الى اسامة الصغير عندما عانقني
يحمل على كتفه البض شيئاً يفجر في داخله سؤالاً لا يجرؤ على البوح به ، يقطع أزقة المخيم الموحلة و برك الماء ، يصاحب الريح ، يتلطى جداراً يحميه من مطر غزير ، و في الصيف بواجه غباراً و رملاً و أكياس قمامة .
يرفع يده باتجاه الشمس يحمي بها عينين طالما اشتاقتا للبكاء ، لم يكن أسامة الوحيد بين أقرانه ، إنما كان الوحيد الذي يسأل أسئلة كبيرة تفجّر في العقل الصغير شوقاً وحنيناً .
يملك القدرة على القراءة و الحساب و التفوق ، يحسد أمه المرأة ، التي تملك كماً من الدموع يخالها أحياناً قادمة من نبع يتفجّر في جمجمتها ، لها قدرة على النزف من عينين يحملان لون الغياب .
( أه يا امي لو استطيع البكاء ) .
حدث نفسه كم من الألعاب اشترى لي والدي ، هذه الألعاب المتكدسة ، كيف لي أن أركب الدرّاجة أريد أن يكون لي أصدقاء ، لماذا يحرمونني من الأًصدقاء ؟ …
لا أخ يزاحمني على الألعاب ، و لا صديق يفرح معي ، تلك الطائرة الصغيرة ، أحس أن تلك الألعاب لا قيمة لها .
في الصف حدثت رفاقي عنها ، إتهمني ( أحمد ) بالكذب و ( محمود ) بالمبالغة … كيف يمكن أن تعطي صدق دموع أمي و صدقاً لرفاقي .
بيته في آخر المخيم ، في الطرف الشمالي الغربي ، يفصله عن المخيم حاجز فسيح مملوء بالماء الآسن و القمامة ، تجول فيه قطط تموء بحرقة المنشرد ، و بعض من كلاب أرهقتها حجارة أطفال المخيم و قضّ مضاجعها جوع مزمن …
تحتمي خلف جدار البيت ، تعوي أنيناً و وجعاً .
والده معلم في مدرسة يذهب باكراً و يعود ظهراً ، يتناول طعامه و يغادر . و لم يخطئ والده مرة و يصاحبه في الذهاب أو العودة .
كم تمنى ألاّ يذنبه ، و ألا يقسو عليه ، و ألا تكون لغة الحوار مرهونة بيده و خدّه …
في الليل و بين تردد عواء الكلاب و مواء مجروح لقط هرم ، يهرع إلى حضن أمه متوسلاً بقبلات ناعمة حارّة ، أن يصعد الى سطح البيت …
يصعد سلماً خشبياً ، تنظر وفاء الى الغرب ، ليس هناك ما يدعو للشك أن مطراً سينهمر .
تأخذه أشعة قمر ، يتابع القمر في سيره و حركة غلالات الغيم و هي تمسح وجه القمر المتعب ، و يتساءل هل في طريق القمر و في رحلته حفر و ماء ؟! … كان يجيب ليس في السماء الا الجميل و هكذا تعلّم من أمه ، و أن يقدس السماء بوجل و خوف و احترام .
أما ( وفاء ) فتشاغل نفسها في ملاحقة الكلاب في خصامها و اقتتالها ، تتعاطف مع جراء لا تستطيع اللحاق بأمها فتعوي عواء ناعماً ، أو في حب و إلفة كلاب تتجمع تحت جدار البيت .
الكلب الاسود يملك سطوة و قوّة ، و تدرك هذا الامر من حركة الكلاب …
أما ذاك الكلب المرقط ، عندما يعدو تخاله سهماً ، أنفلت من قوس توتر من زمن ..
تعاود مرافبة من بقي في المكان ، تحدّق ملياً في تعداداها تتابع سير كلبين يبدو ودّ ألف بينهما ، لا عراك ولا نباح ، و اهتزازات ذيل كل منهما تتم عن جذل .
أنهما متفقان في كل حلات الافتراض ، و بكل احترام يتابعان الطريق ,,
تتنهد بحسرة صحراء تتوق لقطرة مطر أو ماء ….
تغص .. لا تتابع حوارها ، لا يجرؤ على رسم الصورة أو إكمالها ، ترفع رأسها الى البعيد … صوت ( أسامة ) يوقظها من شرودها …
- أمي : انظري الى ذاك الجرو الذي يسير قرب أمه ، كم عمره ؟ أليس جميلاً ؟ هل أبوه في البيت و هم ذاهبون إليه ؟ لماذا ينظرون الى السماء ؟ أيطلب من الله شيئاً ؟ ….
بدأت أسئلة ( أسامة ) تطوق ( وفاء ) تحتضنه و تجيب : جرو جميل ، عمره شهوراً ، ليس لهم بيت ، كل الأزقة بيوتاً لهم .. و بهدوء تضيف : ليس لهم زنزانة مثلنا ، أنهم أحراراً ….
يتسمّر نظرها على الجرو و أمه ، يسيران بكبرياء في أرض الله الواسعة ، و حدثت نفسها : ليتني يا بني مثل تلك الكلبة تسير معي حيث نريد … نختال بين الأزقة ، الكل يفزع من نباحنا ، نحيا ، لا نخاف صراخ أحد .. لا يجرؤ على صفعنا إنسان … ربما انحنى بهامته الطويلة قاصداً حجراً ما … نتحفز … نعوي فيهرب منّا …
آه تلك الكلبة تحيا أمومتها ، و القانون لا يسلب الأم أمومتها ..
رفع أسامة يده : أمي لماذا تبكين ؟ بلني الدمع ..
تصحو ، تبتسم تقبّله و تضيف ، أبكي حرمان الأم ابنها ..
عانقها دون أن يفهم ، و قال : إذا أخذت عشرة في الامتحان هل تشترين لي جرواً صغيراً ؟
تعليق