثر مساواة من اتفاقية سبق أن أبرمت بين الشركات الأمريكية والبريطانية عام 1946. وكادت الشركات البريطانية تصل إلى تحقيق أهدافها لولا ظهور حسني الزعيم في سورية(70).
وذكر العظم أن القوتلي أصر عليه لتقديمها (اتفاقية التابلاين) إلى مجلس النواب مع اتفاقية النقد اللازمة والمفيدة لسورية وليس فيها أي التزام لسورية (والتي كان العظم حريصاً على تصديقها). فناور معه وذكر له أن المصلحة تقضي بالتفاهم مع لبنان لمجابهة الشركة جبهة واحدة. ولكن لبنان انفرد بتوقيع اتفاقية النقد ثم انفرد بتوقيع اتفاقية التابلاين. بالرغم من أن الحكومة السورية حرصت على التفاهم معه على مجابهة الشركة جبهة واحدة، وطلبت تعديل بعض الأحكام. واجتمعت لجنة مؤلفة من وزيري المالية والاقتصاد الوطني عن سورية ومن زملائهما اللبنانيين ووضعت صيغة جديدة وطلبت من شركة التابلاين الموافقة عليها فوافقت ووقعت بالأحرف الأولى وأرسلت إلى مجلس النواب.
واتضح للملأ أن مجلس النواب معارض للاتفاقيتين وغير مبال بتصديق اتفاقية النفط، مما كان في طليعة الأسباب التي حملت حسني الزعيم على القيام بانقلابه العسكري في 30/3/1949، فعمد فوراً إلى إصدار مرسومين اشتراعيين صدق وأبرم بهما كلاً من الاتفاقيتين(71).
وهكذا انصرف العظم، وهو من كبار رجال الأعمال في سورية، إلى معالجة الوضع الاقتصادي دون مراعاة للإحساسات الوطنية الجياشة، فعقد الاتفاق المالي مع فرنسا لتسوية الخلاف الناشىء من انفصال سورية عن منطقة الفرنك. وطلب إلى مجلس النواب الموافقة على مشروع التابلاين بالرغم من الاعتراضات العديدة التي أثيرت حول الاتفاق، إذ أنه يمنح سورية رسوماً هزيلة مقابل مرور الأنابيب في أراضيها.
وحقيقة لم تكن شركة نفط العراق تدفع شيئاً من الرسوم حتى ذلك الوقت، ولكن الوطنيين كانوا قد شرعوا في مطالبة هذه الشركة أيضاً بدفع رسوم مناسبة. وقد عرضت شركة التابلاين على سورية 5ر1 جنية عن كل (1000) طن تمر بأراضيها. إلا أن المشكلة بالنسبة للمعارضة لم تكن قاصرة على قيمة الرسوم، بل رأى الوطنيون في سورية ضرورة استخدام العرب للنفط كأداة للضغط على الولايات المتحدة التي منحت كل تأييدها لإسرائيل، ولذلك حثوا المجلس النيابي على رفض الاتفاق. وأيد النواب المنتمون إلى حزب الشعب هذا الموقف ربما لوجودهم في المعارضة. لذلك ظل مجلس النواب متردداً أمام مشروع التابلاين حينما وقع انقلاب حسني الزعيم فتم توقيع الاتفاق دون مجلس نيابي(72).
وأكد العظم معارضته لمشروعي الوحدة بقوله : " اتخذت موقفاً معاكساً لفكرة سورية الكبرى أو الاتحاد السوري العراقي إذ كنت وما أزال أخشى أن تضيع سورية استقلالها الناجز حينما تنضم إلى العراق أو إلى الأردن وهما يرزحان تحت وطأة المعاهدتين المعقودتين بينهما وبين بريطانيا ". واتفق مع القوتلي على العمل سوياً على تفشيل هذه المؤامرة، كما يقول(73). وكأن القوتلي لم يجد غيره يتعاون معه لتعطيل وحدة سورية الكبرى ثم مع العراق لإرضاء صديقه ابن سعود وحكام مصر، أو لأسباب أخرى كالتمسك بالكرسي مثلاً كما يقول.
وفي نفس الوقت كان (بن غوريون) أثناء حرب 1948 يرى أن الحلقة الضعيفة في الائتلاف العربي هي لبنان. وأن سلطة المسلمين مصطنعة ومن السهل تقويضها، وأنه يجب إقامة دولة مسيحية يكون نهر الليطاني حدها الجنوبي ثم أنه يجب عقد حلف معها. وبعد ذلك تحطيم قوة شرقي الأردن فتسقط سورية .... (74).
تعليق