إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تطور الوحدة السورية اللبنانية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تطور الوحدة السورية اللبنانية

    تطور الوحدة السورية اللبنانية من نشوب الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد الاستقلال 1939-
    1950

    - د. عبد الرحمن البيطار -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998


    مقدمة‏

    الفصل الأول: الوحدة السورية اللبنانية منذ اندلاع الحرب العالميةالثانيةوحتى احتلال الحلفاء لسورية ولبنــان (14/7/1941)‏

    الفصل الثاني : الوحـــدة الســـورية اللبنانيـــة تحت احتلال‏

    الفصل الثالث الانتخابات النيابية فـي ســــــورية ولبنـــــان عام 1943‏

    4- قضيـة النقــد والانفصـال النقـدي :‏

    الفصل الرابع الوحدة السورية اللبنانية في معركة الاستقلال1943-1946‏

    الفصل الخامس الوحدة السورية اللبنانية في مشاريع‏

    الفصل السادس الوحدة السورية اللبنانية بعد إنشاء جامعة الدول العربية 1945-1949‏

    الفصل السابع الوحدة السورية اللبنانية في مرحلة الانقلابات السورية حتى الانفصال الجمركي 1949-1950‏

    خاتمة‏

    سابعاً : الوحدة السورية اللبنانية في مرحلة الانقلابات السورية حتى الانفصال الجمركي 1949-1950:‏

    الهوامش:‏

    المصادر والمراجع: أولاً الوثائق العربية:‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

    مقدمة

    قراءة تاريخنا، قديمه وحديثه ومعاصره، ليست ترفاً فكرياً ولا حكايا نقصها على الأجيال الجديدة، بل هي إحدى الوسائل الأساسية، وربما تكون أهمها، لفهم حاضرنا على ضوء أحداث الماضي وعبره. أليس كل منا يسعى للتطور والتقدم والنهضة في كل المجالات، وليكون الإنسان في بلادنا أسعد حالاً وأعز مكاناً؟. فإنه أحرى بنا أن ندرس هذا التاريخ الذي لا يزال يتفاعل معنا ولن يتوقف في داخل مجتمعنا.‏

    بعد تحطيم الدولة العثمانية واقتسام أراضيها والسيطرة على مقدرات شعوبها، ومن ثم إنشاء دولتي سورية ولبنان وغيرها من الدول المستحدثة في المنطقة، والتساؤلات مستمرة عن كيفية السير نحو الأفضل حتى تعود أمتنا إلى ممارسة دورها الحضاري والقيادي.وتؤكد الآراء الحكيمة أن التجزئة سبب العلل كلها.‏

    وفي الجزء الأول من هذا البحث والمعنون (الوحدة السورية اللبنانية تحت الاحتلال الفرنسي من 1918- 1939)، تحدثت بإيجاز عن هذا الاحتلال وكيف عمل منذ بداية احتلاله لجزء من بلاد الشام على ايجاد تجزئة تكون له قاعدة لضمان مصالحه المختلفة، حتى استطاع ايجاد كيانين (سورية ولبنان)، ودفعهما للسير في طريقين منفصلتين حتى قيام الحرب العالمية الثانية. وعمل على عزلهما عن تاريخهما المشترك حتى لا يكون نبراساً لمستقبلهما.‏

    وفي هذا الجزء الثاني أكمل الحديث الموجز عن تطور الوحدة السورية اللبنانية من نشوب الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد الاستقلال، أي عندما زال آخر مظاهر الوحدة السياسية والاقتصادية بين هاتين الدولتين العربيتين.‏

    ومع ذلك فالوحدة بين شعبي الدولتين، وكل الدول المنشأة، ما زالت قائمة وواضحة حسب كل عوامل الأخوة التاريخية والعوامل المستجدة التي تفرض التعاون والترابط في هذا العالم الحديث.‏

    أليس من الأفضل لأمتنا أن تتوحد وتتعاون وتترابط على ضوء تاريخنا الواحد، بدلاً من أن توحدنا القوة العظمى المسيطرة وتضعنا تحت قيادة دولة إسرائيل المنشأة في نفس الوقت الذي أنشئت فيه دولنا ؟.‏

    والله الموفق‏

    د. عبد الرحمن البيطار‏

    حمص 1417هـ/1996م‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

      مقدمة

      قراءة تاريخنا، قديمه وحديثه ومعاصره، ليست ترفاً فكرياً ولا حكايا نقصها على الأجيال الجديدة، بل هي إحدى الوسائل الأساسية، وربما تكون أهمها، لفهم حاضرنا على ضوء أحداث الماضي وعبره. أليس كل منا يسعى للتطور والتقدم والنهضة في كل المجالات، وليكون الإنسان في بلادنا أسعد حالاً وأعز مكاناً؟. فإنه أحرى بنا أن ندرس هذا التاريخ الذي لا يزال يتفاعل معنا ولن يتوقف في داخل مجتمعنا.‏

      بعد تحطيم الدولة العثمانية واقتسام أراضيها والسيطرة على مقدرات شعوبها، ومن ثم إنشاء دولتي سورية ولبنان وغيرها من الدول المستحدثة في المنطقة، والتساؤلات مستمرة عن كيفية السير نحو الأفضل حتى تعود أمتنا إلى ممارسة دورها الحضاري والقيادي.وتؤكد الآراء الحكيمة أن التجزئة سبب العلل كلها.‏

      وفي الجزء الأول من هذا البحث والمعنون (الوحدة السورية اللبنانية تحت الاحتلال الفرنسي من 1918- 1939)، تحدثت بإيجاز عن هذا الاحتلال وكيف عمل منذ بداية احتلاله لجزء من بلاد الشام على ايجاد تجزئة تكون له قاعدة لضمان مصالحه المختلفة، حتى استطاع ايجاد كيانين (سورية ولبنان)، ودفعهما للسير في طريقين منفصلتين حتى قيام الحرب العالمية الثانية. وعمل على عزلهما عن تاريخهما المشترك حتى لا يكون نبراساً لمستقبلهما.‏

      وفي هذا الجزء الثاني أكمل الحديث الموجز عن تطور الوحدة السورية اللبنانية من نشوب الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد الاستقلال، أي عندما زال آخر مظاهر الوحدة السياسية والاقتصادية بين هاتين الدولتين العربيتين.‏

      ومع ذلك فالوحدة بين شعبي الدولتين، وكل الدول المنشأة، ما زالت قائمة وواضحة حسب كل عوامل الأخوة التاريخية والعوامل المستجدة التي تفرض التعاون والترابط في هذا العالم الحديث.‏

      أليس من الأفضل لأمتنا أن تتوحد وتتعاون وتترابط على ضوء تاريخنا الواحد، بدلاً من أن توحدنا القوة العظمى المسيطرة وتضعنا تحت قيادة دولة إسرائيل المنشأة في نفس الوقت الذي أنشئت فيه دولنا ؟.‏

      والله الموفق‏

      د. عبد الرحمن البيطار‏

      حمص 1417هـ/1996م‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

        الفصل الأول

        1- موقف سورية ولبنان من اندلاع الحرب :‏

        كانت بوادر الحرب إحدى الحجج الفرنسية لعدم تصديق المعاهدتين مع سورية ولبنان. وتبعها إجراءات المفوض السامي في 8/7/1939 بهدم جمهورية المعاهدة في سورية بعد استقالة الوزارة ثم رئيس الجمهورية، فقد أوقف الدستور وحل المجلس النيابي وشكل مجلس مديرين للحكم تحت سلطته المباشرة .(1)‏

        ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية في 2/9/1939 سارع المفوض السامي بيو (Puaux) إلى إصدار قرار في 21/9/1939 بحل المجلس النيابي اللبناني (60 نائب) وعطل الدستور وأقال الوزارة بحجة الحرب والظروف العسكرية. ولم يبق الفرنسيون من مظاهر الحكم الوطني سوى رئاسة الجمهورية (الرئيس اميل اده) الذي كان رمزاً للنتاج الكامل للثقافة الفرنسية، دون أن تكون له سلطات فعلية، ويعاونه مجلس مديرين برئاسة أمين سر الدولة عبداللــه بيهم لتسيير أمور الدولة. وأضحى الحكم شبه عسكري على غرار ماكان قد فعله في ســورية مــن قبـــل.‏

        وأرفق بيو قرار حل المجلس النيابي اللبناني برسالة عدد فيها مساوىء الحكم البرلماني بأنه ترف في محاولة لتبرير تعطيل الحياة الدستورية. ووضع الفرنسيون (شوفلر) حاكماً فعلياً للبنان. وكان هدف بيو الفعلي أن لايثير غيرة الشعب السوري الذي فقد مؤسـساته الدستورية. ثم وجه بيو إلى اللبنانيين والسوريين نداءات بالإذاعة للوقوف بجانب فرنسا في الحرب، وأكد أن لبنان مرتبط بفرنسا وحريته من حريتها. (2) وأضحت سورية ولبنان في حالة حرب بسبب وقوعهما تحت الإ حتلال الفرنسي.‏

        وكانت فرنسا قد قررت اتباع سياسة عنيفة في سورية ولبنان عند اندلاع الحرب، فعينت أحد العسكريين اليمينيين ليجمع في سورية بين السلطتين العسكرية والمدنية واختارت لذلك الجنرال مكسيم وبجان. ولم يكن ثمة مبرر لهذا التشدد لأن سورية ولبنان يقعان بعيداً عن ميادين القتال ولم تكن ايطاليا قد دخلت الحرب بعد. (3)‏

        وخضعت سورية ولبنان للتدابير العسكرية فقد أعلن المفوض السامي الأحكام العرفية بحجة الضرورات الحربية. وخنق الفرنسيون الحريات وبدأت موجة من الإرهاب. واتخذت تدابير احترازية لحراسة الجسور وحلت الأحزاب ومنعت الاجتماعات والتظاهرات وفرضت الرقابة على الصحف والمطبوعات والمراسلات. وقلت المواد الغذائية في الأسواق وارتفعت أسعارها وجرى تقنين المواد الغذائية ومصادرة كل مايمكن أن يفيد الجيش. (4)‏

        ولم يتبع الفرنسيون الحكمة والروية إبان هذه الحرب، بل إنهم قاموا منذ إعلانها بسياسة انعكاسية رجعية جددوا بها عهد الاضطهاد واسترسلوا بالطغيان والسيطرة على المراكز الحساسة. وداخلتهم حالات نفسية من الارتياب والنزق أطاشت سهامهم في الكيد والافتراء فكانوا يجدون في سورية خصماً عنيداً ومتربصاً لهم(5) .‏

        غير أن الأمور استمرت في التدهور وتفاقم الوضعين العسكري والسياسي وازدادت الأوضاع في سورية سوءاً واضطراباً فحكمت فرنسا سورية حكماً مباشراً وكان موقفها تسلطاً وغطرسة. وهكذا كانت سورية ولبنان في نفس الظروف كنتيجة طبيعية للاتحاد السياسي القائم بينهما الذي يديره المفوض السامي الفرنسي وللوحدة الاقتصادية التامة بينهما أيضاً.‏

        وفرض الانكليز حصاراً بحرياً على الشواطىء السورية واللبنانية وفرضوا رقابة مشددة على التبادل التجاري مع فلسطين والعراق وشرق الأردن(6) .‏

        وكان دخول فرنسا في الحرب مبعثاً للأمل والارتقاب للشعب المغلوب على أمره في الخلاص من فرنسا المحتلة. فقد طغت على لبنان موجة قلق خاصة ووجوم، ونظم الأهالي العديد من المظاهرات احتجاجاً على سوء الوضع الاقتصادي(7) .‏

        ولما كانت فرنسا تدير الوحدة السورية اللبنانية بسلطتها الواحدة إلا أنها كانت تعمل على تهيئة وتغذية كل ما من شأنه تقوية انفصال لبنان عن سورية وتعامل دولة لبنان معاملة خاصة متميزة على حساب دولة سورية، إلا أن فرنسا عادت لتعامل سورية ولبنان كوحدة واحدة تحت ظروف الحرب التي زادت من ترابط الشعب تجاه الاحتلال الفرنسي.‏

        وارتفعت أسعار المواد الغذائية واختفت البضائع من الأسواق اللبنانية عند دخول ايطاليا الحرب (10/5/1940). وازدادت عراقيل الاستيراد من الخارج. وقامت دولة المحتكرين ولم تجد معها كل التدابير. وسرى التلاعب بالموازين والمكاييل وخلط القمح بالتراب ومزج السكر بالرمل. وأصبح الرغيف لايعرف من كثرة ما دخل عليه من الشعير والكرسنة والتراب.‏

        وأعار اللبنانيون أسماعهم إلى نداءات الجنرال كاترو من إذاعة القاهرة داعياً فرنسيي الشرق إلى الانضمام لحركة الجنرال ديغول وانبرى بيو يرد على تلك النداءات(8) .‏

        وقد وقف الرأي العام السوري موقفاً سلبياً من الصراع الدولي سيما وإن البلدان (سورية ولبنان) يقعان بعيداً عن مسرح القتال ويستثنى من ذلك بعض القطاعات الصغيرة. فقد اعتبر الحزب القومي السوري من أنصار النازية وذلك لوجود بعض التشابه في العقائد السياسية وفي تشكيلات الشباب التي ألفها في الثلاثينات. ويقال أن انطون سعادة مؤسـس الحزب كان لاجئاً في برلين عند قيام الحرب. أما الحزب الشيوعي السوري فكان فريداً من نوعه في الشرق العربي حينذاك، وكان يعتبر فرعاً من الحزب الشيوعي الفرنسي لذلك بقي قائماً حتى حل الحزب الرئيسي لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الفرنسية. وكان الحزب يعارض الكتلة الوطنية إلا أنه وافق معها على مشروع معاهدة عام 1936 وذلك لأن اليسار الفرنسي كان مسؤولاً عنها. ولم يلبث الحزب أن عانى من الانقسامات بين العناصر المكونة له وفيها الكثيرون من الأرمن والأكراد بجانب العرب. وعندما يهاجم الألمان الاتحاد السوفيتي سيشجع هذا الحزب باعتباره بؤرة من البؤر السورية المعادية للمحور. أما بقية الأحزاب فقد أوقف نشاطها بمجرد قيام الحرب(9) .‏

        كانت السلطات الفرنسية عند إعلان الأحكام العرفية في سورية عقب اندلاع الحرب، قد لفقت تهمة تدبير اغتيال مديري المصالح الخمسة وذلك لتبرر القبض على العناصر الوطنية، وقدم نحو عشرين منهم للمحاكمة وصدرت أحكام بالسجن لمدد طويلة على بعضهم. بينما صدرت أحكام الإعدام غيابياً بالنسبة للاجئين بالعراق. (10)‏

        2- هزيمة فرنسا في حزيران 1940 :‏

        وبدأت الجيوش الألمانية في ربيع عام 1940 اكتساحها لفرنسا فتراجعت الجيوش الفرنسية المنهزمة أمام آلة الحرب الألمانية، وهي غير قادرة على الصمود والمواجهة. وسقطت فرنسا تحت عنف الدبابات الألمانية الثقيلة. وأدهش العالم ماحل بفرنسا المتغطرسة التي وقعت تحت الاحتلال وعانت من سيف الحرب.‏

        واستقالت الحكومة الفرنسية المدنية وتألـفت حكومة عسكرية فرنسية برئاسة المارشال بيتان (Petain) نقلت مقرها إلى مدينة فيشي (Vichy) على نهر اللوار في وسط فرنسا. ووقعت هذه الحكومة هدنة مع الألمان في 20/6/1940 بعد قبولها بالشروط الألمانية، في حين أن عدداً من الضباط رفضوا الاستسلام والتعاون مع المحتل فانتقلوا إلى بريطانيا لمتابعة القتال بقيادة الملازم شارل ديغول (De Gaulle) (11) الذي انتقل إلى انجلترا خفية بمساعدة صديقه الانكليزي الجنرال سبيرز (Spears) وهناك أعلن في 18/6/1940 قيام حكومة فرنسا الحرة ومواصلة الحرب ضد الألمان بمساندة بريطانيا. وانقسم الرأي العام الفرنسي بين موالين ومعارضين لحكومة فيشي.‏

        وقد أحدث توقيع فرنسا للهدنة بلبلة شديدة لدى السلطات الفرنسية في الشرق بالرغم من أن سورية ولبنان الواقعتين تحت الاحتلال الفرنسي بعيدان عن منال دول المحور. وقد أذاع المفوض السامي (بيو) في بيروت بأنه لن يتقيد بالهدنة وبأن جيش الشرق بقيادة الجنرال (ميتلهوزر) الذي خلف (ويغاند) سيواصل الحرب مع حلفائه البريطانيين. وماهي إلا فترة حتى تراجع عن تصريحه وأصدر بياناً جديداً يذعن فيه لشروط الهدنة ولحكومة فيشي حفاظاً على الأمــن. فأثار تصريحه موجــة استياء في صفوف فرنسيي الشرق والعرب على السواء. (12)‏

        وقد أظهر الجنرال متلهوزر ميله إلى التحالف مع بريطانيا إلا أن الأحداث لم تلبث أن حولته عن هذه الوجهة. فقد أعلنت حكومة فيشي أن من أهدافها المحافظة على الامبراطورية الفرنسية. ويعتقد كثير من الفرنسيين بحق أن الانجليــز وليس الألمان هم الذين يشكلون الخطر الحقيقي على كيان الامبراطورية ومن هــؤلاء المفــــوض السامـــي بيــــو. (13)‏

        وفي 27 حزيران 1940 أعلن الجنرال (متلهوزر) أنه بحسب شروط الهدنة لن يحدث تغيير في نظام البلاد المشمولة بالانتداب. وتبعاً لذلك فقد أمر بالكف عن القتال وقال : سيبقى علم فرنسا خفاقاً وتواصل مهمتها في المشرق.(14)‏

        لقد تنفست سورية الصعداء بسقوط فرنسا تحت الاحتلال ومعاناتها من سيف الإرهاب، على الرغم مما كان يبديه عمالها من صلف وغطرسة وتناقض عجيب مع الذل الذي أحاق ببلادهم والتظاهر بمظهر القوة والخيلاء في سورية، شأن اللئيم الذي يزهو على الضعيف ويخضع للقوي في وقت واحد. وقد عاد إلى سورية نشاطها الوطني الكفاحي. (15) وأكدت ألمانيا ضرورة منح الاستقلال لكافة الشعوب العربية، وذكرت في إذاعاتها أنها تتابع نضال هذه الأمم من أجل استقلالها، وأن هذه الأمم يمكنها وهي تجاهد أن تعتمد على عطف ألمانيا وتضمنه(15)مكرر.‏

        لقد واتى الدهر السوريين بما أملوا على يديه فإذا جيوش الألمان تدك حصون ماجينودكة واحدة وتصفق سلاسل دباباتهم الجبارة شارع الشانزيليزيه بباريس، وهتلر على رأسها بثقته ومغامرته.‏

        ولم يغير شيء من ذلك شعور الاستعمار في نفوس الفرنسيين، فظلوا في سورية على طريقتهم السابقة. ولكنهم اصطنعوا العظمة المفقودة وازدادوا عتواً في سورية فتصرفوا في المشكلات الإقليمية والمحلية تصرفاً سيئاً مناوئاً. ولعبت أيدي الأجنبي بالدس والمكيدة لتشغل القوم عن مصلحة الشعب وأحداث الحرب بالمآرب الذاتية والخصومة القديمة. وعادت المحن إلى قادة الوطنية وساسة الأمور، بل ازدادت المشاغل والمتاعب بانهماك فرنسا في الحرب وتهافتها جزعاً وخزياً تجاه الألمان الذين اقتحموا حصونها ودوخوا جيشها. فكانت كلما خضعت في بلادها ازدادت عتواً في سورية(16). وكانت حكومة فيشي تناهض الماسونيين(17).‏

        وفي هذه الفترة اغتيل عبدالرحمن الشهبندر الذي كان من دعاة الوحدة العربية مع العراق والأردن حيث النفوذ البريطاني. وشاركت المحافل الماسونية باسم (الشرق الأعظم السوري) بإكليل في جنازته(18).‏

        كما سرت في الأوساط اللبنانية التي كانت تحب فرنسا وتعتز بها موجة حزن على (إذلال تلك الأمة العريقة التي كانت سبباً لنصرة الحرية في العصر الحديث، وحملت مشعل النور إلى الأمم بثقافتها الخالدة وحضارتها الفنية الرفيعة). وكان وقوع هذا الانكسار على فرنسا وهي في لبنان سبب نقمة وحذر واستفزاز(19) ؟! وهلع اللبنانيون من انحياز بيو إلى حكومة فيشي. (20)‏

        3- عودة النضال الوطني في سورية :‏

        حصل تنافس بين حكومة فيشي والجنرال ديغول. وعلى أثر اشتداد الضغط على فرنسا من قبل الألمان، استدعت حكومة فيشي المفوض السامي بيو في تشرين الثاني 1940 إذ أن حجته لم تقنع حكومة فيشي وعينت بدلاً منه (جان كياب Chiappe) مدير البوليس الفرنسي الشهير في كانون الأول 1940. ولكنه قتل في طريقه إلى سورية إذ أسقط البريطانيون طائرته فوق جزيرة رودس. فعينت حكومة فيشي مكانه الجنرال (دانتز Dentz) في 30/12/1940 لحماية سياستها في الشرق من حركة الجنرال ديغول. والجنرال دانتز هو أحد المسيئين لوفد الدروز عندما طلب مقابلة الجنرال سراي عام 1925، وهو الذي وقع صك استسلام باريس. (21) واتضح أن حكومة فيشي تريد الاحتفاظ بنظام الانتداب.‏

        كان موقف فرنسا في سورية تسلطاً وغطرسة لتعوض فيه مالحقها من إهانة في أرضها بدخول الألمان، فشجعت النعرات الطائفية والإقليمية لإلهاء الشعب عن مطالبه الأساسية.‏

        وكان قسم من الوطنيين السوريين الذين كانوا في المنفى قد عادوا إلى أرض الوطن والتف حولهم المخلصون وغيرهم من أبناء الشعب وأصبحوا قوة. غير أن فرنسا عملت على بذر بذور الفرقة بينهم خاصة بعد مقتل الدكتور عبدالرحمن السشهبندر (صيف 1940)(22). فقد كانت السلطات الفرنسية أثناء التحالف مع بريطانيا قد غضت الطرف عن الشهبندر وغيره من الساسة الذين كانوا ينادون بإقامة ملكية دستورية واعتبروا لذلك أصدقاء للانجليز على أساس أن هذه الملكية ستؤدي إلى نوع من الاتحاد مع العراق أو الأردن. ولذلك نشأ احتمال قوي بأن يكون لحكومة فيشي صلة باغتيال الشهبندر ولو أن السلطات الفرنسية عمدت إلى تغطية موقفها بإعدام عدد من الأشخاص أخذوا جزافاً ليكونوا كبش الفداء. (23)‏

        وقد برز من الوطنيين القدامى شكري القوتلي الذي آلمه اختلاف الأحزاب واستغلال الأجنبي هذا الاختلاف لمصلحته وحده. فقام يدعو إلى التضامن وتوحيد الصف ونبذ الحقد والتحاسد لكي تواجه البلاد سياسة الفرنسيين الذين خالفوا العهد والميثاق وتنكروا للسوريين تنكراً شائناً تجلى فيه استبدادهم وجبروتهم وهم يعانون في بلادهم الهزيمة والهوان. فآزره الجميع والتفوا حوله. وبدأت الاضطرابات في سورية وأخذ الوطنيون يسعون للتخلص من الحكم الأجنبي.‏

        وقد نشر القوتلي بياناً ضد حكومة المديرين في آذار 1941 جاء فيه : "إن البلاد السورية لاترضى عن هذا الاضطهاد والإهمال ولابد من العمل على إنقاذها وإن تكن الحرب قائمة، فالمطالب القومية لاتتحقق في نظام استعماري عانى منه الشعب ظلماً وحرماناً ولم يتغير مهما اختلف الشكل والسبب. ولاعذر في قيام الحرب فقد يطول أجلها. وسورية طال انتظارها وصبرها على ادعاء المحتل قيامه بالمهمة التي انتدبته من أجلها عصبة الأمم. وما كان حكمه إلا استعمارياً يعادي هدف المهمة الأولى. بل إن جمعية الأمم أوقفت أعمالها"(24).‏

        وبمضي الوقت كانت العلاقات تزداد سوءاً بين بريطانيا وبين سلطات حكومة فيشي فأقفلت الحدود بين سورية ولبنان من جهة وبين الأقطار الخاضعة للنفوذ البريطاني والمحيطة بها من جهة أخرى. وقد أضر ذلك بالاقتصاد السوري إضراراً بالغاً. وشغلت السلطات الفرنسية بإبعاد الأشخاص المعروفين بميولهم الانكليزية وانعكس ذلك على السوريين أيضاً.(25)‏

        وكانت الأزمة الاقتصادية تزيد من عوامل السخط على السلطات الفرنسية، بالإضافة إلى الحصار الذي حرم سورية من الاتجار مع الأقطار المحيطة بها، انخفض سعر الفرنك الفرنسي انخفاضاً كبيراً في سنة 1940. وذلك لأن بريطانيا كانت قد حددت له سعراً مجزياً بالنسبة للاسترليني في بداية الحرب. فلما انقطعت التجارة مع الأقطار المحيطة بسورية والتي ترتبط بمنطقة الاسترليني حدث هذا الانخفاض. وفقد التجار ثقتهم بالعملة الورقية التي يصدرها بنك سورية ولبنان. وهو مؤسـس برؤوس أموال فرنسية.‏

        وبالرغم من أن سورية تصدر القمح للأقطار المجاورة، فإن كبار الملاك رفضوا أن يبيعوا القمح بالسعر المنخفض وأصروا على بيعه بالعملة الذهبية، ومن هنا انتشرت السوق السوداء نتيجة جشع الملاك والتجار الذين اختزنوا القمح. وهددت المجاعة سورية، ولدى السوريين عقد من هذه الناحية ترجع إلى أيام الحرب العالمية الأولى .‏

        وفي أوائل آذار 1941 حدثت في سورية اضطرابات في المدن السورية بسبب قلة المواد الغذائية والضرائب المرهقة والمطالبة بإلغاء الانتداب واستقلال البلاد. وكانت المظاهرات التي عمت المدن السورية في أوائل 1941 تنادي (نريد الخبز والزيت والسكر). فأمر (دانتز) بتدخل الجنود ولكنه عاد فأخذ بالتساهل وحاول معالجة المشكلات القائمة بالأساليب السهلة والتدابير الهينة، على حين أنه، وكما قال الجنرال كاترو نفسه، لم يبق لفرنسا مقام في الشرق.‏

        المهم أن السلطات الفرنسية عجزت تماماً عن مواجهة الأزمة وعرضت أن تشتري القمح بسعر العام السابق. إلا أن الملاك امتنعوا عن بيعه وآثروا اختزانه فالتجأ المفوض السامي دانتز إلى شكري القوتلي ليعينه على مواجهة الأزمة، ويبدو أنه لاحظ صعود نجمه في أوساط الكتلة الوطنية.(26) وهكذا تسبب الصراع بين حكومة فيشي وحكومة فرنسا الحرة تجاه المستعمرات إلى تسابقهما على اكتساب ود الوطنيين.‏

        وقد رأى القوتلي في هذه الظروف فرصة لاتعوض للتذكير بالمطالب الوطنية وهي إلغاء نظام المديرين وإعادة العمل بالدستور وإجراء انتخابات حرة حتى تتسلم الحكومة التي تعبر عن الإرادة الشعبية السلطة من يد الانتداب.‏

        وقد نفذ دانتز بعض هذه المطالب في أضيق نطاق، فبسبب هذه الظروف اضطرت حكومة المديرين إلى الاستقالة، فدعا دانتز خالد العظم إلى تشكيل مجلس وزراء في 3/4/1941 والذي تسلم أيضاً وزارة الداخلية، وحنين صحناوي للمالية وصفوت قطر أغاسي للعدلية ونسيب البكري للاقتصاد الوطني والزراعة ومحسن البرازي للمعارف. وقد ألفت هذه الوزارة بصورة مؤقتة لايجاد دولة مستقلة .‏

        وينتمي خالد العظم إلى كبار الرأسمالين الذين لايمثلون حزباً سياسياً معيناً، ولذلك اختار وزراءه من رجال الأعمال والفنيين. ولم تشترك الكتلة الوطنية في الوزارة الجديدة. واعتذر دانتز عن إجراء الانتخابات النيابية أو رفع الرقابة عن الصحف والحريات العامة بسبب ظروف الحرب. وأبدى استعداده لتعيين مجلس دولة يتولى السلطة التشريعية. وقد أجاب الوطنيون على ذلك بأن الحرب انتهت بالنسبة لفرنسا كما أن حكومة فيشي قد انسحبت من العصبة وأن الانتداب هو من الأنظمة التي وضعتها تلك الهيئة(27).‏

        وكانت الأزمة الاقتصادية متأججة، وعين حسن جبارة مديراً لدائرة الاعاشة. ويذكر خالد العظم حول قضية تأمين الحبوب للبنان أنه عهد بها إلى لجنة مؤلفة من مندوب سوري ومندوب لبناني تحت رئاسة مندوب عن المفوض السامي. وأنهم استطاعوا بفضل اشتراكهم في اللجنة الحد من جور سياسة المفوض التي كانت ترجح دائماً مصلحة لبنان المستهلك على حساب سورية المنتجة(28) .‏

        واشتد خوف اللبنانيين بعد تعيين الجنرال دانتز (30/12/1940) مفوضاً سامياً وقائداً عاماً لقوات الفرنسيين في الشرق. وصح حدس اللبنانيين تجاه دانتر عندما بادر إلى إنذار كل من لايتعاون مع السلطات الفيشية. ومن أظهر تمرداً واستياء حوكم أو فرضت عليه الإقامة الجبرية. وقيدت حرية الرأي والتعبير والاجتماع. وتردت الحالة الاقتصادية فعمت الاضطرابات وسارت المظاهرات وسقط القتلى في كل من دمشق وبيروت. وأصدق تعبير عن تلك الأحوال ماورد في أحد تقارير دانتز: "علي أن أكسب معركة القمح ولكن الجميع ضدي".‏

        وماهي إلا فترة حتى استقال اميل اده احتجاجاً (أو أقاله دانتز) ومعه أمين سر الدولة عبدالله بيهم في 4نيسان1941 فعين دانتز القاضي الفرد نقاش رئيساً للدولة بايعاز من الآباء اليسوعيين. وتألـفت وزارة اختير أعضاؤها من بين من أسلسوا القياد للمفوضية الفرنسية برئاسة أحمد الداعوق. وأمت البلاد لجنة ألمانية - ايطالية أضحت صاحبة النفوذ في تسيير الشؤون(29). وقد أرسل دانتز إلى السجن بعض الوطنيين وكم الأفواه وفرض الإقامة الجبرية على بعض ذوي الرأي السياسي في البلاد(30). وقامت المظاهرات بسبب سوء توزيع المواد الغذائية(31) .‏

        ولعل دانتز حاول التقرب من المسلمين في لبنان فكان الفرنسي الوحيد الذي زار (جمعية المقاصد الإسلامية) عام 1941. فقد كان المسلمون في لبنان منذ بداية الاحتلال يقفون موقفاً سلبياً من الانتداب، وشكلت سلبيتهم مشكلة حادة لسلطات الانتداب، حتى أنه طيلة عهد الانتداب لم يدخل العلم الفرنسي أو النشيد الفرنسي إلى (المقاصد). وكان الطلاب في المقاصد ينشدون "أنت سورية بلادي"(32).‏

        4- حملة الحلفاء على سورية ولبنان في 8 حزيران 1941 :‏

        في أوائل تموز 1940 تأزمت العلاقات بين بريطانيا وبين حكومة فيشي وانقطعت العلاقات الدبلوماسية. ولذلك كان على بريطانيا أن تحدد موقفها من سلطات فيشي في ســورية ولبنان سيما وأن موقع القطرين يؤثر تأثيراً مباشراً على مركــز بريطانيا الحربي في الشرق الأوسط. وإذا تسللت إليهما القوات الألمانية فإن ذلك سيجعل مصر وقناة السويس بين فكي كماشة محورية. وتصبح مراكز البترول في خطر وتضطرب المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق. ولهذا الغرض أصدرت الحكومة البريطانية في 2/7/1940 تصريحاً حول إعلان الجنرال (متلهوزر) انتهاء الحرب في سورية وحذرت من احتلال ألمانيا وايطاليا لها وأنها لن تسمح بذلك او استخدامها كقاعدة للهجوم على أقطار الشرق الأوسط أو أن تصبح مركزاً للاضطرابات يشكل خطراً على هذه الأقطار. وأكدت أن أي عمل ستتخذه بريطانيا لن يكون له تأثير في المستقبل على الوضع السياسي لهذه الأقاليم الواقعة تحت الانتداب الفرنسي(33).‏

        ولما كانت الأحداث تتوالى بسرعة آخذة بعضها برقاب بعض، رأت الحكومة البريطانية أن تتصل بالجنرال دانتز بواسطة قنصلها العام في بيروت لتستوضح موقفه فيما إذا جرى حادث عسكري فأجاب أنه سيقاوم الألمان(34).‏

        ومما زاد العلاقات توتراً مجيء لجنة الهدنة التابعة للمحور إلى سورية ولبنان في أيلول 1940 للإشراف على تنفيذ شروط الهدنة مع فرنسا ولإقامة اتصال مع هذين الاقليمين. وكان هدفها التحقق من الإفراج عن رعايا الألمان والطليان الذين قبض عليهم عند قيام الحرب، وكذلك رفع إجراءات الحراسة التي اتخذت ضدهم. ثم كان على تلك اللجان أن تتحقق من أن حكومة فيشي لاتتخذ من المستعمرات قاعدة لزيادة قواتها العسكرية فوق ما تسمح به الهدنة. وأشرفت اللجنة على الدعاية لدول المحور من خلال إذاعة (راديو الشرق) ومن خلال الصحف(35). وكانت إذاعتي برلين وباري تشنان حملات دعائية فاضحة للاستعمار البريطاني في العالم العربي بشكل عام وفي مشكلة فلسطين بشكل خاص .‏

        وتلا هذه اللجان تردد بعض الشخصيات الألمانية على سورية وكان بعضها يمثل رجال الأعمال وبعض عمالهم الذين اعتقلوا عند إعلان الحرب. أما في أوائل 1941 فقد وفد على دمشق مندوب من وزارة الخارجية الألمانية هو (فون هنتنغ) الذي كان يعد ممثلاً لهتلر والذي عين وزيراً مفوضاً في العاصمة السورية. وكان هنتنغ معروفاً بنشاط سابق في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى حتى لقب بلورنس الألماني .‏

        وفي دمشق جمع هنتنغ حوله بعض الزعماء التقليديين واستخدم موضوع الوطن القومي لليهود في فلسطين كوسيلة لاجتذاب عواطف الجماهير نحو المحور وإثارة شعور البغضاء للبريطانيين بين الشعوب العربية في الشرق. ويقال إنه روج لفكرة عقد مؤتمر إسلامي في دمشق لبحث هذه القضية. وكان هنتنغ يعقد الاجتماعات ويقيم الحفلات ويعرض أشرطة سينمائية تشمل انتصارات ألمانيا الساحقة في فرنسا. وكان كل ذلك يمر بالجنرال دانتز وكأنه في غفلة عنه. ولم يكن يسر السلطات الفرنسية هذا التسلل الألماني إلى المستعمرات لأن سياسة فيشي هي المحافظة على الامبراطورية ضد الأطماع الألمانية والبريطانية معاً. ولذلك طلبت إبعاد هنتنغ عن البلاد واستجابت ألمانيا لهذا الطلب بعد شهرين من تعيينه(36).‏

        وفي هذه الأثناء كانت بريطانيا تراقب الأحداث في المشرق العربي بقلق بالغ وكان أكثر مايثير قلقها ثورة رشيد عالي الكيلاني في 2/4/1941 في العراق والتسهيلات التي قدمت للطائرات الألمانية في سورية في مطاري (رياق وحلب) وغير ذلك من التسهيلات لتقديم الإمدادات للثورة وتشجيع السوريين على التطوع للقتال بجانب الحركة العراقية. مما أثار مخاوف الانكليز وجعلهم ينزلون عند إلحاح الجنرال دوغول بضرورة احتلال سورية ولبنان، ويتمسك أن تقوم به القوى الفرنسية وحدها. واستفاد الجنرال كاترو من أحداث ثورة الكيلاني ليقنع حلفاءه البريطانيين بتوجيه حملة لتطهير سورية ولبنان من القوات الفيشية(37) .‏

        ويروي دانتز أنه طلب إبعاد جميع العسكريين الألمان الذين وصلوا إلى سورية خلال شهر أيار 1941 على إثر انتهاء حركة الكيلاني (30/5/1941). وكان هذا هو رأي حكومة فيشي أيضاً. وسواءاً كان هناك تسلل ألماني على نطاق واسع أم ضيق، فإن الحملة الانجليزية الفرنسية المشتركة أصبحت ممكنة في أوائل حزيران1941 من الناحية العسكرية بسبب الانسحاب من كريت والقضاء على ثورة العراق(38).‏

        لقد قررت بريطانيا العمل على تحرير سورية من النفوذ الألماني بالاشتراك مع قوات فرنسا الحرة. وقد بدأت أنظارها تتجه إلى أهمية سورية خوفاً من السيطرة الألمانية عليها وعلى طرق المواصلات وتهديد قناة السويس ومناطق البترول .‏

        وكانت الحكومة البريطانية منذ شباط 1941 قد بعثت بتعليمات سرية إلى جلوب باشا و(إلك كركبرايد) بوجوب الاتصال الوثيق بسكان سورية لتنظيم المقاومة ضد حكومة فيشي، ووضعت الأموال تحت تصرفهم لهذا الغرض، واتفق على أن يعمل (كركبرايد) إلى جانب الدروز وأن يقوم جلوب بالعمل مع القبائل السورية. ولما أخذت الحكومة البريطانية في الاعتبار غزو سورية من شرق الأردن عام 1941، كان جبل الدروز عظيم الأهمية إذ يصبح خلف جناح الجيش الأيمن ومؤخرته في حالة تقدم القوات البريطانية رأساً إلى دمشق. ولو ظل الدروز على موقف العداء، فإن ذلك يمكنهم من تدمير مواصلات الجيش الزاحف نحو دمشق. وهكذا كان على (كركبرايد) أن يوطد العلاقات مع زعماء الدروز للحيلولة دون هذه الحركة، كما بدأ جلوب بالاتصال مع القبائل الضاربة إلى الشرق من حمص وحماة ودمشق(39).‏

        وضعت بريطانيا خطة الحملة على سورية ولبنان بصورة مبدئية في 25 نيسان 1941، إلا أن كثرة أعباء القيادة البريطانية في الشرق الأوسط وتعدد واجباتها أدى إلى تأجيلها. وكانت السياسة البريطانية قد اتخذت موقف الحذر نحو المستعمرات الفرنسية حتى لاتجر حكومة فيشي إلى الحرب بجانب الألمان. على أن تلك السياسة لم تمنع بريطانيا من مساعدة ديجول للاحتفاظ بالمستعمرات. ولكن فشل ديجول في أيلول 1940 في دكار بالسنغال هز ثقة بريطانيا بحكومة فرنسا الحرة فتوقفت عن فكرة مساعدتها للاستيلاء على دولتي المشرق (سورية ولبنان). ولكن أحداث العراق دفعت بريطانيا إلى التدخل(40).‏

        ولم يتوقف نشاط الفرنسيين تماماً في الشرق الأوسط، فقد عينت حكومة فرنسا الحرة الجنرال كاترو مندوباً لها في القاهرة. وأخذ يجمع شتات الجالية الفرنسية في مصر وفلسطين ليكون منها جيشاً صغيراً يمكن استخدامه يوماً لانتزاع سورية ولبنان من حكومة فيشي. وكانت الحكومة المصرية تقدم له كثيراً من التسهيلات(41).‏

        وكان الجنرال كاترو يوجه نداءات من إذاعة القاهرة داعياً فرنسيي الشرق إلى الانضمام لحركة الجنرال ديغول(42). ولقد حاول بعض الموظفين القيام بمؤامرة ضد بيو ومتلهوزر لتسليم مقاليد الأمور للجنرال كاترو ممثل الجنرال ديغول في القاهرة والذي أذاع بياناً واعداً فيه اللبنانيين والسوريين بالاستقلال ساعة تطأ فرنسا الحرة أراضيهم. ولكن انفضاح أمرهم بواسطة مدير الأمن العام (كولومباني) جعلهم يستكينون وعم الذعرفي الأوساط العربية. وحاول كاترو في البدء اللجوء إلى انقلاب يتخلص فيه من الجنرال دانتز ولما فشل وجد أن لابد من الاحتلال العسكري(43).‏

        ويبدو أن الفرنسيين كانوا يواجهون احتمال تدخل بريطانيا منفردة أو بالاشتراك مع تركيا في حالة تسلل المحور إلى سورية ولبنان، ويعتقدون بأن تركيا ستنتهز هذه الفرصة لتحقيق أطماعها في ضم جزء من حلب علاوة على الاسكندرونة التي تم الاستيلاء عليها منذ قليل (تموز 1939). وكانت التعليمات الموجهة إلى كاترو هي ضرورة إشراك فرنسا الحرة في أية حملة من هذا النوع ولو بقوات رمزية(44).‏

        ولم يكن الألمان حريصون على إعلان دعمهم لاستقلال سورية ولبنان وكل سورية الطبيعية والعراق (الهلال الخصيب) خشية إثارة ديغول واشتداد معارضته(45).‏

        وكان المقرر أن تبدأ الحركات العسكرية في فجر الثامن من حزيران 1941. ورغبة في كسب ود الشعبين السوري واللبناني تم الاتفاق بين انكلترا وفرنسا الحرة على إعلان استقلال لبنان وسورية قبل دخول جيوشهما إلى هذين البلدين(46) كتمهيد للحملة. فقد كانت بريطانيا قد قررت اتباع سياسة جديدة بشكل يزيد من نفوذها وهي سياسة تأييد فكرة التقارب بين مختلف الدول العربية في المنطقة .‏

        وكان أنتوني ايدن قد صرح في 29/5/1941 : "إن من الطبيعي ومن الحق وجوب تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية. وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة"(47).‏

        وقبل بدء الحملة بساعات وجه الجنرال كاترو دعوة إلى الجنود الفرنسيين في المشرق قائلاً أنه يدخل سورية باسم فرنسا ولأجل فرنسا. ولم يلتحق به إلا الكولونيل (كوله) (Collet) الذي رفع إلى رتبة جنرال، على رأس فريق من كتيبة الشركس، فسبب ذلك نقمة سائر الضباط التابعين لفيشي عليه. وكان عدد القوات البريطانية (12000) فقط وعدد القوات الفرنسية (2500-3000) فقط لذلك كان عليها الحصول على تأييد السكان(48).‏

        وفي التاريخ نفسه 8/6/1941 ألقت الطائرات البريطانية على سورية ولبنان آلاف النسخ من بيان الجنرال كاترو وفيه يقول :‏

        " أيها السوريون واللبنانيون الكــرام :‏

        في الوقت الذي تدخل فيه قوات الفرنسيين الأحرار، بالاتحاد مع قوات حليفتهم الامبراطورية البريطانية، إلى بلادكم، أصرح بأنني قد توليت سلطات ممثل فرنسا في الشرق ومسؤولياته وواجباته، وذلك باسم فرنسا الحرة، فرنسا ذات التقاليد المجيدة فرنسا الحقيقية وباسم زعيمها الجنرال ديغول.‏

        وإني قادم إليكم بهذه الصفة لإنهاء عهد الانتداب ولأعلن حريتكم واستقلالكم. وبناء على ذلك، ستصبحون من الآن فصاعداً شعباً حراً ذا سيادة، (سواء بقيتم منفصلين أو كنتم دولة واحدة)، وستتمكنون من أن تؤلفوا لأنفسكم دولاً منفردة أو أن تتحدوا في دولة واحدة، وفي أي من الحالتين سيضمن استقلالكم وتكفل سيادتكم بمعاهدة توضح بها العلائق المتبادلة بيننا. وستجري المفاوضات لعقد هذه المعاهدة بين ممثليكم وبيني في أقرب مايمكن. وريثما تعقد هذه المعاهدة سيكون موقف بعضنا من بعض موقف الحليف من حليفه، متحدين معاً كل الاتحاد في سبيل مثل أعلى واحد وأهداف مشتركة" .‏

        وذكر كاترو أنهم لايسمحون بأن تسلم "الشعوب التي وعدت فرنسا بالدفاع عنها" إلى أشد المتسلطين الذين عرفهم التاريخ قسوة. ولن تسمح بأن تسلم للعدو "مالفرنسا من مصالح قديمة في الشرق". ثم أشار إلى رفع الحظر وإنشاء العلاقات مع البلدان الداخلة في نطاق الجنيه الاسترليني إذ تعهدت الحكومة البريطانية بالاتفاق مع فرنسا الحرة بأن تبذل لكم جميل المزايا والفوائد التي تتمتع بها البلدان الحرة المرتبطة معها. وختم كلامه بقوله : "لقد أزفت ساعة عظمى في تاريخكم، إن فرنسا بصوت أبنائها الذين يحاربون من أجل حياتها ومن أجل حرية العالم تعلن استقلالكم"(49).‏

        وقد رأت الحكومة البريطانية أنها بإصدار تصريح مماثل ستزيد من ثقة السوريين بقيمته لذلك نشر (سيرمايلز لامبسون سفير بريطانيا في مصر) في نفس اليوم تصريحاً بهذا المعنى ذكر فيه أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية فوضته بأن يعلن تأييد ضمان الاستقلال الذي أعطاه الجنرال كاترو بالنيابة عن الجنرال ديغول واشتراكه به. وأضاف إلى ذلك ذكر ماتجنيه البلاد إذا أيدت الحلفاء وانضمت إليهم من الفوائد الكبرى في تجارتها وإنشاء العلاقات مع البلدان الداخلة في نطاق الجنيه الاسترليني(50).‏

        بل إن بريطانيا أذاعت هذا الاعتراف الفرنسي باستقلال سورية ولبنان على لسان رئيس وزرائها تشرشل ووزير خارجيتها ايدن(51). ولم ترق هذه الضمانة للجنة فرنسا الحرة وحاولت أن تعارضها وتتخلص منها. ولكن البريطانيين أصروا على ذلك لأنهم يقدمون كل مايلزم لفرنسا الحرة والجنرال ديغول في الميادين الاقتصادية والعسكرية. فلم يسع فرنسا الحرة إلا القبول. وجدير بالذكر أن الجنرال كاترو تجنب ذكر بيان السر مايلزلامبسون في مذكراته التي بحثت عن معركة المتوسط وجمعت مئات الصفحات(52).‏

        وبينما يدعي كاترو أن منح الاستقلال لسورية ولبنان هي سياسة فرنسا الحرة وقد أفضى بها إلى ايدن وزير الخارجية أثناء التقائهما في القاهرة، يستنتج من مذكرات تشرشل أن الحكومة البريطانية مارست ضغطاً ماعلى فرنسا لإصدار تصريح إعلان استقلال سورية ولبنان. وكان تشرشل قد أرسل في 6/6/1941 برقية إلى الجنرال ديغول، وهو واضع نصب عينيه النواحي القلقة والطبائع المختلفة في الأمور التي يعالجها معه. فتمنى النجاح للمساعي المبذولة في الشرق وأن يكون ذلك مرضاة له. وبحث عن السياسة المقبلة للدولتين في الشرق الأوسط وبلاد العرب، راجياً أن تسير في خطوط متشابهة. وصرح بأنه ليس لانكلترا مأرب خاص في الامبراطورية الفرنسية ولاتريد مطلقاً أن تحرز فائدة لها من حالة فرنسا المحزنة. ثم رحب بقرار الجنرال ديغول بمنح سورية ولبنان الاستقلال وأشار إلى الضمانة البريطانية ومافيها من قوة. وأبدى حرصه على تجنب كل مايهدد الاستقرار في الشرق، واستنتج من ذلك وجوب صنع كل شيء مستطاع لتحقيق آمال العرب ورغائبهم(52) واحترام مشاعرهم.‏

        ولم يخف الجنرال ديغول الدور البريطاني وتأثيره في مجرى الأحداث، فيقول في هذا الصدد : "بينما كان الانجليز والفرنسيون الأحرار يستعدون للعمل سوية في الميدان العسكري، فإن تنافسهما السياسي بدأ يرتسم وراء الواجهة، وبدأت السياسة الانجليزية تمهد لتحل محل فرنسا في دمشق وبيروت. فيما كان كاترو يستعد لإعلان بيانه بالاستقلال، طلب السيرمايلز لمبسون أن يكون الإعلان باسم بريطانيا وفرنسا الحرة معاً. فرفضت بطبيعة الحال. عندها أصر السفير لمبسون أن يتضمن الإعلان ضمان بريطانيا لوعدنا هذا فلم أقبل هذا الطلب، مشيراً إلى أن كلام فرنسا لايحتاج إلى ضمانة أجنبية. فأبرق إلي المستر تشرشل في 6/6/1941 عشية الحملة يعبر لي عن تمنياته القلبية وأكد على الأهمية التي تمثلها هذه الضمانة، فأجبته على هذه التمنيات ولكن ليس على هذا الادعاء... وأخيراً أعلن بيان كاترو كما كان يجب أن يكون. وحالاً أصدرت حكومة لندن بياناً آخر منفصلاً باسمها...." (55).‏

        ولم تحدث التصريحات صدى يذكر في حينها. ويمكن القول بأن معظم أهل سورية ولبنان وقفوا موقف المترقب وإن كان من المؤكد أن كبار التجار والملاك الزراعيين كانوا يرحبون باحتلال الحلفاء الذي سيعيد فتح أسواق الأقطار المجاورة. ثم إن التصريح يشير إلى معاهدة لايعرف السوريون ماوراءها. وإذن فإن الصراع كان أساساً بين سلطات فيشي وبين القوات الانكليزية ووحدات فرنسا الحرة التي اشتركت معها(54).‏

        ومايمكن قراءته بوضوح من خلال هذا الوعد باستقلال سورية ولبنان تعاظم الدور البريطاني في المنطقة. إلا أن مايجب تسجيله في هذا الصدد أن ذلك الوعد يعلق مصير لبنان وسورية من حيث الوحدة أو الانفصال على إرادة شعبيهما (على عكس التجزئة المفروضة). وهذا تطور مهم في الموقف الفرنسي نعتقد أنه يعود بالدرجة الأولى إلى خضوعه لتأثير النفوذ البريطاني الذي أخذ ينظر للمنطقة العربية كوحدة متكاملة(56).‏

        وانطلقت الحملة العسكرية الانكليزية بقيادة الجنرال ميتلاند ويلسون بقوات معظمها بريطانية من فلسطين وشرق الأردن بمساندة فرق من الفرنسيين الأحرار بقيادة الجنرال كاترو، إلى سورية ولبنان وعبر ثلاثة محاور : من الساحل نحو الناقورة، ومن الوسط نحو مرجعيون، ومن الداخل باتجاه القنيطرة، نحو دمشق (معارك درعا). ودارت معارك عنيفة في مرجعيون وجزين والدامور. وتعرضت مدينة بيروت للعديد من الغارات الجوية(57)، إذ جعل الفرنسيون مدافعهم المضادة للطائرات وسط الأحياء وبين المنازل. ونشطت الطائرات البريطانية في إلقاء المناشير تطميناً للأهالي.‏

        وفي بداية الأمر لم تصادف قوات الحلفاء مقاومة تذكر حتى اقتربت من العاصمة السورية من جهة الجنوب. ويبدو أن سلطات فيشي لم تكن على علم بضآلة عدد القوات المهاجمة بينما كانت تحتفظ هي بنحو (35000) جندي. فلما تبينت قلة عدد قوات الحلفاء شنت هجوماً مضاداً. وفي 16/6/1941 استردت القنيطرة ومرجعيون، واضطرت بريطانيا إلى إرسال تعزيزات جديدة لم تكن متوقعة. فقد اضطرت القيادة البريطانية إلى إشراك قواتها الموجودة في العراق والتي كانت تضم قوة البادية الأردنية، حيث احتشدت في المفرق في 21/6/1941 بعد أن عززت في شرق الأردن. وألقى فيها الأمير عبدالله خطاباً حث أفرادها على تحرير سورية، قائلاً : "إن ساعة تحرير سورية قد دنت وأن هذه الفرصة الذهبية قد تكون حاسمة في تاريح العرب"(58). وكان هذا الخطاب إشارة واضحة إلى أطماع عبدالله في مشروع سورية الكبرى.‏

        وحينذاك قرر الجنرال دانتز أنه لابد من تأييد ألماني إذا أريد الاحتفاظ بدولتي المشرق. إلا أن أحداً في فرنسا لم يكن يحب الاستعانة بالألمان في المستعمرات، واستقر الرأي على أن الألمان إذا دخلوا سورية فلن يخرجوا منها، ولذلك تيقن الفيشيون أن ميزان القوى ليس في صالحهم، وأنه يتعذر وصول النجدات إليهم عن طريق البر والبحر، وبعد فداحة الخسائر في صفوفهم، لذا طلب دانتز في 21/6/1941 التعرف على شروط الحلفاء لعقد الهدنة فأجيب بأنه سيسمح بترحيل الجيش الفرنسي مع جميع مظاهر الشرف العسكري.‏

        وفي أثناء المحادثات سقطت دمشق في 21/6، وفي 14/7/1941 احتلت البلاد السورية بكاملها. وتوسطت الولايات المتحدة للإسراع بالهدنة، ولم يشرك الجنرال ديجول في توقيعها لأن سلطات فيشي كانت تعتبره عاصياً. ولذا فإن إشراكه في المحادثات من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً، ولذلك فإن دانتز فاوض الانكليز مشترطاً استبعاد الفرنسيين الأحرار. وأخيراً تم توقيع الهدنة في عكا في 14/7/1941. وتتناول شروط الهدنة تنظيم العلاقة بين فيشي والحلفاء، ولا يخص وضع السوريين سوى بند واحد وهو ألا تتبع بريطانيا أحداً من أهل سورية ولبنان ممن قاتلوا بجانب قوات فيشي(59).‏

        وبالفعل فقد غادر البلاد عدد من الضباط والموظفين الفرنسيين ليلتحقوا بفرنسا الفيشية، بينما بقي عدد منهم وانضموا إلى قوات فرنسا الحرة(60). وخضعت سورية ولبنان للقوات الحليفة.‏

        وتعرضت مدينة بيروت للعديد من الغارات الجوية أثناء الحملة. وبسبب احتدام المعارك وعنف المقاومة وغارات الطيران عم الذعر في بيروت ونزح العديد من الأهالي من المدن الساحلية إلى الجبال فارتفعت أكلاف النقل بعد فقدان الوقود، وقلت المواد الغذائية بسبب الحصار وازدادت أسعارها. وبذل الرئيس الفرد نقاش جهده لتخفيف هذه الأزمة، وحث المفوض السامي على إنقاذ بيروت من التدمير، وقدم إليه مذكرة جريئة لوقف القتال وإنقاذ المدنيين وإعلان بيروت مدينة مفتوحة(61). وقد قلق اللبنانيون عامة وأهل بيروت خاصة من معارك الفئتين الفرنسيتين. وخشوا على بلادهم من الخراب والتدمير(62).‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

          الفصل الأول

          1- موقف سورية ولبنان من اندلاع الحرب :‏

          كانت بوادر الحرب إحدى الحجج الفرنسية لعدم تصديق المعاهدتين مع سورية ولبنان. وتبعها إجراءات المفوض السامي في 8/7/1939 بهدم جمهورية المعاهدة في سورية بعد استقالة الوزارة ثم رئيس الجمهورية، فقد أوقف الدستور وحل المجلس النيابي وشكل مجلس مديرين للحكم تحت سلطته المباشرة .(1)‏

          ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية في 2/9/1939 سارع المفوض السامي بيو (Puaux) إلى إصدار قرار في 21/9/1939 بحل المجلس النيابي اللبناني (60 نائب) وعطل الدستور وأقال الوزارة بحجة الحرب والظروف العسكرية. ولم يبق الفرنسيون من مظاهر الحكم الوطني سوى رئاسة الجمهورية (الرئيس اميل اده) الذي كان رمزاً للنتاج الكامل للثقافة الفرنسية، دون أن تكون له سلطات فعلية، ويعاونه مجلس مديرين برئاسة أمين سر الدولة عبداللــه بيهم لتسيير أمور الدولة. وأضحى الحكم شبه عسكري على غرار ماكان قد فعله في ســورية مــن قبـــل.‏

          وأرفق بيو قرار حل المجلس النيابي اللبناني برسالة عدد فيها مساوىء الحكم البرلماني بأنه ترف في محاولة لتبرير تعطيل الحياة الدستورية. ووضع الفرنسيون (شوفلر) حاكماً فعلياً للبنان. وكان هدف بيو الفعلي أن لايثير غيرة الشعب السوري الذي فقد مؤسـساته الدستورية. ثم وجه بيو إلى اللبنانيين والسوريين نداءات بالإذاعة للوقوف بجانب فرنسا في الحرب، وأكد أن لبنان مرتبط بفرنسا وحريته من حريتها. (2) وأضحت سورية ولبنان في حالة حرب بسبب وقوعهما تحت الإ حتلال الفرنسي.‏

          وكانت فرنسا قد قررت اتباع سياسة عنيفة في سورية ولبنان عند اندلاع الحرب، فعينت أحد العسكريين اليمينيين ليجمع في سورية بين السلطتين العسكرية والمدنية واختارت لذلك الجنرال مكسيم وبجان. ولم يكن ثمة مبرر لهذا التشدد لأن سورية ولبنان يقعان بعيداً عن ميادين القتال ولم تكن ايطاليا قد دخلت الحرب بعد. (3)‏

          وخضعت سورية ولبنان للتدابير العسكرية فقد أعلن المفوض السامي الأحكام العرفية بحجة الضرورات الحربية. وخنق الفرنسيون الحريات وبدأت موجة من الإرهاب. واتخذت تدابير احترازية لحراسة الجسور وحلت الأحزاب ومنعت الاجتماعات والتظاهرات وفرضت الرقابة على الصحف والمطبوعات والمراسلات. وقلت المواد الغذائية في الأسواق وارتفعت أسعارها وجرى تقنين المواد الغذائية ومصادرة كل مايمكن أن يفيد الجيش. (4)‏

          ولم يتبع الفرنسيون الحكمة والروية إبان هذه الحرب، بل إنهم قاموا منذ إعلانها بسياسة انعكاسية رجعية جددوا بها عهد الاضطهاد واسترسلوا بالطغيان والسيطرة على المراكز الحساسة. وداخلتهم حالات نفسية من الارتياب والنزق أطاشت سهامهم في الكيد والافتراء فكانوا يجدون في سورية خصماً عنيداً ومتربصاً لهم(5) .‏

          غير أن الأمور استمرت في التدهور وتفاقم الوضعين العسكري والسياسي وازدادت الأوضاع في سورية سوءاً واضطراباً فحكمت فرنسا سورية حكماً مباشراً وكان موقفها تسلطاً وغطرسة. وهكذا كانت سورية ولبنان في نفس الظروف كنتيجة طبيعية للاتحاد السياسي القائم بينهما الذي يديره المفوض السامي الفرنسي وللوحدة الاقتصادية التامة بينهما أيضاً.‏

          وفرض الانكليز حصاراً بحرياً على الشواطىء السورية واللبنانية وفرضوا رقابة مشددة على التبادل التجاري مع فلسطين والعراق وشرق الأردن(6) .‏

          وكان دخول فرنسا في الحرب مبعثاً للأمل والارتقاب للشعب المغلوب على أمره في الخلاص من فرنسا المحتلة. فقد طغت على لبنان موجة قلق خاصة ووجوم، ونظم الأهالي العديد من المظاهرات احتجاجاً على سوء الوضع الاقتصادي(7) .‏

          ولما كانت فرنسا تدير الوحدة السورية اللبنانية بسلطتها الواحدة إلا أنها كانت تعمل على تهيئة وتغذية كل ما من شأنه تقوية انفصال لبنان عن سورية وتعامل دولة لبنان معاملة خاصة متميزة على حساب دولة سورية، إلا أن فرنسا عادت لتعامل سورية ولبنان كوحدة واحدة تحت ظروف الحرب التي زادت من ترابط الشعب تجاه الاحتلال الفرنسي.‏

          وارتفعت أسعار المواد الغذائية واختفت البضائع من الأسواق اللبنانية عند دخول ايطاليا الحرب (10/5/1940). وازدادت عراقيل الاستيراد من الخارج. وقامت دولة المحتكرين ولم تجد معها كل التدابير. وسرى التلاعب بالموازين والمكاييل وخلط القمح بالتراب ومزج السكر بالرمل. وأصبح الرغيف لايعرف من كثرة ما دخل عليه من الشعير والكرسنة والتراب.‏

          وأعار اللبنانيون أسماعهم إلى نداءات الجنرال كاترو من إذاعة القاهرة داعياً فرنسيي الشرق إلى الانضمام لحركة الجنرال ديغول وانبرى بيو يرد على تلك النداءات(8) .‏

          وقد وقف الرأي العام السوري موقفاً سلبياً من الصراع الدولي سيما وإن البلدان (سورية ولبنان) يقعان بعيداً عن مسرح القتال ويستثنى من ذلك بعض القطاعات الصغيرة. فقد اعتبر الحزب القومي السوري من أنصار النازية وذلك لوجود بعض التشابه في العقائد السياسية وفي تشكيلات الشباب التي ألفها في الثلاثينات. ويقال أن انطون سعادة مؤسـس الحزب كان لاجئاً في برلين عند قيام الحرب. أما الحزب الشيوعي السوري فكان فريداً من نوعه في الشرق العربي حينذاك، وكان يعتبر فرعاً من الحزب الشيوعي الفرنسي لذلك بقي قائماً حتى حل الحزب الرئيسي لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الفرنسية. وكان الحزب يعارض الكتلة الوطنية إلا أنه وافق معها على مشروع معاهدة عام 1936 وذلك لأن اليسار الفرنسي كان مسؤولاً عنها. ولم يلبث الحزب أن عانى من الانقسامات بين العناصر المكونة له وفيها الكثيرون من الأرمن والأكراد بجانب العرب. وعندما يهاجم الألمان الاتحاد السوفيتي سيشجع هذا الحزب باعتباره بؤرة من البؤر السورية المعادية للمحور. أما بقية الأحزاب فقد أوقف نشاطها بمجرد قيام الحرب(9) .‏

          كانت السلطات الفرنسية عند إعلان الأحكام العرفية في سورية عقب اندلاع الحرب، قد لفقت تهمة تدبير اغتيال مديري المصالح الخمسة وذلك لتبرر القبض على العناصر الوطنية، وقدم نحو عشرين منهم للمحاكمة وصدرت أحكام بالسجن لمدد طويلة على بعضهم. بينما صدرت أحكام الإعدام غيابياً بالنسبة للاجئين بالعراق. (10)‏

          2- هزيمة فرنسا في حزيران 1940 :‏

          وبدأت الجيوش الألمانية في ربيع عام 1940 اكتساحها لفرنسا فتراجعت الجيوش الفرنسية المنهزمة أمام آلة الحرب الألمانية، وهي غير قادرة على الصمود والمواجهة. وسقطت فرنسا تحت عنف الدبابات الألمانية الثقيلة. وأدهش العالم ماحل بفرنسا المتغطرسة التي وقعت تحت الاحتلال وعانت من سيف الحرب.‏

          واستقالت الحكومة الفرنسية المدنية وتألـفت حكومة عسكرية فرنسية برئاسة المارشال بيتان (Petain) نقلت مقرها إلى مدينة فيشي (Vichy) على نهر اللوار في وسط فرنسا. ووقعت هذه الحكومة هدنة مع الألمان في 20/6/1940 بعد قبولها بالشروط الألمانية، في حين أن عدداً من الضباط رفضوا الاستسلام والتعاون مع المحتل فانتقلوا إلى بريطانيا لمتابعة القتال بقيادة الملازم شارل ديغول (De Gaulle) (11) الذي انتقل إلى انجلترا خفية بمساعدة صديقه الانكليزي الجنرال سبيرز (Spears) وهناك أعلن في 18/6/1940 قيام حكومة فرنسا الحرة ومواصلة الحرب ضد الألمان بمساندة بريطانيا. وانقسم الرأي العام الفرنسي بين موالين ومعارضين لحكومة فيشي.‏

          وقد أحدث توقيع فرنسا للهدنة بلبلة شديدة لدى السلطات الفرنسية في الشرق بالرغم من أن سورية ولبنان الواقعتين تحت الاحتلال الفرنسي بعيدان عن منال دول المحور. وقد أذاع المفوض السامي (بيو) في بيروت بأنه لن يتقيد بالهدنة وبأن جيش الشرق بقيادة الجنرال (ميتلهوزر) الذي خلف (ويغاند) سيواصل الحرب مع حلفائه البريطانيين. وماهي إلا فترة حتى تراجع عن تصريحه وأصدر بياناً جديداً يذعن فيه لشروط الهدنة ولحكومة فيشي حفاظاً على الأمــن. فأثار تصريحه موجــة استياء في صفوف فرنسيي الشرق والعرب على السواء. (12)‏

          وقد أظهر الجنرال متلهوزر ميله إلى التحالف مع بريطانيا إلا أن الأحداث لم تلبث أن حولته عن هذه الوجهة. فقد أعلنت حكومة فيشي أن من أهدافها المحافظة على الامبراطورية الفرنسية. ويعتقد كثير من الفرنسيين بحق أن الانجليــز وليس الألمان هم الذين يشكلون الخطر الحقيقي على كيان الامبراطورية ومن هــؤلاء المفــــوض السامـــي بيــــو. (13)‏

          وفي 27 حزيران 1940 أعلن الجنرال (متلهوزر) أنه بحسب شروط الهدنة لن يحدث تغيير في نظام البلاد المشمولة بالانتداب. وتبعاً لذلك فقد أمر بالكف عن القتال وقال : سيبقى علم فرنسا خفاقاً وتواصل مهمتها في المشرق.(14)‏

          لقد تنفست سورية الصعداء بسقوط فرنسا تحت الاحتلال ومعاناتها من سيف الإرهاب، على الرغم مما كان يبديه عمالها من صلف وغطرسة وتناقض عجيب مع الذل الذي أحاق ببلادهم والتظاهر بمظهر القوة والخيلاء في سورية، شأن اللئيم الذي يزهو على الضعيف ويخضع للقوي في وقت واحد. وقد عاد إلى سورية نشاطها الوطني الكفاحي. (15) وأكدت ألمانيا ضرورة منح الاستقلال لكافة الشعوب العربية، وذكرت في إذاعاتها أنها تتابع نضال هذه الأمم من أجل استقلالها، وأن هذه الأمم يمكنها وهي تجاهد أن تعتمد على عطف ألمانيا وتضمنه(15)مكرر.‏

          لقد واتى الدهر السوريين بما أملوا على يديه فإذا جيوش الألمان تدك حصون ماجينودكة واحدة وتصفق سلاسل دباباتهم الجبارة شارع الشانزيليزيه بباريس، وهتلر على رأسها بثقته ومغامرته.‏

          ولم يغير شيء من ذلك شعور الاستعمار في نفوس الفرنسيين، فظلوا في سورية على طريقتهم السابقة. ولكنهم اصطنعوا العظمة المفقودة وازدادوا عتواً في سورية فتصرفوا في المشكلات الإقليمية والمحلية تصرفاً سيئاً مناوئاً. ولعبت أيدي الأجنبي بالدس والمكيدة لتشغل القوم عن مصلحة الشعب وأحداث الحرب بالمآرب الذاتية والخصومة القديمة. وعادت المحن إلى قادة الوطنية وساسة الأمور، بل ازدادت المشاغل والمتاعب بانهماك فرنسا في الحرب وتهافتها جزعاً وخزياً تجاه الألمان الذين اقتحموا حصونها ودوخوا جيشها. فكانت كلما خضعت في بلادها ازدادت عتواً في سورية(16). وكانت حكومة فيشي تناهض الماسونيين(17).‏

          وفي هذه الفترة اغتيل عبدالرحمن الشهبندر الذي كان من دعاة الوحدة العربية مع العراق والأردن حيث النفوذ البريطاني. وشاركت المحافل الماسونية باسم (الشرق الأعظم السوري) بإكليل في جنازته(18).‏

          كما سرت في الأوساط اللبنانية التي كانت تحب فرنسا وتعتز بها موجة حزن على (إذلال تلك الأمة العريقة التي كانت سبباً لنصرة الحرية في العصر الحديث، وحملت مشعل النور إلى الأمم بثقافتها الخالدة وحضارتها الفنية الرفيعة). وكان وقوع هذا الانكسار على فرنسا وهي في لبنان سبب نقمة وحذر واستفزاز(19) ؟! وهلع اللبنانيون من انحياز بيو إلى حكومة فيشي. (20)‏

          3- عودة النضال الوطني في سورية :‏

          حصل تنافس بين حكومة فيشي والجنرال ديغول. وعلى أثر اشتداد الضغط على فرنسا من قبل الألمان، استدعت حكومة فيشي المفوض السامي بيو في تشرين الثاني 1940 إذ أن حجته لم تقنع حكومة فيشي وعينت بدلاً منه (جان كياب Chiappe) مدير البوليس الفرنسي الشهير في كانون الأول 1940. ولكنه قتل في طريقه إلى سورية إذ أسقط البريطانيون طائرته فوق جزيرة رودس. فعينت حكومة فيشي مكانه الجنرال (دانتز Dentz) في 30/12/1940 لحماية سياستها في الشرق من حركة الجنرال ديغول. والجنرال دانتز هو أحد المسيئين لوفد الدروز عندما طلب مقابلة الجنرال سراي عام 1925، وهو الذي وقع صك استسلام باريس. (21) واتضح أن حكومة فيشي تريد الاحتفاظ بنظام الانتداب.‏

          كان موقف فرنسا في سورية تسلطاً وغطرسة لتعوض فيه مالحقها من إهانة في أرضها بدخول الألمان، فشجعت النعرات الطائفية والإقليمية لإلهاء الشعب عن مطالبه الأساسية.‏

          وكان قسم من الوطنيين السوريين الذين كانوا في المنفى قد عادوا إلى أرض الوطن والتف حولهم المخلصون وغيرهم من أبناء الشعب وأصبحوا قوة. غير أن فرنسا عملت على بذر بذور الفرقة بينهم خاصة بعد مقتل الدكتور عبدالرحمن السشهبندر (صيف 1940)(22). فقد كانت السلطات الفرنسية أثناء التحالف مع بريطانيا قد غضت الطرف عن الشهبندر وغيره من الساسة الذين كانوا ينادون بإقامة ملكية دستورية واعتبروا لذلك أصدقاء للانجليز على أساس أن هذه الملكية ستؤدي إلى نوع من الاتحاد مع العراق أو الأردن. ولذلك نشأ احتمال قوي بأن يكون لحكومة فيشي صلة باغتيال الشهبندر ولو أن السلطات الفرنسية عمدت إلى تغطية موقفها بإعدام عدد من الأشخاص أخذوا جزافاً ليكونوا كبش الفداء. (23)‏

          وقد برز من الوطنيين القدامى شكري القوتلي الذي آلمه اختلاف الأحزاب واستغلال الأجنبي هذا الاختلاف لمصلحته وحده. فقام يدعو إلى التضامن وتوحيد الصف ونبذ الحقد والتحاسد لكي تواجه البلاد سياسة الفرنسيين الذين خالفوا العهد والميثاق وتنكروا للسوريين تنكراً شائناً تجلى فيه استبدادهم وجبروتهم وهم يعانون في بلادهم الهزيمة والهوان. فآزره الجميع والتفوا حوله. وبدأت الاضطرابات في سورية وأخذ الوطنيون يسعون للتخلص من الحكم الأجنبي.‏

          وقد نشر القوتلي بياناً ضد حكومة المديرين في آذار 1941 جاء فيه : "إن البلاد السورية لاترضى عن هذا الاضطهاد والإهمال ولابد من العمل على إنقاذها وإن تكن الحرب قائمة، فالمطالب القومية لاتتحقق في نظام استعماري عانى منه الشعب ظلماً وحرماناً ولم يتغير مهما اختلف الشكل والسبب. ولاعذر في قيام الحرب فقد يطول أجلها. وسورية طال انتظارها وصبرها على ادعاء المحتل قيامه بالمهمة التي انتدبته من أجلها عصبة الأمم. وما كان حكمه إلا استعمارياً يعادي هدف المهمة الأولى. بل إن جمعية الأمم أوقفت أعمالها"(24).‏

          وبمضي الوقت كانت العلاقات تزداد سوءاً بين بريطانيا وبين سلطات حكومة فيشي فأقفلت الحدود بين سورية ولبنان من جهة وبين الأقطار الخاضعة للنفوذ البريطاني والمحيطة بها من جهة أخرى. وقد أضر ذلك بالاقتصاد السوري إضراراً بالغاً. وشغلت السلطات الفرنسية بإبعاد الأشخاص المعروفين بميولهم الانكليزية وانعكس ذلك على السوريين أيضاً.(25)‏

          وكانت الأزمة الاقتصادية تزيد من عوامل السخط على السلطات الفرنسية، بالإضافة إلى الحصار الذي حرم سورية من الاتجار مع الأقطار المحيطة بها، انخفض سعر الفرنك الفرنسي انخفاضاً كبيراً في سنة 1940. وذلك لأن بريطانيا كانت قد حددت له سعراً مجزياً بالنسبة للاسترليني في بداية الحرب. فلما انقطعت التجارة مع الأقطار المحيطة بسورية والتي ترتبط بمنطقة الاسترليني حدث هذا الانخفاض. وفقد التجار ثقتهم بالعملة الورقية التي يصدرها بنك سورية ولبنان. وهو مؤسـس برؤوس أموال فرنسية.‏

          وبالرغم من أن سورية تصدر القمح للأقطار المجاورة، فإن كبار الملاك رفضوا أن يبيعوا القمح بالسعر المنخفض وأصروا على بيعه بالعملة الذهبية، ومن هنا انتشرت السوق السوداء نتيجة جشع الملاك والتجار الذين اختزنوا القمح. وهددت المجاعة سورية، ولدى السوريين عقد من هذه الناحية ترجع إلى أيام الحرب العالمية الأولى .‏

          وفي أوائل آذار 1941 حدثت في سورية اضطرابات في المدن السورية بسبب قلة المواد الغذائية والضرائب المرهقة والمطالبة بإلغاء الانتداب واستقلال البلاد. وكانت المظاهرات التي عمت المدن السورية في أوائل 1941 تنادي (نريد الخبز والزيت والسكر). فأمر (دانتز) بتدخل الجنود ولكنه عاد فأخذ بالتساهل وحاول معالجة المشكلات القائمة بالأساليب السهلة والتدابير الهينة، على حين أنه، وكما قال الجنرال كاترو نفسه، لم يبق لفرنسا مقام في الشرق.‏

          المهم أن السلطات الفرنسية عجزت تماماً عن مواجهة الأزمة وعرضت أن تشتري القمح بسعر العام السابق. إلا أن الملاك امتنعوا عن بيعه وآثروا اختزانه فالتجأ المفوض السامي دانتز إلى شكري القوتلي ليعينه على مواجهة الأزمة، ويبدو أنه لاحظ صعود نجمه في أوساط الكتلة الوطنية.(26) وهكذا تسبب الصراع بين حكومة فيشي وحكومة فرنسا الحرة تجاه المستعمرات إلى تسابقهما على اكتساب ود الوطنيين.‏

          وقد رأى القوتلي في هذه الظروف فرصة لاتعوض للتذكير بالمطالب الوطنية وهي إلغاء نظام المديرين وإعادة العمل بالدستور وإجراء انتخابات حرة حتى تتسلم الحكومة التي تعبر عن الإرادة الشعبية السلطة من يد الانتداب.‏

          وقد نفذ دانتز بعض هذه المطالب في أضيق نطاق، فبسبب هذه الظروف اضطرت حكومة المديرين إلى الاستقالة، فدعا دانتز خالد العظم إلى تشكيل مجلس وزراء في 3/4/1941 والذي تسلم أيضاً وزارة الداخلية، وحنين صحناوي للمالية وصفوت قطر أغاسي للعدلية ونسيب البكري للاقتصاد الوطني والزراعة ومحسن البرازي للمعارف. وقد ألفت هذه الوزارة بصورة مؤقتة لايجاد دولة مستقلة .‏

          وينتمي خالد العظم إلى كبار الرأسمالين الذين لايمثلون حزباً سياسياً معيناً، ولذلك اختار وزراءه من رجال الأعمال والفنيين. ولم تشترك الكتلة الوطنية في الوزارة الجديدة. واعتذر دانتز عن إجراء الانتخابات النيابية أو رفع الرقابة عن الصحف والحريات العامة بسبب ظروف الحرب. وأبدى استعداده لتعيين مجلس دولة يتولى السلطة التشريعية. وقد أجاب الوطنيون على ذلك بأن الحرب انتهت بالنسبة لفرنسا كما أن حكومة فيشي قد انسحبت من العصبة وأن الانتداب هو من الأنظمة التي وضعتها تلك الهيئة(27).‏

          وكانت الأزمة الاقتصادية متأججة، وعين حسن جبارة مديراً لدائرة الاعاشة. ويذكر خالد العظم حول قضية تأمين الحبوب للبنان أنه عهد بها إلى لجنة مؤلفة من مندوب سوري ومندوب لبناني تحت رئاسة مندوب عن المفوض السامي. وأنهم استطاعوا بفضل اشتراكهم في اللجنة الحد من جور سياسة المفوض التي كانت ترجح دائماً مصلحة لبنان المستهلك على حساب سورية المنتجة(28) .‏

          واشتد خوف اللبنانيين بعد تعيين الجنرال دانتز (30/12/1940) مفوضاً سامياً وقائداً عاماً لقوات الفرنسيين في الشرق. وصح حدس اللبنانيين تجاه دانتر عندما بادر إلى إنذار كل من لايتعاون مع السلطات الفيشية. ومن أظهر تمرداً واستياء حوكم أو فرضت عليه الإقامة الجبرية. وقيدت حرية الرأي والتعبير والاجتماع. وتردت الحالة الاقتصادية فعمت الاضطرابات وسارت المظاهرات وسقط القتلى في كل من دمشق وبيروت. وأصدق تعبير عن تلك الأحوال ماورد في أحد تقارير دانتز: "علي أن أكسب معركة القمح ولكن الجميع ضدي".‏

          وماهي إلا فترة حتى استقال اميل اده احتجاجاً (أو أقاله دانتز) ومعه أمين سر الدولة عبدالله بيهم في 4نيسان1941 فعين دانتز القاضي الفرد نقاش رئيساً للدولة بايعاز من الآباء اليسوعيين. وتألـفت وزارة اختير أعضاؤها من بين من أسلسوا القياد للمفوضية الفرنسية برئاسة أحمد الداعوق. وأمت البلاد لجنة ألمانية - ايطالية أضحت صاحبة النفوذ في تسيير الشؤون(29). وقد أرسل دانتز إلى السجن بعض الوطنيين وكم الأفواه وفرض الإقامة الجبرية على بعض ذوي الرأي السياسي في البلاد(30). وقامت المظاهرات بسبب سوء توزيع المواد الغذائية(31) .‏

          ولعل دانتز حاول التقرب من المسلمين في لبنان فكان الفرنسي الوحيد الذي زار (جمعية المقاصد الإسلامية) عام 1941. فقد كان المسلمون في لبنان منذ بداية الاحتلال يقفون موقفاً سلبياً من الانتداب، وشكلت سلبيتهم مشكلة حادة لسلطات الانتداب، حتى أنه طيلة عهد الانتداب لم يدخل العلم الفرنسي أو النشيد الفرنسي إلى (المقاصد). وكان الطلاب في المقاصد ينشدون "أنت سورية بلادي"(32).‏

          4- حملة الحلفاء على سورية ولبنان في 8 حزيران 1941 :‏

          في أوائل تموز 1940 تأزمت العلاقات بين بريطانيا وبين حكومة فيشي وانقطعت العلاقات الدبلوماسية. ولذلك كان على بريطانيا أن تحدد موقفها من سلطات فيشي في ســورية ولبنان سيما وأن موقع القطرين يؤثر تأثيراً مباشراً على مركــز بريطانيا الحربي في الشرق الأوسط. وإذا تسللت إليهما القوات الألمانية فإن ذلك سيجعل مصر وقناة السويس بين فكي كماشة محورية. وتصبح مراكز البترول في خطر وتضطرب المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق. ولهذا الغرض أصدرت الحكومة البريطانية في 2/7/1940 تصريحاً حول إعلان الجنرال (متلهوزر) انتهاء الحرب في سورية وحذرت من احتلال ألمانيا وايطاليا لها وأنها لن تسمح بذلك او استخدامها كقاعدة للهجوم على أقطار الشرق الأوسط أو أن تصبح مركزاً للاضطرابات يشكل خطراً على هذه الأقطار. وأكدت أن أي عمل ستتخذه بريطانيا لن يكون له تأثير في المستقبل على الوضع السياسي لهذه الأقاليم الواقعة تحت الانتداب الفرنسي(33).‏

          ولما كانت الأحداث تتوالى بسرعة آخذة بعضها برقاب بعض، رأت الحكومة البريطانية أن تتصل بالجنرال دانتز بواسطة قنصلها العام في بيروت لتستوضح موقفه فيما إذا جرى حادث عسكري فأجاب أنه سيقاوم الألمان(34).‏

          ومما زاد العلاقات توتراً مجيء لجنة الهدنة التابعة للمحور إلى سورية ولبنان في أيلول 1940 للإشراف على تنفيذ شروط الهدنة مع فرنسا ولإقامة اتصال مع هذين الاقليمين. وكان هدفها التحقق من الإفراج عن رعايا الألمان والطليان الذين قبض عليهم عند قيام الحرب، وكذلك رفع إجراءات الحراسة التي اتخذت ضدهم. ثم كان على تلك اللجان أن تتحقق من أن حكومة فيشي لاتتخذ من المستعمرات قاعدة لزيادة قواتها العسكرية فوق ما تسمح به الهدنة. وأشرفت اللجنة على الدعاية لدول المحور من خلال إذاعة (راديو الشرق) ومن خلال الصحف(35). وكانت إذاعتي برلين وباري تشنان حملات دعائية فاضحة للاستعمار البريطاني في العالم العربي بشكل عام وفي مشكلة فلسطين بشكل خاص .‏

          وتلا هذه اللجان تردد بعض الشخصيات الألمانية على سورية وكان بعضها يمثل رجال الأعمال وبعض عمالهم الذين اعتقلوا عند إعلان الحرب. أما في أوائل 1941 فقد وفد على دمشق مندوب من وزارة الخارجية الألمانية هو (فون هنتنغ) الذي كان يعد ممثلاً لهتلر والذي عين وزيراً مفوضاً في العاصمة السورية. وكان هنتنغ معروفاً بنشاط سابق في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى حتى لقب بلورنس الألماني .‏

          وفي دمشق جمع هنتنغ حوله بعض الزعماء التقليديين واستخدم موضوع الوطن القومي لليهود في فلسطين كوسيلة لاجتذاب عواطف الجماهير نحو المحور وإثارة شعور البغضاء للبريطانيين بين الشعوب العربية في الشرق. ويقال إنه روج لفكرة عقد مؤتمر إسلامي في دمشق لبحث هذه القضية. وكان هنتنغ يعقد الاجتماعات ويقيم الحفلات ويعرض أشرطة سينمائية تشمل انتصارات ألمانيا الساحقة في فرنسا. وكان كل ذلك يمر بالجنرال دانتز وكأنه في غفلة عنه. ولم يكن يسر السلطات الفرنسية هذا التسلل الألماني إلى المستعمرات لأن سياسة فيشي هي المحافظة على الامبراطورية ضد الأطماع الألمانية والبريطانية معاً. ولذلك طلبت إبعاد هنتنغ عن البلاد واستجابت ألمانيا لهذا الطلب بعد شهرين من تعيينه(36).‏

          وفي هذه الأثناء كانت بريطانيا تراقب الأحداث في المشرق العربي بقلق بالغ وكان أكثر مايثير قلقها ثورة رشيد عالي الكيلاني في 2/4/1941 في العراق والتسهيلات التي قدمت للطائرات الألمانية في سورية في مطاري (رياق وحلب) وغير ذلك من التسهيلات لتقديم الإمدادات للثورة وتشجيع السوريين على التطوع للقتال بجانب الحركة العراقية. مما أثار مخاوف الانكليز وجعلهم ينزلون عند إلحاح الجنرال دوغول بضرورة احتلال سورية ولبنان، ويتمسك أن تقوم به القوى الفرنسية وحدها. واستفاد الجنرال كاترو من أحداث ثورة الكيلاني ليقنع حلفاءه البريطانيين بتوجيه حملة لتطهير سورية ولبنان من القوات الفيشية(37) .‏

          ويروي دانتز أنه طلب إبعاد جميع العسكريين الألمان الذين وصلوا إلى سورية خلال شهر أيار 1941 على إثر انتهاء حركة الكيلاني (30/5/1941). وكان هذا هو رأي حكومة فيشي أيضاً. وسواءاً كان هناك تسلل ألماني على نطاق واسع أم ضيق، فإن الحملة الانجليزية الفرنسية المشتركة أصبحت ممكنة في أوائل حزيران1941 من الناحية العسكرية بسبب الانسحاب من كريت والقضاء على ثورة العراق(38).‏

          لقد قررت بريطانيا العمل على تحرير سورية من النفوذ الألماني بالاشتراك مع قوات فرنسا الحرة. وقد بدأت أنظارها تتجه إلى أهمية سورية خوفاً من السيطرة الألمانية عليها وعلى طرق المواصلات وتهديد قناة السويس ومناطق البترول .‏

          وكانت الحكومة البريطانية منذ شباط 1941 قد بعثت بتعليمات سرية إلى جلوب باشا و(إلك كركبرايد) بوجوب الاتصال الوثيق بسكان سورية لتنظيم المقاومة ضد حكومة فيشي، ووضعت الأموال تحت تصرفهم لهذا الغرض، واتفق على أن يعمل (كركبرايد) إلى جانب الدروز وأن يقوم جلوب بالعمل مع القبائل السورية. ولما أخذت الحكومة البريطانية في الاعتبار غزو سورية من شرق الأردن عام 1941، كان جبل الدروز عظيم الأهمية إذ يصبح خلف جناح الجيش الأيمن ومؤخرته في حالة تقدم القوات البريطانية رأساً إلى دمشق. ولو ظل الدروز على موقف العداء، فإن ذلك يمكنهم من تدمير مواصلات الجيش الزاحف نحو دمشق. وهكذا كان على (كركبرايد) أن يوطد العلاقات مع زعماء الدروز للحيلولة دون هذه الحركة، كما بدأ جلوب بالاتصال مع القبائل الضاربة إلى الشرق من حمص وحماة ودمشق(39).‏

          وضعت بريطانيا خطة الحملة على سورية ولبنان بصورة مبدئية في 25 نيسان 1941، إلا أن كثرة أعباء القيادة البريطانية في الشرق الأوسط وتعدد واجباتها أدى إلى تأجيلها. وكانت السياسة البريطانية قد اتخذت موقف الحذر نحو المستعمرات الفرنسية حتى لاتجر حكومة فيشي إلى الحرب بجانب الألمان. على أن تلك السياسة لم تمنع بريطانيا من مساعدة ديجول للاحتفاظ بالمستعمرات. ولكن فشل ديجول في أيلول 1940 في دكار بالسنغال هز ثقة بريطانيا بحكومة فرنسا الحرة فتوقفت عن فكرة مساعدتها للاستيلاء على دولتي المشرق (سورية ولبنان). ولكن أحداث العراق دفعت بريطانيا إلى التدخل(40).‏

          ولم يتوقف نشاط الفرنسيين تماماً في الشرق الأوسط، فقد عينت حكومة فرنسا الحرة الجنرال كاترو مندوباً لها في القاهرة. وأخذ يجمع شتات الجالية الفرنسية في مصر وفلسطين ليكون منها جيشاً صغيراً يمكن استخدامه يوماً لانتزاع سورية ولبنان من حكومة فيشي. وكانت الحكومة المصرية تقدم له كثيراً من التسهيلات(41).‏

          وكان الجنرال كاترو يوجه نداءات من إذاعة القاهرة داعياً فرنسيي الشرق إلى الانضمام لحركة الجنرال ديغول(42). ولقد حاول بعض الموظفين القيام بمؤامرة ضد بيو ومتلهوزر لتسليم مقاليد الأمور للجنرال كاترو ممثل الجنرال ديغول في القاهرة والذي أذاع بياناً واعداً فيه اللبنانيين والسوريين بالاستقلال ساعة تطأ فرنسا الحرة أراضيهم. ولكن انفضاح أمرهم بواسطة مدير الأمن العام (كولومباني) جعلهم يستكينون وعم الذعرفي الأوساط العربية. وحاول كاترو في البدء اللجوء إلى انقلاب يتخلص فيه من الجنرال دانتز ولما فشل وجد أن لابد من الاحتلال العسكري(43).‏

          ويبدو أن الفرنسيين كانوا يواجهون احتمال تدخل بريطانيا منفردة أو بالاشتراك مع تركيا في حالة تسلل المحور إلى سورية ولبنان، ويعتقدون بأن تركيا ستنتهز هذه الفرصة لتحقيق أطماعها في ضم جزء من حلب علاوة على الاسكندرونة التي تم الاستيلاء عليها منذ قليل (تموز 1939). وكانت التعليمات الموجهة إلى كاترو هي ضرورة إشراك فرنسا الحرة في أية حملة من هذا النوع ولو بقوات رمزية(44).‏

          ولم يكن الألمان حريصون على إعلان دعمهم لاستقلال سورية ولبنان وكل سورية الطبيعية والعراق (الهلال الخصيب) خشية إثارة ديغول واشتداد معارضته(45).‏

          وكان المقرر أن تبدأ الحركات العسكرية في فجر الثامن من حزيران 1941. ورغبة في كسب ود الشعبين السوري واللبناني تم الاتفاق بين انكلترا وفرنسا الحرة على إعلان استقلال لبنان وسورية قبل دخول جيوشهما إلى هذين البلدين(46) كتمهيد للحملة. فقد كانت بريطانيا قد قررت اتباع سياسة جديدة بشكل يزيد من نفوذها وهي سياسة تأييد فكرة التقارب بين مختلف الدول العربية في المنطقة .‏

          وكان أنتوني ايدن قد صرح في 29/5/1941 : "إن من الطبيعي ومن الحق وجوب تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية. وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة"(47).‏

          وقبل بدء الحملة بساعات وجه الجنرال كاترو دعوة إلى الجنود الفرنسيين في المشرق قائلاً أنه يدخل سورية باسم فرنسا ولأجل فرنسا. ولم يلتحق به إلا الكولونيل (كوله) (Collet) الذي رفع إلى رتبة جنرال، على رأس فريق من كتيبة الشركس، فسبب ذلك نقمة سائر الضباط التابعين لفيشي عليه. وكان عدد القوات البريطانية (12000) فقط وعدد القوات الفرنسية (2500-3000) فقط لذلك كان عليها الحصول على تأييد السكان(48).‏

          وفي التاريخ نفسه 8/6/1941 ألقت الطائرات البريطانية على سورية ولبنان آلاف النسخ من بيان الجنرال كاترو وفيه يقول :‏

          " أيها السوريون واللبنانيون الكــرام :‏

          في الوقت الذي تدخل فيه قوات الفرنسيين الأحرار، بالاتحاد مع قوات حليفتهم الامبراطورية البريطانية، إلى بلادكم، أصرح بأنني قد توليت سلطات ممثل فرنسا في الشرق ومسؤولياته وواجباته، وذلك باسم فرنسا الحرة، فرنسا ذات التقاليد المجيدة فرنسا الحقيقية وباسم زعيمها الجنرال ديغول.‏

          وإني قادم إليكم بهذه الصفة لإنهاء عهد الانتداب ولأعلن حريتكم واستقلالكم. وبناء على ذلك، ستصبحون من الآن فصاعداً شعباً حراً ذا سيادة، (سواء بقيتم منفصلين أو كنتم دولة واحدة)، وستتمكنون من أن تؤلفوا لأنفسكم دولاً منفردة أو أن تتحدوا في دولة واحدة، وفي أي من الحالتين سيضمن استقلالكم وتكفل سيادتكم بمعاهدة توضح بها العلائق المتبادلة بيننا. وستجري المفاوضات لعقد هذه المعاهدة بين ممثليكم وبيني في أقرب مايمكن. وريثما تعقد هذه المعاهدة سيكون موقف بعضنا من بعض موقف الحليف من حليفه، متحدين معاً كل الاتحاد في سبيل مثل أعلى واحد وأهداف مشتركة" .‏

          وذكر كاترو أنهم لايسمحون بأن تسلم "الشعوب التي وعدت فرنسا بالدفاع عنها" إلى أشد المتسلطين الذين عرفهم التاريخ قسوة. ولن تسمح بأن تسلم للعدو "مالفرنسا من مصالح قديمة في الشرق". ثم أشار إلى رفع الحظر وإنشاء العلاقات مع البلدان الداخلة في نطاق الجنيه الاسترليني إذ تعهدت الحكومة البريطانية بالاتفاق مع فرنسا الحرة بأن تبذل لكم جميل المزايا والفوائد التي تتمتع بها البلدان الحرة المرتبطة معها. وختم كلامه بقوله : "لقد أزفت ساعة عظمى في تاريخكم، إن فرنسا بصوت أبنائها الذين يحاربون من أجل حياتها ومن أجل حرية العالم تعلن استقلالكم"(49).‏

          وقد رأت الحكومة البريطانية أنها بإصدار تصريح مماثل ستزيد من ثقة السوريين بقيمته لذلك نشر (سيرمايلز لامبسون سفير بريطانيا في مصر) في نفس اليوم تصريحاً بهذا المعنى ذكر فيه أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية فوضته بأن يعلن تأييد ضمان الاستقلال الذي أعطاه الجنرال كاترو بالنيابة عن الجنرال ديغول واشتراكه به. وأضاف إلى ذلك ذكر ماتجنيه البلاد إذا أيدت الحلفاء وانضمت إليهم من الفوائد الكبرى في تجارتها وإنشاء العلاقات مع البلدان الداخلة في نطاق الجنيه الاسترليني(50).‏

          بل إن بريطانيا أذاعت هذا الاعتراف الفرنسي باستقلال سورية ولبنان على لسان رئيس وزرائها تشرشل ووزير خارجيتها ايدن(51). ولم ترق هذه الضمانة للجنة فرنسا الحرة وحاولت أن تعارضها وتتخلص منها. ولكن البريطانيين أصروا على ذلك لأنهم يقدمون كل مايلزم لفرنسا الحرة والجنرال ديغول في الميادين الاقتصادية والعسكرية. فلم يسع فرنسا الحرة إلا القبول. وجدير بالذكر أن الجنرال كاترو تجنب ذكر بيان السر مايلزلامبسون في مذكراته التي بحثت عن معركة المتوسط وجمعت مئات الصفحات(52).‏

          وبينما يدعي كاترو أن منح الاستقلال لسورية ولبنان هي سياسة فرنسا الحرة وقد أفضى بها إلى ايدن وزير الخارجية أثناء التقائهما في القاهرة، يستنتج من مذكرات تشرشل أن الحكومة البريطانية مارست ضغطاً ماعلى فرنسا لإصدار تصريح إعلان استقلال سورية ولبنان. وكان تشرشل قد أرسل في 6/6/1941 برقية إلى الجنرال ديغول، وهو واضع نصب عينيه النواحي القلقة والطبائع المختلفة في الأمور التي يعالجها معه. فتمنى النجاح للمساعي المبذولة في الشرق وأن يكون ذلك مرضاة له. وبحث عن السياسة المقبلة للدولتين في الشرق الأوسط وبلاد العرب، راجياً أن تسير في خطوط متشابهة. وصرح بأنه ليس لانكلترا مأرب خاص في الامبراطورية الفرنسية ولاتريد مطلقاً أن تحرز فائدة لها من حالة فرنسا المحزنة. ثم رحب بقرار الجنرال ديغول بمنح سورية ولبنان الاستقلال وأشار إلى الضمانة البريطانية ومافيها من قوة. وأبدى حرصه على تجنب كل مايهدد الاستقرار في الشرق، واستنتج من ذلك وجوب صنع كل شيء مستطاع لتحقيق آمال العرب ورغائبهم(52) واحترام مشاعرهم.‏

          ولم يخف الجنرال ديغول الدور البريطاني وتأثيره في مجرى الأحداث، فيقول في هذا الصدد : "بينما كان الانجليز والفرنسيون الأحرار يستعدون للعمل سوية في الميدان العسكري، فإن تنافسهما السياسي بدأ يرتسم وراء الواجهة، وبدأت السياسة الانجليزية تمهد لتحل محل فرنسا في دمشق وبيروت. فيما كان كاترو يستعد لإعلان بيانه بالاستقلال، طلب السيرمايلز لمبسون أن يكون الإعلان باسم بريطانيا وفرنسا الحرة معاً. فرفضت بطبيعة الحال. عندها أصر السفير لمبسون أن يتضمن الإعلان ضمان بريطانيا لوعدنا هذا فلم أقبل هذا الطلب، مشيراً إلى أن كلام فرنسا لايحتاج إلى ضمانة أجنبية. فأبرق إلي المستر تشرشل في 6/6/1941 عشية الحملة يعبر لي عن تمنياته القلبية وأكد على الأهمية التي تمثلها هذه الضمانة، فأجبته على هذه التمنيات ولكن ليس على هذا الادعاء... وأخيراً أعلن بيان كاترو كما كان يجب أن يكون. وحالاً أصدرت حكومة لندن بياناً آخر منفصلاً باسمها...." (55).‏

          ولم تحدث التصريحات صدى يذكر في حينها. ويمكن القول بأن معظم أهل سورية ولبنان وقفوا موقف المترقب وإن كان من المؤكد أن كبار التجار والملاك الزراعيين كانوا يرحبون باحتلال الحلفاء الذي سيعيد فتح أسواق الأقطار المجاورة. ثم إن التصريح يشير إلى معاهدة لايعرف السوريون ماوراءها. وإذن فإن الصراع كان أساساً بين سلطات فيشي وبين القوات الانكليزية ووحدات فرنسا الحرة التي اشتركت معها(54).‏

          ومايمكن قراءته بوضوح من خلال هذا الوعد باستقلال سورية ولبنان تعاظم الدور البريطاني في المنطقة. إلا أن مايجب تسجيله في هذا الصدد أن ذلك الوعد يعلق مصير لبنان وسورية من حيث الوحدة أو الانفصال على إرادة شعبيهما (على عكس التجزئة المفروضة). وهذا تطور مهم في الموقف الفرنسي نعتقد أنه يعود بالدرجة الأولى إلى خضوعه لتأثير النفوذ البريطاني الذي أخذ ينظر للمنطقة العربية كوحدة متكاملة(56).‏

          وانطلقت الحملة العسكرية الانكليزية بقيادة الجنرال ميتلاند ويلسون بقوات معظمها بريطانية من فلسطين وشرق الأردن بمساندة فرق من الفرنسيين الأحرار بقيادة الجنرال كاترو، إلى سورية ولبنان وعبر ثلاثة محاور : من الساحل نحو الناقورة، ومن الوسط نحو مرجعيون، ومن الداخل باتجاه القنيطرة، نحو دمشق (معارك درعا). ودارت معارك عنيفة في مرجعيون وجزين والدامور. وتعرضت مدينة بيروت للعديد من الغارات الجوية(57)، إذ جعل الفرنسيون مدافعهم المضادة للطائرات وسط الأحياء وبين المنازل. ونشطت الطائرات البريطانية في إلقاء المناشير تطميناً للأهالي.‏

          وفي بداية الأمر لم تصادف قوات الحلفاء مقاومة تذكر حتى اقتربت من العاصمة السورية من جهة الجنوب. ويبدو أن سلطات فيشي لم تكن على علم بضآلة عدد القوات المهاجمة بينما كانت تحتفظ هي بنحو (35000) جندي. فلما تبينت قلة عدد قوات الحلفاء شنت هجوماً مضاداً. وفي 16/6/1941 استردت القنيطرة ومرجعيون، واضطرت بريطانيا إلى إرسال تعزيزات جديدة لم تكن متوقعة. فقد اضطرت القيادة البريطانية إلى إشراك قواتها الموجودة في العراق والتي كانت تضم قوة البادية الأردنية، حيث احتشدت في المفرق في 21/6/1941 بعد أن عززت في شرق الأردن. وألقى فيها الأمير عبدالله خطاباً حث أفرادها على تحرير سورية، قائلاً : "إن ساعة تحرير سورية قد دنت وأن هذه الفرصة الذهبية قد تكون حاسمة في تاريح العرب"(58). وكان هذا الخطاب إشارة واضحة إلى أطماع عبدالله في مشروع سورية الكبرى.‏

          وحينذاك قرر الجنرال دانتز أنه لابد من تأييد ألماني إذا أريد الاحتفاظ بدولتي المشرق. إلا أن أحداً في فرنسا لم يكن يحب الاستعانة بالألمان في المستعمرات، واستقر الرأي على أن الألمان إذا دخلوا سورية فلن يخرجوا منها، ولذلك تيقن الفيشيون أن ميزان القوى ليس في صالحهم، وأنه يتعذر وصول النجدات إليهم عن طريق البر والبحر، وبعد فداحة الخسائر في صفوفهم، لذا طلب دانتز في 21/6/1941 التعرف على شروط الحلفاء لعقد الهدنة فأجيب بأنه سيسمح بترحيل الجيش الفرنسي مع جميع مظاهر الشرف العسكري.‏

          وفي أثناء المحادثات سقطت دمشق في 21/6، وفي 14/7/1941 احتلت البلاد السورية بكاملها. وتوسطت الولايات المتحدة للإسراع بالهدنة، ولم يشرك الجنرال ديجول في توقيعها لأن سلطات فيشي كانت تعتبره عاصياً. ولذا فإن إشراكه في المحادثات من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً، ولذلك فإن دانتز فاوض الانكليز مشترطاً استبعاد الفرنسيين الأحرار. وأخيراً تم توقيع الهدنة في عكا في 14/7/1941. وتتناول شروط الهدنة تنظيم العلاقة بين فيشي والحلفاء، ولا يخص وضع السوريين سوى بند واحد وهو ألا تتبع بريطانيا أحداً من أهل سورية ولبنان ممن قاتلوا بجانب قوات فيشي(59).‏

          وبالفعل فقد غادر البلاد عدد من الضباط والموظفين الفرنسيين ليلتحقوا بفرنسا الفيشية، بينما بقي عدد منهم وانضموا إلى قوات فرنسا الحرة(60). وخضعت سورية ولبنان للقوات الحليفة.‏

          وتعرضت مدينة بيروت للعديد من الغارات الجوية أثناء الحملة. وبسبب احتدام المعارك وعنف المقاومة وغارات الطيران عم الذعر في بيروت ونزح العديد من الأهالي من المدن الساحلية إلى الجبال فارتفعت أكلاف النقل بعد فقدان الوقود، وقلت المواد الغذائية بسبب الحصار وازدادت أسعارها. وبذل الرئيس الفرد نقاش جهده لتخفيف هذه الأزمة، وحث المفوض السامي على إنقاذ بيروت من التدمير، وقدم إليه مذكرة جريئة لوقف القتال وإنقاذ المدنيين وإعلان بيروت مدينة مفتوحة(61). وقد قلق اللبنانيون عامة وأهل بيروت خاصة من معارك الفئتين الفرنسيتين. وخشوا على بلادهم من الخراب والتدمير(62).‏
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

            الفصل الثاني

            فرنسا الحـــــــرة وبريطانيـــــا 14/7/1941 - 1943‏

            1-الصراع الفرنسي الانكليزي للسيطرة على سورية ولبنان:‏

            يوم احتلال قوات الحلفاء لدمشق، عين كاترو مندوباً عاماً لفرنسا في سورية ولبنان كما كان يرغب تشرشل، وليس مفوضاً سامياً كما كان يريد الفرنسيون مثلما كانت التسمية في السابق (1919-1941).‏

            وبالرغم من أن الجنرال كاترو صرح في إعلان الاستقلال أن ضمانات الحقوق العامة المنصوص عليها في القواعد الأساسية لصالح الأفراد والجماعات، تبقى محترمة ومصونة، فإنه لم يعرف شيء من احترام هذه الضمانات. وظلت الحريات مهددة. واستمرت (فرنسا الحرة) على نسق حكومة فيشي أو (حكومة الجمهورية الفرنسية الثالثة) تحكم الناس بالعنف والشدة وتأخذهم بالظنة والتهمة، ولاتبالي في سبيل غاياتها وأغراضها. (1)‏

            وتحول الصراع الانجليزي الفرنسي القديم إلى صراع بينهما على المشرق، وازداد الصراع احتداماً بين ديجول والانجليز حول مسألة المشرق بعد الاحتلال المشترك. واستفادت من ذلك الحركة الوطنية في سورية ولبنان في نهاية الأمر.‏

            وكان ديجول شديد الاستياء لإبعاده عن مفاوضات الهدنة، واعتبر اتفاقية عكا مهينة له ولمن قاتل من جنوده مع القوات البريطانية، واستنكرها وهدد بفك تحالفه مع بريطانيا إذا لم يتم تعديلها لأنها تؤدي في رأيه إلى تسليم بريطانيا زمام الأمور في بلاد المشرق من دون أن تراعى المصالح الفرنسية فيها.‏

            وأصدر الانجليز بعد الهدنة (14/7/1941) تأكيداً بعدم التطلع إلى الحلول محل فرنسا في أي جزء من امبراطوريتها. بل أقرت بريطانيا بالدور التاريخي لفرنسا في المشرق وبتفوق مصالحها في الشؤون الثقافية والاقتصادية.‏

            وماكاد يتم احتلال سورية ولبنان حتى بدأت مفاوضات صعبة بين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط، المقيم في القاهرة، المستر اوليفر لتلتون، وبين زعيم فرنسا الحرة الجنرال شارل ديجول في بيروت. فأكد الأول للثاني برسالة في 7/8/1941 أنه ليس لانكلترا من مصلحة في سورية ولبنان سوى كسب الحرب. وقد تعهدت فرنسا وبريطانيا العظمى بالاعتراف باستقلال سورية ولبنان. ومتى أقر هذا التدبير الأساسي فإن بريطانيا تعترف بأن يكون لفرنسا في سورية ولبنان حق الرجحان بالنسبة لأية دولة أوروبية أخرى.‏

            فأجاب الجنرال ديجول بنفس التاريخ أنه أخذ علماً بالتأكيدات التي قطعها له وزير الدولة مجدداً بما يتعلق بتجريد انكلترا عن كل غرض بسورية ولبنان واعترافها مقدماً بمكانة فرنسا الفضلى ومميزاتها عندما تستقل هذه البلاد، وفقاً للتعهد الذي قطعته لها فرنسا الحرة(2).‏

            وهكذا رتبت العلاقات بين طرفي الاحتلال في اتفاق (ديجول - لتلتون) الذي أرفق به الخطابان المتبادلان. وكانت هذه الاتفاقية بمثابة تفسير لاتفاقية عكا. وبذلك انتقلت إدارة سورية ولبنان إلى الفرنسيين الأحرار، واحتفظ الانكليز لأنفسهم بالقيادة العسكرية العامة. ونجح ديجول في إبعاد البريطانيين عن المشاركة في شؤون سورية ولبنان.‏

            ولكن هذا الاتفاق ولد ميتاً، فبعد بضعة أيام اتهم كاترو الانجليز بأنهم يدبرون مؤامرة مع الدروز للانفصال عن سورية والانضمام إلى شرقي الأردن. وكأن المندوب العام الفرنسي يتشكك من العلاقات التاريخية التي ربطت بين هذه الطائفة وبين الانجليز منذ القرن التاسع عشر. وقد دلت التجربة على أن فصل الشؤون السياسية عن العسكرية مستحيل في ظروف الحرب. وفي سورية كانت بريطانيا تشترك في حل مشكلات التموين وتضمن العملة الورقية بالاسترليني حتى تعيد الثقة إلى التجار، وهذه أمور تستدعي مشاركتها في المسائل الإدارية وبالتالي السياسية(3).‏

            وكانت بريطانيا ترى أن إبقاء الوضع على ماهو عليه قد يثير القلاقل في سورية ولبنان، وبالتالي يعرقل مجهود الحرب، فلابد من إجراء تغيير فعلي مع احتفاظ فرنسا ببعض الامتيازات مثل تلك التي تتمتع بها بريطانيا في مصر أو العراق(4). ولذلك صرح المستر تشرشل في 9/9/1941 في مجلس العموم البريطاني، مرة أخرى بأنه : "ليس للبريطانيين في سورية أي مطمع وأنهم على اتفاق تام مع حلفائهم وأصدقائهم الفرنسيين الأحرار بأن تمنح للسوريين الفرصة الطيبة ليتمتعوا فيها باستقلالهم وسيادتهم. وليس من الضروري إرجاء ذلك إلى مابعد انتهاء الحرب، بل ينبغي أن تساهم سورية منذ الآن المساهمة العملية في السلطة التي كانت تمارسها فرنسا وحدها، وإنشاء حكومة مستقلة. وإننا نفكر على الدوام في زيادة نصيب السوريين في الإدارة، وإن أحداً لايفكر في احتفاظ فرنسا بنفس الوضع الذي كانت تتمتع به في سورية قبل الحرب، وهو الوضع الذي تحققت الحكومة الفرنسية نفسها من وجوب انتهائه" .‏

            ثم ذكر اعتراف البريطانيين بما ينبغي أن يعود لفرنسا من الرجحان في سورية على سائر الشعوب الاوروبية، وضرب مثلاً لهذه العلاقات الخاصة مابين بريطانيا ومصر ومابينها وبين العراق. ولكن عاد فأكد أن استقلال سورية يبقى الحجر الأساسي الأول في السياسة الانكليزية.‏

            وقال تشرشل في خطبته أيضاً : "إنه لابد لنا من تحقيق الضمانات والواجبات التي أخذنا على عاتقنا القيام بها نحو الشعب السوري، وليست القضية، حتى في أيام الحرب، مجرد استبدال مصالح فرنسا الحرة بمصالح فيشــــي"(5).‏

            وحينما طالب وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط حكومته في أيلول 1941 بدراسة موضوع الاتحاد بين الدول العربية، قررت لجنة الشرق الأوسط أنه يصعب وضع برنامج محدد للاتحاد السياسي، وأنه من الواجب قصر مجهودات السلطات البريطانية على تسهيل التعاون الاقتصادي بين سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، وعلى تشجيع العلاقات الثقافية بين الدول العربية(5)مكرر.‏

            ولقد كانت السياسة الفرنسية تهدف في الأشهر الأولى من الاحتلال إلى الاحتفاظ بجميع امتيازات الدولة صاحبة الانتداب حتى نهاية الحرب. وإذن فإن الاستقلال الذي تضمنه تصريح كاترو لايعدو سوى تغيير في الشكل.‏

            2- إعلان استقلال دولة سورية في 27/9/1941 :‏

            عقب دخول القوات الحليفة دمشق، قدم خالد العظم في 22/6/1941 استقالة حكومته إلى قائد القوات الديغولية الجنرال كاترو، فأجابه بكتاب يطلب إليه فيه الاستمرار في الحكم ويؤكد رغبة فرنسا الحرة والحلفاء بما قطعته من وعد في المنشور الذي أذاعته في 8/6/1941 عن استقلال سورية وإعلان سيادتها(6).‏

            وكانت رغبة الجنرال ديغول (الذي قدم إلى سورية ولبنان في أوائل آب 1941) كبيرة في إقناع الرئيس هاشم الأتاسي بالعودة إلى تسلم مقاليد الحكم. وكانت لديه أسباب كثيرة تحمله على الجنوح إلى هذه الخطة، وهي شخصية وسياسية وشرعية. فتذاكر مع الأتاسي في شتورة ووكل إنجاز العمل إلى الجنرال كاترو لأنه على أهبة السفر، حتى يتفق وإياه على الشروط التي تقتضي ذلك.‏

            ولم يكن الجنرال كاترو، كما قال في مذكراته، ينكر المزايا التي تؤهل الرئيس الأتاسي للقيام بأعباء الرئاسة، فقد خرج من الحكم ولم يزل متمتعاً بثقة أبناء البلاد واحترامهم. إلا أنه لايشاطر الجنرال ديغول جميع آرائه في الأسباب التي تحمله على التمسك به.‏

            ويذكر الأرمنازي أنه : "بعد المفاوضات الأولى التي جرت بين الرئيس الأتاسي وبين الجنرال ديغول والجنرال كاترو، انتدبني الرئيس لمقابلة الجنرال كاترو في بيروت والبحث معه في بعض النواحي، فذكر لي أشخاصاً لتأليف الوزارة لم يكن من المنتظر اشتراكهم حينئذ في أوضاع الدولة الجديدة. ورأيت معلوماته لاتزال قديمة ومعرفته بالتطورات التي حدثت ضئيلة. وشعرت بأن الفرنسيين المقيمين في سورية يبثونه آراءهم وخططهم، ويشربونه إياها، فهو لايكاد يخرج عنها. وإطراؤه إياهم في مذكراته دلني على صحة ماوقع في نفسي من تلك المحادثة. وقد ضرب موعداً لزيارة الرئيس الأتاسي في حمص والاتفاق معه.‏

            "وفي اليوم الذي قرر فيه أن يقوم بهذه الزيارة، عدل عن رأيه وأرسل إلى الأتاسي سيارته حتى يأتي إلى دمشق. وربما كان هذا العدول ناشئاً عن اعتراضات مدسوسة من بعض مستشاريه. وقد ذكر الجنرال كاترو أنه عرض عليه استئناف الحكم طبقاً للأوضاع الدستورية التي كانت سنة 1939 فوافقه من حيث المبدأ. وبعد عدة اجتماعات لم يمكن الوصول إلى نتيجة لأن الرئيس الأتاسي لم يجبه على أسئلته إجابة توضح النواحي التي يريدها، ومن ذلك تأليف الحكم وبرنامجه، وموضوع المعاهدة وطريقة إبرامها والأساليب العملية للعلاقات بين الفريقين(7).‏

            "ولاحظ الجنرال أن الرئيس لايريد أن يقضي أمراً دون الاتفاق مع أصدقائه السياسيين، وهو ما لم يرتح إليه، إذ كان يريد أن يتخذ خطوات مستقلة، كما أنه لم يجد لديه مايريده في أمر المعاهدة، لأن الرغبات السورية التي أعرب عنها، ترمي إلى شيء جديد ينبغي أن تكون بطبيعة الأمر في مصلحة سورية. فضلاً عن أن عقدها يستلزم تحديد الفريقين المتعاقدين. وقد كانت فرنسا الحرة في وضع دولي يبعث الشكوك في نفوس السوريين وسواهم من بعض الأجانب .‏

            "ولقد حضرت هذه الاجتماعات التي أشار إليها الجنرال كاترو، وكنت أشاهد (كوله) صديق الشيخ تاج الدين يرقب بعين حذرة وجلة مايجري فيها : فكان يسري عنه عندما يجد تفاوت وجهات النظر يزداد مسافة لأنه كان يعمل ليحكم الشيخ تاج سورية ويحكمها معه أو يحكمها بواسطته. وقد استوقف نظري أن الجنرال كاترو حدثت في ملامحه حركة استنكار حينما بدأ الرئيس يذكر له أسماء الأشخاص الذين قد يختارهم لتأليف الوزارة. وكان الرئيس يصر على حكم ديمقراطي دستوري صحيح، أما الجنرال فلم يكن قانعاً بذلك، حتى أنه ضرب مثلاً بالحكم في أثناء الحرب في بريطانيا ونعتها بأم الديمقراطيات. ووعد الجنرال كاترو الرئيس الأتاسي بأن يرسل إليه محاضر الجلسات ولكنه لم يرسلها واتجه اتجاهاً جديداً أقرب إلى ميول مستشاريه في دمشق، وتحدث إلى بعض الأشخاص السوريين، وفي جملتهم فريق من المعروفين بسابق ممالأتهم لفرنسا(8).‏

            وتبادل الجنرال كاترو بتاريخ 12/9/1941 رسالتين مع الشيخ تاج الدين الحسني، تسلم بموجبهما رئاسة الجمهورية من لدنه(9). وكان الشيخ تاج الدين قد عاد إلى سورية من فرنسا، وقد اتفق مع الجنرال ديغول والجنرال كاترو على قبول رئاسة الجمهورية واعتراف الدولتين المتحالفتين فرنسا الحرة وبريطانيا العظمى باستقلال سورية وسيادتها. وكان تعيينه بطريقة غير دستورية. وبدوره عهد إلى حسن الحكيم بتأليف الوزارة في 16/9/1941 والذي استلم أيضاً وزارة المالية وزكي الخطيب للعدلية وفائز الخوري للشؤون الخارجية وبهيج الخطيب للداخلية بالوكالة وفيضي الأتاسي للتربية الوطنية (المعارف)، وعبدالغفار الأطرش للدفاع الوطني ومحمد العايش للاقتصاد الوطني ومنير العباس للأشغال العامة وحكمت الحراكي للإعاشة(10).‏

            فكانت الوزارة تمثل مناطق دولة سورية من أجل إعادة توحيدها. وكان خالد العظم قد تلقى في 12/9/1941 من الجنرال كاترو كتاباً بقبول استقالته(11). ثم صدرت مراسيم اشتراعية تحل محل النصوص الدستورية المتعلقة بكيفية نشر القوانين وإعادة النظر فيها وتحديد مسؤولية الوزراء وعددهم(12).‏

            وأعلن الجنرال كاترو Catroux في27/9/1941 بياناً تضمن أن سورية تتمتع بالحقوق والمزايا التي تتمتع بها الدول المستقلة ذات السيادة ولاتخضع هذه الحقوق والمميزات إلا للقيود التي تفرضها حالة الحرب الحاضرة وأمن البلاد السورية وسلامة الجيوش المتحالفة. ومن جهة أخرى فإن موقف سورية كحليفة لفرنسا الحرة وبريطانيا العظمى يستدعي انطباق سياستها انطباقاً تاماً على سياسة الحلفاء، وهي بدخولها في الحياة الدولية تنتقل إليها الحقوق والواجبات المعقودة باسمها، ويحق لها أن تعين ممثلين سياسيين لها حيث ترى أن مصالحها تقضى بهذا التمثيل. أما في سائر البلدان الأخرى فإن سلطات فرنسا الحرة تقدم المساعدة لتأمين الدفاع عن حقوق سورية، ومصالحها العامة وحماية السوريين فيها، ويحق لها أيضاً أن تشكل قواتها العسكرية بمؤازرة فرنسا الحرة.‏

            ثم ذكر أن سورية وحدة سياسية لاتتجزأ من الوجهة السياسية والجغرافية وأن مندوب فرنسا الحرة العام المطلق الصلاحية سيعدل النصوص التي تتضمن الأنظمة الخاصة الممنوحة سابقاً إلى بعض المناطق، بطريقة تضمن خضوع هذه المناطق سياسياً إلى السلطة المركزية مع استبقاء الاستقلال الإداري والمالي الذي تتمسك به .‏

            ثم بحث عن العلاقة بين سورية والدول الحليفة في أثناء الحرب، وذكر أن قيادة الحلفاء تتصرف منذ الآن بتجهيزات سورية ومصالحها العمومية، ولاسيما طرق المواصلات والمطارات ومنشآت الشواطىء بقدر ماتقتضيه الضرورات العسكرية. وانتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الشؤون الاقتصادية وختم كلامه بالبحث عن ضرورة قيام معاهدة فرنسية سورية .‏

            وهكذا بدأت الأوضاع الجديدة في سورية التي كان فيها بعض مظاهر الاستقلال لاحقائقه. واستمر الفرنسيون على عاداتهم في الحكم(13).‏

            وقد فسر بعض أصحاب الرأي إعلان كاترو قيام دولة سورية في يوم السبت 27/9/1941، بأنه كان رضوخاً لتصريح تشرشل في مجلس العموم البريطاني في 9/9/1941. على أنه يلاحظ أن الإعلان تضمن تأكيداً للصفة الجمهورية للدولة السورية الجديدة مما يشعر بأن فرنسا بادرت إلى هذا الإعلان لكي تحول دون فكرة الهلال الخصيب التي تردد الحديث عنها(14). وكانت مقالات الصحف البريطانية المحبذة لهذا المشروع قد خلفت نفوراً في قيادة فرنسا الحرة.‏

            ولم يعتبر السوريون إعلان استقلال سورية من قبل كاترو تقدماً حقيقياً نحو الاستقلال، إذ اقترن بتعيين رئيس الجمهورية من قبل مندوب فرنسا، ومن المستحيل أن يسلم السوريون للمندوب الفرنسي بهذا الحق، ولشخص سبق له أن تعاون مع الانتداب(15). ولذلك لم يكن لهذا التعيين وقع حسن في سورية ولا في سائر أجزاء العالم العربي، بل ردد انتقاده فريق من زعماء السياسة في بعض الدول الحليفة، لأن رئيس الجمهورية الذي يأتي عن هذه الطريقة لاينظر إليه بأنه حائز على الأوصاف التي تؤهله ليحكم بلاده حكماً مستقلاً برغم ما كان يحتج به بعض معاونيه من الحجج ويلقونه من الأسباب والمعاذير(16). وقد عرف الشيخ الحسني بصداقته للفرنسيين وكانوا يركنون له ويعهدون إليه بالحكم أكثر من مرة، وكان بانياً شعبياً، وفي عهده المتكرر أقيم عمران حكومي ملحوظ في البلاد(17).‏

            وقد قابل الشعب هذه الأحداث بعدم الاكتراث مادام أن الحياة الدستورية لم تستأنف وأن الفرنسيين لم يظهروا الاهتمام بإعادتها(18).‏

            3- إعلان استقلال دولة لبنان في 26/11/1941 :‏

            دخل الجنرال ديغول بيروت (في أوائل آب 1941) ليبدأ فيها سياسة فرنسا الحرة، فخطب باللبنانيين واعداً بحريات واسعة وناقداً سياسة مواطنيه السابقين. وكان صوته المتهدج في قصر الصنوبر، وهو مقام رئيس الجمهورية ببيروت، كصوت امبراطور روماني من اولئك الذين يقفون خطباء بالشعوب المستعمرة ويعدونها بالوعود البراقة. فلم تمر عليه أيام قلائل حتى أخذ يتقرب منه جماعة كانوا على الدوام من أسباب المشكلات السياسية في لبنان، وكانوا يفضلون الانتداب على الحرية والاستقلال ليظلوا شاعرين بالحنان الفرنسي ودفء الحماية الاستعمارية(19).‏

            وقد اتصل ديغول بمعظم زعماء لبنان الموالين لفرنسا، دون أن يبت في الوعود التي أذاعها كاترو باسمه، تاركاً تدبير القضايا للمندوب السامي العام (اللقب الجديد للمفوض الفرنسي) الذي حصر السلطات بيده، وأخذ يجوب المناطق اللبنانية فيستقبل بحفاوة مصطنعة أحياناً(20). واهتم كاترو بتنظيم الأوضاع في لبنان بعد انتهاء الأعمال الحربية واستقرار الأحوال المعيشية وتوفر فرص العمل بعد التسهيلات التي أمنها دخول لبنان منطقة الاسترليني. وتوقع اللبنانيون إعادة العمل بالدستور، إلا أن الجنرال كاترو، بعد اطلاعه على الأوضاع واجتماعه إلى جميع الأطراف اللبنانية، وجد أن المصلحة اللبنانية تقضي باستمرار تعليق الدستور، واستمرار النقاش في مركزه كرئيس للجمهورية، لأن الصراع كان حاداً بين الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية، فثبت الفرد نقاش في الرئاسة وطلب إليه تشكيل حكومة اتحاد وطني وعهد برئاستها إلى أحمد الداعوق(21).‏

            ويتحدث مسعود ضاهر عن آثار تصريح كاترو باستقلال سورية ولبنان فيقول : "جاء الإعلان ضربة أليمة للتيار الطائفي المنادي بضرورة بقاء الانتداب الفرنسي على أرض لبنان، والذي رفع دوماً شعار (لا لبنان بدون حماية فرنسية). وكان هذا التيار يرهن مستقبله السياسي على بقاء الجيوش الفرنسية على أرض لبنان ويبشر دوماً بأن الاعتراف بزوال الانتداب يعني زوال الحكم المسيحي منه. ويبالغ أحياناً في التخويف فيقول دعاته : "لاسبيل لبقاء المسيحيين في لبنان المستقل إلا بضمانة أجنبية فرنسية بالدرجة الأولى لمنع المسلمين من ابتلاعه أرضاً وشعباً". وتمثل هذا التيار أساساً بحزب الوحدة اللبنانية الطائفي والعديد من أنصار الرئيس أميل اده.‏

            " لقد أسقط بيان كاترو الاستقلالي معظم أوراق هذا التيار وانهار الجدار الفرنسي الذي كان يسند إليه ظهره، فهل باستطاعة أي تيار لبناني يبغي الحياة، مهما بلغ به التعصب الطائفي والسياسي، أن يطالب بأقل مما أظهر الفرنسيون أنفسهم من استعداد لتقديمه إلى شعبي سورية ولبنان، وهو مطلب الاستقلال؟‏

            "نسجل هنا أن أركان المفوضية العليا الفرنسية في بيروت ماكانوا على علم مسبق بنداء كاترو ولم يؤيدوه، بل اتهموا الجنرال بالعمالة للانجليز. وبقيت المفوضية العليا تؤيد دعاة التيار الطائفي هذا حفاظاً على امتيازاتها، وتحضره كبديل محلي في وجه التيار الاستقلالي الذي دعمته بريطانيا. وقام أركان المفوضية العليا الفرنسية بمحاولة اغتيال الجنرال كاترو الذي كتب الكثير في مذكراته حول خشيته من أعمال هؤلاء العسكريين والمستشارين الذين رفضوا السياسة الواقعية التي انتهجها لحل الأزمة اللبنانية والذين ساهموا كثيراً في تعقيدها وتفجيرها.‏

            "لقد لعبت السياسة الفرنسية في بيروت بدعم مباشر من الجنرال ديغول واللجنة الوطنية في الجزائر، دوراً هاماً في هدم (جسور الصداقة الفرنسية التقليدية) مع لبنان، وبات شعار الاستقلال وإزالة الانتداب شعاراً جماهيرياً يستقطب الأغلبية الساحقة من التيارات السياسية واللبنانية وعلى امتداد كافة الطوائف والمناطق في لبنان وذلك بتشجيع مباشر من الانكليز والعرب الموالين لهم. وبتنسيق كامل مع الكتلة الوطنية السورية"(22).‏

            والجدير بالذكر أن الصراع الدولي حول لبنان، تحول إلى صراع فرنسي بريطاني بعد انتصار الحلفاء مجدداً في لبنان والمنطقة في تموز 1941. وترجم هذا الصراع الجديد إلى صراع وتنافس بين اللبنانيين أنفسهم، ليس على أساس طائفي، وإنما على أساس سياسي، بحيث إن الموارنة أنفسهم شكلوا كتلتين : الأولى مؤيدة لفرنسا بزعامة اميل اده. والثانية مؤيدة لبريطانيا بزعامة بشارة الخوري. ويذكر سامي الصلح بأنه كان لكميل شمعون اليد الطولى في إقامة العلاقات بين بشارة الخوري ومن معه وبين بعثة سبيرز(23).‏

            وحول التنافس الماروني السياسي بين اده والخوري ذكر الجنرال ديغول في مذكراته بأنه كان تنافساً شديداً، وأنه سمع بشارة الخوري مرة يقول : "لقد احتل اده مقعد الرئاسة من قبل وقد حان الآن دوري". وقال ديغول عن رياض الصلح : "كان رياض الصلح، الزعيم العاطفي لمسلمي السنة، يرفع في غضون ذلك راية القومية العربية فوق المساجد مثيراً الفزع في المتنافسين دون أن يحملهما على الاتفاق". ورأى ديغول أنه بالرغم من أن الفرد نقاش كان أقل ذكاء من اميل اده وبشارة الخوري ورياض الصلح، غير أن فرنسا ساعدته للوصول إلى الحكم. ثم إن اميل اده ورياض الصلح لم يحاولا إرباك ومعارضة الرجل، بينما راح بشارة الخوري يحيك حوله الدسائس والمؤامرات(24).‏

            وفي برقية بريطانية سرية مرسلة بالشيفرة في 22/10/1941 إلى وزارة الحربية البريطانية إشارة إلى تأكيد الجنرال كاترو على إبقاء الفرد نقاش رئيساً للجمهورية وتعيين مسلم رئيساً للوزراء، وتشكيل حكومة من الشخصيات القوية(25).‏

            بينما رأى الجنرال ديغول أن تثبيت ماروني في رئاسة الجمهورية إنما يهدف إلى حماية المسيحيين في لبنان. ففي برقية أرسلها من لندن إلى الجنرال كاترو في بيروت في 28/10/1941 أكد له فيها موافقته على تثبيت الرئيس الفرد نقاش رئيساً للجمهورية طالباً منه حماية المسيحيين: "فعلينا قبل كل شيء وبصورة خاصة أن نحتفظ لفرنسا بالوسائل التي تكفل لها بصورة دائمة وفعالة حماية المسيحيين في لبنان"(26).‏

            بينما رأى الجنرال كاترو ضرورة التعاون بين بريطانيا وفرنسا لمواجهة الإسلام والمسلمين "، وأن نرى منافسات الماضي الوضيعة قد انطوت ليحل محلها شعور من التضامن بين أكبر دولتين تتحكمان في العالم الإسلامي لمواجهة الإسلام"(27)، علماً أن كاترو كان يتهم بريطانيا بأنها تسعى لوضع لبنان تحت السيطرة الإسلامية(28)، متذرعاً بأن البريطانيين يساعدون المسلمين في لبنان ضد الموارنة لإرضاء الدول العربية الخاضعة للنفوذ البريطاني. وهي محاولة بريطانية لإخضاع لبنان للنفوذ البريطاني(29).‏

            وبعد أن قام كاترو بزيارات إلى مختلف المناطق اللبنانية للوقوف على أوضاعها ومطالبها خرج بوعد قريب للاستقلال وحدد له يوم 26/11/1941 موعداً لإعلانه. وسبق ذلك مناورات قام بها المندوب البريطاني في لبنان الجنرال سبيرز لتحديد موعد للانتخابات النيابية من جهة ولتعديل صيغة الإعلان من جهة أخرى.‏

            وفي الموعد المحدد وبحضور الرئيس نقاش، أعلن الجنرال كاترو في خطابه استقلال لبنان باسم رئيس الفرنسيين الأحرار، وأن الدولة اللبنانية تتمتع بالحقوق والصلاحيات التي تعود للدولة المستقلة من دون أية قيود، سوى تلك التي تفرضها مستلزمات الحرب وأمن البلاد. وأن الدولة اللبنانية تشكل سياسياً وجغرافيا وحدة غير متجزئة يجب صيانتها ضد أي اعتداء. كما يحق للدولة اللبنانية انتداب ممثلين دبلوماسيين لدى الدول الأخرى، وإنشاء قوات عسكرية وطنية، وأن فرنسا ستسعى لتأمين اعتراف الدول باستقلال لبنان، وتضمن سيادتها وأراضيها وحدودها، وتؤمن لها الإفادة من دخول منطقة الاسترليني .‏

            ولكن كاترو كان يسعى أيضاً للحصول على مركز ممتاز لفرنسا في لبنان تكرسه معاهدة تعقد بين الدولتين. وجدد ثقته بالرئيس نقاش كحل يبعد الانقسام الناشىء عن خلاف الكتلتين الدستورية والوطنية. وشدد على الإبقاء على روح معاهدة 1936 التي رحب بها اللبنانيون فيما مضى.‏

            ورد الرئيس نقاش بشكره لفرنسا الحرة على مبادئها، مظهراً حرص لبنان على استمرار التعاون معها، إلا أنه تحفظ على عقد أية معاهدة معها قبل تحقيق الاستقلال الناجز(30).‏

            معظم أصحاب الرأي اعتبروا هذا الاستقلال مجحفاً، واهتمت فرنسا بنوع خاص لاحتجاج رئيس الكتلة الدستورية بشارة الخوري، فقد أذاع منشوراً يصف فيه الاستقلال بأنه مزيف وغير دستوري. ولكن كاترو اعتبر احتجاج الخوري من قبيل النقمة لإخفاقه في الوصول إلى كرسي الرئاسة. إلا أنه غضب لمساندة الدول العربية له وبنوع أخص مصطفى النحاس باشا. واحتج رياض الصلح بمذكرة أرسلها إلى كاترو، وذروة الاعتراض كانت احتجاج بكركي برعاية البطريرك الماروني انطوان عريضة(31).‏

            ولقد تجلى، منذ إصدار التصريح الخاص بقيام دولة لبنان في 26/11/1941، كيف أن فرنسا تعول على صداقة لبنان كما كان الحال في سنة 1920. واعتبر هذا التصريح مناقضاً لبيان 8/6/1941 الذي خير السوريين واللبنانيين بين إقامة دولة واحدة وتأسيس دول مختلفة. فهذا التصريح الجديد يؤكد انفصال القطرين، وعلاوة على ذلك يقطع السبيل على إقليم مثل طرابلس كان معظم سكانه يتطلعون إلى الانضمام لسورية في حالة انفصال القطرين(32). وهكذا عاد الفرنسيون لتأكيد التجزئة المفروضة بالقوة في بداية الاحتلال.‏

            وكما حدث في سورية، اختار كاترو رئيس الدولة في لبنان، ووقع اختياره على الفريد نقاش وهو من المعروفين أيضاً باستسلامهم للفرنسيين. وعمدت السلطات الفرنسية إلى إثارة التفرقة الطائفية كما كانت تفعل منذ بداية عهد الانتداب. ويبدو أن هؤلاء المسيحيين الذين كانوا يتطلعون في السابق إلى حماية فرنسا فقدوا ثقتهم بها وعلقوا آمالهم بدول أخرى أعظم شأناً مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة. هذا مع العلم بأن حدة الطائفية قد خفت بانتشار الثقافة العصرية، ولم يكن هناك إجماع من المسيحيين على ضرورة الاحتماء بدولة كبرى. طالما أن العرب اعترفوا باستقلالهم ولايشكلون خطراً عليهم .‏

            على أن الزعيمين اللذين كانا يتنافسان على زعامة لبنان في هذه الفترة وهما بشارة الخوري واميل اده اتفقا على مبدأ الكيان اللبناني، وكلاهما يمثل وجهة نظر الموارنة مع هذا الفارق، وهو أن بشارة الخوري كان يرى أن الاحتفاظ بكيان لبنان لايتعارض مع تعاونه مع الدول العربية في نطاق محدود، بينما أن أميل اده كان يفهم أن الكيان اللبناني يعني انعزاله تماماً عن العالم العربي المحيط به، لذلك حظي بتأييد الفرنسيين(33).‏

            ومما تجدر الإشارة إليه في إعلان استقلال لبنان، أن بريطانيا بشخص ممثلها الجنرال سبيرز اعترضت على الفقرة التي تنص أن الأراضي اللبنانية تشكل وحدة غير قابلة للتجزئة. ولدى رفض كاترو هذا الاعتراض طلب سبيرز حذف كلمة غير قابلة للتجزئة، لأن مثل هذا النص من شأنه أن يعرقل المشاريع الاتحادية التي كانت تتبناها بريطانيا، إلا أن إصرار الجانب الفرنسي على النص بحذافيره وحاجة الانجليز إلى التحالف مع فرنسا حملهم إلى القبول بالإعلان الفرنسي(34).‏

            4- موقف الدول من إعلان استقلال دولتي سورية ولبنان :‏

            كانت بريطانيا تصر على تحقيق الضمانات والواجبات تجاه الشعب السوري وليس فقط إحلال فرنسا الحرة محل فرنسا فيشي. وأشار الجنرال كاترو في مذكراته إلى هذه الفقرة من خطاب تشرشل في 9/9/1941 وكيف أنها كانت سلاحاً في يد الجنرال سبيرز يستعمله أنى أراد، وعقد فصلاً خاصاً لهذا السياسي العسكري البريطاني .‏

            لقد كانت بريطانيا تعمل من أجل مصالحها في الشرق الأوسط وطرق المواصلات مع مستعمراتها. فاعترفت باستقلال دولتي سورية ولبنان في 28/10/1941. وعينت وزيراً مفوضاً مطلق الصلاحية لدى الدولتين هو الجنرال ادوارد سبيرز في 11/2/1942 الذي سيلعب دوراً هاماً في توجيه الأحداث طوال فترة الحرب(35). بل كانت بريطانيا أول دولة هنأت لبنان بالاستقلال، وكان مندوبها الجنرال سبـيرز أول مبعوث دبلوماسي قدم أوراق اعتماده للرئيس اللبناني. وكان تعيين سبيرز سفيراً في لبنان أمر له دلالته الخاصة نظراً للصداقة التي تربطه بتشرشل(36).‏

            أما الولايات المتحدة، فقد قام تشرشل بإبلاغها بما اتفقت عليه بريطانيا وفرنسا الحرة إلى الرئيس روزفلت، وذكر أن الغاية منها منع تدخل الألمان. وأبلغ الفرنسيون أيضاً الولايات المتحدة ماصنعوه في سورية وطلبوا موافقتها عليه واقتفاء خطوات البريطانيين فيه. ولكنها تريثت في ذلك لأن لها حقوقاً منحتها إياها معاهدة 1924 التي عقدتها مع فرنسا في شأن انتدابها على سورية ولبنان، كما أن العلائق لم تبرح قائمة بين الولايات المتحدة وحكومة فيشي، ولاتعترف بحكومة فرنسا الحرة. غير أنها وجدت في اعتراف بريطانيا بما لفرنسا من رجحان، وتأكيد الجنرال ديغول أن لفرنسا وضعاً مميزاً في سورية، ماسبب تعقيدات كثيرة وأموراً مجهولة يجب أن تستطلعها.‏

            وكان تعبير الجنرال كاترو في إعلانه استقلال لبنان، عن (الوصاية الودية) قد جعل الولايات المتحدة تمعن الفكرة فأعلنت في بيان رسمي في 29/11/1941 عطف الحكومة الأمريكية وشعبها على أماني الشعبين السوري واللبناني في التمتع بحقوق السيادة التامة. وأضافت إلى ذلك أن معاهدة 1924 منحت الأمريكيين حقوقاً يجب أن تحافظ عليها حتى تعقد معاهدة جديدة. وبالرغم من مواصلة البريطانيين والفرنسيين السعي للحصول على اعتراف رسمي لم تخرج الولايات المتحدة عن خطتها، وظلت متربصة تنتظر تطورات هذا الاستقلال(37). وبرر (هل) موقف أمريكا بأن الحكومة القائمة ليست نتيجة التعبير عن إرادة الشعبين السوري واللبناني.‏

            واعترفت باستقلال سورية دول عديدة(38) وتحفظت عدة دول إزاء الاعتراف بالنظام الجديد في سورية ولبنان. ووقفت الحكومة المصرية موقفاً مشابهاً لموقف الولايات المتحدة إلى حد ما فذكرت أنها تعترف بالاستقلال ولكنها لاتعترف بالحكومة التي أقامها المندوب العام. كما امتنع العراق عن الاعتراف لنفس السبب ولسبب مختلف هو ترقب فرصة الهلال الخصيب. أما شرقي الأردن فإنه طلب في 6/1/1942 رفع الانتداب عنه. وندد بمساوىء الانتداب والتحكم الفرنسي في كل من سورية ولبنان، وبتعيين فرنسا لرئيسي الدولتين الجديدتين. وكذلك امتنعت تركيا عن الاعتراف بدولتي سورية ولبنان لأنها ماتزال تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع حكومة فيشي باعتبارها الحكومة الفرنسية الشرعية(39).‏

            وذكر تشرشل في مذكراته أن ستالين ذكر في حديث مع ايدن في 16/12/1942 رأيه في احتمال منح تركيا بعض الأجزاء في سورية الشمالية. ولعل الروس يبغون استمالة تركيا للوقوف في صفوف الحلفاء وتجنبها الوقوف في صف دول المحور. وصرح دبلوماسي تركي (سفير في موسكو) بأنه أبلغ ساسة الروس أن تركيا لاترغب مطلقاً بذلك وهي قانعة بالأراضي التي استقر عليها حكمها(40).‏

            وكانت عصبة الأمم بحكم المنتهية بقيام الحرب العالمية الثانية. بل إن فرنسا انسحبت منها. إلا أن الجنرال ديغول رفع مذكرة إلى أمين عام العصبة في 28/11/1941 أوضح فيها أسباب قيام قواته مع بريطانيا بغزو سورية ولبنان بأنه لمنع جعلهما قاعدة عسكرية ألمانية. وذكر أنه منذ 14/7/1941 تولى الصلاحيات والموجبات التي أعطيت لفرنسا بموجب صك الانتداب المؤرخ في 24/7/1922 والمنفذ في 29/9/1923. وذكر أن مندوبه الجنرال كاترو قام بإعلان استقلال الدولة السورية في 27/9/1941 استناداً على مبادىء صك الانتداب ومن سياسة فرنسا التقليدية.‏

            وأشار ديغول إلى العلاقات الخاصة القائمة بين فرنسا ولبنان، وأن كاترو أعلن في 26/11/1941 استقلال لبنان وسيادته. وأكد أن استقلال سورية ولبنان وسيادتهما لاتحدهما سوى ظروف الحرب(41).‏

            5- جمهورية سورية من إعلان الاستقلال27/9/41 وحتىالانتخابات25/3/1943‏

            بعد إعلان الاستقلال كانت الحكومة السورية برئاسة حسن الحكيم، قد أخذت تطالب بنقل الصلاحيات إليها من الفرنسيين. وتسلمت بعض السلطات البسيطة التي كانت بيد عمالها ورجالها. غير أن فرنسا ندمت على ذلك الإعلان وظلت تمارس كثيراً من السلطات رغم احتجاج الشعب السوري مدعية أن الظروف الدولية تحتم تجميد الأوضاع. إلا أن الشعب السوري أصر على تنفيذ الاستقلال الذي وضعت فرنسا العراقيل في سبيل تنفيذ وعده. وقد بذل رئيس الوزراء حسن الحكيم مجهوداً كبيراً لتحديد النفوذ الفرنسي وانتزاع أكثر أسبابه ومظاهره فاصطدم بمصاعب معقدة(1). ففي 29/11/1941 طالب رئيس الوزارة الجنرال كاترو ينقل بعض الصلاحيات إلى الحكومة السورية. وبمناسبة نقل صلاحيات منح جوازات السفر للرعايا السوريين إلى السلطات السورية في 4/3/1942 وربط مصلحة الجوازات بوزارة الداخلية. قدم حسن الحكيم كتاباً في 18/3/1942 أشار فيه إلى طلبه الشفهي في 6/3/1942 وعدد فيه أهم الصلاحيات التي يتطلب حلها ونقل صلاحياتها إلى الحكومة السورية وهي :‏

            1- حصر حق التشريع في الحكومة الوطنية السورية .‏

            2- تسليم الجمارك إلى الحكومة الســـــــورية.‏

            3- ربط دوائر الأمن العام بالحكومة السورية.‏

            4- إلغاء وظائف ضباط دوائر الاستخبـارات .‏

            5- إلغاء وظائف المستشارين لدى الحكومة السورية وجعلها بأقل عدد ممكن وتحديد صلاحياتهم الفنية .‏

            6- ربط مصلحة العشائر بالحكومة السوريـة .‏

            7- ربط مراقبة الصحف والمطبوعات بالحكومة السورية.‏

            8- تمثيل الحكومة السورية في قضايا الحدود .‏

            9- نقل حق مراقبة الشركات ذات الامتياز إلى الحكومة السورية.‏

            10- نقل صلاحيات مخالفات الإعاشة إلى المحاكم العسكرية السورية.‏

            11- إلغاء الاتفاقية المعقودة بين المفوضية العليا وسكة حديد دمشق حماة وتحديداتها بشأن استثمار السكة الحجازية التي هي وقف إسلامي وإعادة إدارة الخط المذكور إلى الدولة السورية كما كان سابقــــــاً عملاً برجائنا المؤرخ في 29/11/1941. وذكر الحكيم في كتابه إلى كاترو أن نقل الجوازات إلى السلطة السورية خطوة نحو توطيد أسـس الاستقلال الذي أعلنتموه في خطابكم التاريخي(43).‏

            وبعد مفاوضات عديدة جرت في هذا الصدد لم يوافق الجانب الفرنسي على التخلي عن صلاحياته للسوريين. ولهذا اضطرت وزارة حسن الحكيم إلى الاستقالة وفضل أن يبقى بعيداً عن الحوادث الجديدة في 18/4/1942. وأشار الأرمنازي إلى أن الحكيم اختلف مع رئيس الجمهورية(44).‏

            وكان للسيد حسن الحكيم أثر في استعادة منطقتي اللاذقية والسويداء (جبل الدروز) إلى أمهما سورية. إذ أعيدت الوحدة السورية بإعلان انضمامها إلى سورية في 20/1/1942(45).‏

            وتشكلت حكومة حسني البرازي الذي استلم أيضاً الداخلية، وفائز الخوري للمالية والشؤون الخارجية، والأمير حسن الأطرش للدفاع الوطني، وحكمت الحراكي للإعاشة، وخليل مردم بك للمعارف، وراغب كيخيا للعدلية ومحمد العايش للاقتصاد الوطني ومنير العباس للأشغال العامة ومنير العجلاني للدعاية والشباب، فكانت هذه الوزارة كسابقتها تمثل إعادة توحيد مناطق دولة سورية.‏

            وحدث سوء تفاهم حكومي بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية أدى إلى خلاف بينهما ومناقشـــات وتهجمات خطابية انتهت باستقالة الوزارة بعد أن ألقى رئيسها خطاباً سياســياً في فندق الشرق بدمشق ندد فيه بسياسة الشيخ تاج الملتوية وهاجم رجال القصر الجمهوري. وذكر الأرمنازي أن البرازي تعرض لأساليب الحكم ومناهجه وأعلن في الخطبة وجهة نظر المعارضة(46).‏

            وعهد الشيخ تاج إلى جميل الألشي في 8/1/1943 لتأليف الوزارة والذي استلم أيضاً الداخلية وفائز الخوري للشؤون الخارجية والأمير مصطفى الشهابي للمالية ومنير العجلاني للشؤون الاجتماعية والأمير حسن الأطرش للدفاع الوطني ومنير العباس للأشغال العامة والعدلية بالوكالة. وحكمت الحراكي للإعاشة ومحمد العايش للاقتصاد الوطني. ولم تكد هذه الوزارة تمارس أعمالها وتقوم بواجباتها الحكومية إلا أن فوجئت بعد أيام قليلة بوفاة رئيس الجمهورية الذي حدث على إثر مرض اعتراه. فأصدر مجلس الوزراء مرسوماً اشتراعياً تولى بحسبه مهام السلطة التنفيذية بالوكالة. واستمر الحكم على هذا المنوال حتى 25/3/1943.‏

            ومنذ وفاة رئيس الجمهورية وجدت في البلاد أزمة سياسية شديدة رافقتها اضطرابات شعبية عنيفة انتهت باستقالة وزارة الألشي وتكليف عطا الأيوبي بتأليف حكومة انتقالية في 25/3/1943 لإجراء الانتخابات وإعادة الحياة الدستورية(47).‏

            وفي 23/4/1943 ألغيت وزارة الشؤون الاجتماعية. فقد كان الاستياء يزداد بسبب سوء الحالة الاقتصادية (زيادة أسعار الخبز) من جهة وبسبب الرغبة في العودة إلى الحياة الدستورية وفي الحصول على الاستقلال التام من جهة أخرى. وبرزت الكتلة الوطنية من جديد وطالبت إما بإعادة مجلس 1939 المنحل أو بإجراء الانتخابات. وكان زعيمها شكري القوتلي(48).‏

            وتحدث العظم عن أسعار القمح وتوفيره للبنان : " وقد عادت طريقة الشراء الجبري التي اتبعتها (الميرة) بفائدة كبرى على لبنان من حيث توفير ماتحتاجه البلاد من القمح بسعر معتدل، فلم تحصل المجاعة التي أصابته في سنين الحرب العالمية الأولى. وأبى اللبنانيون أن يعترفوا بفضل سورية عليهم. وذلك بتوفيرها بأسعار أقل، وهي حاجتهم من الحبوب التي كانوا يشترونها قبل الحرب من الأسواق الخارجية كاستراليا وكندا. وكانوا لايلتفتون إلى الأسواق السورية إلا عندما تهبط أسعارها إلى أدنى من الأسعار الأجنبية. ونحن لانلوم التجار والمستهلكين اللبنانيين على تفضيلهم الأرخص من المواد الغذائية. لكننا من جانبنا لنا حق رفع أسعارنا حينما تحين الفرص. ومع هذا فإن سورية جرت على تحديد أسعار بيع القمح في لبنان على نفس الأساس المحدد لبيعه في سورية مع إضافة بسيطة قدرها إحدى عشرة بالمئة لقاء قيام موظفي الدولة السورية بتنفيذ خطط مصلحة الميرة ومنع تهريب الحنطة والدقيق إلى الأسواق السوداء. وحدد سعر طن القمح بمئتي وخمسين ليرة سورية. ثم ارتفع إلى 350 ل.س وهذا على كل حال لايرتفع عما وصلت إليه أسعار بقية الحاجات خلال الحرب. وهو من جهة ثانية إذا حسبناه بالعملة الذهبية أقل مما كان عليه قبل الحرب. وكان يشرف على مصلحة الميرة ويوجه سياستها مجلس مؤلف من رئيس سوري وثلاثة أعضاء لبناني وفرنسي وبريطاني"(49) بعد تحرير سورية من حكم فيشي.‏

            6- جمهورية لبنان من إعلان الاستقلال وحتى الانتخابات :‏

            كان لتصريح كاترو في 8/6/1941 بإعلان استقلال لبنان عدة آثار منها :‏

            الأثر الأول : ايقاظ الروح الوطنية في ضباط الجيش: إذ اجتمع ضباط الجيش اللبناني في 16/7/1941 ووقعوا عريضة جاء فيها : " نحن الموقعين بذيله ضباط القطع اللبنانية نتعهد مقسمين بشرفنا أننا لن نقبل بالخدمة إلا في سبيل لبنان وتحت رايته على أن لايكون لنا علاقة إلا مع حكومته الوطنية. وأن نعمل معاً لأجل تحقيق هذه الأمنية إلى ماشاء الله، وكل من يسلك غير هذا الطريق يعتبر خائناً ويشهر". وكان معظم اولئك الضباط بحكم التركيب الطائفي للجيش اللبناني، من الطائفة المارونية، مما يعني أن هناك تحولاً كبيراً في التفكير الوطني امتد حتى إلى المؤسـسة التي يفترض فيها أن لاتتعاطى في الأمور السياسية(50).‏

            الأثر الثاني : إضعاف التيار المؤيد للانتداب والذي يدعو إلى استمرار الصلات مع فرنسا لضمان عدم ذوبانه، والذي كان يتمثل بالكتلة الوطنية بعد أن تبين أن زعيمه ملكي أكثر من الملك. وهذه القضية سوف تظهرها نتائج انتخابات 1943 النيابية.‏

            الأثر الثالث : تقوية التيار الاستقلالي المنادي بالتعاون مع البلاد العربية : وقد تزعم هذا التيار قادة الكتلة الدستورية والزعماء المسلمون الذين لاقوا دعماً واسعاً من كبار التجار بعد أن شعر هؤلاء أن الانتداب الفرنسي قد تلاشى دوره وحل محله النفوذ البريطاني الذي كان يهيمن على المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً.‏

            وكان مما يزيد هذا التيار تعلقاً بمطلب الاستقلال التام، أن وعد الجنرال كاترو بالاستقلال، كان معلقاً على إجراء محادثات لعقد معاهدة. وكانت نقطة الانطلاق في تلك المحادثات هي معاهدة 1936 حسب تعبير الجنرال ديغول : "وهكذا فإن مهمة الانتداب التي أوكلت إلى فرنسا ستنتهي، أما عمل فرنسا فمستمر"(51). إلا أن هذه الفكرة لم تلق الترحيب من اللبنانيين لأن تجربة معاهدة 1936 كانت لاتزال ماثلة في الأذهان أو كما يقول (بيو) الذي خبر نفسية الشرقيين بالرغم من فترة حكمه القصيرة في لبنان : "في الشرق أكثر منه في أي مكان آخر، لايجوز الوعد والإخلال به"(52). ومن جهة أخرى كانت المعاهدة تعني قيوداً مفروضة على الاستقلال أو كما يعبر عنها كميل شمعون : "كانت تعني في الواقع نفياً للاستقلال"(53).‏

            الأثر الرابع : تبني البطريرك لمطلب الاستقلال التام : فقد كان على التيار الاستقلالي أن يستفيد من ظروف الحرب ليطالب باستقلال كامل وناجز، إلا أن هذا المطلب لم يكن سهل التحقيق. فالنفوذ الفرنسي كان راسخاً في المؤسـسات التي أوجدتها فرنسا طيلة عدة قرون، وأنصارها يحتلون مواقع بارزة في الحكم والإدارة. ومع ذلك كانت الفرصة سانحة من خلال مواقف البطريرك الماروني المتعارضة مع وجهة نظر المفوضية العليا. لهذا تنادت المعارضة إلى عقد مؤتمر لها في بكركي في يوم الميلاد 25/12/1941 دعي بمؤتمر الطوائف. ومن هناك، من معقل المارونية صديقة فرنسا التقليدية في المشرق، وقف البطريرك يطالب باستقلال لبنان الناجز معبراً عن رغبات الشعب. في حين كان قبل ثماني سنوات يطالب ببقاء الانتداب، معبراً عن رغبته بقوله : " نحن طلبنا الانتداب بمطلق إرادتنا ونريد أن يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للاستقلال التام، ولكن للظروف أحكاماً. ونرى الآن أننا مازلنا بحاجة للانتداب"(54).‏

            لقد استفاد التيار الاستقلالي من هذا التطور في موقف البطريرك ليدفع به إلى نهايته المنطقية: لا للعودة إلى الحماية الفرنسية، لا للعودة إلى سياسة المعاهدة التي تكبل الاستقلال.‏

            لذلك اتخذ المؤتمرون المقررات التالية :‏

            1- استقلال لبنان استقلالاً فعلياً يمكنه من تغيير مصيره بملء الاختيار.‏

            2- حرية لبنان بالتعاقد مع الدول الأجنبية كدولة مستقلة.‏

            3- سن قوانين دستورية تكفل الحريات الخاصة والعامة وتفرق بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعيــــة، وهذه تؤمن بواسطة مجلس سياسي منتخب انتخاباً حراً تتمثل فيه الطوائف والمناطق اللبنانية تمثيلاً عـــــــادلاً.‏

            4- تسليم الأحكام فعلاً إلى أبناء البلاد يحملون مسؤوليتها ويقومون بأعبائهـا.‏

            5- اعتبار كل عمل تأتيه الحكومة الحاضرة من شأنه أن يقيد البلاد، لاغياً .‏

            6- إعلان الثقة بالبطريرك لتحقيق هذه الأهداف بمؤازرة شخصيات تمثل الطوائف والمناطق اللبنانيــــة(55).‏

            والمؤتمر يجمع المعارضة على نفس المنطلقات الطائفية، لكنه يجمع الطاقات من أجل هدف وحيد وهو الوصول إلى الاستقلال السياسي على أساس وحدة الطوائف اللبنانية المتعايشة على أرض واحدة(56).‏

            لقد تنادت المعارضة إلى انتهاز الفرصة التاريخية ومد الموجة الوطنية العارمة المطالبة بالاستقلال كي تدخل إلى القلاع الطائفية التي تشكل آخر معاقل الفرنسيين المتشبثين بالبقاء على رقاب السوريين واللبنانيين. فدعت إلى تخطي الطابع التقليدي المعروف منذ مطلع عهد الانتداب والقائل برفض الانتداب رفضاً قاطعاً وعدم الاعتراف به، والتركيز دوماً على الوحدة مع سورية وعدم الاعتراف بشرعية ضم بيروت والمدن الكبرى والأقضية الأربعة إلى لبنان (الجبل). وكانت هذه الشعارات تبقى محصورة ضمن جدران المناطق الإسلامية والطوائف الإسلامية دون أن تتعداها إلى نفر قليل من المسيحيين. لكن ظروف 1941 تختلف عما سبقها، فسياسة الفرنسيين الجديدة قذفت بأعداد كبيرة من المسيحيين للوقوف في تيار المعارضة والدعوة إلى زوال الانتداب وتحقيق إصلاحات ديمقراطية(57).‏

            لقد كانت غضبة الفرنسيين كبيرة بحيث قطعوا كل اتصال لهم ببكركي وبالبطريرك، وعندما أدركوا صلابة موقفه ودعمه الكامل للمعارضة المطالبة بالاستقلال، تراجع الفرنسيون خطوة إلى الوراء. فحاول كاترو توسيط الرئيس السوري الشيخ تاج الدين الحسني، رجل فرنسا الأول في سورية، مع المعارضة اللبنانية والبطريرك الماروني، لكن الوساطة فشلت واتسعت شقة الخلاف.‏

            لقد حدد مؤتمر بكركي بروز تيارين أساسيين داخل الطائفة المارونية نفسها:‏

            الأول : بزعامة البطريرك وتؤيده جماهير واسعة من المزارعين والعمال وقيادات المعارضة خاصة بشارة الخوري وجماعة الكتلة الدستورية وترفع شعار الاستقلال وإبقاء الصداقة التقليدية مع فرنسا وتعزيز الصداقات مع العالم وتعزيز روابط لبنان مع الوطن العربي المجاور.‏

            الثاني : بزعامة المفوضية الفرنسية في بيروت ويرأسه داخلياً المطران مبارك كمنافس جدي للبطريرك ولا يأتمر بأوامره، ويتزعم تياراً طائفياً شديد التعصب يعادي عروبة لبنان ويؤيد بقاء الانتداب تحت ستار حماية المسيحيين فيه، وله ارتباطات وثيقة بالدوائر الايطالية والألمانية. وقد مثل حزب الوحدة اللبنانية التعبير السياسي لطروحات هذا التيار وأهدافه، كما كان يلقى الدعم من جماعة الكتلة الوطنية بزعامة اميل اده(58).‏

            ولقد مارست الحكومة اللبنانية الجديدة مهام السلطتين التنفيذية والتشريعية في ظل تغييب المجلس النيابي، مما يعتبر خرقاً للمبادىء الدستورية. وكانت السلطة الفعلية بيد الأجهزة الفرنسية(59).‏

            وكان سوء الأحوال الاقتصادية يزيد من تفاقم الأزمة، فقد "عمدت (الريجي) إلى زيادة أسعارها مرتين في أقل من سنة ..، وحذت شركة الترام حذو شركة الريجي.. واضطربت الإعاشــة اضطراباً ما فتىء يهدد البلاد بشر المصاير.. ودبت الفوضى فـــي أجهـــزة الإدارة..." (60).‏

            هذه الأمور كانت كافية لإثارة حملة على الانتداب الفرنسي بقيادة الكتلة الدستورية جعلت شعارها : المطالبة بانتخابات حرة والعودة إلى الحياة الدستورية ونقل الصلاحيات من الموظفين الفرنسيين إلى أبناء الوطن. وكان الدستوريون على اقتناع بأن دور فرنسا في المشرق قد انتهى. وقد شجعهم على هذا الاعتقاد ما لاقوه من تأييد بريطاني وعربي (مصر والعراق وسورية ...) حتى أنه يمكن القول أن قضية إجراء انتخابات حرة أصبحت مطلباً بريطانياً بعد أن راح الجنرال سبيرز يمارس تدخله على وجهين : من جهة يضغط على كاترو، ومن جهة ثانية يهدد الرئيس نقاش(61).‏

            ومما ساعد في التنافس البريطاني - الفرنسي في لبنان، مطالبة زعماء المعارضة في لبنان ومصر والعراق وبريطانيا بضرورة إجراء انتخابات نيابية يتلوها انتخاب لرئاسة الجمهورية. وقد عقدت لقاءات في مصر في 2/6/1942 ضمت النحاس باشا رئيس وزراء مصر وبشارة الخوري وجميل مردم بك وزير خارجية سورية، وذلك للبحث في مستقبل لبنان وسياسته إزاء سورية والدول العربية الأخرى. وأبدى بشارة الخوري استعداده للتعاون مع الدول العربية في حال وصوله لرئاسة الجمهورية. وقال : "إن عدداً من المسيحيين لايقتنع بضرورة هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده، أما أنا ورفقائي فمقتنعون بهذه النظرية ومستعدون للدفاع عنها ولتنفيذها"(62). فما كان من جميل مردم بك إلا أن قال : "نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية فنحن مستعدون لأن نتنازل عن كل مطلب لنا في لبنان، بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم"(63).‏

            وفي صيف 1942 حل ديغول في لبنان مرة ثانية وصرح بأنه "لايرى مبرراً الآن، وقوات رومل ترابط على أبواب الاسكندرية وتهدد الشرق الأوسط برمته، لاستفتاء الشعوب بإجراء انتخابات نيابية عامة. ولكنه سيأتي يوم تزول به هذه الموانع"(64).‏

            ونظراً لتخوف الفرنسيين من السياسة العربية والبريطانية في لبنان، فقد أرسل الجنرال كاترو برقية إلى الجنرال ديغول في 8/3/1943 اقترح فيها ضرورة توقيع معاهدة فرنسية لبنانية وأنها لن تتحقق إلا باستخدام المشاعر الطائفية العاطفية التي تربط اللبنانيين المسيحيين بفرنسا، وباستغلال غريزة الدفاع اللبناني حيال مشاريع الابتلاع العربية(65).‏

            وفي الوقت الذي كان التنافس البريطاني الفرنسي على أشده بشكل مباشر، أو عبر التنافس اللبناني اللبناني، فقد كان المسلمون والمسيحيون على السواء يشعرون بالخوف على مستقبلهم ومصيرهم ويتساءلون : هل سيكون المستقبل السياسي للبنان خاضعاً للنفوذ البريطاني أم للنفوذ الفرنسي ؟. وهل سيكون لبنان بلداً إسلامياً أم مسيحياً؟. إن التطورات السياسية الحاصلة في عام 1943 ستظهر الإجابات على هذه التساؤلات الهامة(66).‏
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

              الفصل الثاني

              فرنسا الحـــــــرة وبريطانيـــــا 14/7/1941 - 1943‏

              1-الصراع الفرنسي الانكليزي للسيطرة على سورية ولبنان:‏

              يوم احتلال قوات الحلفاء لدمشق، عين كاترو مندوباً عاماً لفرنسا في سورية ولبنان كما كان يرغب تشرشل، وليس مفوضاً سامياً كما كان يريد الفرنسيون مثلما كانت التسمية في السابق (1919-1941).‏

              وبالرغم من أن الجنرال كاترو صرح في إعلان الاستقلال أن ضمانات الحقوق العامة المنصوص عليها في القواعد الأساسية لصالح الأفراد والجماعات، تبقى محترمة ومصونة، فإنه لم يعرف شيء من احترام هذه الضمانات. وظلت الحريات مهددة. واستمرت (فرنسا الحرة) على نسق حكومة فيشي أو (حكومة الجمهورية الفرنسية الثالثة) تحكم الناس بالعنف والشدة وتأخذهم بالظنة والتهمة، ولاتبالي في سبيل غاياتها وأغراضها. (1)‏

              وتحول الصراع الانجليزي الفرنسي القديم إلى صراع بينهما على المشرق، وازداد الصراع احتداماً بين ديجول والانجليز حول مسألة المشرق بعد الاحتلال المشترك. واستفادت من ذلك الحركة الوطنية في سورية ولبنان في نهاية الأمر.‏

              وكان ديجول شديد الاستياء لإبعاده عن مفاوضات الهدنة، واعتبر اتفاقية عكا مهينة له ولمن قاتل من جنوده مع القوات البريطانية، واستنكرها وهدد بفك تحالفه مع بريطانيا إذا لم يتم تعديلها لأنها تؤدي في رأيه إلى تسليم بريطانيا زمام الأمور في بلاد المشرق من دون أن تراعى المصالح الفرنسية فيها.‏

              وأصدر الانجليز بعد الهدنة (14/7/1941) تأكيداً بعدم التطلع إلى الحلول محل فرنسا في أي جزء من امبراطوريتها. بل أقرت بريطانيا بالدور التاريخي لفرنسا في المشرق وبتفوق مصالحها في الشؤون الثقافية والاقتصادية.‏

              وماكاد يتم احتلال سورية ولبنان حتى بدأت مفاوضات صعبة بين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط، المقيم في القاهرة، المستر اوليفر لتلتون، وبين زعيم فرنسا الحرة الجنرال شارل ديجول في بيروت. فأكد الأول للثاني برسالة في 7/8/1941 أنه ليس لانكلترا من مصلحة في سورية ولبنان سوى كسب الحرب. وقد تعهدت فرنسا وبريطانيا العظمى بالاعتراف باستقلال سورية ولبنان. ومتى أقر هذا التدبير الأساسي فإن بريطانيا تعترف بأن يكون لفرنسا في سورية ولبنان حق الرجحان بالنسبة لأية دولة أوروبية أخرى.‏

              فأجاب الجنرال ديجول بنفس التاريخ أنه أخذ علماً بالتأكيدات التي قطعها له وزير الدولة مجدداً بما يتعلق بتجريد انكلترا عن كل غرض بسورية ولبنان واعترافها مقدماً بمكانة فرنسا الفضلى ومميزاتها عندما تستقل هذه البلاد، وفقاً للتعهد الذي قطعته لها فرنسا الحرة(2).‏

              وهكذا رتبت العلاقات بين طرفي الاحتلال في اتفاق (ديجول - لتلتون) الذي أرفق به الخطابان المتبادلان. وكانت هذه الاتفاقية بمثابة تفسير لاتفاقية عكا. وبذلك انتقلت إدارة سورية ولبنان إلى الفرنسيين الأحرار، واحتفظ الانكليز لأنفسهم بالقيادة العسكرية العامة. ونجح ديجول في إبعاد البريطانيين عن المشاركة في شؤون سورية ولبنان.‏

              ولكن هذا الاتفاق ولد ميتاً، فبعد بضعة أيام اتهم كاترو الانجليز بأنهم يدبرون مؤامرة مع الدروز للانفصال عن سورية والانضمام إلى شرقي الأردن. وكأن المندوب العام الفرنسي يتشكك من العلاقات التاريخية التي ربطت بين هذه الطائفة وبين الانجليز منذ القرن التاسع عشر. وقد دلت التجربة على أن فصل الشؤون السياسية عن العسكرية مستحيل في ظروف الحرب. وفي سورية كانت بريطانيا تشترك في حل مشكلات التموين وتضمن العملة الورقية بالاسترليني حتى تعيد الثقة إلى التجار، وهذه أمور تستدعي مشاركتها في المسائل الإدارية وبالتالي السياسية(3).‏

              وكانت بريطانيا ترى أن إبقاء الوضع على ماهو عليه قد يثير القلاقل في سورية ولبنان، وبالتالي يعرقل مجهود الحرب، فلابد من إجراء تغيير فعلي مع احتفاظ فرنسا ببعض الامتيازات مثل تلك التي تتمتع بها بريطانيا في مصر أو العراق(4). ولذلك صرح المستر تشرشل في 9/9/1941 في مجلس العموم البريطاني، مرة أخرى بأنه : "ليس للبريطانيين في سورية أي مطمع وأنهم على اتفاق تام مع حلفائهم وأصدقائهم الفرنسيين الأحرار بأن تمنح للسوريين الفرصة الطيبة ليتمتعوا فيها باستقلالهم وسيادتهم. وليس من الضروري إرجاء ذلك إلى مابعد انتهاء الحرب، بل ينبغي أن تساهم سورية منذ الآن المساهمة العملية في السلطة التي كانت تمارسها فرنسا وحدها، وإنشاء حكومة مستقلة. وإننا نفكر على الدوام في زيادة نصيب السوريين في الإدارة، وإن أحداً لايفكر في احتفاظ فرنسا بنفس الوضع الذي كانت تتمتع به في سورية قبل الحرب، وهو الوضع الذي تحققت الحكومة الفرنسية نفسها من وجوب انتهائه" .‏

              ثم ذكر اعتراف البريطانيين بما ينبغي أن يعود لفرنسا من الرجحان في سورية على سائر الشعوب الاوروبية، وضرب مثلاً لهذه العلاقات الخاصة مابين بريطانيا ومصر ومابينها وبين العراق. ولكن عاد فأكد أن استقلال سورية يبقى الحجر الأساسي الأول في السياسة الانكليزية.‏

              وقال تشرشل في خطبته أيضاً : "إنه لابد لنا من تحقيق الضمانات والواجبات التي أخذنا على عاتقنا القيام بها نحو الشعب السوري، وليست القضية، حتى في أيام الحرب، مجرد استبدال مصالح فرنسا الحرة بمصالح فيشــــي"(5).‏

              وحينما طالب وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط حكومته في أيلول 1941 بدراسة موضوع الاتحاد بين الدول العربية، قررت لجنة الشرق الأوسط أنه يصعب وضع برنامج محدد للاتحاد السياسي، وأنه من الواجب قصر مجهودات السلطات البريطانية على تسهيل التعاون الاقتصادي بين سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، وعلى تشجيع العلاقات الثقافية بين الدول العربية(5)مكرر.‏

              ولقد كانت السياسة الفرنسية تهدف في الأشهر الأولى من الاحتلال إلى الاحتفاظ بجميع امتيازات الدولة صاحبة الانتداب حتى نهاية الحرب. وإذن فإن الاستقلال الذي تضمنه تصريح كاترو لايعدو سوى تغيير في الشكل.‏

              2- إعلان استقلال دولة سورية في 27/9/1941 :‏

              عقب دخول القوات الحليفة دمشق، قدم خالد العظم في 22/6/1941 استقالة حكومته إلى قائد القوات الديغولية الجنرال كاترو، فأجابه بكتاب يطلب إليه فيه الاستمرار في الحكم ويؤكد رغبة فرنسا الحرة والحلفاء بما قطعته من وعد في المنشور الذي أذاعته في 8/6/1941 عن استقلال سورية وإعلان سيادتها(6).‏

              وكانت رغبة الجنرال ديغول (الذي قدم إلى سورية ولبنان في أوائل آب 1941) كبيرة في إقناع الرئيس هاشم الأتاسي بالعودة إلى تسلم مقاليد الحكم. وكانت لديه أسباب كثيرة تحمله على الجنوح إلى هذه الخطة، وهي شخصية وسياسية وشرعية. فتذاكر مع الأتاسي في شتورة ووكل إنجاز العمل إلى الجنرال كاترو لأنه على أهبة السفر، حتى يتفق وإياه على الشروط التي تقتضي ذلك.‏

              ولم يكن الجنرال كاترو، كما قال في مذكراته، ينكر المزايا التي تؤهل الرئيس الأتاسي للقيام بأعباء الرئاسة، فقد خرج من الحكم ولم يزل متمتعاً بثقة أبناء البلاد واحترامهم. إلا أنه لايشاطر الجنرال ديغول جميع آرائه في الأسباب التي تحمله على التمسك به.‏

              ويذكر الأرمنازي أنه : "بعد المفاوضات الأولى التي جرت بين الرئيس الأتاسي وبين الجنرال ديغول والجنرال كاترو، انتدبني الرئيس لمقابلة الجنرال كاترو في بيروت والبحث معه في بعض النواحي، فذكر لي أشخاصاً لتأليف الوزارة لم يكن من المنتظر اشتراكهم حينئذ في أوضاع الدولة الجديدة. ورأيت معلوماته لاتزال قديمة ومعرفته بالتطورات التي حدثت ضئيلة. وشعرت بأن الفرنسيين المقيمين في سورية يبثونه آراءهم وخططهم، ويشربونه إياها، فهو لايكاد يخرج عنها. وإطراؤه إياهم في مذكراته دلني على صحة ماوقع في نفسي من تلك المحادثة. وقد ضرب موعداً لزيارة الرئيس الأتاسي في حمص والاتفاق معه.‏

              "وفي اليوم الذي قرر فيه أن يقوم بهذه الزيارة، عدل عن رأيه وأرسل إلى الأتاسي سيارته حتى يأتي إلى دمشق. وربما كان هذا العدول ناشئاً عن اعتراضات مدسوسة من بعض مستشاريه. وقد ذكر الجنرال كاترو أنه عرض عليه استئناف الحكم طبقاً للأوضاع الدستورية التي كانت سنة 1939 فوافقه من حيث المبدأ. وبعد عدة اجتماعات لم يمكن الوصول إلى نتيجة لأن الرئيس الأتاسي لم يجبه على أسئلته إجابة توضح النواحي التي يريدها، ومن ذلك تأليف الحكم وبرنامجه، وموضوع المعاهدة وطريقة إبرامها والأساليب العملية للعلاقات بين الفريقين(7).‏

              "ولاحظ الجنرال أن الرئيس لايريد أن يقضي أمراً دون الاتفاق مع أصدقائه السياسيين، وهو ما لم يرتح إليه، إذ كان يريد أن يتخذ خطوات مستقلة، كما أنه لم يجد لديه مايريده في أمر المعاهدة، لأن الرغبات السورية التي أعرب عنها، ترمي إلى شيء جديد ينبغي أن تكون بطبيعة الأمر في مصلحة سورية. فضلاً عن أن عقدها يستلزم تحديد الفريقين المتعاقدين. وقد كانت فرنسا الحرة في وضع دولي يبعث الشكوك في نفوس السوريين وسواهم من بعض الأجانب .‏

              "ولقد حضرت هذه الاجتماعات التي أشار إليها الجنرال كاترو، وكنت أشاهد (كوله) صديق الشيخ تاج الدين يرقب بعين حذرة وجلة مايجري فيها : فكان يسري عنه عندما يجد تفاوت وجهات النظر يزداد مسافة لأنه كان يعمل ليحكم الشيخ تاج سورية ويحكمها معه أو يحكمها بواسطته. وقد استوقف نظري أن الجنرال كاترو حدثت في ملامحه حركة استنكار حينما بدأ الرئيس يذكر له أسماء الأشخاص الذين قد يختارهم لتأليف الوزارة. وكان الرئيس يصر على حكم ديمقراطي دستوري صحيح، أما الجنرال فلم يكن قانعاً بذلك، حتى أنه ضرب مثلاً بالحكم في أثناء الحرب في بريطانيا ونعتها بأم الديمقراطيات. ووعد الجنرال كاترو الرئيس الأتاسي بأن يرسل إليه محاضر الجلسات ولكنه لم يرسلها واتجه اتجاهاً جديداً أقرب إلى ميول مستشاريه في دمشق، وتحدث إلى بعض الأشخاص السوريين، وفي جملتهم فريق من المعروفين بسابق ممالأتهم لفرنسا(8).‏

              وتبادل الجنرال كاترو بتاريخ 12/9/1941 رسالتين مع الشيخ تاج الدين الحسني، تسلم بموجبهما رئاسة الجمهورية من لدنه(9). وكان الشيخ تاج الدين قد عاد إلى سورية من فرنسا، وقد اتفق مع الجنرال ديغول والجنرال كاترو على قبول رئاسة الجمهورية واعتراف الدولتين المتحالفتين فرنسا الحرة وبريطانيا العظمى باستقلال سورية وسيادتها. وكان تعيينه بطريقة غير دستورية. وبدوره عهد إلى حسن الحكيم بتأليف الوزارة في 16/9/1941 والذي استلم أيضاً وزارة المالية وزكي الخطيب للعدلية وفائز الخوري للشؤون الخارجية وبهيج الخطيب للداخلية بالوكالة وفيضي الأتاسي للتربية الوطنية (المعارف)، وعبدالغفار الأطرش للدفاع الوطني ومحمد العايش للاقتصاد الوطني ومنير العباس للأشغال العامة وحكمت الحراكي للإعاشة(10).‏

              فكانت الوزارة تمثل مناطق دولة سورية من أجل إعادة توحيدها. وكان خالد العظم قد تلقى في 12/9/1941 من الجنرال كاترو كتاباً بقبول استقالته(11). ثم صدرت مراسيم اشتراعية تحل محل النصوص الدستورية المتعلقة بكيفية نشر القوانين وإعادة النظر فيها وتحديد مسؤولية الوزراء وعددهم(12).‏

              وأعلن الجنرال كاترو Catroux في27/9/1941 بياناً تضمن أن سورية تتمتع بالحقوق والمزايا التي تتمتع بها الدول المستقلة ذات السيادة ولاتخضع هذه الحقوق والمميزات إلا للقيود التي تفرضها حالة الحرب الحاضرة وأمن البلاد السورية وسلامة الجيوش المتحالفة. ومن جهة أخرى فإن موقف سورية كحليفة لفرنسا الحرة وبريطانيا العظمى يستدعي انطباق سياستها انطباقاً تاماً على سياسة الحلفاء، وهي بدخولها في الحياة الدولية تنتقل إليها الحقوق والواجبات المعقودة باسمها، ويحق لها أن تعين ممثلين سياسيين لها حيث ترى أن مصالحها تقضى بهذا التمثيل. أما في سائر البلدان الأخرى فإن سلطات فرنسا الحرة تقدم المساعدة لتأمين الدفاع عن حقوق سورية، ومصالحها العامة وحماية السوريين فيها، ويحق لها أيضاً أن تشكل قواتها العسكرية بمؤازرة فرنسا الحرة.‏

              ثم ذكر أن سورية وحدة سياسية لاتتجزأ من الوجهة السياسية والجغرافية وأن مندوب فرنسا الحرة العام المطلق الصلاحية سيعدل النصوص التي تتضمن الأنظمة الخاصة الممنوحة سابقاً إلى بعض المناطق، بطريقة تضمن خضوع هذه المناطق سياسياً إلى السلطة المركزية مع استبقاء الاستقلال الإداري والمالي الذي تتمسك به .‏

              ثم بحث عن العلاقة بين سورية والدول الحليفة في أثناء الحرب، وذكر أن قيادة الحلفاء تتصرف منذ الآن بتجهيزات سورية ومصالحها العمومية، ولاسيما طرق المواصلات والمطارات ومنشآت الشواطىء بقدر ماتقتضيه الضرورات العسكرية. وانتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الشؤون الاقتصادية وختم كلامه بالبحث عن ضرورة قيام معاهدة فرنسية سورية .‏

              وهكذا بدأت الأوضاع الجديدة في سورية التي كان فيها بعض مظاهر الاستقلال لاحقائقه. واستمر الفرنسيون على عاداتهم في الحكم(13).‏

              وقد فسر بعض أصحاب الرأي إعلان كاترو قيام دولة سورية في يوم السبت 27/9/1941، بأنه كان رضوخاً لتصريح تشرشل في مجلس العموم البريطاني في 9/9/1941. على أنه يلاحظ أن الإعلان تضمن تأكيداً للصفة الجمهورية للدولة السورية الجديدة مما يشعر بأن فرنسا بادرت إلى هذا الإعلان لكي تحول دون فكرة الهلال الخصيب التي تردد الحديث عنها(14). وكانت مقالات الصحف البريطانية المحبذة لهذا المشروع قد خلفت نفوراً في قيادة فرنسا الحرة.‏

              ولم يعتبر السوريون إعلان استقلال سورية من قبل كاترو تقدماً حقيقياً نحو الاستقلال، إذ اقترن بتعيين رئيس الجمهورية من قبل مندوب فرنسا، ومن المستحيل أن يسلم السوريون للمندوب الفرنسي بهذا الحق، ولشخص سبق له أن تعاون مع الانتداب(15). ولذلك لم يكن لهذا التعيين وقع حسن في سورية ولا في سائر أجزاء العالم العربي، بل ردد انتقاده فريق من زعماء السياسة في بعض الدول الحليفة، لأن رئيس الجمهورية الذي يأتي عن هذه الطريقة لاينظر إليه بأنه حائز على الأوصاف التي تؤهله ليحكم بلاده حكماً مستقلاً برغم ما كان يحتج به بعض معاونيه من الحجج ويلقونه من الأسباب والمعاذير(16). وقد عرف الشيخ الحسني بصداقته للفرنسيين وكانوا يركنون له ويعهدون إليه بالحكم أكثر من مرة، وكان بانياً شعبياً، وفي عهده المتكرر أقيم عمران حكومي ملحوظ في البلاد(17).‏

              وقد قابل الشعب هذه الأحداث بعدم الاكتراث مادام أن الحياة الدستورية لم تستأنف وأن الفرنسيين لم يظهروا الاهتمام بإعادتها(18).‏

              3- إعلان استقلال دولة لبنان في 26/11/1941 :‏

              دخل الجنرال ديغول بيروت (في أوائل آب 1941) ليبدأ فيها سياسة فرنسا الحرة، فخطب باللبنانيين واعداً بحريات واسعة وناقداً سياسة مواطنيه السابقين. وكان صوته المتهدج في قصر الصنوبر، وهو مقام رئيس الجمهورية ببيروت، كصوت امبراطور روماني من اولئك الذين يقفون خطباء بالشعوب المستعمرة ويعدونها بالوعود البراقة. فلم تمر عليه أيام قلائل حتى أخذ يتقرب منه جماعة كانوا على الدوام من أسباب المشكلات السياسية في لبنان، وكانوا يفضلون الانتداب على الحرية والاستقلال ليظلوا شاعرين بالحنان الفرنسي ودفء الحماية الاستعمارية(19).‏

              وقد اتصل ديغول بمعظم زعماء لبنان الموالين لفرنسا، دون أن يبت في الوعود التي أذاعها كاترو باسمه، تاركاً تدبير القضايا للمندوب السامي العام (اللقب الجديد للمفوض الفرنسي) الذي حصر السلطات بيده، وأخذ يجوب المناطق اللبنانية فيستقبل بحفاوة مصطنعة أحياناً(20). واهتم كاترو بتنظيم الأوضاع في لبنان بعد انتهاء الأعمال الحربية واستقرار الأحوال المعيشية وتوفر فرص العمل بعد التسهيلات التي أمنها دخول لبنان منطقة الاسترليني. وتوقع اللبنانيون إعادة العمل بالدستور، إلا أن الجنرال كاترو، بعد اطلاعه على الأوضاع واجتماعه إلى جميع الأطراف اللبنانية، وجد أن المصلحة اللبنانية تقضي باستمرار تعليق الدستور، واستمرار النقاش في مركزه كرئيس للجمهورية، لأن الصراع كان حاداً بين الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية، فثبت الفرد نقاش في الرئاسة وطلب إليه تشكيل حكومة اتحاد وطني وعهد برئاستها إلى أحمد الداعوق(21).‏

              ويتحدث مسعود ضاهر عن آثار تصريح كاترو باستقلال سورية ولبنان فيقول : "جاء الإعلان ضربة أليمة للتيار الطائفي المنادي بضرورة بقاء الانتداب الفرنسي على أرض لبنان، والذي رفع دوماً شعار (لا لبنان بدون حماية فرنسية). وكان هذا التيار يرهن مستقبله السياسي على بقاء الجيوش الفرنسية على أرض لبنان ويبشر دوماً بأن الاعتراف بزوال الانتداب يعني زوال الحكم المسيحي منه. ويبالغ أحياناً في التخويف فيقول دعاته : "لاسبيل لبقاء المسيحيين في لبنان المستقل إلا بضمانة أجنبية فرنسية بالدرجة الأولى لمنع المسلمين من ابتلاعه أرضاً وشعباً". وتمثل هذا التيار أساساً بحزب الوحدة اللبنانية الطائفي والعديد من أنصار الرئيس أميل اده.‏

              " لقد أسقط بيان كاترو الاستقلالي معظم أوراق هذا التيار وانهار الجدار الفرنسي الذي كان يسند إليه ظهره، فهل باستطاعة أي تيار لبناني يبغي الحياة، مهما بلغ به التعصب الطائفي والسياسي، أن يطالب بأقل مما أظهر الفرنسيون أنفسهم من استعداد لتقديمه إلى شعبي سورية ولبنان، وهو مطلب الاستقلال؟‏

              "نسجل هنا أن أركان المفوضية العليا الفرنسية في بيروت ماكانوا على علم مسبق بنداء كاترو ولم يؤيدوه، بل اتهموا الجنرال بالعمالة للانجليز. وبقيت المفوضية العليا تؤيد دعاة التيار الطائفي هذا حفاظاً على امتيازاتها، وتحضره كبديل محلي في وجه التيار الاستقلالي الذي دعمته بريطانيا. وقام أركان المفوضية العليا الفرنسية بمحاولة اغتيال الجنرال كاترو الذي كتب الكثير في مذكراته حول خشيته من أعمال هؤلاء العسكريين والمستشارين الذين رفضوا السياسة الواقعية التي انتهجها لحل الأزمة اللبنانية والذين ساهموا كثيراً في تعقيدها وتفجيرها.‏

              "لقد لعبت السياسة الفرنسية في بيروت بدعم مباشر من الجنرال ديغول واللجنة الوطنية في الجزائر، دوراً هاماً في هدم (جسور الصداقة الفرنسية التقليدية) مع لبنان، وبات شعار الاستقلال وإزالة الانتداب شعاراً جماهيرياً يستقطب الأغلبية الساحقة من التيارات السياسية واللبنانية وعلى امتداد كافة الطوائف والمناطق في لبنان وذلك بتشجيع مباشر من الانكليز والعرب الموالين لهم. وبتنسيق كامل مع الكتلة الوطنية السورية"(22).‏

              والجدير بالذكر أن الصراع الدولي حول لبنان، تحول إلى صراع فرنسي بريطاني بعد انتصار الحلفاء مجدداً في لبنان والمنطقة في تموز 1941. وترجم هذا الصراع الجديد إلى صراع وتنافس بين اللبنانيين أنفسهم، ليس على أساس طائفي، وإنما على أساس سياسي، بحيث إن الموارنة أنفسهم شكلوا كتلتين : الأولى مؤيدة لفرنسا بزعامة اميل اده. والثانية مؤيدة لبريطانيا بزعامة بشارة الخوري. ويذكر سامي الصلح بأنه كان لكميل شمعون اليد الطولى في إقامة العلاقات بين بشارة الخوري ومن معه وبين بعثة سبيرز(23).‏

              وحول التنافس الماروني السياسي بين اده والخوري ذكر الجنرال ديغول في مذكراته بأنه كان تنافساً شديداً، وأنه سمع بشارة الخوري مرة يقول : "لقد احتل اده مقعد الرئاسة من قبل وقد حان الآن دوري". وقال ديغول عن رياض الصلح : "كان رياض الصلح، الزعيم العاطفي لمسلمي السنة، يرفع في غضون ذلك راية القومية العربية فوق المساجد مثيراً الفزع في المتنافسين دون أن يحملهما على الاتفاق". ورأى ديغول أنه بالرغم من أن الفرد نقاش كان أقل ذكاء من اميل اده وبشارة الخوري ورياض الصلح، غير أن فرنسا ساعدته للوصول إلى الحكم. ثم إن اميل اده ورياض الصلح لم يحاولا إرباك ومعارضة الرجل، بينما راح بشارة الخوري يحيك حوله الدسائس والمؤامرات(24).‏

              وفي برقية بريطانية سرية مرسلة بالشيفرة في 22/10/1941 إلى وزارة الحربية البريطانية إشارة إلى تأكيد الجنرال كاترو على إبقاء الفرد نقاش رئيساً للجمهورية وتعيين مسلم رئيساً للوزراء، وتشكيل حكومة من الشخصيات القوية(25).‏

              بينما رأى الجنرال ديغول أن تثبيت ماروني في رئاسة الجمهورية إنما يهدف إلى حماية المسيحيين في لبنان. ففي برقية أرسلها من لندن إلى الجنرال كاترو في بيروت في 28/10/1941 أكد له فيها موافقته على تثبيت الرئيس الفرد نقاش رئيساً للجمهورية طالباً منه حماية المسيحيين: "فعلينا قبل كل شيء وبصورة خاصة أن نحتفظ لفرنسا بالوسائل التي تكفل لها بصورة دائمة وفعالة حماية المسيحيين في لبنان"(26).‏

              بينما رأى الجنرال كاترو ضرورة التعاون بين بريطانيا وفرنسا لمواجهة الإسلام والمسلمين "، وأن نرى منافسات الماضي الوضيعة قد انطوت ليحل محلها شعور من التضامن بين أكبر دولتين تتحكمان في العالم الإسلامي لمواجهة الإسلام"(27)، علماً أن كاترو كان يتهم بريطانيا بأنها تسعى لوضع لبنان تحت السيطرة الإسلامية(28)، متذرعاً بأن البريطانيين يساعدون المسلمين في لبنان ضد الموارنة لإرضاء الدول العربية الخاضعة للنفوذ البريطاني. وهي محاولة بريطانية لإخضاع لبنان للنفوذ البريطاني(29).‏

              وبعد أن قام كاترو بزيارات إلى مختلف المناطق اللبنانية للوقوف على أوضاعها ومطالبها خرج بوعد قريب للاستقلال وحدد له يوم 26/11/1941 موعداً لإعلانه. وسبق ذلك مناورات قام بها المندوب البريطاني في لبنان الجنرال سبيرز لتحديد موعد للانتخابات النيابية من جهة ولتعديل صيغة الإعلان من جهة أخرى.‏

              وفي الموعد المحدد وبحضور الرئيس نقاش، أعلن الجنرال كاترو في خطابه استقلال لبنان باسم رئيس الفرنسيين الأحرار، وأن الدولة اللبنانية تتمتع بالحقوق والصلاحيات التي تعود للدولة المستقلة من دون أية قيود، سوى تلك التي تفرضها مستلزمات الحرب وأمن البلاد. وأن الدولة اللبنانية تشكل سياسياً وجغرافيا وحدة غير متجزئة يجب صيانتها ضد أي اعتداء. كما يحق للدولة اللبنانية انتداب ممثلين دبلوماسيين لدى الدول الأخرى، وإنشاء قوات عسكرية وطنية، وأن فرنسا ستسعى لتأمين اعتراف الدول باستقلال لبنان، وتضمن سيادتها وأراضيها وحدودها، وتؤمن لها الإفادة من دخول منطقة الاسترليني .‏

              ولكن كاترو كان يسعى أيضاً للحصول على مركز ممتاز لفرنسا في لبنان تكرسه معاهدة تعقد بين الدولتين. وجدد ثقته بالرئيس نقاش كحل يبعد الانقسام الناشىء عن خلاف الكتلتين الدستورية والوطنية. وشدد على الإبقاء على روح معاهدة 1936 التي رحب بها اللبنانيون فيما مضى.‏

              ورد الرئيس نقاش بشكره لفرنسا الحرة على مبادئها، مظهراً حرص لبنان على استمرار التعاون معها، إلا أنه تحفظ على عقد أية معاهدة معها قبل تحقيق الاستقلال الناجز(30).‏

              معظم أصحاب الرأي اعتبروا هذا الاستقلال مجحفاً، واهتمت فرنسا بنوع خاص لاحتجاج رئيس الكتلة الدستورية بشارة الخوري، فقد أذاع منشوراً يصف فيه الاستقلال بأنه مزيف وغير دستوري. ولكن كاترو اعتبر احتجاج الخوري من قبيل النقمة لإخفاقه في الوصول إلى كرسي الرئاسة. إلا أنه غضب لمساندة الدول العربية له وبنوع أخص مصطفى النحاس باشا. واحتج رياض الصلح بمذكرة أرسلها إلى كاترو، وذروة الاعتراض كانت احتجاج بكركي برعاية البطريرك الماروني انطوان عريضة(31).‏

              ولقد تجلى، منذ إصدار التصريح الخاص بقيام دولة لبنان في 26/11/1941، كيف أن فرنسا تعول على صداقة لبنان كما كان الحال في سنة 1920. واعتبر هذا التصريح مناقضاً لبيان 8/6/1941 الذي خير السوريين واللبنانيين بين إقامة دولة واحدة وتأسيس دول مختلفة. فهذا التصريح الجديد يؤكد انفصال القطرين، وعلاوة على ذلك يقطع السبيل على إقليم مثل طرابلس كان معظم سكانه يتطلعون إلى الانضمام لسورية في حالة انفصال القطرين(32). وهكذا عاد الفرنسيون لتأكيد التجزئة المفروضة بالقوة في بداية الاحتلال.‏

              وكما حدث في سورية، اختار كاترو رئيس الدولة في لبنان، ووقع اختياره على الفريد نقاش وهو من المعروفين أيضاً باستسلامهم للفرنسيين. وعمدت السلطات الفرنسية إلى إثارة التفرقة الطائفية كما كانت تفعل منذ بداية عهد الانتداب. ويبدو أن هؤلاء المسيحيين الذين كانوا يتطلعون في السابق إلى حماية فرنسا فقدوا ثقتهم بها وعلقوا آمالهم بدول أخرى أعظم شأناً مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة. هذا مع العلم بأن حدة الطائفية قد خفت بانتشار الثقافة العصرية، ولم يكن هناك إجماع من المسيحيين على ضرورة الاحتماء بدولة كبرى. طالما أن العرب اعترفوا باستقلالهم ولايشكلون خطراً عليهم .‏

              على أن الزعيمين اللذين كانا يتنافسان على زعامة لبنان في هذه الفترة وهما بشارة الخوري واميل اده اتفقا على مبدأ الكيان اللبناني، وكلاهما يمثل وجهة نظر الموارنة مع هذا الفارق، وهو أن بشارة الخوري كان يرى أن الاحتفاظ بكيان لبنان لايتعارض مع تعاونه مع الدول العربية في نطاق محدود، بينما أن أميل اده كان يفهم أن الكيان اللبناني يعني انعزاله تماماً عن العالم العربي المحيط به، لذلك حظي بتأييد الفرنسيين(33).‏

              ومما تجدر الإشارة إليه في إعلان استقلال لبنان، أن بريطانيا بشخص ممثلها الجنرال سبيرز اعترضت على الفقرة التي تنص أن الأراضي اللبنانية تشكل وحدة غير قابلة للتجزئة. ولدى رفض كاترو هذا الاعتراض طلب سبيرز حذف كلمة غير قابلة للتجزئة، لأن مثل هذا النص من شأنه أن يعرقل المشاريع الاتحادية التي كانت تتبناها بريطانيا، إلا أن إصرار الجانب الفرنسي على النص بحذافيره وحاجة الانجليز إلى التحالف مع فرنسا حملهم إلى القبول بالإعلان الفرنسي(34).‏

              4- موقف الدول من إعلان استقلال دولتي سورية ولبنان :‏

              كانت بريطانيا تصر على تحقيق الضمانات والواجبات تجاه الشعب السوري وليس فقط إحلال فرنسا الحرة محل فرنسا فيشي. وأشار الجنرال كاترو في مذكراته إلى هذه الفقرة من خطاب تشرشل في 9/9/1941 وكيف أنها كانت سلاحاً في يد الجنرال سبيرز يستعمله أنى أراد، وعقد فصلاً خاصاً لهذا السياسي العسكري البريطاني .‏

              لقد كانت بريطانيا تعمل من أجل مصالحها في الشرق الأوسط وطرق المواصلات مع مستعمراتها. فاعترفت باستقلال دولتي سورية ولبنان في 28/10/1941. وعينت وزيراً مفوضاً مطلق الصلاحية لدى الدولتين هو الجنرال ادوارد سبيرز في 11/2/1942 الذي سيلعب دوراً هاماً في توجيه الأحداث طوال فترة الحرب(35). بل كانت بريطانيا أول دولة هنأت لبنان بالاستقلال، وكان مندوبها الجنرال سبـيرز أول مبعوث دبلوماسي قدم أوراق اعتماده للرئيس اللبناني. وكان تعيين سبيرز سفيراً في لبنان أمر له دلالته الخاصة نظراً للصداقة التي تربطه بتشرشل(36).‏

              أما الولايات المتحدة، فقد قام تشرشل بإبلاغها بما اتفقت عليه بريطانيا وفرنسا الحرة إلى الرئيس روزفلت، وذكر أن الغاية منها منع تدخل الألمان. وأبلغ الفرنسيون أيضاً الولايات المتحدة ماصنعوه في سورية وطلبوا موافقتها عليه واقتفاء خطوات البريطانيين فيه. ولكنها تريثت في ذلك لأن لها حقوقاً منحتها إياها معاهدة 1924 التي عقدتها مع فرنسا في شأن انتدابها على سورية ولبنان، كما أن العلائق لم تبرح قائمة بين الولايات المتحدة وحكومة فيشي، ولاتعترف بحكومة فرنسا الحرة. غير أنها وجدت في اعتراف بريطانيا بما لفرنسا من رجحان، وتأكيد الجنرال ديغول أن لفرنسا وضعاً مميزاً في سورية، ماسبب تعقيدات كثيرة وأموراً مجهولة يجب أن تستطلعها.‏

              وكان تعبير الجنرال كاترو في إعلانه استقلال لبنان، عن (الوصاية الودية) قد جعل الولايات المتحدة تمعن الفكرة فأعلنت في بيان رسمي في 29/11/1941 عطف الحكومة الأمريكية وشعبها على أماني الشعبين السوري واللبناني في التمتع بحقوق السيادة التامة. وأضافت إلى ذلك أن معاهدة 1924 منحت الأمريكيين حقوقاً يجب أن تحافظ عليها حتى تعقد معاهدة جديدة. وبالرغم من مواصلة البريطانيين والفرنسيين السعي للحصول على اعتراف رسمي لم تخرج الولايات المتحدة عن خطتها، وظلت متربصة تنتظر تطورات هذا الاستقلال(37). وبرر (هل) موقف أمريكا بأن الحكومة القائمة ليست نتيجة التعبير عن إرادة الشعبين السوري واللبناني.‏

              واعترفت باستقلال سورية دول عديدة(38) وتحفظت عدة دول إزاء الاعتراف بالنظام الجديد في سورية ولبنان. ووقفت الحكومة المصرية موقفاً مشابهاً لموقف الولايات المتحدة إلى حد ما فذكرت أنها تعترف بالاستقلال ولكنها لاتعترف بالحكومة التي أقامها المندوب العام. كما امتنع العراق عن الاعتراف لنفس السبب ولسبب مختلف هو ترقب فرصة الهلال الخصيب. أما شرقي الأردن فإنه طلب في 6/1/1942 رفع الانتداب عنه. وندد بمساوىء الانتداب والتحكم الفرنسي في كل من سورية ولبنان، وبتعيين فرنسا لرئيسي الدولتين الجديدتين. وكذلك امتنعت تركيا عن الاعتراف بدولتي سورية ولبنان لأنها ماتزال تتبادل التمثيل الدبلوماسي مع حكومة فيشي باعتبارها الحكومة الفرنسية الشرعية(39).‏

              وذكر تشرشل في مذكراته أن ستالين ذكر في حديث مع ايدن في 16/12/1942 رأيه في احتمال منح تركيا بعض الأجزاء في سورية الشمالية. ولعل الروس يبغون استمالة تركيا للوقوف في صفوف الحلفاء وتجنبها الوقوف في صف دول المحور. وصرح دبلوماسي تركي (سفير في موسكو) بأنه أبلغ ساسة الروس أن تركيا لاترغب مطلقاً بذلك وهي قانعة بالأراضي التي استقر عليها حكمها(40).‏

              وكانت عصبة الأمم بحكم المنتهية بقيام الحرب العالمية الثانية. بل إن فرنسا انسحبت منها. إلا أن الجنرال ديغول رفع مذكرة إلى أمين عام العصبة في 28/11/1941 أوضح فيها أسباب قيام قواته مع بريطانيا بغزو سورية ولبنان بأنه لمنع جعلهما قاعدة عسكرية ألمانية. وذكر أنه منذ 14/7/1941 تولى الصلاحيات والموجبات التي أعطيت لفرنسا بموجب صك الانتداب المؤرخ في 24/7/1922 والمنفذ في 29/9/1923. وذكر أن مندوبه الجنرال كاترو قام بإعلان استقلال الدولة السورية في 27/9/1941 استناداً على مبادىء صك الانتداب ومن سياسة فرنسا التقليدية.‏

              وأشار ديغول إلى العلاقات الخاصة القائمة بين فرنسا ولبنان، وأن كاترو أعلن في 26/11/1941 استقلال لبنان وسيادته. وأكد أن استقلال سورية ولبنان وسيادتهما لاتحدهما سوى ظروف الحرب(41).‏

              5- جمهورية سورية من إعلان الاستقلال27/9/41 وحتىالانتخابات25/3/1943‏

              بعد إعلان الاستقلال كانت الحكومة السورية برئاسة حسن الحكيم، قد أخذت تطالب بنقل الصلاحيات إليها من الفرنسيين. وتسلمت بعض السلطات البسيطة التي كانت بيد عمالها ورجالها. غير أن فرنسا ندمت على ذلك الإعلان وظلت تمارس كثيراً من السلطات رغم احتجاج الشعب السوري مدعية أن الظروف الدولية تحتم تجميد الأوضاع. إلا أن الشعب السوري أصر على تنفيذ الاستقلال الذي وضعت فرنسا العراقيل في سبيل تنفيذ وعده. وقد بذل رئيس الوزراء حسن الحكيم مجهوداً كبيراً لتحديد النفوذ الفرنسي وانتزاع أكثر أسبابه ومظاهره فاصطدم بمصاعب معقدة(1). ففي 29/11/1941 طالب رئيس الوزارة الجنرال كاترو ينقل بعض الصلاحيات إلى الحكومة السورية. وبمناسبة نقل صلاحيات منح جوازات السفر للرعايا السوريين إلى السلطات السورية في 4/3/1942 وربط مصلحة الجوازات بوزارة الداخلية. قدم حسن الحكيم كتاباً في 18/3/1942 أشار فيه إلى طلبه الشفهي في 6/3/1942 وعدد فيه أهم الصلاحيات التي يتطلب حلها ونقل صلاحياتها إلى الحكومة السورية وهي :‏

              1- حصر حق التشريع في الحكومة الوطنية السورية .‏

              2- تسليم الجمارك إلى الحكومة الســـــــورية.‏

              3- ربط دوائر الأمن العام بالحكومة السورية.‏

              4- إلغاء وظائف ضباط دوائر الاستخبـارات .‏

              5- إلغاء وظائف المستشارين لدى الحكومة السورية وجعلها بأقل عدد ممكن وتحديد صلاحياتهم الفنية .‏

              6- ربط مصلحة العشائر بالحكومة السوريـة .‏

              7- ربط مراقبة الصحف والمطبوعات بالحكومة السورية.‏

              8- تمثيل الحكومة السورية في قضايا الحدود .‏

              9- نقل حق مراقبة الشركات ذات الامتياز إلى الحكومة السورية.‏

              10- نقل صلاحيات مخالفات الإعاشة إلى المحاكم العسكرية السورية.‏

              11- إلغاء الاتفاقية المعقودة بين المفوضية العليا وسكة حديد دمشق حماة وتحديداتها بشأن استثمار السكة الحجازية التي هي وقف إسلامي وإعادة إدارة الخط المذكور إلى الدولة السورية كما كان سابقــــــاً عملاً برجائنا المؤرخ في 29/11/1941. وذكر الحكيم في كتابه إلى كاترو أن نقل الجوازات إلى السلطة السورية خطوة نحو توطيد أسـس الاستقلال الذي أعلنتموه في خطابكم التاريخي(43).‏

              وبعد مفاوضات عديدة جرت في هذا الصدد لم يوافق الجانب الفرنسي على التخلي عن صلاحياته للسوريين. ولهذا اضطرت وزارة حسن الحكيم إلى الاستقالة وفضل أن يبقى بعيداً عن الحوادث الجديدة في 18/4/1942. وأشار الأرمنازي إلى أن الحكيم اختلف مع رئيس الجمهورية(44).‏

              وكان للسيد حسن الحكيم أثر في استعادة منطقتي اللاذقية والسويداء (جبل الدروز) إلى أمهما سورية. إذ أعيدت الوحدة السورية بإعلان انضمامها إلى سورية في 20/1/1942(45).‏

              وتشكلت حكومة حسني البرازي الذي استلم أيضاً الداخلية، وفائز الخوري للمالية والشؤون الخارجية، والأمير حسن الأطرش للدفاع الوطني، وحكمت الحراكي للإعاشة، وخليل مردم بك للمعارف، وراغب كيخيا للعدلية ومحمد العايش للاقتصاد الوطني ومنير العباس للأشغال العامة ومنير العجلاني للدعاية والشباب، فكانت هذه الوزارة كسابقتها تمثل إعادة توحيد مناطق دولة سورية.‏

              وحدث سوء تفاهم حكومي بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية أدى إلى خلاف بينهما ومناقشـــات وتهجمات خطابية انتهت باستقالة الوزارة بعد أن ألقى رئيسها خطاباً سياســياً في فندق الشرق بدمشق ندد فيه بسياسة الشيخ تاج الملتوية وهاجم رجال القصر الجمهوري. وذكر الأرمنازي أن البرازي تعرض لأساليب الحكم ومناهجه وأعلن في الخطبة وجهة نظر المعارضة(46).‏

              وعهد الشيخ تاج إلى جميل الألشي في 8/1/1943 لتأليف الوزارة والذي استلم أيضاً الداخلية وفائز الخوري للشؤون الخارجية والأمير مصطفى الشهابي للمالية ومنير العجلاني للشؤون الاجتماعية والأمير حسن الأطرش للدفاع الوطني ومنير العباس للأشغال العامة والعدلية بالوكالة. وحكمت الحراكي للإعاشة ومحمد العايش للاقتصاد الوطني. ولم تكد هذه الوزارة تمارس أعمالها وتقوم بواجباتها الحكومية إلا أن فوجئت بعد أيام قليلة بوفاة رئيس الجمهورية الذي حدث على إثر مرض اعتراه. فأصدر مجلس الوزراء مرسوماً اشتراعياً تولى بحسبه مهام السلطة التنفيذية بالوكالة. واستمر الحكم على هذا المنوال حتى 25/3/1943.‏

              ومنذ وفاة رئيس الجمهورية وجدت في البلاد أزمة سياسية شديدة رافقتها اضطرابات شعبية عنيفة انتهت باستقالة وزارة الألشي وتكليف عطا الأيوبي بتأليف حكومة انتقالية في 25/3/1943 لإجراء الانتخابات وإعادة الحياة الدستورية(47).‏

              وفي 23/4/1943 ألغيت وزارة الشؤون الاجتماعية. فقد كان الاستياء يزداد بسبب سوء الحالة الاقتصادية (زيادة أسعار الخبز) من جهة وبسبب الرغبة في العودة إلى الحياة الدستورية وفي الحصول على الاستقلال التام من جهة أخرى. وبرزت الكتلة الوطنية من جديد وطالبت إما بإعادة مجلس 1939 المنحل أو بإجراء الانتخابات. وكان زعيمها شكري القوتلي(48).‏

              وتحدث العظم عن أسعار القمح وتوفيره للبنان : " وقد عادت طريقة الشراء الجبري التي اتبعتها (الميرة) بفائدة كبرى على لبنان من حيث توفير ماتحتاجه البلاد من القمح بسعر معتدل، فلم تحصل المجاعة التي أصابته في سنين الحرب العالمية الأولى. وأبى اللبنانيون أن يعترفوا بفضل سورية عليهم. وذلك بتوفيرها بأسعار أقل، وهي حاجتهم من الحبوب التي كانوا يشترونها قبل الحرب من الأسواق الخارجية كاستراليا وكندا. وكانوا لايلتفتون إلى الأسواق السورية إلا عندما تهبط أسعارها إلى أدنى من الأسعار الأجنبية. ونحن لانلوم التجار والمستهلكين اللبنانيين على تفضيلهم الأرخص من المواد الغذائية. لكننا من جانبنا لنا حق رفع أسعارنا حينما تحين الفرص. ومع هذا فإن سورية جرت على تحديد أسعار بيع القمح في لبنان على نفس الأساس المحدد لبيعه في سورية مع إضافة بسيطة قدرها إحدى عشرة بالمئة لقاء قيام موظفي الدولة السورية بتنفيذ خطط مصلحة الميرة ومنع تهريب الحنطة والدقيق إلى الأسواق السوداء. وحدد سعر طن القمح بمئتي وخمسين ليرة سورية. ثم ارتفع إلى 350 ل.س وهذا على كل حال لايرتفع عما وصلت إليه أسعار بقية الحاجات خلال الحرب. وهو من جهة ثانية إذا حسبناه بالعملة الذهبية أقل مما كان عليه قبل الحرب. وكان يشرف على مصلحة الميرة ويوجه سياستها مجلس مؤلف من رئيس سوري وثلاثة أعضاء لبناني وفرنسي وبريطاني"(49) بعد تحرير سورية من حكم فيشي.‏

              6- جمهورية لبنان من إعلان الاستقلال وحتى الانتخابات :‏

              كان لتصريح كاترو في 8/6/1941 بإعلان استقلال لبنان عدة آثار منها :‏

              الأثر الأول : ايقاظ الروح الوطنية في ضباط الجيش: إذ اجتمع ضباط الجيش اللبناني في 16/7/1941 ووقعوا عريضة جاء فيها : " نحن الموقعين بذيله ضباط القطع اللبنانية نتعهد مقسمين بشرفنا أننا لن نقبل بالخدمة إلا في سبيل لبنان وتحت رايته على أن لايكون لنا علاقة إلا مع حكومته الوطنية. وأن نعمل معاً لأجل تحقيق هذه الأمنية إلى ماشاء الله، وكل من يسلك غير هذا الطريق يعتبر خائناً ويشهر". وكان معظم اولئك الضباط بحكم التركيب الطائفي للجيش اللبناني، من الطائفة المارونية، مما يعني أن هناك تحولاً كبيراً في التفكير الوطني امتد حتى إلى المؤسـسة التي يفترض فيها أن لاتتعاطى في الأمور السياسية(50).‏

              الأثر الثاني : إضعاف التيار المؤيد للانتداب والذي يدعو إلى استمرار الصلات مع فرنسا لضمان عدم ذوبانه، والذي كان يتمثل بالكتلة الوطنية بعد أن تبين أن زعيمه ملكي أكثر من الملك. وهذه القضية سوف تظهرها نتائج انتخابات 1943 النيابية.‏

              الأثر الثالث : تقوية التيار الاستقلالي المنادي بالتعاون مع البلاد العربية : وقد تزعم هذا التيار قادة الكتلة الدستورية والزعماء المسلمون الذين لاقوا دعماً واسعاً من كبار التجار بعد أن شعر هؤلاء أن الانتداب الفرنسي قد تلاشى دوره وحل محله النفوذ البريطاني الذي كان يهيمن على المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً.‏

              وكان مما يزيد هذا التيار تعلقاً بمطلب الاستقلال التام، أن وعد الجنرال كاترو بالاستقلال، كان معلقاً على إجراء محادثات لعقد معاهدة. وكانت نقطة الانطلاق في تلك المحادثات هي معاهدة 1936 حسب تعبير الجنرال ديغول : "وهكذا فإن مهمة الانتداب التي أوكلت إلى فرنسا ستنتهي، أما عمل فرنسا فمستمر"(51). إلا أن هذه الفكرة لم تلق الترحيب من اللبنانيين لأن تجربة معاهدة 1936 كانت لاتزال ماثلة في الأذهان أو كما يقول (بيو) الذي خبر نفسية الشرقيين بالرغم من فترة حكمه القصيرة في لبنان : "في الشرق أكثر منه في أي مكان آخر، لايجوز الوعد والإخلال به"(52). ومن جهة أخرى كانت المعاهدة تعني قيوداً مفروضة على الاستقلال أو كما يعبر عنها كميل شمعون : "كانت تعني في الواقع نفياً للاستقلال"(53).‏

              الأثر الرابع : تبني البطريرك لمطلب الاستقلال التام : فقد كان على التيار الاستقلالي أن يستفيد من ظروف الحرب ليطالب باستقلال كامل وناجز، إلا أن هذا المطلب لم يكن سهل التحقيق. فالنفوذ الفرنسي كان راسخاً في المؤسـسات التي أوجدتها فرنسا طيلة عدة قرون، وأنصارها يحتلون مواقع بارزة في الحكم والإدارة. ومع ذلك كانت الفرصة سانحة من خلال مواقف البطريرك الماروني المتعارضة مع وجهة نظر المفوضية العليا. لهذا تنادت المعارضة إلى عقد مؤتمر لها في بكركي في يوم الميلاد 25/12/1941 دعي بمؤتمر الطوائف. ومن هناك، من معقل المارونية صديقة فرنسا التقليدية في المشرق، وقف البطريرك يطالب باستقلال لبنان الناجز معبراً عن رغبات الشعب. في حين كان قبل ثماني سنوات يطالب ببقاء الانتداب، معبراً عن رغبته بقوله : " نحن طلبنا الانتداب بمطلق إرادتنا ونريد أن يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للاستقلال التام، ولكن للظروف أحكاماً. ونرى الآن أننا مازلنا بحاجة للانتداب"(54).‏

              لقد استفاد التيار الاستقلالي من هذا التطور في موقف البطريرك ليدفع به إلى نهايته المنطقية: لا للعودة إلى الحماية الفرنسية، لا للعودة إلى سياسة المعاهدة التي تكبل الاستقلال.‏

              لذلك اتخذ المؤتمرون المقررات التالية :‏

              1- استقلال لبنان استقلالاً فعلياً يمكنه من تغيير مصيره بملء الاختيار.‏

              2- حرية لبنان بالتعاقد مع الدول الأجنبية كدولة مستقلة.‏

              3- سن قوانين دستورية تكفل الحريات الخاصة والعامة وتفرق بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعيــــة، وهذه تؤمن بواسطة مجلس سياسي منتخب انتخاباً حراً تتمثل فيه الطوائف والمناطق اللبنانية تمثيلاً عـــــــادلاً.‏

              4- تسليم الأحكام فعلاً إلى أبناء البلاد يحملون مسؤوليتها ويقومون بأعبائهـا.‏

              5- اعتبار كل عمل تأتيه الحكومة الحاضرة من شأنه أن يقيد البلاد، لاغياً .‏

              6- إعلان الثقة بالبطريرك لتحقيق هذه الأهداف بمؤازرة شخصيات تمثل الطوائف والمناطق اللبنانيــــة(55).‏

              والمؤتمر يجمع المعارضة على نفس المنطلقات الطائفية، لكنه يجمع الطاقات من أجل هدف وحيد وهو الوصول إلى الاستقلال السياسي على أساس وحدة الطوائف اللبنانية المتعايشة على أرض واحدة(56).‏

              لقد تنادت المعارضة إلى انتهاز الفرصة التاريخية ومد الموجة الوطنية العارمة المطالبة بالاستقلال كي تدخل إلى القلاع الطائفية التي تشكل آخر معاقل الفرنسيين المتشبثين بالبقاء على رقاب السوريين واللبنانيين. فدعت إلى تخطي الطابع التقليدي المعروف منذ مطلع عهد الانتداب والقائل برفض الانتداب رفضاً قاطعاً وعدم الاعتراف به، والتركيز دوماً على الوحدة مع سورية وعدم الاعتراف بشرعية ضم بيروت والمدن الكبرى والأقضية الأربعة إلى لبنان (الجبل). وكانت هذه الشعارات تبقى محصورة ضمن جدران المناطق الإسلامية والطوائف الإسلامية دون أن تتعداها إلى نفر قليل من المسيحيين. لكن ظروف 1941 تختلف عما سبقها، فسياسة الفرنسيين الجديدة قذفت بأعداد كبيرة من المسيحيين للوقوف في تيار المعارضة والدعوة إلى زوال الانتداب وتحقيق إصلاحات ديمقراطية(57).‏

              لقد كانت غضبة الفرنسيين كبيرة بحيث قطعوا كل اتصال لهم ببكركي وبالبطريرك، وعندما أدركوا صلابة موقفه ودعمه الكامل للمعارضة المطالبة بالاستقلال، تراجع الفرنسيون خطوة إلى الوراء. فحاول كاترو توسيط الرئيس السوري الشيخ تاج الدين الحسني، رجل فرنسا الأول في سورية، مع المعارضة اللبنانية والبطريرك الماروني، لكن الوساطة فشلت واتسعت شقة الخلاف.‏

              لقد حدد مؤتمر بكركي بروز تيارين أساسيين داخل الطائفة المارونية نفسها:‏

              الأول : بزعامة البطريرك وتؤيده جماهير واسعة من المزارعين والعمال وقيادات المعارضة خاصة بشارة الخوري وجماعة الكتلة الدستورية وترفع شعار الاستقلال وإبقاء الصداقة التقليدية مع فرنسا وتعزيز الصداقات مع العالم وتعزيز روابط لبنان مع الوطن العربي المجاور.‏

              الثاني : بزعامة المفوضية الفرنسية في بيروت ويرأسه داخلياً المطران مبارك كمنافس جدي للبطريرك ولا يأتمر بأوامره، ويتزعم تياراً طائفياً شديد التعصب يعادي عروبة لبنان ويؤيد بقاء الانتداب تحت ستار حماية المسيحيين فيه، وله ارتباطات وثيقة بالدوائر الايطالية والألمانية. وقد مثل حزب الوحدة اللبنانية التعبير السياسي لطروحات هذا التيار وأهدافه، كما كان يلقى الدعم من جماعة الكتلة الوطنية بزعامة اميل اده(58).‏

              ولقد مارست الحكومة اللبنانية الجديدة مهام السلطتين التنفيذية والتشريعية في ظل تغييب المجلس النيابي، مما يعتبر خرقاً للمبادىء الدستورية. وكانت السلطة الفعلية بيد الأجهزة الفرنسية(59).‏

              وكان سوء الأحوال الاقتصادية يزيد من تفاقم الأزمة، فقد "عمدت (الريجي) إلى زيادة أسعارها مرتين في أقل من سنة ..، وحذت شركة الترام حذو شركة الريجي.. واضطربت الإعاشــة اضطراباً ما فتىء يهدد البلاد بشر المصاير.. ودبت الفوضى فـــي أجهـــزة الإدارة..." (60).‏

              هذه الأمور كانت كافية لإثارة حملة على الانتداب الفرنسي بقيادة الكتلة الدستورية جعلت شعارها : المطالبة بانتخابات حرة والعودة إلى الحياة الدستورية ونقل الصلاحيات من الموظفين الفرنسيين إلى أبناء الوطن. وكان الدستوريون على اقتناع بأن دور فرنسا في المشرق قد انتهى. وقد شجعهم على هذا الاعتقاد ما لاقوه من تأييد بريطاني وعربي (مصر والعراق وسورية ...) حتى أنه يمكن القول أن قضية إجراء انتخابات حرة أصبحت مطلباً بريطانياً بعد أن راح الجنرال سبيرز يمارس تدخله على وجهين : من جهة يضغط على كاترو، ومن جهة ثانية يهدد الرئيس نقاش(61).‏

              ومما ساعد في التنافس البريطاني - الفرنسي في لبنان، مطالبة زعماء المعارضة في لبنان ومصر والعراق وبريطانيا بضرورة إجراء انتخابات نيابية يتلوها انتخاب لرئاسة الجمهورية. وقد عقدت لقاءات في مصر في 2/6/1942 ضمت النحاس باشا رئيس وزراء مصر وبشارة الخوري وجميل مردم بك وزير خارجية سورية، وذلك للبحث في مستقبل لبنان وسياسته إزاء سورية والدول العربية الأخرى. وأبدى بشارة الخوري استعداده للتعاون مع الدول العربية في حال وصوله لرئاسة الجمهورية. وقال : "إن عدداً من المسيحيين لايقتنع بضرورة هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده، أما أنا ورفقائي فمقتنعون بهذه النظرية ومستعدون للدفاع عنها ولتنفيذها"(62). فما كان من جميل مردم بك إلا أن قال : "نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية فنحن مستعدون لأن نتنازل عن كل مطلب لنا في لبنان، بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم"(63).‏

              وفي صيف 1942 حل ديغول في لبنان مرة ثانية وصرح بأنه "لايرى مبرراً الآن، وقوات رومل ترابط على أبواب الاسكندرية وتهدد الشرق الأوسط برمته، لاستفتاء الشعوب بإجراء انتخابات نيابية عامة. ولكنه سيأتي يوم تزول به هذه الموانع"(64).‏

              ونظراً لتخوف الفرنسيين من السياسة العربية والبريطانية في لبنان، فقد أرسل الجنرال كاترو برقية إلى الجنرال ديغول في 8/3/1943 اقترح فيها ضرورة توقيع معاهدة فرنسية لبنانية وأنها لن تتحقق إلا باستخدام المشاعر الطائفية العاطفية التي تربط اللبنانيين المسيحيين بفرنسا، وباستغلال غريزة الدفاع اللبناني حيال مشاريع الابتلاع العربية(65).‏

              وفي الوقت الذي كان التنافس البريطاني الفرنسي على أشده بشكل مباشر، أو عبر التنافس اللبناني اللبناني، فقد كان المسلمون والمسيحيون على السواء يشعرون بالخوف على مستقبلهم ومصيرهم ويتساءلون : هل سيكون المستقبل السياسي للبنان خاضعاً للنفوذ البريطاني أم للنفوذ الفرنسي ؟. وهل سيكون لبنان بلداً إسلامياً أم مسيحياً؟. إن التطورات السياسية الحاصلة في عام 1943 ستظهر الإجابات على هذه التساؤلات الهامة(66).‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                الفصل الثالث الانتخابات النيابية فـي ســــــورية ولبنـــــان عام 1943

                كان الوطنيون السوريون مايزالون يقفون موقف المتشكك من نوايا بريطانيا التي أظهرت تأييدها لإجراء انتخابات حرة. ويرجع ذلك إلى ذكرى الحرب العالمية الأولى وإلى موقف الانجليز المعروف من الصهيونية(1).‏

                وفي أوائل سنة 1942 أخذ وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط، والوزير البريطاني في سورية ولبنان، يلحان على الجنرال كاترو المندوب العام للجنة فرنسا الحرة ليقوم بإجراء انتخابات حرة في البلدين. وكان الرأي العام في مصر والعراق يؤيد ذلك، فضلاً عن الرأي العام الدولي. وقد جرى حديث بين الجنرال كاترو وبين السيد مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري السابق في هذا الشأن وعده الجنرال كاترو مؤتلفاً مع مطالب الوطنيين السوريين والكتلة الدستورية في لبنان. وحاول الجنرال أن يدفع هذه المطالب بالعمل على إعادة الأوضاع التي كانت قبل الحرب في سورية ولبنان، واقتراح ذلك على اللجنة الوطنية الفرنسية فلم تتابعه في خطته، وكانت الصعوبة خاصة في وضع لبنان.‏

                واستمرت المناقشات بين الانكليز والفرنسيين في هذا الأمر، فكان يعمد الفرنسيون إلى أساليب التسويف والتأجيل، ويحتجون بضرورات الحرب، حتى أن الجنرال ديغول خاطب مرة المستر كيزي وزير الدولة البريطاني بعنف قائلاً: ماشأنكم والانتخابات؟ عليكم أن تهتموا بصد الجنرال رومل الذي أشرف على الاسكندرية. وكان لهذه الكلمات التي نطق بها زعيم فرنسا الحرة أثر سيء في الدوائر البريطانية.‏

                وقد اتخذ كاترو من الحرب في الصحراء الغربية وتقدم الألمان إلى العلمين (في مصر) في ذلك الحين حجة لتأجيل الانتخابات فترة من الوقت واعتبر أنه بذلك حقق نجاحاً شخصياً كبيراً لخدمة مصالح فرنسا الامبراطورية. وبعد معركة العلمين وتراجع (رومل)، جرت مفاوضات بين لجنة فرنسا الحرة والحكومة البريطانية حول إعادة الحياة النيابية في سورية ولبنان، وصدر عنها البيان التالي : "إن استقرار الحالة الحربية في الشرق الأوسط بعد معركة العلمين، يزيل العقبات من أمام الحياة الدستورية" (2).‏

                ثم تبدلت الأوضاع في أوائل 1943، فقد تدعم مركز فرنسا الحرة بعد الاستيلاء على شمال أفريقيا وتأييد تشرشل لتولي ديغول زعامة الفرنسيين هناك، وابتعدت ميادين القتال عن الشرق الأوسط، فزالت الحجة التي طالما تذرع بها الفرنسيون لتأجيل الانتخابات.‏

                وأصدرت حكومة فرنسا الحرة قراراً في 24/1/1943 بإجراء الانتخابات في كل من سورية ولبنان(3)، إذ لم تجد اللجنة الفرنسية مناصاً من الموافقة على إجراء انتخابات حرة في سورية ولبنان وعهدت إلى الجنرال كاترو بتنفيذها لدى عودته إلى الشرق(4).‏

                1- أزمة انتخابات لبنان والدور الفرنسي المتحيز للموارنة :‏

                لم ينحصر الدور البريطاني في الضغط على الفرنسيين والسلطة اللبنانية لإجراء الانتخابات فقط، بل تعداها إلى النتائج(5). فما أن عادت الحياة السياسية إلى لبنان في 1942 إلى سابق نشاطها حتى عاد خصوم الأمس لينظموا صفوفهم ضمن كتلتين : الدستورية التي يتزعمها بشارة الخوري التي طالبت بالاستقلال وإقامة علاقات مع بريطانيا والقوميين العرب. والوطنية برئاسة اميل اده التي كانت تتحفظ تجاه استقلال لبنان وتدعو لاستمرار الصلات مع فرنسا لضمان عدم ذوبانه(6).‏

                وفي بداية العام 1943 بدأت الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان تعود تدريجياً إلى أوضاعها السابقة بالرغم من عدم انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولقد تبين أن هذه الحرب والتجارب التي مر بها لبنان منذ العام 1918، لم تؤد إلى انفتاح الفئات والطوائف اللبنانية على بعضها البعض، نظراً للاتجاهات الطائفية المستحكمة ببعض الفئات. وظل المسلمون يشعرون، رغم اعترافهم بلبنان الكبير، أن هناك خطة فرنسية طائفية تقضي باستمرار التحكم بهم وإبعادهم عن حقوقهم السياسية والدستورية. وقد أعربت (الكتلة الإسلامية) المكونة من (الطوائف السنية والشيعية والدرزية) منذ صيف 1942 عن مخاوفها مطالبة بإنصاف المسلمين، وقدمت مذكرة (30/7/1942) بهذا الصدد إلى رئيس الجمهورية الفرد نقاش، وسلمت نسخاً من المذكرة إلى المندوب الفرنسي وإلى سفراء دول الحلفاء. ووصلت إلى الكتلة الإسلامية ردود من هذه السفارات، (عثر على أحدها)، وهو رد المفوضية البريطانية، في بيروت إلى علي سليم سلام عضو الكتلة الإسلامية، وتضمن بعض المعلومات التي تفيد بأن الوزير البريطاني المفوض في بيروت الجنرال سبيرز اطلع على مذكرة الكتلة الإسلامية المرسلة إلى رئيس الجمهورية(7).‏

                ولقد أظهرت الأحداث والتطورات الداخلية مدى تدخل القوى الاكليريكية في شؤون الدولة وممارستها الضغوط على رئيس الجمهورية لإقالة رئيس الوزراء المسلم. كما أرسلت الكتلة مذكرة أخرى إلى رئيس الجمهورية في 7/11/1942 أعربت فيها عن احتجاجها على نبأ رغبة البطريرك الماروني إقالة رئيس الحكومة سامي الصلح، ومما جاء في المذكرة : "شاع في الأوساط الإسلامية أن رسالة وجهت أخيراً من المقام البطريركي الماروني إلى فخامتكم يبسط فيها رغبته في إقالة الوزارة الحاضرة لأن أعمال رئيسها تتنافى على اعتقاده مع مصلحة الطائفة المارونية المحترمة، وسمى خلفاً لدولة الرئيس سواه ممن يتمتع بقثته من المسلمين. وقد قابلت هذه الأوساط على تعدد طوائفها النبأ بألم واستغراب لأن دولة اعترفت الدول باستقلالها السياسي، وفيها من المسلمين مايناهز نصف سكانها، جديرة بأن تكون مستقلة عن نفوذ الأفراد والجماعات الشخصي، ومنزهة بسياستها العامة عن أن تكون متركزة على قاعدة تعزيز طائفة على الطوائف الأخرى. ونحن نجل غبطة البطريرك عن أن يفرض إرادته فرضاً على الحكومة التي هي للجميع على السواء، ومع ذلك فإنه لايسعنا إزاء التأكيد لنا صحة الخبر إلا أن ننقل إليكم ماكان له من الأثر المؤلم في النفوس، منتهزين هذه الفرصة لنلفت أنظار فخامتكم إلى المذكرة المرفوعة إليكم من كتلتنا بتاريخ 30/7/1942 على رجاء اهتمامكم لإنصاف المسلمين في وطن لاسبيل للاستقرار فيه إلا بالإنصاف...." (8).‏

                والحقيقة أن هذه الاتجاهات الطائفية قد أثارت استياء المسلمين، ذلك لأنها كانت تشير إلى سيطرة طائفة على الحكم، وعلى حد قول الدبلوماسي البريطاني (لونغريج) فإن البطريرك الماروني ظل يعتبر في هذه الفترة الرئيس السياسي(9).‏

                وكان هذا الاتجاه الطائفي المسيحي في الوقت الذي بدا فيه واضحاً (بداية عام 1943) أن الزعماء المسلمين ومن بينهم الوحدويون سابقاً، قد اعترفوا نهائياً بالكيان اللبناني بعد أن أصبح لهم مصلحة أكيدة في تثبيت دعائمه واستمراره. إلا أن هذا التحول في الموقف الإسلامي جاء مترافقاً مع تزايد النفوذ البريطاني، وتلاقى مع التيار المسيحي الاستقلالي بقيادة الكتلة الدستورية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى رحيل الانتداب وهزيمة التيار الانعزالي(10).‏

                وبعد معركة العلمين، وتراجع رومل، جرت مفاوضات بين لجنة فرنسا الحرة والحكومة البريطانية حول إعادة الحياة النيابية إلى سورية ولبنان. وصدر عنها البيان التالي: " إن استقرار الحالة الحربية في الشرق الأوسط بعد معركة العلمين، يزيل العقبات من أمام الحياة الدستورية ". وأخذ الجنرال كاترو يستعد لإجراء انتخابات نيابية فأجرى مشاورات لم يكن للرئيس نقاش فيها رأي، متجاهلاً إياه فاستاء ووجه مذكرة تحذيرية وتأزمت الأمور بينهما. وبعد مظاهرة جرت في بيروت أمام الجامع الكبير يوم عيد المولد النبوي الشريف (16/3/1943) أقدم كاترو على إقالة الفرد نقاش ورئيس حكومته سامي الصلح وعين أيوب ثابت رئيساً للدولة وللحكومة المؤقتة لفترة انتقالية حددت مهامها بالتهيئة للانتخابات النيابية(7)مكرر. ويعقبها انتخاب رئيس للجمهورية.‏

                ففي 18/3/1943 أصدر كاترو قراراً طلب فيه من الرئيس نقاش ورئيس الوزراء القاضي سامي الصلح تقديم استقالتيهما، مع تعديلات في بعض مواد الدستور بحيث بات الانتخاب الطريق الوحيدة للتمثيل الشعبي (أي إلغاء فئة النواب المعينين الذين كانوا ثلث النواب). وكان أيوب ثابت نائباً ومن الأقلية البروتستانتية المسيحية. وكان مبدؤه الثابت جعل لبنان وطناً قومياً مسيحياً تضمن سلامته فرنسا. وكان متعصباً للفكرة السياسية المسيحية. وقد علق الدكتور جورج حنا على صفات الرئيس الجديد بالقول : " يستغرب من رجل كالدكتور ثابت معروف بعلمانية متطرفة أن يتمسك بمسيحية لبنان، مع مافي ذلك من خطر عليه وعلى مستقبله، وهو محاط بأقطار إسلامية من شرقه وشماله وجنوبه، إلا إذا أسلم بصهيونية فلسطين شرارة النار في هذا الشرق"(8)مكرر.‏

                وذكر الدكتور يوسف مزهر رأيه بالرئيس الجديد بقوله : "لايجرؤ أحد أن يتهم الدكتور ثابت أنه يماشي الا فرنسيين طمعاً بجاه أو كسب شخصي، لكن هي عقيدة راسخة في ذهنه يعتقدها صواباً، والدكتور ثابت لايجادل في عقيدة اعتنقها"(9)مكرر.‏

                إن إقدام سلطات الانتداب الفرنسي على إقالة الفرد نقاش وتعيين الدكتور أيوب ثابت المشهور بتعصبه الطائفي رئيساً للدولة بعد أن عهدت إليه مهمة إجراء انتخابات نيابية خلال ثلاثة أشهر. يمكن تفسير هذه الخطوة ضمن سياق تعطيل التوجه الاستقلالي الذي ضم الزعماء المسلمين الوحدويين والتيار المسيحي الاستقلالي(10)مكرر. وهي آخر محاولة سياسية طائفية يلجأ إليها كاترو ويتعلق عليها مصير الانتداب والنفوذ الفرنسي بالذات. فقد كانت خطته تهدف إلى فرط عقد المعارضة الطائفية الذي تشكل في مؤتمر بكركي، وتحاول إعادة الموارنة إلى أحضان (الأم الحنون). فأيوب ثابت أداة طيعة بيد الفرنسيين ولكنه مقرب من البطريركية المارونية ومعروف بتعصبه الطائفي وبعدائه للعروبة وبصداقته المتينة مع اميل اده وكتلته(11).‏

                بدأ الرئيس أيوب ثابت يترجم عقيدته إلى أفعال متطرفة ضد المسلمين وضد وحدة اللبنانيين، ففي 17/6/1943 أصدر مرسومين تشريعيين يحمل الأول رقم (49) حدد فيه زيادة عدد النواب إلى (54) نائباً منهم (32) مقعداً للمسيحيين و (22) للمسلمين. وقد توزعوا على النحو التالي : 18 للموارنة، 6 للروم الأرثوذكس، 3 للروم الكاثوليك، 3 للأرمن الأرثوذكس، 2 للأقليات المسيحية، 10 للسنة، 9 للشيعة، 3 للدروز(12). وكان ذلك بايحاء من (جان هللو) (أصبح مندوباً عاماً منذ 9/6/1943) الذي مهد لتنفيذ خطته بتعيين أيوب ثابت رئيساً للدولة لكي يعطل سير الحركة الوطنية. فقد كان هللو يتصرف في المشرق وكأنه في إحدى المستعمرات الافريقية التي لم تتطور بعد. وقد استخدم النعرة الطائفية أسوأ استخدام. فقد كان هللو سفيراً لحكومة فيشي لدى تركيا، فهو إذن من اليمين المتطرف. وبعد أن أعلن خروجه عن الولاء للماريشال بيتان كوفىء بتعيينه وكيلاً للمندوب السامي الفرنسي ثم خليفة له فيما بعد، وكلف بالإشراف على الانتخابات، ولم يكن على إدراك صحيح بالتغيرات التي طرأت على المشرق العربي مثل سلفه الجنرال كاترو. فقد فكر الأخير في أن تتبع فرنسا أسلوباً جديداً يناسب العصر. وبدل أن تقف على طرفي نقيض مع بريطانيا إزاء الحركة الوطنية تحاول أن تسابقها على اكتساب ود العرب وذلك بتأييد حركة الوحدة العربية على أن تكون دمشق هي محور هذه الحركة وليست القاهرة أو بغداد(13).‏

                لقد كانت زيادة عدد النواب المسيحيين إغراء للبطريرك ولجميع الموارنة والمسيحيين للتمسك بها وبالفرنسيين الذين سيدعمونها.‏

                وقد جاء في البند الرابع من المرسوم رقم (49) ضرورة إدراج المهاجرين في السجلات الرسمية ونص على مايلي : " يتألف عدد الأهالي من الوطنيين المقيدين في سجلات الأحوال الشخصية بتاريخ 31/12 والذين هم غير مقيدين في هذه السجلات وأصلهم من لبنان ومحل إقامتهم في الخارج وقد اختاروا الجنسية اللبنانية". ومعنى ذلك تسجيل أبناء المهجر (D' outre-mer) من المسيحيين لاسيما الموارنة. ومن المعروف أن المسلمين عارضوا هذا الاتجاه بتسجيل المغتربين لبنانيين، وذلك منذ عهد الرئيس اميل اده وحكومته التي كان يرأسها حينذاك خيرالدين الأحدب(14). وإن تسجيل المهاجرين من المسيحيين لاسيما الموارنة سيؤدي إلى اختلال توزيع المقاعد بين الطوائف.‏

                أما المرسوم الثاني رقم (50) فيتعلق بتوزيع زيادة عدد النواب على المناطق الانتخابية.‏

                وقد أثار المرسومان الطوائف الإسلامية وأحدثا احتجاجاً صارخاً لأن من أهدافهما صبغ لبنان بصبغة محلية طائفية. ومما قاله رئيس (الكتلة الإسلامية) معلقاً على المرسومين: " كان لهذين المرسومين أثر شديد الخطورة في نفوس الطوائف المحمدية، وهذا الأثر لم ينتج عن زيادة صحيحة أو غير صحيحة في عدد النواب، تكون في جانب طائفة دون أخرى، وإنما كان لما أحس المسلمون من محاولة بعضهم التوصل بهذه الطريقة لضمان الكثرة المطلقة في المجلس النيابي لحماة فكرة عزلة لبنان عن كل مايحمل اسماً عربياً ". وأضاف (بيهم) بأن إصدار المرسومين " كأنهما مجموعة من التدابير التي اتخذت لمجابهة خطر الاتحاد العربي الذي أصبح تحت الدرس والتحقيق". وإن الرئيس أيوب ثابت حاول عن قصد وتصميم بالاتفاق مع أحد الأحزاب السياسية إقرار زيادة محسوسة في عدد نواب لبنان من المسيحيين مستعيناً بـ 159 ألف مهاجر قطعوا صلاتهم بلبنان وتجنسوا بغير جنسيته كل ذلك في سبيل اتقاء خطر الاتحاد العربي وخوفاً من ازدياد أنصاره ودعاته في المجلس النيابي. ولعل هذا الحرص على إثبات هذا التفوق النسبي في عدد طائفة دون أخرى إنما يقصد منه تأكيد الصبغة التي يريدون صبغ لبنان بها واعتبار بقية الطوائف بمثابة الأقليات"(15).‏

                وأشار السفير البريطاني في بيروت الجنرال ادوارد سبيزر إلى قضية المرسوم 49 ومشكلة تحديد عدد المقاعد النيابية بـ 32 مقعداً للمسيحيين و 22 معقداً للمسلمين، مبدياً عدم موافقته على هذا المرسوم ومدافعاً عن موقف المسلمين(16).‏

                ونظراً لخطورة الموقف الداخلي نشطت القيادات الإسلامية و "الكتلة الإسلامية" وأرسلت عدة مذكرات إلى المسؤولين في الدول العربية، شرحت فيها أهداف المرسومين، وبينها مذكرة إلى رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس باشا، كما اجتمع رئيس الكتلة محمد جميل بيهم وأحد أعضائها عبدالرحمن السحمراني بالسكرتير العام للمفوضية الفرنسية شاتينو (Chataigneau) في19/6/1943 وشرحا له الغبن اللاحق بالمسلمين من جراءالمرسومين، وطالبا بوقف تنفيذهما. وفي اليوم نفسه 19/6/1943 عقد اجتماع في منزل سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد توفيق خالد، ضم القيادات الإسلامية التي تباحثت مع المفوض السامي (جان هللو J.Helleu) حول رفض المسلمين لتنفيذ المرسومين.‏

                وفي 21/6/1943 عقد مؤتمر الطوائف الإسلامية برئاسة المفتي في نادي جمعية اتحاد الشبيبة الإسلامية لبحث قضية المرسومين حضره العديد من الشخصيات والقيادات الإسلامية (السنية والشيعية والدرزية) ومما قاله المفتي : " إن اختلال المساواة يثير المشاحنات بين الطوائف التي يتألف منها لبنان ..." أما الشيخ عبدالحميد كرامي فقد هدد بالانفصال عن لبنان بقوله : "مامن قوة تحت السماء تستطيع أن تحملنا على البقاء في الكيان اللبناني إلا إذا كان عربياً ومن صميم بلاد العرب ". وقد أكد الجميع على وحدة الموقف الإسلامي. وبعد الانتهاء من إلقاء الكلمات تلا أمينا سر المؤتمر صائب سلام وحسني أبو ظهر مقررات مؤتمر الطوائف الإسلامية بعد أن صوت عليها جميع الحاضرين وهي:‏

                1- مطالبة الحكومة اللبنانية بإلغاء المرسوميـن .‏

                2- إجراء إحصاء عام شامل بإشراف لجنة محايدة موثوق بها.‏

                3- إجراء الانتخابات على أساس الإحصاء الجديد الذي نطلبه، وإلا فعلى أساس القانون القديم الذي يجعل عدد أعضاء المجلس 42 نائباً منتخباً (22 للمسيحيين و 20 للمسلمين).‏

                4- يمتنع المسلمون عموماً في أنحاء الجمهورية اللبنانية عن الاشتراك في الانتخابات إلى أن تتحقق هذه المطالب.‏

                5- تأليف لجنة للعمل سريعاً على كل ما من شأنه تحقيق هذه المطالب وحفظ حقوق الطوائف المحمدية في التمثيل الشعبي العام العادل.‏

                6- إبلاغ نسخة من هذه المقررات لمقام الحكومة اللبنانية ولفخامة سفير فرنسا الحرة ولحضرات ممثلي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية والحكومة السعودية ومصر والعراق وسائر ممثلي الدول الحليفة .‏

                وبالفعل فقد وجهت مذكرة من المؤتمر لرئيس الدولة أيوب ثابت في 22/6/1943 تضمنت ضرورة تنفيذ المقررات الصادرة عن المؤتمر الإسلامي وضرورة " ايجاد حكومة حيادية بعيدة عن الحزبية، ذلك أن الحكومة القائمة قد فقدت ثقة جميع المواطنين اللبنانيين تقريباً "(17).‏

                ويشير تقرير بريطاني إلى موقف المسلمين في حال عدم تحقيق مطالبهم، ففي 29/6/1943 أرسل تقرير بريطاني سري من بيروت إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن جاء فيه : " إن أيوب ثابت يحاول تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى لكي يحتفظ بوضعه شبه الديكتاتوري. ويبدو أن هللو كان متضايقاً من دناءة سبل العيش المتبعة ولعدم قدرته على ايقافها، فهو على الأرجح يؤيد سياسة الدكتور ثابت الإرجائية. أما المسلمون المتحدون في الحاضر أكثر من أي وقت مضى حتى العشرين سنة الماضية، فهم يدركون أن من غير المرجح أن يصلهم مايرضيهم عن طريق الشرائع الانتخابية وبالتالي فبعض زعمائهم، وبالأخص رياض الصلح، يحاولون أن يدفعوهم كطائفة، ليس لمقاطعة الانتخابات فحسب بل للمطالبة باستقالة الدكتور ثابت أيضاً، وللإفصاح عن عدم قدرتهم على المساهمة في الدولة اللبنانية في تركيبتها الحاضرة معللين ذلك بأنه طالما أن الفرنسيين موجودون ويدعمون مواقف المسيحيين في السيطرة على لبنان، لن تكون لهم حصة عادلة. وتبعاً لذلك فالزعماء المسلمون يفكرون بالتقدم بالمطلبين الآتيين :‏

                1- أن يتحد لبنان فدرالياً في دولة واحدة محتفظاً بقدر ما من الحكم الذاتي المحلي وإذا كان هذا غير مقبول من المسيحيين. 2- فإن المناطق الأربعة التي ضمت إلى لبنان في عام 1920 بما فيها طرابلس، تعاد إلى سورية ويوضع لبنان، وقد أعيد إلى حدود ماقبل 1914، تحت سيطرة دولية وتجعل بيروت مرفأ حراً.‏

                "إن موقف المسلمين هذا هو أيضاً عامل مهم لأنه إذا استمر فيعني أن لبنان سيكتب له الاستمرار في وضعه الحاضر تحت ظروف أقرب إلى حماية فرنسية منها إلى دولة ذات سيادة، ويبدو لي أن موقفنا بأكمله تجاه مفهوم (لبنان مستقل) يجب أن يعاد بحثه في ضوء هذا العامل.‏

                "وكل المعلومات التي في حوزتي توحي بأن اللبنانيين أنفسهم، ماعدا القليل من المسيحيين المتعصبين غير الواقعيين، ليس لديهم أي حماس للبنان مستقل. ويمكن القول بشكل عام إن المسيحيين ككل يريدون فقط الحماية من المسلمين وليس بينهم خلاف إلا على من ستكون الدولة الحامية هل هي بريطانيا، فرنسا، أو الولايات المتحدة الامريكية أو تشكيلة من الدول الثلاث. والمسلمون ومع أنهم على العموم يرغبون دوام الحكم الذاتي. فجميعهم يؤيدون اتحاداً سياسياً واقتصادياً مع سورية كمرحلة أولى نحو اتحاد عربي أوسع.‏

                "فلبنان الحالي هو في الواقع مخلوق اصطناعي أوجدته السلطة المنتدبة الفرنسية بدون مبررات سياسية واقتصادية، ولايسانده سوى فرنسا التي تأمل بأنها باحتفاظها به تستطيع أن تسيطر على المناطق السورية المجاورة. حتى الآن يمكننا الإجابة على الأسئلة التي تستوضح وجهات نظر حكومة جلالته عن مستقبل لبنان..." (8).‏

                وأشار تقرير بريطاني آخر في التاريخ نفسه (29/6/1943) إلى أن الزعامات السنية (رياض الصلح وعبدالحميد كرامي وصائب سلام) قاموا بصفتهم الشخصية يوم 29/6 بزيارة المفوض البريطاني في بيروت. وذكروا له أنهم وحتى الإعلان عن الترتيبات المتعلقة بإحصاء السكان، لن يستطيعوا أن يحددوا مواقفهم من الانتخابات لأنهم يريدون أن يعرفوا ماهي الوسائل الممكنة لتأمين عدم تزوير الإحصاء. ثم أكدوا أنهم توصلوا مؤخراً إلى نتيجة وهي أن المسلمين لايأملون بالحصول على حصة عادلة في لبنان، لأن الفرنسيين يريدونه تحت (السيطرة المسيحية)، وقد عرضوا الموقف الإسلامي المشار إليه في التقرير السابق كحل للأزمة (الفدرالية أو الالتحاق بسورية)، كما اتفقوا على الطلب الذي سيؤدي إلى وجود عدد من المسيحيين تحت سيادة المسلمين، كما يترك عدداً أكبر من المسلمين تحت سيادة المسيحيين. لكنهم يصرون أن هذه النواقص ليست شيئاً أمام فوائد جعل أكثرية المسلمين الذين في لبنان في الوقت الراهن داخل سورية. وقد طلبوا المشورة عن الطريقة التي سيقدمون بها مطالبهم وإلى أي حد ستدعمهم حكومة جلالته.‏

                وكان جواب المفوض البريطاني بأنه لايستطيع أن يعدهم بأخذ أي شيء على عاتقه، فوافقوا على أن بريطانيا قدمت في الماضي الكثير من الوعود لم تنفذ بكاملها(19).‏

                وإزاء هذه التطورات الداخلية عاد الجنرال كاترو من الجزائر إلى بيروت وبدأ في بحث المشكلة مع مختلف القوى السياسية. وفي 4/7/1943 تلقى رسالة سرية من رئيس وزراء مصر النحاس أوضح فيها موقف مصر من الأزمة الراهنة ومن مسلمي لبنان، فذكر أن تحقيق الاتفاق التام بين العنصرين المسيحي والمسلم في لبنان يؤثر على جميع المسلمين والمسيحيين في الشرق. وأوضح استياءه من الفارق الشاسع في عدد النواب. والذي لم يكن من قبل... واقترح النحاس حلاً وسطاً أو تسوية سياسية لتهدئة النفوس ولو على حساب المسلمين، وهو أن يؤخذ بالنسبة التي كانت مقررة عام 1939 (22 مقعداً للمسيحين و 20 مقعداً للمسلمين) أي 29 مقعداً للطوائف المسيحية و 25 مقعداً للطوائف الإسلامية(20).‏

                وفي ضوء ذلك نشط الجنرال كاترو وزار مفتي الجمهورية في 9/7/1943 فأبدى المفتي موقفه مجدداً من المرسومين ومدى الإجحاف الذي يصيب المسلمين جراء تنفيذهما. وذكر المفتي أن المسلمين ينشدون العدل. وأشار كاترو إلى محبته للمسلمين وسيعمل على درس المرسومين مع المذكرة التي رفعت إليه.‏

                من ناحية أخرى رفض البطريرك الماروني انطوان عريضة اقتراح النحاس في برقية أرسلها إلى رئيس الدولة أيوب ثابت في 13/7/43 وقال : " إننا نقاوم كل سعي لتعديل قرارات حكومتكم العادلة بشأن الإحصاء وتوزيع المقاعد النيابية ونؤيد حكومتكم في موقفها التاريخي الشريف ". وكان معنى هذا الرفض اشتداد الأزمة السياسية التي اتخذت طابعاً طائفياً، مما دعا بعض اللبنانيين للبحث في إمكانية عقد مؤتمر وطني لجميع اللبنانيين، وقام فيليب نقاش ووفد مسيحي بجولة على رؤساء الطوائف المسيحية. ولما اجتمع الوفد بالبطريرك قال نقاش : إن الحالة في بيروت ياصاحب الغبطة أصبحت سيئة للغاية في هذه الأيام. وبعد أن كان سكان بيروت يعيشون منذ عشرات السنين حتى أواخر العهد العثماني في تفاهم وتقارب لافارقاً طائفياً يفرقهم، أصبحوا الآن منقسمين على بعضهم انقساماً ينذر بالشرور. فما كان من البطريرك إلا أن أبدى استعداده للنزول من قصره في الديمان إلى مقره في بكركي لترؤس المؤتمر المقترح. غير أن النائب البطريركي عبدالله الخوري قال للوفد : " إن غبطته لن ينزل بكركي.. لايكفي أن يقول البطريرك قررت فهو ليس وحده هنــــــا"(21).‏

                ولهذا فقد أشار تقرير بريطاني في 16/7/1943 إلى أن البطريرك الماروني ومعه الأساقفة واميل اده قد عارضوا " ترك أي من المنافع التي جنتها القوانين الجديدة للمسيحيين". وفي اجتماع الأساقفة برئاسة المطران اغناطيوس مبارك في 14/7/1943 عبروا عن تصميمهم على فرض الحل لذاك السبب. وفي حديث خاص بين المطران والممثل البريطاني أظهر المطران بأنه كان يساوم، وكان في الحقيقة مقتنعاً بالحل الذي اقترحه كاترو لأنه ترك منافع مهمة للموارنة وهو يتضمن :‏

                1- إن القانون الانتخابي يجب تعديله ليعطي النسب في المقاعد النيابية كما اقترحها النحاس باشا، (وقد تبين بأن المقاعد الثلاثة التي ستؤخذ من المسيحيين لتعطى للمسلمين ليست هي مقاعد للموارنة بل هي للأرمن والأرثوذكس والأقليات).‏

                2- يعطى أيوب ثابت الخيار بالبقاء في سدة الرئاسة شرط أن تسحب منه السلطة والمسؤولية.‏

                3- يعين رئيس حكومة مسلم يتولى السلطة التنفيذية لحين انتهاء الانتخابات.‏

                4- تؤجل مسألة تمثيل المغتربين وكذلك مسألة الإحصاء العام لتبحث في المجلس الجديد.‏

                وجاء في التقرير البريطاني بأن المطران مبارك شعر بأنه مجبر على إظهار التعاون مع المذاهب المسيحية الأخرى غير الراضية عن الحل. وادعى بأنه كان يدافع عن وجهة نظر المسيحيين لكي يكسب ثقة المتطرفين. وليكون في وضع أحسن ليبذل تأثيراً معتدلاً عليهم. وأضاف المطران مبارك بأن الموارنة لايشتكون أي شيء طالما أن المقاعد الثلاثة ستؤخذ من الأقليات المسيحية وأشار إلى أنه سيكون مستعداً ليرى الأقضية الأربعة ذات الأغلبية الإسلامية تعاد لسورية شرط أن تبقى منطقة جبل لبنان ومدينة بيروت والبقاع الذي يمر به نهر الليطاني، وهذا يعطي بالمقارنة دولة مارونية متجانسة قد تصلح كملجأ لجميع الأقليات المضطهدة في الشرق(22).‏

                وفي تقرير بريطاني سري حول أزمة المرسومين من المفوضية في بيروت إلى وزارة الخارجية في 17/7/1943 أن نوري السعيد قابل المفتي وعدداً من الزعماء المسلمين وتحدثوا حول جهود كاترو ومقترحات النحاس وأن الفرنسيين يأملون في استمالة شيعة جبل عامل إلى جانبهم إلا أنهم لن يخرجوا عن الموقف الإسلامي العام(23).‏

                وبالفعل ونتيجة لتردي الأوضاع السياسية (وللخروج من المأزق) أقال الجنرال (هللو) الرئيس أيوب ثابت وحكومته في 20/7/1943. وفي 21 منه أصدر قراراً عين بموجبه النائب الأرثوذكسي البيروتي بترو طراد رئيساً للدولة. كما عين عبدالله بيهم السني في منصب أمين سر الدولة. وعلى الأثر طلب (هللو) من السفير البريطاني سبيزر المشاركة في حل الأزمة المستعصية. وبالفعل قام سبيرز بزيارة البطريرك الماروني ومفتي الجمهورية في 30/7/1943 وتباحث معهما كل على حدة حول ضرورة إنهاء الأزمة المطروحة(24).‏

                وقد جاء في تقرير بريطاني في 29/7/1943 أن البطريرك بدأ يدافع عن المسيحية أمام ممثل بريطانيا. ومما قاله : " لقد قاتلوا (11) قرناً وسيموتون وهم يقاتلون إذا لزم الأمر. لايوجد سوى مسلمين ومسيحيين في الصورة، وقد صمم المسلمون على محو المسيحيين وكل امتياز يمنحونه يشجعهم في أطماعهم"(25).‏

                في حين أبدت القيادات الإسلامية تجاوباً مع اقتراح (تسوية سياسية) جديدة ترمي إلى جعل عدد النواب المسيحيين 30 نائباً مقابل 25 نائباً للمسلمين. وبالرغم من أن المسلمين سبق لهم أن أيدوا على مضض اقتراح النحاس باشا على أساس 29 نائباً للمسيحيين و 25 نائباً للمسلمين. فإنهم حرصوا على وحدة البلاد. وحرصاً على إنهاء الأزمة، تجاوبوا مع (تسوية سبيرز) على أن تعدل فيما بعد، وعلى أن يجري إحصاء عام لاسيما وأن عدد المسلمين طرأت عليه زيادة كبرى .‏

                وبناء على (تسوية سبيرز) أصدر المفوض السامي هللو في 31/7/1943 مرسوماً رقم (F.C.302) حدد فيه عدد النواب 55 نائباً، 30 للمسيحيين و 25 للمسلمين أي كل 6 نواب مسيحيين يقابلهم 5 نواب مسلمين. على أن يوزع المجلس النيابي الجديد على النحو التالي : 18 مارونياً، 11 سنياً، 10 شيعة، 6 روم أرثوذكس، 4 دروز، 3 روم كاثوليك، 2 أرمن، وواحد من الأقليات(26). كما نص المرسوم على ضرورة إجراء إحصاء عام لسكان لبنان في مدة لاتتعدى سنتين من تاريخ هذا المرسوم.‏

                ومن ثم وجه (هللو) نداء إلى اللبنانيين أشار فيه إلى ضرورة وحدتهم " وأن الحل الذي اعتمدته يتطلب أن تضحي الفئتان الطائفتان اللتان تتجابهان. وياللأسف مقعداً واحداً. إنه لايعقل ولايمكن للرأي العام العالمي أن يفهم ذلك، أن يكون مصير لبنان أمام خطورة المصالح العامة معرضاً للخطر بسبب معارضة عنيدة ونظرية ليس إلا ". وأكد أن الحل المتخذ إنما " هو حل ذو صفة مؤقتة ... وعلاوة على ذلك أنه من الواجب أن يجري إحصاء عام لأهالي لبنان في مدة لاتتجاوز سنتين، ويمكن حينئذ وفقاً لنتيجة الإحصاء إجراء انتخابات إضافية لإدخال التعديل اللازم على تأليف المجلس " .‏

                وفي اليوم نفسه (31/7/1943) أذاع ادوارد سبيرز الوزير البريطاني المفوض رسالة على اللبنانيين أوضح بها حرص المسلمين على وحدة لبنان والعيش مع المسيحيين، وأشار إلى "أن الحل الذي اعتمده حضرة السفير هللو يبدو منصفاً للغاية، ومادامت الطائفة الإسلامية قد قبلت أن يكون من العدل وجود أكثرية مسيحية في المجلس النيابي، فإنه يبدو عجباً، مادامت قد تأكدت تلك الأكثرية، أن تضع الطائفة المسيحية العلاقات الطيبة مع الطائفة الأخرى في خطر. تلك العلاقات الطيبة التي لابد منها وليس لخير البلاد فحسب بل أيضاً لبقائها، وذلك من أجل قضية مقعد إضافي للأكثرية". ورأى سبيرز أن عدم قبول المسيحيين باقتراح هللو سيعرضهم لفقدان عطف الدول الديمقراطية عليهم، وأن المسيحيين ليسوا هم وحدهم الذين لهم آمال ومطالب، بل إن للمسلمين أيضاً آمالاً ومطالباً. وبالرغم من آمالهم ومطالبهم فقد ضحوا من أجل وحدة لبنان. ويحلو لي وأنا المسيحي أن أحيي الطريقة التي ضحت بها الطائفة الإسلامية بوجهة نظرها لصالح لبنان الوطن المشترك والبلد الذي يحبه الجميع على السواء.."(27).‏

                وبالرغم من التضحيات الإسلامية فإن القيادات المارونية لاسيما البطريرك عريضة رفضت ماتم التوصل إليه. وأعلن أنه قبل ذلك مؤقتاً وأن الإجحاف أصاب المسيحيين، وذلك في رده على رسالة بترو طراد في 1/8/43، بالرغم من أنهم حصلوا على 30 مقعداً مقابل 25 مقعداً للمسلمين، مع أن إحصاء 1932 يعين موازاة عدد المسلمين للمسيحيين. وأن زيادة كبرى طرأت على عدد المسلمين مابين 1932-1943. ولذلك فقد ازداد الغبن اللاحق بالمسلمين طالما أن اختيار النواب كان تبعاً لعدد كل طائفة. وكان البطريرك قد حرض توفيق لطف الله معاون أمين سر الدولة، على الاستقالة من الوزارة بحجة أن رئيس وزراء مصر تدخل في شؤون لبنان. والأمر اللافت للنظر بأن الرئيس طراد تبنى وجهة نظر الطائفة المارونية. ففي 3/8/1943 أصدر بياناً أعلن فيه بأن الطوائف المسيحية قبلت الحل وهو مجحف بعض الإجحاف بحقوق الطوائف المسيحية. ولكنه للبرهان على أنهم أبناء وطن واحد.‏

                ورأت الأوساط الإسلامية أنه كان من المفروض من رئيس الدولة أن يكون فوق الاجتهادات الطائفية. وعلق رئيس الكتلة الإسلامية محمد جميل بيهم على ذلك بقوله : "فرغم ماكان يعتقده الفريقان : فريق أهل الوحدة وفريق أهل العزلة، بأن الحل الأخير مجحف بحقوقه، فقد قبله كل منهما على اعتبار أن الإحصاء المقبل سيكون بمقام الحكم والقول الفصل"(28).‏

                غير أن الإحصاء الذي وعد به كل من هللو وسبيرز عام 1943 لم يجر بعد سنتين أي عام 1945، لأن البطريركية المارونية طلبت حينذاك من الشيخ بشارة الخوري بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، عدم الإقدام على إجراء إحصاء للسكان في لبنان، لأن نتيجته ستكون لمصلحة المسلمين. وقد تأكدت البطريركية المارونية ورئاسة الجمهورية من أعداد السكان ونتيجة الإحصاء من مدير إدارة الإحصاء والنفوس فريد حبيب الذي نصح بعدم إجراء الإحصاء. وقد أكد هذه المعلومات أيضاً مدير المعارف حينذاك صبحي حيدر. ومنذ ذلك الحين لم يجر إحصاء للسكان في لبنان، والإحصاء الوحيد المعتمد عليه في لبنان هو إحصاء عام 1932.‏

                هذا وبعد انتهاء الأزمة أرسلت (الكتلة الإسلامية) رسالة شكر إلى النحاس باشا، ورد بدوره أن ماقام به، أملته علاقات الأخوة والمودة القائمة بين البلاد العربية(29). فإن توسط الحكومات العربية أنهى الأزمة الطائفية التي أثارها الرئيس أيوب ثابت وجعلته يتراجع عن هذه المؤامرة(30).‏

                وهكذا كان على المسلمين أن ينشطوا على الصعيدين اللبناني والإسلامي لتحصين أنفسهم ولتنظيم أوضاعهم ولإحقاق حقوقهم في وطن أرادوه أن يكون لجميع أبنائه، علماً أن التضحيات الإسلامية ستتواصل من أجل وحدة لبنان وسيتأكد ذلك مجدداً عند الحديث عن ولادة الميثاق الوطني(32).‏

                ومايمكن ملاحظته بوضوح من خلال أزمة المرسومين، تمسك الزعماء المسلمين في لبنان بالكيان اللبناني، لأن مناقشات المؤتمر الإسلامي الصادرة عنه تكشف بوضوح ذلك التوجه باستثناء إشارة عبدالحميد كرامي إلى أنه: "مامن قوة تحت السماء تستطيع أن تحملنا على البقاء في الكيان اللبناني إلا إذا كان عربياً ومن صميم بلاد العرب". فلم يلجأ المؤتمرون إلى رفع شعار (الوحدة السورية) ولا إلى التذكير به كما كانوا يفعلون في السابق، بل شددوا على نيل حصة عادلة في عدد المقاعد النيابية تتناسب مع عددهم(33).‏

                ويذكر الصليبي أن الكتلة الدستورية بزعامة الخوري وجدت في المخرج السياسي الذي صاغه كاظم الصلح وتقي الدين الصلح والقاضي باعتبار لبنان دولة مستقلة ذات شخصية مميزة في المجموعة العربية له كيانه المستقل، وبأن الشعب اللبناني جزء لايتجزأ من الأمة العربية، أساساً عملياً للتفاهم الوطني بين جميع الفئات في البلاد(34).‏

                2- إجراء الانتخابات اللبنانية‏

                ومدلول تشكيل حكومة الصلح‏

                بعد تسوية أزمة المرسومين 49 و 50 صدر في 15/8/1943 مرسوم اشتراعي دعيت بموجبه الهيئات الانتخابية إلى الاقتراع في 29/8 للدورة الأولى وفي 5/9 للدورة الثانية، على أن يلتئم المجلس النيابي في 21/9/1943 لانتخاب رئيسه ومكتبه ورئيس الجمهورية الجديد(35).‏

                وكلف المسيو (هيللو) وكيل المندوب السامي العام، وخليفته فيما بعد، بالإشراف على الانتخابات(36) وكانت الانتخابات معركة، لا بين اتجاهين طائفيين، إنما بين اتجاهين سياسيين أحدهما استقلالي ينادي بإقامة أوثق الصلات مع البلاد العربية (التعاون والاتحاد العربي) وتزعمه بشارة الخوري وعروبيو الأمس كرياض الصلح وعبدالحميد كرامي، والآخر انعزالي يطالب ببقاء الانتداب بزعامة اميل اده(37).‏

                كما كانت الانتخابات مؤشراً هاماً من مؤشرات الصراع الفرنسي البريطاني في لبنان والمنطقة. فقد بدأت فرنسا بدعم الاتجاه الانعزالي الذي يتمثل بالكتلة الوطنية (اميل اده). بينما دعمت بريطانيا الاتجاه الاستقلالي الذي تمثل في الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري (مساندة لكميل شمعون). فالصراع لم يكن طائفياً بقدر ماكان سياسياً، سيما وأن رئيس الكتلتين المتصارعتين هما من أبناء الطائفة المارونية. كما أن الكتلتين تضمان فئات من مختلف الطوائف(38).‏

                ويلاحظ أن البطريرك الماروني تخوف من نجاح دعوة العروبة فوجه نداء إلى الأساقفة طلب إليهم تلاوة ندائه في الكنائس لانتخاب المرشحين المعادين لفكرة الوحدة العربية، وأن لايقترع إلا للمرشحين المعروفين بحبهم للبنان(39).‏

                وعشية تلك الانتخابات بدا واضحاً أنه يتوقف على نجاح أحد الاتجاهين مصير النفوذ الفرنسي أو البريطاني. لذلك شهد لبنان عام 1943 أعنف معركة انتخابية في حياته السياسية، "فالمفوضية الفرنسية استخدمت كل إمكانياتها لتؤمن فوز المرشحين الذين تساندهم، خاصة في دائرة جبل لبنان"(40)، وراح موظفوها يحاربون مرشحي الكتلة الدستورية ويطلقون ضدهم شتى الاتهامات(41) ومنها العمل على إدخال لبنان في مشاريع الوحدة العربية في محاولة منها لتخويف المسيحيين. في حين راح الانجليز يساندون مادياً وبذكاء المرشحين الذين قبلوا أن يلعبوا لعبتهم(42).‏

                وتتهم الليدي سبيرز المندوب السامي الفرنسي هيللو ومعاونه (بوجنر) بتدخلهما شخصياً في سير عمليات الاقتراع: "لقد عبىء رجال الدين الموالون للفرنسيين... ولقد ذهبت الشائعات إلى أن الفرنسيين أنفقوا خمسين مليوناً من الفرنكات على الحملة الانتخابية، فكان طبيعياً أن ينكر الفرنسيون هذه الشائعة وأن يردوا عليها بقصة أخذت تنتشر في القرى وملخصها أن الوزير البريطاني قد شوهد يجوب الجبال على صهوة فرس أبيض يحمل أكياساً من الذهب...". إلى أن تقول : "وكانت النتيجة في جبيل، حيث كان لأميل اده نفوذه، نتيجة مضحكة. فقد كان عدد الناخبين 3700 ناخب وعدد المقترعين 3700 مقترع.. اقتراع كامل بنسبة 100% وقد نال فيه المرشحون الموالون للفرنسيين كثرة مطلقة بلغت 90%"(43).‏

                ولم يحرز الدستوريين نجاحاً كبيراً (7 من 17فقط)، في محافظة جبل لبنان، المستفيدة من أموال المهاجرين والمصطافين والفرنسيين، والتي هي معقل الطائفة المارونية الداعية إلى الارتباط بفرنسا. وفاز الخوري بصعوبة في الدورة الثانية، إلا أن حلفاءهم في المحافظات الأربع الباقية التي عرفت برفضها للانتداب الفرنسي، فازوا فوزاً ساحقاً(44).‏

                كان يتزعم التيار الانعزالي المسيحي جماعة من المنتفعين من الوجود الفرنسي كالموظفين والتجار المرتبطين مباشرة بالرأسمال الفرنسي، فعملوا على إطالة الانتداب والارتباط بفرنسا، ومنهم من نادى بجعل لبنان محمية فرنسية. إلا أنه رغم بعض الشعبية التي كانت لهذا التيار في الأوساط المسيحية، لم يستطع الصمود أمام التيار الثاني الذي كان أكثر واقعية حتى بالنسية لفئات شعبية كثيرة من المسيحيين الذين شعروا بالتضرر من السياسة الفرنسية. خاصة المزارعين منهم، وخاصة بسبب أزمة 1929 الاقتصادية. وكان للحرب العالمية الثانية أثرها الكبير، فقلت شعبية أصدقاء فرنسا بين المسيحيين محملة إياهم مسؤولية العجز في تدارك التدهور الاقتصادي، فانحازت قطاعات كبيرة من المسيحيين إلى الكتلة الدستورية التي كان برنامجها إعادة العمل بدستور 1932 المعلق ثم أضيف عليه المطالبة بإنهاء الانتداب وعقد اتفاقات التعاون مع سورية والدول العربية الأخرى. فأحرزت انتصاراً ساحقاً في الانتخابات النيابية رغم تدخل الفرنسيين وألاعيبهم(44)مكرر.‏

                وأسفرت الانتخابات النيابية السياسية عن نجاح (المعادين لفرنسا) في المناطق الإسلامية المضمومة إلى جبل لبنان، مع استمرار أقلية نيابية موالية للفرنسيين(45) وهذه النتيجة كانت تعني تبدلاً جوهرياً في تاريخ لبنان الحديث، فلأول مرة في تاريخ الانتداب يصل إلى البرلمان اللبناني "الوحدويون" الذين كانوا يرفضون كيان لبنان ويطالبون بالوحدة السورية (رياض الصلح وعبدالحميد كرامي وسعدي المنلا....). وقد وجد هؤلاء أنفسهم في جبهة واحدة مع نواب كانوا يعتبرون من أصدقاء فرنسا التقليديين (بشارة الخوري، حميد فرنجية، هنري فرعون...). مما يعني أن صيغة جديدة أصبحت واجبة التحقيق للإطلاع بالمسؤوليات التي تقتضيها المرحلة القادمة(46).‏

                واستمر الصراع الداخلي والخارجي بجوانبه المحلية والعربية والدولية في إطار انتخابات رئاسة الجمهورية. فنشطت فرنسا بدعم مرشحها اميل اده. بينما نشطت بريطانيا ومصر والعراق وسورية بدعم بشارة الخوري. غير أن بشارة الخوري يورد بعض معلومات حول هذا الموضوع فيقول : "إن السلطة الفرنسية أصرت على مخاصمتي، ولم أجر أي اتصال مباشر بالسلطة البريطانية. وكل ماكنت أعرفه أنها لا تنظر إلى أميل اده بعين الرضا(47). أما كمال جنبلاط فإنه يؤكد أنه كان لبريطانيا اليد الطولى في نجاح أعضاء الكتلة الدستورية وايصالهم إلى المجلس النيابي عام 1943، ومن ثم مساعدتهم للوصول إلى الحكم. وأن سبيرز تدخل لدى الدوائر البريطانية والاستخبارات لمناهضة اميل اده(48).‏

                وفي هذه الأثناء بدأ اميل اده يناور في طرح بعض الأفكار العربية والوحدوية لايهام النواب الوحدويين لاستمالتهم لانتخابه لرئاسة الجمهورية. أما بشارة الخوري فقد اجتمع بالنائبين عبدالحميد كرامي وعادل عسيران فأكد لهما استعداده للتعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد في حال وصوله لمنصب الرئاسة الأولى، غير أنه رفض عرضهما لتوحيد العلمين والجيش اللبناني والسوري وتوحيد التمثيل الخارجي مع سورية." ورأيت في ذلك تجاوزاً للحدود فرفضته بكل صراحة". فأوضحا له بأن اميل اده قبل عرضهما، فقال الخوري : "وعده كمرشح شيء وتنفيذ الوعد شيء آخر، أما أنا فسأفعل ما أقول"(49).‏

                واستغلت العصبية الطائفية الدعوة إلى الوحدة العربية لتخويف المسيحيين لتبين أن القومية العربية هي إسلامية، ومتبعة أسلوب الدس الرخيص. فيقول كتيب صدر في الأربعينات بعنوان : "لبنان وطي مسيحي في الشرق الأدنى" ويعتقد أنه من صنع رجال الدين الموارنة : "لماذا التحدث عن البلاد العربية عندما يتعلق الأمر بأمم لاتشكل فيما بينها أي تجانس من الناحية الاثنية، وليس لها أي شيء مشترك إلا اللغة فيما عدا الإسلام الذي هو الدين الرسمي إلا في لبنان؟ فبالنسبة لأبطال العروبة لايمكن للوحدة العربية أن تعني إلا الوحدة الإسلامية" .‏

                ويستمر هذا الكتيب فيطالب بالعزلة عن الميحط العربي وبتجميع مسيحيي الشرق في وطن خاص فيقول : "إن مبادىء الحكمة التي لها المقام الأول في بناء العالم، تتفق مع مقتضيات العدالة والقانون الطبيعي لتقرر أن الحل الأمثل يجب أن يكون في جمع مسيحيي الشرق في وطن واحد حيث يشكلون كلاً متجانساً من الناحية الأخلاقية والاجتماعية"(49)مكرر.‏

                أما بعض القوى الإسلامية الأخرى ورياض الصلح خاصة، فقد كانوا في هذه الفترة بالذات ضد وصول بشارة الخوري للحكم، على أنهم كانوا أيضاً ضد وصول اميل اده للحكم، مما دعا سورية للتحرك، فاتفق الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس وزرائه سعدالله الجابري (نسيب رياض الصلح) ووزير خارجيته جميل مردم بك، على إرسال وفد خاص إلى بيروت لتسوية الأمور. وكان في مقدمة الوفد لطفي الحفار وعفيف الصلح، فاجتمعا برياض الصلح وعبدالحميد كرامي وسامي الصلح وصائب سلام، وبعد مشاورات مكثفة انتهى الاجتماع بالموافقة على تأييد بشارة الخوري في انتخابات رئاسة الجمهورية(50).‏

                وفي 21/9/1943 عقد المجلس النيابي جلسته الأولى، فانتخب النائب صبري حمادة (شيعي) رئيساً له، وانتهت نتيجة الاقتراع للرئاسة الأولى بانتخاب بشارة الخوري (44/55) في غياب اميل اده عن جلسة الانتخاب والذي أيقن من حراجة موقفه فاقترح حلاً وسطاً بترشيح كميل شمعون. فخاف الفرنسيون من شمعون. واعتبر الجنرال كاترو بأن نجاح بشارة الخوري كان نتيجة للاتفاقات التي تمت بين الزعامات السورية والعربية، وليس نتيجة لاتفاق بشارة الخوري مع الزعماء المسلمين اللبنانيين(51). وإن كان الرأي الآخر يقول : وكان فوز بشارة الخوري بالرئاسة نتيجة التفاهم بين الدستوريين وكبار الزعماء المسلمين .‏

                وبعد أن تبوأ الرئيس بشارة الخوري مهام منصبه 21/9/43، اختار رياض الصلح لتأليف الوزارة الأولى. وأشار بشارة بأنه سبق أن صمم على تولية رئاسة الوزراء رجلاً له مكانته في لبنان ولدى الدول العربية ووهبه الله ذكاء نيراً وإقداماً نادراً، عنيت به رياض الصلح(52).‏

                وبالفعل فقد كان اختياره لرياض الصلح بسبب مايتميز به على الأصعدة اللبنانية والإسلامية والعربية، فهو الشخصية السنية التي تؤثر على المسلمين في لبنان لكسب تأييدهم في استقلال لبنان، كما أنه كان معروفاً بأفكاره العربية. ولهذا السبب كان قادراً على كسب التأييد العربي للاستقلال اللبناني(53).‏

                وكانت سياسة بشارة الخوري منذ البداية تقوم على أن لبنان مهما كان له طابع مسيحي فهو بلد إسلامي أيضاً، وعدد المسلمين فيه يوازي عدد النصارى، وأنه يجب ان يكون للمسلمين حساب كبير، وعلى الزعيم السياسي المسيحي أن يذكر هذه الحقيقة لنفسه وللمسلمين أيضاً حتى يكونوا أصدقاءاً وأنصاراً له(54).‏

                ويقول كمال الصليبي : "إن بشارة الخوري وعى أهمية الوجود الإسلامي في لبنان ومايفرضه هذا الوجود من ضرورة التسوية. وبالرغم من أن الخوري لم يكن قومياً عربياً، فإنه لم ير من الحكمة أن يندد بالقومية العربية. بل حاول جهده للوصول معها إلى اتفاق. وكان في وجهة نظره هذه يعكس تفكير ميشال شيحا وغيره من كبار رجال الأعمال المسيحيين في بيروت الذين رأوا في البلاد العربية المجال الطبيعي لنشاطهم الاقتصادي، فأصروا على ضرورة توثيق الصلات معها، مع الإبقاء على تحفظهم تجاه فكرة الوحدة العربية"(54)مكرر‏

                فبشارة الخوري عمل انطلاقاً من هذا الموقع البرجوازي الذي يبغي ايجاد قدم له في البلاد العربية المتخلفة. ولم تكن أصابع الانجليز بعيدة عن هذه الجماعة بسبب التناقض بين الاستعمار الفرنسي والانكليزي. ولكن مما لاشك فيه أن موقف هذا التيار التوفيقي الذي كان امتداداً للتيار الديمقراطي بين المسيحيين الذي دعا إلى القومية اللبنانية ومحاربة ضم لبنان إلى سورية، كان أكثر واقعية وتقدماً(54)مكرر.‏

                ولما كان الفرنسيون قد سخطوا لهزيمة أنصارهم فقد سخطوا أيضاً لاختيار الخوري للصلح رئيساً للوزراء لأنه من المعروفين بميولهم العربية(55). وكانت فرنسا قد عملت طويلاً على إبعاده عن السياسة وعن لبنان وسورية(56).‏

                وعلى الصعيد الداخلي كان على الشيخ بشارة الخوري أن يتعاون مع شخصية إسلامية تستطيع كبح جماح الشارع الإسلامي المتطلع إلى الوحدة مع سورية، في نفس الوقت الذي تدخل فيه هذه الشخصية الطمأنينة إلى نفوس المسيحيين، فكان رياض الصلح تلك الشخصية التي تتمتع بالمواصفات المطلوبة، فرياض الصلح من عائلة عرفت بمحاربة الأتراك وقد حكم عليه بالإعدام إلا أن الحكم لم ينفذ فيه لصغر سنه (هذه الناحية تقربه من المسيحيين). كما أنه كان ذا ثقافة فرنسية (تلقى علومه لدى اليسوعيين). من جهة ثانية كان رئيساً للحكومة العربية التي تألفت في صيدا بعد رحيل الأتراك (ت1/1918). وفي فترة الانتداب الفرنسي عرف بنزعته الاستقلالية العربية، وكان عضواً في الكتلة الوطنية السورية. وفي نفس الوقت كانت له صداقات عديدة مع اليسار الفرنسي ومع الزعماء المسيحيين اللبنانيين كالبطريرك واميل اده(57).‏

                إن اختيار الخوري للصلح رئيساً للوزراء أكسب القضية اللبنانية شخصاً كان حتى الأمس ينادي بالوحدة العربية دون سواها. وضمت الوزارة خمسة أعضاء آخرين(58) هم حبيب أبوشهلا وكميل شمعون وسليم تقلا وعادل عسيران ومجيد أرسلان. وتمثل في الوزارة الطوائف الرئيسية الست وهي الموارنة والسنة والشيعة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والدروز(59). ولأول مرة تشكل وزارة لا رأي للمفوض السامي الفرنسي فيها(60).‏

                3- الميثاق الوطني اللبناني والاستقلال عن سورية والعرب :‏

                لم تكن صيغة الميثاق وليدة أحداث خارقة حدثت عام 1943 منعزلة عما سبقها من أحداث وتطورات، إنما كانت نتيجة تفاعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وطائفية منذ ولادة (لبنان الكبير) عام 1920. فصيغة 1943 هي نتاج المسيرة التاريخية لتطور الأحداث وتفاعلها منذ نشأة الكيان اللبناني (بقرار من الفرنسيين) .‏

                ولقد شهدت هذه المسيرة الإصرار الفرنسي على تثبيت الكيان اللبناني بحدوده الحاضرة ليشكل منفذاً للمصالح الفرنسية إلى الأسواق العربية، بعد أن تبين أن كيان المتصرفية لايتلاءم مع طموح تلك المصالح. وترافقت تلك المشيئة الفرنسية مع طموحات البرجوازية اللبنانية المسيحية التي استقرت في بيروت بعد أحداث 1860 لتشكل الوسط التجاري لحساب المصالح الاوروبية. هذه البرجوازية المحلية وجدت بدورها في المناطق الملحقة بلبنان الصغير (المتصرفية) مجالها الحيوي ومنافذ للداخل العربي. ومن هنا كان وعيها لخطورة مشروع لبنان الصغير بعد أن كادت تختنق ضمن شرنقته.‏

                بالمقابل شهدت المناطق الملحقة بالمتصرفية ممانعة عنيدة للانخراط في مشروع لبنان الكبير، (فلقد اتخذ المسلمون موقفاً سلبياً من الدولة التي تأسـست عام 1920 وقضت على أحلامهم بالوحدة مع سورية، كما أدى إلى حرمانهم من مناصب الدولة وتضاؤل حصتهم فيما بعد نفوذاً ووظائفاً واعتمادات، فضلاً عن اتجاه سلطة الانتداب إلى تعيين العناصر المناصرة لها والمؤيدة لسياستها ومصالحها في لبنان"(61).‏

                وإذا كان الجبل قد اندمج اقتصادياً بالسوق الرأسمالية العالمية منذ عهد المتصرفية، فقد تميزت المناطق الملحقة به باشتغال قسم من أهاليها بالتجارة إلى الداخل العربي. في حين كان القسم الآخر يمتهن الحرف أو يعمل في الزراعة.‏

                إلا أن تغلغل النظام الرأسمالي الغربي أدى إلى تدمير الحرف وقوض الزراعة، وأصبحت بيروت المركز الأساسي للمبادلات التجارية بين أوروبا والأسواق العربية. أما الملحقات فقد سهلت بنيتها الاجتماعية ربطها بالعاصمة بعد أن استطاعت سلطات الانتداب استمالة زعمائها من خلال الوظائف.‏

                لقد ساعدت هذه التطورات على تركيز الكيان اللبناني، إلا أن أبرزها كان اجتذاب البرجوازية الإسلامية والبيروتية السنية تحديداً، على الدخول في دور الوساطة بين السوق الرأسمالية العالمية وبين السوق العربية. وهكذا تعرفت البرجوازية الإسلامية على مصالحها من خلال الكيان الجديد وتخلت عن وحدويتها. في حين كانت البرجوازية السورية هي الأخرى تتهافت على الحكم وتتصرف على ضوء مصالحها ضمن الكيان السوري. من هنا توقفت الكتلة الوطنية السورية منذ عام 1936 (عام المعاهدة مع فرنسا) عن مطالبتها بضم مدن الساحل والأقضية الأربعة، مما أوجد تعاوناً وثيقاً بينها وبين الزعامات اللبنانية كبشارة الخوري المدعوم من البرجوازية اللبنانية التي كانت تجد مصلحتها في التخلص من الاحتكارات الفرنسية.‏

                لقد جاء انخراط المسلمين في الكيان اللبناني على قاعدة المطالبة بإشراكهم في الحكم. فلم يلجأوا عام 1943 أثناء أزمة المرسومين إلى الدعوة للوحدة السورية.‏

                هذه التطورات لايمكن فصلها عن ظروف الحرب العالمية الثانية التي أظهرت بوضوح أن فرنسا قد استنفد دورها في سورية ولبنان، وأن الأسواق العربية وهي المجال الرئيسي لنشاط البرجوازية اللبنانية، قد أحكمت عليها القبضة البريطانية.‏

                على ضوء هذا المسار التاريخي ذي المنحى الطبقي الطائفي تكونت الثنائية (المارونية السنية) وولدت صيغة الميثاق اللبناني(62).‏

                وقد قصر "فؤاد أفرام البستاني" اللبناني تطور الأحداث على البعد الديني بقوله : "لقد أصبح الصراع في لبنان صراعاً سياسياً وحضارياً بين المسيحية والإسلام منذ إلحاق الأقضية الأربعة"(63). ويعتبره آخرون صراعاً بين القومية العربية والقومية اللبنانية .‏

                وكيف ولد الميثاق الوطني اللبناني بعد إجراء الانتخابات النيابية. قبل جلسة المجلس النيابي المحددة لانتخاب رئيس الجمهورية بيومين، اجتمع بشارة الخوري (زعيم الكتلة الدستورية) مع رياض الصلح في 19/9/1943 وعقدت بينهما جلسة هامة تم الاتفاق فيها على الخطوط العريضة لما عرف (بالميثاق الوطني).‏

                فقد أعلن الخوري للصلح بأنه سيعمل لنهضة عربية، وأعلن له الصلح سروره بأن يسمع من فم زعيم مسيحي كبير بأن لبنان يمكن أن يكون دولة عربية. فسأله الخوري : هل تعتقد أن اتفاقنا سيتبناه كل إخواننا المسلمين؟ هل تعتقد أنهم سيقبلون بلبنان كوطن نهائي وليس كمرحلة انتقالية؟ وبعبارة أخرى أنهم لن يتوجهوا بأنظارهم من جديد نحو دمشق كمحطة لأمانيهم وأحلامهم، وهل تعتقد أن مبتغاهم لن يكون سورية والعرب ؟. فرد عليه الصلح : "إذا كان اتفاقنا صريحاً وشريفاً. وإذا لم يكن هناك من شخص ضحية له، بل إنني سأبذل جهدي لأقنع زعماء سورية وكل الزعماء العرب للاعتراف باستقلال لبنان وضمان حدوده الحاضرة. عندها نطوي صفحة قديمة مضنية من تاريخنا، ونلغي معزوفة (الأم الحنون .... ونغمة الالتحاق بدمشق. إن النغمة التقليدية للارتباط بسورية ستنتهي وسنبدأ صفحة جديدة من تاريخنا كما جئت تعرضه علي"(64).‏

                وعليه يمكن تعريف الميثاق الوطني بأنه يتضمن نقطتين فقط : الأولى وهي أن يتخلى المسيحيون عن حماية فرنسا وجيشها المحتل. والثانية أن يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة السورية، هذا هو الميثاق دون زيادة أو نقصان(65). فلقد اعتبر المسلمون الميثاق بمثابة استقلال عن فرنسا، ، بينما اعتبره المسيحيون انفصال عن سورية والعرب.‏

                وكما يقول بشارة الخوري نفسه : "أما الميثاق الوطني فليس سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة، استقلال لبنان التام الناجز بدون الالتجاء إلى حماية من الغرب ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق". والذي يقرأ مذكرات (الشيخ) بشارة الخوري (حقائق لبنانية) يرى أن الاستقلال لم يكن يعني في النهاية الاستقلال عن فرنسا بل إنه يؤكد أن الميثاق هو ميثاق القومية اللبنانية، الأمة الموحدة، المطلة على القومية العربية(66).‏

                ويمكن التعرف على مفهوم الميثاق لدى الخوري بالتعرف على بعض مقاطع من خطبه مقتطفة من مؤلفه (حقائق لبنانية). فيقول في إحداها :‏

                "ياصاحب السماحة، هذا الميثاق على حد ماأفصحتم عنه هو عهد بين جميع اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وميولهم. استقلال صحيح وسيادة قومية ومحافظة على دستور البلاد لاانتقاص فيها ولاهوادة، ومودة خالصة وتعاون وثيق بين الأقطار العربية ولبنان لمصلحة الجميع وعلى قدم المساواة وبروح العدل والانصاف .‏

                " هذا هو العهد الذي قطعته الحكومة على نفسها وارتضاه اللبنانيون ثقة منهم بأنفسهم ومصايرهم، وايماناً بأن سياسة التفرقة والجفاء كانت ولاتزال أساس كل علة. إن الخطة التي انتهجناها بالاتفاق التام والتفاهم الصحيح مع الحكومة التي كان يرأسها دولة رياض بك الصلح، إنما رسمناها لأنفسنا دون تردد يوم ألقت الأمة بمقدراتها السياسية بين أيدينا"(66)مكرر‏

                وفي خطبة أخرى يقول :‏

                " .... لم يعد في لبنان سلبيون ولاايجابيون ولامسلمون ولانصارى، بل أصبح اللبنانيون شخصاً واحداً لبنانياً قومياً استقلالياً عربياً ...، وسرنا على هذه الخطة تجاه الغرب والشرق. فمع الغرب أردنا استقلالاً صحيحاً، لامعاهدة ولاارتباط ولاامتيازاً ولامركزاً ممتازاً، بل نريد صداقة الجميع ومعاهدة مع الجميع على أساس الند للند .‏

                " وكما أردنا الاستقلال تجاه الغرب، فقد أردناه كذلك تجاه الدول العربية الشقيقة، فقلنا لهم بصراحة وايمان : نريد استقلالاً كاملاً وناجزاً. وقد قدروا هذا الموقف لأنهم أحرار يقدرون الحرية." (66)مكرر والملاحظ أن هذين الخطابين موجهين إلى المسلمين .‏

                فالميثاق تسوية توفيقية مؤقتة بين الاتجاهات الإسلامية الوحدوية وبين الاتجاهات المسيحية الانفصالية(67) المتوجهة نحو الغرب والوطنية اللبنانية(68). أي أن يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة السورية والعربية مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الأجنبية. فهو صيغة خروج من المأزق وهروب من المشكلة لاحلاً لها(69). فقد أجل المشاكل العالقة ولم يواجهها مرة واحدة ربما رغبة في تحقيق الاستقلال وإزالة لكل العوائق أمامه. وأملاً في أن يكون الزمن قادراً على حل هذه المشاكل. وهو حصيلة تسوية طائفية على ايجاد كيان لبناني تتشارك فيه الطوائف اللبنانية(70) (المسلمون والمسيحيون). وقد وضع تحت ضغط عدم إضاعة الفرصة السانحة لإنهاء الانتداب الفرنسي.‏

                وعلى ضوء هذه الصيغة التوفيقية المؤقتة وضعت الخطوط العريضة لتأكيد استقلال لبنان :‏

                أ - لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً وغير مرتبطة بأي دولة. ويجب أن يتخلى المسيحيون عن سعيهم وراء الحماية الأجنبية أو محاولتهم وضع لبنان تحت الإشراف أو النفوذ الأجنبي.‏

                ب- وعلى المسلمين في المقابل أن يتخلوا عن القيام بأية محاولة لإدخال لبنان في أي اتحاد سياسي مع سورية أو في أي شكل من أشكال الاتحاد مع العرب.‏

                جـ- لبنان بلد ذو وجه عربي ولغة عربية، إنه جزء من العالم العربي وله طابعه الخاص.‏

                د - لبنان مدعو للمساهمة مع جميع الدول العربية وأن يصبح عضواً في الأسرة العربية شرط أن تعترف الدول العربية رسمياً باستقلاله وشخصيته في حدوده الحاضرة. وعلى لبنان أن لاينحاز داخل المجموعة العربية إلى أي فريق دون آخر. وأن تكون أعماله على الصعيد الدولي منسجمة مع استقلاله. وأن يرفض الانحياز بأي شكل من الأشكال إلى أية دولة أجنبية ضد مصالح أي من الدول العربية أو ضد مصالحها جميعاً، فقد أصبحت فكرة حياد لبنان كشعار يخدم (لبنان والقضية العربية) (71)، وهو يعني أن يؤمن اللبنانيون بلبنان اللبناني وطناً نهائياً لهم، أي التخلي عن مطلب الوحدة العربية إلى الأبد.‏

                هـ- توزع جميع الوظائف العامة بالتساوي بين جميع الطوائف المعترف بها. وتبع ذلك أن توزع المناصب الرئيسية الثلاثة وفقاً للعرف التالي : رئاسة الجمهورية لمسيحي ماروني، ورئاسة الوزراء لمسلم سني ورئاسة البرلمان لمسلم شيعي(72).‏

                وأصبحت الدول العربية هي الضامنة لدولة الطوائف المتعايشة بدلاً من الاستعمار الغربي. فلقد أرسى الميثاق دولة الطوائف مع الدستور اللبناني(73).‏

                وأصبح لبنان بلد الأقليات الدينية حيث تقتسم الحكم فيه وتتوارثه الأقليات الأكثر عدداً في البلد. بموجب اتفاق هو أشبه بدستور غير مكتوب يعرف بالميثاق الوطني. وهذه الأقليات تنتسب بمجموعها إلى الديانتين الرئيسيتين المسيحية والإسلام بمختلف فروعهما وانشقاقاتهما المذهبية والفقهية.‏

                وفي لبنان أقليات قومية إلى جانب الأقليات المذهبية التي لها الشأن الأكبر في حياة البلد السياسية. ففي ظل الانتداب الفرنسي تقرر أن الموارنة يشكلون 29% من مجموع السكان والسنة 21% والشعية 5ر18% والروم الأرثوذكس 7ر9% وهلم جرا.‏

                ومنذ 1943 ينطلق عدد النواب من قاسم مشترك هو (11) لأن عضوية المجلس لابد أن تكون بنسبة (6) مسيحيين مقابل (5) غير مسيحيين(74).‏

                فالميثاق بمفهوم الخوري اتفاق على استقلال لبنان ووحدة شعبه وعدم انعزاله عن الدول العربية. ولم يحدد الميثاق توزيع الرئاسات الثلاث الموارنة والسنة والشيعة. فقد صرح الصلح فيما بعد بأنه تم الاتفاق على إلغاء الطائفية بعد أن تسمح الظروف السياسية. وأن موضوع توزيع الرئاسات الثلاث ليس أمراً نهائياً، بل ستكون الرئاسة الأولى مداورة بين المسيحيين والمسلمين، وليس بالتحديد بين الموارنة والسنة. وصرح أنه قبل التعاون مع الخوري وإعطائه الرئاسة لأنه يريد إعطاء الاطمئنان للمسيحيين، على أن يكون ذلك لفترة تلغى بعدها الطائفية، وللتأكد بأن لبنان سيبقى مستقلاً ولن يلتحق بأي اتجاه عربي(75).‏

                لقد سار المسلمون في التيار التوفيقي الذي تزعمه بشارة الخوري ورياض الصلح لأنهم رأوا آمالهم في تحقيق الوحدة العربية بعيدة المنال نظراً لزيادة التجزئة في العالم العربي ولبدء البحث في طريق فضفاضة للتعاون العربي أدى إلى الجامعة العربية. فصبوا كل ثقلهم وراء هذا التيار آملين تغيير مواقعه في المستقبل. ومما زاد في انحيازهم له أنه وقف في وجه الانتداب معتبراً إياه العقبة الكبرى في وجه الاستقلال، وغير معتبر ظاهرياً أن الوحدة العربية والتضامن العربي ييشكلان خطراً على لبنان، كما كان يعتبر الانعزاليون(76).‏

                ولم يكتب الميثاق في وثيقة خاصة (وقد حظي بموافقة أنصار هذين الزعيمين وتأييدهم)، إنه اتفاق جنتلمان عقد بين شخصيتين كبيرتين لعبا دوراً هاماً في ولادة الجمهورية والاستقلال، الخوري والصلح. فهو عقد شرف بين الفريقين اللبنانيين اللذين يتألف منهما شعب لبنان، الفريق المسيحي والفريق المسلم(77).‏

                وقد اختلفت الآراء حول مصادر الميثاق، فقد كانت أفكاره قد ظهرت في كتاب (مشكلة الاتصال والانفصال) لكاظم الصلح عقب مؤتمر الساحل الوحدوي عام 1936 .‏

                وتكرس الاتفاق الشفهي بين الخوري والصلح في البيان الوزاري أمام مجلس النواب في 7/ت1/1943، وفي خطب الشيخ بشارة ومذكراته(78). وقد كادت أن تطغى السمات الطائفية (مثل مؤتمر بكركي لعام 1941) على البيان الوزاري الأول الذي جاء في مسودته (لبنان بلد عربي ذو وجه مسيحي). وبعد نقاش طويل تم تعديل هذه العبارة إلى (لبنان بلد مستقل ذو وجه عربي) (79).. فقال البيان : "إن لبنان ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". فكانت هذه الصيغة انعكاساً، أو الوجه الآخر للسلبيتين اللتين قام عليهما الميثاق الوطني وهما "لا للوحدة العربية ولا للحماية الأجنبية"(80).‏

                وقد أوضح البيان الوزاري العلاقة مع البلاد العربية على النحو التالي : " إن لبنان مدعو كغيره من بلدان العالم إلى التعاون الدولي تعاوناً يزداد وثوقاً يوماً فيوماً. والعصر يأبي العزلة التامة للدول صغيرها وكبيرها. ولبنان من أحوج الدول إلى هذا النوع من التعاون، وموقعه ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الاقتصادية تجعله يضع علاقاته بالدول العربية الشقيقة في طليعة اهتمامه، وستقبل الحكومة على إقامة هذه العلاقات على أسـس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة. فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب"(81).‏

                وهكذا نلاحظ أن البيان الوزاري تعمد الغموض حول هوية لبنان الواضحة، فكان فريداً بأن يعتبر وطناً ذو وجه معين. فكانت التسوية غير محددة المعالم ولا هي واضحة ولا هي نهائية. ترضي الفريق المنادي بالعروبة نسبياً ولاتغضب الفريق المعارض لها كلياً.‏

                وقال الصلح في البيان أيضاً : "إن إخواننا في الأقطار العربية لايريدون للبنان إلا مايريده أبناؤه الأباة الوطنيون. نحن لانريده للاستعمار مستقراً، وهم لايريدونه للاستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً"(82).‏

                ويذكر خالد العظم بأنه منذ أن استقل لبنان عام 1943، سعى رياض الصلح لعزل لبنان عن سورية. وإن قبول الصلح بمنصب رئاسة الوزارة كان ثمناً لموقفه الانفصالي، مبرراً موقفه أيضاً بإبقاء التوازن النسبي بين المسلمين والمسيحيين بقبوله بلبنان الكبير. وعلى ذلك فقد أصبح الصلح زعيماً لانفصال لبنان عن سورية بعد أن كان في جملة المنادين بوحدة البلاد العربية والعاملين في سبيل تحقيقها(83).‏

                ويبرر تقي الدين الصلح موقف رياض الصلح بأنه قبل باستقلال لبنان وعدم ذوبانه ضمن الوحدة السورية أو العربية للحيلولة دون اتجاه المسيحيين نحو الحماية الأجنبية. أما فيما يختص بمنصب رئاسة الجمهورية فإن رياض الصلح قبل أن تكون للموارنة بشكل مؤقت ريثما يطمئنوا إلى مصيرهم، لأن عدم إعطاء الاطمئنان للمسيحيين سيؤدي بهم إلى إنشاء دويلة طائفية تكون خنجراً في جنب سورية والعرب(84).‏

                وأشار سبيرز الوزير البريطاني المفوض في لبنان، حول الميثاق بأن المسلمين لم يعودوا راغبين في الوحدة، غير أنه أمر ليس نهائياً. وأن المسلمين كانوا يرون من قبل، أن يتحد لبنان مع الدول العربية. وكان هناك رأي في بعض الأقطار العربية بأن لبنان يجب أن ينضم إلى سورية لمنع وجود أي جيب مسيحي في الأقطار العربية ... لقد رفض المسلمون الوحدة لأنه أصبح لديهم مراكز قوة في لبنان. وقال لهم سبيرز اقبلوا برئاسة ماروني وبعد أن تصبحوا أكثرية بإمكانكم التغيير، فقبلوا بوجهة نظره(85).‏

                وهناك رأي بأن الميثاق أكد أن (لبنان قومية) موجودة على عكس القومية العربية غير الموجودة، ورأي آخر أن في لبنان "قومية مسيحية لبنانية" وقومية عربية وحضارتين(86).‏

                وعارض الميثاق فئة من المسيحيين. وقد عبر جورج نقاش عن عدم قابلية صيغة الميثاق لتكون أساساً صالحاً للتعايش بين اللبنانيين ولبناء وطن سليم بقوله: "نفيان لايؤلفان أمة"(87).‏

                ولم يكن الميثاق الوطني في لبنان عام 1943 مجرد تسوية محلية فحسب، ولكن كان له جوانب عربية ودولية لأنه تضمن التفاهم على الاستقلال عن البلاد العربية، وعدم الارتباط معها بوحدة أو معاهدة تتعارض مع الاستقلال. ورفض الوصاية أو الامتيازات الأجنبية(88). فلقد كان الميثاق بمباركة مصرية أعطاها رئيس وزراء مصر النحاس باشا(89). بل كان لمصر وسورية والعراق والمملكة العربية السعودية وبريطانيا دور وأثر في صيغة الميثاق الوطني. فالعراق قدم مشروعاً وحدوياً جديداً نشره باسم (الكتاب الأزرق) في عام 1943 اقترح فيه قيام وحدة بين سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين والعراق.... (90).‏

                كان الشيخ بشارة الخوري أول المدركين للمتغيرات الدولية والعربية، لذا نراه قد قام قبل الانتخابات في 2/6/1942 بزيارة إلى القاهرة برفقة جميل مردم بك أحد زعماء الكتلة الوطنية السورية، والذي تلقى الدعوة أيضاً، ليجتمعا هناك بالنحاس باشا رئيس الوزراء المصري، حيث تم اتفاق الثلاثة على الخطوط العريضة للسياسة اللبنانية المقبلة. وقد أبدى الخوري استعداده، في حالة وصوله إلى رئاسة الجمهورية، للتعاون مع الدول العربية شرط استقلال لبنان ضمن حدوده المعترف بها. ورأى أن ذلك قد يكون عقبة في سبيل إنشاء جامعة الدول العربية.‏

                ومما قاله بشارة الخوري : " إننا نريد التعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد على هذا الأساس. ثم استدركت أن عدداً من المسيحيين لايعتنق هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده".‏

                وكان يهم النحاس باشا سماع رأي سورية بالموقف والسياسة اللبنانية المستقبلية لأن سورية هي جارة للبنان. فقال جميل مردم : "نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية فنحن مستعدون لأن نتنزل عن أي مطلب لنا في لبنان، بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم .‏

                وذكر الخوري في 1945 أنه "يستعيد ذكرى أليمة، أنه عندما كنت في مصر راح البعض يخلق الشوائع بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد، وذلك لمجرد كوننا جعلنا من أهدافنا سياسة استقلالية بحتة يصبح بها لبنان سيد شؤونه ومقدراته. ولقد كان جميل مردم بك معنا في مصر حينذاك وكان يصرح أمام النحاس باشا وسواه بأنه لو كان جميع الناس في لبنان يفكرون كما يفكر بشارة الخوري، لعدلنا عن المطالبة بشبر واحد من لبنان ولأعطيناه من أراضينا مايريد"(91).‏

                وكان لهذا الاتفاق الثلاثي وللزعماء السوريين بوجه خاص دور كبير في انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية اللبنانية(92).‏

                ومن الأهمية بمكان القول إن البريطانيين وبعض المسؤولين العرب كانوا يريدون التأكد من سياسة بشارة الخوري في حال مساعدته للوصول إلى سدة الرئاسة الأولى في لبنان. ولهذا دعي هو بالذات إلى مصر وليس سواه في وقت كانت فيه فرنسا تعمل علناً ضد أي تقارب لبناني عربي باستغلالها للمشاعر الطائفية. وتأكد ذلك من خلال برقية أرسلها الجنرال كاترو إلى الجنرال ديغول في 8/3/1943 موضحاً أن معاهدة فرنسية لن تتحقق إلا باستخدام المشاعر الطائفية التي تربط اللبنانيين المسيحيين بفرنسا. وباستغلال غريزة الدفاع اللبناني حيال مشاريع الابتلاع العربية(93). وعلى أساس ضمان فرنسا لسلامة دولة لبنان وأن تبقى موالية لفرنسا ومدخل لها مستمر إلى منطقة العالم العربي .‏

                ويتضح الأثر السعودي من خلال محاولة المسلمين في لبنان الذين كانوا حريصين على الوحدة السورية والوحدة العربية، فقد حاولت بعض القوى الإسلامية وفي مقدمتها (الكتلة الإسلامية) إقناع الملك عبدالعزيز آل سعود بضرورة إدخال لبنان في وحدة مع الدول العربية. وقد أرسلت له مذكرة بهذا المعنى. وقد جاء الرد إلى محمد جميل بيهم رئيس الكتلة من القنصل السعودي في سورية ولبنان في 14/3/1943. ومما جاء به : ".... ولاشك أن جلالة ملكنا المعظم محب للوحدة العربية كبير الحرص عليها، جمع الله كلمة الإسلام والمسلمين على مايحبه الله ....".‏

                وفي منتصف أيار 1943 يصل الرد فعلاً إلى (الكتلة الإسلامية) في بيروت، وهو رد يعبر عن موقف السعودية إزاء لبنان ومستقبله السياسي. ومما جاء في رسالة الملك عبدالعزيز : "..... اطلعنا على ماذكر في كتابكم عن الوحدة العربية، فالوحدة المذكورة هي قائمة ومكونة ولله الحمد ولايوجد بين العرب أي خلاف يحول دون تحقيقها ... ولكن هنا مسألة يجب أن تتضافر الجهود بشأنها وهي اتفاق العرب على مصالحهم الخاصة وأن يجتهدوا ليتمتع كل قطر من الأقطار العربية باستقلاله وحريته ... فتكون سورية مثلاً للسوريين ... وأن نتراجع مع أصدقائنا لمساعدتنا على إتمامه ....".‏

                ويلاحظ من هذا الرد السعودي التأكيد على وحدة المشاعر العربية فقط والاستقلال لكل قطر وأن يكون لأبنائه. وأنه على المسلمين في لبنان التقليل من اتجاهاتهم الوحدوية والتخفيف من مطالبهم بالالتحاق بالوحدة العربية، وأن عليهم قبل كل شيء ترتيب أوضاعهم الداخلية مع بقية اللبنانيين. وتبين أن الموقف السعودي من الوحدة العربية أصبح موقفاً ثابتاً ليس بالنسبة إلى لبنان فحسب ولكن بالنسبة إلى الموضوع برمته(94).‏

                ومن الواضح أن سياسة الكتلة الوطنية السورية قد ساهمت مساهمة فعالة في تحجيم التيار المنادي بإعادة الأقضية الأربعة والمدن اللبنانية إلى سورية. وسارت أشواطاً بعيدة في دعم الاستقلاليين اللبنانيين لقاء تبني شعار إزالة الانتداب الفرنسي عن سورية ولبنان. ويعزو منح الصلح إلى هذا التحول السوري، انبثاق الاستقلال والميثاق فيقول : "ولم يكن الميثاق ممكن الوجود لولا أن اعترف زعماء الكتلة الوطنية، رجال الحكومة السورية يومئذ، بحدود لبنان وبكيان لبنان"(95). فقد كانت سورية مستعدة لتقديم كافة التنازلات للبنان المستقل شرط إعلان عدائه الصريح لسياسة الانتداب الفرنسي وعدم تمسكه بفكرة إبقاء الجيوش الأجنبية على أراضيه والانفتاح الكامل على العالم العربي(96).‏

                وفي 23/9/1943 في جلسة المجلس النيابي كان عبدالحميد كرامي (الذي كان من دعاة الوحدة السورية في طرابلس) من أول المرحبين باستقلال لبنان اللبناني المتعاون إلى أقصى حد مع محيطه العربي حيث قال : "إن للبنان استقلالاً معترفاً به ونحن الذين حاربنا لبنان في الماضي لأنه لم يكن عربياً، ونحن الذين طلبنا الوحدة السورية، أتينا اليوم إلى هذه الندوة نعترف باستقلال لبنان وتناضل في سبيل هذا الاستقلال ضد أي كان لأن لبنان أصبح الآن عربياً. نعم لقد اعترفنا باستقلال لبنان ولم يكن ذلك مجاملة لأحد ولاخوفاً من أحد بل عن ثقة باستقلال لبنان"(97).‏

                كما أن كمال جنبلاط الذي كان محسوباً على لائحة الكتلة الوطنية الداعية إلى الاستقلال المضمون بحماية فرنسية، تحول في جلسة نيابية (17/10/1943) إلى دعم الاستقلال والعمل على إزالة الانتداب الفرنسي عن سورية ولبنان لأن أهل لبنان الكبير اعترفوا به مسلمين ومسيحيين ودروز وشيعة، وحياه بصفته العربية...." (98).‏

                وكانت القوى الاستقلالية تلقى الدعم الكامل من الدول العربية وبشكل خاص من سورية بسبب التوافق المصيري والمصلحي بين الشعبين اللبناني والسوري والعمل سوياً للتخلص من الاستعمار الفرنسي(99).‏

                ويمكن القول أن الميثاق الوطني اللبناني كان تهرباً لبنانياً من مشاريع الوحدة العربية كمشروع الملك عبدالله لإقامة سورية (الكبرى) ومشروع العراق لإقامة الهلال الخصيب. ومتهرباً من الوحدة السورية الذي تطالب به سورية. والذي طالب به الحزب القومي السوري في لبنان ذاته، فيقول فيليب حتي : "فكان على لبنان والحالة هذه أن يتصرف تصرفاً دقيقاً إزاء عنصر من سكانه يدور في فلك العروبة ويسعى نحو الاتحاد في النهاية مع جيرانه المسلمين. وعنصر آخر واقع تحت تأثير الغرب ويتخوف من فقدان هويته في وسط عربي إسلامي. ووفق رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة إلى وضع صيغة تعرف بالميثاق الوطني الذي يوجب على اللبنانيين عموماً الإخلاص التام للبنان، والتعاون الودي المخلص مع سائر الدول العربية مع الحفاظ على علاقاته العادية التقليدية مع الغرب. فكان هذا الميثاق في جوهره يقضي بعدم الانضمام إلى أية جهة كانت دون أن يمنع من اتباع سياسة إيجابية"(100). وهذا مايوضحه فؤاد عمون وزير الخارجية اللبناني عن سياسة لبنان الخارجية(101).‏

                ولذلك يمكن القول أنه لم تنقطع مطالبة أهالي المناطق، التي ضمت إلى لبنان التي كانت متجهة بأكثريتها الساحقة إلى سورية، بالوحدة السورية إلا في عام 1943 عندما اتفق اللبنانيون على استقلال بلدهم استقلالاً ناجزاً(102). وهذا مااستطاعوا الوصول إليه في حينه على ضوء الظروف المختلفة.‏

                4- انتخابات سورية عام 1943 وبداية العهد الاستقلالي :‏

                لما عاد الجنرال كاترو من الجزائر، باشر القيام بمفاوضات عديدة أشرك فيها وكيله المسيو (هيللو Helleu). وتذاكر مع بعض زعماء الوطنيين الذين كانوا يسمعونه أحياناً عبارات المجاملة، بدون أن يطمئن إليها كثيراً. وقد فكر أن يعيد إلى سورية مجلسها وأوضاعها كما كانت سنة 1936. وقال في ذلك :‏

                "لم أستطع في سورية أن أتفق مع رئيس الوطنيين هاشم الأتاسي ونجمهم الصاعد شكري القوتلي، على أن الرئيس الأتاسي وافق على تأليف حكومة مشتركة وعلى دعوة المجلس النيابي إلى اجتماع قصير وإجراء انتخابات بعد ذلك. وأن تكون العلائق بيننا في أثناء الحرب وفقاً لشروط معاهدة 1936. ولكنه رفض أن يسلمني كتاباً أحتفظ به مكتوماً يوافق فيه على الشروط التي أعلنت بها استقلال سورية .... ولاحاجة إلى القول أن هذه التحفظات من قبل الوطنيين يراد بها أنهم لايودون الارتباط بشيء، فأصبح كل اتفاق معهم لاينطوي على غير المحذورات. وتوليت عنهم مراعياً حسن الصلات بهم. ولعلي قد أخطأت حينئذ في مجاراتي إياهم في التحفظات التي أبدوها. وربما كان ينبغي علي أن أقبل مثلها من قبل ثمانية عشر شهراً. وهذه نقاط لايمكن مناقشتها، ومع ذلك فإني أعتقد أن الأشخاص الذين يعرفون تطرف الوطنيين الشرقيين وإصرارهم على تحقيق جميع مطالبهم، يرون أني حينما اتصلت بهاشم الأتاسي ورفاقه في الحزب (الكتلة)، الذين هم أكثر شباباً، كان من العبث السعي لربطهم ببلاد أصابهم الوهن كبلادنا. إن تلك الوطنية لاتوافق على تسوية إلا في حالة الضرورة، وتكن في صدورها الدخائل المنطوية على الشبهات، حتى تنتهز فرص الحوادث، وتتخلى عما وافقت عليه في ظروف غير ملائمة. وقد عرفت ذلك بريطانيا العظمى الظافرة القوية، التي لديها وسائل إقناع وضغط اقتصادي، حينما عجزت أن تحمل العراق على قبول المعاهدة الأخيرة التي عرضتها عليه، كما أنها لم تستطع أفضل من ذلك في محاولة الوصول إلى تسوية مع مصر"(103).‏

                وكان كاترو في برقيته إلى الجنرال ديجول في 8/3/1943 قد أشار إلى المعاهدة المقترحة مع سورية ولبنان، وأنه بالنسبة لسورية (ضرورة تلويح فرنسا للسوريين بالأخطار الخارجية، وخاصة الأخطار التركية من الشمال، والصهيونية من الجنوب، حتى تبقى سورية على علاقات ود مستمر مع فرنسا)، وتناسى في هذا الموقف أن فرنسا قد أعطت لواء الاسكندرونة إلى تركيا، ووافقت على إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين.‏

                وفي 25/3/1943 أصدر الجنرال كاترو ثلاثة قرارات : "الأول يقضي بإعادة تطبيق الدستور السوري. والثاني ينظم السلطات. والثالث عين فيه السيد عطا الله الأيوبي رئيساً للدولة والحكومة. (كان قد انتخب رئيساً للمحفل الأعظم الماسوني السوري في أوائل 1939).‏

                وأرفق كاترو مع هذه القرارات بياناً ذكر فيه أن مجمل الأحكام التي اتخذها ترمي إلى غاية أساسية وهي حل المعضلة الدستورية بطريقة ديمقراطية لاتحيز فيها. ولأجل تحقيق ذلك فإنه ينبغي أن لايكون للحكومة التي تشرف على الانتخابات صبغة سياسية. وذكر أنه كان من الممكن ايجاد حلول أخرى، منها العودة إلى الوضع الذي كان سنة 1939، ولو أنه طبقت هذه الطريقة لكانت شرعية، وكان بمقتضى الأوضاع الدستورية نفسها إرجاع السلطات السابقة التي كانت تتولى الحكم. غير أن الرئيس الأتاسي رأى عندما استشاره في الأمر، أنه من الواجب تجنب هذا الحل الذي قد لايعبر عن إرادة الشعب(104).‏

                وتشكلت وزارة الأيوبي في 25/3/1943 لإجراء الانتخابات النيابية وإعادة الحياة الدستورية، فاستلم رئاسة الدولة والحكومة، والأمير مصطفى الشهابي للمالية والاقتصاد الوطني والإعاشة، وفيضي الأتاسي للمعارف والعدلية والشؤون الاجتماعية، ونعيم الانطاكي للخارجية والأشغال العامة. ودعت الوزارة الشعب السوري إلى إجراء الانتخابات النيابية فأعلن الوقت المحدد لها(105). وتقرر أن يكون عدد نواب المجلس الجديد (124) نائباً بينهم (16) نائباً عن مدينة دمشق. وكان بين الكراسي المخصصة لدمشق كرسي للأقليات غير الممثلة، كما كانت الحال في عام 1936، وهو الكرسي الذي انتخب له فارس الخوري. وكان الخوري في الفترة التي سبقت الانتخابات يعمل مع إخوانه في الحقل السياسي والاقتصادي ويتابع إلقاء محاضراته في معهد الحقوق. وقد قامت بعض الهيئات تعاكس انتخابه، على أن القائمة التي وضعها شكري القوتلي والتي فوضته بوضعها الوفود الكثيرة التي زحفت إلى منزله، هي التي نجحت بكاملها. وكان من أبرز أفرادها فارس الخوري(106).‏

                وتمت انتخابات الدرجة الأولى في 11/7/1943، وتلتها حفلات انتخابية كثيرة في مختلف الأحياء (في دمشق)، كان من أهمها حفلة حي القنوات التي خطب فيها الخوري وأشار إلى خطورة مهمة المجلس القادم بعد أن ألغي الانتداب وأصبح الموقف يحتاج إلى معالجة الأدواء الداخلية والخارجية. كما أنه أشار إلى زعامة القوتلي وإلى تضحياته وإخلاصه وجهاده المتواصل سبعاً وعشرين سنة، وإلى محاولة انتحاره في خان الباشا في عهد جمال باشا لكي لا يفشي أسرار المجاهدين العرب .‏

                كما تمت انتخابات الدرجة الثانية في 26/7/1943(107). وقد جرت الانتخابات في جو جديد وشعر السوريون أنه قد اقتربت الساعة التاريخية التي تتطلب منهم أن ينظروا إلى المستقبل وحده. فاختاروا نوابهم ليكونوا أمناء على القيام بمهمة عظيمة هي : "إنشاء أوضاع الدولة الجديدة الاستقلالية، وإقامة النظم الحرة الديمقراطية وتوجيه الأمة إلى الغايات الرفيعة التي تقدس المصلحة العامة وتعزز شعور الدولة وحرمة القانون ورقابة النظام وكرامة الإنسان". ولم يقع في البلاد السورية مايصح أن يسمى معركة انتخابية. وكان اتجاه الجمهور نحو انتخاب الوطنيين بصورة عامة (رجال الكتلة الوطنية التي كان بعض رجالها منتسب إلى الحركة الماسونية) (108). وكان ذلك بالرغم من أن تجربة الكتلة السابقة في الحكم لم تكن مقبولة أو فنية. على أن الحكومة التي أعقبتها وطغيان الانتداب جعل الناخب يجدد خياره لها ويعطيها فرصة جديدة.‏

                واجتمع المجلس النيابي الجديد في يوم الثلاثاء 17/8/1943 فانتخب فارس الخوري رئيساً له (وهو رئيس محفل نور دمشق الماسوني عام 1935). وانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية (الدستورية الثالثة) بإجماع الآراء. (ويعتبر هذا اليوم يوم استقلال سورية).‏

                وفي 19/8/1943 كلف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة فكان أعضاؤها: جميل مردم بك للخارجية ولطفي الحفار للداخلية وخالد العظم للمالية ونصوحي البخاري للدفاع الوطني والمعارف، ومظهر رسلان للأشغال العامة والإعاشة، وعبدالرحمن الكيالي للعدلية، وتوفيق شامية للزراعة والاقتصاد الوطني(109).‏

                وكان أكثر أعضاء الحكومة من الكتلة الوطنية التي تفوقت في الانتخابات، وليست الكتلة حزباً دقيق التنظيم، بل هو أشبه بجبهة مؤتلفة. وقد برز دور الجيل الجديد في الكتلة الذي يتزعمه شكري القوتلي وحل بذلك محل هاشم الأتاسي في زعامة الكتلة، وصار المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.‏

                وركز الكتاب اليساريون الفرنسيون على الصفة البرجوازية للكتلة، وفسروا بذلك التقارب بينها وبين بريطانيا. وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك تقارب مدبر، أما الصفة البرجوازية فأمر مسلم به، إلا أن هذه المفاهيم الطبقية لم تكن تؤثر تأثيراً في الحياة السياسية آنذاك، ومن ثم لعبت الكتلة دورها في السير بسورية نحو الاستقلال، وقبل اليساريون الوطنيون هذا الدور كمرحلة(110).‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                  الفصل الثالث الانتخابات النيابية فـي ســــــورية ولبنـــــان عام 1943

                  كان الوطنيون السوريون مايزالون يقفون موقف المتشكك من نوايا بريطانيا التي أظهرت تأييدها لإجراء انتخابات حرة. ويرجع ذلك إلى ذكرى الحرب العالمية الأولى وإلى موقف الانجليز المعروف من الصهيونية(1).‏

                  وفي أوائل سنة 1942 أخذ وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط، والوزير البريطاني في سورية ولبنان، يلحان على الجنرال كاترو المندوب العام للجنة فرنسا الحرة ليقوم بإجراء انتخابات حرة في البلدين. وكان الرأي العام في مصر والعراق يؤيد ذلك، فضلاً عن الرأي العام الدولي. وقد جرى حديث بين الجنرال كاترو وبين السيد مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري السابق في هذا الشأن وعده الجنرال كاترو مؤتلفاً مع مطالب الوطنيين السوريين والكتلة الدستورية في لبنان. وحاول الجنرال أن يدفع هذه المطالب بالعمل على إعادة الأوضاع التي كانت قبل الحرب في سورية ولبنان، واقتراح ذلك على اللجنة الوطنية الفرنسية فلم تتابعه في خطته، وكانت الصعوبة خاصة في وضع لبنان.‏

                  واستمرت المناقشات بين الانكليز والفرنسيين في هذا الأمر، فكان يعمد الفرنسيون إلى أساليب التسويف والتأجيل، ويحتجون بضرورات الحرب، حتى أن الجنرال ديغول خاطب مرة المستر كيزي وزير الدولة البريطاني بعنف قائلاً: ماشأنكم والانتخابات؟ عليكم أن تهتموا بصد الجنرال رومل الذي أشرف على الاسكندرية. وكان لهذه الكلمات التي نطق بها زعيم فرنسا الحرة أثر سيء في الدوائر البريطانية.‏

                  وقد اتخذ كاترو من الحرب في الصحراء الغربية وتقدم الألمان إلى العلمين (في مصر) في ذلك الحين حجة لتأجيل الانتخابات فترة من الوقت واعتبر أنه بذلك حقق نجاحاً شخصياً كبيراً لخدمة مصالح فرنسا الامبراطورية. وبعد معركة العلمين وتراجع (رومل)، جرت مفاوضات بين لجنة فرنسا الحرة والحكومة البريطانية حول إعادة الحياة النيابية في سورية ولبنان، وصدر عنها البيان التالي : "إن استقرار الحالة الحربية في الشرق الأوسط بعد معركة العلمين، يزيل العقبات من أمام الحياة الدستورية" (2).‏

                  ثم تبدلت الأوضاع في أوائل 1943، فقد تدعم مركز فرنسا الحرة بعد الاستيلاء على شمال أفريقيا وتأييد تشرشل لتولي ديغول زعامة الفرنسيين هناك، وابتعدت ميادين القتال عن الشرق الأوسط، فزالت الحجة التي طالما تذرع بها الفرنسيون لتأجيل الانتخابات.‏

                  وأصدرت حكومة فرنسا الحرة قراراً في 24/1/1943 بإجراء الانتخابات في كل من سورية ولبنان(3)، إذ لم تجد اللجنة الفرنسية مناصاً من الموافقة على إجراء انتخابات حرة في سورية ولبنان وعهدت إلى الجنرال كاترو بتنفيذها لدى عودته إلى الشرق(4).‏

                  1- أزمة انتخابات لبنان والدور الفرنسي المتحيز للموارنة :‏

                  لم ينحصر الدور البريطاني في الضغط على الفرنسيين والسلطة اللبنانية لإجراء الانتخابات فقط، بل تعداها إلى النتائج(5). فما أن عادت الحياة السياسية إلى لبنان في 1942 إلى سابق نشاطها حتى عاد خصوم الأمس لينظموا صفوفهم ضمن كتلتين : الدستورية التي يتزعمها بشارة الخوري التي طالبت بالاستقلال وإقامة علاقات مع بريطانيا والقوميين العرب. والوطنية برئاسة اميل اده التي كانت تتحفظ تجاه استقلال لبنان وتدعو لاستمرار الصلات مع فرنسا لضمان عدم ذوبانه(6).‏

                  وفي بداية العام 1943 بدأت الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان تعود تدريجياً إلى أوضاعها السابقة بالرغم من عدم انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولقد تبين أن هذه الحرب والتجارب التي مر بها لبنان منذ العام 1918، لم تؤد إلى انفتاح الفئات والطوائف اللبنانية على بعضها البعض، نظراً للاتجاهات الطائفية المستحكمة ببعض الفئات. وظل المسلمون يشعرون، رغم اعترافهم بلبنان الكبير، أن هناك خطة فرنسية طائفية تقضي باستمرار التحكم بهم وإبعادهم عن حقوقهم السياسية والدستورية. وقد أعربت (الكتلة الإسلامية) المكونة من (الطوائف السنية والشيعية والدرزية) منذ صيف 1942 عن مخاوفها مطالبة بإنصاف المسلمين، وقدمت مذكرة (30/7/1942) بهذا الصدد إلى رئيس الجمهورية الفرد نقاش، وسلمت نسخاً من المذكرة إلى المندوب الفرنسي وإلى سفراء دول الحلفاء. ووصلت إلى الكتلة الإسلامية ردود من هذه السفارات، (عثر على أحدها)، وهو رد المفوضية البريطانية، في بيروت إلى علي سليم سلام عضو الكتلة الإسلامية، وتضمن بعض المعلومات التي تفيد بأن الوزير البريطاني المفوض في بيروت الجنرال سبيرز اطلع على مذكرة الكتلة الإسلامية المرسلة إلى رئيس الجمهورية(7).‏

                  ولقد أظهرت الأحداث والتطورات الداخلية مدى تدخل القوى الاكليريكية في شؤون الدولة وممارستها الضغوط على رئيس الجمهورية لإقالة رئيس الوزراء المسلم. كما أرسلت الكتلة مذكرة أخرى إلى رئيس الجمهورية في 7/11/1942 أعربت فيها عن احتجاجها على نبأ رغبة البطريرك الماروني إقالة رئيس الحكومة سامي الصلح، ومما جاء في المذكرة : "شاع في الأوساط الإسلامية أن رسالة وجهت أخيراً من المقام البطريركي الماروني إلى فخامتكم يبسط فيها رغبته في إقالة الوزارة الحاضرة لأن أعمال رئيسها تتنافى على اعتقاده مع مصلحة الطائفة المارونية المحترمة، وسمى خلفاً لدولة الرئيس سواه ممن يتمتع بقثته من المسلمين. وقد قابلت هذه الأوساط على تعدد طوائفها النبأ بألم واستغراب لأن دولة اعترفت الدول باستقلالها السياسي، وفيها من المسلمين مايناهز نصف سكانها، جديرة بأن تكون مستقلة عن نفوذ الأفراد والجماعات الشخصي، ومنزهة بسياستها العامة عن أن تكون متركزة على قاعدة تعزيز طائفة على الطوائف الأخرى. ونحن نجل غبطة البطريرك عن أن يفرض إرادته فرضاً على الحكومة التي هي للجميع على السواء، ومع ذلك فإنه لايسعنا إزاء التأكيد لنا صحة الخبر إلا أن ننقل إليكم ماكان له من الأثر المؤلم في النفوس، منتهزين هذه الفرصة لنلفت أنظار فخامتكم إلى المذكرة المرفوعة إليكم من كتلتنا بتاريخ 30/7/1942 على رجاء اهتمامكم لإنصاف المسلمين في وطن لاسبيل للاستقرار فيه إلا بالإنصاف...." (8).‏

                  والحقيقة أن هذه الاتجاهات الطائفية قد أثارت استياء المسلمين، ذلك لأنها كانت تشير إلى سيطرة طائفة على الحكم، وعلى حد قول الدبلوماسي البريطاني (لونغريج) فإن البطريرك الماروني ظل يعتبر في هذه الفترة الرئيس السياسي(9).‏

                  وكان هذا الاتجاه الطائفي المسيحي في الوقت الذي بدا فيه واضحاً (بداية عام 1943) أن الزعماء المسلمين ومن بينهم الوحدويون سابقاً، قد اعترفوا نهائياً بالكيان اللبناني بعد أن أصبح لهم مصلحة أكيدة في تثبيت دعائمه واستمراره. إلا أن هذا التحول في الموقف الإسلامي جاء مترافقاً مع تزايد النفوذ البريطاني، وتلاقى مع التيار المسيحي الاستقلالي بقيادة الكتلة الدستورية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى رحيل الانتداب وهزيمة التيار الانعزالي(10).‏

                  وبعد معركة العلمين، وتراجع رومل، جرت مفاوضات بين لجنة فرنسا الحرة والحكومة البريطانية حول إعادة الحياة النيابية إلى سورية ولبنان. وصدر عنها البيان التالي: " إن استقرار الحالة الحربية في الشرق الأوسط بعد معركة العلمين، يزيل العقبات من أمام الحياة الدستورية ". وأخذ الجنرال كاترو يستعد لإجراء انتخابات نيابية فأجرى مشاورات لم يكن للرئيس نقاش فيها رأي، متجاهلاً إياه فاستاء ووجه مذكرة تحذيرية وتأزمت الأمور بينهما. وبعد مظاهرة جرت في بيروت أمام الجامع الكبير يوم عيد المولد النبوي الشريف (16/3/1943) أقدم كاترو على إقالة الفرد نقاش ورئيس حكومته سامي الصلح وعين أيوب ثابت رئيساً للدولة وللحكومة المؤقتة لفترة انتقالية حددت مهامها بالتهيئة للانتخابات النيابية(7)مكرر. ويعقبها انتخاب رئيس للجمهورية.‏

                  ففي 18/3/1943 أصدر كاترو قراراً طلب فيه من الرئيس نقاش ورئيس الوزراء القاضي سامي الصلح تقديم استقالتيهما، مع تعديلات في بعض مواد الدستور بحيث بات الانتخاب الطريق الوحيدة للتمثيل الشعبي (أي إلغاء فئة النواب المعينين الذين كانوا ثلث النواب). وكان أيوب ثابت نائباً ومن الأقلية البروتستانتية المسيحية. وكان مبدؤه الثابت جعل لبنان وطناً قومياً مسيحياً تضمن سلامته فرنسا. وكان متعصباً للفكرة السياسية المسيحية. وقد علق الدكتور جورج حنا على صفات الرئيس الجديد بالقول : " يستغرب من رجل كالدكتور ثابت معروف بعلمانية متطرفة أن يتمسك بمسيحية لبنان، مع مافي ذلك من خطر عليه وعلى مستقبله، وهو محاط بأقطار إسلامية من شرقه وشماله وجنوبه، إلا إذا أسلم بصهيونية فلسطين شرارة النار في هذا الشرق"(8)مكرر.‏

                  وذكر الدكتور يوسف مزهر رأيه بالرئيس الجديد بقوله : "لايجرؤ أحد أن يتهم الدكتور ثابت أنه يماشي الا فرنسيين طمعاً بجاه أو كسب شخصي، لكن هي عقيدة راسخة في ذهنه يعتقدها صواباً، والدكتور ثابت لايجادل في عقيدة اعتنقها"(9)مكرر.‏

                  إن إقدام سلطات الانتداب الفرنسي على إقالة الفرد نقاش وتعيين الدكتور أيوب ثابت المشهور بتعصبه الطائفي رئيساً للدولة بعد أن عهدت إليه مهمة إجراء انتخابات نيابية خلال ثلاثة أشهر. يمكن تفسير هذه الخطوة ضمن سياق تعطيل التوجه الاستقلالي الذي ضم الزعماء المسلمين الوحدويين والتيار المسيحي الاستقلالي(10)مكرر. وهي آخر محاولة سياسية طائفية يلجأ إليها كاترو ويتعلق عليها مصير الانتداب والنفوذ الفرنسي بالذات. فقد كانت خطته تهدف إلى فرط عقد المعارضة الطائفية الذي تشكل في مؤتمر بكركي، وتحاول إعادة الموارنة إلى أحضان (الأم الحنون). فأيوب ثابت أداة طيعة بيد الفرنسيين ولكنه مقرب من البطريركية المارونية ومعروف بتعصبه الطائفي وبعدائه للعروبة وبصداقته المتينة مع اميل اده وكتلته(11).‏

                  بدأ الرئيس أيوب ثابت يترجم عقيدته إلى أفعال متطرفة ضد المسلمين وضد وحدة اللبنانيين، ففي 17/6/1943 أصدر مرسومين تشريعيين يحمل الأول رقم (49) حدد فيه زيادة عدد النواب إلى (54) نائباً منهم (32) مقعداً للمسيحيين و (22) للمسلمين. وقد توزعوا على النحو التالي : 18 للموارنة، 6 للروم الأرثوذكس، 3 للروم الكاثوليك، 3 للأرمن الأرثوذكس، 2 للأقليات المسيحية، 10 للسنة، 9 للشيعة، 3 للدروز(12). وكان ذلك بايحاء من (جان هللو) (أصبح مندوباً عاماً منذ 9/6/1943) الذي مهد لتنفيذ خطته بتعيين أيوب ثابت رئيساً للدولة لكي يعطل سير الحركة الوطنية. فقد كان هللو يتصرف في المشرق وكأنه في إحدى المستعمرات الافريقية التي لم تتطور بعد. وقد استخدم النعرة الطائفية أسوأ استخدام. فقد كان هللو سفيراً لحكومة فيشي لدى تركيا، فهو إذن من اليمين المتطرف. وبعد أن أعلن خروجه عن الولاء للماريشال بيتان كوفىء بتعيينه وكيلاً للمندوب السامي الفرنسي ثم خليفة له فيما بعد، وكلف بالإشراف على الانتخابات، ولم يكن على إدراك صحيح بالتغيرات التي طرأت على المشرق العربي مثل سلفه الجنرال كاترو. فقد فكر الأخير في أن تتبع فرنسا أسلوباً جديداً يناسب العصر. وبدل أن تقف على طرفي نقيض مع بريطانيا إزاء الحركة الوطنية تحاول أن تسابقها على اكتساب ود العرب وذلك بتأييد حركة الوحدة العربية على أن تكون دمشق هي محور هذه الحركة وليست القاهرة أو بغداد(13).‏

                  لقد كانت زيادة عدد النواب المسيحيين إغراء للبطريرك ولجميع الموارنة والمسيحيين للتمسك بها وبالفرنسيين الذين سيدعمونها.‏

                  وقد جاء في البند الرابع من المرسوم رقم (49) ضرورة إدراج المهاجرين في السجلات الرسمية ونص على مايلي : " يتألف عدد الأهالي من الوطنيين المقيدين في سجلات الأحوال الشخصية بتاريخ 31/12 والذين هم غير مقيدين في هذه السجلات وأصلهم من لبنان ومحل إقامتهم في الخارج وقد اختاروا الجنسية اللبنانية". ومعنى ذلك تسجيل أبناء المهجر (D' outre-mer) من المسيحيين لاسيما الموارنة. ومن المعروف أن المسلمين عارضوا هذا الاتجاه بتسجيل المغتربين لبنانيين، وذلك منذ عهد الرئيس اميل اده وحكومته التي كان يرأسها حينذاك خيرالدين الأحدب(14). وإن تسجيل المهاجرين من المسيحيين لاسيما الموارنة سيؤدي إلى اختلال توزيع المقاعد بين الطوائف.‏

                  أما المرسوم الثاني رقم (50) فيتعلق بتوزيع زيادة عدد النواب على المناطق الانتخابية.‏

                  وقد أثار المرسومان الطوائف الإسلامية وأحدثا احتجاجاً صارخاً لأن من أهدافهما صبغ لبنان بصبغة محلية طائفية. ومما قاله رئيس (الكتلة الإسلامية) معلقاً على المرسومين: " كان لهذين المرسومين أثر شديد الخطورة في نفوس الطوائف المحمدية، وهذا الأثر لم ينتج عن زيادة صحيحة أو غير صحيحة في عدد النواب، تكون في جانب طائفة دون أخرى، وإنما كان لما أحس المسلمون من محاولة بعضهم التوصل بهذه الطريقة لضمان الكثرة المطلقة في المجلس النيابي لحماة فكرة عزلة لبنان عن كل مايحمل اسماً عربياً ". وأضاف (بيهم) بأن إصدار المرسومين " كأنهما مجموعة من التدابير التي اتخذت لمجابهة خطر الاتحاد العربي الذي أصبح تحت الدرس والتحقيق". وإن الرئيس أيوب ثابت حاول عن قصد وتصميم بالاتفاق مع أحد الأحزاب السياسية إقرار زيادة محسوسة في عدد نواب لبنان من المسيحيين مستعيناً بـ 159 ألف مهاجر قطعوا صلاتهم بلبنان وتجنسوا بغير جنسيته كل ذلك في سبيل اتقاء خطر الاتحاد العربي وخوفاً من ازدياد أنصاره ودعاته في المجلس النيابي. ولعل هذا الحرص على إثبات هذا التفوق النسبي في عدد طائفة دون أخرى إنما يقصد منه تأكيد الصبغة التي يريدون صبغ لبنان بها واعتبار بقية الطوائف بمثابة الأقليات"(15).‏

                  وأشار السفير البريطاني في بيروت الجنرال ادوارد سبيزر إلى قضية المرسوم 49 ومشكلة تحديد عدد المقاعد النيابية بـ 32 مقعداً للمسيحيين و 22 معقداً للمسلمين، مبدياً عدم موافقته على هذا المرسوم ومدافعاً عن موقف المسلمين(16).‏

                  ونظراً لخطورة الموقف الداخلي نشطت القيادات الإسلامية و "الكتلة الإسلامية" وأرسلت عدة مذكرات إلى المسؤولين في الدول العربية، شرحت فيها أهداف المرسومين، وبينها مذكرة إلى رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس باشا، كما اجتمع رئيس الكتلة محمد جميل بيهم وأحد أعضائها عبدالرحمن السحمراني بالسكرتير العام للمفوضية الفرنسية شاتينو (Chataigneau) في19/6/1943 وشرحا له الغبن اللاحق بالمسلمين من جراءالمرسومين، وطالبا بوقف تنفيذهما. وفي اليوم نفسه 19/6/1943 عقد اجتماع في منزل سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد توفيق خالد، ضم القيادات الإسلامية التي تباحثت مع المفوض السامي (جان هللو J.Helleu) حول رفض المسلمين لتنفيذ المرسومين.‏

                  وفي 21/6/1943 عقد مؤتمر الطوائف الإسلامية برئاسة المفتي في نادي جمعية اتحاد الشبيبة الإسلامية لبحث قضية المرسومين حضره العديد من الشخصيات والقيادات الإسلامية (السنية والشيعية والدرزية) ومما قاله المفتي : " إن اختلال المساواة يثير المشاحنات بين الطوائف التي يتألف منها لبنان ..." أما الشيخ عبدالحميد كرامي فقد هدد بالانفصال عن لبنان بقوله : "مامن قوة تحت السماء تستطيع أن تحملنا على البقاء في الكيان اللبناني إلا إذا كان عربياً ومن صميم بلاد العرب ". وقد أكد الجميع على وحدة الموقف الإسلامي. وبعد الانتهاء من إلقاء الكلمات تلا أمينا سر المؤتمر صائب سلام وحسني أبو ظهر مقررات مؤتمر الطوائف الإسلامية بعد أن صوت عليها جميع الحاضرين وهي:‏

                  1- مطالبة الحكومة اللبنانية بإلغاء المرسوميـن .‏

                  2- إجراء إحصاء عام شامل بإشراف لجنة محايدة موثوق بها.‏

                  3- إجراء الانتخابات على أساس الإحصاء الجديد الذي نطلبه، وإلا فعلى أساس القانون القديم الذي يجعل عدد أعضاء المجلس 42 نائباً منتخباً (22 للمسيحيين و 20 للمسلمين).‏

                  4- يمتنع المسلمون عموماً في أنحاء الجمهورية اللبنانية عن الاشتراك في الانتخابات إلى أن تتحقق هذه المطالب.‏

                  5- تأليف لجنة للعمل سريعاً على كل ما من شأنه تحقيق هذه المطالب وحفظ حقوق الطوائف المحمدية في التمثيل الشعبي العام العادل.‏

                  6- إبلاغ نسخة من هذه المقررات لمقام الحكومة اللبنانية ولفخامة سفير فرنسا الحرة ولحضرات ممثلي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية والحكومة السعودية ومصر والعراق وسائر ممثلي الدول الحليفة .‏

                  وبالفعل فقد وجهت مذكرة من المؤتمر لرئيس الدولة أيوب ثابت في 22/6/1943 تضمنت ضرورة تنفيذ المقررات الصادرة عن المؤتمر الإسلامي وضرورة " ايجاد حكومة حيادية بعيدة عن الحزبية، ذلك أن الحكومة القائمة قد فقدت ثقة جميع المواطنين اللبنانيين تقريباً "(17).‏

                  ويشير تقرير بريطاني إلى موقف المسلمين في حال عدم تحقيق مطالبهم، ففي 29/6/1943 أرسل تقرير بريطاني سري من بيروت إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن جاء فيه : " إن أيوب ثابت يحاول تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى لكي يحتفظ بوضعه شبه الديكتاتوري. ويبدو أن هللو كان متضايقاً من دناءة سبل العيش المتبعة ولعدم قدرته على ايقافها، فهو على الأرجح يؤيد سياسة الدكتور ثابت الإرجائية. أما المسلمون المتحدون في الحاضر أكثر من أي وقت مضى حتى العشرين سنة الماضية، فهم يدركون أن من غير المرجح أن يصلهم مايرضيهم عن طريق الشرائع الانتخابية وبالتالي فبعض زعمائهم، وبالأخص رياض الصلح، يحاولون أن يدفعوهم كطائفة، ليس لمقاطعة الانتخابات فحسب بل للمطالبة باستقالة الدكتور ثابت أيضاً، وللإفصاح عن عدم قدرتهم على المساهمة في الدولة اللبنانية في تركيبتها الحاضرة معللين ذلك بأنه طالما أن الفرنسيين موجودون ويدعمون مواقف المسيحيين في السيطرة على لبنان، لن تكون لهم حصة عادلة. وتبعاً لذلك فالزعماء المسلمون يفكرون بالتقدم بالمطلبين الآتيين :‏

                  1- أن يتحد لبنان فدرالياً في دولة واحدة محتفظاً بقدر ما من الحكم الذاتي المحلي وإذا كان هذا غير مقبول من المسيحيين. 2- فإن المناطق الأربعة التي ضمت إلى لبنان في عام 1920 بما فيها طرابلس، تعاد إلى سورية ويوضع لبنان، وقد أعيد إلى حدود ماقبل 1914، تحت سيطرة دولية وتجعل بيروت مرفأ حراً.‏

                  "إن موقف المسلمين هذا هو أيضاً عامل مهم لأنه إذا استمر فيعني أن لبنان سيكتب له الاستمرار في وضعه الحاضر تحت ظروف أقرب إلى حماية فرنسية منها إلى دولة ذات سيادة، ويبدو لي أن موقفنا بأكمله تجاه مفهوم (لبنان مستقل) يجب أن يعاد بحثه في ضوء هذا العامل.‏

                  "وكل المعلومات التي في حوزتي توحي بأن اللبنانيين أنفسهم، ماعدا القليل من المسيحيين المتعصبين غير الواقعيين، ليس لديهم أي حماس للبنان مستقل. ويمكن القول بشكل عام إن المسيحيين ككل يريدون فقط الحماية من المسلمين وليس بينهم خلاف إلا على من ستكون الدولة الحامية هل هي بريطانيا، فرنسا، أو الولايات المتحدة الامريكية أو تشكيلة من الدول الثلاث. والمسلمون ومع أنهم على العموم يرغبون دوام الحكم الذاتي. فجميعهم يؤيدون اتحاداً سياسياً واقتصادياً مع سورية كمرحلة أولى نحو اتحاد عربي أوسع.‏

                  "فلبنان الحالي هو في الواقع مخلوق اصطناعي أوجدته السلطة المنتدبة الفرنسية بدون مبررات سياسية واقتصادية، ولايسانده سوى فرنسا التي تأمل بأنها باحتفاظها به تستطيع أن تسيطر على المناطق السورية المجاورة. حتى الآن يمكننا الإجابة على الأسئلة التي تستوضح وجهات نظر حكومة جلالته عن مستقبل لبنان..." (8).‏

                  وأشار تقرير بريطاني آخر في التاريخ نفسه (29/6/1943) إلى أن الزعامات السنية (رياض الصلح وعبدالحميد كرامي وصائب سلام) قاموا بصفتهم الشخصية يوم 29/6 بزيارة المفوض البريطاني في بيروت. وذكروا له أنهم وحتى الإعلان عن الترتيبات المتعلقة بإحصاء السكان، لن يستطيعوا أن يحددوا مواقفهم من الانتخابات لأنهم يريدون أن يعرفوا ماهي الوسائل الممكنة لتأمين عدم تزوير الإحصاء. ثم أكدوا أنهم توصلوا مؤخراً إلى نتيجة وهي أن المسلمين لايأملون بالحصول على حصة عادلة في لبنان، لأن الفرنسيين يريدونه تحت (السيطرة المسيحية)، وقد عرضوا الموقف الإسلامي المشار إليه في التقرير السابق كحل للأزمة (الفدرالية أو الالتحاق بسورية)، كما اتفقوا على الطلب الذي سيؤدي إلى وجود عدد من المسيحيين تحت سيادة المسلمين، كما يترك عدداً أكبر من المسلمين تحت سيادة المسيحيين. لكنهم يصرون أن هذه النواقص ليست شيئاً أمام فوائد جعل أكثرية المسلمين الذين في لبنان في الوقت الراهن داخل سورية. وقد طلبوا المشورة عن الطريقة التي سيقدمون بها مطالبهم وإلى أي حد ستدعمهم حكومة جلالته.‏

                  وكان جواب المفوض البريطاني بأنه لايستطيع أن يعدهم بأخذ أي شيء على عاتقه، فوافقوا على أن بريطانيا قدمت في الماضي الكثير من الوعود لم تنفذ بكاملها(19).‏

                  وإزاء هذه التطورات الداخلية عاد الجنرال كاترو من الجزائر إلى بيروت وبدأ في بحث المشكلة مع مختلف القوى السياسية. وفي 4/7/1943 تلقى رسالة سرية من رئيس وزراء مصر النحاس أوضح فيها موقف مصر من الأزمة الراهنة ومن مسلمي لبنان، فذكر أن تحقيق الاتفاق التام بين العنصرين المسيحي والمسلم في لبنان يؤثر على جميع المسلمين والمسيحيين في الشرق. وأوضح استياءه من الفارق الشاسع في عدد النواب. والذي لم يكن من قبل... واقترح النحاس حلاً وسطاً أو تسوية سياسية لتهدئة النفوس ولو على حساب المسلمين، وهو أن يؤخذ بالنسبة التي كانت مقررة عام 1939 (22 مقعداً للمسيحين و 20 مقعداً للمسلمين) أي 29 مقعداً للطوائف المسيحية و 25 مقعداً للطوائف الإسلامية(20).‏

                  وفي ضوء ذلك نشط الجنرال كاترو وزار مفتي الجمهورية في 9/7/1943 فأبدى المفتي موقفه مجدداً من المرسومين ومدى الإجحاف الذي يصيب المسلمين جراء تنفيذهما. وذكر المفتي أن المسلمين ينشدون العدل. وأشار كاترو إلى محبته للمسلمين وسيعمل على درس المرسومين مع المذكرة التي رفعت إليه.‏

                  من ناحية أخرى رفض البطريرك الماروني انطوان عريضة اقتراح النحاس في برقية أرسلها إلى رئيس الدولة أيوب ثابت في 13/7/43 وقال : " إننا نقاوم كل سعي لتعديل قرارات حكومتكم العادلة بشأن الإحصاء وتوزيع المقاعد النيابية ونؤيد حكومتكم في موقفها التاريخي الشريف ". وكان معنى هذا الرفض اشتداد الأزمة السياسية التي اتخذت طابعاً طائفياً، مما دعا بعض اللبنانيين للبحث في إمكانية عقد مؤتمر وطني لجميع اللبنانيين، وقام فيليب نقاش ووفد مسيحي بجولة على رؤساء الطوائف المسيحية. ولما اجتمع الوفد بالبطريرك قال نقاش : إن الحالة في بيروت ياصاحب الغبطة أصبحت سيئة للغاية في هذه الأيام. وبعد أن كان سكان بيروت يعيشون منذ عشرات السنين حتى أواخر العهد العثماني في تفاهم وتقارب لافارقاً طائفياً يفرقهم، أصبحوا الآن منقسمين على بعضهم انقساماً ينذر بالشرور. فما كان من البطريرك إلا أن أبدى استعداده للنزول من قصره في الديمان إلى مقره في بكركي لترؤس المؤتمر المقترح. غير أن النائب البطريركي عبدالله الخوري قال للوفد : " إن غبطته لن ينزل بكركي.. لايكفي أن يقول البطريرك قررت فهو ليس وحده هنــــــا"(21).‏

                  ولهذا فقد أشار تقرير بريطاني في 16/7/1943 إلى أن البطريرك الماروني ومعه الأساقفة واميل اده قد عارضوا " ترك أي من المنافع التي جنتها القوانين الجديدة للمسيحيين". وفي اجتماع الأساقفة برئاسة المطران اغناطيوس مبارك في 14/7/1943 عبروا عن تصميمهم على فرض الحل لذاك السبب. وفي حديث خاص بين المطران والممثل البريطاني أظهر المطران بأنه كان يساوم، وكان في الحقيقة مقتنعاً بالحل الذي اقترحه كاترو لأنه ترك منافع مهمة للموارنة وهو يتضمن :‏

                  1- إن القانون الانتخابي يجب تعديله ليعطي النسب في المقاعد النيابية كما اقترحها النحاس باشا، (وقد تبين بأن المقاعد الثلاثة التي ستؤخذ من المسيحيين لتعطى للمسلمين ليست هي مقاعد للموارنة بل هي للأرمن والأرثوذكس والأقليات).‏

                  2- يعطى أيوب ثابت الخيار بالبقاء في سدة الرئاسة شرط أن تسحب منه السلطة والمسؤولية.‏

                  3- يعين رئيس حكومة مسلم يتولى السلطة التنفيذية لحين انتهاء الانتخابات.‏

                  4- تؤجل مسألة تمثيل المغتربين وكذلك مسألة الإحصاء العام لتبحث في المجلس الجديد.‏

                  وجاء في التقرير البريطاني بأن المطران مبارك شعر بأنه مجبر على إظهار التعاون مع المذاهب المسيحية الأخرى غير الراضية عن الحل. وادعى بأنه كان يدافع عن وجهة نظر المسيحيين لكي يكسب ثقة المتطرفين. وليكون في وضع أحسن ليبذل تأثيراً معتدلاً عليهم. وأضاف المطران مبارك بأن الموارنة لايشتكون أي شيء طالما أن المقاعد الثلاثة ستؤخذ من الأقليات المسيحية وأشار إلى أنه سيكون مستعداً ليرى الأقضية الأربعة ذات الأغلبية الإسلامية تعاد لسورية شرط أن تبقى منطقة جبل لبنان ومدينة بيروت والبقاع الذي يمر به نهر الليطاني، وهذا يعطي بالمقارنة دولة مارونية متجانسة قد تصلح كملجأ لجميع الأقليات المضطهدة في الشرق(22).‏

                  وفي تقرير بريطاني سري حول أزمة المرسومين من المفوضية في بيروت إلى وزارة الخارجية في 17/7/1943 أن نوري السعيد قابل المفتي وعدداً من الزعماء المسلمين وتحدثوا حول جهود كاترو ومقترحات النحاس وأن الفرنسيين يأملون في استمالة شيعة جبل عامل إلى جانبهم إلا أنهم لن يخرجوا عن الموقف الإسلامي العام(23).‏

                  وبالفعل ونتيجة لتردي الأوضاع السياسية (وللخروج من المأزق) أقال الجنرال (هللو) الرئيس أيوب ثابت وحكومته في 20/7/1943. وفي 21 منه أصدر قراراً عين بموجبه النائب الأرثوذكسي البيروتي بترو طراد رئيساً للدولة. كما عين عبدالله بيهم السني في منصب أمين سر الدولة. وعلى الأثر طلب (هللو) من السفير البريطاني سبيزر المشاركة في حل الأزمة المستعصية. وبالفعل قام سبيرز بزيارة البطريرك الماروني ومفتي الجمهورية في 30/7/1943 وتباحث معهما كل على حدة حول ضرورة إنهاء الأزمة المطروحة(24).‏

                  وقد جاء في تقرير بريطاني في 29/7/1943 أن البطريرك بدأ يدافع عن المسيحية أمام ممثل بريطانيا. ومما قاله : " لقد قاتلوا (11) قرناً وسيموتون وهم يقاتلون إذا لزم الأمر. لايوجد سوى مسلمين ومسيحيين في الصورة، وقد صمم المسلمون على محو المسيحيين وكل امتياز يمنحونه يشجعهم في أطماعهم"(25).‏

                  في حين أبدت القيادات الإسلامية تجاوباً مع اقتراح (تسوية سياسية) جديدة ترمي إلى جعل عدد النواب المسيحيين 30 نائباً مقابل 25 نائباً للمسلمين. وبالرغم من أن المسلمين سبق لهم أن أيدوا على مضض اقتراح النحاس باشا على أساس 29 نائباً للمسيحيين و 25 نائباً للمسلمين. فإنهم حرصوا على وحدة البلاد. وحرصاً على إنهاء الأزمة، تجاوبوا مع (تسوية سبيرز) على أن تعدل فيما بعد، وعلى أن يجري إحصاء عام لاسيما وأن عدد المسلمين طرأت عليه زيادة كبرى .‏

                  وبناء على (تسوية سبيرز) أصدر المفوض السامي هللو في 31/7/1943 مرسوماً رقم (F.C.302) حدد فيه عدد النواب 55 نائباً، 30 للمسيحيين و 25 للمسلمين أي كل 6 نواب مسيحيين يقابلهم 5 نواب مسلمين. على أن يوزع المجلس النيابي الجديد على النحو التالي : 18 مارونياً، 11 سنياً، 10 شيعة، 6 روم أرثوذكس، 4 دروز، 3 روم كاثوليك، 2 أرمن، وواحد من الأقليات(26). كما نص المرسوم على ضرورة إجراء إحصاء عام لسكان لبنان في مدة لاتتعدى سنتين من تاريخ هذا المرسوم.‏

                  ومن ثم وجه (هللو) نداء إلى اللبنانيين أشار فيه إلى ضرورة وحدتهم " وأن الحل الذي اعتمدته يتطلب أن تضحي الفئتان الطائفتان اللتان تتجابهان. وياللأسف مقعداً واحداً. إنه لايعقل ولايمكن للرأي العام العالمي أن يفهم ذلك، أن يكون مصير لبنان أمام خطورة المصالح العامة معرضاً للخطر بسبب معارضة عنيدة ونظرية ليس إلا ". وأكد أن الحل المتخذ إنما " هو حل ذو صفة مؤقتة ... وعلاوة على ذلك أنه من الواجب أن يجري إحصاء عام لأهالي لبنان في مدة لاتتجاوز سنتين، ويمكن حينئذ وفقاً لنتيجة الإحصاء إجراء انتخابات إضافية لإدخال التعديل اللازم على تأليف المجلس " .‏

                  وفي اليوم نفسه (31/7/1943) أذاع ادوارد سبيرز الوزير البريطاني المفوض رسالة على اللبنانيين أوضح بها حرص المسلمين على وحدة لبنان والعيش مع المسيحيين، وأشار إلى "أن الحل الذي اعتمده حضرة السفير هللو يبدو منصفاً للغاية، ومادامت الطائفة الإسلامية قد قبلت أن يكون من العدل وجود أكثرية مسيحية في المجلس النيابي، فإنه يبدو عجباً، مادامت قد تأكدت تلك الأكثرية، أن تضع الطائفة المسيحية العلاقات الطيبة مع الطائفة الأخرى في خطر. تلك العلاقات الطيبة التي لابد منها وليس لخير البلاد فحسب بل أيضاً لبقائها، وذلك من أجل قضية مقعد إضافي للأكثرية". ورأى سبيرز أن عدم قبول المسيحيين باقتراح هللو سيعرضهم لفقدان عطف الدول الديمقراطية عليهم، وأن المسيحيين ليسوا هم وحدهم الذين لهم آمال ومطالب، بل إن للمسلمين أيضاً آمالاً ومطالباً. وبالرغم من آمالهم ومطالبهم فقد ضحوا من أجل وحدة لبنان. ويحلو لي وأنا المسيحي أن أحيي الطريقة التي ضحت بها الطائفة الإسلامية بوجهة نظرها لصالح لبنان الوطن المشترك والبلد الذي يحبه الجميع على السواء.."(27).‏

                  وبالرغم من التضحيات الإسلامية فإن القيادات المارونية لاسيما البطريرك عريضة رفضت ماتم التوصل إليه. وأعلن أنه قبل ذلك مؤقتاً وأن الإجحاف أصاب المسيحيين، وذلك في رده على رسالة بترو طراد في 1/8/43، بالرغم من أنهم حصلوا على 30 مقعداً مقابل 25 مقعداً للمسلمين، مع أن إحصاء 1932 يعين موازاة عدد المسلمين للمسيحيين. وأن زيادة كبرى طرأت على عدد المسلمين مابين 1932-1943. ولذلك فقد ازداد الغبن اللاحق بالمسلمين طالما أن اختيار النواب كان تبعاً لعدد كل طائفة. وكان البطريرك قد حرض توفيق لطف الله معاون أمين سر الدولة، على الاستقالة من الوزارة بحجة أن رئيس وزراء مصر تدخل في شؤون لبنان. والأمر اللافت للنظر بأن الرئيس طراد تبنى وجهة نظر الطائفة المارونية. ففي 3/8/1943 أصدر بياناً أعلن فيه بأن الطوائف المسيحية قبلت الحل وهو مجحف بعض الإجحاف بحقوق الطوائف المسيحية. ولكنه للبرهان على أنهم أبناء وطن واحد.‏

                  ورأت الأوساط الإسلامية أنه كان من المفروض من رئيس الدولة أن يكون فوق الاجتهادات الطائفية. وعلق رئيس الكتلة الإسلامية محمد جميل بيهم على ذلك بقوله : "فرغم ماكان يعتقده الفريقان : فريق أهل الوحدة وفريق أهل العزلة، بأن الحل الأخير مجحف بحقوقه، فقد قبله كل منهما على اعتبار أن الإحصاء المقبل سيكون بمقام الحكم والقول الفصل"(28).‏

                  غير أن الإحصاء الذي وعد به كل من هللو وسبيرز عام 1943 لم يجر بعد سنتين أي عام 1945، لأن البطريركية المارونية طلبت حينذاك من الشيخ بشارة الخوري بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، عدم الإقدام على إجراء إحصاء للسكان في لبنان، لأن نتيجته ستكون لمصلحة المسلمين. وقد تأكدت البطريركية المارونية ورئاسة الجمهورية من أعداد السكان ونتيجة الإحصاء من مدير إدارة الإحصاء والنفوس فريد حبيب الذي نصح بعدم إجراء الإحصاء. وقد أكد هذه المعلومات أيضاً مدير المعارف حينذاك صبحي حيدر. ومنذ ذلك الحين لم يجر إحصاء للسكان في لبنان، والإحصاء الوحيد المعتمد عليه في لبنان هو إحصاء عام 1932.‏

                  هذا وبعد انتهاء الأزمة أرسلت (الكتلة الإسلامية) رسالة شكر إلى النحاس باشا، ورد بدوره أن ماقام به، أملته علاقات الأخوة والمودة القائمة بين البلاد العربية(29). فإن توسط الحكومات العربية أنهى الأزمة الطائفية التي أثارها الرئيس أيوب ثابت وجعلته يتراجع عن هذه المؤامرة(30).‏

                  وهكذا كان على المسلمين أن ينشطوا على الصعيدين اللبناني والإسلامي لتحصين أنفسهم ولتنظيم أوضاعهم ولإحقاق حقوقهم في وطن أرادوه أن يكون لجميع أبنائه، علماً أن التضحيات الإسلامية ستتواصل من أجل وحدة لبنان وسيتأكد ذلك مجدداً عند الحديث عن ولادة الميثاق الوطني(32).‏

                  ومايمكن ملاحظته بوضوح من خلال أزمة المرسومين، تمسك الزعماء المسلمين في لبنان بالكيان اللبناني، لأن مناقشات المؤتمر الإسلامي الصادرة عنه تكشف بوضوح ذلك التوجه باستثناء إشارة عبدالحميد كرامي إلى أنه: "مامن قوة تحت السماء تستطيع أن تحملنا على البقاء في الكيان اللبناني إلا إذا كان عربياً ومن صميم بلاد العرب". فلم يلجأ المؤتمرون إلى رفع شعار (الوحدة السورية) ولا إلى التذكير به كما كانوا يفعلون في السابق، بل شددوا على نيل حصة عادلة في عدد المقاعد النيابية تتناسب مع عددهم(33).‏

                  ويذكر الصليبي أن الكتلة الدستورية بزعامة الخوري وجدت في المخرج السياسي الذي صاغه كاظم الصلح وتقي الدين الصلح والقاضي باعتبار لبنان دولة مستقلة ذات شخصية مميزة في المجموعة العربية له كيانه المستقل، وبأن الشعب اللبناني جزء لايتجزأ من الأمة العربية، أساساً عملياً للتفاهم الوطني بين جميع الفئات في البلاد(34).‏

                  2- إجراء الانتخابات اللبنانية‏

                  ومدلول تشكيل حكومة الصلح‏

                  بعد تسوية أزمة المرسومين 49 و 50 صدر في 15/8/1943 مرسوم اشتراعي دعيت بموجبه الهيئات الانتخابية إلى الاقتراع في 29/8 للدورة الأولى وفي 5/9 للدورة الثانية، على أن يلتئم المجلس النيابي في 21/9/1943 لانتخاب رئيسه ومكتبه ورئيس الجمهورية الجديد(35).‏

                  وكلف المسيو (هيللو) وكيل المندوب السامي العام، وخليفته فيما بعد، بالإشراف على الانتخابات(36) وكانت الانتخابات معركة، لا بين اتجاهين طائفيين، إنما بين اتجاهين سياسيين أحدهما استقلالي ينادي بإقامة أوثق الصلات مع البلاد العربية (التعاون والاتحاد العربي) وتزعمه بشارة الخوري وعروبيو الأمس كرياض الصلح وعبدالحميد كرامي، والآخر انعزالي يطالب ببقاء الانتداب بزعامة اميل اده(37).‏

                  كما كانت الانتخابات مؤشراً هاماً من مؤشرات الصراع الفرنسي البريطاني في لبنان والمنطقة. فقد بدأت فرنسا بدعم الاتجاه الانعزالي الذي يتمثل بالكتلة الوطنية (اميل اده). بينما دعمت بريطانيا الاتجاه الاستقلالي الذي تمثل في الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري (مساندة لكميل شمعون). فالصراع لم يكن طائفياً بقدر ماكان سياسياً، سيما وأن رئيس الكتلتين المتصارعتين هما من أبناء الطائفة المارونية. كما أن الكتلتين تضمان فئات من مختلف الطوائف(38).‏

                  ويلاحظ أن البطريرك الماروني تخوف من نجاح دعوة العروبة فوجه نداء إلى الأساقفة طلب إليهم تلاوة ندائه في الكنائس لانتخاب المرشحين المعادين لفكرة الوحدة العربية، وأن لايقترع إلا للمرشحين المعروفين بحبهم للبنان(39).‏

                  وعشية تلك الانتخابات بدا واضحاً أنه يتوقف على نجاح أحد الاتجاهين مصير النفوذ الفرنسي أو البريطاني. لذلك شهد لبنان عام 1943 أعنف معركة انتخابية في حياته السياسية، "فالمفوضية الفرنسية استخدمت كل إمكانياتها لتؤمن فوز المرشحين الذين تساندهم، خاصة في دائرة جبل لبنان"(40)، وراح موظفوها يحاربون مرشحي الكتلة الدستورية ويطلقون ضدهم شتى الاتهامات(41) ومنها العمل على إدخال لبنان في مشاريع الوحدة العربية في محاولة منها لتخويف المسيحيين. في حين راح الانجليز يساندون مادياً وبذكاء المرشحين الذين قبلوا أن يلعبوا لعبتهم(42).‏

                  وتتهم الليدي سبيرز المندوب السامي الفرنسي هيللو ومعاونه (بوجنر) بتدخلهما شخصياً في سير عمليات الاقتراع: "لقد عبىء رجال الدين الموالون للفرنسيين... ولقد ذهبت الشائعات إلى أن الفرنسيين أنفقوا خمسين مليوناً من الفرنكات على الحملة الانتخابية، فكان طبيعياً أن ينكر الفرنسيون هذه الشائعة وأن يردوا عليها بقصة أخذت تنتشر في القرى وملخصها أن الوزير البريطاني قد شوهد يجوب الجبال على صهوة فرس أبيض يحمل أكياساً من الذهب...". إلى أن تقول : "وكانت النتيجة في جبيل، حيث كان لأميل اده نفوذه، نتيجة مضحكة. فقد كان عدد الناخبين 3700 ناخب وعدد المقترعين 3700 مقترع.. اقتراع كامل بنسبة 100% وقد نال فيه المرشحون الموالون للفرنسيين كثرة مطلقة بلغت 90%"(43).‏

                  ولم يحرز الدستوريين نجاحاً كبيراً (7 من 17فقط)، في محافظة جبل لبنان، المستفيدة من أموال المهاجرين والمصطافين والفرنسيين، والتي هي معقل الطائفة المارونية الداعية إلى الارتباط بفرنسا. وفاز الخوري بصعوبة في الدورة الثانية، إلا أن حلفاءهم في المحافظات الأربع الباقية التي عرفت برفضها للانتداب الفرنسي، فازوا فوزاً ساحقاً(44).‏

                  كان يتزعم التيار الانعزالي المسيحي جماعة من المنتفعين من الوجود الفرنسي كالموظفين والتجار المرتبطين مباشرة بالرأسمال الفرنسي، فعملوا على إطالة الانتداب والارتباط بفرنسا، ومنهم من نادى بجعل لبنان محمية فرنسية. إلا أنه رغم بعض الشعبية التي كانت لهذا التيار في الأوساط المسيحية، لم يستطع الصمود أمام التيار الثاني الذي كان أكثر واقعية حتى بالنسية لفئات شعبية كثيرة من المسيحيين الذين شعروا بالتضرر من السياسة الفرنسية. خاصة المزارعين منهم، وخاصة بسبب أزمة 1929 الاقتصادية. وكان للحرب العالمية الثانية أثرها الكبير، فقلت شعبية أصدقاء فرنسا بين المسيحيين محملة إياهم مسؤولية العجز في تدارك التدهور الاقتصادي، فانحازت قطاعات كبيرة من المسيحيين إلى الكتلة الدستورية التي كان برنامجها إعادة العمل بدستور 1932 المعلق ثم أضيف عليه المطالبة بإنهاء الانتداب وعقد اتفاقات التعاون مع سورية والدول العربية الأخرى. فأحرزت انتصاراً ساحقاً في الانتخابات النيابية رغم تدخل الفرنسيين وألاعيبهم(44)مكرر.‏

                  وأسفرت الانتخابات النيابية السياسية عن نجاح (المعادين لفرنسا) في المناطق الإسلامية المضمومة إلى جبل لبنان، مع استمرار أقلية نيابية موالية للفرنسيين(45) وهذه النتيجة كانت تعني تبدلاً جوهرياً في تاريخ لبنان الحديث، فلأول مرة في تاريخ الانتداب يصل إلى البرلمان اللبناني "الوحدويون" الذين كانوا يرفضون كيان لبنان ويطالبون بالوحدة السورية (رياض الصلح وعبدالحميد كرامي وسعدي المنلا....). وقد وجد هؤلاء أنفسهم في جبهة واحدة مع نواب كانوا يعتبرون من أصدقاء فرنسا التقليديين (بشارة الخوري، حميد فرنجية، هنري فرعون...). مما يعني أن صيغة جديدة أصبحت واجبة التحقيق للإطلاع بالمسؤوليات التي تقتضيها المرحلة القادمة(46).‏

                  واستمر الصراع الداخلي والخارجي بجوانبه المحلية والعربية والدولية في إطار انتخابات رئاسة الجمهورية. فنشطت فرنسا بدعم مرشحها اميل اده. بينما نشطت بريطانيا ومصر والعراق وسورية بدعم بشارة الخوري. غير أن بشارة الخوري يورد بعض معلومات حول هذا الموضوع فيقول : "إن السلطة الفرنسية أصرت على مخاصمتي، ولم أجر أي اتصال مباشر بالسلطة البريطانية. وكل ماكنت أعرفه أنها لا تنظر إلى أميل اده بعين الرضا(47). أما كمال جنبلاط فإنه يؤكد أنه كان لبريطانيا اليد الطولى في نجاح أعضاء الكتلة الدستورية وايصالهم إلى المجلس النيابي عام 1943، ومن ثم مساعدتهم للوصول إلى الحكم. وأن سبيرز تدخل لدى الدوائر البريطانية والاستخبارات لمناهضة اميل اده(48).‏

                  وفي هذه الأثناء بدأ اميل اده يناور في طرح بعض الأفكار العربية والوحدوية لايهام النواب الوحدويين لاستمالتهم لانتخابه لرئاسة الجمهورية. أما بشارة الخوري فقد اجتمع بالنائبين عبدالحميد كرامي وعادل عسيران فأكد لهما استعداده للتعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد في حال وصوله لمنصب الرئاسة الأولى، غير أنه رفض عرضهما لتوحيد العلمين والجيش اللبناني والسوري وتوحيد التمثيل الخارجي مع سورية." ورأيت في ذلك تجاوزاً للحدود فرفضته بكل صراحة". فأوضحا له بأن اميل اده قبل عرضهما، فقال الخوري : "وعده كمرشح شيء وتنفيذ الوعد شيء آخر، أما أنا فسأفعل ما أقول"(49).‏

                  واستغلت العصبية الطائفية الدعوة إلى الوحدة العربية لتخويف المسيحيين لتبين أن القومية العربية هي إسلامية، ومتبعة أسلوب الدس الرخيص. فيقول كتيب صدر في الأربعينات بعنوان : "لبنان وطي مسيحي في الشرق الأدنى" ويعتقد أنه من صنع رجال الدين الموارنة : "لماذا التحدث عن البلاد العربية عندما يتعلق الأمر بأمم لاتشكل فيما بينها أي تجانس من الناحية الاثنية، وليس لها أي شيء مشترك إلا اللغة فيما عدا الإسلام الذي هو الدين الرسمي إلا في لبنان؟ فبالنسبة لأبطال العروبة لايمكن للوحدة العربية أن تعني إلا الوحدة الإسلامية" .‏

                  ويستمر هذا الكتيب فيطالب بالعزلة عن الميحط العربي وبتجميع مسيحيي الشرق في وطن خاص فيقول : "إن مبادىء الحكمة التي لها المقام الأول في بناء العالم، تتفق مع مقتضيات العدالة والقانون الطبيعي لتقرر أن الحل الأمثل يجب أن يكون في جمع مسيحيي الشرق في وطن واحد حيث يشكلون كلاً متجانساً من الناحية الأخلاقية والاجتماعية"(49)مكرر.‏

                  أما بعض القوى الإسلامية الأخرى ورياض الصلح خاصة، فقد كانوا في هذه الفترة بالذات ضد وصول بشارة الخوري للحكم، على أنهم كانوا أيضاً ضد وصول اميل اده للحكم، مما دعا سورية للتحرك، فاتفق الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس وزرائه سعدالله الجابري (نسيب رياض الصلح) ووزير خارجيته جميل مردم بك، على إرسال وفد خاص إلى بيروت لتسوية الأمور. وكان في مقدمة الوفد لطفي الحفار وعفيف الصلح، فاجتمعا برياض الصلح وعبدالحميد كرامي وسامي الصلح وصائب سلام، وبعد مشاورات مكثفة انتهى الاجتماع بالموافقة على تأييد بشارة الخوري في انتخابات رئاسة الجمهورية(50).‏

                  وفي 21/9/1943 عقد المجلس النيابي جلسته الأولى، فانتخب النائب صبري حمادة (شيعي) رئيساً له، وانتهت نتيجة الاقتراع للرئاسة الأولى بانتخاب بشارة الخوري (44/55) في غياب اميل اده عن جلسة الانتخاب والذي أيقن من حراجة موقفه فاقترح حلاً وسطاً بترشيح كميل شمعون. فخاف الفرنسيون من شمعون. واعتبر الجنرال كاترو بأن نجاح بشارة الخوري كان نتيجة للاتفاقات التي تمت بين الزعامات السورية والعربية، وليس نتيجة لاتفاق بشارة الخوري مع الزعماء المسلمين اللبنانيين(51). وإن كان الرأي الآخر يقول : وكان فوز بشارة الخوري بالرئاسة نتيجة التفاهم بين الدستوريين وكبار الزعماء المسلمين .‏

                  وبعد أن تبوأ الرئيس بشارة الخوري مهام منصبه 21/9/43، اختار رياض الصلح لتأليف الوزارة الأولى. وأشار بشارة بأنه سبق أن صمم على تولية رئاسة الوزراء رجلاً له مكانته في لبنان ولدى الدول العربية ووهبه الله ذكاء نيراً وإقداماً نادراً، عنيت به رياض الصلح(52).‏

                  وبالفعل فقد كان اختياره لرياض الصلح بسبب مايتميز به على الأصعدة اللبنانية والإسلامية والعربية، فهو الشخصية السنية التي تؤثر على المسلمين في لبنان لكسب تأييدهم في استقلال لبنان، كما أنه كان معروفاً بأفكاره العربية. ولهذا السبب كان قادراً على كسب التأييد العربي للاستقلال اللبناني(53).‏

                  وكانت سياسة بشارة الخوري منذ البداية تقوم على أن لبنان مهما كان له طابع مسيحي فهو بلد إسلامي أيضاً، وعدد المسلمين فيه يوازي عدد النصارى، وأنه يجب ان يكون للمسلمين حساب كبير، وعلى الزعيم السياسي المسيحي أن يذكر هذه الحقيقة لنفسه وللمسلمين أيضاً حتى يكونوا أصدقاءاً وأنصاراً له(54).‏

                  ويقول كمال الصليبي : "إن بشارة الخوري وعى أهمية الوجود الإسلامي في لبنان ومايفرضه هذا الوجود من ضرورة التسوية. وبالرغم من أن الخوري لم يكن قومياً عربياً، فإنه لم ير من الحكمة أن يندد بالقومية العربية. بل حاول جهده للوصول معها إلى اتفاق. وكان في وجهة نظره هذه يعكس تفكير ميشال شيحا وغيره من كبار رجال الأعمال المسيحيين في بيروت الذين رأوا في البلاد العربية المجال الطبيعي لنشاطهم الاقتصادي، فأصروا على ضرورة توثيق الصلات معها، مع الإبقاء على تحفظهم تجاه فكرة الوحدة العربية"(54)مكرر‏

                  فبشارة الخوري عمل انطلاقاً من هذا الموقع البرجوازي الذي يبغي ايجاد قدم له في البلاد العربية المتخلفة. ولم تكن أصابع الانجليز بعيدة عن هذه الجماعة بسبب التناقض بين الاستعمار الفرنسي والانكليزي. ولكن مما لاشك فيه أن موقف هذا التيار التوفيقي الذي كان امتداداً للتيار الديمقراطي بين المسيحيين الذي دعا إلى القومية اللبنانية ومحاربة ضم لبنان إلى سورية، كان أكثر واقعية وتقدماً(54)مكرر.‏

                  ولما كان الفرنسيون قد سخطوا لهزيمة أنصارهم فقد سخطوا أيضاً لاختيار الخوري للصلح رئيساً للوزراء لأنه من المعروفين بميولهم العربية(55). وكانت فرنسا قد عملت طويلاً على إبعاده عن السياسة وعن لبنان وسورية(56).‏

                  وعلى الصعيد الداخلي كان على الشيخ بشارة الخوري أن يتعاون مع شخصية إسلامية تستطيع كبح جماح الشارع الإسلامي المتطلع إلى الوحدة مع سورية، في نفس الوقت الذي تدخل فيه هذه الشخصية الطمأنينة إلى نفوس المسيحيين، فكان رياض الصلح تلك الشخصية التي تتمتع بالمواصفات المطلوبة، فرياض الصلح من عائلة عرفت بمحاربة الأتراك وقد حكم عليه بالإعدام إلا أن الحكم لم ينفذ فيه لصغر سنه (هذه الناحية تقربه من المسيحيين). كما أنه كان ذا ثقافة فرنسية (تلقى علومه لدى اليسوعيين). من جهة ثانية كان رئيساً للحكومة العربية التي تألفت في صيدا بعد رحيل الأتراك (ت1/1918). وفي فترة الانتداب الفرنسي عرف بنزعته الاستقلالية العربية، وكان عضواً في الكتلة الوطنية السورية. وفي نفس الوقت كانت له صداقات عديدة مع اليسار الفرنسي ومع الزعماء المسيحيين اللبنانيين كالبطريرك واميل اده(57).‏

                  إن اختيار الخوري للصلح رئيساً للوزراء أكسب القضية اللبنانية شخصاً كان حتى الأمس ينادي بالوحدة العربية دون سواها. وضمت الوزارة خمسة أعضاء آخرين(58) هم حبيب أبوشهلا وكميل شمعون وسليم تقلا وعادل عسيران ومجيد أرسلان. وتمثل في الوزارة الطوائف الرئيسية الست وهي الموارنة والسنة والشيعة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والدروز(59). ولأول مرة تشكل وزارة لا رأي للمفوض السامي الفرنسي فيها(60).‏

                  3- الميثاق الوطني اللبناني والاستقلال عن سورية والعرب :‏

                  لم تكن صيغة الميثاق وليدة أحداث خارقة حدثت عام 1943 منعزلة عما سبقها من أحداث وتطورات، إنما كانت نتيجة تفاعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وطائفية منذ ولادة (لبنان الكبير) عام 1920. فصيغة 1943 هي نتاج المسيرة التاريخية لتطور الأحداث وتفاعلها منذ نشأة الكيان اللبناني (بقرار من الفرنسيين) .‏

                  ولقد شهدت هذه المسيرة الإصرار الفرنسي على تثبيت الكيان اللبناني بحدوده الحاضرة ليشكل منفذاً للمصالح الفرنسية إلى الأسواق العربية، بعد أن تبين أن كيان المتصرفية لايتلاءم مع طموح تلك المصالح. وترافقت تلك المشيئة الفرنسية مع طموحات البرجوازية اللبنانية المسيحية التي استقرت في بيروت بعد أحداث 1860 لتشكل الوسط التجاري لحساب المصالح الاوروبية. هذه البرجوازية المحلية وجدت بدورها في المناطق الملحقة بلبنان الصغير (المتصرفية) مجالها الحيوي ومنافذ للداخل العربي. ومن هنا كان وعيها لخطورة مشروع لبنان الصغير بعد أن كادت تختنق ضمن شرنقته.‏

                  بالمقابل شهدت المناطق الملحقة بالمتصرفية ممانعة عنيدة للانخراط في مشروع لبنان الكبير، (فلقد اتخذ المسلمون موقفاً سلبياً من الدولة التي تأسـست عام 1920 وقضت على أحلامهم بالوحدة مع سورية، كما أدى إلى حرمانهم من مناصب الدولة وتضاؤل حصتهم فيما بعد نفوذاً ووظائفاً واعتمادات، فضلاً عن اتجاه سلطة الانتداب إلى تعيين العناصر المناصرة لها والمؤيدة لسياستها ومصالحها في لبنان"(61).‏

                  وإذا كان الجبل قد اندمج اقتصادياً بالسوق الرأسمالية العالمية منذ عهد المتصرفية، فقد تميزت المناطق الملحقة به باشتغال قسم من أهاليها بالتجارة إلى الداخل العربي. في حين كان القسم الآخر يمتهن الحرف أو يعمل في الزراعة.‏

                  إلا أن تغلغل النظام الرأسمالي الغربي أدى إلى تدمير الحرف وقوض الزراعة، وأصبحت بيروت المركز الأساسي للمبادلات التجارية بين أوروبا والأسواق العربية. أما الملحقات فقد سهلت بنيتها الاجتماعية ربطها بالعاصمة بعد أن استطاعت سلطات الانتداب استمالة زعمائها من خلال الوظائف.‏

                  لقد ساعدت هذه التطورات على تركيز الكيان اللبناني، إلا أن أبرزها كان اجتذاب البرجوازية الإسلامية والبيروتية السنية تحديداً، على الدخول في دور الوساطة بين السوق الرأسمالية العالمية وبين السوق العربية. وهكذا تعرفت البرجوازية الإسلامية على مصالحها من خلال الكيان الجديد وتخلت عن وحدويتها. في حين كانت البرجوازية السورية هي الأخرى تتهافت على الحكم وتتصرف على ضوء مصالحها ضمن الكيان السوري. من هنا توقفت الكتلة الوطنية السورية منذ عام 1936 (عام المعاهدة مع فرنسا) عن مطالبتها بضم مدن الساحل والأقضية الأربعة، مما أوجد تعاوناً وثيقاً بينها وبين الزعامات اللبنانية كبشارة الخوري المدعوم من البرجوازية اللبنانية التي كانت تجد مصلحتها في التخلص من الاحتكارات الفرنسية.‏

                  لقد جاء انخراط المسلمين في الكيان اللبناني على قاعدة المطالبة بإشراكهم في الحكم. فلم يلجأوا عام 1943 أثناء أزمة المرسومين إلى الدعوة للوحدة السورية.‏

                  هذه التطورات لايمكن فصلها عن ظروف الحرب العالمية الثانية التي أظهرت بوضوح أن فرنسا قد استنفد دورها في سورية ولبنان، وأن الأسواق العربية وهي المجال الرئيسي لنشاط البرجوازية اللبنانية، قد أحكمت عليها القبضة البريطانية.‏

                  على ضوء هذا المسار التاريخي ذي المنحى الطبقي الطائفي تكونت الثنائية (المارونية السنية) وولدت صيغة الميثاق اللبناني(62).‏

                  وقد قصر "فؤاد أفرام البستاني" اللبناني تطور الأحداث على البعد الديني بقوله : "لقد أصبح الصراع في لبنان صراعاً سياسياً وحضارياً بين المسيحية والإسلام منذ إلحاق الأقضية الأربعة"(63). ويعتبره آخرون صراعاً بين القومية العربية والقومية اللبنانية .‏

                  وكيف ولد الميثاق الوطني اللبناني بعد إجراء الانتخابات النيابية. قبل جلسة المجلس النيابي المحددة لانتخاب رئيس الجمهورية بيومين، اجتمع بشارة الخوري (زعيم الكتلة الدستورية) مع رياض الصلح في 19/9/1943 وعقدت بينهما جلسة هامة تم الاتفاق فيها على الخطوط العريضة لما عرف (بالميثاق الوطني).‏

                  فقد أعلن الخوري للصلح بأنه سيعمل لنهضة عربية، وأعلن له الصلح سروره بأن يسمع من فم زعيم مسيحي كبير بأن لبنان يمكن أن يكون دولة عربية. فسأله الخوري : هل تعتقد أن اتفاقنا سيتبناه كل إخواننا المسلمين؟ هل تعتقد أنهم سيقبلون بلبنان كوطن نهائي وليس كمرحلة انتقالية؟ وبعبارة أخرى أنهم لن يتوجهوا بأنظارهم من جديد نحو دمشق كمحطة لأمانيهم وأحلامهم، وهل تعتقد أن مبتغاهم لن يكون سورية والعرب ؟. فرد عليه الصلح : "إذا كان اتفاقنا صريحاً وشريفاً. وإذا لم يكن هناك من شخص ضحية له، بل إنني سأبذل جهدي لأقنع زعماء سورية وكل الزعماء العرب للاعتراف باستقلال لبنان وضمان حدوده الحاضرة. عندها نطوي صفحة قديمة مضنية من تاريخنا، ونلغي معزوفة (الأم الحنون .... ونغمة الالتحاق بدمشق. إن النغمة التقليدية للارتباط بسورية ستنتهي وسنبدأ صفحة جديدة من تاريخنا كما جئت تعرضه علي"(64).‏

                  وعليه يمكن تعريف الميثاق الوطني بأنه يتضمن نقطتين فقط : الأولى وهي أن يتخلى المسيحيون عن حماية فرنسا وجيشها المحتل. والثانية أن يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة السورية، هذا هو الميثاق دون زيادة أو نقصان(65). فلقد اعتبر المسلمون الميثاق بمثابة استقلال عن فرنسا، ، بينما اعتبره المسيحيون انفصال عن سورية والعرب.‏

                  وكما يقول بشارة الخوري نفسه : "أما الميثاق الوطني فليس سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة، استقلال لبنان التام الناجز بدون الالتجاء إلى حماية من الغرب ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق". والذي يقرأ مذكرات (الشيخ) بشارة الخوري (حقائق لبنانية) يرى أن الاستقلال لم يكن يعني في النهاية الاستقلال عن فرنسا بل إنه يؤكد أن الميثاق هو ميثاق القومية اللبنانية، الأمة الموحدة، المطلة على القومية العربية(66).‏

                  ويمكن التعرف على مفهوم الميثاق لدى الخوري بالتعرف على بعض مقاطع من خطبه مقتطفة من مؤلفه (حقائق لبنانية). فيقول في إحداها :‏

                  "ياصاحب السماحة، هذا الميثاق على حد ماأفصحتم عنه هو عهد بين جميع اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وميولهم. استقلال صحيح وسيادة قومية ومحافظة على دستور البلاد لاانتقاص فيها ولاهوادة، ومودة خالصة وتعاون وثيق بين الأقطار العربية ولبنان لمصلحة الجميع وعلى قدم المساواة وبروح العدل والانصاف .‏

                  " هذا هو العهد الذي قطعته الحكومة على نفسها وارتضاه اللبنانيون ثقة منهم بأنفسهم ومصايرهم، وايماناً بأن سياسة التفرقة والجفاء كانت ولاتزال أساس كل علة. إن الخطة التي انتهجناها بالاتفاق التام والتفاهم الصحيح مع الحكومة التي كان يرأسها دولة رياض بك الصلح، إنما رسمناها لأنفسنا دون تردد يوم ألقت الأمة بمقدراتها السياسية بين أيدينا"(66)مكرر‏

                  وفي خطبة أخرى يقول :‏

                  " .... لم يعد في لبنان سلبيون ولاايجابيون ولامسلمون ولانصارى، بل أصبح اللبنانيون شخصاً واحداً لبنانياً قومياً استقلالياً عربياً ...، وسرنا على هذه الخطة تجاه الغرب والشرق. فمع الغرب أردنا استقلالاً صحيحاً، لامعاهدة ولاارتباط ولاامتيازاً ولامركزاً ممتازاً، بل نريد صداقة الجميع ومعاهدة مع الجميع على أساس الند للند .‏

                  " وكما أردنا الاستقلال تجاه الغرب، فقد أردناه كذلك تجاه الدول العربية الشقيقة، فقلنا لهم بصراحة وايمان : نريد استقلالاً كاملاً وناجزاً. وقد قدروا هذا الموقف لأنهم أحرار يقدرون الحرية." (66)مكرر والملاحظ أن هذين الخطابين موجهين إلى المسلمين .‏

                  فالميثاق تسوية توفيقية مؤقتة بين الاتجاهات الإسلامية الوحدوية وبين الاتجاهات المسيحية الانفصالية(67) المتوجهة نحو الغرب والوطنية اللبنانية(68). أي أن يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة السورية والعربية مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الأجنبية. فهو صيغة خروج من المأزق وهروب من المشكلة لاحلاً لها(69). فقد أجل المشاكل العالقة ولم يواجهها مرة واحدة ربما رغبة في تحقيق الاستقلال وإزالة لكل العوائق أمامه. وأملاً في أن يكون الزمن قادراً على حل هذه المشاكل. وهو حصيلة تسوية طائفية على ايجاد كيان لبناني تتشارك فيه الطوائف اللبنانية(70) (المسلمون والمسيحيون). وقد وضع تحت ضغط عدم إضاعة الفرصة السانحة لإنهاء الانتداب الفرنسي.‏

                  وعلى ضوء هذه الصيغة التوفيقية المؤقتة وضعت الخطوط العريضة لتأكيد استقلال لبنان :‏

                  أ - لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً وغير مرتبطة بأي دولة. ويجب أن يتخلى المسيحيون عن سعيهم وراء الحماية الأجنبية أو محاولتهم وضع لبنان تحت الإشراف أو النفوذ الأجنبي.‏

                  ب- وعلى المسلمين في المقابل أن يتخلوا عن القيام بأية محاولة لإدخال لبنان في أي اتحاد سياسي مع سورية أو في أي شكل من أشكال الاتحاد مع العرب.‏

                  جـ- لبنان بلد ذو وجه عربي ولغة عربية، إنه جزء من العالم العربي وله طابعه الخاص.‏

                  د - لبنان مدعو للمساهمة مع جميع الدول العربية وأن يصبح عضواً في الأسرة العربية شرط أن تعترف الدول العربية رسمياً باستقلاله وشخصيته في حدوده الحاضرة. وعلى لبنان أن لاينحاز داخل المجموعة العربية إلى أي فريق دون آخر. وأن تكون أعماله على الصعيد الدولي منسجمة مع استقلاله. وأن يرفض الانحياز بأي شكل من الأشكال إلى أية دولة أجنبية ضد مصالح أي من الدول العربية أو ضد مصالحها جميعاً، فقد أصبحت فكرة حياد لبنان كشعار يخدم (لبنان والقضية العربية) (71)، وهو يعني أن يؤمن اللبنانيون بلبنان اللبناني وطناً نهائياً لهم، أي التخلي عن مطلب الوحدة العربية إلى الأبد.‏

                  هـ- توزع جميع الوظائف العامة بالتساوي بين جميع الطوائف المعترف بها. وتبع ذلك أن توزع المناصب الرئيسية الثلاثة وفقاً للعرف التالي : رئاسة الجمهورية لمسيحي ماروني، ورئاسة الوزراء لمسلم سني ورئاسة البرلمان لمسلم شيعي(72).‏

                  وأصبحت الدول العربية هي الضامنة لدولة الطوائف المتعايشة بدلاً من الاستعمار الغربي. فلقد أرسى الميثاق دولة الطوائف مع الدستور اللبناني(73).‏

                  وأصبح لبنان بلد الأقليات الدينية حيث تقتسم الحكم فيه وتتوارثه الأقليات الأكثر عدداً في البلد. بموجب اتفاق هو أشبه بدستور غير مكتوب يعرف بالميثاق الوطني. وهذه الأقليات تنتسب بمجموعها إلى الديانتين الرئيسيتين المسيحية والإسلام بمختلف فروعهما وانشقاقاتهما المذهبية والفقهية.‏

                  وفي لبنان أقليات قومية إلى جانب الأقليات المذهبية التي لها الشأن الأكبر في حياة البلد السياسية. ففي ظل الانتداب الفرنسي تقرر أن الموارنة يشكلون 29% من مجموع السكان والسنة 21% والشعية 5ر18% والروم الأرثوذكس 7ر9% وهلم جرا.‏

                  ومنذ 1943 ينطلق عدد النواب من قاسم مشترك هو (11) لأن عضوية المجلس لابد أن تكون بنسبة (6) مسيحيين مقابل (5) غير مسيحيين(74).‏

                  فالميثاق بمفهوم الخوري اتفاق على استقلال لبنان ووحدة شعبه وعدم انعزاله عن الدول العربية. ولم يحدد الميثاق توزيع الرئاسات الثلاث الموارنة والسنة والشيعة. فقد صرح الصلح فيما بعد بأنه تم الاتفاق على إلغاء الطائفية بعد أن تسمح الظروف السياسية. وأن موضوع توزيع الرئاسات الثلاث ليس أمراً نهائياً، بل ستكون الرئاسة الأولى مداورة بين المسيحيين والمسلمين، وليس بالتحديد بين الموارنة والسنة. وصرح أنه قبل التعاون مع الخوري وإعطائه الرئاسة لأنه يريد إعطاء الاطمئنان للمسيحيين، على أن يكون ذلك لفترة تلغى بعدها الطائفية، وللتأكد بأن لبنان سيبقى مستقلاً ولن يلتحق بأي اتجاه عربي(75).‏

                  لقد سار المسلمون في التيار التوفيقي الذي تزعمه بشارة الخوري ورياض الصلح لأنهم رأوا آمالهم في تحقيق الوحدة العربية بعيدة المنال نظراً لزيادة التجزئة في العالم العربي ولبدء البحث في طريق فضفاضة للتعاون العربي أدى إلى الجامعة العربية. فصبوا كل ثقلهم وراء هذا التيار آملين تغيير مواقعه في المستقبل. ومما زاد في انحيازهم له أنه وقف في وجه الانتداب معتبراً إياه العقبة الكبرى في وجه الاستقلال، وغير معتبر ظاهرياً أن الوحدة العربية والتضامن العربي ييشكلان خطراً على لبنان، كما كان يعتبر الانعزاليون(76).‏

                  ولم يكتب الميثاق في وثيقة خاصة (وقد حظي بموافقة أنصار هذين الزعيمين وتأييدهم)، إنه اتفاق جنتلمان عقد بين شخصيتين كبيرتين لعبا دوراً هاماً في ولادة الجمهورية والاستقلال، الخوري والصلح. فهو عقد شرف بين الفريقين اللبنانيين اللذين يتألف منهما شعب لبنان، الفريق المسيحي والفريق المسلم(77).‏

                  وقد اختلفت الآراء حول مصادر الميثاق، فقد كانت أفكاره قد ظهرت في كتاب (مشكلة الاتصال والانفصال) لكاظم الصلح عقب مؤتمر الساحل الوحدوي عام 1936 .‏

                  وتكرس الاتفاق الشفهي بين الخوري والصلح في البيان الوزاري أمام مجلس النواب في 7/ت1/1943، وفي خطب الشيخ بشارة ومذكراته(78). وقد كادت أن تطغى السمات الطائفية (مثل مؤتمر بكركي لعام 1941) على البيان الوزاري الأول الذي جاء في مسودته (لبنان بلد عربي ذو وجه مسيحي). وبعد نقاش طويل تم تعديل هذه العبارة إلى (لبنان بلد مستقل ذو وجه عربي) (79).. فقال البيان : "إن لبنان ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". فكانت هذه الصيغة انعكاساً، أو الوجه الآخر للسلبيتين اللتين قام عليهما الميثاق الوطني وهما "لا للوحدة العربية ولا للحماية الأجنبية"(80).‏

                  وقد أوضح البيان الوزاري العلاقة مع البلاد العربية على النحو التالي : " إن لبنان مدعو كغيره من بلدان العالم إلى التعاون الدولي تعاوناً يزداد وثوقاً يوماً فيوماً. والعصر يأبي العزلة التامة للدول صغيرها وكبيرها. ولبنان من أحوج الدول إلى هذا النوع من التعاون، وموقعه ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الاقتصادية تجعله يضع علاقاته بالدول العربية الشقيقة في طليعة اهتمامه، وستقبل الحكومة على إقامة هذه العلاقات على أسـس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة. فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب"(81).‏

                  وهكذا نلاحظ أن البيان الوزاري تعمد الغموض حول هوية لبنان الواضحة، فكان فريداً بأن يعتبر وطناً ذو وجه معين. فكانت التسوية غير محددة المعالم ولا هي واضحة ولا هي نهائية. ترضي الفريق المنادي بالعروبة نسبياً ولاتغضب الفريق المعارض لها كلياً.‏

                  وقال الصلح في البيان أيضاً : "إن إخواننا في الأقطار العربية لايريدون للبنان إلا مايريده أبناؤه الأباة الوطنيون. نحن لانريده للاستعمار مستقراً، وهم لايريدونه للاستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً"(82).‏

                  ويذكر خالد العظم بأنه منذ أن استقل لبنان عام 1943، سعى رياض الصلح لعزل لبنان عن سورية. وإن قبول الصلح بمنصب رئاسة الوزارة كان ثمناً لموقفه الانفصالي، مبرراً موقفه أيضاً بإبقاء التوازن النسبي بين المسلمين والمسيحيين بقبوله بلبنان الكبير. وعلى ذلك فقد أصبح الصلح زعيماً لانفصال لبنان عن سورية بعد أن كان في جملة المنادين بوحدة البلاد العربية والعاملين في سبيل تحقيقها(83).‏

                  ويبرر تقي الدين الصلح موقف رياض الصلح بأنه قبل باستقلال لبنان وعدم ذوبانه ضمن الوحدة السورية أو العربية للحيلولة دون اتجاه المسيحيين نحو الحماية الأجنبية. أما فيما يختص بمنصب رئاسة الجمهورية فإن رياض الصلح قبل أن تكون للموارنة بشكل مؤقت ريثما يطمئنوا إلى مصيرهم، لأن عدم إعطاء الاطمئنان للمسيحيين سيؤدي بهم إلى إنشاء دويلة طائفية تكون خنجراً في جنب سورية والعرب(84).‏

                  وأشار سبيرز الوزير البريطاني المفوض في لبنان، حول الميثاق بأن المسلمين لم يعودوا راغبين في الوحدة، غير أنه أمر ليس نهائياً. وأن المسلمين كانوا يرون من قبل، أن يتحد لبنان مع الدول العربية. وكان هناك رأي في بعض الأقطار العربية بأن لبنان يجب أن ينضم إلى سورية لمنع وجود أي جيب مسيحي في الأقطار العربية ... لقد رفض المسلمون الوحدة لأنه أصبح لديهم مراكز قوة في لبنان. وقال لهم سبيرز اقبلوا برئاسة ماروني وبعد أن تصبحوا أكثرية بإمكانكم التغيير، فقبلوا بوجهة نظره(85).‏

                  وهناك رأي بأن الميثاق أكد أن (لبنان قومية) موجودة على عكس القومية العربية غير الموجودة، ورأي آخر أن في لبنان "قومية مسيحية لبنانية" وقومية عربية وحضارتين(86).‏

                  وعارض الميثاق فئة من المسيحيين. وقد عبر جورج نقاش عن عدم قابلية صيغة الميثاق لتكون أساساً صالحاً للتعايش بين اللبنانيين ولبناء وطن سليم بقوله: "نفيان لايؤلفان أمة"(87).‏

                  ولم يكن الميثاق الوطني في لبنان عام 1943 مجرد تسوية محلية فحسب، ولكن كان له جوانب عربية ودولية لأنه تضمن التفاهم على الاستقلال عن البلاد العربية، وعدم الارتباط معها بوحدة أو معاهدة تتعارض مع الاستقلال. ورفض الوصاية أو الامتيازات الأجنبية(88). فلقد كان الميثاق بمباركة مصرية أعطاها رئيس وزراء مصر النحاس باشا(89). بل كان لمصر وسورية والعراق والمملكة العربية السعودية وبريطانيا دور وأثر في صيغة الميثاق الوطني. فالعراق قدم مشروعاً وحدوياً جديداً نشره باسم (الكتاب الأزرق) في عام 1943 اقترح فيه قيام وحدة بين سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين والعراق.... (90).‏

                  كان الشيخ بشارة الخوري أول المدركين للمتغيرات الدولية والعربية، لذا نراه قد قام قبل الانتخابات في 2/6/1942 بزيارة إلى القاهرة برفقة جميل مردم بك أحد زعماء الكتلة الوطنية السورية، والذي تلقى الدعوة أيضاً، ليجتمعا هناك بالنحاس باشا رئيس الوزراء المصري، حيث تم اتفاق الثلاثة على الخطوط العريضة للسياسة اللبنانية المقبلة. وقد أبدى الخوري استعداده، في حالة وصوله إلى رئاسة الجمهورية، للتعاون مع الدول العربية شرط استقلال لبنان ضمن حدوده المعترف بها. ورأى أن ذلك قد يكون عقبة في سبيل إنشاء جامعة الدول العربية.‏

                  ومما قاله بشارة الخوري : " إننا نريد التعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد على هذا الأساس. ثم استدركت أن عدداً من المسيحيين لايعتنق هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده".‏

                  وكان يهم النحاس باشا سماع رأي سورية بالموقف والسياسة اللبنانية المستقبلية لأن سورية هي جارة للبنان. فقال جميل مردم : "نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية فنحن مستعدون لأن نتنزل عن أي مطلب لنا في لبنان، بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم .‏

                  وذكر الخوري في 1945 أنه "يستعيد ذكرى أليمة، أنه عندما كنت في مصر راح البعض يخلق الشوائع بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد، وذلك لمجرد كوننا جعلنا من أهدافنا سياسة استقلالية بحتة يصبح بها لبنان سيد شؤونه ومقدراته. ولقد كان جميل مردم بك معنا في مصر حينذاك وكان يصرح أمام النحاس باشا وسواه بأنه لو كان جميع الناس في لبنان يفكرون كما يفكر بشارة الخوري، لعدلنا عن المطالبة بشبر واحد من لبنان ولأعطيناه من أراضينا مايريد"(91).‏

                  وكان لهذا الاتفاق الثلاثي وللزعماء السوريين بوجه خاص دور كبير في انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية اللبنانية(92).‏

                  ومن الأهمية بمكان القول إن البريطانيين وبعض المسؤولين العرب كانوا يريدون التأكد من سياسة بشارة الخوري في حال مساعدته للوصول إلى سدة الرئاسة الأولى في لبنان. ولهذا دعي هو بالذات إلى مصر وليس سواه في وقت كانت فيه فرنسا تعمل علناً ضد أي تقارب لبناني عربي باستغلالها للمشاعر الطائفية. وتأكد ذلك من خلال برقية أرسلها الجنرال كاترو إلى الجنرال ديغول في 8/3/1943 موضحاً أن معاهدة فرنسية لن تتحقق إلا باستخدام المشاعر الطائفية التي تربط اللبنانيين المسيحيين بفرنسا. وباستغلال غريزة الدفاع اللبناني حيال مشاريع الابتلاع العربية(93). وعلى أساس ضمان فرنسا لسلامة دولة لبنان وأن تبقى موالية لفرنسا ومدخل لها مستمر إلى منطقة العالم العربي .‏

                  ويتضح الأثر السعودي من خلال محاولة المسلمين في لبنان الذين كانوا حريصين على الوحدة السورية والوحدة العربية، فقد حاولت بعض القوى الإسلامية وفي مقدمتها (الكتلة الإسلامية) إقناع الملك عبدالعزيز آل سعود بضرورة إدخال لبنان في وحدة مع الدول العربية. وقد أرسلت له مذكرة بهذا المعنى. وقد جاء الرد إلى محمد جميل بيهم رئيس الكتلة من القنصل السعودي في سورية ولبنان في 14/3/1943. ومما جاء به : ".... ولاشك أن جلالة ملكنا المعظم محب للوحدة العربية كبير الحرص عليها، جمع الله كلمة الإسلام والمسلمين على مايحبه الله ....".‏

                  وفي منتصف أيار 1943 يصل الرد فعلاً إلى (الكتلة الإسلامية) في بيروت، وهو رد يعبر عن موقف السعودية إزاء لبنان ومستقبله السياسي. ومما جاء في رسالة الملك عبدالعزيز : "..... اطلعنا على ماذكر في كتابكم عن الوحدة العربية، فالوحدة المذكورة هي قائمة ومكونة ولله الحمد ولايوجد بين العرب أي خلاف يحول دون تحقيقها ... ولكن هنا مسألة يجب أن تتضافر الجهود بشأنها وهي اتفاق العرب على مصالحهم الخاصة وأن يجتهدوا ليتمتع كل قطر من الأقطار العربية باستقلاله وحريته ... فتكون سورية مثلاً للسوريين ... وأن نتراجع مع أصدقائنا لمساعدتنا على إتمامه ....".‏

                  ويلاحظ من هذا الرد السعودي التأكيد على وحدة المشاعر العربية فقط والاستقلال لكل قطر وأن يكون لأبنائه. وأنه على المسلمين في لبنان التقليل من اتجاهاتهم الوحدوية والتخفيف من مطالبهم بالالتحاق بالوحدة العربية، وأن عليهم قبل كل شيء ترتيب أوضاعهم الداخلية مع بقية اللبنانيين. وتبين أن الموقف السعودي من الوحدة العربية أصبح موقفاً ثابتاً ليس بالنسبة إلى لبنان فحسب ولكن بالنسبة إلى الموضوع برمته(94).‏

                  ومن الواضح أن سياسة الكتلة الوطنية السورية قد ساهمت مساهمة فعالة في تحجيم التيار المنادي بإعادة الأقضية الأربعة والمدن اللبنانية إلى سورية. وسارت أشواطاً بعيدة في دعم الاستقلاليين اللبنانيين لقاء تبني شعار إزالة الانتداب الفرنسي عن سورية ولبنان. ويعزو منح الصلح إلى هذا التحول السوري، انبثاق الاستقلال والميثاق فيقول : "ولم يكن الميثاق ممكن الوجود لولا أن اعترف زعماء الكتلة الوطنية، رجال الحكومة السورية يومئذ، بحدود لبنان وبكيان لبنان"(95). فقد كانت سورية مستعدة لتقديم كافة التنازلات للبنان المستقل شرط إعلان عدائه الصريح لسياسة الانتداب الفرنسي وعدم تمسكه بفكرة إبقاء الجيوش الأجنبية على أراضيه والانفتاح الكامل على العالم العربي(96).‏

                  وفي 23/9/1943 في جلسة المجلس النيابي كان عبدالحميد كرامي (الذي كان من دعاة الوحدة السورية في طرابلس) من أول المرحبين باستقلال لبنان اللبناني المتعاون إلى أقصى حد مع محيطه العربي حيث قال : "إن للبنان استقلالاً معترفاً به ونحن الذين حاربنا لبنان في الماضي لأنه لم يكن عربياً، ونحن الذين طلبنا الوحدة السورية، أتينا اليوم إلى هذه الندوة نعترف باستقلال لبنان وتناضل في سبيل هذا الاستقلال ضد أي كان لأن لبنان أصبح الآن عربياً. نعم لقد اعترفنا باستقلال لبنان ولم يكن ذلك مجاملة لأحد ولاخوفاً من أحد بل عن ثقة باستقلال لبنان"(97).‏

                  كما أن كمال جنبلاط الذي كان محسوباً على لائحة الكتلة الوطنية الداعية إلى الاستقلال المضمون بحماية فرنسية، تحول في جلسة نيابية (17/10/1943) إلى دعم الاستقلال والعمل على إزالة الانتداب الفرنسي عن سورية ولبنان لأن أهل لبنان الكبير اعترفوا به مسلمين ومسيحيين ودروز وشيعة، وحياه بصفته العربية...." (98).‏

                  وكانت القوى الاستقلالية تلقى الدعم الكامل من الدول العربية وبشكل خاص من سورية بسبب التوافق المصيري والمصلحي بين الشعبين اللبناني والسوري والعمل سوياً للتخلص من الاستعمار الفرنسي(99).‏

                  ويمكن القول أن الميثاق الوطني اللبناني كان تهرباً لبنانياً من مشاريع الوحدة العربية كمشروع الملك عبدالله لإقامة سورية (الكبرى) ومشروع العراق لإقامة الهلال الخصيب. ومتهرباً من الوحدة السورية الذي تطالب به سورية. والذي طالب به الحزب القومي السوري في لبنان ذاته، فيقول فيليب حتي : "فكان على لبنان والحالة هذه أن يتصرف تصرفاً دقيقاً إزاء عنصر من سكانه يدور في فلك العروبة ويسعى نحو الاتحاد في النهاية مع جيرانه المسلمين. وعنصر آخر واقع تحت تأثير الغرب ويتخوف من فقدان هويته في وسط عربي إسلامي. ووفق رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة إلى وضع صيغة تعرف بالميثاق الوطني الذي يوجب على اللبنانيين عموماً الإخلاص التام للبنان، والتعاون الودي المخلص مع سائر الدول العربية مع الحفاظ على علاقاته العادية التقليدية مع الغرب. فكان هذا الميثاق في جوهره يقضي بعدم الانضمام إلى أية جهة كانت دون أن يمنع من اتباع سياسة إيجابية"(100). وهذا مايوضحه فؤاد عمون وزير الخارجية اللبناني عن سياسة لبنان الخارجية(101).‏

                  ولذلك يمكن القول أنه لم تنقطع مطالبة أهالي المناطق، التي ضمت إلى لبنان التي كانت متجهة بأكثريتها الساحقة إلى سورية، بالوحدة السورية إلا في عام 1943 عندما اتفق اللبنانيون على استقلال بلدهم استقلالاً ناجزاً(102). وهذا مااستطاعوا الوصول إليه في حينه على ضوء الظروف المختلفة.‏

                  4- انتخابات سورية عام 1943 وبداية العهد الاستقلالي :‏

                  لما عاد الجنرال كاترو من الجزائر، باشر القيام بمفاوضات عديدة أشرك فيها وكيله المسيو (هيللو Helleu). وتذاكر مع بعض زعماء الوطنيين الذين كانوا يسمعونه أحياناً عبارات المجاملة، بدون أن يطمئن إليها كثيراً. وقد فكر أن يعيد إلى سورية مجلسها وأوضاعها كما كانت سنة 1936. وقال في ذلك :‏

                  "لم أستطع في سورية أن أتفق مع رئيس الوطنيين هاشم الأتاسي ونجمهم الصاعد شكري القوتلي، على أن الرئيس الأتاسي وافق على تأليف حكومة مشتركة وعلى دعوة المجلس النيابي إلى اجتماع قصير وإجراء انتخابات بعد ذلك. وأن تكون العلائق بيننا في أثناء الحرب وفقاً لشروط معاهدة 1936. ولكنه رفض أن يسلمني كتاباً أحتفظ به مكتوماً يوافق فيه على الشروط التي أعلنت بها استقلال سورية .... ولاحاجة إلى القول أن هذه التحفظات من قبل الوطنيين يراد بها أنهم لايودون الارتباط بشيء، فأصبح كل اتفاق معهم لاينطوي على غير المحذورات. وتوليت عنهم مراعياً حسن الصلات بهم. ولعلي قد أخطأت حينئذ في مجاراتي إياهم في التحفظات التي أبدوها. وربما كان ينبغي علي أن أقبل مثلها من قبل ثمانية عشر شهراً. وهذه نقاط لايمكن مناقشتها، ومع ذلك فإني أعتقد أن الأشخاص الذين يعرفون تطرف الوطنيين الشرقيين وإصرارهم على تحقيق جميع مطالبهم، يرون أني حينما اتصلت بهاشم الأتاسي ورفاقه في الحزب (الكتلة)، الذين هم أكثر شباباً، كان من العبث السعي لربطهم ببلاد أصابهم الوهن كبلادنا. إن تلك الوطنية لاتوافق على تسوية إلا في حالة الضرورة، وتكن في صدورها الدخائل المنطوية على الشبهات، حتى تنتهز فرص الحوادث، وتتخلى عما وافقت عليه في ظروف غير ملائمة. وقد عرفت ذلك بريطانيا العظمى الظافرة القوية، التي لديها وسائل إقناع وضغط اقتصادي، حينما عجزت أن تحمل العراق على قبول المعاهدة الأخيرة التي عرضتها عليه، كما أنها لم تستطع أفضل من ذلك في محاولة الوصول إلى تسوية مع مصر"(103).‏

                  وكان كاترو في برقيته إلى الجنرال ديجول في 8/3/1943 قد أشار إلى المعاهدة المقترحة مع سورية ولبنان، وأنه بالنسبة لسورية (ضرورة تلويح فرنسا للسوريين بالأخطار الخارجية، وخاصة الأخطار التركية من الشمال، والصهيونية من الجنوب، حتى تبقى سورية على علاقات ود مستمر مع فرنسا)، وتناسى في هذا الموقف أن فرنسا قد أعطت لواء الاسكندرونة إلى تركيا، ووافقت على إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين.‏

                  وفي 25/3/1943 أصدر الجنرال كاترو ثلاثة قرارات : "الأول يقضي بإعادة تطبيق الدستور السوري. والثاني ينظم السلطات. والثالث عين فيه السيد عطا الله الأيوبي رئيساً للدولة والحكومة. (كان قد انتخب رئيساً للمحفل الأعظم الماسوني السوري في أوائل 1939).‏

                  وأرفق كاترو مع هذه القرارات بياناً ذكر فيه أن مجمل الأحكام التي اتخذها ترمي إلى غاية أساسية وهي حل المعضلة الدستورية بطريقة ديمقراطية لاتحيز فيها. ولأجل تحقيق ذلك فإنه ينبغي أن لايكون للحكومة التي تشرف على الانتخابات صبغة سياسية. وذكر أنه كان من الممكن ايجاد حلول أخرى، منها العودة إلى الوضع الذي كان سنة 1939، ولو أنه طبقت هذه الطريقة لكانت شرعية، وكان بمقتضى الأوضاع الدستورية نفسها إرجاع السلطات السابقة التي كانت تتولى الحكم. غير أن الرئيس الأتاسي رأى عندما استشاره في الأمر، أنه من الواجب تجنب هذا الحل الذي قد لايعبر عن إرادة الشعب(104).‏

                  وتشكلت وزارة الأيوبي في 25/3/1943 لإجراء الانتخابات النيابية وإعادة الحياة الدستورية، فاستلم رئاسة الدولة والحكومة، والأمير مصطفى الشهابي للمالية والاقتصاد الوطني والإعاشة، وفيضي الأتاسي للمعارف والعدلية والشؤون الاجتماعية، ونعيم الانطاكي للخارجية والأشغال العامة. ودعت الوزارة الشعب السوري إلى إجراء الانتخابات النيابية فأعلن الوقت المحدد لها(105). وتقرر أن يكون عدد نواب المجلس الجديد (124) نائباً بينهم (16) نائباً عن مدينة دمشق. وكان بين الكراسي المخصصة لدمشق كرسي للأقليات غير الممثلة، كما كانت الحال في عام 1936، وهو الكرسي الذي انتخب له فارس الخوري. وكان الخوري في الفترة التي سبقت الانتخابات يعمل مع إخوانه في الحقل السياسي والاقتصادي ويتابع إلقاء محاضراته في معهد الحقوق. وقد قامت بعض الهيئات تعاكس انتخابه، على أن القائمة التي وضعها شكري القوتلي والتي فوضته بوضعها الوفود الكثيرة التي زحفت إلى منزله، هي التي نجحت بكاملها. وكان من أبرز أفرادها فارس الخوري(106).‏

                  وتمت انتخابات الدرجة الأولى في 11/7/1943، وتلتها حفلات انتخابية كثيرة في مختلف الأحياء (في دمشق)، كان من أهمها حفلة حي القنوات التي خطب فيها الخوري وأشار إلى خطورة مهمة المجلس القادم بعد أن ألغي الانتداب وأصبح الموقف يحتاج إلى معالجة الأدواء الداخلية والخارجية. كما أنه أشار إلى زعامة القوتلي وإلى تضحياته وإخلاصه وجهاده المتواصل سبعاً وعشرين سنة، وإلى محاولة انتحاره في خان الباشا في عهد جمال باشا لكي لا يفشي أسرار المجاهدين العرب .‏

                  كما تمت انتخابات الدرجة الثانية في 26/7/1943(107). وقد جرت الانتخابات في جو جديد وشعر السوريون أنه قد اقتربت الساعة التاريخية التي تتطلب منهم أن ينظروا إلى المستقبل وحده. فاختاروا نوابهم ليكونوا أمناء على القيام بمهمة عظيمة هي : "إنشاء أوضاع الدولة الجديدة الاستقلالية، وإقامة النظم الحرة الديمقراطية وتوجيه الأمة إلى الغايات الرفيعة التي تقدس المصلحة العامة وتعزز شعور الدولة وحرمة القانون ورقابة النظام وكرامة الإنسان". ولم يقع في البلاد السورية مايصح أن يسمى معركة انتخابية. وكان اتجاه الجمهور نحو انتخاب الوطنيين بصورة عامة (رجال الكتلة الوطنية التي كان بعض رجالها منتسب إلى الحركة الماسونية) (108). وكان ذلك بالرغم من أن تجربة الكتلة السابقة في الحكم لم تكن مقبولة أو فنية. على أن الحكومة التي أعقبتها وطغيان الانتداب جعل الناخب يجدد خياره لها ويعطيها فرصة جديدة.‏

                  واجتمع المجلس النيابي الجديد في يوم الثلاثاء 17/8/1943 فانتخب فارس الخوري رئيساً له (وهو رئيس محفل نور دمشق الماسوني عام 1935). وانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية (الدستورية الثالثة) بإجماع الآراء. (ويعتبر هذا اليوم يوم استقلال سورية).‏

                  وفي 19/8/1943 كلف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة فكان أعضاؤها: جميل مردم بك للخارجية ولطفي الحفار للداخلية وخالد العظم للمالية ونصوحي البخاري للدفاع الوطني والمعارف، ومظهر رسلان للأشغال العامة والإعاشة، وعبدالرحمن الكيالي للعدلية، وتوفيق شامية للزراعة والاقتصاد الوطني(109).‏

                  وكان أكثر أعضاء الحكومة من الكتلة الوطنية التي تفوقت في الانتخابات، وليست الكتلة حزباً دقيق التنظيم، بل هو أشبه بجبهة مؤتلفة. وقد برز دور الجيل الجديد في الكتلة الذي يتزعمه شكري القوتلي وحل بذلك محل هاشم الأتاسي في زعامة الكتلة، وصار المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.‏

                  وركز الكتاب اليساريون الفرنسيون على الصفة البرجوازية للكتلة، وفسروا بذلك التقارب بينها وبين بريطانيا. وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك تقارب مدبر، أما الصفة البرجوازية فأمر مسلم به، إلا أن هذه المفاهيم الطبقية لم تكن تؤثر تأثيراً في الحياة السياسية آنذاك، ومن ثم لعبت الكتلة دورها في السير بسورية نحو الاستقلال، وقبل اليساريون الوطنيون هذا الدور كمرحلة(110).‏
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                    4- قضيـة النقــد والانفصـال النقـدي

                    كانت (الليرة) التي يصدرها (بنك سورية ولبنان) هي وحدة العملة المتداولة في سورية ولبنان ولها ارتباطات مالية مع فرنسا. وكانت الحدود بين البلدين مفتوحة لنقل البضائع والمواطنين، وأسواق البلدين مفتوحة على بعضها لعرض وتبادل المنتجات المحلية والمستوردة.‏

                    وكانت سورية ولبنان قد وعدتا في تصريح بريطانيا وفرنسا الحرة بالاستقلال، بأن تدخلاً في نظام الاسترليني لسنة 1941. ومع ذلك فقد عقد اتفاق بين الانجليز والفرنسيين وبين سورية ولبنان سنة 1944 أصبحت فيه سورية تابعة لما يسمى منطقة الفرنك. وأصبحت الليرة السورية تعادل 65ر22 فرنكاً والليرة الانكليزية 3ر78 قرشاً سورياً مع ضمانة كل تعديل يطرأ في المستقبل على سعر الفرنك(56). واستمر الوضع النقدي حتى1946.‏

                    وضمنت الحكومة الفرنسية الليرة اللبنانية خوف تدني قيمتها منذ عام 1944 بموجب اتفاق دعي (اتفاق كاترو). إلا أن فرنسا نقضت الاتفاق مع لبنان عام 1947 واعتبرت نفسها في حِل من تعهداتها السابقة. وماهي إلى فترة حتى انهارت قيمة الفرنك الفرنسي(57).‏

                    ووقع الخلاف مع الحكومة الفرنسية بسبب تراجعها في آذار 1946 عن تنفيذ الاتفاق المعقود مع الجنرال كاترو بشأن ضمان قيمة النقد السوري عند تنزيل قيمة الفرنك الفرنسي. وعندما عقد اتفاق شتورا بين الجانبين السوري واللبناني في 28/12/1947 لتجديد الاتفاق حول المصالح المشتركة، فقد تقرر إعطاء التعليمات المشتركة المتفق على صيغتها بين الفريقين إلى الوفدين المفاوضين في باريس بشأن (قضية النقد) والأمور الاقتصادية والمالية المعلقة مع الجانب الفرنسي. وكانت المفاوضات الثلاثية قد بدأت بين ممثلي سورية ولبنان وفرنسا في باريس في 1/10/1947 وانتهت بموافقة الممثل اللبناني على المشروع المقدم من الجانب الفرنسي(58). وحسبما يقول كاتب لبناني : "واضطر لبنان أن يعقد اتفاقاً جديداً مع فرنسا لضمان قيمة الليرة اللبنانية، وصفيت بموجب الاتفاق الحسابات المالية بين لبنان وفرنسا وأصبحنا أسياد نقدنا. بينما أحجمت سورية عن توقيع هذا الاتفاق. وهنا كانت بداية الأزمة التي أدت إلى حلول القطيعة بين لبنان وسورية عام 1950(59). وقد انفرد لبنان من قبل بتوقيع اتفاقية التابلاين.‏

                    لقد اتخذت سورية من هذه المفاوضات خطة أقرب إلى استقلال نقدها وتصفية علاقاتها المالية مع فرنسا. وسلكت الحكومة اللبنانية خطة اتفاق أخرى مع الفرنسيين بصورة منفردة(60).‏

                    وعلى إثر اتفاق الحكومة اللبنانية مع الفرنسيين (بداية 1948)، أصدرت وزارة المالية اللبنانية بلاغاً حول أسعار القطع الأجنبي، وحددت سعر الفرنك الفرنسي بالنسبة لليرة اللبنانية بـ 83ر97 فرنك لكل ليرة. وأنه منذ يوم الإثنين 2/2/1948 تجرى عملية استبدال الأوراق النقدية المكتوب عليها بعبارة (سورية) بأوراق نقدية مكتوب عليها عبارة (لبنان). ويكون هذا الاستبدال على أساس ليرة لبنانية لكل ليرة سورية.‏

                    وأصدر بنك سورية ولبنان أيضاً بلاغاً بأنه لم يبق في لبنان في نهاية 2/2/1948 أية قوة إبرائية لغير الليرة اللبنانية(61). وبذلك فصل اللبنانيون النقدين السوري واللبناني اللذين كانت وحدتهما تشكل عنصراً أساسياً لاستمرار التبادل التجاري، مما أحدث فرقاً بين النقدين. ولكن في 1/4/1948 اتفق رئيسا الوزارتين على أن يكون للنقدين اللبناني والسوري خلال فترة التمديد (حتى 15/5/1948) قوة الإبراء للجمارك اللبنانية والسورية وانتقال البضائع الأجنبية بحرية. وفي 5/5/1948 اتفق رئيسا الوزراء على استمرار انتقال البضائع الأجنبية وأن تقبل الجمارك اللبنانية والسورية النقد اللبناني والسوري على أن لايزيد النقد اللبناني في الجمارك السورية عن النصف والنقد السوري في الجمارك اللبنانية عن النصف أيضاً. وجدد الاتفاق في 28/6/1948 في شتورة لمدة ثلاثة أشهر اعتباراً من 1/7/1948(62).‏

                    وبعد رفض سورية الاشتراك في توقيع الاتفاق النقدي مع فرنسا، عادت المباحثات بصورة غير رسمية في شهر تشرين الأول 1948 وانتهت إلى وضع مشروع جديد يختلف كل الاختلاف عن المشروع السابق (اتفاق نقدي). واتفق رئيس الوزراء خالد العظم مع وزير المالية حسن جبارة على قبوله فتم التوقيع عليه بدمشق في 7/2/1949 وعرض على مجلس النواب مع مشروع التابلاين. وأصبح المجال مفسوحاً أمام الحكومة السورية لإمكان استرداد حق إصدار النقد، وبقاء مصرف سورية ولبنان كمصرف تجاري. ثم أبرم الاتفاق بمرسوم تشريعي أصدره حسني الزعيم بعد انقلاب 30/3/1949 مع إبرام اتفاق التابلاين، وأصبح مرعي الإجراء منذ ذلك الحين(63).‏

                    كان العظم من كبار رجال الأعمال في سورية، فقد انصرف إلى معالجة الوضع الاقتصادي دون مراعاة للإحساسات الوطنية الجياشة، فعقد الاتفاق المالي (7/2/49) مع فرنسا لتسوية الخلاف الناشىء من انفصال سورية عن منطقة الفرنك. ثم طلب إلى مجلس النواب الموافقة على (مشروع التابلاين) بالرغم من الاعتراضات العديدة التي أثيرت حول الاتفاق، إذ يمنح لسورية رسوماً هزيلة مقابل مرور الأنابيب في أراضيها(64).‏

                    وأصدر المجلس النيابي اللبناني في 24/5/1949 قانون النقد اللبناني وقرر تحويل العملات الأجنبية في التغطية إلى ذهب(65).‏

                    5- قضية الجيـش وحتى الاصطدام في أيار 1945 :‏

                    كانت قضية الجيش مظهراً من مظاهر الوحدة السورية اللبنانية حيث كانت القيادة العسكرية موحدة للبلدين .‏

                    ولما كان الفرنسيون قد ضموا إلى جيشهم عدداً من اللبنانيين والسوريين (من فئات وطبقات معينة) جمعوهم في وحدات عسكرية سموها (الفرق الخاصة). فطالبت الحكومتان السورية واللبنانية تسليمهما المجندين ليكونوا نواة لجيشهما. وطالت المفاوضات بسبب مماطلة الجانب الفرنسي. فلقد ظهرت نية الفرنسيين بعدم الرغبة في تسليم الجيش إلى الحكومتين بشكل لايدع مجالاً للشك.‏

                    وكان الفرنسيون في بادىء الأمر يحتجون باستمرار الحرب العالمية وعدم استطاعتهم تسليم الجيش الذي هو جزء من الجيوش المرابطة في الشرق الأدنى للدفاع عنه. كما كانوا يدعون بأن سورية ولبنان عاجزتان عن تقديم مايحتاجه الجيش من مال. وقدموا اقتراحاً يقضي بتسليم الجيش اسمياً لسورية ولبنان، على أن تبقى قيادته بيدهم طيلة الحرب، إلى أن يعقد اتفاق خاص بشأنه، فرفضت سورية ولبنان هذا الاقتراح. واستمرت المباحثات ودام الأخذ والرد على غير جدوى(66).‏

                    لقد حاولت الحكومة الفرنسية أن تجعل تسليم قيادة القوات المحلية مشروطاً بعقد معاهدات ثقافية واتفاقات اقتصادية وإعطاء فرنسا قواعد استراتيجية(67).‏

                    إلا أن فرنسا سلمت في حزيران 1944 فصيلة من الجند الخاص إلى الحكومة اللبنانية، ولعلها كانت تقصد إلى إحداث تفرقة جديدة ولكن دون جدوى. أما في سورية فقد احتفظت به حتى وقع الصدام في العالم التالي(68).‏

                    وكان الفرنسيون يحتفظون بالقطع الخاصة لغايتين: الأولى أن تكون القوة باقية في يدهم. والثانية أن يتخذوها سلاح مساومة للحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية. ولكن الحكومة السورية كانت مصممة على أن لاتعقد معاهدة مع الفرنسيين أو تعترف لهم بأي وضع ممتاز وهو ماكانوا يسعون لتحقيقه (69).‏

                    وقد تذاكرت الحكومة السورية مع الجنرال (بينه) المندوب الفرنسي العام الجديد (استلم في 9/6/1944) من ناحية ومع الجنرال هولمز والجنرال سبيرز ومستشاره السياسي المستر لاساس، في موضوع الجيش السوري، وقد اقترح البريطانيون صيغة جاء فيها بأن الحكومة السورية الراغبة في أن تشاطر بالمجهود الحربي إلى جانب الأمم الحليفة، وهي تضع جيشها تحت تصرف هذه الأمم إلى أن تنتهي الحرب، وذلك بعد استشارة القائد الأعلى في الشرق الأوسط بصفة كونه قائداً عاماً لقوى الأمم المتحدة. وكذلك فهي توافق على وضع جيشها تحت القيادة المحلية في الشرق مدة الحرب (المنوطة بالفرنسيين). وكان هناك محذوران، المحذور الأول في موقف الجنود السورية إذا انتهت المعارك في الغرب، وظلت في الشرق الأوسط. والمحذور الثاني إذا أصر السوريون على أن يرجع لهم تنظيم جيشهم وإنشاء قيادة سورية لاترتبط بالقيادة الفرنسية. وهذه الخطة ربما كانت تؤدي إلى الاصطدام مع القيادة العليا البريطانية التي كانت ترفض كل تغيير في القيادة، وتؤيد في هذا الشأن رأي الجنرال (بينه). وذكر الجنرال سبيرز أنه لابد من الزمن لتكوين أركان الحرب وإعداد المصالح العسكرية الكثيرة، ولم يكن الجيش التاسع البريطاني يوافق على أن يكون إلى جانب أركان الحرب الفرنسي أركان حرب سوري في تلك الظروف العسكرية، وأصر الجنرال سبيرز على لزوم تجنب البحث في إلغاء القيادة المحلية الفرنسية قائلاً بأن جوهر الأمر أن يكون لسورية جيش عند انتهاء الحرب.‏

                    وكان هناك مشروع مقدم من الفرنسيين ومشروع آخر من الحكومة السورية يرمي إلى التخلص من القيادة الفرنسية.‏

                    وقد بحث الجنرال هولمز عن المشروع الفرنسي الذي يذكر بأن الفرنسيين يؤازرون سورية في تأليف جيشها وتأمين المصالح له وتأليف قوة مفيدة. وأوضح وجهة النظر الانكليزية التي توافق على تحويل الصلاحيات العسكرية إلى السوريين عندما تكون مصادر قواهم كافية، وتكون الوسائل السورية واللبنانية لتعزيز الجيش وتجهيزه وتعليمه وبقائه متوفرة. وهذا يتوقف على التطور التدريجي في مدة أشهر، وعلى مايستطيع السوريون تقديمه من البراهين على قدرتهم وطاقتهم. لذلك فإنه يقتضى الاحتفاظ بالمصالح الفرنسية، إذ ليس لدى السوريين فنيون وأصحاب اختصاص، وهم بحاجة إلى هؤلاء أكثر من حاجتهم إلى المؤن والذخائر والآلات الميكانيكية ومختلف المواد.‏

                    وأكد البريطانيون في الختام أن موقفهم يكون موقف الرضى عن كل اتفاق يتم بين السوريين والفرنسيين ولكن على أن لايصيب القوى والمعدات أي خلل.‏

                    وقد ورد في المشروع الفرنسي ذكر (لجنة فرنسية)، فرأى الجنرال سبيرز في ذلك مايؤدي إلى وجود قيادتين، كما أن اللجنة ستنقلب إلى بعثة، وقد يملأ حينئذ الجيش بالقادمين من أفريقية الشمالية(70).‏

                    وبقي الجيش بيد فرنسا حتى انتهت الحرب في أوروبا بانتصار الحلفاء على ألمانيا في أيار 1945 وبدأت سورية ولبنان بالمطالبة بجلاء القوات الأجنبية عن أراضيهما(71).‏

                    6- صراع سورية من أجل الاستقلال التام بعد الانتخابات :‏

                    أعدت وزارة سعد الله الجابري بياناً تقدمت به إلى المجلس النيابي أشارت فيه إلى الظروف التي اجتاحت البلاد وإلى مهمتها في الحكم والواجبات المترتبة عليها لخدمة الوطن(72).‏

                    وفي 24/1/1944 أقسم رئيس الجمهورية والنواب يمين الإخلاص للدستور بعد أن حذفت منه المادة 116 التي كانت تقيد استقلال سورية والتي أضافها المفوض السامي في عام 1930.‏

                    وقد اهتمت حكومة الجابري بتسلم الصلاحيات من الافرنسيين(73). ومنذ بدء المفاوضات بين الحكومة السورية وبين السلطات الفرنسية تبين اتساع الخلاف في وجهات النظر، فذكر المندوب الفرنسي أن الانتداب يعتبر قائماً ولايمكن إلغاؤه إلا بعقد معاهدة على نمط المعاهدات التي تربط بريطانيا ببعض الدول العربية. كما أن الانتداب صدر عن عصبة الأمم ولايمكن إلغاؤه إلا بعد قيام منظمة دولية أخرى تحل محلها. وفند السوريون هذه الحجج فذكروا أن الانتداب غير صحيح منذ البداية لأن أهل الانتداب لم يستشاروا فيه سنة 1920 طبقاً لنظام العصبة، ثم إن حكومة فرنسا الحرة ليست استمراراً للدولة التي عهدت إليها العصبة بالانتداب، وليس هناك ضمان لتنفيذ المعاهدة إذا تم التوصل إلى اتفاق مع الحكومة المؤقتة الحاضرة(74).‏

                    لم يكن مجلس عصبة الأمم معمولاً بقراراته منذ 1939. ولم تكن قوانين العصبة معمولاً بها واقعياً منذ 1940 عندما طردت الاتحاد السوفيتي من عضويتها بسبب غزوه اللاقانوني لفنلدا.‏

                    كانت حكومة فرنسا الحرة تطلب من الدول أن تعترف باستقلال سورية ولكنها تشترط أن يكون هذا الاعتراف مقيداً بالتحفظات التي أبداها الجنرال كاترو عندما أعلن استقلال سورية في 27/9/1941 ولبنان في 26 تشرين الثاني 1941 وتلخص هذه التحفظات في :‏

                    1- المحافظة على التعهدات الدولية التي أبرمتها فرنسا باسم سورية والتي تحل محلها في المستقبل معاهدة تعقد بينها وبين فرنسا.‏

                    2- السلطات الخاصة التي تتمتع بها الجهات الفرنسية في المشرق بسبب الحرب.‏

                    وهكذا كان طلب الحكومة الفرنسية من الولايات المتحدة لكي تعترف باستقلال سورية ولبنان ضمن هذه الشروط.‏

                    وقد أرسلت الحكومة البريطانية في 10/9/1942 مذكرة إلى الولايات المتحدة طالبة فيها أن يعترف بالوضع الراجح لفرنسا في دولتي المشرق، ومبينة أنها لاتعارض في عقد معاهدة إذا كانت ترمي إلى تحديد علائق الفريقين وتحقيق رغائب الأهلين. ولكن الولايات المتحدة كانت تميل إلى تأييد الاستقلال ولامانع من معاهدة بين الجانبين على أن لاتضار مصالحها المحددة في معاهدة 1924 مع فرنسا. واعترفت باستقلال الدولتين في 7/9/1944 اعترافاً غير مشروط ولا مقيد، مع تبادل التمثيل الدبلوماسي(75).‏

                    أما موقف بريطانيا الذي كان يعلن مظاهرته للاتفاق بين فرنسا وسورية ولبنان فلم يكن فيه مرضاة للفرنسيين الذين اعتقدوا أن هناك مؤمرات للنيل منهم وإزالة كل أثر لفرنسا في المشرق وأن تحل محلها. وليس هنالك فرنسي واحد يعتقد أن سورية ولبنان سيتمتعان باستقلال تام ناجز بعد الأزمة الأخيرة في لبنان، وأنهما سيسيطرون على أنابيب البترول والمطارات والمراكز الاستراتيجية بدون أن تكون لهما علاقة بدولة أجنبية وستصبح هي بريطانيا(76).‏

                    وقد صرح شوفيل السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسية أن فرنسا مستعدة للجلاء عن سورية ولكنها لن ترضى أبداً أن تحل محلها دولة أخرى، فأجابه (نجيب الأرمنازي) بأننا لانرمي إلى التخلص من السلطان حتى ندخل في ظل سلطان آخر(77).‏

                    وكان عدد الدول التي اعترفت باستقلال سورية يزداد حتى أصبح يضم في منتصف كانون الثاني 1945 (أفغانستان ومصر والعراق وايران والمملكة العربية السعودية وبلجيكا والبــرازيل وبولونيا وانكلترا وفرنسا والولايـــات المتحدة والاتحاد السوفيتـــي وتشيكوسلوفاكيا) (78).‏

                    7- اصطدام سورية مع الفرنسيين في أيار 1945 وتسليم الجيش :‏

                    سافر المندوب السامي الفرنسي الجديد الجنرال بينه (استلم في حزيران 1944) إلى فرنسا في آذار 1945 لإجراء بعض المفاوضات مع حكومة فرنسا المؤقتة، وقد اشتد ساعدها بعد أن أصبحت تسيطر على بلادها وعلى قواها العسكرية والبرية والبحرية ولم تعد في المجال الذي كانت عليه عندما حدثت الأزمة اللبنانية (معركة تعديل الدستور). فغاب أكثر من شهرين ولم يعد إلا بعد أن اتفق مع حكومته على الخطة التي يبغي اتباعها، وعاد في أيار 1945 يحمل التعليمات لفتح باب المفاوضات المقرر بدءها في 19/5/1945. وأعلنت الحكومة الفرنسية في 7/5/1945 أنها أصدرت تعليماتها إلى المندوب العام الفرنسي في سورية ولبنان ببدء المفاوضات مع حكومتي سورية ولبنان .‏

                    وفي نفس اليوم 7/5/1945 أنزل الفرنسيون تعزيزات عسكرية (كتيبة جنود سنغاليين) في بيروت وجددوا ذلك في 15-17/5/1945 مما احتجت عليه الحكومة السورية وعدته مناقضاً لسيادتها واستقلالها ووسيلة من الوسائل التي تدل على أن فرنسا تنوي أن تلجأ إلى القسر والإكراه والتهديد قبل بدء المفاوضات.‏

                    وكانت الحرب قد انتهت مع ألمانيا في 8/5/1945 فرأت فرنسا أن الظروف تغيرت وأنها أصبحت قادرة على فرض سيادتها بالقوة خلافاً لما كان عليه الوضع في عام 1943 .‏

                    وفي 17/5/1945 زار (بينه) رئيس الجمهورية السورية بحضور وكيل رئيس مجلس الوزراء، ثم قدم في اليوم التالي مذكرة خطية إلى وزارة الخارجية السورية، حيث استقبله الوزير بحضور السيد هنري فرعون وزير الخارجية اللبنانية الذي تسلم مذكرة أيضاً. وقد دون في هذه المذكرة ما أشار إليه في حديثه في اليوم السابق وهو أن فرنسا مستعدة لتسليم الكتائب الخاصة لسورية ولبنان مع بقائها تحت القيادة العليا الفرنسية مادامت الظروف لاتسمح بممارسة القيادة الوطنية ممارسة تامة، على شرط أن تؤمن صيانة مصالح فرنسا الجوهرية التي تحتفظ بها في سورية ولبنان. وعرض البحث في المسائل الثقافية وفي القواعد الاستراتيجية. وكانت إدارة الهاتف تخضع للسلطة العسكرية.‏

                    وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها فرنسا مثل هذه الطلبات للحكومة السورية. أما هذه المصالح فهي على ثلاثة أنواع : ثقافية واقتصادية واستراتيجية. فالأمور الثقافية التي تهم سورية وفرنسا يمكن تحديدها وضمانها باتفاق جامعي واتفاقية تضمن استقلال المؤسـسات الثقافية الفرنسية. ويمكن تحديد الأوضاع الاقتصادية المتقابلة وضمانها باتفاقات مختلفة ينص عليها في موضوع كهذا بالأصول الدولية المعتادة، كالاتفاق المتعلق بوضع الرعايا الأجانب والاتفاق التجاري... الخ. وأما الأوضاع الاستراتيجية فتتضمن تأسيس قواعد جوية وبحرية تمكن من ضمانة طرق مواصلات فرنسا وممتلكاتها فيما وراء البحار. والاحتفاظ بقيادة فرنسية في الجمهوريتين. وحالما توقع هذه الاتفاقيات يصير تسليم القطعات الخاصة، على أن تبقى مدة طويلة تحت قيادة فرنسية. وعلى الأثر اتصل رئيس الجمهورية السورية. برئيس الجمهورية اللبنانية واتفقا على عقد اجتماع في لبنان يحضره الرئيسان ورجال حكومتيهما(79).‏

                    وعقدت الحكومتان اجتماعاً مشتركاً في شتورة في 19/5/1945 وقد صدر بعد الاجتماع ودراسة الموقف البيان التالي :‏

                    " اجتمع في شتورا رئيس الوزارة السورية بالوكالة ووزير خارجيتها ورئيس الوزارة اللبنانية ووزير خارجيتها في 19/5/1945 للتداول في الموقف السياسي الناشىء عن إرسال فرنسا جنوداً للبنان وسورية دون الحصول على موافقة الدولتين، على الرغم من إبلاغ حكومتيهما ممثل فرنسا من قبل وجوب الحصول على موافقتهما قبل استقدام الجنود. وكذلك عن تقديم ممثل فرنسا مذكرة بمقترحات لتكون أساساً للمفاوضة بين الجانب الفرنسي والجانبين السوري واللبناني.‏

                    " وقد رأى ممثلو الحكومتين السورية واللبنانية أن في إنزال الجنود على الشكل الذي تم انتقاصاً لسيادة البلدين. وأن المذكرة تتضمن مقترحات تنم عن روح لاتتفق واستقلال سورية ولبنان. لذلك اتفق الجانبان السوري واللبناني على عدم الدخول في المفاوضة مع الجانب الفرنسي وإلقاء جميع التبعات التي يمكن أن تنجم عن هذا الموقف على عاتق الحكومة الفرنسية. كما قررا توحيد الجهود والمساعي للدفاع عن سيادة البلدين واستقلالهما"(80).‏

                    وهكذا رفضت الحكومتان الاستمرار في المفاوضات في جو من التوتر والتهديد المكشوف. إذ كما قال ونستون تشرشل : " كانت المصفحات الفرنسية وسيارات النقل المحملة بالجنود تجوب شوارع حلب ودمشق وتواصل أعمال الدورية. وكانت الطائرات الفرنسية تحلق على علو منخفض فوق المساجد في أوقات الصلاة. وكانت المدافع الرشاشة تنصب بشكل ظاهر فوق سطوح المباني(81).‏

                    وكانت ردة الفعل السورية شديدة في الأوساط الرسمية والشعبية. فقد اجتمع المجلس النيابي السوري بين 20و26/5/1945 ورفض رغبة فرنسا في الحصول على مركز ممتاز. وكذلك فعل المجلس النيابي اللبناني(83).‏

                    وأضربت سورية إضراباً عاماً احتجاجاً على مطالب فرنسا وعلى إرسال التعزيزات العسكرية. وكانت مقالات الصحف ومظاهرات شعبية داعية إلى استلام الجيش. وبدأت الاصطدامات بين الفرنسيين والسوريين في مختلف المدن بين 19و27/5/1945.‏

                    فقد أرادت السلطة الفرنسية إرهاب السوريين لإجبارهم على قبول مطالبها، فوضعت دباباتها ومدافعها في الشوارع. وقد حدث اشتباك حول محطة حماة ووقعت اصطدامات في حلب(84)، وفي حمص قام عدد من الشباب بإطلاق النار على بعض المواقع العسكرية.‏

                    وفي 22/5/1945 أصدر الجنرال (اوليفا روجيه Oliva Roget) (وكان ضابط استخبارات في دمشق باسم الكابتن اوليفا، وأصبح قائد الجيش الفرنسي بدمشق) بلاغاً مفصلاً بالاجراءات العسكرية المقرر اتخاذها ضد ثورة الشعب. وأشار إلى استخدام قوات المتطوعة من الشركس وغيرهم من الأقليات. وأشار إلى أنه لايمكن الاطمئنان إلى المتطوعة العرب(85).‏

                    وماكادت تنتشر في أقطار العالم وسائل العنف التي لجأ إليها الفرنسيون لنيل امتيازات من السوريين حتى عم الاستنكار لها. فقد أذاعت الحكومة البريطانية مذكرة في27/5/1945 أنها تنظر باهتمام إلى حالة القلق التي تنتشر في الأيام الأخيرة في سورية ولبنان ولاسيما في سورية، وقدمت الحكومة الأمريكية مذكرة إلى الحكومة الفرنسية في 28/5/1945 أكدت فيها أن الناس في الولايات المتحدة وغيرها يشعرون بأن فرنسا تستعين بالقوة لتنال من سورية ولبنان امتيازات سياسية وثقافية .‏

                    أما الحكومة الفرنسية فقد نشرت في 28/5/1945 مذكرة قالت فيها : " إنها تتابع باهتمام شديد الأحداث التي وقعت في سورية ولبنان منذ بضعة أسابيع، التي اتخذ مسببوها حجة حركات الجنود الفرنسية بعد أن أصبح عددها ضئيل جداً. على أنه لم تكن الغاية من هذه الحركات إلا التبديل والتثبيت وليس لدينا استعدادات أكثر من قبل في هذه الأرجاء. والحكومة الفرنسية تأسف أن الحكومة السورية والحكومة اللبنانية اغتنمتا هذه الفرصة لرفض المفاوضات التي كان الجنرال بينه قد عهد إليه بها للوصول إلى اتفاق عام ".‏

                    وأشارت المذكرة إلى أن فرنسا هي التي أعلنت استقلال سورية ولبنان وهي التي تقترح أن تنظم الشروط التي تضمن ذلك نهائياً بالنسبة لهما. وأخيراً هي التي أقامت البرهان على إخلاصها بحمل الأمم المتحدة على دعوة سورية ولبنان للاشتراك في مؤتمر سان فرانسيسكو(86).‏

                    وفي مساء 29/5/1945 بدأ الجنود الفرنسيون بإطلاق النار على السكان في دمشق، كما أن الطائرات أخذت تطلق قذائفها على المدينة فأصابت إحداها قسم السجون في القلعة فهدمته وقتلت عدداً كبيراً من المسجونين. وكان من أشنع مافعله جنود فرنسا محاصرة البرلمان وإطلاق الرشاشات والقنابل والمدفعية عليه وقتل حاميته والتمثيل بأفرادها. وكان ذلك في وقت لم تعقد فيه جلسة كانت مقررة. ثم هاجمت المؤسـسات الرسمية. واستمر إطلاق النار في سائر المدن السورية، حمص وحماة وحلب وغيرها بوحشية لم تعرف البلاد لها مثيلاً(87).‏

                    وكانت الأنباء ترد على وزارة الخارجية البريطانية من الشام بأن الحالة تزداد فيها حرجاً وشدة. والبرقيات التي ترسل من دمشق أو بيروت تصل متأخرة ومنها برقية أرسلتها الحكومة السورية إلى بعثاتها في لندن وباريس وواشنطن وإلى وفدها في سان فرانسيسكو، وقد جاء فيها أن دمشق وحمص وحماة وحلب ظلت تنسفها الطائرات والمدافع والدبابات، فعظم الدمار وذهبت مئات الضحايا، وأطلقت القنابل على البرلمان، والنيران تشتعل في كل مكان فاحتجوا بشدة، وكان مصدر البرقية بيروت.‏

                    ولما لم يعد بإمكان الحكومة السورية السيطرة على الموقف طلبت من بريطانيا التدخل وإعادة الأمن والنظام.‏

                    وعلى إثر برقية تلقاها وزير سورية المفوض في لندن (نجيب الأرمنازي) من الحكومة السورية في 29/5/1945 أرسل مذكرة إلى وزارة الخارجية البريطانية وجه فيها أنظارها إلى حقيقة الوضع في تلك البلاد وأن الحالة فيها أصبحت على غاية الخطر، ولامناص من تدخل الحكومة البريطانية لحمل الفرنسيين على الانسحاب حالاً من المدن وتسليم الكتائب الخاصة للحكومة السورية، فأجابته وزارة الخارجية البريطانية في 30/5/1945 أن المستر ايدن نفسه سيجيبه بأقرب وقت(88).‏

                    ولما تفاقم الأمر في 29،30/5/1945 صرح ايدن (إن الموقف خطير في سورية ... وليس من عذر يجعل الحوادث تتطور في سورية ولبنان حتى تعرقل سير الحرب في الشرق الأقصى. وقد أردنا أن نظهر لحلفائنا الفرنسيين أننا كنا مستعدين لسحب جنودنا حتى يتم بينهم وبين سورية ولبنان اتفاق، ونحن نصرح بأننا لانريد أن نحل محل فرنسا في المشرق".‏

                    وفي 31/5/1945 أعلن وزير الخارجية البريطانية ايدن أن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وجه رسالة إلى الجنرال ديغول قال فيها : "إننا بسبب الموقف الخطير الذي حدث في سورية بين جنودكم ودول المشرق، والمعارك العنيفة الدامية التي جرى اشتباكها، أعطينا الأوامر إلى القائد العام في الشرق الأوسط، مع بالغ الأسف، أن يتدخل حتى يحول دون استمرار سفك الدماء، حرصاً على صيانة الأمن في الشرق الأوسط الذي هو منطقة المواصلات لحرب اليابان. وحرصاً على تجنب الاشتباك بين القوى البريطانية والقوى الفرنسية ندعوكم حالاً لتأمروا الجنود الفرنسية بوقف إطلاق النار والانسحاب إلى ثكناتها. ومتى أوقف إطلاق النار وأعيد النظام فنحن مستعدون لمناقشة ثلاثية في لندن للوصول إلى تسوية سلمية تشترك الحكومتان السورية واللبنانية في مذكراتها " .‏

                    وأضاف ايدن أن الرئيس والحكومة السورية بعثا إلى الحكومة البريطانية بدعوة يذكرانها بأنها كانت قد ضمنت استقلال سورية ولبنان، طالبين إليها أن تتدخل حتى تجري المفاوضات بين فرنسا وسورية ولبنان في جو حر لاإكراه فيه ولاضغط.‏

                    وقد توقف إطلاق النار بعد ظهر 31/5/1945(89). وقدر السوريون ضحابا هذه الأحداث بنحو 500 قتيل و1400 جريح. ولقد كان هذا الإنذار البريطاني بفوق بكثير في أسلوبه وفي مضمونه إنذار تشرين الثاني 1943 الذي وجه بمناسبة الصدام في لبنان(90).‏

                    وفي يوم الجمعة 1/6/1945، قام الجنرال (باجيت) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط برفقة مستر (الن شو) وزير بريطانيا المفوض في سورية، والجنرال (بيلون) قائد سلاح الجو، بزيارة الرئيس القوتلي المريض في داره، وأبلغوه قرار رئيس الوزارة البريطانية للتدخل العسكري لوقف القتال وحقن الدماء.‏

                    وصدرت الأوامر لقطعات الجيش البريطاني وفرقه الميكانيكية باحتلال المدن الرئيسية والمراكز الفرنسية. وجرى ذلك واستقر الأمن وحظر على أي فرنسي ضابطاً كان أم جندياً الخروج من مكان إقامته إلا تحت حراسة بريطانية وفي حالة الضرورة القصوى(91). فقد قامت القوات البريطانية بحماية انسحاب الجنود الفرنسيين من نقمة الشعب.‏

                    وفي لندن أعلن المستر ايدن في 1/6/1945 أن القائد الفرنسي أبلغ القائد البريطاني أنه تلقى الأوامر من باريس أن لايعارض قيادة الشرق الأوسط.‏

                    واندفع الفرنسيون بعد ذلك ينتقدون البريطانيين أشد انتقاد، ويقولون إنهم أرسلوا الأوامر لوقف الخصومات قبل وصول رسالة تشرشل (الإنذار). وألقى الجنرال ديغول في 2/6/1945 خطبة في المجلس النيابي استعرض فيها حقوق فرنسا وخططها. ودافع عن أساليبها ومناهجها. كما أعلن المسيو بول بونكور رئيس الوفد الفرنسي في الأمم المتحدة، بأن فرنسا باقية الآن ومسؤولة عن النظام والقانون في الأراضي السورية واللبنانية، تبعاً للتعهدات الدولية التي لاتنقض من جانب واحد. وأمل الوصول إلى تسوية مرضية. وأنكر الوفد السوري مدعيات الفرنسيين في سان فرانسيسكو وقام ببث الدعوة لقضية البلاد السورية في الصحف وأندية المؤتمر(92).‏

                    وعلى كل حال فإنه يمكن الاستنتاج من هذه الأحداث أن الحكومتين السورية واللبنانية باتتا مقتنعتين كل الاقتناع بأنهما لاتستطيعان استئناف المفاوضات مع فرنسا طالما أن قواتها ترابط في البلدين. وكان الدرس الذي تعلمته الجمهوريتان في تجاربهما مع فرنسا طوال السنوات الأربع السابقة هو أن (لامفاوضات قبل الجلاء). ولم يلبث هذا الشعار يتردد على ألسنة عدد من الدول العربية الأخرى.. ففي 7/6/1945 تبنى مجلس جامعة الدول العربية القرار: " إن المجلس يؤيد مطالبة سورية ولبنان بجلاء القوات الفرنسية فوراً عن أراضي الجمهوريتين(93).‏

                    والأمر الثاني الذي تعلمته الحكومتان هو أنه لم تكونا ترغبان في انسحاب القوات البريطانية قبل القوات الفرنسية في حالة بدء الجلاء، إذ من الذي يستطيع أن يمنع القوات الفرنسية من بدء قتال جديد؟. إذن لابد وأن تقوم القوات الفرنسية والقوات البريطانية بالجلاء الواحدة بعد الأخرى على التوالي(94).‏

                    وفي 24/6/1945 قدم المسيول بول بونكور إلى رئيس المؤتمر بسان فرانسيسكو مذكرة قال فيها : إن فرنسا واثقة بميثاق الأمم المتحدة، وطلب تأليف لجنة من الدول التي لم يكن لها علاقة بحوادث الشرق، ولامصلحة مباشرة أو غير مباشرة، لتقوم بتحقيق في مصدر الأحداث التي جرت في سورية ولبنان أو المساعدة على الوصول إلى تسوية ودية للخلاف. وأعاد طلبه مرة ثانية للقيام بتحقيق عادل(95).‏

                    ثم رأت فرنسا بعد الكارثة التي حلت بهيبتها في حوادث 29 أيار 1945 أنها مضطرة أن تزيل العقبة التي وقعت في سبيل المفاوضات علها تستطيع أن تظفر ببعض الامتيازات من الحكومتين السورية واللبنانية.‏

                    ولقد رفضت الحكومة السورية كل اتصال بالفرنسيين بعد حوادث العدوان. وجاء الكونت استروروغ يحمل مقترحات جديدة تتعلق بتسليم القطع الخاصة وانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية معاً. فلم يستطع مفاوضةدمشق وإنما استطاع أن يبحث مع اللبنانيين(96).‏

                    وفي 8/7/1945 جرت مفاوضات في لبنان حول الوحدات العسكرية المحلية وأجيبت الدولتان السورية واللبنانية إلى ماأرادتاه في إنشاء جيش وطني، وأعلنت الحكومة الفرنسية المؤقتة أنها سعيدة بأن ترى سورية ولبنان متمتعتين بجميع خصائص السيادة لتقوما بالدور الذي يعود إليهما في مجموعة الأمم المتحدة، ولذلك حولت إليهما هذه الوحدات حتى يتم نقلهما في مدة لاتتجاوز (45) يوماً(97).‏

                    وقد سلمت الفرق الخاصة إلى الحكومة اللبنانية بأسلحتها وذخائرها في 1/8/1945 وهو اليوم الذي يحتفل فيه لبنان بعيد الجيش(988). وتسلمت سورية القطعات الخاصة والمصالح الأخرى قبل 14/8/1945، وأصبح تحت إمرتها جيش وبدأ تشكيل الجيش السوري الوطني. وجرت مفاوضات العسكريين في باريس بين 2-6/3/1946 فحدد ميعاد الجلاء بالنسبة لسورية في أواخر نيسان 1946. وانسحبت جيوش فرنسا من سورية بعد العدوان مكرهة بصورة لاتشرفها، ولكنها تجمعت في أراضي لبنان، بينما لازالت الجيوش الانكليزية مرابطة في الأراضي السورية. وكان يخشى عودة الفرنسيين من المناطق اللبنانية المجاورة إذا سنحت الفرصة. ولذلك لم تكن سورية لتطمئن على استقلالها مالم يغادر آخر جندي فرنسي أرض لبنان.‏

                    وهكذا خرج الفرنسيون من البلاد السورية تحت ضغط الانكليز. وانتقل الجيش السوري بصورة طبيعية إلى الحكومة السورية(99). ولو أنهم تنازلوا عن القوات السورية وسلموها من قبل لما حصلوا على أية امتيازات أيضاً.‏

                    ولقد تركت فرنسا وراءها في سورية ولبنان دماء كثيرة ومرارة في النفوس الأمر الذي دفع جميع الدول العربية أن تدينها بالعدوان لأنها أحرقت دمشق التاريخية(100).‏

                    8- وحـدة سـورية ولبنان في طلب الجلاء :‏

                    بعد انتهاء عدوان أيار 1945 وتسليم فرنسا الفرق السورية واللبنانية إلى الحكومتين. بدأت مرحلة المطالبة لجلاء القوات الأجنبية.‏

                    فلقد استخلص السوريون من نهاية الحرب العالمية الثانية (في أوروبا في 8/5 ومع اليابان في 14/8/1945) نتيجة أخرى مضادة لموقف فرنسا، وهو أن الظروف الجديدة تسمح لهم بالمطالبة بالاستقلال التام والجلاء وهو ماكانوا يسكتون عليه طالما بقي الصراع الدولي قائماً. وصارت الفرصة سانحة للمطالبة بالجلاء دون الاضطرار إلى عقد معاهدة غير متكافئة كما حدث في البلدان العربية الأخرى كالعراق ومصر. ومن ثم الوصول إلى الاستقلال التام غير المقيد بمعاهدة(101).‏

                    وأثناء تقديم رئيس الوزراء فارس الخوري في 14/8/1945 إلى المجلس النيابي السوري، بياناً عن رحلته إلى مؤتمر سان فرنسيسكو، أشار إلى استلام الجيش السوري والمصالح الأخرى وبدء الاتفاق على الجلاء العسكري للقوات الأجنبية. وفي جلسة 20/8/1945 قدم بياناً عن خطة الوزارة في سياسة الاستقلال والسياسة الخارجية والتمثيل السياسي والجيش. واعترض عدد كبير من النواب على مشروع قانون استلام الجيش السوري. وفي بيانه بجلسة 28/8/1945 تحدث عن استكمال الاستقلال والتمثيل الخارجي والجيش والمصالح المشتركة. وقد أصر أحد النواب على معرفة المدة التي تحددها الوزارة لجلاء آخر جندي أجنبي عن البلاد. فلم يستطع تحديد موعد(102).‏

                    لقد باتت الحكومتان السورية واللبنانية مقتنعتان كل الاقتناع بأنهما لاتستطيعان استئناف المفاوضات مع فرنسا طالما أن قواتها ترابط في البلدين. وكان الدرس الذي تعلمته الجمهوريتان من تجاربهما مع فرنسا طوال السنوات الأربع السابقة هو أن "لامفاوضات قبل الجلاء" ولم يلبث هذا الشعار يتردد على ألسنة عدد من الدول العربية الأخرى.‏

                    كما أن الحكومتين السورية واللبنانية لم تكونا ترغبان في انسحاب القوات البريطانية قبل القوات الفرنسية في حالة بدء الجلاء، إذ من الذي يستطيع عندئذ أن يمنع القوات الفرنسية من بدء قتال جديد، إذن لابد وأن تقوم القوات الفرنسية والقوات البريطانية بالجلاء الواحدة بعد الأخرى على التوالي(103).‏

                    ولكن الحكومة الفرنسية لم تيأس من الاحتفاظ ببعض مصالحها في المشرق أو بإيجاد منافذ لسياستها رغم مالقيته على إثر حوادث أيار 1945 (وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بإنتهاء الحرب مع اليابان في 14/8/1945)، فسنحت الفرصة للمسيو بيدو (Bidault) وزير خارجية الحكومة الفرنسية المؤقتة أن يتحدث مع المستر بيفن في أثناء انعقاد اجتماع وزراء خارجية الدول الخمس في لندن في شهر أيلول 1945. ثم استمرت المذكرات بالطرق الدبلوماسية(104). فلقد كان الفرنسيون يعارضون إخراج قضية سورية ولبنان إلى المجال الدولي، ثم تحولوا بعد الضربة التي حلت بهيبتهم في أيار 1945 إلى فكرة تدويل القضية، وعرض بيدو، أن يطرح موضوع علاقات الدول العربية المختلفة بكل من بريطانيا وفرنسا على الدول الخمس الكبرى أو الأمم المتحدة. ورفضت الولايات المتحدة الفكرة بحجة أن هذا الموضوع معقد لاتتحمله المنظمة الدولية الناشئة(105).‏

                    ولقد اتسع نطاق الخلاف فأصبح يشمل كل من بريطانيا وفرنسا الموجودتان في سورية ولبنان كاحتلال ثنائي، فكانت بريطانيا توافق على الجلاء شريطة أن تقام هيئة دفاع مشترك للشرق الأوسط، وكأن بريطانيا أرادت هي الأخرى أن تساوم على استقلال سورية ولبنان بإقامة هذه الهيئة التي كان من شأنها أن تؤكد النفوذ البريطاني في الشرق العربي .‏

                    وقد أوضحت بريطانيا سياستها الجديدة في تصريح 13/12/1945 الذي كان يمثل اتفاقاً بين فرنسا وبريطانيا (عسكري وسياسي).. وقد ورد بالبلاغ أن الاتفاق مستلهم من الرغبة في إزالة كل خلاف بين الدولتين إزالة مطلقة، وتجنب كل مايسيء إلى علائقهما التي تريد الدولتان أن تكون أكثر وثوقاً، في حدود التعاون الدولي، والرخاء الاقتصادي والسلامة لشعوب الشرق الأوسط .‏

                    وقد رأت الدولتان حباً بضمان ممارسة لبنان وسورية الاستقلال الذي أعلنته فرنسا في سنة 1941 وثبت باشتراك الدولتين في الأمم المتحدة، وتبعاً للنتائج الطبيعية لانتهاء الحرب وعلاقة ذلك بأوضاع الحلفاء العسكرية في الشرق، أن تدرسا شروط تنظيم قواهما العسكرية وانسحابها في هذه المنطقة.‏

                    وتحقيقاً لهذه الغاية سيجتمع في بيروت الخبراء العسكريون البريطانيون والفرنسيون في 21/12/1945 لتحديد وقت قريب جداً لاتخاذ تدابير الجلاء الأولى تدريجياً وتقترن بعمليات تجميع للقوات. ونص الاتفاق على شرط الاحتفاظ بقوة كافية في المشرق لضمان السلامة العامة حتى تقر الأمم المتحدة تنظيم الأمن المشترك في هذه المنطقة. وبانتظار تنفيذ هذه الترتيبات تحتفظ الحكومة الفرنسية بقوات تتجمع في لبنان(106).‏

                    وبلغت وزارة الخارجية البريطانية الاتفاق إلى الحكومتين السورية واللبنانية، واستدعت أيضاً الوزير اللبناني المفوض في لندن (كميل شمعون) والوزير السوري المفوض (نجيب الأرمنازي)، فكان جوابهما استنكاراً، وعد الاتفاق شبيهاً بالاتفاقات السابقة التي عقدتها فرنسا وبريطانيا كاتفاق 1904 واتفاق 1919 اللذين لم يكونا في مصلحة البلاد الشرقية .‏

                    ولم يكن لهذا الاتفاق وقع طيب لددى الحكومتين السورية واللبنانية وعارضتاه وانتقدتاه لسببين : أولهما أن الاتفاق جعل الأمن في هاتين الدولتين اللتين تتمتعان بالسيادة منوطاً بدول خارجية. وثانيهما أن الاتفاق عقد بدون اشتراك الدولتين اللتين يعنيهما الأمر مباشرة. وأما تشجيع الرخاء الاقتصادي فهو يعني السيطرة الاقتصادية وايجاد مناطق نفوذ. وقد تظاهر الطلاب الوطنيون في دمشق وحلب وبيروت ضد هذا الاتفاق(107).‏

                    على كل حال فإن هذا الاتفاق لم يكن يعني وجود اتفاق تام بين الدولتين المحتلتين، فقد فهمت فرنسا أن بريطانيا ستنسحب من كلا القطرين بينما تبقى القوات الفرنسية وحدها في لبنان. وأعلن الانجليز أنهم لاينوون الانسحاب وحدهم في أي حال من الأحوال. ومرة ثانية استفادت كل من سورية ولبنان من هذا الخلاف(108). ففي 15/12/1945 أجابت الحكومة البريطانية بالموافقة على طلب الحكومتين السورية واللبنانية في بقاء الجنود البريطانية مابقيت الجنود الفرنسية(109).‏

                    وفي 26/12/1945 أصدرت المفوضية اللبنانية في باريس بياناً قالت فيه : إن لبنان يطالب بالانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية المرابطة في أراضيه على التوالي.. ويرفض أن يكون رأس جسر موجه ضد الأقطار العربية. ولذلك طوي أمر هذا الاتفاق ولم يعش إلا أسابيع، وعجز الخبراء العسكريون البريطانيون والفرنسيون أن يتفقوا بشأنه بعد أن اجتمعوا في بيروت لتنفيذ شروطه، وذلك بسبب تباين وجوه الرأي فيه عند الفريقين(110).‏

                    وفي 31/12/1945 ازدادت حدة التوتر في لبنان بسبب إنزال (210) جندي فرنسي في بيروت بحجة أنهم جاؤوا ليحلوا محل غيرهم. وقد أثارت هذه العملية الشكوك وذكرت بالماضي وبالأحداث التي سببها وصول قوات فرنسية إلى بيروت والتي أدت إلى نشوب أزمة شهر أيار الماضي. وقد رافق نزول هؤلاء الجنود الفرنسيين وصول الجنرال (اوليفاروجيه) إلى مطار المزة قرب دمشق، وقد كان مسؤولاً عن قصف العاصمة السورية أثناء تلك الأزمة. وأوضح فيما بعد أن بيروت كانت وجهته حيث يريد أن يجمع حوائجه وأمتعته الشخصية التي اضطر إلى تركها عندما طلب منه أن يغادر البلاد في شهر حزيران السابق.‏

                    غير أن الشائعات التي أثارتها هذه المصادفة، وماقيل من أن القوات التي وصلت حديثاً هي قوات سنغالية، دفعت الطلاب الوطنيين وغيرهم إلى القيام بإضراب عام في كل من دمشق وحلب وبيروت(111).‏

                    9- انتســاب سورية ولبنان إلى الأمم المتحدة :‏

                    في مؤتمر يالطا بالقرم (4-11/2/1945) بين روزفلت وستالين وتشرشل، الذي تم فيه الاتفاق على عقد مؤتمر للأمم المتحدة في سان فرنسيسكو في 25/4/1945، فقد اشترط للاشتراك في المؤتمر أن يقتصر على الدول التي تكون قد أعلنت الحرب على دول المحور قبل 1/3/1945. وأحاط الجنرال ادوارد سبيرز سفير المملكة المتحدة لبنان علماً بذلك، وإبلاغ سورية أيضاً. وكانت الحرب على وشك الانقضاء في الغرب. غير أن اليابان كان من المنتظر أن تقاوم طويلاً، ولابد حينئذ من استمرار المجهود الحربي للدول المتحالفة. ولكنها بعد أن سلمت ألمانيا في أيار 1945، وأصبحت وحدها في معترك القتال، واشتدت عليها وطأة الحرب وأوقعت فيها الذعر القنبلتان الذريتان اللتان فتكا فيها فتكاً ذريعاً، لم تجد مناصاً من التسليم بدون قيد أو شرط بعد أن حاولت التخلص من ذلك.‏

                    وجرى الاتفاق مع حكومة لبنان أن يصير إعلان الحرب في وقت واحد فوافق المجلس النيابي السوري في 26/2/1945 على إعلان الحرب على دول المحور. ولم يكن هذا الإعلان إلا شكلياً. وكذلك فعلت الحكومة اللبنانية أيضاً إذ طلبت من المجلس النيابي إعلان الحرب على المانيا واليابان فوافق وأصدر قراراً بهذا الشأن في 27/2/1945 يقول : " إن لبنان يعتبر في حالة حرب مع الرايخ الألماني والامبراطورية اليابانية "(112).‏

                    وفي 25/3/1945 وجهت الولايات المتحدة أصالة عن نفسها ونيابة عن بريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين دعوة إلى الدول المحاربة في صف الحلفاء لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو. ولم تدع سورية ولبنان إليه، فقامت الحكومتان بالمساعي الدبلوماسية المشتركة حتى أن فرنسا نفسها رددت القول بأنها طلبت إشراك سورية ولبنان في المؤتمر، فلقد ذهب وزيرا سورية ولبنان المفوضين في لندن معاً (الدكتور نجيب الأرمنازي والسيد كميل شمعون) إلى وزارة الخارجية البريطانية وقدما مذكرة إلى السر الكسندر كادوغان سكرتير وزارة الخارجية الدائم يطلبان فيه ذلك. وقد أوضحا أن سورية ولبنان أعلنتا الحرب على ألمانيا قبل أول آذار من هذه السنة، وأنهما وافقتا على تصريحات الأمم المتحدة. وقد قبلت الحكومة البريطانية أن تفاوض الولايات المتحدة بالأمر. ولذا فقد وجهت الدعوة إلى سورية ولبنان لحضور المؤتمر في أواخر آذار من وزارة الخارجية الأمريكية. وتلقت الحكومة اللبنانية الدعوة في 31/3/1945. وكان لبنان يأمل من انتسابه إلى الأمم المتحدة العمل على تعزيز وتثبيت استقلاله(113).‏

                    وسافر الوفد السوري مع الوفد اللبناني من مطار بيروت في 23/4/1945. وبدأت المباحثات في 25/4/1946 وانتهت في 26/6/1945.‏

                    وكان وفد لبنان إلى مؤتمر سان فرانسيسكو يعني (كالوفد السوري) بتأمين ظروف مواتية لتحقيق جلاء قوات الاحتلال الفرنسية. ولذلك أيد الاقتراح المصري الخاص بإضافة فقرة إلى الفصل 11 من مقترحات (دمبرتون اوكس 20/8 - 7/10/1944 التي تقرر فيها إنشاء هيئة الأمم المتحدة) وهي : "إن الدول الأعضاء في المنظمة تتعهد باحترام سلامة أراضي جميع الدول الأعضاء في المنظمة واحترام استقلالها السياسي". وكانت الغاية من إدخال هذا التعديل تأمين انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من سورية ولبنان وغيرها من البلاد العربية. ورفض هذا التعديل .‏

                    كما اعترض وفد لبنان وسائر الوفود العربية على فقرة خاصة بنظام الوصاية الدولية وفشل اقتراح التعديل. كما فشل لبنان والدول العربية الأخرى في تعزيز سلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة مقابل مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الدول الكبرى. كما فشل لبنان والدول العربية عند بحث البنود المتعلقة بنظام الوصاية الدولية، في إجراء تعديل على إحدى الفقرات لضمان حقوق أي بلد مالم يوفر أي تأكيد أو تطمين بأن قضية فلسطين وغيرها من القضايا العربية ستحل بصورة عادلة(114).‏

                    ومن الفوائد التي نجمت عن اشتراك سورية ولبنان في المؤتمر أن المستر (ستاسن) ممثل الولايات المتحدة صرح في اجتماع الدول الخمس العظمى أن الدول الممثلة في المؤتمر يجب ألا تدخل في نظام الوصاية أو مايشابهه. واتخذ اللورد كرامبون (اللورد سلسبري فيما بعد) موقفاً مماثلاً في تصريح له. ولما قوبل بيان المستر (ستاسن) بصمت في اجتماع الدول الخمس العظمى، أعلن أنه كان يقصد بما أدلى به ايضاح وجهة نظر أمريكية في شأن سورية ولبنان(115).‏

                    ولم يمارس مجلس الوصاية مهمته إلا في آذار 1947 ولم يكن له أي وظيفة بالنسبة إلى الانتدابات التي لم تكن خاضعة لاتفاقية الوصاية.‏

                    ووقع الوفد السوري واللبناني ميثاق الأمم المتحدة في 26/6/1945. وعاد الوفدان واستقبل الوفد السوري في بيروت استقبالاً رسمياً من قبل حكومة لبنان.‏

                    وفي أثناء مناقشة المجلس النيابي اللبناني لإبرام الميثاق، تباينت الآراء حوله حيث رأت فيه لجنة الشؤون الخارجية محاولة للسيطرة من قبل الدول الكبرى الخمس على العالم. ولكنهم ركزوا على أن لبنان كسب الاعتراف باستقلاله من قبل هيئة الأمم المتحدة البديلة لعصبة الأمم، إذ أنهت المادة (78) من الميثاق الانتداب الفرنسي وادعاءات فرنسا(116). وقد تم حل عصبة الأمم رسمياً في 18/4/1946.‏

                    10- شكوى سورية ولبنان إلى الأمم المتحدة من أجل الجلاء :‏

                    ولما كان اتفاق فرنسا وبريطانيا في 13/12/1945 قد أثار الحذر والخوف في سورية ولبنان، وكان أمر الجلاء الذي ينبغي تقريره سريعاً معلقاً في بعض نواحيه بحسب هذا الاتفاق على ماتقرر هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فلا مناص للدولتين من الرجوع إليهما بحسب المادة(35) وغيرها حتى يبت في الموضوع بصورة تنطبق على الحق والعدل، وتثبت احترام المبادىء التي سجلها الميثاق(117).‏

                    ففي 28/12/1945 أعلن رئيس وزراء لبنان سامي الصلح أن وفد لبنان إلى الجمعية العامـــة للأمم المتحــــدة التي ســـتعقد اجتماعاتهــــا في لنــــدن في شهر كانـــون الثانـــي 14/1-18/2/46، قد خول السلطة لإثارة مسألة الاحتلال البريطاني الفرنسي لبلاده.‏

                    وفي 10/1/1946 سلمت الحكومتان السورية واللبنانية مذكرة مشتركة إلى كل من بريطانيا وفرنسا تطالبان فيها بسحب قواتهما بسرعة وبصورة تامة. وكان الاجتماع الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة سينعقد في لندن 10/1/1946 .‏

                    وفي 19/1/1946 أخبر فارس الخوري ممثل سورية لدى الجمعية العامة أن الوفد السوري يكتفي في الوقت الحاضر بمجرد لفت انتباه الجمعية إلى هذا الأمر ويأمل الوفد أن يحل انسحاب مبكر للقوات الأجنبية .‏

                    وفي 4/2/1946 وجه رئيسا الوفدين السوري واللبناني رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة استنكرت إبقاء القوات الأجنبية بعد انتهاء الحرب واتفاق 13/12/45 ويعرضان النزاع على مجلس الأمن لإقرار انسحاب كامل وعاجل للقوات الأجنبية من الأراضي السورية واللبنانية(113). وأثناء الاجتماع الأول للجمعية العامة، جرت مفاوضات واتصالات (لبنانية فرنسية) و (فرنسية بريطانية) وتقرر أن يعقد اجتماع في وزارة الخارجية البريطانية في 13/2/1946 حضره المستر بيفن والكسندر كادوغان ومدير قسم الشرق الأوسط ورئيس الوفد السوري فارس الخوري وكميل شمعون وزير لبنان المفوض في لندن ووزير سورية المفوض نجيب الأرمنازي.. وقد بحث عن إمكانية الاتفاق بين السوريين واللبنانيين مع الفرنسيين على موضوع الجلاء وتحديد الزمن اللازم له. وانفض الاجتماع بانتظار تبليغ سورية ولبنان رأيهما النهائي إلى بريطانيا ليحمل إلى الفرنسيين. وفي نفس اليوم أبلغ السوريون واللبنانيون المبادىء الأساسية التي يوافقون عليها وهي الجلاء التام عن سورية ولبنان وأن لايكون معلقاً على أي قرار من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن ولاعلى أي شرط. وأبلغ البريطانيون السفير الفرنسي بذلك .‏

                    وفي اليوم التالي 14/2/1945 عقد اجتماع حضره أيضاً حميد فرنجية وزير الخارجية اللبناني ووزير الخارجية الفرنسية (بيدو) والسفير الفرنسي (ماسيغلي) والكونت استروروغ. وأصر الفرنسيون على اتفاق 13/12/45 ولم يتم اتفاق على الموضوع(119).‏

                    وبدأت مناقشات مجلس الأمن في 14/2/1945-16/2/1945 بشأن طلب سورية ولبنان جلاء القوات الأجنبية. وتحدث ممثلا سورية ولبنان فأكدا أن لاحاجة لوجود قوات أجنبية لانتهاء الحرب، وهذا ضد إرادة الشعبين والحكومتين. وعارضا اتفاق 13/12/45. ورد وزير الخارجية الفرنسي فذكر أن سياسة فرنسا السير بالدولتين نحو الاستقلال التام وطلب موافقة المجلس على اتفاق 13/12/45. وكذلك برر وزير الخارجية البريطاني عقد الاتفاق من أجل الأمن والسلام. فرد حميد فرنجية (بالفرنسية) وزير خارجية لبنان فقال : "إن الأمن الداخلي من شأن الحكومتين وحدهما. والأمن الدولي مضمون لأن الجمهوريتين محاطتين بدول صديقة عقدت فيما بينها ميثاق الجامعة العربية. إن اضطراب الأمن الوحيد الذي يمكن أن ينشأ في تلك المنطقة هو نشوب قتال بين القوات الفرنسية والأهالي. كما ذكر أنه لن يكون أي امتيازات بموجب الانتداب الذي مات. وتكلم الخوري بالانكليزية فاستعرض القضية. وأخيراً تم تقديم مشروع قرار أمريكي فاز بسبعة أصوات، وامتنعت فرنسا وبريطانيا عن التصويت، ونقضه المندوب السوفيتي لأن التعديلات التي طلبها لم تقبل وهي تطلب سحب القوات فوراً. ومع ذلك فقد أعلن وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا عن عزمهما على تنفيذ القرار كما ورد عند التصويت(120).‏

                    وهكذا تبين أن بريطانيا غير متمسكة بالاحتلال، وعلى ذلك تحرج مركز فرنسا واضطرت للخضوع إلى قرار أغلبية المجلس.‏

                    وبعد انتهاء مجلس الأمن من بحث قضية الجلاء، عقد اجتماع في وزارة الخارجية البريطانية ضم رئيسا الوفدين السوري واللبناني ووزيراهما المفوضين في لندن. فتحدث البريطانيون عن الجلاء المقرر وأنه أمر مفروغ منه. وبحث (بيفن) عن شؤون لبنان وظروفه المختلفة، وذكر شيئاً عن اتجاهات الفرنسيين وحرصهم على أن تجري المفاوضات في باريس، وهي ستكون مباحثات بين الخبراء العسكريين ومقتصرة على الجلاء ..‏

                    وقد تعرض بيفن إلى موضوع نصارى لبنان ومايدعيه الفرنسيون في ذلك، فكان جواب رئيسي الوفدين السوري واللبناني قاطعاً. فذكر الأول أن دعوى حماية النصارى مضرة بالنصارى أنفسهم لأنها تجعل الأكثرية الإسلامية تنظر إليهم نظرة عداء باعتبارهم سبباً لتدخل الأجنبي في ديارهم. عدا عن أن هذه الحجة إنما هي لتبرير بسط الحكم والسيطرة، إذ لايوجد في كثير من البلاد التي احتلها الفرنسيون في آسيا وافريقيا نصارى لحمايتهم، ولكن الاستعمار هو الغاية الحقيقية.. وقال رئيس الوفد اللبناني مؤكداً أن محاولة إثارة الخلاف بين المسلمين والنصارى إنما هو ناشىء عن رغبة التفريق بين الطائفتين لمقاومة الفكرة الوطنية. وكان رأي بيفن ان لاتدخل المعتقدات في الأغراض السياسية(121).‏

                    ثم عقد اجتماعان في 26 و27/2/1946 في المفوضية السورية بلندن، حضره بريطانيون وأكدوا أن بريطانيا مرتبطة بقرار مجلس الأمن الذي نص على الجلاء. وأنه يمكن توفير وسائل النقل البري والبحري للفرنسيين لتأمين سرعة الجلاء.‏

                    وعلى إثر ذلك قدم رئيسا الوفدين السوري واللبناني كتاباً إلى الأمم المتحدة أعلنا فيه تمسكهما بقرار مجلس الأمن وأنهما سيدخلان في مفاوضات مع فرنسا وبريطانية بشأن الجلاء.‏

                    وبدأت المحادثات العسكرية بين الفرنسيين والبريطانيين حول الانسحاب في باريس في 1/3/1946 وأسفرت في ظرف ثلاثة أيام عن اتفاق بشأن انسحاب قواتهما من سورية أولا على أن يبدأ الانسحاب في 11/3/1946 وينتهي في 30/4/1946(122).‏

                    ولكن أعلن في 9/3/1946 أن البريطانيين سوف يغادرون لبنان خلال مدة لاتتجاوز 30/6/1946 وإن قيادة القوات الفرنسية ومعظم الجنود الفرنسيين سينتقلون إلى طرابلس خلال مدة لاتتجاوز 31/8/1946. فقد صرح ناطق بلسان وزارة الخارجية الفرنسية بأن جلاءهم قد لاينتهي إلا في أول نيسان 1947 كحد أقصى. وشدد الناطق الفرنسي على القول، مع شرح مفصل وبكثير من الإسهاب، بأن التأخر لمدة سنة نتج كلياً عن تفاصيل فنية تتعلق بنقل الجنود والمعدات. وأقر الناطق الفرنسي بأنه ليس هناك في لبنان سوى (8000) جندي فرنسي. ولكنه قال أن ماعناه عندما تحدث عن التأخير هو المنشآت الكبيرة ... ولم ترض الحكومة اللبنانية (والحكومة السورية أيضاً رفضت ذلك). وبعد مزيد من المحادثات بين ممثل لبنان والفرنسيين تم الاتفاق على أن تغادر القوات الفرنسية لبنان في مدة لاتتجاوز 31/8/1946 على أن تبقى في البلاد بعثة من (30) ضابطاً فرنسياً و(300) فني للإشراف على جلاء ماتبقى من مواد وأعتدة في مدة لاتتجاوز 31/12/1946(123). وأن يرتدي أفرادها اللباس المدني.‏

                    وتم الجلاء عن سورية (الجنود والمدنيون) في الساعة العاشرة من يوم 15/4/1946، وأقرت سورية اليوم التالي 17/4 عيداً وطنياً واحتفلت به. وتم الجلاء عن لبنان في 31/12/1946. ولكن اعتبر يوم 22/11/1943 الذي أطلق فيه سراح رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمعتقلين الآخرين هو يوم الاستقلال في لبنان. وانتقل البريطانيون إلى فلسطين.‏

                    وهكذا استطاع السوريون واللبنانيون بفضل وحدة مواقفهما من الوصول إلى الاستقلال التام بجلاء الجنود الفرنسيين والبريطانيين وعدم ارتباطهما بأية معاهدة تمنح امتيازات أو قواعد عسكرية لأية دولة. واتهم الفرنسيون البريطانيين بأنهم هم الذين أخرجوهم.‏

                    ولكن مع زوال السيادة الأجنبية اختفى الرابط الذي كان يربط البلدين أحدهما بالآخر، أي وحدة السلطة السياسية وماكان يتبعها في مختلف المجالات.‏
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                      4- قضيـة النقــد والانفصـال النقـدي

                      كانت (الليرة) التي يصدرها (بنك سورية ولبنان) هي وحدة العملة المتداولة في سورية ولبنان ولها ارتباطات مالية مع فرنسا. وكانت الحدود بين البلدين مفتوحة لنقل البضائع والمواطنين، وأسواق البلدين مفتوحة على بعضها لعرض وتبادل المنتجات المحلية والمستوردة.‏

                      وكانت سورية ولبنان قد وعدتا في تصريح بريطانيا وفرنسا الحرة بالاستقلال، بأن تدخلاً في نظام الاسترليني لسنة 1941. ومع ذلك فقد عقد اتفاق بين الانجليز والفرنسيين وبين سورية ولبنان سنة 1944 أصبحت فيه سورية تابعة لما يسمى منطقة الفرنك. وأصبحت الليرة السورية تعادل 65ر22 فرنكاً والليرة الانكليزية 3ر78 قرشاً سورياً مع ضمانة كل تعديل يطرأ في المستقبل على سعر الفرنك(56). واستمر الوضع النقدي حتى1946.‏

                      وضمنت الحكومة الفرنسية الليرة اللبنانية خوف تدني قيمتها منذ عام 1944 بموجب اتفاق دعي (اتفاق كاترو). إلا أن فرنسا نقضت الاتفاق مع لبنان عام 1947 واعتبرت نفسها في حِل من تعهداتها السابقة. وماهي إلى فترة حتى انهارت قيمة الفرنك الفرنسي(57).‏

                      ووقع الخلاف مع الحكومة الفرنسية بسبب تراجعها في آذار 1946 عن تنفيذ الاتفاق المعقود مع الجنرال كاترو بشأن ضمان قيمة النقد السوري عند تنزيل قيمة الفرنك الفرنسي. وعندما عقد اتفاق شتورا بين الجانبين السوري واللبناني في 28/12/1947 لتجديد الاتفاق حول المصالح المشتركة، فقد تقرر إعطاء التعليمات المشتركة المتفق على صيغتها بين الفريقين إلى الوفدين المفاوضين في باريس بشأن (قضية النقد) والأمور الاقتصادية والمالية المعلقة مع الجانب الفرنسي. وكانت المفاوضات الثلاثية قد بدأت بين ممثلي سورية ولبنان وفرنسا في باريس في 1/10/1947 وانتهت بموافقة الممثل اللبناني على المشروع المقدم من الجانب الفرنسي(58). وحسبما يقول كاتب لبناني : "واضطر لبنان أن يعقد اتفاقاً جديداً مع فرنسا لضمان قيمة الليرة اللبنانية، وصفيت بموجب الاتفاق الحسابات المالية بين لبنان وفرنسا وأصبحنا أسياد نقدنا. بينما أحجمت سورية عن توقيع هذا الاتفاق. وهنا كانت بداية الأزمة التي أدت إلى حلول القطيعة بين لبنان وسورية عام 1950(59). وقد انفرد لبنان من قبل بتوقيع اتفاقية التابلاين.‏

                      لقد اتخذت سورية من هذه المفاوضات خطة أقرب إلى استقلال نقدها وتصفية علاقاتها المالية مع فرنسا. وسلكت الحكومة اللبنانية خطة اتفاق أخرى مع الفرنسيين بصورة منفردة(60).‏

                      وعلى إثر اتفاق الحكومة اللبنانية مع الفرنسيين (بداية 1948)، أصدرت وزارة المالية اللبنانية بلاغاً حول أسعار القطع الأجنبي، وحددت سعر الفرنك الفرنسي بالنسبة لليرة اللبنانية بـ 83ر97 فرنك لكل ليرة. وأنه منذ يوم الإثنين 2/2/1948 تجرى عملية استبدال الأوراق النقدية المكتوب عليها بعبارة (سورية) بأوراق نقدية مكتوب عليها عبارة (لبنان). ويكون هذا الاستبدال على أساس ليرة لبنانية لكل ليرة سورية.‏

                      وأصدر بنك سورية ولبنان أيضاً بلاغاً بأنه لم يبق في لبنان في نهاية 2/2/1948 أية قوة إبرائية لغير الليرة اللبنانية(61). وبذلك فصل اللبنانيون النقدين السوري واللبناني اللذين كانت وحدتهما تشكل عنصراً أساسياً لاستمرار التبادل التجاري، مما أحدث فرقاً بين النقدين. ولكن في 1/4/1948 اتفق رئيسا الوزارتين على أن يكون للنقدين اللبناني والسوري خلال فترة التمديد (حتى 15/5/1948) قوة الإبراء للجمارك اللبنانية والسورية وانتقال البضائع الأجنبية بحرية. وفي 5/5/1948 اتفق رئيسا الوزراء على استمرار انتقال البضائع الأجنبية وأن تقبل الجمارك اللبنانية والسورية النقد اللبناني والسوري على أن لايزيد النقد اللبناني في الجمارك السورية عن النصف والنقد السوري في الجمارك اللبنانية عن النصف أيضاً. وجدد الاتفاق في 28/6/1948 في شتورة لمدة ثلاثة أشهر اعتباراً من 1/7/1948(62).‏

                      وبعد رفض سورية الاشتراك في توقيع الاتفاق النقدي مع فرنسا، عادت المباحثات بصورة غير رسمية في شهر تشرين الأول 1948 وانتهت إلى وضع مشروع جديد يختلف كل الاختلاف عن المشروع السابق (اتفاق نقدي). واتفق رئيس الوزراء خالد العظم مع وزير المالية حسن جبارة على قبوله فتم التوقيع عليه بدمشق في 7/2/1949 وعرض على مجلس النواب مع مشروع التابلاين. وأصبح المجال مفسوحاً أمام الحكومة السورية لإمكان استرداد حق إصدار النقد، وبقاء مصرف سورية ولبنان كمصرف تجاري. ثم أبرم الاتفاق بمرسوم تشريعي أصدره حسني الزعيم بعد انقلاب 30/3/1949 مع إبرام اتفاق التابلاين، وأصبح مرعي الإجراء منذ ذلك الحين(63).‏

                      كان العظم من كبار رجال الأعمال في سورية، فقد انصرف إلى معالجة الوضع الاقتصادي دون مراعاة للإحساسات الوطنية الجياشة، فعقد الاتفاق المالي (7/2/49) مع فرنسا لتسوية الخلاف الناشىء من انفصال سورية عن منطقة الفرنك. ثم طلب إلى مجلس النواب الموافقة على (مشروع التابلاين) بالرغم من الاعتراضات العديدة التي أثيرت حول الاتفاق، إذ يمنح لسورية رسوماً هزيلة مقابل مرور الأنابيب في أراضيها(64).‏

                      وأصدر المجلس النيابي اللبناني في 24/5/1949 قانون النقد اللبناني وقرر تحويل العملات الأجنبية في التغطية إلى ذهب(65).‏

                      5- قضية الجيـش وحتى الاصطدام في أيار 1945 :‏

                      كانت قضية الجيش مظهراً من مظاهر الوحدة السورية اللبنانية حيث كانت القيادة العسكرية موحدة للبلدين .‏

                      ولما كان الفرنسيون قد ضموا إلى جيشهم عدداً من اللبنانيين والسوريين (من فئات وطبقات معينة) جمعوهم في وحدات عسكرية سموها (الفرق الخاصة). فطالبت الحكومتان السورية واللبنانية تسليمهما المجندين ليكونوا نواة لجيشهما. وطالت المفاوضات بسبب مماطلة الجانب الفرنسي. فلقد ظهرت نية الفرنسيين بعدم الرغبة في تسليم الجيش إلى الحكومتين بشكل لايدع مجالاً للشك.‏

                      وكان الفرنسيون في بادىء الأمر يحتجون باستمرار الحرب العالمية وعدم استطاعتهم تسليم الجيش الذي هو جزء من الجيوش المرابطة في الشرق الأدنى للدفاع عنه. كما كانوا يدعون بأن سورية ولبنان عاجزتان عن تقديم مايحتاجه الجيش من مال. وقدموا اقتراحاً يقضي بتسليم الجيش اسمياً لسورية ولبنان، على أن تبقى قيادته بيدهم طيلة الحرب، إلى أن يعقد اتفاق خاص بشأنه، فرفضت سورية ولبنان هذا الاقتراح. واستمرت المباحثات ودام الأخذ والرد على غير جدوى(66).‏

                      لقد حاولت الحكومة الفرنسية أن تجعل تسليم قيادة القوات المحلية مشروطاً بعقد معاهدات ثقافية واتفاقات اقتصادية وإعطاء فرنسا قواعد استراتيجية(67).‏

                      إلا أن فرنسا سلمت في حزيران 1944 فصيلة من الجند الخاص إلى الحكومة اللبنانية، ولعلها كانت تقصد إلى إحداث تفرقة جديدة ولكن دون جدوى. أما في سورية فقد احتفظت به حتى وقع الصدام في العالم التالي(68).‏

                      وكان الفرنسيون يحتفظون بالقطع الخاصة لغايتين: الأولى أن تكون القوة باقية في يدهم. والثانية أن يتخذوها سلاح مساومة للحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية. ولكن الحكومة السورية كانت مصممة على أن لاتعقد معاهدة مع الفرنسيين أو تعترف لهم بأي وضع ممتاز وهو ماكانوا يسعون لتحقيقه (69).‏

                      وقد تذاكرت الحكومة السورية مع الجنرال (بينه) المندوب الفرنسي العام الجديد (استلم في 9/6/1944) من ناحية ومع الجنرال هولمز والجنرال سبيرز ومستشاره السياسي المستر لاساس، في موضوع الجيش السوري، وقد اقترح البريطانيون صيغة جاء فيها بأن الحكومة السورية الراغبة في أن تشاطر بالمجهود الحربي إلى جانب الأمم الحليفة، وهي تضع جيشها تحت تصرف هذه الأمم إلى أن تنتهي الحرب، وذلك بعد استشارة القائد الأعلى في الشرق الأوسط بصفة كونه قائداً عاماً لقوى الأمم المتحدة. وكذلك فهي توافق على وضع جيشها تحت القيادة المحلية في الشرق مدة الحرب (المنوطة بالفرنسيين). وكان هناك محذوران، المحذور الأول في موقف الجنود السورية إذا انتهت المعارك في الغرب، وظلت في الشرق الأوسط. والمحذور الثاني إذا أصر السوريون على أن يرجع لهم تنظيم جيشهم وإنشاء قيادة سورية لاترتبط بالقيادة الفرنسية. وهذه الخطة ربما كانت تؤدي إلى الاصطدام مع القيادة العليا البريطانية التي كانت ترفض كل تغيير في القيادة، وتؤيد في هذا الشأن رأي الجنرال (بينه). وذكر الجنرال سبيرز أنه لابد من الزمن لتكوين أركان الحرب وإعداد المصالح العسكرية الكثيرة، ولم يكن الجيش التاسع البريطاني يوافق على أن يكون إلى جانب أركان الحرب الفرنسي أركان حرب سوري في تلك الظروف العسكرية، وأصر الجنرال سبيرز على لزوم تجنب البحث في إلغاء القيادة المحلية الفرنسية قائلاً بأن جوهر الأمر أن يكون لسورية جيش عند انتهاء الحرب.‏

                      وكان هناك مشروع مقدم من الفرنسيين ومشروع آخر من الحكومة السورية يرمي إلى التخلص من القيادة الفرنسية.‏

                      وقد بحث الجنرال هولمز عن المشروع الفرنسي الذي يذكر بأن الفرنسيين يؤازرون سورية في تأليف جيشها وتأمين المصالح له وتأليف قوة مفيدة. وأوضح وجهة النظر الانكليزية التي توافق على تحويل الصلاحيات العسكرية إلى السوريين عندما تكون مصادر قواهم كافية، وتكون الوسائل السورية واللبنانية لتعزيز الجيش وتجهيزه وتعليمه وبقائه متوفرة. وهذا يتوقف على التطور التدريجي في مدة أشهر، وعلى مايستطيع السوريون تقديمه من البراهين على قدرتهم وطاقتهم. لذلك فإنه يقتضى الاحتفاظ بالمصالح الفرنسية، إذ ليس لدى السوريين فنيون وأصحاب اختصاص، وهم بحاجة إلى هؤلاء أكثر من حاجتهم إلى المؤن والذخائر والآلات الميكانيكية ومختلف المواد.‏

                      وأكد البريطانيون في الختام أن موقفهم يكون موقف الرضى عن كل اتفاق يتم بين السوريين والفرنسيين ولكن على أن لايصيب القوى والمعدات أي خلل.‏

                      وقد ورد في المشروع الفرنسي ذكر (لجنة فرنسية)، فرأى الجنرال سبيرز في ذلك مايؤدي إلى وجود قيادتين، كما أن اللجنة ستنقلب إلى بعثة، وقد يملأ حينئذ الجيش بالقادمين من أفريقية الشمالية(70).‏

                      وبقي الجيش بيد فرنسا حتى انتهت الحرب في أوروبا بانتصار الحلفاء على ألمانيا في أيار 1945 وبدأت سورية ولبنان بالمطالبة بجلاء القوات الأجنبية عن أراضيهما(71).‏

                      6- صراع سورية من أجل الاستقلال التام بعد الانتخابات :‏

                      أعدت وزارة سعد الله الجابري بياناً تقدمت به إلى المجلس النيابي أشارت فيه إلى الظروف التي اجتاحت البلاد وإلى مهمتها في الحكم والواجبات المترتبة عليها لخدمة الوطن(72).‏

                      وفي 24/1/1944 أقسم رئيس الجمهورية والنواب يمين الإخلاص للدستور بعد أن حذفت منه المادة 116 التي كانت تقيد استقلال سورية والتي أضافها المفوض السامي في عام 1930.‏

                      وقد اهتمت حكومة الجابري بتسلم الصلاحيات من الافرنسيين(73). ومنذ بدء المفاوضات بين الحكومة السورية وبين السلطات الفرنسية تبين اتساع الخلاف في وجهات النظر، فذكر المندوب الفرنسي أن الانتداب يعتبر قائماً ولايمكن إلغاؤه إلا بعقد معاهدة على نمط المعاهدات التي تربط بريطانيا ببعض الدول العربية. كما أن الانتداب صدر عن عصبة الأمم ولايمكن إلغاؤه إلا بعد قيام منظمة دولية أخرى تحل محلها. وفند السوريون هذه الحجج فذكروا أن الانتداب غير صحيح منذ البداية لأن أهل الانتداب لم يستشاروا فيه سنة 1920 طبقاً لنظام العصبة، ثم إن حكومة فرنسا الحرة ليست استمراراً للدولة التي عهدت إليها العصبة بالانتداب، وليس هناك ضمان لتنفيذ المعاهدة إذا تم التوصل إلى اتفاق مع الحكومة المؤقتة الحاضرة(74).‏

                      لم يكن مجلس عصبة الأمم معمولاً بقراراته منذ 1939. ولم تكن قوانين العصبة معمولاً بها واقعياً منذ 1940 عندما طردت الاتحاد السوفيتي من عضويتها بسبب غزوه اللاقانوني لفنلدا.‏

                      كانت حكومة فرنسا الحرة تطلب من الدول أن تعترف باستقلال سورية ولكنها تشترط أن يكون هذا الاعتراف مقيداً بالتحفظات التي أبداها الجنرال كاترو عندما أعلن استقلال سورية في 27/9/1941 ولبنان في 26 تشرين الثاني 1941 وتلخص هذه التحفظات في :‏

                      1- المحافظة على التعهدات الدولية التي أبرمتها فرنسا باسم سورية والتي تحل محلها في المستقبل معاهدة تعقد بينها وبين فرنسا.‏

                      2- السلطات الخاصة التي تتمتع بها الجهات الفرنسية في المشرق بسبب الحرب.‏

                      وهكذا كان طلب الحكومة الفرنسية من الولايات المتحدة لكي تعترف باستقلال سورية ولبنان ضمن هذه الشروط.‏

                      وقد أرسلت الحكومة البريطانية في 10/9/1942 مذكرة إلى الولايات المتحدة طالبة فيها أن يعترف بالوضع الراجح لفرنسا في دولتي المشرق، ومبينة أنها لاتعارض في عقد معاهدة إذا كانت ترمي إلى تحديد علائق الفريقين وتحقيق رغائب الأهلين. ولكن الولايات المتحدة كانت تميل إلى تأييد الاستقلال ولامانع من معاهدة بين الجانبين على أن لاتضار مصالحها المحددة في معاهدة 1924 مع فرنسا. واعترفت باستقلال الدولتين في 7/9/1944 اعترافاً غير مشروط ولا مقيد، مع تبادل التمثيل الدبلوماسي(75).‏

                      أما موقف بريطانيا الذي كان يعلن مظاهرته للاتفاق بين فرنسا وسورية ولبنان فلم يكن فيه مرضاة للفرنسيين الذين اعتقدوا أن هناك مؤمرات للنيل منهم وإزالة كل أثر لفرنسا في المشرق وأن تحل محلها. وليس هنالك فرنسي واحد يعتقد أن سورية ولبنان سيتمتعان باستقلال تام ناجز بعد الأزمة الأخيرة في لبنان، وأنهما سيسيطرون على أنابيب البترول والمطارات والمراكز الاستراتيجية بدون أن تكون لهما علاقة بدولة أجنبية وستصبح هي بريطانيا(76).‏

                      وقد صرح شوفيل السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسية أن فرنسا مستعدة للجلاء عن سورية ولكنها لن ترضى أبداً أن تحل محلها دولة أخرى، فأجابه (نجيب الأرمنازي) بأننا لانرمي إلى التخلص من السلطان حتى ندخل في ظل سلطان آخر(77).‏

                      وكان عدد الدول التي اعترفت باستقلال سورية يزداد حتى أصبح يضم في منتصف كانون الثاني 1945 (أفغانستان ومصر والعراق وايران والمملكة العربية السعودية وبلجيكا والبــرازيل وبولونيا وانكلترا وفرنسا والولايـــات المتحدة والاتحاد السوفيتـــي وتشيكوسلوفاكيا) (78).‏

                      7- اصطدام سورية مع الفرنسيين في أيار 1945 وتسليم الجيش :‏

                      سافر المندوب السامي الفرنسي الجديد الجنرال بينه (استلم في حزيران 1944) إلى فرنسا في آذار 1945 لإجراء بعض المفاوضات مع حكومة فرنسا المؤقتة، وقد اشتد ساعدها بعد أن أصبحت تسيطر على بلادها وعلى قواها العسكرية والبرية والبحرية ولم تعد في المجال الذي كانت عليه عندما حدثت الأزمة اللبنانية (معركة تعديل الدستور). فغاب أكثر من شهرين ولم يعد إلا بعد أن اتفق مع حكومته على الخطة التي يبغي اتباعها، وعاد في أيار 1945 يحمل التعليمات لفتح باب المفاوضات المقرر بدءها في 19/5/1945. وأعلنت الحكومة الفرنسية في 7/5/1945 أنها أصدرت تعليماتها إلى المندوب العام الفرنسي في سورية ولبنان ببدء المفاوضات مع حكومتي سورية ولبنان .‏

                      وفي نفس اليوم 7/5/1945 أنزل الفرنسيون تعزيزات عسكرية (كتيبة جنود سنغاليين) في بيروت وجددوا ذلك في 15-17/5/1945 مما احتجت عليه الحكومة السورية وعدته مناقضاً لسيادتها واستقلالها ووسيلة من الوسائل التي تدل على أن فرنسا تنوي أن تلجأ إلى القسر والإكراه والتهديد قبل بدء المفاوضات.‏

                      وكانت الحرب قد انتهت مع ألمانيا في 8/5/1945 فرأت فرنسا أن الظروف تغيرت وأنها أصبحت قادرة على فرض سيادتها بالقوة خلافاً لما كان عليه الوضع في عام 1943 .‏

                      وفي 17/5/1945 زار (بينه) رئيس الجمهورية السورية بحضور وكيل رئيس مجلس الوزراء، ثم قدم في اليوم التالي مذكرة خطية إلى وزارة الخارجية السورية، حيث استقبله الوزير بحضور السيد هنري فرعون وزير الخارجية اللبنانية الذي تسلم مذكرة أيضاً. وقد دون في هذه المذكرة ما أشار إليه في حديثه في اليوم السابق وهو أن فرنسا مستعدة لتسليم الكتائب الخاصة لسورية ولبنان مع بقائها تحت القيادة العليا الفرنسية مادامت الظروف لاتسمح بممارسة القيادة الوطنية ممارسة تامة، على شرط أن تؤمن صيانة مصالح فرنسا الجوهرية التي تحتفظ بها في سورية ولبنان. وعرض البحث في المسائل الثقافية وفي القواعد الاستراتيجية. وكانت إدارة الهاتف تخضع للسلطة العسكرية.‏

                      وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها فرنسا مثل هذه الطلبات للحكومة السورية. أما هذه المصالح فهي على ثلاثة أنواع : ثقافية واقتصادية واستراتيجية. فالأمور الثقافية التي تهم سورية وفرنسا يمكن تحديدها وضمانها باتفاق جامعي واتفاقية تضمن استقلال المؤسـسات الثقافية الفرنسية. ويمكن تحديد الأوضاع الاقتصادية المتقابلة وضمانها باتفاقات مختلفة ينص عليها في موضوع كهذا بالأصول الدولية المعتادة، كالاتفاق المتعلق بوضع الرعايا الأجانب والاتفاق التجاري... الخ. وأما الأوضاع الاستراتيجية فتتضمن تأسيس قواعد جوية وبحرية تمكن من ضمانة طرق مواصلات فرنسا وممتلكاتها فيما وراء البحار. والاحتفاظ بقيادة فرنسية في الجمهوريتين. وحالما توقع هذه الاتفاقيات يصير تسليم القطعات الخاصة، على أن تبقى مدة طويلة تحت قيادة فرنسية. وعلى الأثر اتصل رئيس الجمهورية السورية. برئيس الجمهورية اللبنانية واتفقا على عقد اجتماع في لبنان يحضره الرئيسان ورجال حكومتيهما(79).‏

                      وعقدت الحكومتان اجتماعاً مشتركاً في شتورة في 19/5/1945 وقد صدر بعد الاجتماع ودراسة الموقف البيان التالي :‏

                      " اجتمع في شتورا رئيس الوزارة السورية بالوكالة ووزير خارجيتها ورئيس الوزارة اللبنانية ووزير خارجيتها في 19/5/1945 للتداول في الموقف السياسي الناشىء عن إرسال فرنسا جنوداً للبنان وسورية دون الحصول على موافقة الدولتين، على الرغم من إبلاغ حكومتيهما ممثل فرنسا من قبل وجوب الحصول على موافقتهما قبل استقدام الجنود. وكذلك عن تقديم ممثل فرنسا مذكرة بمقترحات لتكون أساساً للمفاوضة بين الجانب الفرنسي والجانبين السوري واللبناني.‏

                      " وقد رأى ممثلو الحكومتين السورية واللبنانية أن في إنزال الجنود على الشكل الذي تم انتقاصاً لسيادة البلدين. وأن المذكرة تتضمن مقترحات تنم عن روح لاتتفق واستقلال سورية ولبنان. لذلك اتفق الجانبان السوري واللبناني على عدم الدخول في المفاوضة مع الجانب الفرنسي وإلقاء جميع التبعات التي يمكن أن تنجم عن هذا الموقف على عاتق الحكومة الفرنسية. كما قررا توحيد الجهود والمساعي للدفاع عن سيادة البلدين واستقلالهما"(80).‏

                      وهكذا رفضت الحكومتان الاستمرار في المفاوضات في جو من التوتر والتهديد المكشوف. إذ كما قال ونستون تشرشل : " كانت المصفحات الفرنسية وسيارات النقل المحملة بالجنود تجوب شوارع حلب ودمشق وتواصل أعمال الدورية. وكانت الطائرات الفرنسية تحلق على علو منخفض فوق المساجد في أوقات الصلاة. وكانت المدافع الرشاشة تنصب بشكل ظاهر فوق سطوح المباني(81).‏

                      وكانت ردة الفعل السورية شديدة في الأوساط الرسمية والشعبية. فقد اجتمع المجلس النيابي السوري بين 20و26/5/1945 ورفض رغبة فرنسا في الحصول على مركز ممتاز. وكذلك فعل المجلس النيابي اللبناني(83).‏

                      وأضربت سورية إضراباً عاماً احتجاجاً على مطالب فرنسا وعلى إرسال التعزيزات العسكرية. وكانت مقالات الصحف ومظاهرات شعبية داعية إلى استلام الجيش. وبدأت الاصطدامات بين الفرنسيين والسوريين في مختلف المدن بين 19و27/5/1945.‏

                      فقد أرادت السلطة الفرنسية إرهاب السوريين لإجبارهم على قبول مطالبها، فوضعت دباباتها ومدافعها في الشوارع. وقد حدث اشتباك حول محطة حماة ووقعت اصطدامات في حلب(84)، وفي حمص قام عدد من الشباب بإطلاق النار على بعض المواقع العسكرية.‏

                      وفي 22/5/1945 أصدر الجنرال (اوليفا روجيه Oliva Roget) (وكان ضابط استخبارات في دمشق باسم الكابتن اوليفا، وأصبح قائد الجيش الفرنسي بدمشق) بلاغاً مفصلاً بالاجراءات العسكرية المقرر اتخاذها ضد ثورة الشعب. وأشار إلى استخدام قوات المتطوعة من الشركس وغيرهم من الأقليات. وأشار إلى أنه لايمكن الاطمئنان إلى المتطوعة العرب(85).‏

                      وماكادت تنتشر في أقطار العالم وسائل العنف التي لجأ إليها الفرنسيون لنيل امتيازات من السوريين حتى عم الاستنكار لها. فقد أذاعت الحكومة البريطانية مذكرة في27/5/1945 أنها تنظر باهتمام إلى حالة القلق التي تنتشر في الأيام الأخيرة في سورية ولبنان ولاسيما في سورية، وقدمت الحكومة الأمريكية مذكرة إلى الحكومة الفرنسية في 28/5/1945 أكدت فيها أن الناس في الولايات المتحدة وغيرها يشعرون بأن فرنسا تستعين بالقوة لتنال من سورية ولبنان امتيازات سياسية وثقافية .‏

                      أما الحكومة الفرنسية فقد نشرت في 28/5/1945 مذكرة قالت فيها : " إنها تتابع باهتمام شديد الأحداث التي وقعت في سورية ولبنان منذ بضعة أسابيع، التي اتخذ مسببوها حجة حركات الجنود الفرنسية بعد أن أصبح عددها ضئيل جداً. على أنه لم تكن الغاية من هذه الحركات إلا التبديل والتثبيت وليس لدينا استعدادات أكثر من قبل في هذه الأرجاء. والحكومة الفرنسية تأسف أن الحكومة السورية والحكومة اللبنانية اغتنمتا هذه الفرصة لرفض المفاوضات التي كان الجنرال بينه قد عهد إليه بها للوصول إلى اتفاق عام ".‏

                      وأشارت المذكرة إلى أن فرنسا هي التي أعلنت استقلال سورية ولبنان وهي التي تقترح أن تنظم الشروط التي تضمن ذلك نهائياً بالنسبة لهما. وأخيراً هي التي أقامت البرهان على إخلاصها بحمل الأمم المتحدة على دعوة سورية ولبنان للاشتراك في مؤتمر سان فرانسيسكو(86).‏

                      وفي مساء 29/5/1945 بدأ الجنود الفرنسيون بإطلاق النار على السكان في دمشق، كما أن الطائرات أخذت تطلق قذائفها على المدينة فأصابت إحداها قسم السجون في القلعة فهدمته وقتلت عدداً كبيراً من المسجونين. وكان من أشنع مافعله جنود فرنسا محاصرة البرلمان وإطلاق الرشاشات والقنابل والمدفعية عليه وقتل حاميته والتمثيل بأفرادها. وكان ذلك في وقت لم تعقد فيه جلسة كانت مقررة. ثم هاجمت المؤسـسات الرسمية. واستمر إطلاق النار في سائر المدن السورية، حمص وحماة وحلب وغيرها بوحشية لم تعرف البلاد لها مثيلاً(87).‏

                      وكانت الأنباء ترد على وزارة الخارجية البريطانية من الشام بأن الحالة تزداد فيها حرجاً وشدة. والبرقيات التي ترسل من دمشق أو بيروت تصل متأخرة ومنها برقية أرسلتها الحكومة السورية إلى بعثاتها في لندن وباريس وواشنطن وإلى وفدها في سان فرانسيسكو، وقد جاء فيها أن دمشق وحمص وحماة وحلب ظلت تنسفها الطائرات والمدافع والدبابات، فعظم الدمار وذهبت مئات الضحايا، وأطلقت القنابل على البرلمان، والنيران تشتعل في كل مكان فاحتجوا بشدة، وكان مصدر البرقية بيروت.‏

                      ولما لم يعد بإمكان الحكومة السورية السيطرة على الموقف طلبت من بريطانيا التدخل وإعادة الأمن والنظام.‏

                      وعلى إثر برقية تلقاها وزير سورية المفوض في لندن (نجيب الأرمنازي) من الحكومة السورية في 29/5/1945 أرسل مذكرة إلى وزارة الخارجية البريطانية وجه فيها أنظارها إلى حقيقة الوضع في تلك البلاد وأن الحالة فيها أصبحت على غاية الخطر، ولامناص من تدخل الحكومة البريطانية لحمل الفرنسيين على الانسحاب حالاً من المدن وتسليم الكتائب الخاصة للحكومة السورية، فأجابته وزارة الخارجية البريطانية في 30/5/1945 أن المستر ايدن نفسه سيجيبه بأقرب وقت(88).‏

                      ولما تفاقم الأمر في 29،30/5/1945 صرح ايدن (إن الموقف خطير في سورية ... وليس من عذر يجعل الحوادث تتطور في سورية ولبنان حتى تعرقل سير الحرب في الشرق الأقصى. وقد أردنا أن نظهر لحلفائنا الفرنسيين أننا كنا مستعدين لسحب جنودنا حتى يتم بينهم وبين سورية ولبنان اتفاق، ونحن نصرح بأننا لانريد أن نحل محل فرنسا في المشرق".‏

                      وفي 31/5/1945 أعلن وزير الخارجية البريطانية ايدن أن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وجه رسالة إلى الجنرال ديغول قال فيها : "إننا بسبب الموقف الخطير الذي حدث في سورية بين جنودكم ودول المشرق، والمعارك العنيفة الدامية التي جرى اشتباكها، أعطينا الأوامر إلى القائد العام في الشرق الأوسط، مع بالغ الأسف، أن يتدخل حتى يحول دون استمرار سفك الدماء، حرصاً على صيانة الأمن في الشرق الأوسط الذي هو منطقة المواصلات لحرب اليابان. وحرصاً على تجنب الاشتباك بين القوى البريطانية والقوى الفرنسية ندعوكم حالاً لتأمروا الجنود الفرنسية بوقف إطلاق النار والانسحاب إلى ثكناتها. ومتى أوقف إطلاق النار وأعيد النظام فنحن مستعدون لمناقشة ثلاثية في لندن للوصول إلى تسوية سلمية تشترك الحكومتان السورية واللبنانية في مذكراتها " .‏

                      وأضاف ايدن أن الرئيس والحكومة السورية بعثا إلى الحكومة البريطانية بدعوة يذكرانها بأنها كانت قد ضمنت استقلال سورية ولبنان، طالبين إليها أن تتدخل حتى تجري المفاوضات بين فرنسا وسورية ولبنان في جو حر لاإكراه فيه ولاضغط.‏

                      وقد توقف إطلاق النار بعد ظهر 31/5/1945(89). وقدر السوريون ضحابا هذه الأحداث بنحو 500 قتيل و1400 جريح. ولقد كان هذا الإنذار البريطاني بفوق بكثير في أسلوبه وفي مضمونه إنذار تشرين الثاني 1943 الذي وجه بمناسبة الصدام في لبنان(90).‏

                      وفي يوم الجمعة 1/6/1945، قام الجنرال (باجيت) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط برفقة مستر (الن شو) وزير بريطانيا المفوض في سورية، والجنرال (بيلون) قائد سلاح الجو، بزيارة الرئيس القوتلي المريض في داره، وأبلغوه قرار رئيس الوزارة البريطانية للتدخل العسكري لوقف القتال وحقن الدماء.‏

                      وصدرت الأوامر لقطعات الجيش البريطاني وفرقه الميكانيكية باحتلال المدن الرئيسية والمراكز الفرنسية. وجرى ذلك واستقر الأمن وحظر على أي فرنسي ضابطاً كان أم جندياً الخروج من مكان إقامته إلا تحت حراسة بريطانية وفي حالة الضرورة القصوى(91). فقد قامت القوات البريطانية بحماية انسحاب الجنود الفرنسيين من نقمة الشعب.‏

                      وفي لندن أعلن المستر ايدن في 1/6/1945 أن القائد الفرنسي أبلغ القائد البريطاني أنه تلقى الأوامر من باريس أن لايعارض قيادة الشرق الأوسط.‏

                      واندفع الفرنسيون بعد ذلك ينتقدون البريطانيين أشد انتقاد، ويقولون إنهم أرسلوا الأوامر لوقف الخصومات قبل وصول رسالة تشرشل (الإنذار). وألقى الجنرال ديغول في 2/6/1945 خطبة في المجلس النيابي استعرض فيها حقوق فرنسا وخططها. ودافع عن أساليبها ومناهجها. كما أعلن المسيو بول بونكور رئيس الوفد الفرنسي في الأمم المتحدة، بأن فرنسا باقية الآن ومسؤولة عن النظام والقانون في الأراضي السورية واللبنانية، تبعاً للتعهدات الدولية التي لاتنقض من جانب واحد. وأمل الوصول إلى تسوية مرضية. وأنكر الوفد السوري مدعيات الفرنسيين في سان فرانسيسكو وقام ببث الدعوة لقضية البلاد السورية في الصحف وأندية المؤتمر(92).‏

                      وعلى كل حال فإنه يمكن الاستنتاج من هذه الأحداث أن الحكومتين السورية واللبنانية باتتا مقتنعتين كل الاقتناع بأنهما لاتستطيعان استئناف المفاوضات مع فرنسا طالما أن قواتها ترابط في البلدين. وكان الدرس الذي تعلمته الجمهوريتان في تجاربهما مع فرنسا طوال السنوات الأربع السابقة هو أن (لامفاوضات قبل الجلاء). ولم يلبث هذا الشعار يتردد على ألسنة عدد من الدول العربية الأخرى.. ففي 7/6/1945 تبنى مجلس جامعة الدول العربية القرار: " إن المجلس يؤيد مطالبة سورية ولبنان بجلاء القوات الفرنسية فوراً عن أراضي الجمهوريتين(93).‏

                      والأمر الثاني الذي تعلمته الحكومتان هو أنه لم تكونا ترغبان في انسحاب القوات البريطانية قبل القوات الفرنسية في حالة بدء الجلاء، إذ من الذي يستطيع أن يمنع القوات الفرنسية من بدء قتال جديد؟. إذن لابد وأن تقوم القوات الفرنسية والقوات البريطانية بالجلاء الواحدة بعد الأخرى على التوالي(94).‏

                      وفي 24/6/1945 قدم المسيول بول بونكور إلى رئيس المؤتمر بسان فرانسيسكو مذكرة قال فيها : إن فرنسا واثقة بميثاق الأمم المتحدة، وطلب تأليف لجنة من الدول التي لم يكن لها علاقة بحوادث الشرق، ولامصلحة مباشرة أو غير مباشرة، لتقوم بتحقيق في مصدر الأحداث التي جرت في سورية ولبنان أو المساعدة على الوصول إلى تسوية ودية للخلاف. وأعاد طلبه مرة ثانية للقيام بتحقيق عادل(95).‏

                      ثم رأت فرنسا بعد الكارثة التي حلت بهيبتها في حوادث 29 أيار 1945 أنها مضطرة أن تزيل العقبة التي وقعت في سبيل المفاوضات علها تستطيع أن تظفر ببعض الامتيازات من الحكومتين السورية واللبنانية.‏

                      ولقد رفضت الحكومة السورية كل اتصال بالفرنسيين بعد حوادث العدوان. وجاء الكونت استروروغ يحمل مقترحات جديدة تتعلق بتسليم القطع الخاصة وانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية معاً. فلم يستطع مفاوضةدمشق وإنما استطاع أن يبحث مع اللبنانيين(96).‏

                      وفي 8/7/1945 جرت مفاوضات في لبنان حول الوحدات العسكرية المحلية وأجيبت الدولتان السورية واللبنانية إلى ماأرادتاه في إنشاء جيش وطني، وأعلنت الحكومة الفرنسية المؤقتة أنها سعيدة بأن ترى سورية ولبنان متمتعتين بجميع خصائص السيادة لتقوما بالدور الذي يعود إليهما في مجموعة الأمم المتحدة، ولذلك حولت إليهما هذه الوحدات حتى يتم نقلهما في مدة لاتتجاوز (45) يوماً(97).‏

                      وقد سلمت الفرق الخاصة إلى الحكومة اللبنانية بأسلحتها وذخائرها في 1/8/1945 وهو اليوم الذي يحتفل فيه لبنان بعيد الجيش(988). وتسلمت سورية القطعات الخاصة والمصالح الأخرى قبل 14/8/1945، وأصبح تحت إمرتها جيش وبدأ تشكيل الجيش السوري الوطني. وجرت مفاوضات العسكريين في باريس بين 2-6/3/1946 فحدد ميعاد الجلاء بالنسبة لسورية في أواخر نيسان 1946. وانسحبت جيوش فرنسا من سورية بعد العدوان مكرهة بصورة لاتشرفها، ولكنها تجمعت في أراضي لبنان، بينما لازالت الجيوش الانكليزية مرابطة في الأراضي السورية. وكان يخشى عودة الفرنسيين من المناطق اللبنانية المجاورة إذا سنحت الفرصة. ولذلك لم تكن سورية لتطمئن على استقلالها مالم يغادر آخر جندي فرنسي أرض لبنان.‏

                      وهكذا خرج الفرنسيون من البلاد السورية تحت ضغط الانكليز. وانتقل الجيش السوري بصورة طبيعية إلى الحكومة السورية(99). ولو أنهم تنازلوا عن القوات السورية وسلموها من قبل لما حصلوا على أية امتيازات أيضاً.‏

                      ولقد تركت فرنسا وراءها في سورية ولبنان دماء كثيرة ومرارة في النفوس الأمر الذي دفع جميع الدول العربية أن تدينها بالعدوان لأنها أحرقت دمشق التاريخية(100).‏

                      8- وحـدة سـورية ولبنان في طلب الجلاء :‏

                      بعد انتهاء عدوان أيار 1945 وتسليم فرنسا الفرق السورية واللبنانية إلى الحكومتين. بدأت مرحلة المطالبة لجلاء القوات الأجنبية.‏

                      فلقد استخلص السوريون من نهاية الحرب العالمية الثانية (في أوروبا في 8/5 ومع اليابان في 14/8/1945) نتيجة أخرى مضادة لموقف فرنسا، وهو أن الظروف الجديدة تسمح لهم بالمطالبة بالاستقلال التام والجلاء وهو ماكانوا يسكتون عليه طالما بقي الصراع الدولي قائماً. وصارت الفرصة سانحة للمطالبة بالجلاء دون الاضطرار إلى عقد معاهدة غير متكافئة كما حدث في البلدان العربية الأخرى كالعراق ومصر. ومن ثم الوصول إلى الاستقلال التام غير المقيد بمعاهدة(101).‏

                      وأثناء تقديم رئيس الوزراء فارس الخوري في 14/8/1945 إلى المجلس النيابي السوري، بياناً عن رحلته إلى مؤتمر سان فرنسيسكو، أشار إلى استلام الجيش السوري والمصالح الأخرى وبدء الاتفاق على الجلاء العسكري للقوات الأجنبية. وفي جلسة 20/8/1945 قدم بياناً عن خطة الوزارة في سياسة الاستقلال والسياسة الخارجية والتمثيل السياسي والجيش. واعترض عدد كبير من النواب على مشروع قانون استلام الجيش السوري. وفي بيانه بجلسة 28/8/1945 تحدث عن استكمال الاستقلال والتمثيل الخارجي والجيش والمصالح المشتركة. وقد أصر أحد النواب على معرفة المدة التي تحددها الوزارة لجلاء آخر جندي أجنبي عن البلاد. فلم يستطع تحديد موعد(102).‏

                      لقد باتت الحكومتان السورية واللبنانية مقتنعتان كل الاقتناع بأنهما لاتستطيعان استئناف المفاوضات مع فرنسا طالما أن قواتها ترابط في البلدين. وكان الدرس الذي تعلمته الجمهوريتان من تجاربهما مع فرنسا طوال السنوات الأربع السابقة هو أن "لامفاوضات قبل الجلاء" ولم يلبث هذا الشعار يتردد على ألسنة عدد من الدول العربية الأخرى.‏

                      كما أن الحكومتين السورية واللبنانية لم تكونا ترغبان في انسحاب القوات البريطانية قبل القوات الفرنسية في حالة بدء الجلاء، إذ من الذي يستطيع عندئذ أن يمنع القوات الفرنسية من بدء قتال جديد، إذن لابد وأن تقوم القوات الفرنسية والقوات البريطانية بالجلاء الواحدة بعد الأخرى على التوالي(103).‏

                      ولكن الحكومة الفرنسية لم تيأس من الاحتفاظ ببعض مصالحها في المشرق أو بإيجاد منافذ لسياستها رغم مالقيته على إثر حوادث أيار 1945 (وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بإنتهاء الحرب مع اليابان في 14/8/1945)، فسنحت الفرصة للمسيو بيدو (Bidault) وزير خارجية الحكومة الفرنسية المؤقتة أن يتحدث مع المستر بيفن في أثناء انعقاد اجتماع وزراء خارجية الدول الخمس في لندن في شهر أيلول 1945. ثم استمرت المذكرات بالطرق الدبلوماسية(104). فلقد كان الفرنسيون يعارضون إخراج قضية سورية ولبنان إلى المجال الدولي، ثم تحولوا بعد الضربة التي حلت بهيبتهم في أيار 1945 إلى فكرة تدويل القضية، وعرض بيدو، أن يطرح موضوع علاقات الدول العربية المختلفة بكل من بريطانيا وفرنسا على الدول الخمس الكبرى أو الأمم المتحدة. ورفضت الولايات المتحدة الفكرة بحجة أن هذا الموضوع معقد لاتتحمله المنظمة الدولية الناشئة(105).‏

                      ولقد اتسع نطاق الخلاف فأصبح يشمل كل من بريطانيا وفرنسا الموجودتان في سورية ولبنان كاحتلال ثنائي، فكانت بريطانيا توافق على الجلاء شريطة أن تقام هيئة دفاع مشترك للشرق الأوسط، وكأن بريطانيا أرادت هي الأخرى أن تساوم على استقلال سورية ولبنان بإقامة هذه الهيئة التي كان من شأنها أن تؤكد النفوذ البريطاني في الشرق العربي .‏

                      وقد أوضحت بريطانيا سياستها الجديدة في تصريح 13/12/1945 الذي كان يمثل اتفاقاً بين فرنسا وبريطانيا (عسكري وسياسي).. وقد ورد بالبلاغ أن الاتفاق مستلهم من الرغبة في إزالة كل خلاف بين الدولتين إزالة مطلقة، وتجنب كل مايسيء إلى علائقهما التي تريد الدولتان أن تكون أكثر وثوقاً، في حدود التعاون الدولي، والرخاء الاقتصادي والسلامة لشعوب الشرق الأوسط .‏

                      وقد رأت الدولتان حباً بضمان ممارسة لبنان وسورية الاستقلال الذي أعلنته فرنسا في سنة 1941 وثبت باشتراك الدولتين في الأمم المتحدة، وتبعاً للنتائج الطبيعية لانتهاء الحرب وعلاقة ذلك بأوضاع الحلفاء العسكرية في الشرق، أن تدرسا شروط تنظيم قواهما العسكرية وانسحابها في هذه المنطقة.‏

                      وتحقيقاً لهذه الغاية سيجتمع في بيروت الخبراء العسكريون البريطانيون والفرنسيون في 21/12/1945 لتحديد وقت قريب جداً لاتخاذ تدابير الجلاء الأولى تدريجياً وتقترن بعمليات تجميع للقوات. ونص الاتفاق على شرط الاحتفاظ بقوة كافية في المشرق لضمان السلامة العامة حتى تقر الأمم المتحدة تنظيم الأمن المشترك في هذه المنطقة. وبانتظار تنفيذ هذه الترتيبات تحتفظ الحكومة الفرنسية بقوات تتجمع في لبنان(106).‏

                      وبلغت وزارة الخارجية البريطانية الاتفاق إلى الحكومتين السورية واللبنانية، واستدعت أيضاً الوزير اللبناني المفوض في لندن (كميل شمعون) والوزير السوري المفوض (نجيب الأرمنازي)، فكان جوابهما استنكاراً، وعد الاتفاق شبيهاً بالاتفاقات السابقة التي عقدتها فرنسا وبريطانيا كاتفاق 1904 واتفاق 1919 اللذين لم يكونا في مصلحة البلاد الشرقية .‏

                      ولم يكن لهذا الاتفاق وقع طيب لددى الحكومتين السورية واللبنانية وعارضتاه وانتقدتاه لسببين : أولهما أن الاتفاق جعل الأمن في هاتين الدولتين اللتين تتمتعان بالسيادة منوطاً بدول خارجية. وثانيهما أن الاتفاق عقد بدون اشتراك الدولتين اللتين يعنيهما الأمر مباشرة. وأما تشجيع الرخاء الاقتصادي فهو يعني السيطرة الاقتصادية وايجاد مناطق نفوذ. وقد تظاهر الطلاب الوطنيون في دمشق وحلب وبيروت ضد هذا الاتفاق(107).‏

                      على كل حال فإن هذا الاتفاق لم يكن يعني وجود اتفاق تام بين الدولتين المحتلتين، فقد فهمت فرنسا أن بريطانيا ستنسحب من كلا القطرين بينما تبقى القوات الفرنسية وحدها في لبنان. وأعلن الانجليز أنهم لاينوون الانسحاب وحدهم في أي حال من الأحوال. ومرة ثانية استفادت كل من سورية ولبنان من هذا الخلاف(108). ففي 15/12/1945 أجابت الحكومة البريطانية بالموافقة على طلب الحكومتين السورية واللبنانية في بقاء الجنود البريطانية مابقيت الجنود الفرنسية(109).‏

                      وفي 26/12/1945 أصدرت المفوضية اللبنانية في باريس بياناً قالت فيه : إن لبنان يطالب بالانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية المرابطة في أراضيه على التوالي.. ويرفض أن يكون رأس جسر موجه ضد الأقطار العربية. ولذلك طوي أمر هذا الاتفاق ولم يعش إلا أسابيع، وعجز الخبراء العسكريون البريطانيون والفرنسيون أن يتفقوا بشأنه بعد أن اجتمعوا في بيروت لتنفيذ شروطه، وذلك بسبب تباين وجوه الرأي فيه عند الفريقين(110).‏

                      وفي 31/12/1945 ازدادت حدة التوتر في لبنان بسبب إنزال (210) جندي فرنسي في بيروت بحجة أنهم جاؤوا ليحلوا محل غيرهم. وقد أثارت هذه العملية الشكوك وذكرت بالماضي وبالأحداث التي سببها وصول قوات فرنسية إلى بيروت والتي أدت إلى نشوب أزمة شهر أيار الماضي. وقد رافق نزول هؤلاء الجنود الفرنسيين وصول الجنرال (اوليفاروجيه) إلى مطار المزة قرب دمشق، وقد كان مسؤولاً عن قصف العاصمة السورية أثناء تلك الأزمة. وأوضح فيما بعد أن بيروت كانت وجهته حيث يريد أن يجمع حوائجه وأمتعته الشخصية التي اضطر إلى تركها عندما طلب منه أن يغادر البلاد في شهر حزيران السابق.‏

                      غير أن الشائعات التي أثارتها هذه المصادفة، وماقيل من أن القوات التي وصلت حديثاً هي قوات سنغالية، دفعت الطلاب الوطنيين وغيرهم إلى القيام بإضراب عام في كل من دمشق وحلب وبيروت(111).‏

                      9- انتســاب سورية ولبنان إلى الأمم المتحدة :‏

                      في مؤتمر يالطا بالقرم (4-11/2/1945) بين روزفلت وستالين وتشرشل، الذي تم فيه الاتفاق على عقد مؤتمر للأمم المتحدة في سان فرنسيسكو في 25/4/1945، فقد اشترط للاشتراك في المؤتمر أن يقتصر على الدول التي تكون قد أعلنت الحرب على دول المحور قبل 1/3/1945. وأحاط الجنرال ادوارد سبيرز سفير المملكة المتحدة لبنان علماً بذلك، وإبلاغ سورية أيضاً. وكانت الحرب على وشك الانقضاء في الغرب. غير أن اليابان كان من المنتظر أن تقاوم طويلاً، ولابد حينئذ من استمرار المجهود الحربي للدول المتحالفة. ولكنها بعد أن سلمت ألمانيا في أيار 1945، وأصبحت وحدها في معترك القتال، واشتدت عليها وطأة الحرب وأوقعت فيها الذعر القنبلتان الذريتان اللتان فتكا فيها فتكاً ذريعاً، لم تجد مناصاً من التسليم بدون قيد أو شرط بعد أن حاولت التخلص من ذلك.‏

                      وجرى الاتفاق مع حكومة لبنان أن يصير إعلان الحرب في وقت واحد فوافق المجلس النيابي السوري في 26/2/1945 على إعلان الحرب على دول المحور. ولم يكن هذا الإعلان إلا شكلياً. وكذلك فعلت الحكومة اللبنانية أيضاً إذ طلبت من المجلس النيابي إعلان الحرب على المانيا واليابان فوافق وأصدر قراراً بهذا الشأن في 27/2/1945 يقول : " إن لبنان يعتبر في حالة حرب مع الرايخ الألماني والامبراطورية اليابانية "(112).‏

                      وفي 25/3/1945 وجهت الولايات المتحدة أصالة عن نفسها ونيابة عن بريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين دعوة إلى الدول المحاربة في صف الحلفاء لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو. ولم تدع سورية ولبنان إليه، فقامت الحكومتان بالمساعي الدبلوماسية المشتركة حتى أن فرنسا نفسها رددت القول بأنها طلبت إشراك سورية ولبنان في المؤتمر، فلقد ذهب وزيرا سورية ولبنان المفوضين في لندن معاً (الدكتور نجيب الأرمنازي والسيد كميل شمعون) إلى وزارة الخارجية البريطانية وقدما مذكرة إلى السر الكسندر كادوغان سكرتير وزارة الخارجية الدائم يطلبان فيه ذلك. وقد أوضحا أن سورية ولبنان أعلنتا الحرب على ألمانيا قبل أول آذار من هذه السنة، وأنهما وافقتا على تصريحات الأمم المتحدة. وقد قبلت الحكومة البريطانية أن تفاوض الولايات المتحدة بالأمر. ولذا فقد وجهت الدعوة إلى سورية ولبنان لحضور المؤتمر في أواخر آذار من وزارة الخارجية الأمريكية. وتلقت الحكومة اللبنانية الدعوة في 31/3/1945. وكان لبنان يأمل من انتسابه إلى الأمم المتحدة العمل على تعزيز وتثبيت استقلاله(113).‏

                      وسافر الوفد السوري مع الوفد اللبناني من مطار بيروت في 23/4/1945. وبدأت المباحثات في 25/4/1946 وانتهت في 26/6/1945.‏

                      وكان وفد لبنان إلى مؤتمر سان فرانسيسكو يعني (كالوفد السوري) بتأمين ظروف مواتية لتحقيق جلاء قوات الاحتلال الفرنسية. ولذلك أيد الاقتراح المصري الخاص بإضافة فقرة إلى الفصل 11 من مقترحات (دمبرتون اوكس 20/8 - 7/10/1944 التي تقرر فيها إنشاء هيئة الأمم المتحدة) وهي : "إن الدول الأعضاء في المنظمة تتعهد باحترام سلامة أراضي جميع الدول الأعضاء في المنظمة واحترام استقلالها السياسي". وكانت الغاية من إدخال هذا التعديل تأمين انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من سورية ولبنان وغيرها من البلاد العربية. ورفض هذا التعديل .‏

                      كما اعترض وفد لبنان وسائر الوفود العربية على فقرة خاصة بنظام الوصاية الدولية وفشل اقتراح التعديل. كما فشل لبنان والدول العربية الأخرى في تعزيز سلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة مقابل مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الدول الكبرى. كما فشل لبنان والدول العربية عند بحث البنود المتعلقة بنظام الوصاية الدولية، في إجراء تعديل على إحدى الفقرات لضمان حقوق أي بلد مالم يوفر أي تأكيد أو تطمين بأن قضية فلسطين وغيرها من القضايا العربية ستحل بصورة عادلة(114).‏

                      ومن الفوائد التي نجمت عن اشتراك سورية ولبنان في المؤتمر أن المستر (ستاسن) ممثل الولايات المتحدة صرح في اجتماع الدول الخمس العظمى أن الدول الممثلة في المؤتمر يجب ألا تدخل في نظام الوصاية أو مايشابهه. واتخذ اللورد كرامبون (اللورد سلسبري فيما بعد) موقفاً مماثلاً في تصريح له. ولما قوبل بيان المستر (ستاسن) بصمت في اجتماع الدول الخمس العظمى، أعلن أنه كان يقصد بما أدلى به ايضاح وجهة نظر أمريكية في شأن سورية ولبنان(115).‏

                      ولم يمارس مجلس الوصاية مهمته إلا في آذار 1947 ولم يكن له أي وظيفة بالنسبة إلى الانتدابات التي لم تكن خاضعة لاتفاقية الوصاية.‏

                      ووقع الوفد السوري واللبناني ميثاق الأمم المتحدة في 26/6/1945. وعاد الوفدان واستقبل الوفد السوري في بيروت استقبالاً رسمياً من قبل حكومة لبنان.‏

                      وفي أثناء مناقشة المجلس النيابي اللبناني لإبرام الميثاق، تباينت الآراء حوله حيث رأت فيه لجنة الشؤون الخارجية محاولة للسيطرة من قبل الدول الكبرى الخمس على العالم. ولكنهم ركزوا على أن لبنان كسب الاعتراف باستقلاله من قبل هيئة الأمم المتحدة البديلة لعصبة الأمم، إذ أنهت المادة (78) من الميثاق الانتداب الفرنسي وادعاءات فرنسا(116). وقد تم حل عصبة الأمم رسمياً في 18/4/1946.‏

                      10- شكوى سورية ولبنان إلى الأمم المتحدة من أجل الجلاء :‏

                      ولما كان اتفاق فرنسا وبريطانيا في 13/12/1945 قد أثار الحذر والخوف في سورية ولبنان، وكان أمر الجلاء الذي ينبغي تقريره سريعاً معلقاً في بعض نواحيه بحسب هذا الاتفاق على ماتقرر هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فلا مناص للدولتين من الرجوع إليهما بحسب المادة(35) وغيرها حتى يبت في الموضوع بصورة تنطبق على الحق والعدل، وتثبت احترام المبادىء التي سجلها الميثاق(117).‏

                      ففي 28/12/1945 أعلن رئيس وزراء لبنان سامي الصلح أن وفد لبنان إلى الجمعية العامـــة للأمم المتحــــدة التي ســـتعقد اجتماعاتهــــا في لنــــدن في شهر كانـــون الثانـــي 14/1-18/2/46، قد خول السلطة لإثارة مسألة الاحتلال البريطاني الفرنسي لبلاده.‏

                      وفي 10/1/1946 سلمت الحكومتان السورية واللبنانية مذكرة مشتركة إلى كل من بريطانيا وفرنسا تطالبان فيها بسحب قواتهما بسرعة وبصورة تامة. وكان الاجتماع الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة سينعقد في لندن 10/1/1946 .‏

                      وفي 19/1/1946 أخبر فارس الخوري ممثل سورية لدى الجمعية العامة أن الوفد السوري يكتفي في الوقت الحاضر بمجرد لفت انتباه الجمعية إلى هذا الأمر ويأمل الوفد أن يحل انسحاب مبكر للقوات الأجنبية .‏

                      وفي 4/2/1946 وجه رئيسا الوفدين السوري واللبناني رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة استنكرت إبقاء القوات الأجنبية بعد انتهاء الحرب واتفاق 13/12/45 ويعرضان النزاع على مجلس الأمن لإقرار انسحاب كامل وعاجل للقوات الأجنبية من الأراضي السورية واللبنانية(113). وأثناء الاجتماع الأول للجمعية العامة، جرت مفاوضات واتصالات (لبنانية فرنسية) و (فرنسية بريطانية) وتقرر أن يعقد اجتماع في وزارة الخارجية البريطانية في 13/2/1946 حضره المستر بيفن والكسندر كادوغان ومدير قسم الشرق الأوسط ورئيس الوفد السوري فارس الخوري وكميل شمعون وزير لبنان المفوض في لندن ووزير سورية المفوض نجيب الأرمنازي.. وقد بحث عن إمكانية الاتفاق بين السوريين واللبنانيين مع الفرنسيين على موضوع الجلاء وتحديد الزمن اللازم له. وانفض الاجتماع بانتظار تبليغ سورية ولبنان رأيهما النهائي إلى بريطانيا ليحمل إلى الفرنسيين. وفي نفس اليوم أبلغ السوريون واللبنانيون المبادىء الأساسية التي يوافقون عليها وهي الجلاء التام عن سورية ولبنان وأن لايكون معلقاً على أي قرار من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن ولاعلى أي شرط. وأبلغ البريطانيون السفير الفرنسي بذلك .‏

                      وفي اليوم التالي 14/2/1945 عقد اجتماع حضره أيضاً حميد فرنجية وزير الخارجية اللبناني ووزير الخارجية الفرنسية (بيدو) والسفير الفرنسي (ماسيغلي) والكونت استروروغ. وأصر الفرنسيون على اتفاق 13/12/45 ولم يتم اتفاق على الموضوع(119).‏

                      وبدأت مناقشات مجلس الأمن في 14/2/1945-16/2/1945 بشأن طلب سورية ولبنان جلاء القوات الأجنبية. وتحدث ممثلا سورية ولبنان فأكدا أن لاحاجة لوجود قوات أجنبية لانتهاء الحرب، وهذا ضد إرادة الشعبين والحكومتين. وعارضا اتفاق 13/12/45. ورد وزير الخارجية الفرنسي فذكر أن سياسة فرنسا السير بالدولتين نحو الاستقلال التام وطلب موافقة المجلس على اتفاق 13/12/45. وكذلك برر وزير الخارجية البريطاني عقد الاتفاق من أجل الأمن والسلام. فرد حميد فرنجية (بالفرنسية) وزير خارجية لبنان فقال : "إن الأمن الداخلي من شأن الحكومتين وحدهما. والأمن الدولي مضمون لأن الجمهوريتين محاطتين بدول صديقة عقدت فيما بينها ميثاق الجامعة العربية. إن اضطراب الأمن الوحيد الذي يمكن أن ينشأ في تلك المنطقة هو نشوب قتال بين القوات الفرنسية والأهالي. كما ذكر أنه لن يكون أي امتيازات بموجب الانتداب الذي مات. وتكلم الخوري بالانكليزية فاستعرض القضية. وأخيراً تم تقديم مشروع قرار أمريكي فاز بسبعة أصوات، وامتنعت فرنسا وبريطانيا عن التصويت، ونقضه المندوب السوفيتي لأن التعديلات التي طلبها لم تقبل وهي تطلب سحب القوات فوراً. ومع ذلك فقد أعلن وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا عن عزمهما على تنفيذ القرار كما ورد عند التصويت(120).‏

                      وهكذا تبين أن بريطانيا غير متمسكة بالاحتلال، وعلى ذلك تحرج مركز فرنسا واضطرت للخضوع إلى قرار أغلبية المجلس.‏

                      وبعد انتهاء مجلس الأمن من بحث قضية الجلاء، عقد اجتماع في وزارة الخارجية البريطانية ضم رئيسا الوفدين السوري واللبناني ووزيراهما المفوضين في لندن. فتحدث البريطانيون عن الجلاء المقرر وأنه أمر مفروغ منه. وبحث (بيفن) عن شؤون لبنان وظروفه المختلفة، وذكر شيئاً عن اتجاهات الفرنسيين وحرصهم على أن تجري المفاوضات في باريس، وهي ستكون مباحثات بين الخبراء العسكريين ومقتصرة على الجلاء ..‏

                      وقد تعرض بيفن إلى موضوع نصارى لبنان ومايدعيه الفرنسيون في ذلك، فكان جواب رئيسي الوفدين السوري واللبناني قاطعاً. فذكر الأول أن دعوى حماية النصارى مضرة بالنصارى أنفسهم لأنها تجعل الأكثرية الإسلامية تنظر إليهم نظرة عداء باعتبارهم سبباً لتدخل الأجنبي في ديارهم. عدا عن أن هذه الحجة إنما هي لتبرير بسط الحكم والسيطرة، إذ لايوجد في كثير من البلاد التي احتلها الفرنسيون في آسيا وافريقيا نصارى لحمايتهم، ولكن الاستعمار هو الغاية الحقيقية.. وقال رئيس الوفد اللبناني مؤكداً أن محاولة إثارة الخلاف بين المسلمين والنصارى إنما هو ناشىء عن رغبة التفريق بين الطائفتين لمقاومة الفكرة الوطنية. وكان رأي بيفن ان لاتدخل المعتقدات في الأغراض السياسية(121).‏

                      ثم عقد اجتماعان في 26 و27/2/1946 في المفوضية السورية بلندن، حضره بريطانيون وأكدوا أن بريطانيا مرتبطة بقرار مجلس الأمن الذي نص على الجلاء. وأنه يمكن توفير وسائل النقل البري والبحري للفرنسيين لتأمين سرعة الجلاء.‏

                      وعلى إثر ذلك قدم رئيسا الوفدين السوري واللبناني كتاباً إلى الأمم المتحدة أعلنا فيه تمسكهما بقرار مجلس الأمن وأنهما سيدخلان في مفاوضات مع فرنسا وبريطانية بشأن الجلاء.‏

                      وبدأت المحادثات العسكرية بين الفرنسيين والبريطانيين حول الانسحاب في باريس في 1/3/1946 وأسفرت في ظرف ثلاثة أيام عن اتفاق بشأن انسحاب قواتهما من سورية أولا على أن يبدأ الانسحاب في 11/3/1946 وينتهي في 30/4/1946(122).‏

                      ولكن أعلن في 9/3/1946 أن البريطانيين سوف يغادرون لبنان خلال مدة لاتتجاوز 30/6/1946 وإن قيادة القوات الفرنسية ومعظم الجنود الفرنسيين سينتقلون إلى طرابلس خلال مدة لاتتجاوز 31/8/1946. فقد صرح ناطق بلسان وزارة الخارجية الفرنسية بأن جلاءهم قد لاينتهي إلا في أول نيسان 1947 كحد أقصى. وشدد الناطق الفرنسي على القول، مع شرح مفصل وبكثير من الإسهاب، بأن التأخر لمدة سنة نتج كلياً عن تفاصيل فنية تتعلق بنقل الجنود والمعدات. وأقر الناطق الفرنسي بأنه ليس هناك في لبنان سوى (8000) جندي فرنسي. ولكنه قال أن ماعناه عندما تحدث عن التأخير هو المنشآت الكبيرة ... ولم ترض الحكومة اللبنانية (والحكومة السورية أيضاً رفضت ذلك). وبعد مزيد من المحادثات بين ممثل لبنان والفرنسيين تم الاتفاق على أن تغادر القوات الفرنسية لبنان في مدة لاتتجاوز 31/8/1946 على أن تبقى في البلاد بعثة من (30) ضابطاً فرنسياً و(300) فني للإشراف على جلاء ماتبقى من مواد وأعتدة في مدة لاتتجاوز 31/12/1946(123). وأن يرتدي أفرادها اللباس المدني.‏

                      وتم الجلاء عن سورية (الجنود والمدنيون) في الساعة العاشرة من يوم 15/4/1946، وأقرت سورية اليوم التالي 17/4 عيداً وطنياً واحتفلت به. وتم الجلاء عن لبنان في 31/12/1946. ولكن اعتبر يوم 22/11/1943 الذي أطلق فيه سراح رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمعتقلين الآخرين هو يوم الاستقلال في لبنان. وانتقل البريطانيون إلى فلسطين.‏

                      وهكذا استطاع السوريون واللبنانيون بفضل وحدة مواقفهما من الوصول إلى الاستقلال التام بجلاء الجنود الفرنسيين والبريطانيين وعدم ارتباطهما بأية معاهدة تمنح امتيازات أو قواعد عسكرية لأية دولة. واتهم الفرنسيون البريطانيين بأنهم هم الذين أخرجوهم.‏

                      ولكن مع زوال السيادة الأجنبية اختفى الرابط الذي كان يربط البلدين أحدهما بالآخر، أي وحدة السلطة السياسية وماكان يتبعها في مختلف المجالات.‏
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                        الفصل الرابع الوحدة السورية اللبنانية في معركة الاستقلال1943-1946

                        1- صدام الحكومة اللبنانية مع الفرنسيين في معركة تعديل الدستور‏

                        لم يزر رياض الصلح ووزارته المندوبية الفرنسية كما جرت عادة الوزراء، ونبذ هذا التقليد يقيناً منه أنه يسيء إلى السيادة الوطنية. وترك هذا الحادث انطباعاً مزعجاً لدى المندوب السامي الفرنسي.‏

                        وكان الفرنسيون هم الذين يحددون البيانات الوزارية، فلما استفسر (هللو) عما يتضمنه البيان أجيب : (تسعمعونه في المجلس). وأمام المجلس الملتئم في 7/ت1/1943 تلا رياض الصلح بيانه الوزاري (أو وثيقة الاستقلال كما دعاه) وبسط فيه مختلف القضايا التي تهم البلاد فأغضب الفرنسيين لما تضمنه من عبارات اعتبرها المندوب ماسة بالانتداب. مثل "فنحن في مطلع عهد يتطلب منا قلب أوضاع تأصلت مع الزمن"، و "لبنان ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب"، و "تعلمون أن في الدستور اللبناني مواداً لايتفق وجودها وقيام الاستقلال.......". كما تضمن البيان عزماً على اعتماد اللغة العربية لغة رسمية.‏

                        وبعد يومين من إلقاء البيان، تلقى الصلح في 9/10/1943 من السفير الفرنسي (اعتبرت الحكومة المندوب سفيراً كغيره). كتاباً يقول : "إن الحكومة اللبنانية تخالف صك الانتداب بإحلالها اللغة العربية محل الفرنسية وتخالف نصوص الدستور اللبناني، وإن صك الانتداب لايخول لبنان حق تعديل الدستور منفرداً". فأجابت الحكومة بصراحة وجرأة أنها تعتبر الانتداب غير قائم. فلقد زالت من الوجود عصبة الأمم ومعها الانتداب الفرنسي عملياً أثناء الحرب العالمية الثانية.‏

                        وبادر الصلح إلى إصدار قرار (13/ت1) بأن جميع المخابرات والمعاملات بين الدوائر الرسمية يجب أن تحرر من الآن فصاعداً باللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للبلاد". وتلا هذا القرار تعريب الأوامر العسكرية(1).‏

                        وكانت قد جرت مفاوضات بين الحكومة السورية والحكومة اللبنانية حول استلام المصالح المشتركة من الفرنسيين واستثمارها، وقدمت الحكومتان السورية واللبنانية مذكرة إلى المسيو هيللو الذي خلف الجنرال كاترو، فاستمهلهما عشرة أيام ريثما يتسنى له حمل هذه المذكرة إلى الجزائر عاصمة الدولة حينئذ(2) للتشاور مع حكومته. وقد طلب هللو مقابل ذلك معاهدة على أساس معاهدة 1936، وأقلقه أن يكون كل من لبنان وسورية قد طلبا منه تحويل المندوبية إلى سفارة(3).‏

                        ولتحقيق مضمون البيان الوزاري كان لابد من مواجهة مع سلطات الانتداب، وهذا ماتحقق من خلال تعديل الدستور. أما العلاقة مع البلاد العربية فقد تحددت ضمن إطار جامعة الدول العربية.‏

                        وأدرك الشيخ بشارة الخوري خطورة المرحلة الجديدة بعد إلقاء البيان الوزاري، وخشي أن تلجأ فرنسا إلى تعميق الانقسام المسيحي الإسلامي لتعطيل مسيرة الاستقلال، لاسيما أنها تعتمد على رصيدها التقليدي في حماية المسيحيين وعلى شخصية اميل اده الفاعلة في الأوساط المارونية. ولذلك "حرص على أن يكون تعاونه والكتائب كاملاً، فكان يشرك بيار الجميل في كثير مما يتخذ من مقررات ويحدد من مواقف"(4).‏

                        وانطلقت حكومة الصلح تخطو الخطوة الأولى في تثبيت دعائم الاستقلال فقررت تعديل الدستور، إلا أن هيللو تمسك بالانتداب ولم يقف مكتوف اليدين، فقابل رئيس الجمهورية في 22/10/1943 ولفت نظره إلى المقاطع التي وردت في البيان الوزاري وحذره من اتخاذ أي موقف يتناقض مع شرعية الانتداب.‏

                        إلا أن الحكومة اللبنانية لم تأبه للتهديد معتمدة على التأييد البريطاني والعربي وعلى الدعم الشعبي لاسيما وأنها تمارس حقاً من حقوق السيادة.‏

                        وذهب هللو إلى الجزائر للتشاور مع حكومته .... وفي 5/11/1943 جاء الجواب بصورة غير مباشرة على طلبات الحكومة السورية واللبنانية حول المصالح المشتركة وحول تعديل الدستور اللبناني، فإذا هو بيان صادر عن لجنة التحرير الفرنسية أذاعته المندوبية الفرنسية العامة في بيروت وقد جاء فيه : "إن السلطات الفرنسية لايمكنها الاعتراف بصحة أي تعديل يجري بدون موافقتها، تقيداً منها بالموجبات الدولية التي تعهدت بها فرنسا أمام عصبة الأمم". ومن المسلم به آنذاك أن عصبة الأمم لم يعد لها وجود عملياً(5).‏

                        وغضباً من طريقة نشر البيان الذي أذاعته لجنة التحرير الفرنسية انتفض رئيس الوزارة للرد على هذه الإهانة، ودعا رئيس الجمهورية لعقد مجلس الوزراء وأحال مشروع تعديل بعض بنود الدستور إلى المجلس النيابي، وأخفقت كل محاولات السلطة الانتدابية لتأخير انعقاد جلسة التعديل. وقبيل انعقاد الجلسة بساعات وردت من هيللو الموجود في القاهرة عائداً من الجزائر، رسالة إلى وكيله (ايف شاتينيو Chataigneau) ليبلغها إلى المسؤولين الللبنانيين بضرورة تأخير الجلسة لأنه يحمل مقترحات هامة، فكان جواب الحكومة أن تعديل الدستور مسألة داخلية ولاشأن للمقترحات الهامة التي يحملها هيللو بها(6).‏

                        وفي وسط جو من الحماس الوطني انعقدت جلسة المجلس النيابي بعد ظهر الاثنين 8/11/1943 فيما كان آخر وسيط يسلم رياض الصلح رسالة من (شاتينيو). وقرر المجلس تعديل الدستور بإلغائه أو تعديله عشرة مواد. وهي التي تنص على الانتداب أو تلك التي تحتفظ بصلاحيات وامتيازات للمفوض السامي. وانسحب من الجلسة نواب الكتلة الوطنية(7). ويذكر مسعود ضاهر أن النواب الذين كان جلهم من التقليديين ومن غير الراغبين أساساً في تحدي الفرنسيين، اضطروا إلى خوض المعركة الوطنية إلى جانب دعاة الاستقلال وزوال الانتداب الفرنسي(8).‏

                        وأبرز مانصت عليه المواد المعدلة جعل "لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لاتتجزأ وسيادة تامة". ضمن حدود ثابتة واعتبرت العربية "اللغة الوطنية الرسمية"، أما اللغة الفرنسية فتحدد الأحوال التي تستعمل بها بموجب قانون بعد أن كانت رسمية كالعربية فألغيت بذلك الازدواجية. وشددت مواد أخرى على الاستقلال في السياسة الخارجية، وعلى التوازن الطائفي. كما ألغيت كل المواد المتعلقة بالانتداب. وكان ذلك بالإجماع في غياب اميل اده.‏

                        وصيغت مادة وحيدة تفرض العلم اللبناني الجديد (الحالي)، بدلاً من العلم الذي رفعه (لابرو) فوق سراي بعبدا(9). ووقع رئيس الجمهورية على التعديل في نفس اليوم ونشر في الجريدة الرسمية في اليوم التالي.‏

                        اعتبر المندوب السامي، الذي وصل إلى بيروت في 9/11/1943، أن التعديلات الدستورية التي أقرها المجلس تشكل تحدياً لفرنسا فقرر العمل بسرعة. وتحسبت الحكومة اللبنانية لإجراءات انتقامية إلا أنها عادت فاطمأنت عندما أكد هللو للجنرال سبيرز "بأنه لن يقوم بأي عمل فيه مظهر من مظاهر العنف"(10).‏

                        وفي اليوم التالي لوصوله 10/11/1943 أصدر قراراً ألغى بموجبه تلك التعديلات كما حل المجلس النيابي وعلق الدستور وعين اميل اده رئيساً للدولة والحكومة. وفي فجر 11/11/1943 اقتحم الجنود السنغاليون منازل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأربعة وزراء واقتادوهم إلى سجن راشيا. ثم اعتقلوا النائب عبدالحميد كرامي(11). ثم أذاع هيللو بيانـــاً أعلن فيه قراراته من راديو الشرق.‏

                        أخطأ اده الحساب بقبوله المنصب، وأحجم الجميع عنه بمن فيهم أعضاء الكتلة الوطنية، فلجأ إلى تأليف حكومة مديرين، فخذله أكثر من انتقاهم وأذاعوا بياناً برفضهم الاشتراك في الحكم. وبقيت الأمور متأزمة على الصعيد الرسمي، ومتفاعلة على الصعيد الشعبي، فأدرك اده أنه أضحى في عزلة(12).‏

                        وكان لعمل هيللو ردود فعل داخلية وخارجية. فقد عقد بعض النواب الذين لم يعتقلوا اجتماعاً وقرروا تغيير العلم الذي هو العلم الفرنسي وعليه أرزة، مما يدل على تبعية لبنان لفرنسا. ولكنهم جعلوا العلم يحمل الأرزة مما يعني أيضاً أن دولة لبنان أساسها جبل لبنان(13).‏

                        ويذكر خالد العظم أنه سألوا مرة رياض الصلح لماذا لم يجعل ألوان العلم اللبناني الجديد أربعة (الأبيض والأسود والأخضر والأحمر) كسائر الدول العربية. فأجاب : "هاهو علمنا يحوي الأبيض والأحمر والأخضر". فقلنا : والأسود؟ فقال: "إن السواد موحش ولذلك استبعدناه". ولكن الحقيقة هي أن السيد هنري فرعون كان معارضاً في جعل العلم الجديد بالألوان الأربعة حتى يبعد عنه التشابه مع الأعلام العربية، فخضع له رياض وسايره(14).‏

                        وتذكـــر زاهيـة قدورة أن اللونان الأحمر والأبيض يرمــزان إلى لوني علم الأمير فخــر الدين، الأحمر شعار القيسية والأبيض شعار اليمنية(15).‏

                        كما صدمت مختلف فئات اللبنانيين بعد الاعتقالات وهتفوا بعودة بشارة ورياض ومزقوا صور ديغول، وسارت المظاهرات فسقط القتلى والجرحى، واتفقت (الكتائب) و (النجادة) على تنظيم إضراب شامل في البلاد. وأعلن منع التجول، وانعقد المؤتمر الوطني وباءت محاولات الفرنسيين لايقاظ الفتنة الطائفية، حيث أشاعوا أن العرب والمسلمين سيبتلعون لبنان المسيحي، وأن هناك خطراً جدياً على مصير المسيحيين في لبنان(16). واعتبر بعض الوزراء الذين لم يعتقلوا، أنفسهم مقام رئيس الجمهورية والحكومة(17).‏

                        وعلى الصعيد الخارجي، كان لهذا الحادث وقع عظيم ليس في العالم العربي وحده بل في الأوساط الدولية ولاسيما الانكليزية والأمريكية، فردد (تشرشل) في مذكراته و (كردل هل): "مالهؤلاء الفرنسيين بينما يستعبدهم العدو إذا بهم يحاولون استعباد غيرهم". وطلب تشرشل من ديغول إطلاق سراح المعتقلين وتبديل هللو. وتحرك سبيرز أيضاً ووجه البريطانيون إنذاراً بإطلاق سراح المعتقلين قبل 22/11/1943. كما وجه عميد السلك الدبلوماسي في بيروت (سفير العراق) مذكرة احتجاج شديدة إلى هللو. ولكن برقية فاروق ثم احتجاج النحاس لدى ديغول كان لهما أثر أعمق في نفوس اللبنانيين والعرب عامة.‏

                        ثم وصل كاترو إلى بيروت في 16/11/1943 موفداً من ديغول في الجزائر بعد أن زوده بتعليمات للتضامن مع المندوب الفرنسي مهما كان خطأه. وقد مر على مصر. وبدأ اتصالاته مع الخوري ثم مع الصلح وحاول التقرب من الخوري على حساب الصلح. ثم اتصل مع البطريرك. وتأكد كاترو أن فرنسا خسرت الكثير من رصيدها بين أصدقائها، فكيف بين معارضيها.‏

                        وفي 21/11/1943 زار وزير الخارجية السورية الجنرال كاترو وأبلغه تضامن سورية مع لبنان، وطلب أن تعاد الأوضاع إلى ماكانت عليه. ويقول كاترو أن الحكومة السورية خرجت عن تحفظها بعد أن عرفت نبأ الإنذار البريطاني. وفي الواقع إن الحكومة السورية فوجئت بأحداث لبنان فاستمرت على مراقبة الموقف من جميع نواحيه ولم ينقطع اتصالها بالبريطانيين .‏

                        واضطر كاترو إلى إطلاق سراح المعتقلين في 22/11/1943. وحل (شاتينيو) محل هللو، وقد كان يقوم بوظيفة سكرتير في المندوبية. وأعلن كاترو الرجوع عن كافة القرارات التي اتخذها هللو، وقدم كاترو اعتراف اللجنة الوطنية في الجزائر بالكيان اللبناني(18).‏

                        لقد كان التيار السياسي المنتصر في معركة الاستقلال هو تيار لبنان الطائفي القديم الساعي إلى حكم لبنان بدون حماية أو وصاية أجنبية. التبدل الجديد هو التمسك بلبنان الكبير بحدوده الحاضرة لأن لبنان الصغير ليس قابلاً للحياة، وأن العودة إلى لبنان الطائفي الوحيد الجانب أو الثنائي الوجه باتت مستحيلة. البديل إذا هو لبنان المتعدد الطوائف لا لبنان الطائفة الواحدة، لبنان على قاعدة وحدة الطوائف بزعامة الطائفتين الأكثر عدداً تبعاً لإحصاء 1932 المتحجر، لا لبنان الذي تسيطر فيه طائفة واحدة على باقي الطوائف.‏

                        إن هذه المنطلقات السياسية تجد كامل ركائزها في مقررات مؤتمر بكركي حين وقف البطريرك خطيباً في حفلة الاقتتاح ليقول: " نريد مجلساً منتخباً انتخاباً حراً تتمثل فيه الطوائف والمناطق تمثيلاً عادلاً.. إن هذا الصرح ليس وقفاً على الطائفة المارونية فحسب، بل هو بيت جميع اللبنانيين ووقف للمصلحة اللبنانية لافرق فيها بين طائفة وأخرى.. نريد استقلالاً مبنياً على المساواة بالحقوق تأخذ كل طائفة فيه حقوقها بنسبة أهميتها"(19).‏

                        لقد انتقلت السلطة والمصالح من الفرنسيين إلى اللبنانيين على نفس النمط الفرنسي الطائفي، وضمن الحدود التي رسمها الفرنسيون. ورضي المسلمون في عام 1943 بحدود لبنان وهو ماكانوا يرفضونه منذ خلق دولة لبنان الكبير عام 1920.‏

                        واعتبر يوم إطلاق السجناء 22/11/1943 عيداً وطنياً للاستقلال. وهذا الاستقلال ناقص بمفهوم القانون الدولي ولم يكتمل إلا اعتباراً من 31/12/1946 عندما جلت الجيوش الفرنسية، فأصبح لبنان (واقعاً وقانوناً) دولة مستقلة وسيدة(20).‏

                        وما أن حقق لبنان استقلاله السياسي حتى اجتمع برلمانه في كانون الأول 1943 ليشكر الدول والمؤسـسات والشخصيات التي أيدت لبنان في معركته وشكر الدول العربية للموقف النبيل الذي وقفته حيال لبنان (مصر والعراق وابن سعود وسورية الشقيقة والأمير عبدالله). إن تضامن الشعوب العربية مع شعب لبنان في معركته الاستقلالية كان له أثر واضح في الضغط على المفوضية الفرنسية ومن وراءها. ولكن أثره الأكثر أهمية يكمن في تحديد مسار هذا الكيان السياسي للبنان باتجاه هذه الدول العربية بالذات.‏

                        إن معركة استقلال لبنان قد حملت في طياتها تأكيد الشعوب العربية وحكامها على عروبة لبنان شعباً وأرضاً ومصيراً ولكن ميثاق دولة الطوائف المستقلة عام 1943 جاء يسلب هذه العروبة وجهها الحقيقي ويبقيها عروبة لفظية رسمية واقتصادية، تلك هي عروبة الميثاق أو العروبة النفعية(21).‏

                        ولعل تخوف بعض المسيحيين من اللغة العربية أو بصورة أعم من الهوية العربية، ناجم عن اعتقاد هؤلاء بأن العروبة والإسلام شيء واحد وأن العروبة تعني الإسلام وأن العروبة هي هوية المسلمين، فهل العروبة هي الإسلام؟ أم أن الإسلام أو الدين بصورة عامة هو عنصر من عناصر القومية فقط له ما للعناصر الأخرى من دور في خلق القومية(22). والتخوف من الإسلام نفسه له أسبابه ومواقفه الخارجية المعروفة.‏

                        2- سياسة فرنسا في سورية ولبنان بعد تحررها‏

                        من الاحتلال الألماني 1944 :‏

                        لاشك أن الضربة التي تلقتها فرنسا في تشرين الثاني 1943 قد أضعفت من قدرتها على المساومة، فاضطرت إلى التخلي عن كثير من الاختصاصات للحكومتين الوطنيتين دون عقد المعاهدة مقدماً. ومن ذلك إدارة شؤون البدو والرقابة على الصحف. وزالت الحجة القائلة : إن المصالح المشتركة بين سورية ولبنان مثل الجمارك، يجب أن تتولاها السلطات الفرنسية منعاً للخلاف، كذلك سلمت إدارة المناطق التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي مثل جبل الدروز وبلاد العلويين إلى حكومة دمشق.‏

                        وبقي موضوع تسليم الجند الخاص، وهي قوات تتكون من عناصر متطوعة مختلطة كالشركس والأرمن بالإضافة الى سكان البلاد الأصليين، (من طوائف معينة بشكل خاص)، وكانت تتبع قيادة الجيش الفرنسي وتقوم بأعمال الشرطة، وقدر عددها آنذاك بـ (25) ألفاً. وقد طالبت الحكومة السورية بتسليم الجند الخاص إليها، وبدأت المفاوضات لإلحاقها بالحكومتين السورية واللبنانية منذ نهاية 1943 بدون الوصول إلى نتيجة. وكانت سورية حقاً بحاجة ماسة إلى هذه الفرق لتكون نواة جيشها الوطني ولتواجه الأعباء المتزايدة بعد إدماج منطقة العلويين وجبل الدروز، وعلى أقل تقدير فإن الجند الخاص استخدم في قمع الثورة السورية سنة 1925 فلا يؤمن تركه بيد الفرنسيين حتى لايستخدم مرة أخرى في الصراع المرتقب، أو أن يكون أداة للضغط أثناء المفاوضات. وقد سلمت فرنسا في حزيران 1944 فصيلة من الجند الخاص إلى الحكومة اللبنانية، ولعلها كانت تقصد إلى إحداث تفرقة جديدة ولكن دون جدوى. أما في سورية فقد احتفظت به حتى وقع الصدام في العام التالي(23).‏

                        ومن المعروف أن الأراضي الفرنسية قد حررت من الاحتلال الألماني خلال عام 1944 (إذ أن قوات الحلفاء باشتراك الولايات المتحدة التي دخلت الحرب، قد نزلت في فرنسا في 6/6/1944) ودخلت الحرب مرحلتها الثالثة وهي مرحلة فوز الحلفاء. واعترفت بحكومة ديغول المؤقتة بدلاً من لجنة التحرير الوطنية. ولاشك أن هذا الوضع الجديد هو الذي جعل الجنرال ديغول يتشدد مرة أخرى إزاء قضية استقلال سورية ولبنان، ولكنه كان مخطئاً في هذا التصور، فقد تحسن موقف القطرين العربيين خلال نفس الفترة من الناحية الدولية إذ اعترف باستقلالهما كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد أعلنت الدولتان عند الاعتراف باستقلالهما أنهما ترفضان تفوق نفوذ أية دولة أوروبية في سورية ولبنان، وإن كان دافع كل واحدة منهما مختلفاً.‏

                        فالولايات المتحدة اتخذت هذا الموقف لأنها ليست على علاقة طيبة بالحكومة الفرنسية المؤقتة. كذلك تأكد استقلال سورية ولبنان اقتصادياً عن فرنسا، فقد فضل الوطنيون استمرار الارتباط بالاسترليني حتى لايتعرض النقد السوري للتقلبات التي أصابت الفرنك في هذه الحقبة. وبعد أن قضت فرنسا معظم سني الحرب وهي تعاني من الاحتلال الأجنبي، وبعد أن أصبحت فرنسا محررة منذ أواخر 1944 وتتمتع باستقلالها (وسيادتها) اتبعت سياسة جديدة تجاه سورية ولبنان.‏

                        وتتبين ملامح السياسة الفرنسية الجديدة من التصريح الذي أدلى به ديغول في مؤتمر صحفي في 25/1/1945 إذ قال : "كانت فرنسا أول دولة اعترفت باستقلال هاتين الدولتين اللتين فيهما مركز ممتاز يجب أن تحافظ عليه. وأن فرنسا مصممة على أن تمنح أصدقاءها السوريين واللبنانيين استقلالاً حقيقياً، ولكن التدخل الأجنبي هو الذي يزيد في تعقيد هذه المسألة"(24).‏

                        أما جورج بيدو وزير الخارجية فهو يميني متطرف، ولذا كان تصريحه إزاء هذا الموضوع أشد صراحة في معارضة الاستقلال التام فقال : "إن فرنسا مسؤولة عن حفظ النظام في سورية وأنها تدافع عن امتيازاتها بالقوة المسلحة التي تحت تصرفها وأرسلت تعليمات بهذا المعنى إلى المقيم العام الفرنسي في المشرق"(25).‏

                        وهكذا يبدو أن فرنسا لم تعد تخشى أخطار مغامرة جديدة كمغامرتها في لبنان سنة 1943 فالظروف تغيرت بعد نهايةالحرب. ولم يعد تأثير البريطانيين والأمريكيين على الفرنسيين كما كان من قبل. فقد أصبحت فرنسا مستقلة بأسطولها ومستقلة بجيشها تتصرف فيهما كما تريد. واعتقدت فرنسا أنها أصبحت قادرة على فرض سياستها بالقوة. وكل ماتستطيع أن تفعله وزارة الخارجية البريطانية هو السعي لتقريب وجهات النظر بين سورية وفرنسا، حتى أنها أصبحت خلافاً للماضي تتجنب توجيه سؤال للحكومة الفرنسية، كي لاتثير شكوكها التي لاتكاد تنقطع عن مطامع بريطانيا في المشرق(26).‏

                        3- الاستفزازات الفرنسية قبل حوادث 1945‏

                        في سورية ولبنان :‏

                        لقد أرادت فرنسا النكول عن تعهداتها باستقلال سورية ولبنان، وندمت بعد أن سلمت قسماً كبيراً من (المصالح المشتركة) إلى الحكومتين قبل أن تعقد معاهدة تضمن لفرنسا مصالحها. ولم يبق إلا الجيش والأمن تتمسك به لتضع شروطها. وبينما كان وفد سورية في سان فرانسيسكو يعمل في سبيل استقلال سورية وتأييد حقوق الشعوب الضعيفة في الاستقلال، كان الفرنسيون يعملون في البلاد السورية على خلق الاضطرابات في بعض المناطق وجعلوا جنودهم يتحرشون بأبناء الشعب السوري بكل مناسبة لخلق جو من الاضطراب والفوضى تذهب معه معالم الاستقلال. وكانت الحكومة السورية على علم بما تبيته القوات الفرنسية من شر مستطير، وكانت الحوادث الاستفزازية قد تكررت بين قوى الأمن الداخلي السوري والقوى الفرنسية بشكل جعل حالة المدن السورية أشبه شيء بحالة الحرب الداخلية(27). كل ذلك بهدف إثارة المتاعب للحكومة السورية واللبنانية لتقبلا بعقد معاهدة مع فرنسا تعطيها مركزاً ممتازاً.‏

                        ففي شباط 1945 ثبت أن الفرنسيين كان لهم ضلع في إثارة الاضطرابات بجبل العلويين مما أدى إلى حدوث توتر شديد بين الشرطة السورية وبين قوات الاحتلال(28). وخاصة أنه لم يكن بيد الحكومة السورية قوات مسلحة، فكانت مظاهرات الطلاب الصاخبة في مدن سورية تطلب الجيش الوطني. وكانت الحكومتان السورية واللبنانية تعبران عن إصرارهما في الحصول على الجيش الوطني(29).‏

                        وفي لبنان استغل الفرنسيون فوز (يوسف كرم) في الانتخابات النيابية الفرعية عن زغرتا، وهو نائب موال للفرنسيين، فلما حضر إلى المجلس النيابي في 27/4/1945 مع عدد من أنصاره (بصحبة قوات الاحتلال)، اندس بينهم عملاء للفرنسيين وحاولوا رفع العلم اللبناني القديم أي العلم الفرنسي الذي تتوسطه الأرزة والذي يرمز إلى ارتباط لبنان بفرنسا، وذلك لرفعه على باب المجلس، كما حاولوا اقتحام القاعة التي يتواجد فيها النواب، وحدث صدام بينهم وبين أنصار الاستقلال، فأطلق الجنود الفرنسيون المتمركزون في بناء قريب النار بعد أن قطعت خطوط الهاتف عن مبنى المجلس وسقط قتلى وجرحى. إلا أن الحكومة سيطرت على الوضع، ودخل النائب كرم من دون أنصاره واستنكر ماحدث. كما حدثت استفزازات أخرى في الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الانتصار على ألمانيا. حيث توقفت الحرب فيها في 8/5/1945(30).‏

                        4- مساعي سورية ولبنان من أجل الاستقلال الكامل‏

                        1944-1945 ورفض المعاهدة مع فرنسا :‏

                        بعد إنزال القوات الحليفة في فرنسا 6/6/1944 ويسبب تخوف بريطانيا من انتقال عدوى الاستقلال إلى المناطق التي تخضع لنفوذها في الشرق، حدث تقارب فرنسي بريطاني يضمن مصالح الدولتين في الشرق الأوسط، إذ عقدتا اتفاقاً تقاسمتا فيه مناطق النفوذ(31).‏

                        وجرت مفاوضات كثيرة وتبودلت مذكرات عديدة بين الحكومة السورية والحكومة البريطانية حول هذا الاتفاق الذي عقدته بريطانيا مع فرنسا الحرة. وكانت الحكومة السورية تصر بأنها لا تريد أن تعترف لفرنسا بأي مركز استثنائي ولا أن تعقد معها أي عهد. وأبلغ رئيس الجمهورية ذلك بصراحة إلى الوزير البريطاني حينما حمل إليه وإلى الحكومة السورية تبليغاً شفوياً يتعلق بفتح باب المفاوضات. وكان مندوب فرنسا العام قد حمل إلى الحكومة السورية نبأ اجتماع عقده أخيراً المستر ايدن والمسيو مسيغلي حول هذا الموضوع، فكتب رئيس الجمهورية إلى المستر تشرشل كتاباً وصف فيه وضع سورية وتمتعها بالاستقلال الكامل القائم على حكم دستوري ديمقراطي والمعترف به من قبل الولايات المتحدة وروسيا والدول العربية وبريطانيا. واستلمت من فرنسا المصالح المشتركة. فحقوق سورية إذن تناقض المساعي التي ترمي إلى عقد معاهدة مع فرنسا، وأرسل وزير الخارجية السورية رسالة بهذا المعنى إلى المستر ايدن.‏

                        وبعد ذلك بعثت وزارة الخارجية البريطانية إلى الوزير المفوض في سورية الجنرال سبيرز ببرقية جاء فيها أنه من الأمور الضرورية التي لامفر منها أن تعقد معاهدة بين الدولة المنتدبة والبلاد التي كانت تحت الانتداب لتوضيح العلائق المستقبلية بين الفريقين بعد الاستقلال التام حسب وعد الاستقلال الذي أعطي لسورية ولبنان في عام 1941. وأنه ليس هنالك اتفاق سري تشمل أحكامه دول المشرق. وأن بريطانيا لاتحاول فرض أي شكل معين على الحكومة السورية.‏

                        وهذه الرسالة البرقية توضح نواحي كثيرة من الأساليب التي كانت تتبعها بريطانيا في محاولاتها للتوفيق بين السوريين والفرنسيين. فلقد بحث سبيرز من قبل مع رئيس الجمهورية والوزارة السورية هذه الأمور وأعرب عن حرص حكومته على دوام علاقاتها الحسنة مع فرنسا تلك العلاقات التي تقضي بها ضرورات الحرب المشتركة وتستلزم بأن يتم التفاهم بين فرنسا وسورية بما فيه فائدة مشتركة للجميع(32).‏

                        وكان رئيس الجمهورية لايبرح هو وحكومته يبذلان المساعي الدبلوماسية لايضاح وجهة نظر سورية التي تمسكت بها في عدم الاعتراف لفرنسا برجحان سياسي واقتصادي أوثقافي أو عقد معاهدة معها. وبعث برسائل عديدة إلى الرئيس روزفلت وإلى الماريشال ستالين فضلاً عن المستر تشرشل لتأييد ذلك(33).‏

                        وفي أوائل شباط 1945 سافر رئيس الجمهورية السورية إلى القاهرة واجتمع بالمستر تشرشل والمستر ايدن وفصل لهما وجهة النظر السورية. وكانت فرنسا تريد أن تتقدم بمقترحات، كما أن سورية تستعد لترى في هذه المقترحات مايمكن قبوله ومالايمكن، فتلقى الرئيس التأكيد من رجال الحكومة البريطانية أنه لن يكون هناك إكراه(34). كما اجتمع القوتلي مع الملك فاروق والملك عبدالعزيز في 16/2/1945 قرابة خمس ساعات وكان وجود عبدالعزيز في مصر ولقاءاته سرياً(35).‏

                        ثم ألقى المستر تشرشل بياناً في مجلس العموم في 27/2/1945 ذكر فيه اجتماعه بزعماء العرب فقال : " بذلنا غاية الجهد لتأمين اتجاه ودي نحو فرنسا وتشجيع المفاوضات معها للوصول إلى تسوية مرغوبة ليس في سورية وحدها بل في لبنان أيضاً. وموقف بريطانيا فيما يتعلق بسورية ولبنان بالنظر إلى علاقاتنا مع حلفائنا الفرنسيين، قائم على بيانات 1941 بشأن استقلال دولتي المشرق، وإن بريطانيا لاتعمل على أن يحل نفوذها محل نفوذ فرنسا فيهما. ونحن مصممون على أن نبذل جهودنا للمحافظة على وضع فرنسا الخاص بسبب ماأسـسته في سورية مدة عهد طويل من صلات ثقافية وتاريخية...". وذكر أنه لايسلم بالتعارض بين وجود مركز متفوق وبين الاستقلال. وألمح إلى أن مثل هذه الموضوعات المعقدة يحسن طرحها على مؤتمر الصلح، كما أكد أن بريطانيا لاتستطيع وحدها أن تتحمل مسؤولية المبدأين الأساسيين اللذين وضعهما للقضية وهما (احتفاظ فرنسا بمركز متفوق واستقلال سورية ولبنان، ولفت النظر إلى أن دول الحلفاء الكبرى قد اعترفت باستقلال سورية ولبنان، ولذا توقع أن يتوطد استقلالهما بفعل سلطات الهيئات العالمية(36).‏

                        وهكذا يتضح أن موقف بريطانيا إزاء استقلال سورية ولبنان قد تبدل وتعددت التصريحات بشأنه. وتحملت بريطانيا وحدها المسؤولية لمجابهة التدخل الفرنسي في أيار 1945. وإن كان كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قد أبدى تأييده لموقف الوطنيين السوريين.‏

                        لقد كان البريطانيون يعللون موقفهم دائماً بالرغبة في المحافظة على الأمن لأن الحرب في الشرق الأقصى لم تـنـته بعد. كما تظاهروا بمراعاة مبادىء ميثاق الأطلسي الخاصة بحق الشعوب في تقرير المصير. وربما كان ذلك تبريراً للنزاع الخفي الذي ظل قائماً بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط رغم توزيع مناطق النفوذ.‏

                        ومع أن الانجليز كانوا ينفون دائماً أنهم يريدون أن يحلوا محل فرنسا في سورية ولبنان، فمن المحتمل أنهم رسموا خططهم على أساس التسلل بواسطة نفوذ غير مباشر وهو إلحاق سورية ولبنان بجامعة عربية يتمتعون لدى أغلبية أعضائها بالنفوذ.‏

                        وثمة عامل أثر على توجيه السياسة البريطانية وهو عدم الاطمئنان إلى مستقبل فرنسا السياسي حيث بدأ الشيوعيون يكتسبون نفوذاً فيها ويخشى البريطانيون من وصولهم إلى السلطة(37). وكان تشرشل يعتقد بنتيجة جهوده أن لابقاء لفرنسا في سورية(38).‏

                        3- قضية (المصالح المشتركة) منذ الاستقلال حتى الجلاء :‏

                        لقد استمرت منطقتا سورية ولبنان مشمولتين (بالوحدة الاقتصادية الكاملة) في ظل الاحتلال الفرنسي إلى أن انفصمت عراها من قبل الحكومتين إثر تمتع سورية ولبنان باستقلالهما في 1943. فقد عقد ممثلو البلدين الاتفاق المسمى باتفاق 1 تشرين الأول 1943 الذي أوجد (الوحدة الجمركية) بدلاً من الوحدة الاقتصادية والذي وقعه رياض الصلح وسليم تقلا عن لبنان وسعدالله الجابري وجميل مردم بك عن سورية الذين قضوا على الوحدة الاقتصادية القائمة منذ مئات السنين وحصروا علاقاتهما المشتركة بالشؤون الجمركية فحسب. وأنشأ الاتفاق مجلساً أعلى للمصالح المشتركة أنيط به التشريع الجمركي بموافقة مجلس الوزراء في كلا البلدين. وفصلت سائر المصالح التي كانت موحدة تحت إدارة الفرنسيين، فبدأت كل من الحكومتين تشرع في الأمور الاقتصادية بالاستقلال عن الأخرى.‏

                        ويذكر خالد العظم(39). قصة عقد هذا الاتفاق بقوله : " تتلخص القصة في أن الجانب الفرنسي كان بتمسكه بإدارة المصالح المشتركة السورية اللبنانية، يزعم أن الحكومتين لم تتفقا على كيفية إدارتها، فاضطر هو للقيام بهذا العمل نيابة عنهما. وأول محاولة للاستيلاء على تلك الإدارة قامت بها الحكومتان السورية واللبنانية كانت في عهد الرئيس اللبناني ألفرد نقاش والرئيس السوري تاج الدين الحسني. إذ عقدتا اتفاقاً أحسن من اتفاق أول تشرين الأول 1943 وأوثق للعلاقات الاقتصادية بين البلدين. وطلبتا من الجنرال كاترو المندوب العام الفرنسي تسليم الحكومتين إدارة المصالح المشتركة، فغضب الجنرال مما أدى إلى إقصاء الحكومتين واستمرار الإدارة على ماكانت عليه " .‏

                        " وبعد أن تألفت حكومتان وطنيتان، (في بيروت اجتمع المجلس النيابي المنتخب في 21/9/1943). وفي دمشق (اجتماع المجلس النيابي المنتخب في 17/8/1943)، جددت المساعي للاتفاق. فاجتمع المندوبون مرات عديدة ولم يعلنوا عن الغرض الحقيقي من اجتماعهم. وسعى الجابري ومردم لتحقيق الوحدة الاقتصادية، إلا أن رياض الصلح رفض ذلك وأصر على قصر هذه الوحدة على الشؤون الجمركية. فكان هذا الاتفاق الأبتر الذي جر على البلاد السورية المضار الكثيرة " .‏

                        وقد حدد اتفاق تشرين الأول 1943 المصالح المشتركة بأنها كل ماكان يدار من قبل المندوبية الفرنسية وتنقسم إلى قسمين :‏

                        القسم الأول: ويشمل مايجب أن تستمر إدارته مشتركة لمدة غير معينة كمصالح الجمارك ومراقبة الشركات ذات الامتياز (وهي التي تشمل منطقة عملها أراضي الدولتين)، ومراقبة إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي).‏

                        والقسم الثاني: ويشمل مايجب أن تترك إدارته فوراً لكل من الحكومتين ضمن أراضيها، كمصلحة البارود ومصلحة حماية الملكية الصناعية والتجارية والفنية والأدبية والموسيقية، ومصلحة الأشغال العامة وإدارة البرق والبريد ودار الآثار والدفاع السلبي والأمن العام ومراقبة الشركات ذوات الامتياز التي لاتتجاوز منطقة عملها أراضي إحدى الدولتين، وحراسة أموال الأعداء، وكل المصالح الأخرى التي لم تعين في القسم الأول.‏

                        وحدد الاتفاق طريقة إدارة المصالح المشتركة في القسم الأول بتشكيل (مجلس أعلى للمصالح المشتركة) من ثلاثة ممثلين لكل دولة ولهم الحق أن يستعينوا بالخبراء والاخصائيين الذين يرون لزوماً لهم. ويتخذ المجلس مقرراته باتفاق الآراء، ويكون لمجموع ممثلي كل دولة رأي واحد. ويزاول المجلس عمله ستة أشهر في دمشق وستة في بيروت ويرأسه رئيس الممثلين في الجانب في هذه الحالة، ورئاسته بالتناوب، وله صلاحيات محددة بشأن إدارة المصالح المشتركة.‏

                        وبالنسبة لمصلحة الجمارك فإن الاتفاق نص على : " إن سورية ولبنان تؤلفان منطقة جمركية واحدة ذات وحدة جمركية تنتقل البضائع ضمنها بحرية تامة وبدون أية ضريبة أو رسم جمركي ". وعلى هذا الأساس يكون للدولتين إدارة جمركية واحدة تمارس عملها على أساس وحدة النظام الجمركي.‏

                        وقرر الاتفاق توزيع واردات الجمارك بحسب نفقات المصالح المشتركة، وحدد الاتفاق توزيعاً مؤقتاً لباقي الايرادات الصافية بنسبة 40% لكل من الدولتين والباقي معدة للتوزيع.‏

                        وجعل الاتفاق مدته سنتين وأن يسعيا مشتركين لاستلام هذه المصالح من فرنسا، ويجب أن يبرم الاتفاق من الدولتين(40).‏

                        ويتحدث خاللد العظم عن موقف رياض الصلح بقوله : (41)‏

                        " وجدير بالأسف موقف رياض الصلح السلبي، فهو المناضل في سبيل استقلال سورية الكبرى بما فيها لبنان وشرق الأردن، والمعارض لتفريق لبنان من سورية. غير أن هذا الرجل تنازل عن خطته هذه وأصبح زعيم استقلال لبنان منفرداً عن سورية في سبيل الحصول على تأييد الأكثرية المارونية. وأمسى في كل مناسبة تتعارض فيها مصالح سورية ولبنان يعمل جهده لدى رفاقه الأقدمين متولي الحكم في دمشق، ليؤمن للبنان منافع على حساب سورية. وحتى يعطي بذلك دليلاً مستمراً على دفاعه عن حقوق لبنان .‏

                        وكان من جهة ثانية يوهم حكام سورية بأنه إذا زال عن الحكم تولاه من هم أبعد منه عن سورية وأقرب إلى الفرنسيين. لكن الحقيقة هي أن زعيم استقلال لبنان والمجابه الحقيقي للنفوذ الفرنسي كان رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، فلولا تصلبه ولولا كونه مارونياً، لما استطاع رياض الصلح الوقوف في وجه الانتداب الفرنسي ذلك الموقف الشهير (تشرين الثاني 1943) بإلغاء بعض نصوص الدستور اللبناني القاضية بجواز تدخل الفرنسيين في شؤون الحكم في لبنان، ولما استطاع الوقوف في وجه الموالين لفرنسا من الموارنة " .‏

                        " وكان رياض الصلح يدعي في جلسات خاصة بأن سياسته الرامية إلى إبقاء الأقضية الأربعة ضمن أراضي الجمهورية اللبنانية كانت مستندة إلى رغبته في إبقاء التوازن النسبي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان على ماهو عليه واستبعاد تضاؤل عدد المسلمين في لبنان الصغير، إذا ما ألحقت تلك الأقضية الأربعة التي يقطنها المسلمون بسورية. هذه النظرية صحيحة من حيث الأرقام. ولكنها ككل القضايا يتداخلها عنصر الاحتمال، فهل كان لبنان قادراً على الاحتفاظ باستقلاله لو سلخت عنه الأقضية الأربعة؟. وهل كان هذا البتر يؤدي إلى انصهار لبنان في المجموعة السورية بطبيعة الحال وبمضي السنيين؟. أم إلى ارتمائه في أحضان فرنسا وصيرورته مستعمرة فرنسية؟. إنه ليصعب على المرء أن يحكم حكماً قاطعاً على نتائج الحوادث. فكثيراً ماتؤول الأمور إلى مصائر غير منتظرة وغير معقولة. وعلى أي حال، إذا جاز للمرء أن يقدر بالأرقام حظ كل واحد من هذين الاحتمالين فإنني أقدر أن تسعين بالمائة من الاحتمالات كانت إلى جانب انضمام لبنان الصغير إلى سورية في المستقبل القريب أو البعيد" .‏

                        " صحيح أن رياض الصلح لم يكن قادراً في عام 1943 على توجيه مصير بلاده نحو الانضمام إلى سورية، فهناك بشارة الخوري الحريص على استقلال لبنان وعلى كرسيه بنفس الوقت، لكن ألم يكن بمقدرة رياض الصلح، وهو المشهور بحذاقته وأساليبه، أن يجعل لبنان يتدرج في طريق الانضمام رويداً رويداً حتى يصل يوماً من الأيام إلى هذه النتيجة؟ أحسب أن ذلك لم يكن عسيراً عليه. لكن إذا تمت الوحدة السياسية وانضم لبنان إلى سورية، فمن يضمن لرياض الصلح رئاسة الحكومة في الدولة الموحدة؟. ومن يؤمن له فيها مايتمتع به من نفوذ في لبنان؟ ودمشق بلد لم يستطع الأجنبي بجيشه القوي أن يسيطر عليها وأن يبسط نفوذه فيها. فأنى لرياض الصلح ذلك؟ ".‏

                        " تلك العوامل التي جعلت من رياض الصلح زعيماً لانفصال لبنان عن سورية بعد أن كان في جملة المنادين بوحدة البلاد العربية والعاملين في سبيل تحقيقها. أما القوتلي والجابري ومردم فإني أجد لهم بعض العذر في مسايرة رياض لأنهم كانوا يعرفون رياضاً ويعلمون حق العلم ماهو مجبول عليه من الانتهازية. فهم حسبوا حساباً لإمكان تطور رياض، وكان لابد لهم من التكاتف معه في جهودهم لقلع جذور الانتداب الفرنسي. وكانوا يخشون أن يرجع رياض عن قوله المأثور "لاأسمح أن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولاممراً". فتثبت أقدام الانتداب ويمسي الخطر قريباً من سورية. وكان رياض بعقلية التاجر اللبناني، يبيع زملاءه السوريين هذه المؤازرة فيقبض ثمنها منافع مادية لا لنفسه لكن للبنان"(42).‏

                        ولعل ميل لبنان إلى إلغاء الوحدة الاقتصادية والاكتفاء بالوحدة الجمركية، يرجع إلى أن جمهرة الموارنة والكاثوليك كانوا راضين بالوحدة الاقتصادية لأن زمامها إدارياً وتشريعياً ومالياً في يد ممثلي الانتداب الفرنسي. فلما بدأ الاستقلال وتقرر الجلاء ولم يعد هناك ضابط مشترك يبعد عنهم مايتوهمونه من خطر الاتحاد الاقتصادي، انقلب الأمر وصاروا ضد هذه الوحدة على طول الخط(43).‏

                        المهم أنه بعد عقد اتفاق (1/10/1943) دارت بين الحكومتين السورية واللبنانية أبحاث غير مثمرة مع الجانب الفرنسي لاستلام المصالح المشتركة من الفرنسيين(44). وقدمت الحكومتان خلال شهر تشرين الأول إلى المسيو (هيللو) الذي خلف الجنرال كاترو، طلباً للتفاوض حول استلام هذه المصالح، فاستمهلهما عشرة أيام ريثما يتسنى له حمل هذه المذكرة إلى الجزائر عاصمة الدولة الفرنسية حينئذ(45). ورد الفرنسيون بوضع شرط المطالبة بعقد معاهدة على أساس مضمون معاهدة 1936 مع البلدين تمنح فرنسا بموجبها مركزاً ممتازاً في كل منهما(46).‏

                        وبسبب تعديل الدستور اللبناني (8/ت2/1943) وقع الاشتباك بين الوطنيين والفرنسيين. وقد يبدو غريباً أن يقع هذا الاشتباك قبل سورية، وذلك نظراً للصلات التقليدية التي تربط بين فرنسا وبين بعض العناصر في لبنان. ولعل ذلك لأن فرنسا كانت تخطط للاعتماد على لبنان(47).‏

                        وحسب تعبير كاتب لبناني : " فمع تعديل الدستور برهن المسؤولون اللبنانيون عن كفاءة وتصرفوا حسب ذهنية السيادة الوطنية الكاملة وقامت المطالبة بتسليم مقاليد أمور الدولة بدءاً بالمصالح المشتركة(48).‏

                        ويقول خالد العظم : " وقد استغلت الحكومتان السورية واللبنانية تضعضع مركز الفرنسيين بعد قضية الدستور اللبناني وإعادة الحكومة الشرعية (22/11/1943)، فبدأتا بالمباحثات مع الجنرال كاترو على نحو جديد لاستلام صلاحياته. عند ذلك دعيت للاشتراك بهذه المداولات الرسمية. وعقد للمرة الأولى اجتماع في القصر الجمهوري بدمشق حضره عن سورية الرئيس القوتلي والجابري (رئيس الوزراء السوري) ومردم (وزير الخارجية) وأنا (وزير المالية). وعن لبنان رياض الصلح (رئيس الوزارة) وسليم تقلا (وزير الخارجية) والأمير جميل شهاب (وزير المالية). وعن الجانب الفرنسي الجنرال كاترو ومسيو شاتينيو.‏

                        " وانتهت الأبحاث بعد مذكرة طويلة بتسطير محضر (في دمشق) تعهد الفرنسيون فيه بتسليم المصالح المشتركة فيما بعد، عدا الجيش، على أن يجري ذلك في محاضر خاصة تستلم الحكومتان بموجبها كل مصلحة على حدة. ونشر هذا الاتفاق في 22/12/1943"(49). ووقع الاتفاق كاترو ورياض الصلح وسليم تقلا وسعد الله الجابري وجميل مردم وخالد العظم.‏

                        " تم الاتفاق في تاريخ هذا اليوم بين الجنرال كاترو مفوض الدولة المكلف بالمهمة، وبين ممثلي الحكومتين السورية واللبنانية على تسليم هاتين الحكومتين الصلاحيات التي تمارسها الآن السلطات الفرنسية باسمهما، وستنتقل بحسب هذا الاتفاق المصالح المشتركة وموظفوها إلى الدولتين السورية واللبنانية مع حق التشريع والإدارة منذ أول كانون الثاني القادم (1/1/1944). وستكون الأساليب المتعلقة بانتقال هذه الصلاحيات موضع اتفاقات خاصة".‏

                        وقال الجنرال كاترو في مذكراته بعد أن بحث هذا الاتفاق : لقد أصبحت الأزمة منتهية ولكن نهايتها كانت أن تخلينا عن كل مابقي لنا من سلطات انتدابية، بل إننا اعترفنا ضمناً باستقلال سورية ولبنان(50).‏

                        وبعد اتفاق 22/12/1943 بين الحكومتين السورية واللبنانية والجانب الفرنسي بدأت عملية استلام المصالح المشتركة. ويقول العظم : " انتدبت للاشتراك عن سورية في الاجتماعات التي تقرر عقدها في بيروت بحضور مندوبي لبنان وفرنسا لإنجاز استلام وتوقيع المحاضر. فعقدنا عدة اجتماعات في القصر الجمهوري ببيروت، تولى فيها الرئيس الخوري وأنا عن سورية، ومسيو اوستروروغ عن فرنسا، وضع صيغة المحاضر. فأثار المندوب الافرنسي قضية المستشارين والموظفين الفرنسيين في تلك الدوائر، فتم الاتفاق على إبقائهم مدة ستة أشهر يسرحون بعدها ويقبضون تعويضاتهم القانونية. فكان أول محضر وضعناه هو المتعلق بالجمارك وذلك في 2/1/1944، فاستلمنا تلك الدوائر بحفلة خاصة .‏

                        " وأقر مجلس النواب اللبناني اتفاق 1/10/1943 مع الكتب التي تبودلت مع رياض الصلح في 3/2/1944. وأصدرت الحكومة السورية مرسوماً تشريعياً بذلك. ثم صدر مرسوم بتعيين الأعضاء السوريين في المجلس الأعلى للمصالح المشتركة وهم إحسان الشريف ومحسن البرازي وليون مراد. كما عينت الحكومة اللبنانية ممثليها وهم الأمير جميل شهاب وموسى مبارك وباسيل طراد. وبدأ هذا المجلس أعماله متخذاً بيروت مقره نصف السنوي وفقاً للاتفاق السابق.‏

                        " ثم استمر استلام الدوائر من الفرنسيين تباعاً، ولم تخل عملية الاستلام من الخلافات، وألحقت كل واحدة منها بالوزارة المختصة ماعدا الجمارك ومراقبة حصر التبغ التي بقيت تحت سلطة المجلس الأعلى للمصالح المشتركة"(51).‏

                        وكان الفرنسيون لاينقطعون عن المساومة في أمر تسليم هذه المصالح، عسى توافق سورية على عقد المعاهدة التي أصبحت غاية الغايات عند الفرنسيين ليجدوا بواسطتها وسيلة للبقاء في هذه الأقطار.‏

                        ولما تم انتقال صلاحيات المصالح المشتركة من السلطات الفرنسية إلى سورية ولبنان، أصدرتا بياناً مشتركاً في 5/6/1944 جاء فيه :‏

                        " عملاً بالاتفاق المعقود في 22/12/1943 مع الجنرال كاترو مفوض الدولة المكلف بمهمة، جرت بين ممثلي الحكومة الفرنسية وممثلي الحكومتين السورية واللبنانية، مفاوضات بشأن تسليم إدارة المصالح المشتركة، فتم الاتفاق على وضع إدارة كافة الدوائر التي انتقلت فعلاً إلى الجمهوريتين السورية واللبنانية، تحت سلطتهما وحدهما " .‏

                        وبعثت وزارة الخارجية السورية بتاريخ اليوم نفسه مذكرة إلى ممثلي الدول العربية والأجنبية وأرفقتها بقائمة تتضمن الاتفاقات التي عقدت بين الجانبين السوري والفرنسي والتي بموجبها استلمت حكومة سورية عملياً وبصورة نهائية جميع الصلاحيات التي كانت تمارسها باسمها السلطات الفرنسية، وقالت : " تنتهي بهذا الاستلام العملي مرحلة المفاوضات التي بدأت بتوقيع اتفاق 22/12/1943 بين الجانبين السوري واللبناني من ناحية والفرنسي ممثلاً بشخص الجنرال كاترو من ناحية ثانية. فاستكملت بذلك سورية أسباب استقلالها وأصبحت سيادتها على أراضيها أمراً حقيقياً(52).‏

                        وحسب قول كاتب لبناني : " أضحى بإمكان مجلسنا النيابي أن يشترع فيما يتعلق بهذه المصالح ليحولها إلى لبنانية صرفة منفصلة عن سورية(52).‏

                        وانتهى بهذا الاتفاق آخر ماكان يشير إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة بين الدولتين بانتهاء السلطة السياسية الواحدة (وهي الفرنسية) التي كانت تديرها وتقوم بدور اتحاد فدرالي بين الدولتين. وبقيت العلاقات فقط في (الوحدة الجمركية) مع إدارة حصر التبغ والتنباك والتي كان يديرهما المجلس الأعلى للمصالح المشتركة إضافة إلى قضية الجيش .‏

                        واستمر المجلس الأعلى للمصالح المشتركة بين سورية ولبنان في إدارة الجمارك (أي الوحدة الجمركية) والمصالح الأخرى حسب اتفاق 1/10/1943 والذي ينص على مدة سنتين. لذلك تم الاتفاق في بيروت في 29/1/1945 بين وزيري المالية في البلدين على تجديد الاتفاق وعلى توزيع واردات المصالح المشتركة المالية الصافية بين البلدين بنسبة 44% للبنان و56% لسورية بعد أن كانت 40% لكل من الدولتين. وفي هذه النسبة يلاحظ تساهل سورية في حصتها والتي يجب أن لاتقل عن 75% وكذلك تساهلها في أمور أخرى(54).‏

                        ويلخص مسعود ضاهر موقف البرجوازية اللبنانية بقوله :‏

                        " كانت الفائدة الاقتصادية قبل الحرب حتى 1939 تذهب بمعظمها إلى جيوب الفرنسيين لكن فترة الحرب ستبقي هذه الأموال داخل سورية ولبنان وستتوزعها بورجوازية البلدين، وبدأت الدولة السورية المستقلة تسعى لنيل حصتها من هذه الأرباح. لكن البرجوازية اللبنانية عرفت كيف تتوزع الأدوار بين المعارضة والموالاة لارتباط لبنان بمحيطه العربي والتهديد المستمر بالحماية أو الضمانة الأجنبية دون أن تكون هناك قاعدة أساسية لمثل ذلك التهديد. فالبرجوازية اللبنانية كانت تخشى الحدود الجمركية مع سورية لما تعنيه هذه الحدود من تقلص في حجم أرباحها. لكن نهاية الحرب العالمية الثانية حملت معها أيضاً تطوراً هاماً وملحوظاً للبرجوازية السورية نفسها، تلك التي بدأت تفكر جدياً بالاستغناء عن مرفأ بيروت واعتماد مرفأ اللاذقية كبديل له. لذا كانت تصر على نيل حصتها من الأرباح الجمركية. وإن زوال الانتداب وبقاء المصالح المشتركة بين البلدين دفعا الدولة السورية المستقلة إلى المطالبة بالأرباح الجمركية تبعاً لحجم مشاركتها في إنتاج السلع المعدة للتصدير واستهلاك السلع المستوردة. وبدأت أصوات البرجوازية اللبنانية ترتفع منددة بما أسمته (بالتدخل السوري في شؤون لبنان والعمل على خنق اقتصاده). فالنظام اللبناني الذي تربع على كراسي الانتداب باسم الاستقلال كان يرغب في استمرار السياسة الاقتصادية الانتدابية دون تغيير. ويعمل على امتصاص خيرات الشعبين اللبناني والسوري لصالح مجموعة قليلة من التجار اللبنانيين. وكان الصراخ يرتفع بحدة أكثر كلما حاول السوريون تقليص حجم الأرباح اللبنانية والمطالبة بحصتهم. وكانت الأزمات تتكرر بين البلدين حتى أدت إلى الانفصال الجمركي واستقلالية النقد في كل من البلدين. وكان مقدراً لهذه التدابير أن تؤثر سلباً على أرباح التجار اللبنانيين. ولكن ذلك لم يحصل لأسباب أهمها الانقلابات العسكرية في سورية(55).‏

                        ولقد كانت الحرية الاقتصادية وفوائد النظام الاقتصادي في لبنان ناتجة عن الامتيازات الأجنبية لطائفة معينة كان منها الوسطاء التجاريون مع الغرب الذين سيطروا على التجارة والاقتصاد تحت رعاية الفرنسيين(55)مكرر.‏
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                          الفصل الرابع الوحدة السورية اللبنانية في معركة الاستقلال1943-1946

                          1- صدام الحكومة اللبنانية مع الفرنسيين في معركة تعديل الدستور‏

                          لم يزر رياض الصلح ووزارته المندوبية الفرنسية كما جرت عادة الوزراء، ونبذ هذا التقليد يقيناً منه أنه يسيء إلى السيادة الوطنية. وترك هذا الحادث انطباعاً مزعجاً لدى المندوب السامي الفرنسي.‏

                          وكان الفرنسيون هم الذين يحددون البيانات الوزارية، فلما استفسر (هللو) عما يتضمنه البيان أجيب : (تسعمعونه في المجلس). وأمام المجلس الملتئم في 7/ت1/1943 تلا رياض الصلح بيانه الوزاري (أو وثيقة الاستقلال كما دعاه) وبسط فيه مختلف القضايا التي تهم البلاد فأغضب الفرنسيين لما تضمنه من عبارات اعتبرها المندوب ماسة بالانتداب. مثل "فنحن في مطلع عهد يتطلب منا قلب أوضاع تأصلت مع الزمن"، و "لبنان ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب"، و "تعلمون أن في الدستور اللبناني مواداً لايتفق وجودها وقيام الاستقلال.......". كما تضمن البيان عزماً على اعتماد اللغة العربية لغة رسمية.‏

                          وبعد يومين من إلقاء البيان، تلقى الصلح في 9/10/1943 من السفير الفرنسي (اعتبرت الحكومة المندوب سفيراً كغيره). كتاباً يقول : "إن الحكومة اللبنانية تخالف صك الانتداب بإحلالها اللغة العربية محل الفرنسية وتخالف نصوص الدستور اللبناني، وإن صك الانتداب لايخول لبنان حق تعديل الدستور منفرداً". فأجابت الحكومة بصراحة وجرأة أنها تعتبر الانتداب غير قائم. فلقد زالت من الوجود عصبة الأمم ومعها الانتداب الفرنسي عملياً أثناء الحرب العالمية الثانية.‏

                          وبادر الصلح إلى إصدار قرار (13/ت1) بأن جميع المخابرات والمعاملات بين الدوائر الرسمية يجب أن تحرر من الآن فصاعداً باللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للبلاد". وتلا هذا القرار تعريب الأوامر العسكرية(1).‏

                          وكانت قد جرت مفاوضات بين الحكومة السورية والحكومة اللبنانية حول استلام المصالح المشتركة من الفرنسيين واستثمارها، وقدمت الحكومتان السورية واللبنانية مذكرة إلى المسيو هيللو الذي خلف الجنرال كاترو، فاستمهلهما عشرة أيام ريثما يتسنى له حمل هذه المذكرة إلى الجزائر عاصمة الدولة حينئذ(2) للتشاور مع حكومته. وقد طلب هللو مقابل ذلك معاهدة على أساس معاهدة 1936، وأقلقه أن يكون كل من لبنان وسورية قد طلبا منه تحويل المندوبية إلى سفارة(3).‏

                          ولتحقيق مضمون البيان الوزاري كان لابد من مواجهة مع سلطات الانتداب، وهذا ماتحقق من خلال تعديل الدستور. أما العلاقة مع البلاد العربية فقد تحددت ضمن إطار جامعة الدول العربية.‏

                          وأدرك الشيخ بشارة الخوري خطورة المرحلة الجديدة بعد إلقاء البيان الوزاري، وخشي أن تلجأ فرنسا إلى تعميق الانقسام المسيحي الإسلامي لتعطيل مسيرة الاستقلال، لاسيما أنها تعتمد على رصيدها التقليدي في حماية المسيحيين وعلى شخصية اميل اده الفاعلة في الأوساط المارونية. ولذلك "حرص على أن يكون تعاونه والكتائب كاملاً، فكان يشرك بيار الجميل في كثير مما يتخذ من مقررات ويحدد من مواقف"(4).‏

                          وانطلقت حكومة الصلح تخطو الخطوة الأولى في تثبيت دعائم الاستقلال فقررت تعديل الدستور، إلا أن هيللو تمسك بالانتداب ولم يقف مكتوف اليدين، فقابل رئيس الجمهورية في 22/10/1943 ولفت نظره إلى المقاطع التي وردت في البيان الوزاري وحذره من اتخاذ أي موقف يتناقض مع شرعية الانتداب.‏

                          إلا أن الحكومة اللبنانية لم تأبه للتهديد معتمدة على التأييد البريطاني والعربي وعلى الدعم الشعبي لاسيما وأنها تمارس حقاً من حقوق السيادة.‏

                          وذهب هللو إلى الجزائر للتشاور مع حكومته .... وفي 5/11/1943 جاء الجواب بصورة غير مباشرة على طلبات الحكومة السورية واللبنانية حول المصالح المشتركة وحول تعديل الدستور اللبناني، فإذا هو بيان صادر عن لجنة التحرير الفرنسية أذاعته المندوبية الفرنسية العامة في بيروت وقد جاء فيه : "إن السلطات الفرنسية لايمكنها الاعتراف بصحة أي تعديل يجري بدون موافقتها، تقيداً منها بالموجبات الدولية التي تعهدت بها فرنسا أمام عصبة الأمم". ومن المسلم به آنذاك أن عصبة الأمم لم يعد لها وجود عملياً(5).‏

                          وغضباً من طريقة نشر البيان الذي أذاعته لجنة التحرير الفرنسية انتفض رئيس الوزارة للرد على هذه الإهانة، ودعا رئيس الجمهورية لعقد مجلس الوزراء وأحال مشروع تعديل بعض بنود الدستور إلى المجلس النيابي، وأخفقت كل محاولات السلطة الانتدابية لتأخير انعقاد جلسة التعديل. وقبيل انعقاد الجلسة بساعات وردت من هيللو الموجود في القاهرة عائداً من الجزائر، رسالة إلى وكيله (ايف شاتينيو Chataigneau) ليبلغها إلى المسؤولين الللبنانيين بضرورة تأخير الجلسة لأنه يحمل مقترحات هامة، فكان جواب الحكومة أن تعديل الدستور مسألة داخلية ولاشأن للمقترحات الهامة التي يحملها هيللو بها(6).‏

                          وفي وسط جو من الحماس الوطني انعقدت جلسة المجلس النيابي بعد ظهر الاثنين 8/11/1943 فيما كان آخر وسيط يسلم رياض الصلح رسالة من (شاتينيو). وقرر المجلس تعديل الدستور بإلغائه أو تعديله عشرة مواد. وهي التي تنص على الانتداب أو تلك التي تحتفظ بصلاحيات وامتيازات للمفوض السامي. وانسحب من الجلسة نواب الكتلة الوطنية(7). ويذكر مسعود ضاهر أن النواب الذين كان جلهم من التقليديين ومن غير الراغبين أساساً في تحدي الفرنسيين، اضطروا إلى خوض المعركة الوطنية إلى جانب دعاة الاستقلال وزوال الانتداب الفرنسي(8).‏

                          وأبرز مانصت عليه المواد المعدلة جعل "لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لاتتجزأ وسيادة تامة". ضمن حدود ثابتة واعتبرت العربية "اللغة الوطنية الرسمية"، أما اللغة الفرنسية فتحدد الأحوال التي تستعمل بها بموجب قانون بعد أن كانت رسمية كالعربية فألغيت بذلك الازدواجية. وشددت مواد أخرى على الاستقلال في السياسة الخارجية، وعلى التوازن الطائفي. كما ألغيت كل المواد المتعلقة بالانتداب. وكان ذلك بالإجماع في غياب اميل اده.‏

                          وصيغت مادة وحيدة تفرض العلم اللبناني الجديد (الحالي)، بدلاً من العلم الذي رفعه (لابرو) فوق سراي بعبدا(9). ووقع رئيس الجمهورية على التعديل في نفس اليوم ونشر في الجريدة الرسمية في اليوم التالي.‏

                          اعتبر المندوب السامي، الذي وصل إلى بيروت في 9/11/1943، أن التعديلات الدستورية التي أقرها المجلس تشكل تحدياً لفرنسا فقرر العمل بسرعة. وتحسبت الحكومة اللبنانية لإجراءات انتقامية إلا أنها عادت فاطمأنت عندما أكد هللو للجنرال سبيرز "بأنه لن يقوم بأي عمل فيه مظهر من مظاهر العنف"(10).‏

                          وفي اليوم التالي لوصوله 10/11/1943 أصدر قراراً ألغى بموجبه تلك التعديلات كما حل المجلس النيابي وعلق الدستور وعين اميل اده رئيساً للدولة والحكومة. وفي فجر 11/11/1943 اقتحم الجنود السنغاليون منازل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأربعة وزراء واقتادوهم إلى سجن راشيا. ثم اعتقلوا النائب عبدالحميد كرامي(11). ثم أذاع هيللو بيانـــاً أعلن فيه قراراته من راديو الشرق.‏

                          أخطأ اده الحساب بقبوله المنصب، وأحجم الجميع عنه بمن فيهم أعضاء الكتلة الوطنية، فلجأ إلى تأليف حكومة مديرين، فخذله أكثر من انتقاهم وأذاعوا بياناً برفضهم الاشتراك في الحكم. وبقيت الأمور متأزمة على الصعيد الرسمي، ومتفاعلة على الصعيد الشعبي، فأدرك اده أنه أضحى في عزلة(12).‏

                          وكان لعمل هيللو ردود فعل داخلية وخارجية. فقد عقد بعض النواب الذين لم يعتقلوا اجتماعاً وقرروا تغيير العلم الذي هو العلم الفرنسي وعليه أرزة، مما يدل على تبعية لبنان لفرنسا. ولكنهم جعلوا العلم يحمل الأرزة مما يعني أيضاً أن دولة لبنان أساسها جبل لبنان(13).‏

                          ويذكر خالد العظم أنه سألوا مرة رياض الصلح لماذا لم يجعل ألوان العلم اللبناني الجديد أربعة (الأبيض والأسود والأخضر والأحمر) كسائر الدول العربية. فأجاب : "هاهو علمنا يحوي الأبيض والأحمر والأخضر". فقلنا : والأسود؟ فقال: "إن السواد موحش ولذلك استبعدناه". ولكن الحقيقة هي أن السيد هنري فرعون كان معارضاً في جعل العلم الجديد بالألوان الأربعة حتى يبعد عنه التشابه مع الأعلام العربية، فخضع له رياض وسايره(14).‏

                          وتذكـــر زاهيـة قدورة أن اللونان الأحمر والأبيض يرمــزان إلى لوني علم الأمير فخــر الدين، الأحمر شعار القيسية والأبيض شعار اليمنية(15).‏

                          كما صدمت مختلف فئات اللبنانيين بعد الاعتقالات وهتفوا بعودة بشارة ورياض ومزقوا صور ديغول، وسارت المظاهرات فسقط القتلى والجرحى، واتفقت (الكتائب) و (النجادة) على تنظيم إضراب شامل في البلاد. وأعلن منع التجول، وانعقد المؤتمر الوطني وباءت محاولات الفرنسيين لايقاظ الفتنة الطائفية، حيث أشاعوا أن العرب والمسلمين سيبتلعون لبنان المسيحي، وأن هناك خطراً جدياً على مصير المسيحيين في لبنان(16). واعتبر بعض الوزراء الذين لم يعتقلوا، أنفسهم مقام رئيس الجمهورية والحكومة(17).‏

                          وعلى الصعيد الخارجي، كان لهذا الحادث وقع عظيم ليس في العالم العربي وحده بل في الأوساط الدولية ولاسيما الانكليزية والأمريكية، فردد (تشرشل) في مذكراته و (كردل هل): "مالهؤلاء الفرنسيين بينما يستعبدهم العدو إذا بهم يحاولون استعباد غيرهم". وطلب تشرشل من ديغول إطلاق سراح المعتقلين وتبديل هللو. وتحرك سبيرز أيضاً ووجه البريطانيون إنذاراً بإطلاق سراح المعتقلين قبل 22/11/1943. كما وجه عميد السلك الدبلوماسي في بيروت (سفير العراق) مذكرة احتجاج شديدة إلى هللو. ولكن برقية فاروق ثم احتجاج النحاس لدى ديغول كان لهما أثر أعمق في نفوس اللبنانيين والعرب عامة.‏

                          ثم وصل كاترو إلى بيروت في 16/11/1943 موفداً من ديغول في الجزائر بعد أن زوده بتعليمات للتضامن مع المندوب الفرنسي مهما كان خطأه. وقد مر على مصر. وبدأ اتصالاته مع الخوري ثم مع الصلح وحاول التقرب من الخوري على حساب الصلح. ثم اتصل مع البطريرك. وتأكد كاترو أن فرنسا خسرت الكثير من رصيدها بين أصدقائها، فكيف بين معارضيها.‏

                          وفي 21/11/1943 زار وزير الخارجية السورية الجنرال كاترو وأبلغه تضامن سورية مع لبنان، وطلب أن تعاد الأوضاع إلى ماكانت عليه. ويقول كاترو أن الحكومة السورية خرجت عن تحفظها بعد أن عرفت نبأ الإنذار البريطاني. وفي الواقع إن الحكومة السورية فوجئت بأحداث لبنان فاستمرت على مراقبة الموقف من جميع نواحيه ولم ينقطع اتصالها بالبريطانيين .‏

                          واضطر كاترو إلى إطلاق سراح المعتقلين في 22/11/1943. وحل (شاتينيو) محل هللو، وقد كان يقوم بوظيفة سكرتير في المندوبية. وأعلن كاترو الرجوع عن كافة القرارات التي اتخذها هللو، وقدم كاترو اعتراف اللجنة الوطنية في الجزائر بالكيان اللبناني(18).‏

                          لقد كان التيار السياسي المنتصر في معركة الاستقلال هو تيار لبنان الطائفي القديم الساعي إلى حكم لبنان بدون حماية أو وصاية أجنبية. التبدل الجديد هو التمسك بلبنان الكبير بحدوده الحاضرة لأن لبنان الصغير ليس قابلاً للحياة، وأن العودة إلى لبنان الطائفي الوحيد الجانب أو الثنائي الوجه باتت مستحيلة. البديل إذا هو لبنان المتعدد الطوائف لا لبنان الطائفة الواحدة، لبنان على قاعدة وحدة الطوائف بزعامة الطائفتين الأكثر عدداً تبعاً لإحصاء 1932 المتحجر، لا لبنان الذي تسيطر فيه طائفة واحدة على باقي الطوائف.‏

                          إن هذه المنطلقات السياسية تجد كامل ركائزها في مقررات مؤتمر بكركي حين وقف البطريرك خطيباً في حفلة الاقتتاح ليقول: " نريد مجلساً منتخباً انتخاباً حراً تتمثل فيه الطوائف والمناطق تمثيلاً عادلاً.. إن هذا الصرح ليس وقفاً على الطائفة المارونية فحسب، بل هو بيت جميع اللبنانيين ووقف للمصلحة اللبنانية لافرق فيها بين طائفة وأخرى.. نريد استقلالاً مبنياً على المساواة بالحقوق تأخذ كل طائفة فيه حقوقها بنسبة أهميتها"(19).‏

                          لقد انتقلت السلطة والمصالح من الفرنسيين إلى اللبنانيين على نفس النمط الفرنسي الطائفي، وضمن الحدود التي رسمها الفرنسيون. ورضي المسلمون في عام 1943 بحدود لبنان وهو ماكانوا يرفضونه منذ خلق دولة لبنان الكبير عام 1920.‏

                          واعتبر يوم إطلاق السجناء 22/11/1943 عيداً وطنياً للاستقلال. وهذا الاستقلال ناقص بمفهوم القانون الدولي ولم يكتمل إلا اعتباراً من 31/12/1946 عندما جلت الجيوش الفرنسية، فأصبح لبنان (واقعاً وقانوناً) دولة مستقلة وسيدة(20).‏

                          وما أن حقق لبنان استقلاله السياسي حتى اجتمع برلمانه في كانون الأول 1943 ليشكر الدول والمؤسـسات والشخصيات التي أيدت لبنان في معركته وشكر الدول العربية للموقف النبيل الذي وقفته حيال لبنان (مصر والعراق وابن سعود وسورية الشقيقة والأمير عبدالله). إن تضامن الشعوب العربية مع شعب لبنان في معركته الاستقلالية كان له أثر واضح في الضغط على المفوضية الفرنسية ومن وراءها. ولكن أثره الأكثر أهمية يكمن في تحديد مسار هذا الكيان السياسي للبنان باتجاه هذه الدول العربية بالذات.‏

                          إن معركة استقلال لبنان قد حملت في طياتها تأكيد الشعوب العربية وحكامها على عروبة لبنان شعباً وأرضاً ومصيراً ولكن ميثاق دولة الطوائف المستقلة عام 1943 جاء يسلب هذه العروبة وجهها الحقيقي ويبقيها عروبة لفظية رسمية واقتصادية، تلك هي عروبة الميثاق أو العروبة النفعية(21).‏

                          ولعل تخوف بعض المسيحيين من اللغة العربية أو بصورة أعم من الهوية العربية، ناجم عن اعتقاد هؤلاء بأن العروبة والإسلام شيء واحد وأن العروبة تعني الإسلام وأن العروبة هي هوية المسلمين، فهل العروبة هي الإسلام؟ أم أن الإسلام أو الدين بصورة عامة هو عنصر من عناصر القومية فقط له ما للعناصر الأخرى من دور في خلق القومية(22). والتخوف من الإسلام نفسه له أسبابه ومواقفه الخارجية المعروفة.‏

                          2- سياسة فرنسا في سورية ولبنان بعد تحررها‏

                          من الاحتلال الألماني 1944 :‏

                          لاشك أن الضربة التي تلقتها فرنسا في تشرين الثاني 1943 قد أضعفت من قدرتها على المساومة، فاضطرت إلى التخلي عن كثير من الاختصاصات للحكومتين الوطنيتين دون عقد المعاهدة مقدماً. ومن ذلك إدارة شؤون البدو والرقابة على الصحف. وزالت الحجة القائلة : إن المصالح المشتركة بين سورية ولبنان مثل الجمارك، يجب أن تتولاها السلطات الفرنسية منعاً للخلاف، كذلك سلمت إدارة المناطق التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي مثل جبل الدروز وبلاد العلويين إلى حكومة دمشق.‏

                          وبقي موضوع تسليم الجند الخاص، وهي قوات تتكون من عناصر متطوعة مختلطة كالشركس والأرمن بالإضافة الى سكان البلاد الأصليين، (من طوائف معينة بشكل خاص)، وكانت تتبع قيادة الجيش الفرنسي وتقوم بأعمال الشرطة، وقدر عددها آنذاك بـ (25) ألفاً. وقد طالبت الحكومة السورية بتسليم الجند الخاص إليها، وبدأت المفاوضات لإلحاقها بالحكومتين السورية واللبنانية منذ نهاية 1943 بدون الوصول إلى نتيجة. وكانت سورية حقاً بحاجة ماسة إلى هذه الفرق لتكون نواة جيشها الوطني ولتواجه الأعباء المتزايدة بعد إدماج منطقة العلويين وجبل الدروز، وعلى أقل تقدير فإن الجند الخاص استخدم في قمع الثورة السورية سنة 1925 فلا يؤمن تركه بيد الفرنسيين حتى لايستخدم مرة أخرى في الصراع المرتقب، أو أن يكون أداة للضغط أثناء المفاوضات. وقد سلمت فرنسا في حزيران 1944 فصيلة من الجند الخاص إلى الحكومة اللبنانية، ولعلها كانت تقصد إلى إحداث تفرقة جديدة ولكن دون جدوى. أما في سورية فقد احتفظت به حتى وقع الصدام في العام التالي(23).‏

                          ومن المعروف أن الأراضي الفرنسية قد حررت من الاحتلال الألماني خلال عام 1944 (إذ أن قوات الحلفاء باشتراك الولايات المتحدة التي دخلت الحرب، قد نزلت في فرنسا في 6/6/1944) ودخلت الحرب مرحلتها الثالثة وهي مرحلة فوز الحلفاء. واعترفت بحكومة ديغول المؤقتة بدلاً من لجنة التحرير الوطنية. ولاشك أن هذا الوضع الجديد هو الذي جعل الجنرال ديغول يتشدد مرة أخرى إزاء قضية استقلال سورية ولبنان، ولكنه كان مخطئاً في هذا التصور، فقد تحسن موقف القطرين العربيين خلال نفس الفترة من الناحية الدولية إذ اعترف باستقلالهما كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد أعلنت الدولتان عند الاعتراف باستقلالهما أنهما ترفضان تفوق نفوذ أية دولة أوروبية في سورية ولبنان، وإن كان دافع كل واحدة منهما مختلفاً.‏

                          فالولايات المتحدة اتخذت هذا الموقف لأنها ليست على علاقة طيبة بالحكومة الفرنسية المؤقتة. كذلك تأكد استقلال سورية ولبنان اقتصادياً عن فرنسا، فقد فضل الوطنيون استمرار الارتباط بالاسترليني حتى لايتعرض النقد السوري للتقلبات التي أصابت الفرنك في هذه الحقبة. وبعد أن قضت فرنسا معظم سني الحرب وهي تعاني من الاحتلال الأجنبي، وبعد أن أصبحت فرنسا محررة منذ أواخر 1944 وتتمتع باستقلالها (وسيادتها) اتبعت سياسة جديدة تجاه سورية ولبنان.‏

                          وتتبين ملامح السياسة الفرنسية الجديدة من التصريح الذي أدلى به ديغول في مؤتمر صحفي في 25/1/1945 إذ قال : "كانت فرنسا أول دولة اعترفت باستقلال هاتين الدولتين اللتين فيهما مركز ممتاز يجب أن تحافظ عليه. وأن فرنسا مصممة على أن تمنح أصدقاءها السوريين واللبنانيين استقلالاً حقيقياً، ولكن التدخل الأجنبي هو الذي يزيد في تعقيد هذه المسألة"(24).‏

                          أما جورج بيدو وزير الخارجية فهو يميني متطرف، ولذا كان تصريحه إزاء هذا الموضوع أشد صراحة في معارضة الاستقلال التام فقال : "إن فرنسا مسؤولة عن حفظ النظام في سورية وأنها تدافع عن امتيازاتها بالقوة المسلحة التي تحت تصرفها وأرسلت تعليمات بهذا المعنى إلى المقيم العام الفرنسي في المشرق"(25).‏

                          وهكذا يبدو أن فرنسا لم تعد تخشى أخطار مغامرة جديدة كمغامرتها في لبنان سنة 1943 فالظروف تغيرت بعد نهايةالحرب. ولم يعد تأثير البريطانيين والأمريكيين على الفرنسيين كما كان من قبل. فقد أصبحت فرنسا مستقلة بأسطولها ومستقلة بجيشها تتصرف فيهما كما تريد. واعتقدت فرنسا أنها أصبحت قادرة على فرض سياستها بالقوة. وكل ماتستطيع أن تفعله وزارة الخارجية البريطانية هو السعي لتقريب وجهات النظر بين سورية وفرنسا، حتى أنها أصبحت خلافاً للماضي تتجنب توجيه سؤال للحكومة الفرنسية، كي لاتثير شكوكها التي لاتكاد تنقطع عن مطامع بريطانيا في المشرق(26).‏

                          3- الاستفزازات الفرنسية قبل حوادث 1945‏

                          في سورية ولبنان :‏

                          لقد أرادت فرنسا النكول عن تعهداتها باستقلال سورية ولبنان، وندمت بعد أن سلمت قسماً كبيراً من (المصالح المشتركة) إلى الحكومتين قبل أن تعقد معاهدة تضمن لفرنسا مصالحها. ولم يبق إلا الجيش والأمن تتمسك به لتضع شروطها. وبينما كان وفد سورية في سان فرانسيسكو يعمل في سبيل استقلال سورية وتأييد حقوق الشعوب الضعيفة في الاستقلال، كان الفرنسيون يعملون في البلاد السورية على خلق الاضطرابات في بعض المناطق وجعلوا جنودهم يتحرشون بأبناء الشعب السوري بكل مناسبة لخلق جو من الاضطراب والفوضى تذهب معه معالم الاستقلال. وكانت الحكومة السورية على علم بما تبيته القوات الفرنسية من شر مستطير، وكانت الحوادث الاستفزازية قد تكررت بين قوى الأمن الداخلي السوري والقوى الفرنسية بشكل جعل حالة المدن السورية أشبه شيء بحالة الحرب الداخلية(27). كل ذلك بهدف إثارة المتاعب للحكومة السورية واللبنانية لتقبلا بعقد معاهدة مع فرنسا تعطيها مركزاً ممتازاً.‏

                          ففي شباط 1945 ثبت أن الفرنسيين كان لهم ضلع في إثارة الاضطرابات بجبل العلويين مما أدى إلى حدوث توتر شديد بين الشرطة السورية وبين قوات الاحتلال(28). وخاصة أنه لم يكن بيد الحكومة السورية قوات مسلحة، فكانت مظاهرات الطلاب الصاخبة في مدن سورية تطلب الجيش الوطني. وكانت الحكومتان السورية واللبنانية تعبران عن إصرارهما في الحصول على الجيش الوطني(29).‏

                          وفي لبنان استغل الفرنسيون فوز (يوسف كرم) في الانتخابات النيابية الفرعية عن زغرتا، وهو نائب موال للفرنسيين، فلما حضر إلى المجلس النيابي في 27/4/1945 مع عدد من أنصاره (بصحبة قوات الاحتلال)، اندس بينهم عملاء للفرنسيين وحاولوا رفع العلم اللبناني القديم أي العلم الفرنسي الذي تتوسطه الأرزة والذي يرمز إلى ارتباط لبنان بفرنسا، وذلك لرفعه على باب المجلس، كما حاولوا اقتحام القاعة التي يتواجد فيها النواب، وحدث صدام بينهم وبين أنصار الاستقلال، فأطلق الجنود الفرنسيون المتمركزون في بناء قريب النار بعد أن قطعت خطوط الهاتف عن مبنى المجلس وسقط قتلى وجرحى. إلا أن الحكومة سيطرت على الوضع، ودخل النائب كرم من دون أنصاره واستنكر ماحدث. كما حدثت استفزازات أخرى في الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الانتصار على ألمانيا. حيث توقفت الحرب فيها في 8/5/1945(30).‏

                          4- مساعي سورية ولبنان من أجل الاستقلال الكامل‏

                          1944-1945 ورفض المعاهدة مع فرنسا :‏

                          بعد إنزال القوات الحليفة في فرنسا 6/6/1944 ويسبب تخوف بريطانيا من انتقال عدوى الاستقلال إلى المناطق التي تخضع لنفوذها في الشرق، حدث تقارب فرنسي بريطاني يضمن مصالح الدولتين في الشرق الأوسط، إذ عقدتا اتفاقاً تقاسمتا فيه مناطق النفوذ(31).‏

                          وجرت مفاوضات كثيرة وتبودلت مذكرات عديدة بين الحكومة السورية والحكومة البريطانية حول هذا الاتفاق الذي عقدته بريطانيا مع فرنسا الحرة. وكانت الحكومة السورية تصر بأنها لا تريد أن تعترف لفرنسا بأي مركز استثنائي ولا أن تعقد معها أي عهد. وأبلغ رئيس الجمهورية ذلك بصراحة إلى الوزير البريطاني حينما حمل إليه وإلى الحكومة السورية تبليغاً شفوياً يتعلق بفتح باب المفاوضات. وكان مندوب فرنسا العام قد حمل إلى الحكومة السورية نبأ اجتماع عقده أخيراً المستر ايدن والمسيو مسيغلي حول هذا الموضوع، فكتب رئيس الجمهورية إلى المستر تشرشل كتاباً وصف فيه وضع سورية وتمتعها بالاستقلال الكامل القائم على حكم دستوري ديمقراطي والمعترف به من قبل الولايات المتحدة وروسيا والدول العربية وبريطانيا. واستلمت من فرنسا المصالح المشتركة. فحقوق سورية إذن تناقض المساعي التي ترمي إلى عقد معاهدة مع فرنسا، وأرسل وزير الخارجية السورية رسالة بهذا المعنى إلى المستر ايدن.‏

                          وبعد ذلك بعثت وزارة الخارجية البريطانية إلى الوزير المفوض في سورية الجنرال سبيرز ببرقية جاء فيها أنه من الأمور الضرورية التي لامفر منها أن تعقد معاهدة بين الدولة المنتدبة والبلاد التي كانت تحت الانتداب لتوضيح العلائق المستقبلية بين الفريقين بعد الاستقلال التام حسب وعد الاستقلال الذي أعطي لسورية ولبنان في عام 1941. وأنه ليس هنالك اتفاق سري تشمل أحكامه دول المشرق. وأن بريطانيا لاتحاول فرض أي شكل معين على الحكومة السورية.‏

                          وهذه الرسالة البرقية توضح نواحي كثيرة من الأساليب التي كانت تتبعها بريطانيا في محاولاتها للتوفيق بين السوريين والفرنسيين. فلقد بحث سبيرز من قبل مع رئيس الجمهورية والوزارة السورية هذه الأمور وأعرب عن حرص حكومته على دوام علاقاتها الحسنة مع فرنسا تلك العلاقات التي تقضي بها ضرورات الحرب المشتركة وتستلزم بأن يتم التفاهم بين فرنسا وسورية بما فيه فائدة مشتركة للجميع(32).‏

                          وكان رئيس الجمهورية لايبرح هو وحكومته يبذلان المساعي الدبلوماسية لايضاح وجهة نظر سورية التي تمسكت بها في عدم الاعتراف لفرنسا برجحان سياسي واقتصادي أوثقافي أو عقد معاهدة معها. وبعث برسائل عديدة إلى الرئيس روزفلت وإلى الماريشال ستالين فضلاً عن المستر تشرشل لتأييد ذلك(33).‏

                          وفي أوائل شباط 1945 سافر رئيس الجمهورية السورية إلى القاهرة واجتمع بالمستر تشرشل والمستر ايدن وفصل لهما وجهة النظر السورية. وكانت فرنسا تريد أن تتقدم بمقترحات، كما أن سورية تستعد لترى في هذه المقترحات مايمكن قبوله ومالايمكن، فتلقى الرئيس التأكيد من رجال الحكومة البريطانية أنه لن يكون هناك إكراه(34). كما اجتمع القوتلي مع الملك فاروق والملك عبدالعزيز في 16/2/1945 قرابة خمس ساعات وكان وجود عبدالعزيز في مصر ولقاءاته سرياً(35).‏

                          ثم ألقى المستر تشرشل بياناً في مجلس العموم في 27/2/1945 ذكر فيه اجتماعه بزعماء العرب فقال : " بذلنا غاية الجهد لتأمين اتجاه ودي نحو فرنسا وتشجيع المفاوضات معها للوصول إلى تسوية مرغوبة ليس في سورية وحدها بل في لبنان أيضاً. وموقف بريطانيا فيما يتعلق بسورية ولبنان بالنظر إلى علاقاتنا مع حلفائنا الفرنسيين، قائم على بيانات 1941 بشأن استقلال دولتي المشرق، وإن بريطانيا لاتعمل على أن يحل نفوذها محل نفوذ فرنسا فيهما. ونحن مصممون على أن نبذل جهودنا للمحافظة على وضع فرنسا الخاص بسبب ماأسـسته في سورية مدة عهد طويل من صلات ثقافية وتاريخية...". وذكر أنه لايسلم بالتعارض بين وجود مركز متفوق وبين الاستقلال. وألمح إلى أن مثل هذه الموضوعات المعقدة يحسن طرحها على مؤتمر الصلح، كما أكد أن بريطانيا لاتستطيع وحدها أن تتحمل مسؤولية المبدأين الأساسيين اللذين وضعهما للقضية وهما (احتفاظ فرنسا بمركز متفوق واستقلال سورية ولبنان، ولفت النظر إلى أن دول الحلفاء الكبرى قد اعترفت باستقلال سورية ولبنان، ولذا توقع أن يتوطد استقلالهما بفعل سلطات الهيئات العالمية(36).‏

                          وهكذا يتضح أن موقف بريطانيا إزاء استقلال سورية ولبنان قد تبدل وتعددت التصريحات بشأنه. وتحملت بريطانيا وحدها المسؤولية لمجابهة التدخل الفرنسي في أيار 1945. وإن كان كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قد أبدى تأييده لموقف الوطنيين السوريين.‏

                          لقد كان البريطانيون يعللون موقفهم دائماً بالرغبة في المحافظة على الأمن لأن الحرب في الشرق الأقصى لم تـنـته بعد. كما تظاهروا بمراعاة مبادىء ميثاق الأطلسي الخاصة بحق الشعوب في تقرير المصير. وربما كان ذلك تبريراً للنزاع الخفي الذي ظل قائماً بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط رغم توزيع مناطق النفوذ.‏

                          ومع أن الانجليز كانوا ينفون دائماً أنهم يريدون أن يحلوا محل فرنسا في سورية ولبنان، فمن المحتمل أنهم رسموا خططهم على أساس التسلل بواسطة نفوذ غير مباشر وهو إلحاق سورية ولبنان بجامعة عربية يتمتعون لدى أغلبية أعضائها بالنفوذ.‏

                          وثمة عامل أثر على توجيه السياسة البريطانية وهو عدم الاطمئنان إلى مستقبل فرنسا السياسي حيث بدأ الشيوعيون يكتسبون نفوذاً فيها ويخشى البريطانيون من وصولهم إلى السلطة(37). وكان تشرشل يعتقد بنتيجة جهوده أن لابقاء لفرنسا في سورية(38).‏

                          3- قضية (المصالح المشتركة) منذ الاستقلال حتى الجلاء :‏

                          لقد استمرت منطقتا سورية ولبنان مشمولتين (بالوحدة الاقتصادية الكاملة) في ظل الاحتلال الفرنسي إلى أن انفصمت عراها من قبل الحكومتين إثر تمتع سورية ولبنان باستقلالهما في 1943. فقد عقد ممثلو البلدين الاتفاق المسمى باتفاق 1 تشرين الأول 1943 الذي أوجد (الوحدة الجمركية) بدلاً من الوحدة الاقتصادية والذي وقعه رياض الصلح وسليم تقلا عن لبنان وسعدالله الجابري وجميل مردم بك عن سورية الذين قضوا على الوحدة الاقتصادية القائمة منذ مئات السنين وحصروا علاقاتهما المشتركة بالشؤون الجمركية فحسب. وأنشأ الاتفاق مجلساً أعلى للمصالح المشتركة أنيط به التشريع الجمركي بموافقة مجلس الوزراء في كلا البلدين. وفصلت سائر المصالح التي كانت موحدة تحت إدارة الفرنسيين، فبدأت كل من الحكومتين تشرع في الأمور الاقتصادية بالاستقلال عن الأخرى.‏

                          ويذكر خالد العظم(39). قصة عقد هذا الاتفاق بقوله : " تتلخص القصة في أن الجانب الفرنسي كان بتمسكه بإدارة المصالح المشتركة السورية اللبنانية، يزعم أن الحكومتين لم تتفقا على كيفية إدارتها، فاضطر هو للقيام بهذا العمل نيابة عنهما. وأول محاولة للاستيلاء على تلك الإدارة قامت بها الحكومتان السورية واللبنانية كانت في عهد الرئيس اللبناني ألفرد نقاش والرئيس السوري تاج الدين الحسني. إذ عقدتا اتفاقاً أحسن من اتفاق أول تشرين الأول 1943 وأوثق للعلاقات الاقتصادية بين البلدين. وطلبتا من الجنرال كاترو المندوب العام الفرنسي تسليم الحكومتين إدارة المصالح المشتركة، فغضب الجنرال مما أدى إلى إقصاء الحكومتين واستمرار الإدارة على ماكانت عليه " .‏

                          " وبعد أن تألفت حكومتان وطنيتان، (في بيروت اجتمع المجلس النيابي المنتخب في 21/9/1943). وفي دمشق (اجتماع المجلس النيابي المنتخب في 17/8/1943)، جددت المساعي للاتفاق. فاجتمع المندوبون مرات عديدة ولم يعلنوا عن الغرض الحقيقي من اجتماعهم. وسعى الجابري ومردم لتحقيق الوحدة الاقتصادية، إلا أن رياض الصلح رفض ذلك وأصر على قصر هذه الوحدة على الشؤون الجمركية. فكان هذا الاتفاق الأبتر الذي جر على البلاد السورية المضار الكثيرة " .‏

                          وقد حدد اتفاق تشرين الأول 1943 المصالح المشتركة بأنها كل ماكان يدار من قبل المندوبية الفرنسية وتنقسم إلى قسمين :‏

                          القسم الأول: ويشمل مايجب أن تستمر إدارته مشتركة لمدة غير معينة كمصالح الجمارك ومراقبة الشركات ذات الامتياز (وهي التي تشمل منطقة عملها أراضي الدولتين)، ومراقبة إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي).‏

                          والقسم الثاني: ويشمل مايجب أن تترك إدارته فوراً لكل من الحكومتين ضمن أراضيها، كمصلحة البارود ومصلحة حماية الملكية الصناعية والتجارية والفنية والأدبية والموسيقية، ومصلحة الأشغال العامة وإدارة البرق والبريد ودار الآثار والدفاع السلبي والأمن العام ومراقبة الشركات ذوات الامتياز التي لاتتجاوز منطقة عملها أراضي إحدى الدولتين، وحراسة أموال الأعداء، وكل المصالح الأخرى التي لم تعين في القسم الأول.‏

                          وحدد الاتفاق طريقة إدارة المصالح المشتركة في القسم الأول بتشكيل (مجلس أعلى للمصالح المشتركة) من ثلاثة ممثلين لكل دولة ولهم الحق أن يستعينوا بالخبراء والاخصائيين الذين يرون لزوماً لهم. ويتخذ المجلس مقرراته باتفاق الآراء، ويكون لمجموع ممثلي كل دولة رأي واحد. ويزاول المجلس عمله ستة أشهر في دمشق وستة في بيروت ويرأسه رئيس الممثلين في الجانب في هذه الحالة، ورئاسته بالتناوب، وله صلاحيات محددة بشأن إدارة المصالح المشتركة.‏

                          وبالنسبة لمصلحة الجمارك فإن الاتفاق نص على : " إن سورية ولبنان تؤلفان منطقة جمركية واحدة ذات وحدة جمركية تنتقل البضائع ضمنها بحرية تامة وبدون أية ضريبة أو رسم جمركي ". وعلى هذا الأساس يكون للدولتين إدارة جمركية واحدة تمارس عملها على أساس وحدة النظام الجمركي.‏

                          وقرر الاتفاق توزيع واردات الجمارك بحسب نفقات المصالح المشتركة، وحدد الاتفاق توزيعاً مؤقتاً لباقي الايرادات الصافية بنسبة 40% لكل من الدولتين والباقي معدة للتوزيع.‏

                          وجعل الاتفاق مدته سنتين وأن يسعيا مشتركين لاستلام هذه المصالح من فرنسا، ويجب أن يبرم الاتفاق من الدولتين(40).‏

                          ويتحدث خاللد العظم عن موقف رياض الصلح بقوله : (41)‏

                          " وجدير بالأسف موقف رياض الصلح السلبي، فهو المناضل في سبيل استقلال سورية الكبرى بما فيها لبنان وشرق الأردن، والمعارض لتفريق لبنان من سورية. غير أن هذا الرجل تنازل عن خطته هذه وأصبح زعيم استقلال لبنان منفرداً عن سورية في سبيل الحصول على تأييد الأكثرية المارونية. وأمسى في كل مناسبة تتعارض فيها مصالح سورية ولبنان يعمل جهده لدى رفاقه الأقدمين متولي الحكم في دمشق، ليؤمن للبنان منافع على حساب سورية. وحتى يعطي بذلك دليلاً مستمراً على دفاعه عن حقوق لبنان .‏

                          وكان من جهة ثانية يوهم حكام سورية بأنه إذا زال عن الحكم تولاه من هم أبعد منه عن سورية وأقرب إلى الفرنسيين. لكن الحقيقة هي أن زعيم استقلال لبنان والمجابه الحقيقي للنفوذ الفرنسي كان رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، فلولا تصلبه ولولا كونه مارونياً، لما استطاع رياض الصلح الوقوف في وجه الانتداب الفرنسي ذلك الموقف الشهير (تشرين الثاني 1943) بإلغاء بعض نصوص الدستور اللبناني القاضية بجواز تدخل الفرنسيين في شؤون الحكم في لبنان، ولما استطاع الوقوف في وجه الموالين لفرنسا من الموارنة " .‏

                          " وكان رياض الصلح يدعي في جلسات خاصة بأن سياسته الرامية إلى إبقاء الأقضية الأربعة ضمن أراضي الجمهورية اللبنانية كانت مستندة إلى رغبته في إبقاء التوازن النسبي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان على ماهو عليه واستبعاد تضاؤل عدد المسلمين في لبنان الصغير، إذا ما ألحقت تلك الأقضية الأربعة التي يقطنها المسلمون بسورية. هذه النظرية صحيحة من حيث الأرقام. ولكنها ككل القضايا يتداخلها عنصر الاحتمال، فهل كان لبنان قادراً على الاحتفاظ باستقلاله لو سلخت عنه الأقضية الأربعة؟. وهل كان هذا البتر يؤدي إلى انصهار لبنان في المجموعة السورية بطبيعة الحال وبمضي السنيين؟. أم إلى ارتمائه في أحضان فرنسا وصيرورته مستعمرة فرنسية؟. إنه ليصعب على المرء أن يحكم حكماً قاطعاً على نتائج الحوادث. فكثيراً ماتؤول الأمور إلى مصائر غير منتظرة وغير معقولة. وعلى أي حال، إذا جاز للمرء أن يقدر بالأرقام حظ كل واحد من هذين الاحتمالين فإنني أقدر أن تسعين بالمائة من الاحتمالات كانت إلى جانب انضمام لبنان الصغير إلى سورية في المستقبل القريب أو البعيد" .‏

                          " صحيح أن رياض الصلح لم يكن قادراً في عام 1943 على توجيه مصير بلاده نحو الانضمام إلى سورية، فهناك بشارة الخوري الحريص على استقلال لبنان وعلى كرسيه بنفس الوقت، لكن ألم يكن بمقدرة رياض الصلح، وهو المشهور بحذاقته وأساليبه، أن يجعل لبنان يتدرج في طريق الانضمام رويداً رويداً حتى يصل يوماً من الأيام إلى هذه النتيجة؟ أحسب أن ذلك لم يكن عسيراً عليه. لكن إذا تمت الوحدة السياسية وانضم لبنان إلى سورية، فمن يضمن لرياض الصلح رئاسة الحكومة في الدولة الموحدة؟. ومن يؤمن له فيها مايتمتع به من نفوذ في لبنان؟ ودمشق بلد لم يستطع الأجنبي بجيشه القوي أن يسيطر عليها وأن يبسط نفوذه فيها. فأنى لرياض الصلح ذلك؟ ".‏

                          " تلك العوامل التي جعلت من رياض الصلح زعيماً لانفصال لبنان عن سورية بعد أن كان في جملة المنادين بوحدة البلاد العربية والعاملين في سبيل تحقيقها. أما القوتلي والجابري ومردم فإني أجد لهم بعض العذر في مسايرة رياض لأنهم كانوا يعرفون رياضاً ويعلمون حق العلم ماهو مجبول عليه من الانتهازية. فهم حسبوا حساباً لإمكان تطور رياض، وكان لابد لهم من التكاتف معه في جهودهم لقلع جذور الانتداب الفرنسي. وكانوا يخشون أن يرجع رياض عن قوله المأثور "لاأسمح أن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولاممراً". فتثبت أقدام الانتداب ويمسي الخطر قريباً من سورية. وكان رياض بعقلية التاجر اللبناني، يبيع زملاءه السوريين هذه المؤازرة فيقبض ثمنها منافع مادية لا لنفسه لكن للبنان"(42).‏

                          ولعل ميل لبنان إلى إلغاء الوحدة الاقتصادية والاكتفاء بالوحدة الجمركية، يرجع إلى أن جمهرة الموارنة والكاثوليك كانوا راضين بالوحدة الاقتصادية لأن زمامها إدارياً وتشريعياً ومالياً في يد ممثلي الانتداب الفرنسي. فلما بدأ الاستقلال وتقرر الجلاء ولم يعد هناك ضابط مشترك يبعد عنهم مايتوهمونه من خطر الاتحاد الاقتصادي، انقلب الأمر وصاروا ضد هذه الوحدة على طول الخط(43).‏

                          المهم أنه بعد عقد اتفاق (1/10/1943) دارت بين الحكومتين السورية واللبنانية أبحاث غير مثمرة مع الجانب الفرنسي لاستلام المصالح المشتركة من الفرنسيين(44). وقدمت الحكومتان خلال شهر تشرين الأول إلى المسيو (هيللو) الذي خلف الجنرال كاترو، طلباً للتفاوض حول استلام هذه المصالح، فاستمهلهما عشرة أيام ريثما يتسنى له حمل هذه المذكرة إلى الجزائر عاصمة الدولة الفرنسية حينئذ(45). ورد الفرنسيون بوضع شرط المطالبة بعقد معاهدة على أساس مضمون معاهدة 1936 مع البلدين تمنح فرنسا بموجبها مركزاً ممتازاً في كل منهما(46).‏

                          وبسبب تعديل الدستور اللبناني (8/ت2/1943) وقع الاشتباك بين الوطنيين والفرنسيين. وقد يبدو غريباً أن يقع هذا الاشتباك قبل سورية، وذلك نظراً للصلات التقليدية التي تربط بين فرنسا وبين بعض العناصر في لبنان. ولعل ذلك لأن فرنسا كانت تخطط للاعتماد على لبنان(47).‏

                          وحسب تعبير كاتب لبناني : " فمع تعديل الدستور برهن المسؤولون اللبنانيون عن كفاءة وتصرفوا حسب ذهنية السيادة الوطنية الكاملة وقامت المطالبة بتسليم مقاليد أمور الدولة بدءاً بالمصالح المشتركة(48).‏

                          ويقول خالد العظم : " وقد استغلت الحكومتان السورية واللبنانية تضعضع مركز الفرنسيين بعد قضية الدستور اللبناني وإعادة الحكومة الشرعية (22/11/1943)، فبدأتا بالمباحثات مع الجنرال كاترو على نحو جديد لاستلام صلاحياته. عند ذلك دعيت للاشتراك بهذه المداولات الرسمية. وعقد للمرة الأولى اجتماع في القصر الجمهوري بدمشق حضره عن سورية الرئيس القوتلي والجابري (رئيس الوزراء السوري) ومردم (وزير الخارجية) وأنا (وزير المالية). وعن لبنان رياض الصلح (رئيس الوزارة) وسليم تقلا (وزير الخارجية) والأمير جميل شهاب (وزير المالية). وعن الجانب الفرنسي الجنرال كاترو ومسيو شاتينيو.‏

                          " وانتهت الأبحاث بعد مذكرة طويلة بتسطير محضر (في دمشق) تعهد الفرنسيون فيه بتسليم المصالح المشتركة فيما بعد، عدا الجيش، على أن يجري ذلك في محاضر خاصة تستلم الحكومتان بموجبها كل مصلحة على حدة. ونشر هذا الاتفاق في 22/12/1943"(49). ووقع الاتفاق كاترو ورياض الصلح وسليم تقلا وسعد الله الجابري وجميل مردم وخالد العظم.‏

                          " تم الاتفاق في تاريخ هذا اليوم بين الجنرال كاترو مفوض الدولة المكلف بالمهمة، وبين ممثلي الحكومتين السورية واللبنانية على تسليم هاتين الحكومتين الصلاحيات التي تمارسها الآن السلطات الفرنسية باسمهما، وستنتقل بحسب هذا الاتفاق المصالح المشتركة وموظفوها إلى الدولتين السورية واللبنانية مع حق التشريع والإدارة منذ أول كانون الثاني القادم (1/1/1944). وستكون الأساليب المتعلقة بانتقال هذه الصلاحيات موضع اتفاقات خاصة".‏

                          وقال الجنرال كاترو في مذكراته بعد أن بحث هذا الاتفاق : لقد أصبحت الأزمة منتهية ولكن نهايتها كانت أن تخلينا عن كل مابقي لنا من سلطات انتدابية، بل إننا اعترفنا ضمناً باستقلال سورية ولبنان(50).‏

                          وبعد اتفاق 22/12/1943 بين الحكومتين السورية واللبنانية والجانب الفرنسي بدأت عملية استلام المصالح المشتركة. ويقول العظم : " انتدبت للاشتراك عن سورية في الاجتماعات التي تقرر عقدها في بيروت بحضور مندوبي لبنان وفرنسا لإنجاز استلام وتوقيع المحاضر. فعقدنا عدة اجتماعات في القصر الجمهوري ببيروت، تولى فيها الرئيس الخوري وأنا عن سورية، ومسيو اوستروروغ عن فرنسا، وضع صيغة المحاضر. فأثار المندوب الافرنسي قضية المستشارين والموظفين الفرنسيين في تلك الدوائر، فتم الاتفاق على إبقائهم مدة ستة أشهر يسرحون بعدها ويقبضون تعويضاتهم القانونية. فكان أول محضر وضعناه هو المتعلق بالجمارك وذلك في 2/1/1944، فاستلمنا تلك الدوائر بحفلة خاصة .‏

                          " وأقر مجلس النواب اللبناني اتفاق 1/10/1943 مع الكتب التي تبودلت مع رياض الصلح في 3/2/1944. وأصدرت الحكومة السورية مرسوماً تشريعياً بذلك. ثم صدر مرسوم بتعيين الأعضاء السوريين في المجلس الأعلى للمصالح المشتركة وهم إحسان الشريف ومحسن البرازي وليون مراد. كما عينت الحكومة اللبنانية ممثليها وهم الأمير جميل شهاب وموسى مبارك وباسيل طراد. وبدأ هذا المجلس أعماله متخذاً بيروت مقره نصف السنوي وفقاً للاتفاق السابق.‏

                          " ثم استمر استلام الدوائر من الفرنسيين تباعاً، ولم تخل عملية الاستلام من الخلافات، وألحقت كل واحدة منها بالوزارة المختصة ماعدا الجمارك ومراقبة حصر التبغ التي بقيت تحت سلطة المجلس الأعلى للمصالح المشتركة"(51).‏

                          وكان الفرنسيون لاينقطعون عن المساومة في أمر تسليم هذه المصالح، عسى توافق سورية على عقد المعاهدة التي أصبحت غاية الغايات عند الفرنسيين ليجدوا بواسطتها وسيلة للبقاء في هذه الأقطار.‏

                          ولما تم انتقال صلاحيات المصالح المشتركة من السلطات الفرنسية إلى سورية ولبنان، أصدرتا بياناً مشتركاً في 5/6/1944 جاء فيه :‏

                          " عملاً بالاتفاق المعقود في 22/12/1943 مع الجنرال كاترو مفوض الدولة المكلف بمهمة، جرت بين ممثلي الحكومة الفرنسية وممثلي الحكومتين السورية واللبنانية، مفاوضات بشأن تسليم إدارة المصالح المشتركة، فتم الاتفاق على وضع إدارة كافة الدوائر التي انتقلت فعلاً إلى الجمهوريتين السورية واللبنانية، تحت سلطتهما وحدهما " .‏

                          وبعثت وزارة الخارجية السورية بتاريخ اليوم نفسه مذكرة إلى ممثلي الدول العربية والأجنبية وأرفقتها بقائمة تتضمن الاتفاقات التي عقدت بين الجانبين السوري والفرنسي والتي بموجبها استلمت حكومة سورية عملياً وبصورة نهائية جميع الصلاحيات التي كانت تمارسها باسمها السلطات الفرنسية، وقالت : " تنتهي بهذا الاستلام العملي مرحلة المفاوضات التي بدأت بتوقيع اتفاق 22/12/1943 بين الجانبين السوري واللبناني من ناحية والفرنسي ممثلاً بشخص الجنرال كاترو من ناحية ثانية. فاستكملت بذلك سورية أسباب استقلالها وأصبحت سيادتها على أراضيها أمراً حقيقياً(52).‏

                          وحسب قول كاتب لبناني : " أضحى بإمكان مجلسنا النيابي أن يشترع فيما يتعلق بهذه المصالح ليحولها إلى لبنانية صرفة منفصلة عن سورية(52).‏

                          وانتهى بهذا الاتفاق آخر ماكان يشير إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة بين الدولتين بانتهاء السلطة السياسية الواحدة (وهي الفرنسية) التي كانت تديرها وتقوم بدور اتحاد فدرالي بين الدولتين. وبقيت العلاقات فقط في (الوحدة الجمركية) مع إدارة حصر التبغ والتنباك والتي كان يديرهما المجلس الأعلى للمصالح المشتركة إضافة إلى قضية الجيش .‏

                          واستمر المجلس الأعلى للمصالح المشتركة بين سورية ولبنان في إدارة الجمارك (أي الوحدة الجمركية) والمصالح الأخرى حسب اتفاق 1/10/1943 والذي ينص على مدة سنتين. لذلك تم الاتفاق في بيروت في 29/1/1945 بين وزيري المالية في البلدين على تجديد الاتفاق وعلى توزيع واردات المصالح المشتركة المالية الصافية بين البلدين بنسبة 44% للبنان و56% لسورية بعد أن كانت 40% لكل من الدولتين. وفي هذه النسبة يلاحظ تساهل سورية في حصتها والتي يجب أن لاتقل عن 75% وكذلك تساهلها في أمور أخرى(54).‏

                          ويلخص مسعود ضاهر موقف البرجوازية اللبنانية بقوله :‏

                          " كانت الفائدة الاقتصادية قبل الحرب حتى 1939 تذهب بمعظمها إلى جيوب الفرنسيين لكن فترة الحرب ستبقي هذه الأموال داخل سورية ولبنان وستتوزعها بورجوازية البلدين، وبدأت الدولة السورية المستقلة تسعى لنيل حصتها من هذه الأرباح. لكن البرجوازية اللبنانية عرفت كيف تتوزع الأدوار بين المعارضة والموالاة لارتباط لبنان بمحيطه العربي والتهديد المستمر بالحماية أو الضمانة الأجنبية دون أن تكون هناك قاعدة أساسية لمثل ذلك التهديد. فالبرجوازية اللبنانية كانت تخشى الحدود الجمركية مع سورية لما تعنيه هذه الحدود من تقلص في حجم أرباحها. لكن نهاية الحرب العالمية الثانية حملت معها أيضاً تطوراً هاماً وملحوظاً للبرجوازية السورية نفسها، تلك التي بدأت تفكر جدياً بالاستغناء عن مرفأ بيروت واعتماد مرفأ اللاذقية كبديل له. لذا كانت تصر على نيل حصتها من الأرباح الجمركية. وإن زوال الانتداب وبقاء المصالح المشتركة بين البلدين دفعا الدولة السورية المستقلة إلى المطالبة بالأرباح الجمركية تبعاً لحجم مشاركتها في إنتاج السلع المعدة للتصدير واستهلاك السلع المستوردة. وبدأت أصوات البرجوازية اللبنانية ترتفع منددة بما أسمته (بالتدخل السوري في شؤون لبنان والعمل على خنق اقتصاده). فالنظام اللبناني الذي تربع على كراسي الانتداب باسم الاستقلال كان يرغب في استمرار السياسة الاقتصادية الانتدابية دون تغيير. ويعمل على امتصاص خيرات الشعبين اللبناني والسوري لصالح مجموعة قليلة من التجار اللبنانيين. وكان الصراخ يرتفع بحدة أكثر كلما حاول السوريون تقليص حجم الأرباح اللبنانية والمطالبة بحصتهم. وكانت الأزمات تتكرر بين البلدين حتى أدت إلى الانفصال الجمركي واستقلالية النقد في كل من البلدين. وكان مقدراً لهذه التدابير أن تؤثر سلباً على أرباح التجار اللبنانيين. ولكن ذلك لم يحصل لأسباب أهمها الانقلابات العسكرية في سورية(55).‏

                          ولقد كانت الحرية الاقتصادية وفوائد النظام الاقتصادي في لبنان ناتجة عن الامتيازات الأجنبية لطائفة معينة كان منها الوسطاء التجاريون مع الغرب الذين سيطروا على التجارة والاقتصاد تحت رعاية الفرنسيين(55)مكرر.‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                            الفصل الخامس الوحدة السورية اللبنانية في مشاريع

                            الوحدة العربية 1941 - 1945‏

                            جاءت الحرب العالمية الثانية فأظهرت الاهتمام مجدداً بالشرق الأوسط والمنطقة العربية وأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية. فجعلت الآمال تخطو خطوة جديدة في سبيل تحقيق الوحدة العربية(1)التي ضاعت بهزيمة الدولة العثمانية واقتسامها عقب الحرب العالمية الأولى.‏

                            1- جهود الأمير عبدالله لوحدة سورية 1940-1942 :‏

                            استغل الأمير عبدالله سقوط فرنسا في ربيع 1940، فجدد محاولاته وجهوده لوحدة سورية التي كانت قد توقفت بإعلان الحرب العالمية الثانية. فأرسل إلى الحكومة البريطانية (عن طريق المندوب السامي البريطاني)، مذكرة في 1/7/1940 لفت فيها النظر إلى اهتمام الرأي العام العربي بقضية البلاد العربية ومستقبلها. وطالب بإصدار تصريح بريطاني بهذا الشأن يحقق أمل العرب في بريطانيا. وأشار إلى استعداد شرقي الأردن للقيام بعمل ما في سورية ضد قوات فرنسا الفيشية، تأدية لواجبها نحو قوميتها وتحقيق آمالها.‏

                            كان رد المندوب السامي غير مشجع للأمير عبدالله. طلب منه فقط، عدم القيام بأي (عمل متسرع) قد يعرقل خطط الحكومة البريطانية. وطالبه بالتريث حتى تتضح بعض الأمور في الميدان الأوروبي. ولم يثن المندوب السامي الأمير عبدالله عن مواصلة سعيه لتحقيق هدفه، فأرسل مذكرة أخرى في 9/7/1940 إلى وزير المستعمرات البريطاني يؤكد عزم شرقي الأردن على تحقيق (الوحدة العربية). لكن الحكومة البريطانية لم تكن في ظرف يسمح لها بالعمل على تحقيق مطلب الأمير عبدالله.‏

                            واستعان الأمير بزعماء طبقة ملاك الأراضي في شرقي الأردن فأوصى لها بأن تبرق إلى السفارة البريطانية في القاهرة مطالبة بتحقيق وعد بريطانيا باستقلال سورية وسيادتها ووحدتها وضم شرقي الأردن إلى هذه الوحدة(2).‏

                            وكانت بريطانيا تعتذر وتطلب تأجيل البحث في الموضوع، ذلك أنها لم تكن على استعداد لإغضاب حكومة فرنسا الحرة وحكومتي مصر والسعودية وشعبي سورية ولبنان، في وقت كان جيش دول المحور يحتل حدود مصر، ولم يكن يبعد كثيراً عن سورية أو السعودية. ثم إن الحكومة البريطانية كانت تفكر في مشروع آخر يضمن استمرار مصالحها في الوطن العربي، في الحرب وفي عالم مابعد الحرب.‏

                            لذلك حاولت بريطانيا أن تتقرب من العرب للحاجة إلى الدعم العربي ضد دول المحور، فأعلنت في 29/5/1941 بلسان وزير خارجيتها (أنطوني ايدن Antony Eden) أنها : "تعطف كثيراً على أماني سورية في الاستقلال وإلى ماقد تقوم به، وأن على البلدان العربية ومن حقها تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بينها، وأن الحكومة البريطانية سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة ....." (1)مكرر.. وهذا التصريح يظهر حرص بريطانيا على السيطرة على المنطقة العربية، ومنافستها لفرنسا .‏

                            وقد جاء هذا الإعلان في نفس اليوم الذي أنهت فيه القوات البريطانية، بالاشتراك مع القوات الأردنية، عملية تصفية ثورة رشيد عالي الكيلاني، (التي كان لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني صلة بها)، وبدأت تستعد لتحرير سورية. وهو توقيت محكم كاف لأن يفضح النية وراءه(2)مكرر.‏

                            كما أن الجنرال كاترو تأثر بالشعور العام، فأشار في بيانه الأول (8/6/1941) الذي خاطب فيه السوريين واللبنانيين في بداية الحملة الانكليزية الفرنسية لتحرير سورية من حكم فيشي، إلى أن لهم أن يؤلفوا دولة واحدة إذا شاؤوا. ولكن لم يدع أبناء الدولتين يعملون شيئاً لتحقيق ذلك. وفرنسا في مختلف أدوارها لم يكن يهمها إلا الحكم الفرنسي ومصالحه، وهي تعتقد أن سياسة التفريق والتجزئة أفضل وسيلة لتمكينه وتثبيته(3).‏

                            وكان العرب يعلمون أن هذه الوعود مزيفة، فالوثائق الألمانية المختصة بالسياسة تجاه الشرق الأوسط بين 1939-1945 تبين أن الحلفاء كانوا محظوظين لأن هتلر لم يأبه لهذه المنطقة من العالم، إذ أن عداءه للسامية (الذي اتهم به) شمل العرب واليهود على حد سواء، وكان مشغولاً بفتوحاته في ميادين أخرى، فترك هذه المنطقة وشأنها(4).‏

                            واستغل الأمير عبدالله قضية تحرير سورية من النفوذ الفرنسي الفيشي، فاشتركت بعض قواته إلى جانب الجيش البريطاني في عملية التحرير في حزيران وتموز 1941، أملاً في الضغط على بريطانيا لتحقيق هدف الأمير عبدالله في وحدة شرقي الأردن وسورية أو اتحادهما(5). أي تحقيق وحدة سورية الكبرى كجزء أساسي أولي للوحدة العربية.‏

                            وكان رد الفعل على تصريح ايدن (29/5/1941) سريعاً جداً في العاصمة الأردنية، فجمع الأمير عبدالله مجلس وزرائه في اليوم التالي (30/5/1941) وأصدر بياناً ناشد فيه العرب أن يعلنوا وحدة البلاد السورية، وأرفق بيانه بمذكرة رفعها إلى الحكومة البريطانية بهذا الخصوص. وفضلاً عن ذلك، فقد دعا في 16/7/1941 المستر اوليفر لتيلتون (Oliver Lyttelton) الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، لزيارة عمان لتبادل الرأي ووجهات النظر حول المشكلات القومية للدول العربية (وكان قد تم تحرير سورية ولبنان من حكم فيشي وأصبحتا تحت سيطرة الحلفاء). ورد الوزير مبدياً استعداده للزيارة في أقرب فرصة ممكنة، ومعرباً عن عطف حكومته على النشاط القائم تحقيقاً للوحدة العربية كاملة أو جزئية. ولكنه أشار إلى أن "الظروف الحربية القائمة تدعو للتريث والتمهل قبل الإقدام على أي عمل خطير من هذا النوع".‏

                            وقام الوزير البريطاني بزيارة عمان في أوائل أيلول 1941، وصدر بلاغ في 13 منه عن تلك الزيارة جاء فيه : "إنه لاشيء يحول دون تنفيذ هذه الوعود (أي وعود الوحدة والاستقلال)، وايصال العرب إلى أمانيهم القومية، وأن الأمور تتمشى مع مراحلها الزمنية، وأن الخطوة الأولى في هذا السبيل يجب أن تقوم بها الدول العربية نفسها. وأن الحكومة البريطانية ستساعد العرب فعلاً وبكل طريقة ممكنة للوصول إلى مايصبون إليه، وأن مصلحتها ومصلحتهم واحدة " .‏

                            ولم يترك الأمير عبدالله فرصة دون أن يدعو لمشروعه، فخطب في المجلس التشريعي الرابع في 6/11/1941 مشيراً إلى أنه سيتم توحيد سورية وشرقي الأردن مهما كان الثمن الذي سيتكبده. وكتب مذكرة إلى المستر (لتلتون) في 23/11/1941، انتقد فيها سياسة الفرنسيين في سورية. وعبر عن خشيته من أن تكون تلك السياسة تهدف إلى استمرار تمزيق وحدة سورية الطبيعية. وأكد حق العرب في وحدة بلادهم. ثم طلب منه نتيجة ماأســــفرت عنه محادثاتهما الأخيرة في عمان، فرد لتلتون على الأمير بمذكرة فـي 5/12/1941 يطمئنه بأن الأمور السياسية التي أشار إليها الأمير هي على الدوام موضع دراسة جدية من الحكومة البريطانية(6).‏

                            وفي 6/1/1942 أصدر مجلس الوزراء الأردني قراراً يطالب فيه برفع الانتداب عن شرقي الأردن لتصل إلى مرتبة البلاد العربية الأخرى، ولتتمكن من السعي للوحدة معها، تلك الوحدة التي صرحت الحكومة البريطانية بالعطف عليها. وأشار القرار إلى مضار وضع أي حاجز بين الأجزاء السورية على الحياة السياسية والاقتصادية. ثم انتهى إلى القول: "إن الوحدة العربية هي مطمع العرب الذين ينتظرون الوصول إليها مباشرة أو تدرجاً بحسب الظروف، واجتياز العقبات الإقليمية. أما الوحدة السورية فهي مطمع الأردنيين جميعهم " .‏

                            ودعا قرار مجلس الوزراء الأردني الحكومة البريطانية إلى أن تؤمن بالتعاون مع حكومة فرنسا الحرة، استقلال سورية ولبنان بشكل يجعل بالإمكان التفاهم مع سكانهما على ماتقتضيه المصالح المشتركة. و "أن تزال كل الصعوبات وتبذل كل التسهيلات في هذا السبيل، رعاية للوعود والتصريحات الرسمية التي تأمل حكومة شرق الأردن وأهله أن صديقتهم بريطانيا العظمى ستبذل كل جهد في سبيل تنفيذها "(7).‏

                            والواقع أن الحكومة البريطانية لم تكن في وضع يسمح لها بأن تصغي إلى دعوة الأمير عبدالله، ذلك أن الحرب في الجبهة الليبية كانت تجري على غير ماتوقعت. هذا بالإضافة إلى أن ظروف مصر الداخلية، دفعت الحكومة البريطانية إلى فرض مصطفى النحاس رئيساً للوزارة في 4/2/1942. أي فرضت حكومة موالية للحلفاء(8).‏

                            ويبدو أن النحاس باشا قد بدأ تحركاته العربية في إطار السياسة البريطانية في هذا الشأن، فقد دعا في 2/6/1942 كلاً من بشارة الخوري زعيم الكتلة الدستورية في لبنان وجميل مردم بك أحد زعماء الكتلة الوطنية السورية، لزيارة القاهرة. وتم اتفاق الثلاثة على الخطوط العريضة للسياسة اللبنانية المقبلة. وقد أبدى الخوري استعداده، في حالة وصوله إلى رئاسة الجمهورية، للتعاون مع الدول العربية شرط استقلال لبنان ضمن حدوده المعترف بها. ورأى أن ذلك قد يكون عقبة في سبيل إنشاء جامعة الدول العربية.‏

                            ومما قاله بشارة الخوري : " إننا نريد التعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد على هذا الأساس، ثم استدركت أن عدداً من المسيحيين لايعتنق هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده ".‏

                            وكان يهم النحاس باشا سماع رأي سورية بالموقف والسياسة اللبنانية المستقبلية، لأن سورية هي جارة للبنان، فقال جميل مردم : " نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية، فنحن مستعدون لأن ننزل عن أي مطلب لنا في لبنان. بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم ".‏

                            وذكر الخوري أنه عندما كان في مصر راح البعض يخلق الشوائع بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد، وذلك لمجرد كوننا جعلنا من أهدافنا سياسة استقلالية بحتة يصبح بها لبنان سيد شؤونه ومقدراته. ولقد كان جميل مردم بك معنا في مصر حينذاك وكان يصرح أمام النحاس باشا وسواه بأنه لو كان جميع الناس في لبنان يفكرون كما يفكر بشارة الخوري لعدلنا عن المطالبة بشبر واحد من لبنان ولأعطيناه من أراضينا مايريد "(9).‏

                            وفي الوقت الذي كان فيه عبدالله يسعى إلى توحيد سورية (الكبرى) ويعارضه حكام سورية ولبنان، كان الصهيونيون في فلسطين يسعون إلى توسيع سيطرتهم وجعل حدودهم تمتد لتشمل نهر الأردن (أي بأخذ قسم من إمارة شرقي الأردن) ونهر الليطاني (أي بأخذ قسم من دولة لبنان) وأن حدود الدولة اليهودية يجب أن تكون مجاورة للبنان المسيحي(10).‏

                            2- مشروع نوري السعيد للوحدة العربية (الهلال الخصيب)‏

                            كانون الأول 1942 :‏

                            ومع استمرار الحديث عن الوحدة العربية وجهود الأمير عبدالله لتحقيق وحدة أو اتحاد سورية الطبيعية، قابلها نوري السعيد رئيس وزارء العراق بمشروعه المعروف باسم (الهلال الخصيب) (11). وقد قدم نوري السعيد مشروعاً وحدوياً من نوع جديد. وقد تضمن مفاهيم جديدة ونشره في عام 1943 في الكتاب المعنون (الكتاب الأزرق) استقلال العرب ووحدتهم، مذكرة في القضية العربية مع إشارة خاصة إلى فلسطين ومقترحات رامية إلى حل نهائي ومربوط معها نصوص جميع الوثائق المتعلقة بالقضية وضعها الفريق نوري السعيد" .‏

                            وتتصــدر الكتـــاب رســالــة مــن نوري السعيد إلى الـــوزيـــر البريطاني كيسي (Richard Cassy) في كانون الأول 1942 يبدأها كما يلي : " عزيزي المستر كيسي، على أثر الحديث الذي دار بيننا حول مستقبل الدول العربية، قررت العمل بمشورتكم فكتبت مذكرة في الموضوع باسطاً فيها رأيي الشخصي في المعضلات التي تجابهها ومقترحاتي لحلها. وقد وضعت المذكرة المربوطة بهذا الكتاب أنا نفسي بصفتي الشخصية. ومع علمي بأن غير واحد من زملائي وزعماء عراقيين آخرين يشاركونني في آرائي، لا أود اعتبار هذه الآراء بوجه من الوجوه بياناً معبراً عن سياسة الحكومة العراقية ".‏

                            وتتناول الرسالة شرح الأطماع الصهيونية في فلسطين، وتدعو بريطانيا وحلفاءها إلى العمل لوقف تلك الأطماع خيفة أن تسيء إساءة لاتعوض إلى العلاقات بين بريطانيا والعرب. ولعل توجيه الرسالة إلى بريطانيا لكونها صاحبة السيادة في المشرق العربي بعد تحرير سورية من حكم فيشي .‏

                            ويتألف الكتاب من (16) صفحة وقد اقترح فيه قيام وحدة بين سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين في دولة واحدة، وأن تنشأ جامعة للدول العربية يكون لمجلس الجامعة مهام عديدة منها : الدفاع والشؤون الخارجية وحماية الأقليات .... واقترح نوري السعيد في مشروعه بأن يمنح لليهود في فلسطين شبه حكم ذاتي، وأن يمنح الموارنة في لبنان - إذا طالبوا بذلك - نظاماً خاصاً مثل الذي كان لهم خلال العهد العثماني، على أن يرتكز الحكم الذاتي للموارنة واليهود إلى ضمان دولي.‏

                            ويبدأ الكتاب بالإشارة إلى أن عرب المشرق هم شعب واحد من حيث اللسان والثقافة والشؤون الاقتصادية وغيرها. " والرابطة الثقافية التي بين هذه الشعوب مستحكمة اليوم استحكامها مدة قرون مضت نظراً إلى التحسن الذي طرأ على المواصلات والتربية، وذلك على الرغم من تقسيمها في خلال عشرين سنة مضت إلى عدة دول مختلفة، وسن قوانين مختلفة لهذه الدول. وكانت هذه الأقاليم جميعاً جزءاً من الامبراطورية العثمانية، فلم تفصل بينها حدود دولية، وكانت طرق إدارتها واحدة، وقوانينها كذلك. وكانت عادات سكان هذه المناطق، مسلميهم ومسيحييهم، وتقاليدهم واحدة. وكان طعامهم واحداً وكذلك تفكيرهم ".‏

                            وذكر نوري السعيد تحت عنوان "المسيحيون والعرب" : "أجل يوجد في سورية وفلسطين عدد لايستهان به من المسيحيين، إلا أن هؤلاء عرب في الأصل، وهم على غرار جيرانهم تماماً في عاداتهم ولسانهم وطرق معيشتهم. وكثيراً ماكانت الطوائف المسيحية فيما مضى أشد عداء لبعضها البعض من معاداتها للمسلمين الذين عاملوا جميع الطوائف على السواء".‏

                            ويأتي نوري السعيد على ذكر لبنان فيقول : "وكان الموارنة الطائفة الوحيدة التي لها وضع خاص، إنما على أثر الاضطرابات التي وقعت بين موارنة لبنان ودروزه في سنة 1864، وُضع لهذه الولاية نظام ممتاز يتمتع اللبنانيون بمقتضاه بقسط وافر من الحكم الذاتي، مما مكن الموارنة من الحصول على حكومة يرأسها حاكم مسيحي. واستند هذا الطراز الإداري الخاص إلى ضمان دولي. وكان في ذلك العهد، كما في عهد الامبراطورية العثمانية القديمة (ملل) متنوعة متمتعة بحقوق خاصة، لأن فكرة وجود جماعات متمتعة بشبه حكم ذاتي في داخل الدولة فكرة مألوفة عند الدول المتخلفة، ومعتبرة على العموم سياسة صائبة منطوية على الإنصاف. وهذا النظام الممتاز الذي يتمتع به اللبنانيون جدير بالدرس الدقيق لأنه مما يمكن اتخاذه مثالاً يحتذى به لإنشاء ايالات يهودية متمتعة بحكم شبه ذاتي في فلسطين على ما سأشرحه فيما بعد ".‏

                            ويستطرد نوري السعيد فيتكلم عن كفاح العرب، وعن العرب والترك، وعن العرب في الحرب العظمى، وعن الوعود البريطانية وعن تمزيق البلاد العربية.‏

                            ويتكلم عن سورية ولبنان فيقول : "إن سورية ولبنان لبسا دون كثير من البلدان الأوروبية حضارة، إلا أن نظام الانتداب الغاشم المفروض عليهما قد أفقرهما وبذر بذور الانقسام بين سكانهما مما أدى إلى حدوث القلاقل والاضطرابات فيهما من حين إلى آخر. وقد اغتنم العرب السوريون كل فرصة للحصول على استقلال حقيقي حتى أنهم ضحوا برغبتهم في الوحدة في سبيل الحصول على الاستقلال المنشود. فعقدوا اتفاقاً مع الفرنسيين على تقسيم بلادهم إلى دولتين هما سورية ولبنان (لعله يقصد معاهدة 1936).‏

                            ثم يتكلم عن سورية الجنوبية أي فلسطين وشرقي الأردن.‏

                            ويستطرد فيتكلم عن سورية الكبرى وعن الكتاب الأبيض لفلسطين الصادر عام 1939 وعن العرب وميثاق الأطلسي، وعن اتفاق العرب لمكافحة دعاية المحور وعن شؤون عربية أخرى. ويصل نوري السعيد إلى الخاتمة يبدي فيها الآراء التالية :‏

                            1- أن يعاد توجيد سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن في دولة واحدة.‏

                            2- أن يبت سكان هذه الدولة أنفسهم في نوع الحكومة التي تتخذها هذه الدولة سواء أكانت ملكية أم جمهورية، وأيضاً سواء أكانت وحدة أم اتحاداً (كونفدراسيون).‏

                            3- أن تنشأ عصبة عربية ينضم إليها العراق وسورية فوراً على أن يباح للدول العربية الأخرى الانضمام إليها متى شاءت.‏

                            4- أن يكون لهذه العصبة مجلس دائم ترشحه الدول المنخرطة في سلك هذه العصبة، ويرأسه أحد رؤساء الدول الذي يتم اختياره اختياراً تقبله الدول ذات الشأن .‏

                            5- أن يكون مجلس العصبة العربية مسؤولاً عن الأمور الآتية : الدفاع - الشؤون الخارجية - العملة - المواصلات - الجمارك - حماية حقوق الأقليات - التعليم.‏

                            6- يمنح لليهود في فلسطين إدارة شبه ذاتية في المنطقة التي يكونون أكثرية فيها، مع منحهم الحق في إدارة مناطقهم الريفية والمدنية، ويشمل ذلك المدارس والمؤسـسات الصحية والشرطة، على أن تكون هذه المؤسـسات الصحية والشرطة تابعة لإشراف الدولة السورية بوجه عام .‏

                            7- تكون القدس مدينة يباح دخولها لأبناء جميع الأديان بقصد الزيارة أو العبادة، وتتألف لجنة خاصة من ممثلي الأديان الثلاثة السائدة لضمان ذلك.‏

                            8- أن يمنح الموارنة في لبنان - إذا شاؤوا - إدارة ممتازة (نظاماً خاصاً) على نحو ماكانوا يتمتعون به في خلال السنوات الأخيرة من عهد الامبراطورية العثمانية. وستستند هذه الإدارة الخاصة أسوة بالإدارات التي ستؤسـس وفق أحكام الفقرتين (6،7) السابقتين إلى ضمان دولي.‏

                            وإذا كان في الإمكان حسبما تقدم إنشاء حلف (كونفدراسيون) من الدول العربية يشمل العراق وسورية وفلسطين وشرقي الأردن في بادىء الأمر، مع إباحة الانضمام إليه للدول العربية الأخرى فيما بعد، يزول عندئذ كثير جداً من الصعوبات التي جابهتها بريطانيا العظمى وفرنسا في الشرق الأدنى في خلال العشرين سنة الماضية.‏

                            إن عرب فلسطين يتخوفون الآن من صيرورتهم أقلية في دولة يهودية، لذلك نراهم يعارضون أشد المعارضة في منح اليهود حقوقاً خاصة. إلا أن هذا العداء سيخف إذا أصبحت فلسطين جزءاً من دولة عربية قوية، وفي استطاعة اليهود أن يؤسـسوا وطنهم القومي في أنحاء فلسطين حيث هم الآن أكثرية. وبذلك يزداد اطمئنانهم إلى سلامتهم لأن جيرانهم العرب سيضمرون لهم حينئذ نيات طيبة، فضلاً عن ازدياد الفرص الاقتصادية السانحة لهم متى أصبحوا طائفة متمتعة بإدارة شبه ذاتية في دولة أكبر جهداً مما يأملونة(12).‏

                            3- مشروع الأمير عبدالله لوحدة سورية الكبرى أوائل 1943 :‏

                            لما وضح أن النفوذ الفرنسي سيتقلص من الشرق نهائياً، عاود الأمل الهاشميين في تحقيق مشروعهم القديم. ولعل الأمير عبدالله علم بمشروع نوري السعيد، فحاول أن يضع مشروعاً مفصلاً لما كان يطالب به من وحدة أو اتحاد بين شرق الأردن وسورية، فأرسل الأمير عبدالله مذكرة سياسية جديدة إلى الحكومة البريطانية في أوائل 1943 فصل فيها رأيه في حل (المسألة السورية) بوجه خاص، و (المسألة العربية) بوجه عام(13).‏

                            وجاء في مذكرة الأمير عبدالله إلى الحكومة البريطانية، أنه "بناء على وعود بريطانيا للعرب سابقاً ولاحقاً، ونظراً لعجز الحكومة الفرنسية الشرعية عن القيام بوكالتها المؤقتة (أي انتدابها) عن عصبة الأمم في سورية، وزوال تلك الوكالة حكماً بسقوط أهليتها القانونية نظراً لتمتع سورية باستقلال ودستور شرعيين، وبالإشارة إلى ماصرح به وزير الخارجية البريطانية المستر (ايدن)، بشأن الوحدة العربية"، فإنه يرى أن من "مقتضيات تسهيل مهمة الديمقراطيات في الشرق الأدنى، وإعادة توثيق الصداقة العربية البريطانية التقليدية، وضمان الثقة والاستقرار في البلاد السورية" أن ينفذ أحد المشروعين التاليين :‏

                            المشروع الأول : إنشاء دولة سورية موحدة واتحاد عربي. ومن أهم أركان هذا المشروع :‏

                            أ - اعتراف الحلفاء باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وسيادتها واعتبار وحدتها القومية والجغرافية أساساً لنظام الحكم فيها. على أن يكون نظام الحكم ملكياً دستورياً، ويتمتع (لبنان القديم) بإدارة خاصة.‏

                            ب- تضم الدولة السورية الموحدة، سورية الشمالية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين وتحكمها حكومة مركزية واحدة.‏

                            جـ- إلغاء وعد بلفور أو الاكتفاء بالوضع الراهن ومنع الهجرة اليهودية أو تفسيره تفسيراً يزيل مخاوف العالمين العربي والإسلامي.‏

                            د- تصان المصالح البريطانية والأجنبية في الدولة السورية الموحدة بمقتضى معاهدة كالمعاهدتين المصرية والعراقية.‏

                            هـ- يدعى الأمير عبدالله بن الحسين لرئاسة الدولة السورية لاعتبارات مفصلة في المشروع.‏

                            و- بمجرد إعلان تأسيس الدولة السورية الموحدة يؤسـس اتحاد عربي تعاهدي من أراضي الهلال الخصيب (الدولة السورية الموحدة والعراق) وتوحيد التنسيق السياسي والدفاع والثقافة والشؤون الاقتصادية. ويفسح المجال للدول العربية الأخرى للانضمام إليه. وفي حالة عدم تطبيق هذا المشروع يتم تطبيق المشروع الثاني .‏

                            المشروع الثاني : إنشاء الدولة السورية الاتحادية واتحاد عربي: وأهم أركانه :‏

                            أ - قيام اتحاد سوري مركزي يضم حكومات شرق الأردن وسورية الشمالية ولبنان وفلسطين وتكون دمشق عاصمة الاتحاد. وإذا تخلفت حكومة لبنان عن الانضمام إلى الاتحاد السوري المركزي لأسباب خاصة بها فيجب أن تعاد الأراضي السورية، الملحقة بلبنان (حاصبيا وراشيا والبقاع وبعلبك) دون رغبة من السكان، إلى سورية.‏

                            ب - ينظم الاتحاد المركزي شؤون الدفاع والمواصلات والاقتصاد الوطني والسياسة الخارجية والثقافة العامة والقضاء الاتحادي مع بقاء الاستقلال الذاتي لكل من الحكومات الإقليمية الأربعة.‏

                            جـ- يكون للاتحاد مجلس تشريعي بالانتخاب، ويمثل الأقاليم المتحدة، وينتخب رئيس الوزراء الاتحادي وأعضاء السلطة التنفيذية طبقاً لأحكام الدستور.‏

                            د - يتم الاتحاد تبعاً لمفاوضات بين الحكومات الإقليمية الأربعة ويبدأ ذلك باتفاق حكومتي سورية الشمالية وشرقي الأردن.‏

                            هـ- يدعى الأمير عبدالله بن الحسين لرئاسة الاتحاد السوري المركزي لنفس الاعتبارات الواردة في المشروع الأول، على أن ينيب عنه من يدير شرقي الأردن.‏

                            و - تصان المصالح البريطانية والأجنبية في الاتحاد السوري المركزي بمقتضى معاهدة كالمعاهدتين المصرية والعراقية.‏

                            ز - بمجرد إعلان تأسيس الاتحاد السوري يؤسـس اتحاد عربي من العراق والاتحاد السوري (الهلال الخصيب).‏

                            حـ- يشترط لانضمام فلسطين إلى الاتحاد تحقيق الأمور التالية :‏

                            1- قيام حكومة وطنية دستورية في فلسطين بحدودها الحاضرة .‏

                            2- العمل بالكتاب الأبيض لسنة 1939 مؤقتاً إلى أن يحل محله تفسير رسمي لوعد بلفور من الجانب البريطاني يزيل مخاوف العرب والمسلمين.‏

                            3- تبادل التعاون الاقتصادي بين الاتحاد العربي والمواطنين اليهود.‏

                            4- تعلن الهيئات اليهودية المسؤولة موافقتها على هذا الحل بإخطار الحكومة البريطانية بذلك. وإذا لم تحل مشكلة فلسطين على هذا النحو تظل خارج نطاق الاتحاد، وبعد قيام الاتحاد السوري يصار إلى تأسيس الاتحاد العربي(14).‏

                            4- الوحدة السورية اللبنانية في مشروع جامعة الدول العربية 1943 :‏

                            استمر الحديث عن إمكانية قيام وحدة عربية بين الأوساط العربية والأجنبية وفي مختلف الصحف لاسيما بين عامي 1942-1943(15).‏

                            وقد يظهر للوهلة الأولى أن مشروع سورية الكبرى يتعارض مع مشروع الهلال الخصيب ولكن الحقيقة أن كلا المشروعين مكمل للآخر ومتمم له ولاتعارض بينهما. وقد سارا جنباً إلى جنب، مع اصطدامات ظاهرية أوائل عام 1943. واجتهد صاحباهما في إقناع بريطانية تبنيهما. لكن بريطانيا رفضتهما معاً، لأنهما كانا يتعارضان مع مخططها بإدخال مصر في الجامعة العربية، بعد أن وضعت السلطات البريطانية على مصر حكومة موالية للحلفاء (حادث 4/2/1942)، والظروف لم تكن مواتية لتحقيق أحدهما لأن الحرب لم تنته بعد، ولذلك وضعا على الرف. وفضلت بريطانيا فكرة الجامعة على المشروعين المذكورين لأن الجامعة تؤمن لها النفوذ في سبع أو ثمان دول. بينما انحصر المشروعان في نصف هذا العدد. ولأن فكرة الجامعة كما وضعتها بريطانيا كانت مطاطة جداً وشكلية، بينما يدعو المشروعان إلى وحدة كاملة لاتريدها بريطانيا بأي شكل من الأشكال(16).‏

                            وكررت بريطانيا تقربها من العرب ودغدغة أحلامهم في الوحدة. وحمل المخطط البريطاني خطاباً جديداً لانطوني ايدن في 24/2/1943 (تصريح ايدن الثاني) أطلقه في مجلس العموم البريطاني جاء فيه : " إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية. ولكن من الجلي أن الخطوة الأولى لتحقيق أي مشروع يجب أن تأتي من العرب أنفسهم ". وختمه ايدن بقوله : " لم يوضح حتى الآن مثل هذا المشروع الذي سينال استحساناً عاماً ".‏

                            وفهم الهاشميون من خطاب ايدن الأخير أنه يعني الرفض لمشروعي الهلال الخصيب وسورية الكبرى من جهة، وإصراراً على إدخال مصر الجامعة وتسليمها الزعامة فيها من جهة أخرى. يؤيد هذا ماذهب إليه عبدالله بقوله في مذكراته "بأنه كان على جهل تام من درجة تحقيق أماني الوحدة أو الاتحاد، ومايملكه رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس، من وعود سرية يعلمها هو من لدن انجلترا "(17).‏

                            وبادر النحاس باشا وأعلن في 30/3/1943 أمام مجلس الشيوخ المصري، أنه باشر المباحثات مع المسؤولين العرب بشأن الجامعة وأنه دعا نوري السعيد إلى مقابلته في القاهرة(18).‏

                            وعارض الأمير عبدالله دعوة مصطفى النحاس بعنف، وأصدر في 3ربيع الآخر1362 8/4/1943 بلاغاً بعنوان : "من عبدالله بن الحسين إلى أهل الشام" حاضرة وبادية ومن خليج العقبة إلى البحر الأبيض المتوسط إلى أعالي الفرات". دعا فيه " جملة أهل الحل والعقد في بلادالشام إلى مشروع وحدة أو اتحاد سوري شامل ووطن كامل، يناقشون أمره في مؤتمر سوري خاص". ورحب بعقده في عمان "عندما يختارون وقته وزمانه، أو يؤيدونه بعد إنعام النظر في مراميه، هيئات وفئات، زعماء وعلماء". ومنع هذا البلاغ في فلسطين وسورية ومصر. وأتبع هذا البلاغ بمذكرة إضافية في 18/5/1943 قدمها إلى المندوب السامي البريطاني ليرفعها إلى حكومته، مشيراً " بضرورة استقلال سورية بحدودها الطبيعية"، ومطالباً بإصدار "تصريح رسمي مشترك بريطاني فرنسي بتأييد استقلال سورية بحدودها الطبيعية، أو تأييد اتحاد حكوماتها الوطنية الشرعية اتحاداً مركزياً، مع التحفظات اللازمة لضمان المصالح البريطانية الفرنسية، التي لاتتعارض مع استقلال البلاد التام ووحدتها أو اتحادها". وقدم عبدالله مذكرة ملحقة في 31/5/1943 ولم ترد الحكومة البريطانية على مذكرات الأمير عبدالله المتعددة بشأن سورية الكبرى .‏

                            وتبادل الأمير عبدالله مع فارس الخوري في 1943 عدة رسائل بشأن سعيه وجماعته إلى الدعوة إلى وحدة أو اتحاد سوري برئاسة الأمير عبدالله وقد وافق الخوري على مبدأ الوحدة والاستقلال(19).‏

                            وفشل الأمير عبدالله في محاولاته مع (الشعب العربي في سورية) الذي لم يكتف برفض دعوة الأمير والإعراض التام عن المؤتمر الذي دعا إليه، بل حمل شكري القوتلي، وكان زعيم الحركة الوطنية وخصماً تقليدياً للأطماع الهاشمية، إلى رئاسة الجمهورية في 17/8/1943(20). وقد كانت سياسة الكتلة الوطنية تعارض السياسة الهاشمية .‏

                            بدأت الحكومة المصرية مشاورات الوحدة مع الأقطار العربية المستقلة ومنها لبنان وسورية في صيف 1943 للتفاهم. وتوجهت سورية بعد أن بدأت في إنشاء أوضاعها الاستقلالية، إلى هذه المشاورات بكل ماتشتمل عليه نفوس أبنائها من حماسة للفكرة العربية. وكان معظم زعماء العهد الجديد الذين عرفوا مصر من قبل وشاهدوا هذا الاتجاه فيها، أكثر الناس ابتهاجاً(21).‏

                            ولقد لبى نوري السعيد دعوة مصطفى النحاس، تحت ضغط السلطات البريطانية، وعقدت مباحثات بينهما امتدت من 31/6 إلى 5/8/1943 وانتهت إلى اتفاقهما على التشاور مع بقية الدول العربية على شكل الاتحاد أو الوحدة العربية(22).‏

                            وأخيراً أسقط في يد الأمير عبدالله عندما عقدت جولة المحادثات بين السعيد والنحاس في القاهرة، وخاف أن ينعزل سياسياً، فاضطر إلى أن يلبي تحت ضغط نوري السعيد، دعوة مصطفى النحاس للاجتماع بممثله في القاهرة للمباحثة بشأن الوحدة العربية. فأوفد (توفيق أبو الهدى) بتعليمات خاصة، ضمنها مذكرته المؤرخة في 24/8/1943(23). الموجهة إلى الحكومة العراقية.‏

                            وقد طالب الأمير في مذكرته بأن " تتحد البلاد الشامية (سورية الكبرى) أو أن تتوحد". وأنه إذا بقيت هذه البلاد منقوصة السيادة تحت انتدابات أجنبية أو تشتت محلي، فأمر تمشيها مع مصر والعراق يكون من الضعف وعدم التماسك بصورة تجعلها تعجز عن القيام بما يجب عليها في هذا المضمار". وختم الأمير عبدالله تعليماته إلى أبي الهدى بأنه يؤيد كل جهد ومساعي مصر والعراق ويصر على أن " على مصر والعراق السعي لوحدة سورية أو اتحادها قبل أي اتحاد عربي آخر ". وذكرت المذكرة أن للبنان الخيار بين الوحدة أو الاتحاد، على أن مسألة لبنان الكبير هي من جملة حقوق سورية التي لاينبغي إغفالها .‏

                            وامتدت المشاورات بين النحاس وتوفيق أبي الهدى من 28/8 إلى 1/9/1943. وقد شرح فيها أبوالهدى (رئيس وزراء الأردن) وجهة نظر أميره في موضوع سورية الكبرى. وطالب مصطفى النحاس بمد يد العون والتأييد لتحقيق ذلك المشروع(24).‏

                            وحاول الأمير عبدالله أن يتصل بقيادة الحركة الوطنية في سورية، فكتب إلى شكري القوتلي رئيس الجمهورية وإلى فارس الخوري رئيس مجلس النواب، وإلى سعد الله الجابري رئيس الوزراء، وأكد في كتبه لهم ضرورة توحيد سورية الكبرى "التي متى اتحدت فالعرب متحدون". وكانت ردودهم تشير إلى أن سورية ماضية في سبيل قصدها عاملة على تحقيق غاياتها، وكل مؤازرة لها هي تعزيز للقضية وإعلاء شأنها. وأنها " لن تقتصر في جهد حتى تصبح قوية عزيزة وتكون داعية للانسجام والتعاون والتضامن بين سائر الأقطار العربية التي آن لها أن يجتمع شملها وتدرك أمانيها"(25) وهذه الردود، بهذه الدبلوماسية المعتدلة، لاتعبر عن رأي محدد.‏

                            واستغل الأمير عبدالله توقيف فرنسا لرجال الحكومة اللبنانية في تشرين الثاني 1943 وأرسل إلى الشيخ محمد توفيق خالد مفتي لبنان، رسالة مؤرخة في 21/11/1943 يرجوه إبلاغ مواساته لرجالات الدولة ويبشره بقرب الإفراج عنهم، ويرجوه التوسط لإقامة علاقات بين البلدين(26).‏

                            وقد اختلفت الآراء (في مشاورات الوحدة العربية 1943) في أمر التعاون السياسي الذي يشمل الدفاع والشؤون الخارجية، اختلافاً كبيراً، فوافقت سورية والعراق وشرقي الأردن على التعاون السياسي، لكن لبنان رأى الانفراد بمسألتي الدفاع والشؤون الخارجية، ورأت المملكة العربيةالسعودية تأجيل البحث في موضوع التعاون السياسي حتى تتغير الظروف(27). فقد تحفظ وزير خارجية المملكة العربية السعودية، يوسف ياسين (السوري الأصل)، ممثل الملك عبدالعزيز، في 10/10/1943 عندما اجتمع مع النحاس باشا فأوضح بأن السعودية تتحفظ حيال الوحدة السياسية الاندماجية، وأنها مع التعاون الاقتصادي والثقافي بين العرب(28).‏

                            وقد قدم سعد الله الجابري رئيس الوفد السوري في اجتماع 30/10/1943 في القاهرة فيما عرف باسم (مشاورات الوحدة العربية) مذكرة(29) بسط فيها وجهة النظر السورية في شأن الوحدة السورية، التي تؤلف بين ربوعها على أن تكون دمشق عاصمتها والجمهورية نظام الحكم فيها، وفي الوحدة العربية الشاملة فقال : "كنا دائماً نطالب بأن يكون لبنان بالنسبة إلى سورية في وضع طبيعي. فإما أن تكون الصلات بيننا وبينه قائمة على أسـس الاتحاد، وإما أن ترد إلى سورية الأجزاء التي انتزعت منها ويعود لبنان إلى ماكان عليه من قبل. ولكن الآن وقد أخذ يتخلص من كل نفوذ يعترض سبيله، ويحول دون ممارسته لخصائص الاستقلال والسيادة وصلاحياتهما، فإننا رأينا أن ننهج خطة جديدة، فنقيم الصلات بيننا وبينه علــى قاعدة التعاون في تثبيت الاســـتقلال وتسوية المشكــلات التي أحدثها الماضي بالتعاون والاتفاق" .‏

                            وهكذا أعلن الجابري تنازل سورية عن الوحدة السورية لحساب الوحدة العربية وهو تنازل مشروط .‏

                            وقد أشارت المذكرة إلى تقسيم الدولة العثمانية واتفاقية سايكس - بيكو بقولها :‏

                            " الحرص على إزالة التجزئة التي أوجدتها القوة الغالبة والمطامع الدولية والمنافسات السياسية، حتى يتحقق الاتحاد الذي تنشده سورية، وتطمس آثار تلك الظلامة التاريخية التي مزقتها وعاقت سيرها ونموها " .‏

                            وعندما بحثت المذكرة في الوحدة العربية ومداها وأداة تحقيقها، فإنها أكدت " رغبة سورية في إنشاء اتحاد عربي يشمل التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي وأنها تؤثر أقوى أداة له وهو الحكومة المركزية أو نظام آخر من الاتحاد أو الاتفاق أو الحلف. وأن يضم الاتحاد مصر والشام والمملكة العربية السعودية واليمن ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. أما الأقطار العربية المحمية أو بعض الأقطار في شمال أفريقيا فلاشك أنه ينبغي أن تمد لها يد المعونة، وأن تؤازر في رفع مستواها وتكوين وجدانها القومي " .‏

                            وختمت المذكرة ايضاحها بهذه الكلمات : " لايسع الذين يحملون عبء المسؤولية في ديار الشام إلا أن يعربوا عن شعور بلادهم وأمانيها بالدعوة الصريحة إلى اتحاد البلاد العربية ....... " .‏

                            وهكذا تتجنب المذكرة ذكر كلمة (سورية) ذات المدلول السياسي والجغرافي المحدود، وتستعمل كلمة (الشام) ذات المدلول العربي التاريخي. وكأن المذكرة تتحدث بلسان الشام كلها بحدودها الطبيعية وبأجزائها المحدثة (سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين) بل وبقية أجزائها المتوزعة في الدول المجاورة.‏

                            أما موقف لبنان (الذي تشكل فيه حكم دستوري استقلالي منذ 21/9/1943) من مشروع جامعة الدول العربية، فيتضح من بيان رئيس الوزراء رياض الصلح الذي ألقاه قبل سفره إلى مصر للاشتراك في مفاوضات 1943، في مجلس النواب اللبناني والذي جاء فيه : " إنه لايمكن بحال من الأحوال أن نقبل انتقاصاً من استقلال لبنان ".‏

                            وتكلم النائب عبد الحميد كرامي قائلاً : " نحن الذين حاربنا لبنان في الماضي لأنه لم يكن عربياً، ونحن الذين طلبنا الوحدة السورية، أتينا اليوم إلى هذه الندوة نعترف باستقلال لبنان ونناضل في سبيل هذا الاستقلال ضد أي كان لأن لبنان أصبح الآن عربياً "(30). هذه العروبة المقيدة بالاستقلال لم تكن في الحقيقة إلا تطبيقاً لعروبة الميثاق الوطني، العروبة اللفظية والمصلحة. ومنذ أن تبوأ الرئيس بشارة الخوري رئاسة الجمهورية (1943) واجهته معضلة (الوحدة العربية). ومما صرح به لمراسل مجلة (الإثنين) المصرية، بأنه من مؤيدي التعاون العربي الاقتصادي والثقافي. ومما قاله : أن بعض اللبنانيين اتهموني علناً بأنني أعطيت وعداً أنه في حال انتخابي رئيساً للجمهورية سأسعى إلى تحقيق الوحدة العربية كأنها شر مستطير". ولكنه نفى حدوث ذلك. مع تأييده لنجاح الفكرة الوحدوية بين البلدان العربية على أن يبقى لبنان مستقلاً، ويترك لكل شعب كيانه السياسي، وأضاف بأنه أفصح عن هذه السياسة لنوري السعيد، "وهو يتفق معي في أن من الممكن أن تتحد البلاد العربية في الشؤون الاقتصادية والثقافية " .‏

                            ومن هنا يلاحظ بأن هناك توافق سعودي وعراقي ومن ثم مصري وبريطاني حول واقع لبنان ومستقبله (إضافة إلى الموقف السوري). وكان لهذا التوافق الأثر البالغ في الاتفاق الداخلي اللبناني، وفي ايجاد صيغة الميثاق الوطني، فالميثاق هو توافق دولي عربي وتوافق عربي - عربي. ومن ثم توافق لبناني - لبناني(31).‏

                            وكانت القوى الاستقلالية تلقى الدعم الكامل من الدول العربية وبشكل خاص من سورية بسبب التوافق المصيري والمصلحي بين الشعبين السوري واللبناني والعمل سوياً للتخلص من الاستعمار الفرنسي.تضاف إلى ذلك أهمية العامل التاريخي في هذا المجال حيث ارتبط تاريخ البلدين باستمرار إلى حد التدامج. وكانت الدول العربية التي تدعم نضال سورية تدعم أيضاً نضال القوى اللبنانية المتحالفة معها. وكان هدف القوى اللبنانية هو إخراج لبنان من عزلته الداخلية، وربط مصيره بالمحيط العربىالذي يعيش فيه وضمان حدوده واستقلاله ضماناً عربياً دون أية ضمانات أخرى، أي بتعبير آخر التأكيد على عروبة لبنان شعباً وأرضاً واستقلالاً(32).‏

                            وكثرت في لبنان شعارات (استقلال لبنان وحياده عن الشرق والغرب) و "لبنان الوطن ذو الوجه العربي الذي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". وخطاب النائب أسعد البستاني في المجلس النيابي (23/9/1944) يعتبر دليلاً حياً على تطور مفهوم جماعة لبنان اللبناني نحو الإقرار بعروبة الميثاق. فيقول : " ولبنان هذا يتنافى والإدماج ويتناقض والوحدة العربية الشاملة ... إننا لانستأنس الآن في الضم ولا في الوحدة وقد أجمع الجميع على أن يبقى لبنان طليقاً بعيداً عن كل قيد " .‏

                            وهكذا دعا دعاة لبنان الانعزالي إلى عروبة المصلحة والعروبة الروحية، وعملوا على تعزيز دور لبنان المستقل في وجه أية وحدة عربية أو اتحاد عربي من أي نوع كان، حتى وصل بهم الأمر إلى دعم (القومية اللبنانية) وغيرها من المفاهيم لإلغاء دعوة القومية العربية(33) التي يروا فيها صورة أخرى من الإسلام.‏

                            المهم أنه في الوقت الذي كانت البرجوازية اللبنانية تندفع فيه أكثر فأكثر نحو تعميق صلاتها الاقتصادية بالوطن العربي، كانت تسعى في الوقت ذاته إلى الحفاظ على استقلالها السياسي الذي يحميها من الذوبان في مشاريع الوحدات المطروحة ... وفي هذا الإطار يمكن فهم التصريحات الكثيرة لجميع ممثلي البرجوازية اللبنانية، المعارضة والموالية، بالدعوة للالتفاف حول عروبة الميثاق أي (لبنان ذو الوجه العربي) وتمتين علاقات لبنان الاقتصادية إلى حدودها القصوى مع الميحط العربي بكافة أسواقه التجارية ... إن هذا تشبث بمكتسبات هامة حصلت عليها هذه البرجوازية خلال الحرب وليس بمقدورها التخلي عنها، كقطاع الاصطياف العربي شديد الأرباح مثلاً التي يستفيد منها مراكز تجمع التيار الانعزالي في الجبل. فشعار الاستقلال عن الغرب والشرق معاً كان في الواقع محاولة البرجوازية اللبنانية لتشديد ارتباطها التبعي بالغرب وتعميق ارتباطها الاقتصادي فقط بالشرق. والشرق هنا تعبير اصطلاحي يعني سورية والداخل العربي. فالبرجوازية اللبنانية كانت تخشى الحدود الجمركية مع سورية لما تعنيه هذه الحدود من تقلص حجم أرباحها(34).‏

                            وكانت حركة المطالبة بالوحدة العربية نشطة في عام 1944 واصطدمت بالنزعات الانفصالية والإقليمية. وتعرض الاستقلال اللبناني لهذه الحركة الوحدوية. ولقد نشرت مجلة (Times) وغيرها مقالات طويلة حول مشاريع الوحدة العربية في بدايات 1944 : " فإذا بفريق كبير من اللبنانيين، رجال دين وفكر وسلطة، يقلقون ويتلكأون ويتخوفون أن يكون استقلال لبنان مرحلة لضمهم إلى الوحدة العربية التي يتوهم بعض الذين يشتغلون بهذه القضية، دون أن يفهموا كنهها تماماً، أنها ستكون دينية كالامبراطورية العباسية أو الأموية الماضية، بيد أن الوحدة ستكون قومية وإما ألا تكون ... ومن جهة أخرى إذا ببعض اللبنانين يعتبرون لبنان مرحلة ووسيلة في تحقيق الوحدة العربية المنشودة.. ويكاد الخرق بين الفريقين يتسع وتكاد الفتنة تقع حتى أصبحنا نتوقع مشهداً مزعجاً يقوي نزعة الاتقسام..." (35).‏

                            وبدأت بوادر الوحدة في المؤتمرات العربية التي عقدت منذ ذلك الحين، ومن أهمها مؤتمر المحامين العرب الذي انعقد في دمشق (12-17/8/1944) وتوافد إليه المحامون من كافة الأقطار العربية(36).‏

                            وفي مباحثات الاسكندرية (25/9 - 7/10/1944) أوضح رئيس الوفد السوري سعدالله الجابري فكرة السوريين ودعوتهم إلى الوحدة العربية الشاملة واعتقادهم بالوحدة السورية التي تؤلف بين ربوعها، على أن تكون دمشق عاصمتها والجمهورية نظام الحكم فيها.‏

                            ولما آن توقيع بروتوكول الجامعة العربية في الاسكندرية، واقترح إطلاق اسم (الجامعة) على هذه الهيئة الدولية الجديدة، بذل الوفد السوري جهد طاقته لتكون روابط الدول العربية أشد وثوقاً وأكثر انسجاماً وأمتن عرى، كما صنع في أثناء المشاورات الماضية، فاقترح أن يكون تأسيسها على قواعد حلف اتحادي أو تسمى بهذا الاسم. وصرح بأن سورية لاتقصر في بذل جزء من سيادتها القومية في سبيل هذه الغاية وحدها. ولكن معظم ممثلي الدول العربية عارضوا بصراحة هذا الاقتراح ووافقوا على تسمية (الجامعة) وتوقيع البروتوكول في أسـسه التي أعدت له.‏

                            وفي الاجتماع الكبير في الاسكندرية الذي تكلم فيه رؤساء وفود الدول العربية ووقعوا فيه (بروتوكول الاسكندرية) في 20 شوال 1363 - 7 تشرين الأول 1944، الذي تضمن إنشاء (جامعة الدول العربية)، خطب سعد الله الجابري فأيد ماورد في مذكرة السنة الماضية، وأشار إلى صلات الإخاء الدائم التي لاتنفصم عراها بين الأقطار العربية التي يكتفى ببعضها في توثيق الروابط بين الأمم، فكيف بها مجتمعة متراصة. وتكلم أيضاً باسم (الشام) بقوله: "فالشام التي تحمل إلى هذا الجمع الحافل أمانيها وآمالها، لاتزال منذ القِدم عاملة على خدمة القضية العربية...." (37).‏

                            ولم يتم توقيع بروتوكول الاسكندرية إلا بعد اتخاذ قرار خاص في شأن لبنان : " تؤيد الدول العربية الممثلة في اللجنة التحضيرية مجتمعة احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة، وهو ماسبق لحكومات هذه الدول أن اعترفت به بعد أن انتهج سياسة استقلالية أعلنتها حكومته في بيانها الوزاري الذي نالت عليه موافقة المجلس النيابي بالإجماع في 7/10/1943(38). وكان هذا القرار لطمأنة العناصر المتخوفة من العروبة. فبعد أن اعترفت الدول العربية باستقلال لبنان منفردة، اعترفت به جماعياً.‏

                            " وقد أرادت اللجنة بهذا النص تأكيد استقلال لبنان وسيادته تطميناً للخواطر التي كان قد ساورها بعض القلق بسبب ماأشيع عن الوحدة أو الضم "(39).‏

                            " وهكذا فإن لبنان رغم موافقته على المواثيق العربية الفضفاضة بقي يحتفظ بعلاقاته مع الغرب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن رياض الصلح سارع إلى تطمين الدول العربية بأن لبنان المستقل لن يكون عقبة في وجه الوحدة العربية، ولن يكون موطىء قدم للاستعمار عامل التجزئة الأكبر. فالدول العربية كانت تخشى أن يبقى لبنان المسيحي مرتبطاً بأوروبا فيصبح وكراً للتسلل الاستعماري إلى المنطقة." (39)مكرر.‏

                            وبذلك تنازلت سورية عن مطالبها في لبنان لصالح الوحدة العربية (المأمولة) تنازلاً مشروطاً. وبهذا تنازلت سورية عن الأقضية الأربعة وغيرها من المناطق. ولعل ذلك كان بتأثير جهود رياض الصلح لدى زملائه السوريين حيث أصبح مناصراً لاستقلال لبنان بحدوده المعلنة(40) من قبل الفرنسيين. وهذه هي مقاولة الميثاق الوطني التي ربطت الاستقلال عن فرنسا بعدم الاندماج مع سورية مع التعاون مع البلدان العربية. وهذا التعاون لايضير الاستقلال ولاينتقص منه(41).‏

                            وبناء على طلب لبنان جرى تعديل أحد بنود بروتوكول الاسكندرية، فلقد اعترضت أوساط لبنانية على تسمية محادثات القاهرة عام 1943 باسم (مشاورات الوحدة العربية)، لأنها ضد لفظة الوحدة. كما اعترض لبنان على النص الوارد في الفقرة (7) من البند الأول من البروتوكول الذي يقول : " لايجوز في أية حال اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية وأية دولة فيها ". فقد رأت تلك الأوساط في هذه الفقرة مايمكن أن يمس السيادة الوطنية، فألغي النص ولم يرد في الميثاق الذي وقع بعد ذلك في 22/3/1945(42) من قبل الجمهورية السورية وإمارة شرقي الأردن والمملكة العراقية والمملكة العربية السعودية والجمهورية اللبنانية والمملكة المتوكلية اليمنية.‏

                            ولما وقع بروتوكول الاسكندرية (7/10/1944) وصفه يوسف السودا (من دعاة الانعزالية) بأنه: "يشكل خطراً على استقلال لبنان"، مع أنه لم يكن أكثر من صيغة تعاون ولايمكن أن يطلق عليه ميثاق وحدة أو اتحاد. وقد بدا واضحاً من خلال تلك المحادثات في الاسكندرية حرص الوفد اللبناني على تأكيد استقلال لبنان بإصراره على مفهوم السيادة الذي نجم عنه مبدأ الإجماع الذي لايلزم الدول التي لاتقبل بقرار من القرارات. وهاجم رجال الدين المسيحي هذه السياسة العربية وطالبوا بالحماية الأجنبية، إلا أن السياسة التوفيقية نجحت وأقنعتهم بعدم خطر هذه السياسة العربية، فرضوا حتى عام 1948.‏

                            وعلى قاعدة هذه العروبة (عروبة الميثاق) التي تحتفظ بالسيادة كاملة غير منقوصة، وقع لبنان في 22/3/1945 على ميثاق جامعة الدول العربية(43).‏

                            المهم أنه " وافق لبنان على ميثاق الاسكندرية وعلى الانضمام إلى جامعة الدول، واضعاً بذلك سياسة الميثاق الوطني موضع التطبيق العملي ألا وهي التعاون الوثيق مع الدول العربية. هذا في الظاهر. أما في الواقع فإن التيار التوفيقي الذي تسلم السلطة بعد الاستقلال كان على علاقة حميمة بالانكليز الذين يعطفون على شبه تجمع عربي يدور في فلكهم. ولما كان حكام مصر والعراق وشرقي الأردن صنيعة الانكليز. فقد تأسـست جامعة الدول العربية بزعامة مصر وانضم إليها لبنان وسورية مكافأة لانكلترا على اعترافها باستقلالهما وإرضاء للجماهير العربية في سورية التي ماانفكت تطالب بوحدة عربية، وممالأة للمسلمين اللبنانيين، وإظهار الانضمام إلى الجامعة وكأنه تحقيق لمطالبهم الوحدوية. لقد قبل المسلمون في لبنان بهذا الانضمام وسارعت البرجوازية المسيحية في لبنان التي كانت ماتزال ترتبط بالرأسمال الفرنسي، فقد تخوفت من هذا الاتفاق العربي بادىء الأمر، فهب المسيحيون وعلى رأسهم رجال الدين لمعارضة هذه السياسة "العربية" وللمطالبة بالحماية الأجنبية.‏

                            " ونشطت في هذه الآونة الأحزاب الطائفية، منها من عارض ومنها من أيد هذه السياسة الخارجية اللبنانية. إلا أن المسيحيين عادوا عن موقفهم لما علموا أن الانضمام إلى الجامعة العربية لايمس استقلال لبنان وهو لايعني الانضمام إلى وحدة عربية. وكانت البرجوازية المسيحية قد بدأت تتحول عن فرنسا لضعفها الاقتصادي بعد الحرب، وإن بقيت مرتبطة بها ببعض المصالح منذ عهد الانتداب. وكان على رأس المدافعين عن الجامعة العربية مجموعة المتمولين المسيحيين الذين ساعدوا بشارة الخوري للتوصل إلى الرئاسة وأهم هؤلاء ميشال شيحا وهنري فرعون الذي كان وزيراً للخارجية في حينه(43)مكرر.‏

                            وقد صدر قانون سوري في 31/3/1945 أقر بموجبه المجلس النيابي السوري ميثاق الجامعة وملاحقه(44).‏

                            ومع أن فكرة الجامعة العربية لم تكن تروق للأمير عبدالله، إلا أنه استمر في مباحثاته مع مصر والدول العربية الأخرى، وأوصى سمير الرفاعي رئيس وزرائه، قبل اشتراكه في مباحثات اللجنة السياسية في القاهرة، في مذكرة مؤرخة في 12/2/1945 بأن يسعى لتحقيق مشروع سورية الكبرى، وأن يطلب من مصر أن تقف موقف الأخ المحايد الجامع الناس للخير". وبالنسبة لذلك المشروع، وبالرغم من كل ذلك، فقد وقع عبدالله على ميثاق الجامعة في 22/3/1945، تلك الجامعة التي قال عنها إنها " اسم كبير ودعاية فارغة ". وأنها " جراب أدخلت فيه سبع رؤوس بسرعة عجيبة "(45).‏

                            ولقد كان قيام الجامعة بهذا الترابط الضعيف ضربة لإمكانية الوحدة السورية اللبنانية أو وحدة الشام لأنها ستكون اللبنة الأساسية لإنشاء وحدة أو اتحاد أو جامعة بين الأقاليم العربية والدول التي أنشئت فيها.‏

                            وقد يكون للايحاء الانكليزي أثر ما في ولادة نظام الجامعة بالشكل الذي ولد به، لأن الانكليز كانوا حينئذ أصحاب الحول والطول في البلاد العربية، ولأنهم ليسوا من الطيبة وحسن النية بما يجعلهم يرضون بقيام اتحاد عربي قوي(46).‏

                            وهكذا فإن جامعة الدول العربية روضت طموح العرب للوحدة وأثبتت أن الوحدة لاتتحقق عبر الحكومات المستندة للنفوذ الأجنبي(47). بل كانت الإقليمية الممتزجة بالاعتبارات الطائفية والشخصية والأسرية أساس نظامها الفضفاض فأضاعت على العرب فرصة ذهبية للوحدة أو الاتحاد(48).‏

                            5- مشروع الوحدة لدى الحزب القومي السوري وغيره من الأحزاب :‏

                            كان عدد من الأحزاب العقائدية يؤمن بوحدة سورية ولبنان كجزء من وحدة أكبر للأمة كالأحزاب الإسلامية والقومية ومنها حزب البعث العربي. إلا أن الحزب القومي السوري كان يحصر الوحدة في نطاق سورية الطبيعية التاريخية. ويصف فيليب حتي هذا الحزب بقوله : " كان الحزب القومي السوري الاجتماعي حزباً متطرفاً ينادي باتحاد لبنان مع سورية ويسعى نحو الاتحاد في النهاية مع جيرانه المسلمين "(49). فقد كان هذا الحزب ينادي بالوحدة السورية وبالأمة السورية(50) وبالوطن السوري ذي الحدود الواضحة من جبال طوروس شمالاً وحتى صحراء العرب جنوباً. ومن الفرات والبادية السورية شرقاً وحتى البحر الأبيض غرباً. ويدخل ضمنها صحراء سيناء وجزيرة قبرص .‏

                            وليس المجال هنا للحديث عن أفكار هذا الحزب أو نشاطه والأحزاب الأخرى إذ هو مقتصر على المشاريع الرسمية وآثارها في الواقع.‏
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: تطور الوحدة السورية اللبنانية

                              الفصل الخامس الوحدة السورية اللبنانية في مشاريع

                              الوحدة العربية 1941 - 1945‏

                              جاءت الحرب العالمية الثانية فأظهرت الاهتمام مجدداً بالشرق الأوسط والمنطقة العربية وأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية. فجعلت الآمال تخطو خطوة جديدة في سبيل تحقيق الوحدة العربية(1)التي ضاعت بهزيمة الدولة العثمانية واقتسامها عقب الحرب العالمية الأولى.‏

                              1- جهود الأمير عبدالله لوحدة سورية 1940-1942 :‏

                              استغل الأمير عبدالله سقوط فرنسا في ربيع 1940، فجدد محاولاته وجهوده لوحدة سورية التي كانت قد توقفت بإعلان الحرب العالمية الثانية. فأرسل إلى الحكومة البريطانية (عن طريق المندوب السامي البريطاني)، مذكرة في 1/7/1940 لفت فيها النظر إلى اهتمام الرأي العام العربي بقضية البلاد العربية ومستقبلها. وطالب بإصدار تصريح بريطاني بهذا الشأن يحقق أمل العرب في بريطانيا. وأشار إلى استعداد شرقي الأردن للقيام بعمل ما في سورية ضد قوات فرنسا الفيشية، تأدية لواجبها نحو قوميتها وتحقيق آمالها.‏

                              كان رد المندوب السامي غير مشجع للأمير عبدالله. طلب منه فقط، عدم القيام بأي (عمل متسرع) قد يعرقل خطط الحكومة البريطانية. وطالبه بالتريث حتى تتضح بعض الأمور في الميدان الأوروبي. ولم يثن المندوب السامي الأمير عبدالله عن مواصلة سعيه لتحقيق هدفه، فأرسل مذكرة أخرى في 9/7/1940 إلى وزير المستعمرات البريطاني يؤكد عزم شرقي الأردن على تحقيق (الوحدة العربية). لكن الحكومة البريطانية لم تكن في ظرف يسمح لها بالعمل على تحقيق مطلب الأمير عبدالله.‏

                              واستعان الأمير بزعماء طبقة ملاك الأراضي في شرقي الأردن فأوصى لها بأن تبرق إلى السفارة البريطانية في القاهرة مطالبة بتحقيق وعد بريطانيا باستقلال سورية وسيادتها ووحدتها وضم شرقي الأردن إلى هذه الوحدة(2).‏

                              وكانت بريطانيا تعتذر وتطلب تأجيل البحث في الموضوع، ذلك أنها لم تكن على استعداد لإغضاب حكومة فرنسا الحرة وحكومتي مصر والسعودية وشعبي سورية ولبنان، في وقت كان جيش دول المحور يحتل حدود مصر، ولم يكن يبعد كثيراً عن سورية أو السعودية. ثم إن الحكومة البريطانية كانت تفكر في مشروع آخر يضمن استمرار مصالحها في الوطن العربي، في الحرب وفي عالم مابعد الحرب.‏

                              لذلك حاولت بريطانيا أن تتقرب من العرب للحاجة إلى الدعم العربي ضد دول المحور، فأعلنت في 29/5/1941 بلسان وزير خارجيتها (أنطوني ايدن Antony Eden) أنها : "تعطف كثيراً على أماني سورية في الاستقلال وإلى ماقد تقوم به، وأن على البلدان العربية ومن حقها تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بينها، وأن الحكومة البريطانية سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة ....." (1)مكرر.. وهذا التصريح يظهر حرص بريطانيا على السيطرة على المنطقة العربية، ومنافستها لفرنسا .‏

                              وقد جاء هذا الإعلان في نفس اليوم الذي أنهت فيه القوات البريطانية، بالاشتراك مع القوات الأردنية، عملية تصفية ثورة رشيد عالي الكيلاني، (التي كان لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني صلة بها)، وبدأت تستعد لتحرير سورية. وهو توقيت محكم كاف لأن يفضح النية وراءه(2)مكرر.‏

                              كما أن الجنرال كاترو تأثر بالشعور العام، فأشار في بيانه الأول (8/6/1941) الذي خاطب فيه السوريين واللبنانيين في بداية الحملة الانكليزية الفرنسية لتحرير سورية من حكم فيشي، إلى أن لهم أن يؤلفوا دولة واحدة إذا شاؤوا. ولكن لم يدع أبناء الدولتين يعملون شيئاً لتحقيق ذلك. وفرنسا في مختلف أدوارها لم يكن يهمها إلا الحكم الفرنسي ومصالحه، وهي تعتقد أن سياسة التفريق والتجزئة أفضل وسيلة لتمكينه وتثبيته(3).‏

                              وكان العرب يعلمون أن هذه الوعود مزيفة، فالوثائق الألمانية المختصة بالسياسة تجاه الشرق الأوسط بين 1939-1945 تبين أن الحلفاء كانوا محظوظين لأن هتلر لم يأبه لهذه المنطقة من العالم، إذ أن عداءه للسامية (الذي اتهم به) شمل العرب واليهود على حد سواء، وكان مشغولاً بفتوحاته في ميادين أخرى، فترك هذه المنطقة وشأنها(4).‏

                              واستغل الأمير عبدالله قضية تحرير سورية من النفوذ الفرنسي الفيشي، فاشتركت بعض قواته إلى جانب الجيش البريطاني في عملية التحرير في حزيران وتموز 1941، أملاً في الضغط على بريطانيا لتحقيق هدف الأمير عبدالله في وحدة شرقي الأردن وسورية أو اتحادهما(5). أي تحقيق وحدة سورية الكبرى كجزء أساسي أولي للوحدة العربية.‏

                              وكان رد الفعل على تصريح ايدن (29/5/1941) سريعاً جداً في العاصمة الأردنية، فجمع الأمير عبدالله مجلس وزرائه في اليوم التالي (30/5/1941) وأصدر بياناً ناشد فيه العرب أن يعلنوا وحدة البلاد السورية، وأرفق بيانه بمذكرة رفعها إلى الحكومة البريطانية بهذا الخصوص. وفضلاً عن ذلك، فقد دعا في 16/7/1941 المستر اوليفر لتيلتون (Oliver Lyttelton) الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط، لزيارة عمان لتبادل الرأي ووجهات النظر حول المشكلات القومية للدول العربية (وكان قد تم تحرير سورية ولبنان من حكم فيشي وأصبحتا تحت سيطرة الحلفاء). ورد الوزير مبدياً استعداده للزيارة في أقرب فرصة ممكنة، ومعرباً عن عطف حكومته على النشاط القائم تحقيقاً للوحدة العربية كاملة أو جزئية. ولكنه أشار إلى أن "الظروف الحربية القائمة تدعو للتريث والتمهل قبل الإقدام على أي عمل خطير من هذا النوع".‏

                              وقام الوزير البريطاني بزيارة عمان في أوائل أيلول 1941، وصدر بلاغ في 13 منه عن تلك الزيارة جاء فيه : "إنه لاشيء يحول دون تنفيذ هذه الوعود (أي وعود الوحدة والاستقلال)، وايصال العرب إلى أمانيهم القومية، وأن الأمور تتمشى مع مراحلها الزمنية، وأن الخطوة الأولى في هذا السبيل يجب أن تقوم بها الدول العربية نفسها. وأن الحكومة البريطانية ستساعد العرب فعلاً وبكل طريقة ممكنة للوصول إلى مايصبون إليه، وأن مصلحتها ومصلحتهم واحدة " .‏

                              ولم يترك الأمير عبدالله فرصة دون أن يدعو لمشروعه، فخطب في المجلس التشريعي الرابع في 6/11/1941 مشيراً إلى أنه سيتم توحيد سورية وشرقي الأردن مهما كان الثمن الذي سيتكبده. وكتب مذكرة إلى المستر (لتلتون) في 23/11/1941، انتقد فيها سياسة الفرنسيين في سورية. وعبر عن خشيته من أن تكون تلك السياسة تهدف إلى استمرار تمزيق وحدة سورية الطبيعية. وأكد حق العرب في وحدة بلادهم. ثم طلب منه نتيجة ماأســــفرت عنه محادثاتهما الأخيرة في عمان، فرد لتلتون على الأمير بمذكرة فـي 5/12/1941 يطمئنه بأن الأمور السياسية التي أشار إليها الأمير هي على الدوام موضع دراسة جدية من الحكومة البريطانية(6).‏

                              وفي 6/1/1942 أصدر مجلس الوزراء الأردني قراراً يطالب فيه برفع الانتداب عن شرقي الأردن لتصل إلى مرتبة البلاد العربية الأخرى، ولتتمكن من السعي للوحدة معها، تلك الوحدة التي صرحت الحكومة البريطانية بالعطف عليها. وأشار القرار إلى مضار وضع أي حاجز بين الأجزاء السورية على الحياة السياسية والاقتصادية. ثم انتهى إلى القول: "إن الوحدة العربية هي مطمع العرب الذين ينتظرون الوصول إليها مباشرة أو تدرجاً بحسب الظروف، واجتياز العقبات الإقليمية. أما الوحدة السورية فهي مطمع الأردنيين جميعهم " .‏

                              ودعا قرار مجلس الوزراء الأردني الحكومة البريطانية إلى أن تؤمن بالتعاون مع حكومة فرنسا الحرة، استقلال سورية ولبنان بشكل يجعل بالإمكان التفاهم مع سكانهما على ماتقتضيه المصالح المشتركة. و "أن تزال كل الصعوبات وتبذل كل التسهيلات في هذا السبيل، رعاية للوعود والتصريحات الرسمية التي تأمل حكومة شرق الأردن وأهله أن صديقتهم بريطانيا العظمى ستبذل كل جهد في سبيل تنفيذها "(7).‏

                              والواقع أن الحكومة البريطانية لم تكن في وضع يسمح لها بأن تصغي إلى دعوة الأمير عبدالله، ذلك أن الحرب في الجبهة الليبية كانت تجري على غير ماتوقعت. هذا بالإضافة إلى أن ظروف مصر الداخلية، دفعت الحكومة البريطانية إلى فرض مصطفى النحاس رئيساً للوزارة في 4/2/1942. أي فرضت حكومة موالية للحلفاء(8).‏

                              ويبدو أن النحاس باشا قد بدأ تحركاته العربية في إطار السياسة البريطانية في هذا الشأن، فقد دعا في 2/6/1942 كلاً من بشارة الخوري زعيم الكتلة الدستورية في لبنان وجميل مردم بك أحد زعماء الكتلة الوطنية السورية، لزيارة القاهرة. وتم اتفاق الثلاثة على الخطوط العريضة للسياسة اللبنانية المقبلة. وقد أبدى الخوري استعداده، في حالة وصوله إلى رئاسة الجمهورية، للتعاون مع الدول العربية شرط استقلال لبنان ضمن حدوده المعترف بها. ورأى أن ذلك قد يكون عقبة في سبيل إنشاء جامعة الدول العربية.‏

                              ومما قاله بشارة الخوري : " إننا نريد التعاون مع الدول العربية إلى أقصى حد على هذا الأساس، ثم استدركت أن عدداً من المسيحيين لايعتنق هذا المذهب، وقد يعاكسه لاعتقاده بضرورة حماية أجنبية لبلاده ".‏

                              وكان يهم النحاس باشا سماع رأي سورية بالموقف والسياسة اللبنانية المستقبلية، لأن سورية هي جارة للبنان، فقال جميل مردم : " نحن نثق بكلام الشيخ بشارة، وعندما تطمئن سورية لهذا الاتجاه في السياسة اللبنانية، فنحن مستعدون لأن ننزل عن أي مطلب لنا في لبنان. بل أن نوسع أراضي لبنان إذا لزم ".‏

                              وذكر الخوري أنه عندما كان في مصر راح البعض يخلق الشوائع بأن لبنان سيكون عضواً في وحدة أو اتحاد، وذلك لمجرد كوننا جعلنا من أهدافنا سياسة استقلالية بحتة يصبح بها لبنان سيد شؤونه ومقدراته. ولقد كان جميل مردم بك معنا في مصر حينذاك وكان يصرح أمام النحاس باشا وسواه بأنه لو كان جميع الناس في لبنان يفكرون كما يفكر بشارة الخوري لعدلنا عن المطالبة بشبر واحد من لبنان ولأعطيناه من أراضينا مايريد "(9).‏

                              وفي الوقت الذي كان فيه عبدالله يسعى إلى توحيد سورية (الكبرى) ويعارضه حكام سورية ولبنان، كان الصهيونيون في فلسطين يسعون إلى توسيع سيطرتهم وجعل حدودهم تمتد لتشمل نهر الأردن (أي بأخذ قسم من إمارة شرقي الأردن) ونهر الليطاني (أي بأخذ قسم من دولة لبنان) وأن حدود الدولة اليهودية يجب أن تكون مجاورة للبنان المسيحي(10).‏

                              2- مشروع نوري السعيد للوحدة العربية (الهلال الخصيب)‏

                              كانون الأول 1942 :‏

                              ومع استمرار الحديث عن الوحدة العربية وجهود الأمير عبدالله لتحقيق وحدة أو اتحاد سورية الطبيعية، قابلها نوري السعيد رئيس وزارء العراق بمشروعه المعروف باسم (الهلال الخصيب) (11). وقد قدم نوري السعيد مشروعاً وحدوياً من نوع جديد. وقد تضمن مفاهيم جديدة ونشره في عام 1943 في الكتاب المعنون (الكتاب الأزرق) استقلال العرب ووحدتهم، مذكرة في القضية العربية مع إشارة خاصة إلى فلسطين ومقترحات رامية إلى حل نهائي ومربوط معها نصوص جميع الوثائق المتعلقة بالقضية وضعها الفريق نوري السعيد" .‏

                              وتتصــدر الكتـــاب رســالــة مــن نوري السعيد إلى الـــوزيـــر البريطاني كيسي (Richard Cassy) في كانون الأول 1942 يبدأها كما يلي : " عزيزي المستر كيسي، على أثر الحديث الذي دار بيننا حول مستقبل الدول العربية، قررت العمل بمشورتكم فكتبت مذكرة في الموضوع باسطاً فيها رأيي الشخصي في المعضلات التي تجابهها ومقترحاتي لحلها. وقد وضعت المذكرة المربوطة بهذا الكتاب أنا نفسي بصفتي الشخصية. ومع علمي بأن غير واحد من زملائي وزعماء عراقيين آخرين يشاركونني في آرائي، لا أود اعتبار هذه الآراء بوجه من الوجوه بياناً معبراً عن سياسة الحكومة العراقية ".‏

                              وتتناول الرسالة شرح الأطماع الصهيونية في فلسطين، وتدعو بريطانيا وحلفاءها إلى العمل لوقف تلك الأطماع خيفة أن تسيء إساءة لاتعوض إلى العلاقات بين بريطانيا والعرب. ولعل توجيه الرسالة إلى بريطانيا لكونها صاحبة السيادة في المشرق العربي بعد تحرير سورية من حكم فيشي .‏

                              ويتألف الكتاب من (16) صفحة وقد اقترح فيه قيام وحدة بين سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين في دولة واحدة، وأن تنشأ جامعة للدول العربية يكون لمجلس الجامعة مهام عديدة منها : الدفاع والشؤون الخارجية وحماية الأقليات .... واقترح نوري السعيد في مشروعه بأن يمنح لليهود في فلسطين شبه حكم ذاتي، وأن يمنح الموارنة في لبنان - إذا طالبوا بذلك - نظاماً خاصاً مثل الذي كان لهم خلال العهد العثماني، على أن يرتكز الحكم الذاتي للموارنة واليهود إلى ضمان دولي.‏

                              ويبدأ الكتاب بالإشارة إلى أن عرب المشرق هم شعب واحد من حيث اللسان والثقافة والشؤون الاقتصادية وغيرها. " والرابطة الثقافية التي بين هذه الشعوب مستحكمة اليوم استحكامها مدة قرون مضت نظراً إلى التحسن الذي طرأ على المواصلات والتربية، وذلك على الرغم من تقسيمها في خلال عشرين سنة مضت إلى عدة دول مختلفة، وسن قوانين مختلفة لهذه الدول. وكانت هذه الأقاليم جميعاً جزءاً من الامبراطورية العثمانية، فلم تفصل بينها حدود دولية، وكانت طرق إدارتها واحدة، وقوانينها كذلك. وكانت عادات سكان هذه المناطق، مسلميهم ومسيحييهم، وتقاليدهم واحدة. وكان طعامهم واحداً وكذلك تفكيرهم ".‏

                              وذكر نوري السعيد تحت عنوان "المسيحيون والعرب" : "أجل يوجد في سورية وفلسطين عدد لايستهان به من المسيحيين، إلا أن هؤلاء عرب في الأصل، وهم على غرار جيرانهم تماماً في عاداتهم ولسانهم وطرق معيشتهم. وكثيراً ماكانت الطوائف المسيحية فيما مضى أشد عداء لبعضها البعض من معاداتها للمسلمين الذين عاملوا جميع الطوائف على السواء".‏

                              ويأتي نوري السعيد على ذكر لبنان فيقول : "وكان الموارنة الطائفة الوحيدة التي لها وضع خاص، إنما على أثر الاضطرابات التي وقعت بين موارنة لبنان ودروزه في سنة 1864، وُضع لهذه الولاية نظام ممتاز يتمتع اللبنانيون بمقتضاه بقسط وافر من الحكم الذاتي، مما مكن الموارنة من الحصول على حكومة يرأسها حاكم مسيحي. واستند هذا الطراز الإداري الخاص إلى ضمان دولي. وكان في ذلك العهد، كما في عهد الامبراطورية العثمانية القديمة (ملل) متنوعة متمتعة بحقوق خاصة، لأن فكرة وجود جماعات متمتعة بشبه حكم ذاتي في داخل الدولة فكرة مألوفة عند الدول المتخلفة، ومعتبرة على العموم سياسة صائبة منطوية على الإنصاف. وهذا النظام الممتاز الذي يتمتع به اللبنانيون جدير بالدرس الدقيق لأنه مما يمكن اتخاذه مثالاً يحتذى به لإنشاء ايالات يهودية متمتعة بحكم شبه ذاتي في فلسطين على ما سأشرحه فيما بعد ".‏

                              ويستطرد نوري السعيد فيتكلم عن كفاح العرب، وعن العرب والترك، وعن العرب في الحرب العظمى، وعن الوعود البريطانية وعن تمزيق البلاد العربية.‏

                              ويتكلم عن سورية ولبنان فيقول : "إن سورية ولبنان لبسا دون كثير من البلدان الأوروبية حضارة، إلا أن نظام الانتداب الغاشم المفروض عليهما قد أفقرهما وبذر بذور الانقسام بين سكانهما مما أدى إلى حدوث القلاقل والاضطرابات فيهما من حين إلى آخر. وقد اغتنم العرب السوريون كل فرصة للحصول على استقلال حقيقي حتى أنهم ضحوا برغبتهم في الوحدة في سبيل الحصول على الاستقلال المنشود. فعقدوا اتفاقاً مع الفرنسيين على تقسيم بلادهم إلى دولتين هما سورية ولبنان (لعله يقصد معاهدة 1936).‏

                              ثم يتكلم عن سورية الجنوبية أي فلسطين وشرقي الأردن.‏

                              ويستطرد فيتكلم عن سورية الكبرى وعن الكتاب الأبيض لفلسطين الصادر عام 1939 وعن العرب وميثاق الأطلسي، وعن اتفاق العرب لمكافحة دعاية المحور وعن شؤون عربية أخرى. ويصل نوري السعيد إلى الخاتمة يبدي فيها الآراء التالية :‏

                              1- أن يعاد توجيد سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن في دولة واحدة.‏

                              2- أن يبت سكان هذه الدولة أنفسهم في نوع الحكومة التي تتخذها هذه الدولة سواء أكانت ملكية أم جمهورية، وأيضاً سواء أكانت وحدة أم اتحاداً (كونفدراسيون).‏

                              3- أن تنشأ عصبة عربية ينضم إليها العراق وسورية فوراً على أن يباح للدول العربية الأخرى الانضمام إليها متى شاءت.‏

                              4- أن يكون لهذه العصبة مجلس دائم ترشحه الدول المنخرطة في سلك هذه العصبة، ويرأسه أحد رؤساء الدول الذي يتم اختياره اختياراً تقبله الدول ذات الشأن .‏

                              5- أن يكون مجلس العصبة العربية مسؤولاً عن الأمور الآتية : الدفاع - الشؤون الخارجية - العملة - المواصلات - الجمارك - حماية حقوق الأقليات - التعليم.‏

                              6- يمنح لليهود في فلسطين إدارة شبه ذاتية في المنطقة التي يكونون أكثرية فيها، مع منحهم الحق في إدارة مناطقهم الريفية والمدنية، ويشمل ذلك المدارس والمؤسـسات الصحية والشرطة، على أن تكون هذه المؤسـسات الصحية والشرطة تابعة لإشراف الدولة السورية بوجه عام .‏

                              7- تكون القدس مدينة يباح دخولها لأبناء جميع الأديان بقصد الزيارة أو العبادة، وتتألف لجنة خاصة من ممثلي الأديان الثلاثة السائدة لضمان ذلك.‏

                              8- أن يمنح الموارنة في لبنان - إذا شاؤوا - إدارة ممتازة (نظاماً خاصاً) على نحو ماكانوا يتمتعون به في خلال السنوات الأخيرة من عهد الامبراطورية العثمانية. وستستند هذه الإدارة الخاصة أسوة بالإدارات التي ستؤسـس وفق أحكام الفقرتين (6،7) السابقتين إلى ضمان دولي.‏

                              وإذا كان في الإمكان حسبما تقدم إنشاء حلف (كونفدراسيون) من الدول العربية يشمل العراق وسورية وفلسطين وشرقي الأردن في بادىء الأمر، مع إباحة الانضمام إليه للدول العربية الأخرى فيما بعد، يزول عندئذ كثير جداً من الصعوبات التي جابهتها بريطانيا العظمى وفرنسا في الشرق الأدنى في خلال العشرين سنة الماضية.‏

                              إن عرب فلسطين يتخوفون الآن من صيرورتهم أقلية في دولة يهودية، لذلك نراهم يعارضون أشد المعارضة في منح اليهود حقوقاً خاصة. إلا أن هذا العداء سيخف إذا أصبحت فلسطين جزءاً من دولة عربية قوية، وفي استطاعة اليهود أن يؤسـسوا وطنهم القومي في أنحاء فلسطين حيث هم الآن أكثرية. وبذلك يزداد اطمئنانهم إلى سلامتهم لأن جيرانهم العرب سيضمرون لهم حينئذ نيات طيبة، فضلاً عن ازدياد الفرص الاقتصادية السانحة لهم متى أصبحوا طائفة متمتعة بإدارة شبه ذاتية في دولة أكبر جهداً مما يأملونة(12).‏

                              3- مشروع الأمير عبدالله لوحدة سورية الكبرى أوائل 1943 :‏

                              لما وضح أن النفوذ الفرنسي سيتقلص من الشرق نهائياً، عاود الأمل الهاشميين في تحقيق مشروعهم القديم. ولعل الأمير عبدالله علم بمشروع نوري السعيد، فحاول أن يضع مشروعاً مفصلاً لما كان يطالب به من وحدة أو اتحاد بين شرق الأردن وسورية، فأرسل الأمير عبدالله مذكرة سياسية جديدة إلى الحكومة البريطانية في أوائل 1943 فصل فيها رأيه في حل (المسألة السورية) بوجه خاص، و (المسألة العربية) بوجه عام(13).‏

                              وجاء في مذكرة الأمير عبدالله إلى الحكومة البريطانية، أنه "بناء على وعود بريطانيا للعرب سابقاً ولاحقاً، ونظراً لعجز الحكومة الفرنسية الشرعية عن القيام بوكالتها المؤقتة (أي انتدابها) عن عصبة الأمم في سورية، وزوال تلك الوكالة حكماً بسقوط أهليتها القانونية نظراً لتمتع سورية باستقلال ودستور شرعيين، وبالإشارة إلى ماصرح به وزير الخارجية البريطانية المستر (ايدن)، بشأن الوحدة العربية"، فإنه يرى أن من "مقتضيات تسهيل مهمة الديمقراطيات في الشرق الأدنى، وإعادة توثيق الصداقة العربية البريطانية التقليدية، وضمان الثقة والاستقرار في البلاد السورية" أن ينفذ أحد المشروعين التاليين :‏

                              المشروع الأول : إنشاء دولة سورية موحدة واتحاد عربي. ومن أهم أركان هذا المشروع :‏

                              أ - اعتراف الحلفاء باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وسيادتها واعتبار وحدتها القومية والجغرافية أساساً لنظام الحكم فيها. على أن يكون نظام الحكم ملكياً دستورياً، ويتمتع (لبنان القديم) بإدارة خاصة.‏

                              ب- تضم الدولة السورية الموحدة، سورية الشمالية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين وتحكمها حكومة مركزية واحدة.‏

                              جـ- إلغاء وعد بلفور أو الاكتفاء بالوضع الراهن ومنع الهجرة اليهودية أو تفسيره تفسيراً يزيل مخاوف العالمين العربي والإسلامي.‏

                              د- تصان المصالح البريطانية والأجنبية في الدولة السورية الموحدة بمقتضى معاهدة كالمعاهدتين المصرية والعراقية.‏

                              هـ- يدعى الأمير عبدالله بن الحسين لرئاسة الدولة السورية لاعتبارات مفصلة في المشروع.‏

                              و- بمجرد إعلان تأسيس الدولة السورية الموحدة يؤسـس اتحاد عربي تعاهدي من أراضي الهلال الخصيب (الدولة السورية الموحدة والعراق) وتوحيد التنسيق السياسي والدفاع والثقافة والشؤون الاقتصادية. ويفسح المجال للدول العربية الأخرى للانضمام إليه. وفي حالة عدم تطبيق هذا المشروع يتم تطبيق المشروع الثاني .‏

                              المشروع الثاني : إنشاء الدولة السورية الاتحادية واتحاد عربي: وأهم أركانه :‏

                              أ - قيام اتحاد سوري مركزي يضم حكومات شرق الأردن وسورية الشمالية ولبنان وفلسطين وتكون دمشق عاصمة الاتحاد. وإذا تخلفت حكومة لبنان عن الانضمام إلى الاتحاد السوري المركزي لأسباب خاصة بها فيجب أن تعاد الأراضي السورية، الملحقة بلبنان (حاصبيا وراشيا والبقاع وبعلبك) دون رغبة من السكان، إلى سورية.‏

                              ب - ينظم الاتحاد المركزي شؤون الدفاع والمواصلات والاقتصاد الوطني والسياسة الخارجية والثقافة العامة والقضاء الاتحادي مع بقاء الاستقلال الذاتي لكل من الحكومات الإقليمية الأربعة.‏

                              جـ- يكون للاتحاد مجلس تشريعي بالانتخاب، ويمثل الأقاليم المتحدة، وينتخب رئيس الوزراء الاتحادي وأعضاء السلطة التنفيذية طبقاً لأحكام الدستور.‏

                              د - يتم الاتحاد تبعاً لمفاوضات بين الحكومات الإقليمية الأربعة ويبدأ ذلك باتفاق حكومتي سورية الشمالية وشرقي الأردن.‏

                              هـ- يدعى الأمير عبدالله بن الحسين لرئاسة الاتحاد السوري المركزي لنفس الاعتبارات الواردة في المشروع الأول، على أن ينيب عنه من يدير شرقي الأردن.‏

                              و - تصان المصالح البريطانية والأجنبية في الاتحاد السوري المركزي بمقتضى معاهدة كالمعاهدتين المصرية والعراقية.‏

                              ز - بمجرد إعلان تأسيس الاتحاد السوري يؤسـس اتحاد عربي من العراق والاتحاد السوري (الهلال الخصيب).‏

                              حـ- يشترط لانضمام فلسطين إلى الاتحاد تحقيق الأمور التالية :‏

                              1- قيام حكومة وطنية دستورية في فلسطين بحدودها الحاضرة .‏

                              2- العمل بالكتاب الأبيض لسنة 1939 مؤقتاً إلى أن يحل محله تفسير رسمي لوعد بلفور من الجانب البريطاني يزيل مخاوف العرب والمسلمين.‏

                              3- تبادل التعاون الاقتصادي بين الاتحاد العربي والمواطنين اليهود.‏

                              4- تعلن الهيئات اليهودية المسؤولة موافقتها على هذا الحل بإخطار الحكومة البريطانية بذلك. وإذا لم تحل مشكلة فلسطين على هذا النحو تظل خارج نطاق الاتحاد، وبعد قيام الاتحاد السوري يصار إلى تأسيس الاتحاد العربي(14).‏

                              4- الوحدة السورية اللبنانية في مشروع جامعة الدول العربية 1943 :‏

                              استمر الحديث عن إمكانية قيام وحدة عربية بين الأوساط العربية والأجنبية وفي مختلف الصحف لاسيما بين عامي 1942-1943(15).‏

                              وقد يظهر للوهلة الأولى أن مشروع سورية الكبرى يتعارض مع مشروع الهلال الخصيب ولكن الحقيقة أن كلا المشروعين مكمل للآخر ومتمم له ولاتعارض بينهما. وقد سارا جنباً إلى جنب، مع اصطدامات ظاهرية أوائل عام 1943. واجتهد صاحباهما في إقناع بريطانية تبنيهما. لكن بريطانيا رفضتهما معاً، لأنهما كانا يتعارضان مع مخططها بإدخال مصر في الجامعة العربية، بعد أن وضعت السلطات البريطانية على مصر حكومة موالية للحلفاء (حادث 4/2/1942)، والظروف لم تكن مواتية لتحقيق أحدهما لأن الحرب لم تنته بعد، ولذلك وضعا على الرف. وفضلت بريطانيا فكرة الجامعة على المشروعين المذكورين لأن الجامعة تؤمن لها النفوذ في سبع أو ثمان دول. بينما انحصر المشروعان في نصف هذا العدد. ولأن فكرة الجامعة كما وضعتها بريطانيا كانت مطاطة جداً وشكلية، بينما يدعو المشروعان إلى وحدة كاملة لاتريدها بريطانيا بأي شكل من الأشكال(16).‏

                              وكررت بريطانيا تقربها من العرب ودغدغة أحلامهم في الوحدة. وحمل المخطط البريطاني خطاباً جديداً لانطوني ايدن في 24/2/1943 (تصريح ايدن الثاني) أطلقه في مجلس العموم البريطاني جاء فيه : " إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية. ولكن من الجلي أن الخطوة الأولى لتحقيق أي مشروع يجب أن تأتي من العرب أنفسهم ". وختمه ايدن بقوله : " لم يوضح حتى الآن مثل هذا المشروع الذي سينال استحساناً عاماً ".‏

                              وفهم الهاشميون من خطاب ايدن الأخير أنه يعني الرفض لمشروعي الهلال الخصيب وسورية الكبرى من جهة، وإصراراً على إدخال مصر الجامعة وتسليمها الزعامة فيها من جهة أخرى. يؤيد هذا ماذهب إليه عبدالله بقوله في مذكراته "بأنه كان على جهل تام من درجة تحقيق أماني الوحدة أو الاتحاد، ومايملكه رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس، من وعود سرية يعلمها هو من لدن انجلترا "(17).‏

                              وبادر النحاس باشا وأعلن في 30/3/1943 أمام مجلس الشيوخ المصري، أنه باشر المباحثات مع المسؤولين العرب بشأن الجامعة وأنه دعا نوري السعيد إلى مقابلته في القاهرة(18).‏

                              وعارض الأمير عبدالله دعوة مصطفى النحاس بعنف، وأصدر في 3ربيع الآخر1362 8/4/1943 بلاغاً بعنوان : "من عبدالله بن الحسين إلى أهل الشام" حاضرة وبادية ومن خليج العقبة إلى البحر الأبيض المتوسط إلى أعالي الفرات". دعا فيه " جملة أهل الحل والعقد في بلادالشام إلى مشروع وحدة أو اتحاد سوري شامل ووطن كامل، يناقشون أمره في مؤتمر سوري خاص". ورحب بعقده في عمان "عندما يختارون وقته وزمانه، أو يؤيدونه بعد إنعام النظر في مراميه، هيئات وفئات، زعماء وعلماء". ومنع هذا البلاغ في فلسطين وسورية ومصر. وأتبع هذا البلاغ بمذكرة إضافية في 18/5/1943 قدمها إلى المندوب السامي البريطاني ليرفعها إلى حكومته، مشيراً " بضرورة استقلال سورية بحدودها الطبيعية"، ومطالباً بإصدار "تصريح رسمي مشترك بريطاني فرنسي بتأييد استقلال سورية بحدودها الطبيعية، أو تأييد اتحاد حكوماتها الوطنية الشرعية اتحاداً مركزياً، مع التحفظات اللازمة لضمان المصالح البريطانية الفرنسية، التي لاتتعارض مع استقلال البلاد التام ووحدتها أو اتحادها". وقدم عبدالله مذكرة ملحقة في 31/5/1943 ولم ترد الحكومة البريطانية على مذكرات الأمير عبدالله المتعددة بشأن سورية الكبرى .‏

                              وتبادل الأمير عبدالله مع فارس الخوري في 1943 عدة رسائل بشأن سعيه وجماعته إلى الدعوة إلى وحدة أو اتحاد سوري برئاسة الأمير عبدالله وقد وافق الخوري على مبدأ الوحدة والاستقلال(19).‏

                              وفشل الأمير عبدالله في محاولاته مع (الشعب العربي في سورية) الذي لم يكتف برفض دعوة الأمير والإعراض التام عن المؤتمر الذي دعا إليه، بل حمل شكري القوتلي، وكان زعيم الحركة الوطنية وخصماً تقليدياً للأطماع الهاشمية، إلى رئاسة الجمهورية في 17/8/1943(20). وقد كانت سياسة الكتلة الوطنية تعارض السياسة الهاشمية .‏

                              بدأت الحكومة المصرية مشاورات الوحدة مع الأقطار العربية المستقلة ومنها لبنان وسورية في صيف 1943 للتفاهم. وتوجهت سورية بعد أن بدأت في إنشاء أوضاعها الاستقلالية، إلى هذه المشاورات بكل ماتشتمل عليه نفوس أبنائها من حماسة للفكرة العربية. وكان معظم زعماء العهد الجديد الذين عرفوا مصر من قبل وشاهدوا هذا الاتجاه فيها، أكثر الناس ابتهاجاً(21).‏

                              ولقد لبى نوري السعيد دعوة مصطفى النحاس، تحت ضغط السلطات البريطانية، وعقدت مباحثات بينهما امتدت من 31/6 إلى 5/8/1943 وانتهت إلى اتفاقهما على التشاور مع بقية الدول العربية على شكل الاتحاد أو الوحدة العربية(22).‏

                              وأخيراً أسقط في يد الأمير عبدالله عندما عقدت جولة المحادثات بين السعيد والنحاس في القاهرة، وخاف أن ينعزل سياسياً، فاضطر إلى أن يلبي تحت ضغط نوري السعيد، دعوة مصطفى النحاس للاجتماع بممثله في القاهرة للمباحثة بشأن الوحدة العربية. فأوفد (توفيق أبو الهدى) بتعليمات خاصة، ضمنها مذكرته المؤرخة في 24/8/1943(23). الموجهة إلى الحكومة العراقية.‏

                              وقد طالب الأمير في مذكرته بأن " تتحد البلاد الشامية (سورية الكبرى) أو أن تتوحد". وأنه إذا بقيت هذه البلاد منقوصة السيادة تحت انتدابات أجنبية أو تشتت محلي، فأمر تمشيها مع مصر والعراق يكون من الضعف وعدم التماسك بصورة تجعلها تعجز عن القيام بما يجب عليها في هذا المضمار". وختم الأمير عبدالله تعليماته إلى أبي الهدى بأنه يؤيد كل جهد ومساعي مصر والعراق ويصر على أن " على مصر والعراق السعي لوحدة سورية أو اتحادها قبل أي اتحاد عربي آخر ". وذكرت المذكرة أن للبنان الخيار بين الوحدة أو الاتحاد، على أن مسألة لبنان الكبير هي من جملة حقوق سورية التي لاينبغي إغفالها .‏

                              وامتدت المشاورات بين النحاس وتوفيق أبي الهدى من 28/8 إلى 1/9/1943. وقد شرح فيها أبوالهدى (رئيس وزراء الأردن) وجهة نظر أميره في موضوع سورية الكبرى. وطالب مصطفى النحاس بمد يد العون والتأييد لتحقيق ذلك المشروع(24).‏

                              وحاول الأمير عبدالله أن يتصل بقيادة الحركة الوطنية في سورية، فكتب إلى شكري القوتلي رئيس الجمهورية وإلى فارس الخوري رئيس مجلس النواب، وإلى سعد الله الجابري رئيس الوزراء، وأكد في كتبه لهم ضرورة توحيد سورية الكبرى "التي متى اتحدت فالعرب متحدون". وكانت ردودهم تشير إلى أن سورية ماضية في سبيل قصدها عاملة على تحقيق غاياتها، وكل مؤازرة لها هي تعزيز للقضية وإعلاء شأنها. وأنها " لن تقتصر في جهد حتى تصبح قوية عزيزة وتكون داعية للانسجام والتعاون والتضامن بين سائر الأقطار العربية التي آن لها أن يجتمع شملها وتدرك أمانيها"(25) وهذه الردود، بهذه الدبلوماسية المعتدلة، لاتعبر عن رأي محدد.‏

                              واستغل الأمير عبدالله توقيف فرنسا لرجال الحكومة اللبنانية في تشرين الثاني 1943 وأرسل إلى الشيخ محمد توفيق خالد مفتي لبنان، رسالة مؤرخة في 21/11/1943 يرجوه إبلاغ مواساته لرجالات الدولة ويبشره بقرب الإفراج عنهم، ويرجوه التوسط لإقامة علاقات بين البلدين(26).‏

                              وقد اختلفت الآراء (في مشاورات الوحدة العربية 1943) في أمر التعاون السياسي الذي يشمل الدفاع والشؤون الخارجية، اختلافاً كبيراً، فوافقت سورية والعراق وشرقي الأردن على التعاون السياسي، لكن لبنان رأى الانفراد بمسألتي الدفاع والشؤون الخارجية، ورأت المملكة العربيةالسعودية تأجيل البحث في موضوع التعاون السياسي حتى تتغير الظروف(27). فقد تحفظ وزير خارجية المملكة العربية السعودية، يوسف ياسين (السوري الأصل)، ممثل الملك عبدالعزيز، في 10/10/1943 عندما اجتمع مع النحاس باشا فأوضح بأن السعودية تتحفظ حيال الوحدة السياسية الاندماجية، وأنها مع التعاون الاقتصادي والثقافي بين العرب(28).‏

                              وقد قدم سعد الله الجابري رئيس الوفد السوري في اجتماع 30/10/1943 في القاهرة فيما عرف باسم (مشاورات الوحدة العربية) مذكرة(29) بسط فيها وجهة النظر السورية في شأن الوحدة السورية، التي تؤلف بين ربوعها على أن تكون دمشق عاصمتها والجمهورية نظام الحكم فيها، وفي الوحدة العربية الشاملة فقال : "كنا دائماً نطالب بأن يكون لبنان بالنسبة إلى سورية في وضع طبيعي. فإما أن تكون الصلات بيننا وبينه قائمة على أسـس الاتحاد، وإما أن ترد إلى سورية الأجزاء التي انتزعت منها ويعود لبنان إلى ماكان عليه من قبل. ولكن الآن وقد أخذ يتخلص من كل نفوذ يعترض سبيله، ويحول دون ممارسته لخصائص الاستقلال والسيادة وصلاحياتهما، فإننا رأينا أن ننهج خطة جديدة، فنقيم الصلات بيننا وبينه علــى قاعدة التعاون في تثبيت الاســـتقلال وتسوية المشكــلات التي أحدثها الماضي بالتعاون والاتفاق" .‏

                              وهكذا أعلن الجابري تنازل سورية عن الوحدة السورية لحساب الوحدة العربية وهو تنازل مشروط .‏

                              وقد أشارت المذكرة إلى تقسيم الدولة العثمانية واتفاقية سايكس - بيكو بقولها :‏

                              " الحرص على إزالة التجزئة التي أوجدتها القوة الغالبة والمطامع الدولية والمنافسات السياسية، حتى يتحقق الاتحاد الذي تنشده سورية، وتطمس آثار تلك الظلامة التاريخية التي مزقتها وعاقت سيرها ونموها " .‏

                              وعندما بحثت المذكرة في الوحدة العربية ومداها وأداة تحقيقها، فإنها أكدت " رغبة سورية في إنشاء اتحاد عربي يشمل التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي وأنها تؤثر أقوى أداة له وهو الحكومة المركزية أو نظام آخر من الاتحاد أو الاتفاق أو الحلف. وأن يضم الاتحاد مصر والشام والمملكة العربية السعودية واليمن ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. أما الأقطار العربية المحمية أو بعض الأقطار في شمال أفريقيا فلاشك أنه ينبغي أن تمد لها يد المعونة، وأن تؤازر في رفع مستواها وتكوين وجدانها القومي " .‏

                              وختمت المذكرة ايضاحها بهذه الكلمات : " لايسع الذين يحملون عبء المسؤولية في ديار الشام إلا أن يعربوا عن شعور بلادهم وأمانيها بالدعوة الصريحة إلى اتحاد البلاد العربية ....... " .‏

                              وهكذا تتجنب المذكرة ذكر كلمة (سورية) ذات المدلول السياسي والجغرافي المحدود، وتستعمل كلمة (الشام) ذات المدلول العربي التاريخي. وكأن المذكرة تتحدث بلسان الشام كلها بحدودها الطبيعية وبأجزائها المحدثة (سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين) بل وبقية أجزائها المتوزعة في الدول المجاورة.‏

                              أما موقف لبنان (الذي تشكل فيه حكم دستوري استقلالي منذ 21/9/1943) من مشروع جامعة الدول العربية، فيتضح من بيان رئيس الوزراء رياض الصلح الذي ألقاه قبل سفره إلى مصر للاشتراك في مفاوضات 1943، في مجلس النواب اللبناني والذي جاء فيه : " إنه لايمكن بحال من الأحوال أن نقبل انتقاصاً من استقلال لبنان ".‏

                              وتكلم النائب عبد الحميد كرامي قائلاً : " نحن الذين حاربنا لبنان في الماضي لأنه لم يكن عربياً، ونحن الذين طلبنا الوحدة السورية، أتينا اليوم إلى هذه الندوة نعترف باستقلال لبنان ونناضل في سبيل هذا الاستقلال ضد أي كان لأن لبنان أصبح الآن عربياً "(30). هذه العروبة المقيدة بالاستقلال لم تكن في الحقيقة إلا تطبيقاً لعروبة الميثاق الوطني، العروبة اللفظية والمصلحة. ومنذ أن تبوأ الرئيس بشارة الخوري رئاسة الجمهورية (1943) واجهته معضلة (الوحدة العربية). ومما صرح به لمراسل مجلة (الإثنين) المصرية، بأنه من مؤيدي التعاون العربي الاقتصادي والثقافي. ومما قاله : أن بعض اللبنانيين اتهموني علناً بأنني أعطيت وعداً أنه في حال انتخابي رئيساً للجمهورية سأسعى إلى تحقيق الوحدة العربية كأنها شر مستطير". ولكنه نفى حدوث ذلك. مع تأييده لنجاح الفكرة الوحدوية بين البلدان العربية على أن يبقى لبنان مستقلاً، ويترك لكل شعب كيانه السياسي، وأضاف بأنه أفصح عن هذه السياسة لنوري السعيد، "وهو يتفق معي في أن من الممكن أن تتحد البلاد العربية في الشؤون الاقتصادية والثقافية " .‏

                              ومن هنا يلاحظ بأن هناك توافق سعودي وعراقي ومن ثم مصري وبريطاني حول واقع لبنان ومستقبله (إضافة إلى الموقف السوري). وكان لهذا التوافق الأثر البالغ في الاتفاق الداخلي اللبناني، وفي ايجاد صيغة الميثاق الوطني، فالميثاق هو توافق دولي عربي وتوافق عربي - عربي. ومن ثم توافق لبناني - لبناني(31).‏

                              وكانت القوى الاستقلالية تلقى الدعم الكامل من الدول العربية وبشكل خاص من سورية بسبب التوافق المصيري والمصلحي بين الشعبين السوري واللبناني والعمل سوياً للتخلص من الاستعمار الفرنسي.تضاف إلى ذلك أهمية العامل التاريخي في هذا المجال حيث ارتبط تاريخ البلدين باستمرار إلى حد التدامج. وكانت الدول العربية التي تدعم نضال سورية تدعم أيضاً نضال القوى اللبنانية المتحالفة معها. وكان هدف القوى اللبنانية هو إخراج لبنان من عزلته الداخلية، وربط مصيره بالمحيط العربىالذي يعيش فيه وضمان حدوده واستقلاله ضماناً عربياً دون أية ضمانات أخرى، أي بتعبير آخر التأكيد على عروبة لبنان شعباً وأرضاً واستقلالاً(32).‏

                              وكثرت في لبنان شعارات (استقلال لبنان وحياده عن الشرق والغرب) و "لبنان الوطن ذو الوجه العربي الذي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". وخطاب النائب أسعد البستاني في المجلس النيابي (23/9/1944) يعتبر دليلاً حياً على تطور مفهوم جماعة لبنان اللبناني نحو الإقرار بعروبة الميثاق. فيقول : " ولبنان هذا يتنافى والإدماج ويتناقض والوحدة العربية الشاملة ... إننا لانستأنس الآن في الضم ولا في الوحدة وقد أجمع الجميع على أن يبقى لبنان طليقاً بعيداً عن كل قيد " .‏

                              وهكذا دعا دعاة لبنان الانعزالي إلى عروبة المصلحة والعروبة الروحية، وعملوا على تعزيز دور لبنان المستقل في وجه أية وحدة عربية أو اتحاد عربي من أي نوع كان، حتى وصل بهم الأمر إلى دعم (القومية اللبنانية) وغيرها من المفاهيم لإلغاء دعوة القومية العربية(33) التي يروا فيها صورة أخرى من الإسلام.‏

                              المهم أنه في الوقت الذي كانت البرجوازية اللبنانية تندفع فيه أكثر فأكثر نحو تعميق صلاتها الاقتصادية بالوطن العربي، كانت تسعى في الوقت ذاته إلى الحفاظ على استقلالها السياسي الذي يحميها من الذوبان في مشاريع الوحدات المطروحة ... وفي هذا الإطار يمكن فهم التصريحات الكثيرة لجميع ممثلي البرجوازية اللبنانية، المعارضة والموالية، بالدعوة للالتفاف حول عروبة الميثاق أي (لبنان ذو الوجه العربي) وتمتين علاقات لبنان الاقتصادية إلى حدودها القصوى مع الميحط العربي بكافة أسواقه التجارية ... إن هذا تشبث بمكتسبات هامة حصلت عليها هذه البرجوازية خلال الحرب وليس بمقدورها التخلي عنها، كقطاع الاصطياف العربي شديد الأرباح مثلاً التي يستفيد منها مراكز تجمع التيار الانعزالي في الجبل. فشعار الاستقلال عن الغرب والشرق معاً كان في الواقع محاولة البرجوازية اللبنانية لتشديد ارتباطها التبعي بالغرب وتعميق ارتباطها الاقتصادي فقط بالشرق. والشرق هنا تعبير اصطلاحي يعني سورية والداخل العربي. فالبرجوازية اللبنانية كانت تخشى الحدود الجمركية مع سورية لما تعنيه هذه الحدود من تقلص حجم أرباحها(34).‏

                              وكانت حركة المطالبة بالوحدة العربية نشطة في عام 1944 واصطدمت بالنزعات الانفصالية والإقليمية. وتعرض الاستقلال اللبناني لهذه الحركة الوحدوية. ولقد نشرت مجلة (Times) وغيرها مقالات طويلة حول مشاريع الوحدة العربية في بدايات 1944 : " فإذا بفريق كبير من اللبنانيين، رجال دين وفكر وسلطة، يقلقون ويتلكأون ويتخوفون أن يكون استقلال لبنان مرحلة لضمهم إلى الوحدة العربية التي يتوهم بعض الذين يشتغلون بهذه القضية، دون أن يفهموا كنهها تماماً، أنها ستكون دينية كالامبراطورية العباسية أو الأموية الماضية، بيد أن الوحدة ستكون قومية وإما ألا تكون ... ومن جهة أخرى إذا ببعض اللبنانين يعتبرون لبنان مرحلة ووسيلة في تحقيق الوحدة العربية المنشودة.. ويكاد الخرق بين الفريقين يتسع وتكاد الفتنة تقع حتى أصبحنا نتوقع مشهداً مزعجاً يقوي نزعة الاتقسام..." (35).‏

                              وبدأت بوادر الوحدة في المؤتمرات العربية التي عقدت منذ ذلك الحين، ومن أهمها مؤتمر المحامين العرب الذي انعقد في دمشق (12-17/8/1944) وتوافد إليه المحامون من كافة الأقطار العربية(36).‏

                              وفي مباحثات الاسكندرية (25/9 - 7/10/1944) أوضح رئيس الوفد السوري سعدالله الجابري فكرة السوريين ودعوتهم إلى الوحدة العربية الشاملة واعتقادهم بالوحدة السورية التي تؤلف بين ربوعها، على أن تكون دمشق عاصمتها والجمهورية نظام الحكم فيها.‏

                              ولما آن توقيع بروتوكول الجامعة العربية في الاسكندرية، واقترح إطلاق اسم (الجامعة) على هذه الهيئة الدولية الجديدة، بذل الوفد السوري جهد طاقته لتكون روابط الدول العربية أشد وثوقاً وأكثر انسجاماً وأمتن عرى، كما صنع في أثناء المشاورات الماضية، فاقترح أن يكون تأسيسها على قواعد حلف اتحادي أو تسمى بهذا الاسم. وصرح بأن سورية لاتقصر في بذل جزء من سيادتها القومية في سبيل هذه الغاية وحدها. ولكن معظم ممثلي الدول العربية عارضوا بصراحة هذا الاقتراح ووافقوا على تسمية (الجامعة) وتوقيع البروتوكول في أسـسه التي أعدت له.‏

                              وفي الاجتماع الكبير في الاسكندرية الذي تكلم فيه رؤساء وفود الدول العربية ووقعوا فيه (بروتوكول الاسكندرية) في 20 شوال 1363 - 7 تشرين الأول 1944، الذي تضمن إنشاء (جامعة الدول العربية)، خطب سعد الله الجابري فأيد ماورد في مذكرة السنة الماضية، وأشار إلى صلات الإخاء الدائم التي لاتنفصم عراها بين الأقطار العربية التي يكتفى ببعضها في توثيق الروابط بين الأمم، فكيف بها مجتمعة متراصة. وتكلم أيضاً باسم (الشام) بقوله: "فالشام التي تحمل إلى هذا الجمع الحافل أمانيها وآمالها، لاتزال منذ القِدم عاملة على خدمة القضية العربية...." (37).‏

                              ولم يتم توقيع بروتوكول الاسكندرية إلا بعد اتخاذ قرار خاص في شأن لبنان : " تؤيد الدول العربية الممثلة في اللجنة التحضيرية مجتمعة احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة، وهو ماسبق لحكومات هذه الدول أن اعترفت به بعد أن انتهج سياسة استقلالية أعلنتها حكومته في بيانها الوزاري الذي نالت عليه موافقة المجلس النيابي بالإجماع في 7/10/1943(38). وكان هذا القرار لطمأنة العناصر المتخوفة من العروبة. فبعد أن اعترفت الدول العربية باستقلال لبنان منفردة، اعترفت به جماعياً.‏

                              " وقد أرادت اللجنة بهذا النص تأكيد استقلال لبنان وسيادته تطميناً للخواطر التي كان قد ساورها بعض القلق بسبب ماأشيع عن الوحدة أو الضم "(39).‏

                              " وهكذا فإن لبنان رغم موافقته على المواثيق العربية الفضفاضة بقي يحتفظ بعلاقاته مع الغرب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن رياض الصلح سارع إلى تطمين الدول العربية بأن لبنان المستقل لن يكون عقبة في وجه الوحدة العربية، ولن يكون موطىء قدم للاستعمار عامل التجزئة الأكبر. فالدول العربية كانت تخشى أن يبقى لبنان المسيحي مرتبطاً بأوروبا فيصبح وكراً للتسلل الاستعماري إلى المنطقة." (39)مكرر.‏

                              وبذلك تنازلت سورية عن مطالبها في لبنان لصالح الوحدة العربية (المأمولة) تنازلاً مشروطاً. وبهذا تنازلت سورية عن الأقضية الأربعة وغيرها من المناطق. ولعل ذلك كان بتأثير جهود رياض الصلح لدى زملائه السوريين حيث أصبح مناصراً لاستقلال لبنان بحدوده المعلنة(40) من قبل الفرنسيين. وهذه هي مقاولة الميثاق الوطني التي ربطت الاستقلال عن فرنسا بعدم الاندماج مع سورية مع التعاون مع البلدان العربية. وهذا التعاون لايضير الاستقلال ولاينتقص منه(41).‏

                              وبناء على طلب لبنان جرى تعديل أحد بنود بروتوكول الاسكندرية، فلقد اعترضت أوساط لبنانية على تسمية محادثات القاهرة عام 1943 باسم (مشاورات الوحدة العربية)، لأنها ضد لفظة الوحدة. كما اعترض لبنان على النص الوارد في الفقرة (7) من البند الأول من البروتوكول الذي يقول : " لايجوز في أية حال اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية وأية دولة فيها ". فقد رأت تلك الأوساط في هذه الفقرة مايمكن أن يمس السيادة الوطنية، فألغي النص ولم يرد في الميثاق الذي وقع بعد ذلك في 22/3/1945(42) من قبل الجمهورية السورية وإمارة شرقي الأردن والمملكة العراقية والمملكة العربية السعودية والجمهورية اللبنانية والمملكة المتوكلية اليمنية.‏

                              ولما وقع بروتوكول الاسكندرية (7/10/1944) وصفه يوسف السودا (من دعاة الانعزالية) بأنه: "يشكل خطراً على استقلال لبنان"، مع أنه لم يكن أكثر من صيغة تعاون ولايمكن أن يطلق عليه ميثاق وحدة أو اتحاد. وقد بدا واضحاً من خلال تلك المحادثات في الاسكندرية حرص الوفد اللبناني على تأكيد استقلال لبنان بإصراره على مفهوم السيادة الذي نجم عنه مبدأ الإجماع الذي لايلزم الدول التي لاتقبل بقرار من القرارات. وهاجم رجال الدين المسيحي هذه السياسة العربية وطالبوا بالحماية الأجنبية، إلا أن السياسة التوفيقية نجحت وأقنعتهم بعدم خطر هذه السياسة العربية، فرضوا حتى عام 1948.‏

                              وعلى قاعدة هذه العروبة (عروبة الميثاق) التي تحتفظ بالسيادة كاملة غير منقوصة، وقع لبنان في 22/3/1945 على ميثاق جامعة الدول العربية(43).‏

                              المهم أنه " وافق لبنان على ميثاق الاسكندرية وعلى الانضمام إلى جامعة الدول، واضعاً بذلك سياسة الميثاق الوطني موضع التطبيق العملي ألا وهي التعاون الوثيق مع الدول العربية. هذا في الظاهر. أما في الواقع فإن التيار التوفيقي الذي تسلم السلطة بعد الاستقلال كان على علاقة حميمة بالانكليز الذين يعطفون على شبه تجمع عربي يدور في فلكهم. ولما كان حكام مصر والعراق وشرقي الأردن صنيعة الانكليز. فقد تأسـست جامعة الدول العربية بزعامة مصر وانضم إليها لبنان وسورية مكافأة لانكلترا على اعترافها باستقلالهما وإرضاء للجماهير العربية في سورية التي ماانفكت تطالب بوحدة عربية، وممالأة للمسلمين اللبنانيين، وإظهار الانضمام إلى الجامعة وكأنه تحقيق لمطالبهم الوحدوية. لقد قبل المسلمون في لبنان بهذا الانضمام وسارعت البرجوازية المسيحية في لبنان التي كانت ماتزال ترتبط بالرأسمال الفرنسي، فقد تخوفت من هذا الاتفاق العربي بادىء الأمر، فهب المسيحيون وعلى رأسهم رجال الدين لمعارضة هذه السياسة "العربية" وللمطالبة بالحماية الأجنبية.‏

                              " ونشطت في هذه الآونة الأحزاب الطائفية، منها من عارض ومنها من أيد هذه السياسة الخارجية اللبنانية. إلا أن المسيحيين عادوا عن موقفهم لما علموا أن الانضمام إلى الجامعة العربية لايمس استقلال لبنان وهو لايعني الانضمام إلى وحدة عربية. وكانت البرجوازية المسيحية قد بدأت تتحول عن فرنسا لضعفها الاقتصادي بعد الحرب، وإن بقيت مرتبطة بها ببعض المصالح منذ عهد الانتداب. وكان على رأس المدافعين عن الجامعة العربية مجموعة المتمولين المسيحيين الذين ساعدوا بشارة الخوري للتوصل إلى الرئاسة وأهم هؤلاء ميشال شيحا وهنري فرعون الذي كان وزيراً للخارجية في حينه(43)مكرر.‏

                              وقد صدر قانون سوري في 31/3/1945 أقر بموجبه المجلس النيابي السوري ميثاق الجامعة وملاحقه(44).‏

                              ومع أن فكرة الجامعة العربية لم تكن تروق للأمير عبدالله، إلا أنه استمر في مباحثاته مع مصر والدول العربية الأخرى، وأوصى سمير الرفاعي رئيس وزرائه، قبل اشتراكه في مباحثات اللجنة السياسية في القاهرة، في مذكرة مؤرخة في 12/2/1945 بأن يسعى لتحقيق مشروع سورية الكبرى، وأن يطلب من مصر أن تقف موقف الأخ المحايد الجامع الناس للخير". وبالنسبة لذلك المشروع، وبالرغم من كل ذلك، فقد وقع عبدالله على ميثاق الجامعة في 22/3/1945، تلك الجامعة التي قال عنها إنها " اسم كبير ودعاية فارغة ". وأنها " جراب أدخلت فيه سبع رؤوس بسرعة عجيبة "(45).‏

                              ولقد كان قيام الجامعة بهذا الترابط الضعيف ضربة لإمكانية الوحدة السورية اللبنانية أو وحدة الشام لأنها ستكون اللبنة الأساسية لإنشاء وحدة أو اتحاد أو جامعة بين الأقاليم العربية والدول التي أنشئت فيها.‏

                              وقد يكون للايحاء الانكليزي أثر ما في ولادة نظام الجامعة بالشكل الذي ولد به، لأن الانكليز كانوا حينئذ أصحاب الحول والطول في البلاد العربية، ولأنهم ليسوا من الطيبة وحسن النية بما يجعلهم يرضون بقيام اتحاد عربي قوي(46).‏

                              وهكذا فإن جامعة الدول العربية روضت طموح العرب للوحدة وأثبتت أن الوحدة لاتتحقق عبر الحكومات المستندة للنفوذ الأجنبي(47). بل كانت الإقليمية الممتزجة بالاعتبارات الطائفية والشخصية والأسرية أساس نظامها الفضفاض فأضاعت على العرب فرصة ذهبية للوحدة أو الاتحاد(48).‏

                              5- مشروع الوحدة لدى الحزب القومي السوري وغيره من الأحزاب :‏

                              كان عدد من الأحزاب العقائدية يؤمن بوحدة سورية ولبنان كجزء من وحدة أكبر للأمة كالأحزاب الإسلامية والقومية ومنها حزب البعث العربي. إلا أن الحزب القومي السوري كان يحصر الوحدة في نطاق سورية الطبيعية التاريخية. ويصف فيليب حتي هذا الحزب بقوله : " كان الحزب القومي السوري الاجتماعي حزباً متطرفاً ينادي باتحاد لبنان مع سورية ويسعى نحو الاتحاد في النهاية مع جيرانه المسلمين "(49). فقد كان هذا الحزب ينادي بالوحدة السورية وبالأمة السورية(50) وبالوطن السوري ذي الحدود الواضحة من جبال طوروس شمالاً وحتى صحراء العرب جنوباً. ومن الفرات والبادية السورية شرقاً وحتى البحر الأبيض غرباً. ويدخل ضمنها صحراء سيناء وجزيرة قبرص .‏

                              وليس المجال هنا للحديث عن أفكار هذا الحزب أو نشاطه والأحزاب الأخرى إذ هو مقتصر على المشاريع الرسمية وآثارها في الواقع.‏
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X