إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #61
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    فإنها لا تعمى الأبصار
    " إن مليون عربي لا يساوون ظفر يهودي واحد " .‏
    هكذا قال يهود في الخليل وسواها وهم يدفنون " أنموذجهم الرائع " المجرم الصهيوني اللعين " باروخ غولد شتاين ". وقالوا شيئاً مماثلاً يفيض عنصرية في اليوم التالي وفي الحرم الإبراهيمي ذاته الذي ارتكبوا فيه المذبحة المروِّعة ضد المصلين وهم سجّد في فجر الجمعة الدامي /25 شباط 1994 حيث ختنوا طفلاً وأسموه " باروخ" ليذبح المزيد من العرب " .‏
    وفي بروكلين حيث نشأ " غولدشتاين " وأتى منها، وهو الأمريكي الذي بقي أمريكياً ليستعمر في فلسطين المحتلة، قال اليهود الذين يعرفونه: إنه " بطل "، وأشادوا به وامتدحوا سيرته وأفعاله. واعتبرت الحركات اليمينية ما قام به المجرم عملاً يهودياً وصهيونياً لا غبار عليه، أمّا رابين وبطانته والذين يعملون على تبرير ما تقوم به القوات العاملة، سواء من الذين يكونون في الخدمة أو في الاحتياط، فإنهم اتهموا " غولدشتاين " بالجنون ليبرروا فعلته ويهوِّنوا منها، وقالوا إنه فرد وأخفوا تنسيق الجماعة مع الجيش الصهيوني؛ وهذه عملة رديئة نعرفها جيداً نحن الذين اكتوينا بغدر العدو الصهيوني دائماً .‏
    فالذي حرق المسجد الأقصى مجنون أو مخبول أو معتوه، والذين قتلوا فيه عشرات المصلين هم شيء من ذلك، والذين ارتكبوا مذبحة صبرا وشاتيلا، " ذهبوا بعيداً " أمّا أولئك الذين قاموا بمذابح دير ياسين وقبية، ونحالين، وكفر قاسم، وبحر البقر، وداعل، وسُحْمُر، وغيرها من قرى الجنوب اللبناني فمناضلون يقومون بالهجوم دفاعاً عن النفس.. وهكذا تستمر عمليات الإرهاب الصهيوني المنظم سواء أوكلت مهمة القيام بها لأفراد مدنيين، أم للجيش ـ تحت أغطية إعلامية وسياسية نظيفة؛ حتى حرب السويس 1965،‏
    وحرب 1967، واجتياح لبنان 1982، وحرب الأيام السبعة ضد جنوب لبنان كانت تتم تحت شعار الدفاع عن النفس، وقمع الإرهاب ... الخ .‏
    وكان العالم " المتمدن " يصدق، ويتواطأ ويقدم الدعم بكل أشكاله؛ ودائماً كانت تنجح " الصهيونية السياسية " بتغطية تحركات " الصهيونية الذرائعية " أو هما تنسقان الجهد والفعل في إطار متكامل. حقائق تفرض على الأرض، وتحركات سياسية ملائمة لتغطيتها. وكل منهما تحقق كسباً للمشروع الصهيوني الكبير " " إسرائيل " المستقبل " ذلك المشروع الذي يقول عنه أرئيل " أريك " شارون: " لا يمثل إنشاء " إسرائيل" المستقبل، التي تتمتع بقدرة معنوية ورؤية قومية تؤمن لها بقاءها مشروعاً إسرائيلياً فحسب، فبين " إسرائيل" والشعب اليهودي في الخارج ارتباط وثيق وجوهري، و" إسرائيل " لن يكتب لوجودها وديمومتها البقاء طويلاً من دون الشعب اليهودي الموجود في المهجر " .‏
    ودائماً كان يقوم " يهود " من اليسار واليمين، من روسيا أو من أميركا أو من بولونيا، من الأشكينازيم أو السفاراديم، بمذابح أو بالإيعاز للقيام بمذابح ضد العرب، وسواء أكانوا من " الصهيونية السياسية " أو " الصهيونية الذرائعية " التي منها السفاح شارون والسفاح بيغن والسفاح شامير والسفاح " غولد شتاين " فإنهم جميعاً ينبتون على شجرة العنصرية ذاتها ويقومون بالإجرام الفظيع ذاته، ويحملون الجبن والخسة في الأعماق، تلك التي تتجلى إجراماً ضد المدنيين العزل .‏
    ولا أدري لماذا ننساق دائماً وراء حوادث الإجرام الصغيرة نسبياً والفظيعة خُلُقياً، وننسى الإجرام الأكبر الذي تمارسه " إسرائيل"، (.....) واقتحام البيت لتقوم في رحبته المواجهة، وتستمر وتمتد على أرضية من الوعي والاقتدار والاختيار القومي العقائدي الثابت، فإن ذلك سيؤسس لصراع مجد يجعل العدو يدفع ثمن المواجهة، ويجعل المقاتل العربي لا يذهب رخيصاً ولا يشعر أنه مجرد ضحية بلا ثمن ولا هدف، ولا مطالب بثأر أو متقدم بتعزية وكفن .‏
    إن مذبحة الحرم الإبراهيمي مؤشر عميق الجذور في الروح والوجدان وعلى أرض الواقع تؤكد أن التعايش مستحيل بين الصهاينة والعرب، وإن أي سلام مع العنصري ـ الصهيوني لا يؤسس لعدل ومن ثمة لرضا واطمئنان من أي نوع. لأن كل اعتراف بحق لـ " إسرائيل " يتم على نقض لأسس حقنا ولجوهر ذلك الحق، والوطن لا يساوم عليه، لأنه جسد التاريخ وجسد الكرامة وجوهر الوجود الفعلي للشعب .‏
    وتؤشر مذبحة الخليل بوضوح تام إلى حقيقة التكوين العنصري ـ التلمودي الاستعلائي، الذي تقوم عليه التربية ويلقَّن في ظله التاريخ وتُرسم في إطاره القيم والمعايير، ويتحدد ما هو خُلُقي وإنساني، ما هو حق وما هو باطل، وما هو واقعي وعملي استراتيجي. فاليهودي ـ التلمودي، عنصري بالتكوين والبيئة والثقافة والإرث. وهو يرى أن الأرض التي نعيش عليها هي أرضه التي نحتلها وعليه أن يحررها منا، ويرى أننا لا نساوي البشر ولا نمت إلا إلى " الغوييم " الذين يحل له دمهم ومالهم وأرضهم وعرضهم وكل ما يملكون، وأنهم في حقيقة الأمر ليسوا، من وجهة نظره، سوى بهائم وأوغاد Menouvalim كما يقول الإرهابي العريق بيغن؛ ولذلك فإن ذبح العرب قضية خُلُقية وإنسانية ومبررة قومياً وتاريخياً ودينياً ونضالياً عند الصهيوني، العنصري، وعند اليهودي ـ التلمودي.‏
    وهو يرى أن كل وثيقة لا تقدم أمناً، ولا تحل قضية، لا يجدر به أن يحترمها، وشارون يذكرنا بوصية أمه الروسية له ويعتز بتلك الوصية، وينفذها وهي قولها له: " لا تصدقهم، لا تضع ثقتك بقطعة ورق ". وهو قول أجدر بنا أن ندققه ونتأمله ونستخلص العبر منه، فوراء كلمة " لا تصدقهم " تكمن حقيقة: لا تتنازل عن مشروعك الاستيطاني التوسعي العنصري، ولا تتوقف عن إبادتهم من أجل تحقيقه. ووراء " لا تضع ثقتك بقطعة ورق " دعوة إلى امتلاك القوة وممارستها وتنفيذ الحقد الذي يتجلى في المذابح والسلوك النازي الذي يمثله شارون وباروخ غولدشتاين وسائر فريق الإجرام الذي نعرف نتائج أعماله وممارساته جيداً؛ ونستطيع أن نتأكد من أن هذا النهج سوف يستمر، وأنه قرار الصهيونية العالمية الذي تنفذه "إسرائيل" بالتعاون مع الغرب، الذي يتبنى المشروع الصهيوني ويستفيد منه، أو يضمن عن طريقه عدم قيام أمة عربية قوية تحمي أرضها ومقدرتها وعقيدتها وثرواتها، وشخصيتها ومصالحها وتضع حداً لذلك المشروع.‏
    إن الخيارات المبدئية، القومية، الخُلُقيَّة، الثابتة للإنسان العربي هي الخيارات المنقذة، وهي الرد الملائم، أو بداية التوجه نحو ردود ملائمة على العنصرية الصهيونية وحماتها، وعلى أولئك الذين يعرقلون مجرد قرار إدانة من مجلس الأمن سبقته عشرات القرارات التي لم تنفذ ومنها القرارات‏
    242، 338، 425 وسواها كثير.‏
    وهي بداية امتلاك الطريق والأداة والإرادة وصولاً إلى حماية الوجود، وتحقيق الأهداف، وصيانة الكرامة والحق، وتأسيس مقومات حضور نوعي فاعل وحضاري شامل، لأمتنا العربية بين أمم الأرض، فهل ترانا نقرأ في ضوء مشاعل الدم التي تنبعث من خليل الرحمن، وغزة، وجنوب لبنان، وهضاب الجولان، رسالة الحياة والموت ؟! أم أنها ترين على قلوبنا وأبصارنا تلك الصغائر التي تلفِّعنا، وأشكال الفساد التي تلفُّنا وتدمر وجداننا، وتقصّفات الإرادة التي تأتي على أفكارنا ومواقفنا وأرواحنا ورجولتنا ؟ !‏
    قل: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "‏
    صدق الله العظيم.‏

    الأسبوع الأدبي/ع404//10/آذار/1994‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #62
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      ظاهرة " باروخ غولدشتاين "
      المذبحة النكراء التي ارتكبتها " إسرائيل " بحق المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي، ركزت الانتباه على مجموعة من الحقائق والوقائع، لها تأثير بعيد في المنظور السياسي والاجتماعي، وتؤدي إلى استخلاصات ذات أهمية بالغة بالنسبة للمستقبل الذي ينتظر هذه المنطقة، والصراع العربي - الصهيوني؛ ومن تلك الحقائق والوقائع:‏
      1- عمق ظاهرة " باروخ غولد شتاين " وانتشارها في المجتمع اليهودي الذي يحتل فلسطين العربية. حيث تجلى، بكل الوضوح، أن هذا المجرم المتحدِّر من أوساط " بروكلين " العريقة في إنتاج الجريمة والمجرمين، ما هو إلاّ أحد النماذج من شريحة واسعة تعمل في الولايات المتحدة الأميركية وفي فلسطين المحتلة لإبادة الشعب العربي الفلسطيني بكل الوسائل، ولتطبيق مخطط مدروس تجتهد الحكومات " الإسرائيلية " لتمويهه وتنفيذه في آنٍ معاً، بالتزام مطلق، وإيمان تام؛ وتتّبع من أجل ذلك " التكتيك " الملائم على صعيد التنفيذ والتغطية والتفسير .‏
      ولم يكن إسحق رابين، الذي عبر عن الشعور " بالخجل والعار " من المذبحة، لم يكن أقل من غولدشتاين مسؤولية عنها، وضلوعاً فيها، وإيماناً بالمخطط الذي تأتي في سياقه، تنفيذاً له وتحقيقاً لأهدافه البعيدة. ذلك لأن رابين مارس ذلك بصور أوسع، وأوعز لقواته، التي تدعي حماية الأمن، بعدم التصدي لأي " مستوطن " - مستعمر - تراه يطلق النار على العرب ويمارس أي شكل من أشكال الإرهاب ضدهم،ولأنه استنفد كل ما أتاحته تلك الجريمة النكراء من فرص لقتل المزيد من الفلسطينيين واعتقال المئات منهم، ثم لإحكام الحصار التام عليهم في كل الأرض المحتلة، وعزلهم عن العالم، ومحاربتهمِ في لقمة عيشهم وإلقائهم في قلب المجاعة والبؤس واليأس، وجعلهم يرون، في ظل ذلك، كل تفريط المفرطين بحقوقهم والمتواطئين مع العدو ضدهم، نوعاً من الإنقاذ يَقبلون به ويُقبلون عليه بامتنان.‏
      إن نسبة 15% من اليهود في فلسطين أيّدت بحماسة "غولدشتاين" ونسبة كبيرة كتمت سرورها، وقلة سياسية تعمل على معالجة أمور الرأي العام وعلى تحسين صورة " إسرائيل " في العالم هي التي استنكرت؛ أمّا المعارضة المتمثلة في حزب الليكود وغيره من الأحزاب المتشددة، فهي تحمل على حكومة رابين لأغراض سياسية - وتكتيكية، من أجل السلطة، وتستغل تفصيلات لتكسب جمهوراً يشكل بصورة عامة ظاهرة " غولدشتاين " .‏
      وركَّزت تلك الجريمة على حقيقة أخرى في هذا المسار وهي أن اليهود الأميركيين من " ايـباك" وسواها هم أساس الشرائح الاجتماعية والسياسية التي تتبنى نهج " غولدشتاين " وتراه المخرج الوحيد " لتطهير الأرض من العرب "، كما يقولون.‏
      وهذه القوى البشرية والإعلامية والمالية والسياسية، هي في النهاية التي تؤثر في صنع قرار الحكومة الإسرائيلية - أيَّة حكومة - بدرجة كبيرة، وهي التي تؤثر في القرار الأميركي .‏
      وهي مجموعة تبيح، خُلُقياً وقانونياً وسياسياً، القيام بكل الأعمال التي من شأنها تحقيق مشروع " " إسرائيل " التوراتية ".‏
      لقد تجمع اليهود " المستوردون " من أميركا في الأرض المحتلة بعد المذبحة، وأعلنوا أنهم سيواصلون إبادة العرب، وهاجت قطعانٌ منهم في كل أنحاء فلسطين تقتل وتضطهد وتمارس العنصرية المتوطنة في " وجدان " كل منهم.‏
      وهذا الذي لفتت مذبحة الحرم الإبراهيمي الأنظار إليه ، ليس جديداً في تاريخ الصهيونية، فالقيام بالمذابح على أساس عنصري وإبادة الجنس حسب مخطط مسبق وبأعصاب باردة، هو جوهر تلك الحركة، ويمتد عبر تاريخها، ويتم التستر عليه، بل وتقديمه بصور مغايرة لحقيقته في معظم أنحاء العالم.‏
      وهو ما يؤكد الاستخلاصات الآتية :‏
      - أن " إسرائيل " ذلك المنتج الصهيوني، هي نواة العنصرية البغيضة في هذه المنطقة، وأنه لا يمكن لطبيعتها أن تتغير ولا لمشاريعها أن تتحول عن أهدافها، ومن ثمة لا يمكن التعايش معها تحت أي اتفاق أو حجة أو ستار .‏

      - أن السلطة والمعارضة في الكيان الصهيوني متفقتان على المشروع التوسعي الاستيطاني، وعلى أهدافه العامة، وهوامش الاختلاف تنصب على الوسائل لبلوغ تلك الأهداف.‏
      - أن " غولدشتاين " ليس حالة فردية، أو ممثلاً لفئة قليلة، وأنه لا يمثل شذوذاً في المجتمع الصهيوني بل يمثل توجهاً مبدئياً، عقيدياً - ثقافياً، رسمياً وشعبياً، ترتفع نتوءاته من أن لآخر بشكل حاد ولكن نهره أو تياره العام يبقى مستمراً.‏
      واللوبي الصهيوني الأساس الذي يشكل ذروة بارزة في تنفيذ هذه السياسة ويحميها، أصبح مشفوعاً بلوبي أميركي ثان على درجة ملائمة من التشدد، ومن العداء للعرب، وكل منهما يعمل على تنامي هذه الموجه، والاستفادة من الظروف العربية والدولية الحالية، للإسراع في تنفيذ مراحل من المشروع الاستعماري - الاستيطاني الكبير.‏
      وقد ركزت كل الجهات الرسمية وشبه الرسمية في الأوساط الصهيونية، سواء في فلسطين المحتلة أو في أميركا، على استثمار لاستثمار المذبحة ذاتها من أجل تحقيق دفع أكبر ومكاسب أكبر لـ " إسرائيل " ومشروعها من جهة، ولصالح تنفيذ مخطط الإبادة للفلسطينيين وإلحاق الإحباط الشامل للعرب من جهة أخرى،وما موقف الولايات المتحدة الأميركية من قرار مجلس الأمن‏
      رقم 904 الذي اتخذ بعد تعطيل دام ثلاثة أسابيع، واعتراض ممثل الولايات المتحدة على مقدمته التي تضمنت إشارة إلى اعتبار القدس من الأراضي المحتلة، وكذلك على النص بان الأراضي العربية في الضفة والقطاع واقعة تحت الاحتلال، إلاّ إشارات للسياسة الجديدة التي ستتبعها إدارة كلنتون تنفيذاً لوعود سابقة قطعها كلنتون على نفسه في أثناء الحملة الانتخابية، وخضوعاً لضغوط أنصار " إسرائيل " ، واستجابة لمطالب رابين الذي يمثل طرف الشراكة الاستراتيجية مع الإدارة الأميركية التي لا تحرص على رضا أحد أكثر من حرصها على رضا متطرفي الصهاينة وأمنهم.‏
      إن ظاهرة " باروخ غولدشتاين " ذات الجذور العميقة في نفسية اليهودي التلمودي، أي الصهيوني العنصري الذي يأكله الحقد على الآخرين، ويعميه التعصب، وتسيطر عليه حمى الولوغ في دم " الغوييم " ظاهرة تعالت أصوات رموزها وممثليها، وأخذت ممارساتها شكل توجه عام للقوة المسيرة رسمياً وشعبياً، إذ حيث ترى تلك القوة أن من حقها حرمان العرب من كل حق من حقوق الإنسان في الحياة لإجبارهم على الرحيل، أو على التسليم بكل ما يطلب إليهم التسليم به من قبل عدوهم أو وكلاء ذلك العدو الذين يمررون صفقاته بأشكال مختلفة.‏
      وارتفعت مستويات ممارسة رموز تلك الظاهرة لتشمل حدود إجبار بعض القيادات الفلسطينية على إدانة كل من يحاول أن يقف بمواجهة ظاهرة " غولدشتاين " ويساوي الدم العربي بالدم " الإسرائيلي ".‏
      وقد لاحظنا ذلك بوضوح حينما ردت حماس في العفولة على شيء يسير مما جرى في الخليل، فقد قام العالم ولم يقعد، وأدانت المنظمة ما قام به مجاهد من حماس في العفولة، ولم يكتف كلنتون بإدانة واضحة، وإنما أراد الوصول إلى أكثر من إلحاق العار وتهم الإرهاب بشعب بكامله لأن مناضلاً من مناضليه فكر في الثأر لأرواح بريئة، ودم طهور !!‏
      ولظاهرة " غولدشتاين " انعكاسات في السياسة العربية، ولكنها انعكاسات حييَّة إلى الحد الذي لم تعكر فيه صفو المفاوضات، وأجبرت أنظمة عربية على الاستمرار في التطبيع والذهاب به إلى حدود تعديل مناهج التربية والتعليم.‏
      وحين نلتمس انعكاسات مجزرة الحرم الإبراهيمي في السياسة العربية لا نجد أكثر من احتجاجات وبيانات ومواقف إدانة، ونتوقف عند تجميد المفاوضات الثنائية، لنرى شبح موقف عربي جرى التنسيق له في اجتماع يتيم، ويبرز احتجاج جامعة الدول العربية وجهد لها في محاولة إيصال الصوت. ولكن هذا الذي تنامى لأيام لم يلبث أن تلاشى كزبد على الشاطئ، ولم يستطع أي موقف أن يصمد أمام الضغط الأميركي، والممارسة الصهيونية لسياسات وأفعال في الساحات الإعلامية والسياسية والعسكرية، أدت جميعها إلى نتائج انعكست لصالح "إسرائيل" .‏
      فقرار مجلس الأمن بإدانة الجريمة أجل ثلاثة أسابيع، وكانت تلك سابقة قل نظيرها في مثل هذه الحوادث البشعة. وقيد القرار /904/ باعتراضات أميركية أظهرت توجهاً سياسياً جديداً ربما جاء نتيجة طواعية الموقف العربي للمطلبية الأميركية التي لا تهدأ ولا تعرف لها حدوداً.‏
      ولم يصدر ذلك القرار الكسيح إلاّ بعد أن حصلت الولايات المتحدة على وعود وضمانات وإجراءات متزامنة مع صدور القرار جعلت العرب يعودون زرافاتٍ ووحداناً إلى طاولة المفاوضات مع المجرمين العنصريين، وكسرت كل موقف لهم ينم عن احتجاج أو تنسيق مشترك، أو " ثأرية " لا سمح الله ولا قدَّر!؟!‏
      الأمر الذي شجع رابين وحكومته على تصعيد الضغط على الشارع الفلسطيني، وفرض الحصار على سكان الأراضي المحتلة، وعزلها عن العالم ورميها بالجوع والمقت والعزلة، انتقاماً منها ربما لأنها بكت ضحايا المجزرة وتظاهرت ضد الفعل الصهيوني البشع.‏
      وقد حصد الجنود الصهاينة برصاصهم عشرات الأشخاص وأردوهم قتلى، وجرحوا واعتقلوا المئات، ومازالت موجات حقدهم تتوالى بأشكال مختلفة ضد السكان العرب العزل في فلسطين وفي جنوب لبنان .‏
      واستأنف المفاوض الفلسطيني عمله على عجل، وصافح اليد الصهيونية الملطخة بدم المصلين، ولم يقف عند هذا الحد، بل سارع إلى إدانة العمليتين الاستشهاديتين الجريئتين في العفولة والخضيرة، اللتين تمتّا ثأراً لشهداء الخليل، وأطلق عرفات صفات مؤسفة على منفذيهما: زكارنة وعمارنة، ورأى في كل منهما متطرفاً وإرهابياً يعطل مسيرة السلام ويرمي إلى نسفها.‏
      أمّا على مستوى عربي أوسع فإن الموج يتراخى كلما ابتعد عن مركز انطلاقه وامتد نحو الشاطئ المترامى. في الخليج العربي تستضيف ثلاث دول هي: عُمان، البحرين، قطر، ثلاث اجتماعات للمفاوضات المتعددة الأطراف يشارك فيها الصهاينة وتعقد لصالحهم، وقد عبر الصهاينة عن ثقل نوعي في حضور اجتماع عُمان حيث شارك /46/ شخصاً من الكيان الصهيوني، بين مفاوض وصحفي، يشكلون تقريباً مجموع الوفود المشاركة جميعاً.‏
      وأعرب كثير من المسؤولين هناك عن استعداد للتعاون مع " إسرائيل " في مجالات عدة. وقد حصل تقارب ولقاءات في المغرب وتونس ومصر، ولم يؤثر على ذلك دم أبرياء الخليل ولا ظاهرة " باروخ غولدشتاين " بل على العكس من ذلك رأينا الأذرع تنفتح، واللهفة تشتد، والحرص على اللقاء يزداد ويتواتر.‏
      ومن الطبيعي أن ذلك كله تم جراء ضغط غربي عام، وأميركي خاص، وجاء نتيجة لاستعداد عربي لقبول الإهانات والسكوت عليها. فمن منا يذكر يوماً مر منذ سبع سنوات - على الأقل - لم يقتل ويجرح فيه فلسطينيون أو لبنانيون ؟! ومن منا يذكر يوماً مر دون تهديد ظاهر أو مبطن من مسؤول " " إسرائيلي " " أو غربي أو من تنظيم صهيوني، أو شريحة يهودية متطرفة، في فلسطين المحتلة أو في الولايات المتحدة الأميركية، على شاكلة كاخ، وكاهانا حي، وشاس، وايباك، أو من أشخاص يقودون الرأي العام هناك ويؤثرون فيه؟!‏
      وهل كان لنا رد على ذلك، يلجم أو يجرح أو يبعث على التفكير قبل إطلاق التهديد ؟!‏
      إن ظاهرة " غولدشتاين " تركت السياسة العربية أكثر استعداداً لتقديم التنازلات من جهة،وأكثر تغاضياً عما يتم في الأرض المحتلة من إبادة أو تهديد بها، ومن ممارسة الاضطهاد والاستمرار في قتل كل استعداد للمقاومة والتمسك بالكرامة، والتعلق بالأمل المفتوح على هذا الاتجاه.‏
      لقد قرأَت " حماس "، من واقع المعاناة والاستعداد الذاتي والاندفاع المبدئي، وضع الأرض المحتلة، وظاهرة " غولدشتاين " قراءة صحيحة، ورأت أن العدو العنصري الذي أدمن المذابح البشعة، وأقنع الأنظمة العربية بالسكوت عليها، وقدم نفسه للرأي العام العالمي على أنه ضحية، وقدم الضحية إرهابيا وجلاداً، رأت أن الطريقة الوحيدة، التي يفهمها العدو وتضع حداً لتماديه في العدوان والاستهتار بالعرب، هي الجزاء من نوع الفعل، واستنزاف الدم بالدم، وأنه إذا كان لا بد من أن نقتل، فلا أقل من ألا نترك دمنا يذهب رخيصاً. وإذا كان ذلك لا يجعل العدو يتوقف عن ممارسة عدوانيته وعنصريته النابعتين من طبيعته الصهيونية، وتعاليمه التلمودية، ومخططاته الاستعمارية - التوسعية، فإنه سوف يجعله يفكر على الأقل بالثمن الذي قد يدفعه عند كل عدوان، ويجعل الآخرين، الذين يشجعون الصهاينة على إبادة العرب، يفكرون أيضاً بان ذلك لن يستمر، كما كان الأمر في السابق، دفاع عن دون مصالحهم وخططهم.‏
      وعندما قدمت حماس عمليتين نوعيتين وشهيدين انتحاريين مؤمنين إيماناً عميقاً بحقهما في الجهاد والاستشهاد نصرة للحق والوطن والإنسان، ووجهت باستنكار الأوساط العربية، وبغمغمات الاستياء في الأوساط السياسية العربية. وحتى يقلب رابين الطاولة على العرب قام بتهديد الأردن، الذي بادر إلى حظر نشاط حماس، وقام بتهديد فتح الداخل إذا ما تعاونت مع حماس في الداخل، فأنكر عرفات فعل حماس واستنكره، وامتدت مضاعفات ذلك إلى مساحات أخرى من الأرض والسياسة والسكان، فحصدت صيدا نصيبها من المأساة، وتلقت أقطار عربية أخرى أنصبتها من الضغط والتهديد والإغراء، فصارت الطريق سالكة إلى استئناف المفاوضات واللقاءات والتطبيع، واشتد الحذر من كل من يرفع صوتاً ضد " باروخ غولدشتاين " الذي ينطلق في طول الأرض المحتلة وعرضها، وفوق جنوب لبنان، ويؤثر في فضاء السياسة، هو وعصابته العاملة في فلسطين المحتلة والولايات المتحدة، أي ضد رابين وحكومته أو كلينتون "ووساطته " .‏
      وهكذا تفاعلت ظاهرة "غولدشتاين " إعلانياً وسياسياً وإعلامياً، لتضع العرب من جديد في سلة الحاكم الأميركي الذي يسير أمامه الحاوي الصهيوني يعزف لأفاعيه على مزمار داود، فتتلوى حول رقاب العباد والبلاد، وتتركهم كأعجاز نخل منْقَعِر، يخافون حتى من أنفسهم إذا ما فكروا بالانتقام لأنفسهم؟!؟.‏
      ألا ليتها ترى النور ولو لحظة ضمائر تغوص في بحيرات الهم والوهم، فلا ترى أن خلاصها لا يكون إلا بأيديها وبفداء يفوق تصور أعدائها، ألا ليتها تبزغ ولو لحظة شمس ترينا طريقنا إلى أنفسنا وأوطاننا وخلاصنا، وبعد ذلك فلتغب، لأن النور سيتحول إلى بصيرة في أبصار القلوب، إذ أنها هي التي تعمى ولا تعمى العيون.‏

      الأسبوع الأدبي/ع408//14/نيسان/1994‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #63
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        ســقوط الأقـنعة والتواطؤ القـذر
        التواطؤ القذر ضد مسلمي البوسنة، هو الوجه الحقيقي للغرب، وهو وجه يزداد انكشافاً وقبحاً كلما تساقط قناع من تلك الأقنعة البراقة التي تلون التعصب والمصلحة الغربيتين بألوان سياسية ودبلوماسية"وترصعها" بمقولات عن حقوق الإنسان والحريات العامة ومحاربة الإرهاب.‏
        ولم يبدأ ذلك التواطؤ لإبادة البشناق من"غوراجدا " أو "سراييفو"، ولن ينتهي بهما أو بسواها من المدن والقرى التي كانت ومازالت مسرحاً للممارسات العنصرية التي تفوق فيها الصربيون على النازيين وتساووا أو كادوا مع الصهاينة.‏
        وقد ظهر ذلك جلياً في حصار سراييفو وقبل ذلك الحصار، وظهر في اجتياح المدن والقرى، واستقر بصلف لا مثيل له ومتوجاً فوق عرش الإرهاب والإبادة العنصرية في الهجوم البشع على"غوراجدا "، وفي الصمت المشؤوم، والأرجاء المقصود والمدروس لأي قرار من قبل المنظمة الدولية أو حلف الأطلسي أو الغرب وروسيا، في ظل معايير مزدوجة قبيحة يهتمون بنتائجها ومردودها على مصالحهم وتعصبهم ولا يهتمون إذا أبرزت ضعفاً أو تواطؤاً أو خللاً معيباً في العمل، بل قد يتجهون لإظهار هذا الفشل بين المنظمة والحلف وروسيا وصولاً إلى نتائج أساسية تحرك العجلات إليها أساليب تكتيك ومرحليات مختلفة.‏
        في البوسنة، وطوال أيام المأساة، لم يخسر الصرب فرصة، ولم ينقطع عنهم سلاح أو مدد من أي نوع، بينما ضرب الحصار الدولي والحصار الصربي معاً على المسلمين، وكانت روسيا تعوض الصرب سلاحاً ومقاتلين، وتزمجر عند اللزوم فيتظاهر البيت الأبيض بالإذعان بينما التشدد على أعلى مستوياته بالنسبة للسماح للبشناق بالتسلح أو بالتزود بالغذاء والدواء والماء والطاقة.‏
        لقد خسر الصرب الخراطيش الفارغة أما الرصاص فقد استقر في أجساد الأبرياء المحاصرين بكل أنواع القهر والحرمان والحصار، والمكبلين حتى بالوجود الدولي الذي يمن عليهم بأنهم يقتلون في المناطق"الآمنة" وتحت إشراف الأمم المتحدة ومنظماتها ورجالها، فأي شرف يريدون أكثر من ذلك؟ ولا سيما من قوات الأمم الحامية لهم التي وقعت"أسيرة" في يد الصرب؟!.‏
        لقد ارتهن الصرب رجال الأمم المتحدة فارتهن الغرب والصرب كل المسلمين ولم تتحرك أساطيل الغرب ولا قوى الأطلسي، ونصب الصرب أمراء على رؤوس الغير، بمن فيهم الأمم المتحدة التي"ارتفع صراخ الغرب من أجلها وباسمها، وثارت لذلك الحمية، ولم يدفع ثمن ذلك سوى أبرياء غوراجدا.‏
        إن ما جرى للبشناق يشكل عاراً للبشرية عامة، وعاراً مضاعفاً للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي تقود الإرهاب الدولي عملياً، وتخطط للإبادة، وتترك غيرها ينفذ ثم تسارع لتمثل دور"المنقذ" والحامي، والمدافع عن التباكي أو البكاء.‏
        لقد أصاب الراحل ريتشارد نيكسون حينما قال في مذكراته:‏
        "لو كانت غالبية مواطني"سراييفو" من المسيحيين أو اليهود لما سمح العالم المتحضر بان يصل حصارها إلى الدرجة التي وصل إليها حينما سقطت قذيفة صربية في السوق المزدحمة"..‏
        فماذا عساه يقول لو كان معافى في حصار غوراجدا ؟!.‏
        إنها إدانة لرأس"النظام العالمي الجديد" وللغرب العنصري من أحد رؤوس ذلك النظام، فهل تراها للتصدير أو لتصوير الواقع، أو مثالية أصابت الرئيس حينما خرج من دائرة الرئاسة والمسؤولية؟!.‏
        لم نعد نسأل عن المصداقية، ولا عن المبادئ، ولا عن شرعة حقوق الإنسان، ولا عن القانون الدولي الذبيح، إننا نسأل عن أبسط حقوق الإنسان في الحياة، حق الحياة؟! ولم نعد نسأل بقية العالم الذي يخضع للظلم والقهر ثورات وتغيراً لما هو فيه، إذ يبدو أن الزحف على الرموش والأكباد مستمر إلى عتبات السادة الإرهابيين. ولكننا نسأل المسلمين، والمؤمنين من أبناء الديانات السماوية، أين هم مما يجري، وما صلة وجدانهم بقيم الدين ومقومات الحياة إذا ما استمر الذي يجري واستمر الذي يجري واستمر سكوتهم عليه؟!‏
        ولا نطالب بالإجابة، لأن ذلك ربما يكون غير مجد بعد الذي كان والذي صار.‏
        الأسبوع الأدبي/ع410//28/نيسان/1994‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #64
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          المواجهة على أرض الواقع
          منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في سويسرا نهاية القرن الماضي، والعرب يزدادون قهراً وتمزُّقاً فيزدادون مرارة وشكوى، ويضجون من شدة التواطؤ ضدهم واستمرار التآمر عليهم وعلى قضاياهم المصيرية، ومن فرض وجود غريب بالقوة وإقامة كيان استعماري استيطاني - توسعي وعنصري في فلسطين المحتلة على حساب أهلها، يكون حليفاً مطلقاً للغرب الاستعماري، وعدواً قوياً ومطلقاً للعرب، يحول بينهم وبين تحقيق أمانيهم وتطلعاتهم على كل مستوى وصعيد .‏
          ومنذ ذلك التاريخ أيضاً والصهاينة يزدادون قوة ودعماً فيزدادون عدواناً ووقاحة، ويعملون على تغيير الواقع وقلب الأوضاع وتزوير الوقائع في المنطقة، بما يحقق تفوقاً سكانياً لهم، وخلق مناخ ومعطيات تخدمهم،ويتذمرون في الوقت ذاته من شكوى العرب، ومن " عدائهم لليهود" وكذلك من " عدم تقديم " الدعم الكافي لهم من أجل تطوير فلسطين وتوسيع رقعة سيطرتهم على أرض العرب خارجها، وضمان أمن لليهود فيها وفتح أبواب الهجرة لاستيعابٍ غير محدود لأعداد غير محددة من يهود العالم الذين يستقدمون بشتى الأساليب والطرق ليعيدوا إنشاء وطنهم القومي " في أرض وعدتهم بها الدول المؤتمنة على المدنية وعصبة الأمم التي أقرت صك الانتداب البريطاني على فلسطين".‏
          ومنذ أن وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتحقيق هذا الهدف وحتى هذا اليوم والعرب يدفعون ثمن أخطاء وأخطار وجرائم النازية والفاشية من جهة، وجرَّاء نشوب النازية الجديدة والعنصرية الصهيونية المقرة دولياً بالقرار 3379 من جهة أخرى، وهم يشكون ويصرخون ويتكتلون أحياناً ويقاتلون في بعض الأوقات من أجل قضية عادلة، وحق تاريخي لا غبار عليه، ومن أجل الحصول على أبسط حقوق الإنسان في ظل رايات عصر ينادي بحقوق الإنسان، والأمم النافذة الرأي والكلمة والقرار في المنظمات الدولية وعلى أرض الواقع تسمع وتبلع وتضحك في سرها، وتستمر في تقديم كل ما يلزم لتنفيذ تعهداتها القديمة الجديدة - المتجددة تجاه الصهيونية و" إسرائيل "، وتقوم بالمقابل بكل ما يلزم لتطويع العرب وتمرينهم على الإذعان والتنازل والتراجع، على القبول بما سبق ورفضوه، بل وجعلهم يتمنون في أوقات لاحقة أن يحصلوا على ما اعتبروه عاراً، واعتبروا "إسرائيل" والقبول به تفريطاً ومنقصة كبرى في أوقات سابقة. وتستمر العجلة بالدوران، وتقفز المحظية "إسرائيل"، في كل وقت يلائمها، من حضن دولة عظمى إلى حضن أخرى عظمى، وتعرف كيف تكذب وتكسب وتأخذ كل ما تريد، وفوق ما تحتاج إليه لتحقيق تفوق شامل على العرب مجتمعين، ولإعداد المنطقة التي تحتلها وتلك التي تسيطر عليها، لتكون " أرض إسرائيل الكبرى " وميدان نفوذها ومنطلقها إلى مزيد من التوسع والسيطرة والنفوذ، ويبقى العرب بين دهش وضعيف ومتسائل عن المصير، وبين مطالب الغرب بموقف والحكومات العربية بموقف، وبين باحث عن الحق ويائس من صلاح الأمر على كل مستوى وأي صعيد.‏
          ويوماً بعد يوم تتهاوى أحلام، وتظهر حقائق، ويزداد الناس بعداً عن الممكن والعادل والسلمي والصحيح، ويزدادون بعداُ عن رؤية سليمة في ظل التلوث الذي يشمل البيئة المادية والروحية، حيث يعيش الإنسان ويعمل ويبدع، ويوماً بعد يوم تزداد الحاجة إلى مخرج وإلى طريق يسلكها الناس فتؤدي بهم إلى ما فيه خيرهم وخير ذراريهم وأوطانهم، وما فيه بالتالي صلاح أمر الحياة بصلاح أمر الأحياء.‏
          ولكن المؤشرات من حولنا لا تدل على أن الركب يسلك تلك الطريق ولا أن المركب يقترب من شاطئ السلامة، لا سيما في منطقة " الشرق الأوسط " هذه حيث العدوان مستمر ودعم العدوان متصاعد والتصدي له في أدنى درجات السلم.‏
          فـ" إسرائيل " مستمرة في خلق أوضاع جديدة من خلال الهجوم الاستيطاني الذي تشنه بكثافة في الأراضي العربية المحتلة، فاستملاك الأراضي، وإعلانها مناطق عسكرية،وأملاك دولة،وإشادة المستوطنات عليها أمر مستمر واستقدام المهاجرين اليهود أمر مستمر أيضاً، والدعم المالي لتحقيق الغرضين متواصل لا سيما من الدول العظمى.‏
          وإعداد "إسرائيل" واستعدادها لتكون قوة متفوقة يتم على محورين:‏
          ـ محور تزويدها بالسلاح وتطوير أسلحتها لا سيما الصواريخ والطائرات والقدرة النووية، ولنتذكر تطوير صاروخ حيتس وبرامج تطوير الصواريخ ضمن مبادرة الدفاع الاستراتيجي الأميركية " حرب النجوم" وتطوير صناعة الطائرات الحربية على سبيل المثال لا الحصر، وإنشاء غواصات متقدمة بمساعدة وتمويل ألمانيين وإقامتها لقواعد أسلحة نووية وإدخال تلك الأسلحة إلى الجولان المحتل والاستمرار بتهديد الوفاق اللبناني، وحصولها على مساعدات مالية وعسكرية هائلة في أثناء حرب الخليج وبسببها، وتوظيفها لكل طاقة وجهد من أجل ابتزاز الغرب والحصول منه على شتى أنواع الدعم في ظل غياب العرب وتمزقهم .‏
          ومحور أضعاف القدرة القتالية العربية، ومحاصرة البلدان العربية، ومنعها من الحصول على الأسلحة، ولا سيما سورية، حيث تمت وتتم اتصالات وضغوط مختلفة إسرائيلية وأميركية على الخصوص على كل من الصين وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وكوريا لمنعها من بيع دبابات وصواريخ لها، والاستمرار في الضغط لإبقاء روح التعاون والعمل والثقة معطلة أو شبه معطلة عربياً .‏
          والدول العربية مشغولة بخلافاتها وبتضميد الجراح التي خلفتها حرب الخليج وأزمته، تلك التي قدمها الرئيس العراقي "هدية" للأمة العربية في العقد الأخير من القرن العشرين، فجعلتها تتأخر عقوداً عن مسيرة التقدم والتحرير وربما التحرر .‏
          والأقطار العربية المحيطة بفلسطين من بين الأقطار العربية الأخرى محكومة بأوضاع وعلاقات وواقع سياسي واقتصادي واجتماعي يجعلها غير قادرة على التحرك الجدي والمجدي الرامي لتغيير الواقع بهدف، كما يجعلها غير قادرة على اتخاذ المبادرات العملية السليمة التي تحول دون التوسع الاستيطاني " الإسرائيلي " الذي يتم فعلياً ودون التوصل إلى سلام قائم على العدل يحترم قرارات الأمم المتحدة ومجلس الآمن ودون استمرار العدوان بأشكال مختلفة على الأرض والناس والعدل، في هذه البقعة من أرض الوطن العربي.‏
          وهذا الانكفاء عن المواجهة الفاعلة فوق الأرض الحقيقية للمعركة، وهي المعول عليها أصلاً، يجعل المواجهة معطلة على كل مستوى وصعيد، ويرسم أفقا كالحاُ للمواجهة المقبلة يجعلها محدودة بالكلام الذي يغرق الإرادة بالنكوص ويترك لها مجال التراجع فقط مفتوحاً.‏
          وبينما يزحف العدو نحونا حرباً وسلماً ويزداد خطره بإقامة المستوطنات على أرضنا، ترانا نعطل الحياة في أرض المواجهة فتقفر وتخلو من سكانها أو تكاد، وتحمل مصداقية ادعائه وكذبه بتطوير الأرض وزيادة قدرتها على الاستيعاب، وأنها " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " وتغدو وكأنها ترسم " برسم التسليم " ولا تقوم أبداً بمواجهة زحفه التوسعي الاستيطاني أيَّة جهود للبناء والانغراس في الأرض وامتلاك القوة الذاتية التي تمكن من الدفاع عما تحت أقدامنا من أرض، وتهيئ لاستعادة ما فقدنا من تلك الأرض.‏
          والتدفق المالي والبشري الضخم الذي يتم في كيان العدو والذي يدور في أفق منظور يصل إلى توطين أربعة ملايين يهودي في الأرض المحتلة، وإلى عشرات المليارات من الدولارات تقدم لتوطينهم وإيجاد فرص عمل لهم، وتحقيق تفوق عسكري لهم على العرب كل العرب. هذا التدفق لا يقابله ما يعادله أو يقترب منه في الجبهة العربية، فلا المال ولا السلاح ولا الانزراع السكاني في الأرض، تطوير إمكاناتها على العطاء، لاشيء من ذلك يتم، كما أن إعداد الذات والقوات في داخل الوطن الكبير ليوم الحسم الأكبر لا يتم هو الآخر‏
          والدول العظمى أو الوسيط من تلك الدول في الصراع العربي الصهيوني والقضية الفلسطينية، لا تبدي أي استعداد للقيام بضغط من أجل تنفيذ قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولا تبدي استعدادا حتى لتقليص دعمها أو مساعدتها المالية لـ " إسرائيل " التي تخصص للاستيطان في الأراضي العربية، ذلك الذي يعتبر عقبة في طريق السلام حسب منطوق مسؤوليها، لا تضع تلك الدول شروطاً من أي نوع على تدفق اليهود الغزاة والمال والسلاح على "إسرائيل"، بل هي تساعد في ذلك وتزعم أمام بعض العرب أنها تريد أن تطمئن اليهود، بينما هي في الواقع تنفذ برنامج الالتزامات القديم الجديد المتجدد بإقامة أو "بإعادة إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين " وفي كل أرض تراها "إسرائيل" لازمة لإقامة " وطنها"! ولم لا تفعل تلك الدول ذلك ؟ ومن الذي يمنعها من فعله؟ وما الذي يجعلها تعيد حساباتها في ذلك ؟‏
          فلا العرب كقوة يحسب لها حساب بموجودين على أرض السياسة والحرب، ولا صفهم قائم على وحدة رأي ووحدة موقف، ولا هم ممن يصعب اللعب بهم وتمرير الحلول والمخططات والمؤامرات من فوق رؤوسهم ومن تحت آباطهم وأرجلهم في آنٍ معاً .‏
          وحيال ذلك كله ما الذي ينتظرنا وما الذي ننتظر أن نفعله لنغير ما ينتظرنا؟‏
          إن تغيير قرارات مجلس الأمن من قرارات على أساس الباب السادس من الميثاق إلى قرارات على أساس الباب " البند " السابع منه، أي من توصيات غير ملزمة، إلى قرارات أمر، بعيد في ظل ما نرى من خطوات للتسوية. وتعنت "إسرائيل" يزداد لأن دعمها واستعداءها والابتهاج بعنصريتها،كل ذلك يزداد، ولا غرابة إذن في أن تزداد غطرسة "إسرائيل" وعدوانيتها في مناخ الدَّلَع والدلال والاستلطاف السري والمعلن الذي يلفها من قبل حماتها وأصدقائها.‏
          وقوة الوفاق والتضامن العربي وكذلك قوة الفعل الحاسم على أي صعيد، غائبة أو شبه غائبة الآن، حتى في مجال السعي من أجل " السلام " تكاد تكون كذلك، وقوة المواجهة والتقدم والبناء ومواجهة الاستيطان، كل ذلك في حالة من الضعف محسوسة وملموسة، ومصالح الدول النافذة الرأي والكلمة مؤمنة في وطننا من غير عناء بسبب من أنفسنا ومن عدم الحرص على مصالحنا، وبسبب أيضاً من غياب قوة تحمي تلك المصالح حتى من بعض أبناء الوطن، فما العمل والوقت لا ينتظر النائمين حتى يستيقظوا بهدوء ؟.‏
          إن فعلاً عربياً مجدياً على طريق التشبث بالأرض التي تقفر وتخلو من سكانها، وفعلاً عربياً على طريق استخدام الإمكانيات بوعي واقتدار لتحقيق مصالح عربية تهم الوطن ومستقبل الأمَّة، وتضامناً عربياً يجعل مصلحة الأمَّة العليا وقضاياها الكبرى تحظى بقوة دعم وتحرك تعلو على الاختلاف والخلاف وتُرى في ضوء حقيقة كونها متصلة بقوة الجميع وأمنهم ومصالحهم ومستقبلهم وكرامتهم، أن ذلك يؤهلنا مبدئياً لشيء من استقرار النفس للبحث بوعي ويقين وبصيرة عما يقيم أسس الاستقرار وأركانه، وعما يجعلنا كأمة قادرين على العمل في ضوء رؤية واستراتيجية تجعلان الخاص في إطار العام أمراً ممكناً والعام في ضوء تبعية مطلقة للخاص، وأفضلية مطلقة عليه، أمراً ضاراً على المدى البعيد .‏
          إن هناك ما يجعلنا في سلة واحدة في نهاية المطاف، وسواء كان مصيراً أو مصلحة أو كرامة أو شخصية ثقافية وحضارية أو جذراً قومياً وعقيدة وقيماً روحية، فإنه يتعرض للضعف والاستضعاف بتفرقنا وضعفنا وجهلنا، ويميل إلى ظل من الحماية والاحترام والازدهار بتضامننا وتقدمنا ومعرفتنا التامة لعلاقة الجزء بالكل، الخاص بالعام، ومدى تأثير كل منهما على الآخر وتأثره به، ضعفاً وقوة مرضاً وصحة، سلباً وإيجاباً على كل صعيد.‏
          وسنبقى ننتمي، وعينا ذلك أم لم نعه، شئناه أم لم نشأه - إلى أمة كريمة واحدة يقول رائدها: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ويقول شاعرها:‏
          إننا إنما خلقنا رؤوسا‏

          من يسوِّي الرؤوس بالأذناب‏

          لا نقي بالأحساب مالاً ولكن‏

          نجعل المال جُنَّةَ الأحساب‏

          الأسبوع الأدبي/ع414//2/حزيران/1994‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #65
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            الأجيال العربيّة وأسئلة مُقلقة
            الأسئلة التي تلقيها الأجيال العربية الجديدة على نفسها وعلى الثقافة والمؤسسات المعنية من حولها كثيرة وعميقة، وما زالت تدوّم في الجو بحثاً عن أجوبة يرتاح إليها العقل ويطمئن إليها القلب؛ وما زال تيار السؤال طاغياً على سواقي الأجوبة التي تشوبها الملوحة. وإذا كان طرح الأسئلة من حيث المبدأ دليل صحة، فإن عدم التوصل إلى أجوبة ضافية شافية قد ينقلب إلى مرض، فيدخل الإنسان في دوامة من التخبط والشك أو في دوائر الضياع والإحباط.‏
            ومن أسئلة أجيالنا ما هو معلن يجلجل في فضاء المجتمع، ومنها ما هو خفي توسوس به النفس، منها ما يتعلق بالثوابت المبدئية والقومية وبمصير بعضها، ومنها ما يتعلق بمتغيرات عربية طغت هوامشها على بعض جواهر تلك الثوابت، ومنها ما يتصل بأمور تتعلق بالبنية الفكرية للفرد، وبمقومات بنية المجتمع وصلات أفراده وعلاقاتهم، وبالقيم والتقاليد التي تحكمهم، ومنها ما يتصل بدور الثقافة ومكانتها، وبالتاريخ والأصالة ويطاول الأصول بعد أن أتى في شكه وتشكيكه على كثير من الفروع، ومن الطبيعي أن يكون للمتغيرات الدولية، التي شملت الفكر والسياسة والعلاقات والمصالح، والتنظيمات الحزبية والتركيبات الاجتماعية، أقول من الطبيعي أن يكون لها تأثير في طرح أسئلة وتعميقها، وفي إعادة عرض قضايا ومواقف وحتى ثوابت، على محكمة العقل.‏
            وأياً كان مصدر السؤال أو سببه أو غايته، فإنه يبقى مدوّماً في فضاء النفس والمجتمع، وفي سماء الوطن، يبحث عن جواب، وكلما كان استعدادنا لمواجهة ذلك الواقع أفضل كان وضعنا على الصُّعُد جميعاً أفضل، لأننا نكون عندها ألصق بطبيعة الحياة وقوانينها ومنطقها الذي يتنافى مع الجمود والسكون... والذي لا يغيب فيه معطى الواقع بمجرد توهمنا بأنه غائب، أو بمجرد رغبتنا في أن يغيب.‏

            ونماذج الأسئلة الملقاة عديدة ومتنوعة، ونسوق بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:‏
            - هل الوحدة العربية ما زالت حلماً عربياً منشوداً أو سؤالاً عربياً مطروحاً؟‍‍.‏
            - هل هناك مقومات فعلية ومبررات حقيقية لاستمرار مقولات القومية العربية، والحديث حولها والدعوة إليها؟! لا سيما بعد الذي جرى في أزمة الكويت وحرب تحريرها وما أسفر عنه ذلك من علاقات وتحالفات ومتغيرات؟!.‏
            - هل هناك مؤسسات عربية ذات جدوى في العمل العربي المشترك؟! وهل قدمت تلك المؤسسات فعلاً يبرر وجودها، وما الذي يمكن أن تقدمه للحياة العربية في مواجهاتها المتنوعة، وللقضايا العربية، والعمل العربي، ليسير باتجاه الأفضل، سواء بالنسبة لتلك المؤسسات أو للدول التي تساهم في تكوينها وتمويلها ودفع مسيرة عملها؟! وذلك ابتداءً من الجامعة العربية وانتهاءً بأصغر المؤسسات التي تدور في فلكها، أو تلك التي تكمل دورها. وللمؤسسات شبه الرسمية مثل الاتحادات المهنية وغير المهنية العربية؟!.‏
            - ما جدوى الحديث عن الصراع العربي الصهيوني في الوقت الذي تعقد فيه محادثات مؤتمر سلام الشرق الأوسط؟!.‏
            وما هي مبررات الحديث أيضاً عن التحرير والتصدي للعدو الصهيوني، حتى في الحالات التي يفرض فيها على العرب أوضاعاً وشروطاً ويملى إرادة ورأياً، ويمارس ضد الواقعين منهم تحت احتلاله المباشر أعمالاً غير إنسانية وغير قانونية؟! ما هي مبررات الحديث عن تحرير وتصد، وما هي مقومات ذلك في ظل الضعف العربي المتنامي والتمزق العربي المستمر؟! وهل هناك مواجهة عربية فعلية محتملة في إطار الصراع العربي الصهيوني أو في إطار أي صراع بعد أن وصلت العلاقات العربية- العربية إلى ما وصلت إليه؟!.‏
            - هل يفيدنا الكلام على الأمجاد الماضية بعد الآن، وهل يستمر حديثنا حولها، وهل يمكن أن يشكل ذلك شيئاً أكثر من تضخيم الماضي الذي ينعكس ظلالاً من الوهم على الحاضر، ويقف معوقاً بوجه المواجهة الصحيحة والصريحة، للذات، تلك التي ينبغي أن تبدأ اليوم والآن؟!.‏
            - ما جدوى استغراق ثقافتنا ومثقفينا، أو قل إغراقهم، في إشكاليات وثنائيات مثل: الأصالة والمعاصرة- التراث والحداثة- الهوية والاغتراب، العقل العربي والعقل الغربي... الخ، إذا لم ينعكس ذلك بشكل إيجابي وعملي ملموس على الفعل الثقافي العربي والمثاقفة والتقدم؟!.‏
            - ما هي التأثيرات الفعلية التي تحققها الثقافة العربية في الوعي الاجتماعي، ولا سيما في ممارسة الحقوق والحريات العامة واحترامها من جهة، وفي الانتقال بالجهد العربي والإنتاج والممارسة الشعبية؟!.‏
            وأين تأثير ذلك ومردوده في السياسة العربية؟! وهل يمكن أن تقوم علاقة سليمة بين السياسة والثقافة، وبين الثقافة والسياسة كطرف من جهة وبين الجمهور من جهة أخرى على نحو يؤثر تأثيراً إيجابياً في حياة الناس وعلاقاتهم وتربيتهم ومبادراتهم الخلاقة ذات المردود العملي على الوطن والأمة؟!.‏
            - هل هناك إمكانية لتغيير الخطاب العربي بعد أن تغير الكثير في العالم، وتغيرت أيديولوجيات وسياسات ونظرات وعلاقات؟! ومن يبدأ ذلك؟!.‏
            من هذه النماذج وسواها، ومن أسئلة فرعية غيرها نستقرئ أن الجيل العربي لم يعد يقبل حديثاً مكرراً عن الأمجاد والثوابت والإنجازات، في الوقت الذي لا يجد مرتسمات لذلك كله على الأرض، ولم يعد يلتمس نفعاً من أقوال لا تترجم أفعالاً، وأنه يريد شيئاً مغايراً ينقله إلى مناخ جديد، وإلا فإنه يقوم هو باتباع وتقليد واغتراب يحقق له جديداً ويمنعه في الوقت نفسه من تلقي تراكمات الإحباط.‏
            هذا الوضع الذي لا يخلو من صحة بنسبة تتجاوز النصف على الأقل، يفرض علينا أن نبحث قضايا الجيل الجديد، ونستطلع رأيه حولها ونظراته إلى الحلول المقترحة، وأن نبحث عن مخارج مما نجمع كلنا على أنه وضع عربي محزن لابد من أن نخرج منه.‏
            إن المصداقية في كل شيء أساس، ولكن الوعي والمعطى المعرفي والإقناع القائم على الحجة والمنطق أساس أيضاً، وما لم نتوجه في خطابنا الثقافي والسياسي لأجيالنا على أسس علمية وعصرية تقترن بمصداقية في السلوك والعمل والتعامل، فإننا نزيد الطين بلة، ولا نخرج الناس من المآزق بل نعمق المآزق ذاتها للناس. وأرى أن المثقفين مطالبون بتغيير لغة الخطاب وباستيعاب معطيات المرحلة واحتياجاتها، ليأتي خطابهم الجديد مبنياً على استقراء الواقع، وقراءته في ضوء المتغيرات والاحتياجات وحقائق العصر. وهذا بحد ذاته سوف يقود إلى تصادمية الرأي بين فئات المثقفين، نظراً لاختلاف الرؤية والموقع والموقف والانتماء، ونظراً للقرب أو البعد من الحقائق من جهة، ومن مواقع صنع القرار السياسي والاقتصادي على وضوح الرؤية واستقلالية الرأي.‏
            هل نحن بحاجة إلى اتفاق على مسلمات أو بديهيات في الخطاب السياسي العربي؟ أن أبسط معطيات المنطق تحتم ذلك، ولكن الصعوبة تكمن في إمكانية التوصل إلى ذلك على أرضية الخلافية العربية الراهنة، وعلى أرضية الولاءات الجديدة في الساحات العربية، وارتباط بعض أصحاب تلك الولاءات بما لا يربط الأمَّة أو يجمعها على رأي وموقف. وتكمن كذلك في وجود خروق كثيرة للصف العربي تصل إلى العمق، ولا يمكن مجاوزتها بسهولة، لا سيما بعد أن تحطم كثير من جسور الثقة بين الأقطار والسياسات وشرائح المثقفين والمهنيين والحرفيين والعمل في الوطن العربي، وبعد أن قامت مصالح للآخرين بين ظهرانينا وعلى حساب مصالحنا وتوافق رأينا، وأصبحت حماية تلك المصالح مرتبطة بشكل أو بآخر ببقائنا قيد التخلف والتفرق.‏
            إن نظرة المثقفين لما يجمع الأمَّة وينقذها، أو لما يضعها على بداية طريق التقدم والإنقاذ والقوة تختلف اختلافاً بيناً من شريحة إلى أخرى، حسب الانتماء السياسي والارتباط الأيديولوجي والانتماء القطري، والتبعية الثقافية أو المصلحية، وحسب الاجتهاد المخلص أيضاً الذي يذهب بالناس مذاهب شتى، على أرضية من النيات الطيبة والسعي إلى إيجاد مخارج للأمة مما هي فيه وبما يضمن سلامة عقيدتها وهويتها وتحقيق أهدافها ونصرة قضاياها العادلة.‏

            الأسبوع الأدبي/ع415//9/حزيران/1994‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #66
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              مسوِّغات ملكية لتحالفات مستقبلية
              شمعون بيريس علناً في الأردن للاجتماع برئيس وزراء المملكة الهاشمية يوم الاثنين الثامن عشر من تموز الجاري، والملك حسين علناً أيضاً في واشنطن مع رابين يوم الخامس والعشرين منه تأكيداً لتطبيع العلاقات بين الجانبين قبل توقيع الاتفاقيات، وإعلاناً لفك ارتباط الأردن بالقضية الفلسطينية وبتنسيق المواقف مع العرب المعنيين بمرجعية مؤتمر مدريد، تحقيقاً لرغبة واشنطن التي عرضت ثمناً لذلك :.‏
              -إسقاط ديونها على الأردن التي تبلغ /950/ مليوناً من الدولارات تقريباً- وفي رواية أخرى/700/ مليوناً.‏
              -تزويد الجيش الأردني بالأسلحة المتطورة التي يحتاج إليها .‏
              وفي سياق التبرير والتسويغ وتقديم الذرائع يشير الملك حسين إلى الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الأردن، والتهديد بانقسامه إلى شمال وجنوب، وإلى أردنيين أقحاح وفلسطينيين أردنيين، كما يشير إلى أنه في سبيل إنقاذ الأردن يقبل أن يقوم بتلك التضحية؛ أي أن يجتمع برابين لينقذ الأردن من ضائقات اقتصادية وأزمة سياسية واجتماعية.‏
              وقبل أن نلامس التسويغات والتبريرات الملكية، نتساءل بسرعة واقتضاب: لماذا تندفع الولايات المتحدة الأميركية كل هذا الاندفاع لشراء المواقف والأنظمة والأشخاص لمصلحة " إسرائيل ": من أنور السادات إلى الحسين مروراً بعرفات ؟! ولماذا تدفع المليارات وتسقط ديوناً بالمليارات وتمارس ضغوطاً هائلة لقاء عقد اجتماع هنا، وإتمام زيارة هناك ؟! ولماذا تضع كل ثقلها وثقل حلفائها الغربيين والعرب، من أجل إسقاط كل صيغة لتعاون وتنسيق عربيين، ولو في حدودهما الدنيا، وسعياً وراء إحداث خروق في الصف العربي لمصلحة " إسرائيل " وهي التي تزعم أنها وسيط نزيه، وحريصة على تحقيق: " سلام عادل " و"استقرار شامل " في المنطقة ؟! ولا بد أنها تعرف تماماً أن " السلام العادل " والاستقرار الشامل لا يتحققان بالضغط والإكراه وتشويه الواقع؟! ولماذا تسعى بإصرار لا مثيل له على عزل دول عربية عن أخرى وإقامة مناطق حصار ومناطق خوف، وواحات تنتشر فيها الأحلام الفاسدة والتطلعات المريضة وتعميم الانحلال في وطن العرب ؟! إن مجرد التأمل في هذا الذي تقوم به أميركا، وتحرص على خلقه وتدفع المليارات من أجله يجعلنا ندرك أن أميركا:‏
              - تخشى على " إسرائيل " مما يدور في كيانها ذاته من نخر، ومما تتعرض له من استنزاف جرَّاء استمرار الانتفاضة والمقاومة، ومما ينتظرها في حالة تفجر الصحوة العربية - الإسلامية، وفي حالة الإفلاس الأميركي، أو شح المساعدات الأميركية الهائلة نتيجة الضائقات الاقتصادية التي تدق أبواب أميركا بعنف. ولاشك في أن الصهاينة في الإدارات الأميركية، والمتصهينين من الأميركيين هم الذين يسخرون السياسة الأميركية والطائفة الهائلة لها في كل المجالات من أجل الحفاظ على المشروع الاستعماري - الاستثماري - الاستيطاني الصهيوني قوياً ومهيمناً.‏
              - وأنها تخشى على الأنظمة العربية والحكام العرب المتحالفين معها، والسائرين في ركابها، تخشى عليهم من تغيرات كاسحة تخفيها الرمال العربية المتحركة. وخشيتها عليهم هي خشية على مصالحها أولاً، وعلى تنفيذ خططها في المنطقة لتكون لها السيطرة ويكون لها الولاء. وهي تدرك جيداً أن رياح التغيير القادمة لا بد آتية، ولكن لا بد من تأخير ذلك ما أمكن بالحفاظ على ما هو قائم وتقويته وصولاً إلى حالة من السيطرة الأفضل والأشمل على المنطقة وذلك :‏
              - إمَّا من خلال سحق القوى الصاعدة وفرض سلطة القوى الحليفة القائمة‏
              - وإمَّا بالسيطرة على تلك القوى وتوظيفها لتكون أحصنة لها في المستقبل، سواء أتم ذلك بالتسلل إلى أحشائها أو بشرائها في صفقة رزمة على الطريق الأميركية.‏
              وبعد.. فالعودة واجبة إلى ملامسة التبريرات والتسويغات الملكية التي تقدم على طريق فك الارتباط بالبعد القومي للقضية الفلسطينية، ونقض أسس مرجعية مدريد، وإلغاء التنسيق العربي المريض في ظل " المفاوضات " والضرب به عرض الحائط، والبحث عن خلاص ولو على حساب القضية والمبدأ، والأخ الجار. مما لا شك فيه أن في الأردن أزمة اقتصادية خانقة، فالمساعدات التي كانت تقدمها دول الخليج العربي قُطعت عن الأردن بعد حرب الخليج الثانية وبسبب موقف الأردن في تلك الحرب، وطريق تزويد العراق بالبضائع والانتفاع من ذلك النوع من التجارة - السوداء أو البيضاء - سدت هي الأخرى أو ضَؤُل مردودُها إلى الحد الذي لم يعد مجدياً في معالجة أزمة من أي نوع، والكم البشري الذي عاد إلى لأردن من أردنيين وفلسطينيين بعد حرب الخليج الثانية تسبب في قطع موارد المغتربين وفي زيادة أزمة البطالة، مع أن شرائح من أولئك عادت بأموالها إلى الأردن أو ببعض تلك الأموال. ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن في عمان غنى غير مدرَك الحدود والموارد وأن فيها ثروات لا توظف في معالجة حل الأزمات؛ ولكن ذلك ليس شأناً أردنياً خاصاً، بمعنى أن مثل ذلك الوضع ليس وقفاً على الأردن، وليست معالجته مما أزعم أن لي الحق فيه والقدرة عليه. إنما الذي لا أملك إلا أن أطرحه في إطار السؤال الاستنكاري::‏
              - أليس لذلك من علاج سوى بيع موقف الأردن الوطني والقومي لمصلحة " إسرائيل " ؟! والتضحية بعلاقاته العربية - العربية لمصلحة علاقات أميركية إسرائيلية ؟!؟وهل قرر الأردن، ابتداء من ذلك واستناداً إليه ، أن يدخل نهائياً في سباق مع فلسطينيي أوسلو - أريحا على التحالف مع " إسرائيل "؛ أم أنه يريد أن يكون له القدح المعلى في الكونفدرالية الإسرائيلية - الأردنية - الفلسطينية التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لإقامتها في بلاد الشام لتكون إحدى دوائر التحكم الرئيسية في المنطقة العربية، بعد إقامة دائرتي التحكم الأميركيتين: المصرية والخليجية ؟!؟ وكيف ستكون طبيعة العلاقة بين الأردن في إطار ذلك التحالف أو تلك الكونفدرالية وبين جيرانه العرب ؟! لا سيما سورية والأردن والعراق ؟! هل ينتظر أن يُحْكم السيد الأميركي قبضته جيداً على الدارة كلها فيوزع المهام والأدوار، أم ينتظر أن يكون حربة أميركية في صدر سورية وفي صدر أيَّة قوة عربية محلية تخرج على أمر السيد ؟! أم أنه سيختار أن يكون حليف القوة التي يُراد لها أن تهيمن على المنطقة بعد فرض الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها، وأعني بها قوة " إسرائيل " التي ستكون والقبضة الأميركية معاً أساس كل قوة ومخطط ومصلحة وهيمنة في المنطقة؟! إن خيارات الأردن لا بد أن تكون قد درست ولكن القوى في الأردن لا بد أن يكون لها دور مستقبلاً في حسم ذلك الخيار. وهذا يقودنا إلى ملامسة التبرير أو التسويغ الملكي المتصل بتزويد الإدارة الأميركية للجيش الأردني بالسلاح المتطور لنتساءل: لمن سيعد الجيش الأردني إعداداً جيداً بأسلحة متطورة ؟! وسيكون الجواب حتماً: لمصالح الأردن: مملكة وشعباً وبلداً وهذا من الأمور الطبيعية والمنطقية والمشروعة. ولكن قرار الأردن، بعد هذا الرضوخ لم يعد حراً ولا هو بيد الأردن بل هو بيد القوة التي تسمح بتسليح الجيش أو بعدم تسليحه، وبتوجيه قوة ذاك الجيش هذه الوجهة أو تلك؛ فهل تحرر من قيادة (غلوب باشا) ليعود لإمرة الحاخام رابين أو الضابط مردخاي غور؟! أم أن الاطمئنان تام إلى أن كلنتون سيكون أكثر حرصاً على المظهر و " الجوهر " فيسند تلك المسؤولية لضابط أميركي ؟! وهل سيقبل الجيش الأردني شيئاً من ذلك ؟! أم أنه سيرفضه رفضاً قاطعاً، وسيشكل ذلك بالتالي خطورة على الاستقرار في المملكة وعلى العرش الملكي أكثر مما تسببه الأوضاع الضاغطة الراهنة. من المؤكد أن أميركا لن تسلح أي جيش عربي ليواجه " إسرائيل "، أو ليحرر المنطقة من السيطرة الأميركية وإذا كان تسليح الجيش المصري والجيش الأردني وجيوش الخليج يتم أميركيا من خلال المساعدات أو الدفع المباشر للأموال الطائلة فإن ذلك يحقق على أرض الواقع ربطاً محكماً لمفاصل القرار والعمل من خلال التنفيذ وقيود التسليح وشرطه، ومن خلال التمويل أيضاً، لأهم العناصر البشرية والمادية، وعناصر اتخاذ القرار وتنفيذه بصانع القرار الأميركي وحلفائه وبالمصالح والمخططات الأميركية .‏
              وبعد.. فإننا لا نتوقع أن يعيد الأردن النظر بقراره، ولا بمسوِّغاته الملكية لتحالفاته المستقبلية، كما لا نتوقع أن يغير المسار الذي اختاره أو فرض عليه، ولكنه لن يقنعنا أبداً بأنه قطع حبل السرة الموصول بأمته نهائياً، فللجغرافية تأثير على التاريخ وللتاريخ فعل في الجغرافية وسنبقى الاخوة الجوار، وسيبقى الشعب العربي في الأردن صاحب القرار النهائي في المستقبل بكل الخيارات والالتزامات، ولن يكون لـ " إسرائيل " وحلفائها حضور أو حياة في ذاكرة الشعب العربي ووجدانه تلغي حضور تاريخه وشهدائه ومبادئه، كما لن يكون لها مثل ذلك الحضور والقبول في وجدانه. وإن غداً لناظره لقريب .‏

              الأسبوع الأدبي/ع421//21/تموز/1994‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #67
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                دور الملك والخليفة
                الخطوات المتسارعة التي يتخذها الملك حسين على طريق التطبيع الكامل والشامل مع الكيان الصهيوني، فاقت توقعات المتفائلين من الغربيين و" الإسرائيليين "، والعرب المترامين على التطبيع،وجعلت المراقبين المحايدين يلهثون وراء متخذيها باحثين عن الأسباب والأسرار.‏
                وهي في سرعتها واتساعها تشير بوضوح تام إلى وجود مخطط قديم مدروس وناضج،كان ينتظر اللحظة الملائمة ليوضع موضع التنفيذ،وحين واتت تلك اللحظة بدأنا نقف على حقيقة أن الأردن يلقي وراء ظهره كل مرجعيات مدريد، وما يتصل بذلك من قرارات،ويتخلص من بقايا الروابط التي كانت تشد المتفاوضين من العرب إلى إطار ما كان يسمى " التنسيق العربي " بين أطراف المفاوضات الثنائية من العرب، ويعلن أنه لن يتردد في توقيع صلح منفرد،بعد أن " يرفض " ذلك علناً.‏
                وليس المهم أن تعقد ألسنتنا الدهشة أولاً تعقدها جراء ما يقوم به الأردن،ولا أن نركز على أن عمر العلاقات السرية بين المسؤولين الصهاينة والأسرة الهاشمية في الأردن تعود إلى العشرينات من هذا القرن، وان عمر علاقة الملك حسين بإسحق رابين تعود إلى عشرين سنة، وأنه كان قد التقى المسؤولين في الكيان الصهيوني جميعهم سراً عدا مناحيم بيغن، فذلك تاريخ له في التاريخ مسرد وموقع وحكم، بل المهم الآن أن نتعرف إلى ملامح التحالف الذي يقوم على أرضية من التاريخ والمصالح والقوة بين "إسرائيل" والمملكة الأردنية، ويأتي حلقة مكملة لسلسلة الحلقات التي تنشئها الولايات المتحدة الأمريكية في الوطن العربي لتحكم بواسطتها السيطرة عليه والتحكم بمستقبله. وقد أنشأت من تلك الحلقات أو الدوائر حتى الآن.‏
                ـ حلقة " كامب ديفيد " ومحورها أو مركزها مصر - "إسرائيل"‏
                ـ حلقة الخليج العربي ومركزها السعودية بوجود أمريكي مباشر في أرجاء مختلفة منه.‏
                أمّا الحلقة الحالية فهي: الأردنية - الإسرائيلية الفلسطينية أو " العرفاتية " على الأصح،ويأتي تسارع خطى الملك حسين ليكون مركزها ومحورها ساحباً البساط من تحت قدمي عرفات الذي يتقدم في السر والعلن ليقدم نفسه حصان رهان لتطويع الانتفاضة الفلسطينية، وتصفية حماس والتيارات الإسلامي ة " المقلقة لـ " إسرائيل " ولأنظمة عربية " في الساحتين الفلسطينية والأردنية - من خلال وجوده المكثف في الأردن - واعداً بجعل المنطقة تؤوب إلى أميركا وتثوب إلى رشدها وتتوب عما ارتكبته بحق أبناء " العم سام " وأبناء " العمومية " في إبراهيم الخليل.‏
                ولكن الخطوات " العرفاتية " السرية أخذت تدب قرب القصر الملكي الأردني فاستيقظ الحرس القديم،وأيقظ صلاته ومشاريعه وعلاقاته التي كانت منذ بداية القرن ونفض الغبار عن المشاريع المعدة فإذا بالغرب كله والصهيونية العالمية تلقي بعرفات تحت أقدام الملك وتجبره على أن يختار بين أن يكون في سجن أنصار سعته غزة أو أن يسعى ليثبت أنه قادر على أن يكون في موقع سعد حداد،أو أنطوان لحد جديد يحرس المداخل الغربية ـ الجنوبية من " الدولة العبرية " ومازال تحت وقع الصدمة الملكية - الإسرائيلية يبحث عن مخارج وحلول، لا سيما بعد الإعلان عن وضع القدس الجديد،بينما أخذ الملك حسين يشد باتجاه التطبيع لامتلاك كل أوراق اللعب،ولتقديم نفسه ومشاريعه تقديماً لائقاً ذا مصداقية عالية. بعد أن غاب من الساحة العربية كل مد قومي، وصلابة نضالية، ومرجعية عربية، تجعله يفكر بهيبة الجماهير أو هيبة الانتماء والتزاماته. وحين يسارع الملك حسين اليوم إلى إقامة التحالف الجديد مع "إسرائيل" ليكون مركز حلقة من الحلقات الأمريكو - "إسرائيلية" في المنطقة ومحورها، فإنه - على ما يبدو- أقنع الغربيين بأهمية تصحيح مسار العلاقة التي كانت للأسرة الهاشمية بهم منذ الحرب العالمية الأولى والاستفادة من ذلك التاريخ والصلات لإعادة ترتيب الأمور في المنطقة بهدف مواجهة الاستحقاقات والأوضاع الجديدة فيها.‏
                إذ أنه بعد تنكر الغرب للأحلام القومية العربية في التحرير والوحدة،وبعد أن صادر كل طروحات الحركة القومية العربية وعاداها، وأدار ظهره لمنطقها واضعاً إياها في زاوية ضيقة أمام جماهيرها وسائر الأمم الأخرى، وأعطى "إسرائيل" المعتدية كل دعم وقوة وحق اصطدم هو و" إسرائيل " معاً - لا سيما بعد حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد - بصحوة تيارات إسلامية ومراجعة للذات في الأوساط القومية العربية على أرضية الثوابت والمقومات الرئيسة للشخصية العربية، وأراد أن يحقق مخططاته المستمرة للاعتراف ب" إسرائيل " وتطبيع العلاقات العربية معها من جهة،وان يحتوى التيارات الإسلامي ة والقومية واليسارية المعارضة أو أن يجعلها تتآكل من الداخل أمّا بالإحساس المتراكم بالإحباط وعدم الجدوى أو بالتقاتل الداخلي. فلجأ إلى سحب البساط من تحت أرجلها بتقديم الحصان الملكي الذي لديه الرغبة والتطلع والطموح في استعادة دور قومي - إسلامي مميز،والذي يرفض كل ما كان من تأثير للقمة العربية عليه لجعله يتخلى عن وصايته على الضفة الغربية والقدس، وعن المسؤوليات التي أنيطت به منذ عام 1947 والتي اعتبرها الملك حسين أحد المكاسب التاريخية للأسرة الهاشمية. وهو في هذا يؤكد الرأي الذي يقول: إن الأردن ينسق مع " الوكالة اليهودية " ودور "إسرائيل" فيما مهد لاقتسام فلسطين والتسابق على اكتساب الخطوة لدى الغرب فيما يتعلق بقيادة المنطقة.‏
                وحين سبقته "إسرائيل" بعد عام 1947 إلى تلك المكانة أخذ يغير مساراته وتحالفاته وأساليبه، وينسق معها،ليمسك ببعض أزمة الأمور، إلى أن أتت ظروف ملائمة جعلت منه حصاناً يمكن أن يوضع في مقدمة العربة.‏
                وتبدو ملامح التحرك القادم للتحالف الجديد منصبة على سحب البساط من تحت أرجل التيارات الإسلامي ة والقومية واليسارية في المنطقة عن طريق التركيز على الدور الهاشمي "إسلاميا وقومياً " ليقوم في اللحظة الملائمة بإعلان " الخلافة الإسلامي ة " الأمر الذي يقدم " إسلاماً ملكياً " مسيطراً عليه ليواجه إسلاما " إرهابيا " منفلتاً من السيطرة وليقدم دوراً قومياً عربياً يمتد إلى بدايات قومية في حركة " الشريف حسين " التي يعاد تصحيح العلاقة مع ورثتها،أهو بديل أيضاً لدور قومي ينفلت من السيطرة الغربية والتحالف مع الصهيونية.‏
                وحين يؤسس لذلك بجدية وحزم فإن المنطقة العربية كلها ستكون أمام حقيقة وجود حلف مدعم بكل القدرة العسكرية والمالية للغرب، ومحاط بما يحققه العرش الهاشمي من استقطاب إسلامي وقومي ليواجه بذلك القوى الأخرى الرافضة ل" إسرائيل " ولمسيرة التطبيع ولمنطق الواقعية الجديدة المستندة إلى معطيات المتغيرات العربية والدولية، وحقائق العلاقات والاتصالات التاريخية / السرية والعلنية / بين الأسرة الملكية الأردنية والقيادات الصهيونية والغربية.‏
                ودخول الملك حسين هذا المدخل لتجاوز هذه المفازة الصعبة يجعله مقبلاً على استبدال صفة الملك بصفة الخليفة، ليواجه المسلمين بوجه وصفة ومنطق يجعله بعيداً عن تناول الآية الكريمة له " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ".‏
                كما يجعله يبدو صاحب حق ربما بالمطالبة حتى بالحجاز على أرضية الخلافات الخفية مع الأسرة المالكة السعودية، الأمر الذي يجعل حال العرب والمسلمين جميعاً يؤول إلى اقتتال وتناحر داخلي على أرضيات قومية ودينية وطائفية وأسرية وعشائرية مما نترحم معه على الأوضاع العربية المزرية التي نعيشها الآن.‏
                ومن الطبيعي أن يؤدي هذا إلى ضمان أمن "إسرائيل" ومصالحها إلى المدى البعيد،وكذلك ضمان مصالح الغرب ونفوذه، وتمكينه من تحقيق أهدافه القديمة الرامية إلى القضاء على الشخصية الثقافية العربية بمقوماتها القومية والعقائدية،وتمكينه أيضاً من الاقتراب من تحقيق رهانه الذي أطلقه من عقاله قبل سنوات قليلة حيث قال بلسان زعماء له، ومثقفين وإعلاميين متعصبين " إنه كما شهد القرن الحالي سقوط الشيوعية والماركسية فسوف يشهد القرن القادم سقوط العروبة والإسلام ".‏
                والسقوط لا يكون بالضرورة إنهاء بل تشويه صورة، وإزالة دور، وإدخال الجماعات والقلوب والعقول في مراحل التناحر السلبي والتآكل والتفتت والاقتتال. إننا نرى اليوم في " الأعراس الملكية " على الحدود الأردنية - الفلسطينية قمة جبل الجليد التي بدأت تطفو في المنطقة ولا نعرف ماذا يخبئ لنا في جوفه من مصائب وكوراث. يقولون إن الازدهار قادم مع السياحة وأبناء العم سام، وأبناء " هاجر" ولكنهم ينسون حقيقة مرة تكمن في تساؤل قديم جديد يقول: " ماذا يفيد ابن آدم إذا كسب العالم كله وخسر روحه "؟!‏
                وسيبقى تساؤل مُرٌ يدوّي في فضاء وطننا ونفوسنا وعقولنا وضمائرنا وهو تساؤل يقول ماذا يفيدنا أن نجلس على ضفاف البحر الأحمر والبحر الميت في يخوت ومرافق اصطياف وسياحة،ونقوم بخدمة الغربيين والصهاينة إذا كنا سنخسر فوق كوننا أصبحنا خدماً حقوقنا وأرضنا وكرامتنا وعقيدتنا وعقيدتنا وعروبتنا ؟! هل نفرح بأننا صافحنا رابين وباركنا كريستوفر وصفق لنا كلنتون وقالت عنا وسائل الإعلام الغربية: " إننا حضاريون " ؟! وهل مازلنا نلهث وراء شهادات حسن سلوك من الغرب بأي شكل وأي لون ونحرص على ذلك ولو قدمنا ثمناً له صفاء أرواحنا وعلاقاتنا القومية والأخوية،وتاريخ جهادنا المشرق وصلتنا بأولئك الذين حملوا راية العروبة والإسلام فكانوا خير خلف لخير سلف ؟! إننا في دوامة الخلف والدماء والتآمر والتردي نفقد سلامة الرؤية، ونرفع عالياً رايات تزري بكل نقاء الانتماء والرايات وصوت من يرتاد منا يقول: انج سعد فقد هلك سعيد. والأمر من بعد ذلك لله، وإننا لحزا ني ومتفائلون.‏

                الأسبوع الأدبي/ع424//11/آب/1994.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #68
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  التطبيع أسئلة وإشكاليات
                  التطبيع بين العرب والكيان الصهيوني أخذ يتسارع، ومن لم يلتحق بركبه بعد يبحث عن وسيلة للوصول إلى تلك الغاية، والذين فتحوا بابه أول مرة تحولوا من أبالسة رُجَمَاء إلى قادة عظماء، لأنهم أدركوا قبل غيرهم متطلبات اللعب، في عصر تتغير فيه قوانين الألعاب السياسية بسرعة فائقة، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الخلقية والإنسانية .ومن يقف من العرب في آخر صف التسوية، أو بعيداً عنه يزاحم الآن بالمناكب ليأخذ موقعاً متقدماً في صف التطبيع؛ ولنا أن نسأل:‏
                  ترى ما الذي حدث للناس.. وما الذي غير التوجهات بهذا القدر من التغيير؟!‏
                  هل كان العرب على صلة سرية مباشرة بأعدائهم كل هذه السنوات حتى إذا ما فتح الباب إلى العدو ولجوه زرافات ووحداناً!! كأنما هم نهر ملجوم بسد، منخور الداخل مطلي الخارج، تحركت حجارته من مواقعها دفعة واحدة فتهاوى بين عشية ليلة وضحاها!؟ أم تراهم كانوا يتعلقون بالقضية الفلسطينية على حرف، ويؤمنون بحقهم على حرف، ويتآخون على حرف، حتى إذا تبين لهم أن الوقت قد آن لإظهار ما يبطنون قلب بعضهم لبعض ظهر المجن، وقلبوه لأنفسهم أيضاً، ولم يشعر أي منهم بأي حرج من أي نوع، لأن كلاً منهم لبس قناعه ودفن حياءه، ولم يعد يلزمه شيء مما كان يلزم ويحرج عربياً!؟ كل ذلك جائز ولكنه كله لا يغير من النتيجة النهائية التي آلت إليها الأمور في الوطن العربي اليوم شيئاً .‏
                  العرب إذن يتسابقون على تطبيع علاقاتهم مع العدو الصهيوني، ومن له منهم حظوة أكبر لدى ذلك العدو أو لدى حليفه الأكبر: الولايات المتحدة الأميركية، يحمل من لا حظوة له. وتصل الأمور في بعض الأحوال حد أن تحتج الإدارة الأميركية على "إسرائيل" وعلى عربي مقرب ذي حظوة، لأنهما يتصلان ببعض العرب، من طالبي القرب والرضا والتطبيع، من وراء ظهرها ودون مراعاة لمصالحها ـ كما يحدث الآن مع العراق ـ وفي مثل هذه الظروف والأوضاع والمواقف العربية. ما الذي يستطيع فعله عرب يرفضون العدو وكل أشكال تطبيع العلاقات معه، بل يرفضون الاعتراف به والاتصال والمهادنة، لا سيما إذا كان أولئك ممن لا يملكون قرار الناس ولا يملكون لهم نفعاً مباشراً كذلك الذي زود به أهل التطبيع ؟! وكيف يمكن أن يقدم أولئك أنفسهم وآراءهم ومواقفهم للناس وهم لا يملكون سوى حفنة من الأقوال التي تنطوي على مبادئ خُلقية وتطلعات قومية مكْلفة، يقال إنه قد تجاوزها الزمن ولم يعد لها سعر في أسواق اليوم!! وهم لا يجدون طريقهم إلى الوصول إلى الرأي العام، الذي يهمهم أمر الوصول إليه ، من خلال قنوات الإعلام، لأنها مملوكة من قبل الدول، ومحكومة جيداً بسياسات، وعليها أن تراعي كثيراً من الاعتبارات والمعطيات والمتغيرات وفنون الممكن ؟!!‏
                  إن هذا السؤال، على مرارته وواقعيته، لا يمكن أن يلغي مسؤوليتهم ولا أن يعطل فعاليتهم، كما أنه لا يعفيهم من المسؤولية إن هم قصَّروا، ولا يشكل موضوع تبرئة ذمة لهم، وهم لا يتطلعون أصلاً إلى فعل يأتي تبرئة للذمة، فالقضية لدى هؤلاء ـ كما أفترض ـ ترتبط بقناعات: مبدئية، قومية، وخُلقة؛ كما ترتبط بانتماء نوعي للوطن والحق والحرية والكرامة، وعلى ذلك فإنها لا تقاس بمقياس الربح والخسارة.‏
                  ما من شك في أن على من يختارون رفض الاعتراف بالعدو الصهيوني من العرب،ويتصدون لمنع تطبيع العلاقات معه، ويعملون على إفساد كل ما يؤسس لكل تطبيع معه من أي نوع؛ ما من شك في أن عليهم أن يتحملوا تبعات اختيارهم أولاً، وان يبحثوا عن وسائل وأساليب عمل وأداء تمكِّنهم من تحقيق مواجهة ناجحة وفعالة في ميدان حاشد بالفعاليات المناوئة، خلال توقيت ملائم يجعل من الفعل المختار أداؤه فعلاً ذا جدوى، في حدوده أولاً وفي مردوده ثانياً.‏
                  لقد قلت سابقاً، وفي أكثر من مناسبة وموقع، كتابة وخطابة، أن أهل الثقافة بالمفهوم الواسع والشامل للثقافة من أبناء الأمَّة العربية، هم المطالبون قبل سواهم والمعنيون أكثر من سواهم من أبناء الأمَّة، بحكم الوعي والموقع الاجتماعي والمسؤولية التاريخية والاختيار الطوعي للدور، وبحكم المنزلة الاجتماعية والمسؤولية الفردية؛ هم المعنيون والمسؤولون عن مواقف ومبادرات في مثل هذه الظروف والمحن والتصرفات، تحمي الذاكرة والوجدان وتبقي القضية حية في العقول والضمائر، وتجعل الأجيال العربية تعيش قضاياها بعمق ووعي، وتؤسس للتحرير ولو بعد عقود من الزمن أو قرون؛ وأن تمنع ضياع الحق العربي في فلسطين ابتداء من الجغرافية والتاريخ وانتهاء بذاكرة الأجيال ووجدان الشعب، بإبقائها على حالة الصراع مع العدو الصهيوني على حالها في جوهرها، ورفض قبوله بأي حال وعلى وجه من الوجوه ضمن النسيج الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأَمني للمنطقة بإرادة أهلها. فليبق، إذا بقي، كيانا مزروعاً بقوة القهر والإذلال، وليبق على حقيقته: كياناً عنصرياً دخيلاً ليس له صلة بالمنطقة إلا صلة الغازي الدخيل الذي تزيله المقاومة وتفنيه .‏
                  ما لم ينسب، أهل البلاد الأصليون الذين تعود الأرض إليهم وإليهم وحدهم، بوصفهم جزءاً من أمتهم العربية وليس بديلاً لها يلغي حقها في الوطن ـ فلسطين ـ وفي المقدسات الإسلامية والمسيحية. وانطلاقا من ميثاق المثقفين العرب، الذي أصبح أرضية مستقرة للعمل لدى شرائح عريضة من الكتاب والأدباء العرب، لا سيما بعد اعتماده من قبل مؤتمرهم العام السابع عشر ـ عمّان 1992 ـ وانطلاقاً من المسؤولية التي يرتبها عليهم الوعي والانتماء معاً، وسعياً وراء فعل ناجز مفيد في هذه الظروف الصعبة بالذات، فإنني أرى التوجه نحو المواقف والأفعال والتصورات الآتية :‏
                  1ـ أن يكف القطاع الأعظم من المثقفين عن الانتظار حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ليتخذوا، في ضوء ذلك، موقفاً. ذلك لأن الأمور اتضحت تماماً لمن يريد أن يتخذ موقفاً في ظل الوضوح، ولأن مثل هذه القضايا وهذه المواقف لا يحتاج إلى مثل هذا الانتظار المشين؛ فمن يقف إلى جانب التطبيع ويختار ذلك الاختيار عليه أن يسلك طريقه دون مراوغة، ومن يرفض التطبيع مع العدو عليه أن يسلك طريقه دون تردد، فالأحداث تتوالى والتطبيع ينتشر والمواقع تتهاوى موقعاً بعد موقع، ونحن لا نملك إلا تردداً وانتظاراً؛ وهذا لا يليق بأهل قضية ومبدأ ورأي، كما أنه ليس في صالح أي قرار لمقاومة التطبيع نتخذه لاحقاً. إذن فلا بد من حسم الأمر بالنسبة للقطاع الأكبر من المثقفين في هذا الموضوع الرئيس وبأسرع وقت.‏
                  2ـ أن يتم اختيار برامج عمل، لمن يرفضون التطبيع، تأخذ بالاعتبار أن شعبنا يتعرض يومياً لضخ إعلامي هائل من مصادر عربية وأجنبية، صهيونية وغربية، وكلها تعمل لتهيئته لقبول العدو الصهيوني كحقيقة واقعة؛ وتوحي له بأن ذلك القبول سوف يجعله يرتع في الخيرات من كل لون (؟!؟) كما تركز على مخاطبة احتياجاته متناسية واجباته وحقوقه الوطنية،أو جاعلة إياه ينسى تلك الواجبات والحقوق. وابن الشعب البسيط لدينا يهمه أن يتخلص من المعاناة ولكنه ليس على استعداد ـ فيما أقدر ـ لشراء رغيفه بكرامته، ولذلك فإن تركه يتعرض لأخطار هذا الضخ المتلاحق لإعلام التطبيع والتطميع بألوان الرفاء والسعادة، على أرضية السلام "الإسرائيلي" القادم، ليس في مصلحته الآن وليس في مصلحة من يرفضون التطبيع مستقبلاً؛ لأن ذلك سوف يجعل جموعاً من البسطاء، لا يستهان بعددها، تتراخى وتستسلم للوعود الكاذبة، بينما يثبِّت العدو دعائم استقراره وسيطرته في المنطقة، ويتوجه نحو المراحل التالية من مشروعه الاستيطاني، بينما شعبنا يعيش حالة الاسترخاء المديدة أو حالة الإحباط الشديدة .‏
                  ويتوجب على من يختارون رفض الاعتراف بالعدو الصهيوني ومقاومة تطبيع العلاقات معه أن يصلبوا مواقف جماهيرهم ويحموها، وأن يدعوها إلى ممارسة نضالية واضحة محددة المعالم، في إطار برنامج عمل مدروس من شأنه أن يؤدي، عند التطبيق، إلى شل التطبيع وإلحاق الأذى ببرامجه؛ ولا يكون ذلك بالسكوت والتمني، ولا بالاعتماد على العواطف القومية النبيلة والأصيلة للجماهير، التي نوقن بأنها سترفض التطبيع لأنها ترفض العدو ولا يمكن أن تقبله ؛صحيح أن جماهيرنا نظيفة وصبورة ومتمسكة بأرضها ولديها الاستعداد الكبير للتضحية، ولكنها لن تصمد إلى ما لا نهاية ودون معين، للحملات المنسقة التي تشارك فيها أجهزة الإعلام العدوة والصديقة.‏
                  3ـ من المسلم به أن كل ساحة عربية لديها خصوصيتها النسبية في هذا النوع من المواجهات، تبعاً للأنظمة والقوانين المعمول بها، ولدرجة التطبيع المقطوعة فيها، نظرياً وعملياً، علنياً وسرياً، إلا أن معسكر التطبيع العربي الذي يتسع، ينسق جهوده أو يفرض عليه تنسيقها، ولو في مرحلة متأخرة، لأن ذلك هو مطلب الآخر إذا لم يكن مطلب أنظمتنا!؟ وهذا يستدعي منا التفكير جدياً بإيجاد نوع من التنسيق فيما بين من يرفضون الاعتراف بالكيان الصهيوني ويدعون إلى مقاومة تطبيع العلاقات معه؛ فكيف نفعل ذلك في ظل غياب موقف قطري واضح للمثقفين الذين يقاومون التطبيع في كل قطر على حدة وفي ظل عمليات العزل التي تتم قطرياً لأولئك الذين يعارضون خطوات أي نظام عربي في أي مجال من مجالات التطبيع، بل في أي مجال من مجالات الحياة؛ بذريعة أنهم ينالون من العصمة العليا بفعلهم ذاك ما لا يناله سواهم، ولا يدركون ما يفعلون لعلة فيهم أو لغباء!؟‏
                  4 ـ أن نحوِّل ثوابتنا المبدئية والقومية، التي نص عليها الميثاق، إلى برامج عمل متفق عليها وقابلة للتنفيذ بمرونة، حسب الظروف والحالات والإمكانات والأقطار والأنظمة، وهذا يتطلب منا بذل جهد مشترك، في حدود دنيا على الأقل، ضمن صلاحيات لا نختلف عليها، ومرجعية نجمع عليها. فكيف نفعل ونحن لا نملك ذلك حتى الآن؛ ولا نتحرك جيداً لنملكه؟! وكيف نفعل وقد استقر رأينا على أن نحكم قرارنا ونحرره ولا نجعل لأحد سلطة عليه من أي نوع، في الوقت الذي لا نملك فيه تماماً مقومات تحرير ذلك القرار ؟! تلك إشكاليات علينا أن نواجهها، ومشكلات لا بد أن نلتمس حلولاً لها، وهي مما ينبغي أن يحظى باهتمام نوعي خاص وبكثير من الجهد والاجتهاد، مما يُخْدَم ويُقَدَّم على سواه .‏
                  إن إشكالية تحرير القرار من كل شكل من أشكال التبعية والحصار، في عصر يصعب إلغاء الحاجة فيه إلى المادة، تبدو إشكالية مستعصية على الحل ولكنها في الوقت ذاته تملك، بوصفها إشكالية، إغراءاتها المعنوية الكبيرة وموثِّباتها الروحية الضخمة؛ ولا يمكن فصلها عن أرض خصبة تعيش فيها، قوامها الإيمان والحق والشعب والكلمة المستنبتة على جذوع الشهادة وفروعها؛ كما لا يمكن فصلها عن تاريخ عريق من النضال من أجل وطن ومقدسات وقيم ورسالات .‏
                  5ـ أن كل مواجهة للتطبيع في ظل الاعتراف الرسمي بالعدو الصهيوني ستؤول، في مرحلة من مراحلها، إلى نوع من المواجهة بين من يلتزمون بالتطبيع ويتعهدون بتنفيذه، ومن يقاومونه ويأخذون على أنفسهم مسؤولية إفشاله؛ وستجر بالتالي إلى مواجهات لا يكون العدو طرفاً مباشراً فيها بل المستفيد الوحيد منها. فكيف السبيل إلى عدم صرف جهد في مجال أو طريق لا يلحق الضرر بالعدو وإنما يخفف عنه الضرر ؟؟‏
                  تلك قضية قادمة إلى الساحات العربية التي ستجري فيها مقاومة جادة للعدو، وقد سمعنا وقرأنا وربما شاهدنا نماذج لها في أقطار عربية تم فيها خوض مثل هذا النضال، ولا بد من الاستفادة التامة من الدروس التي سجلتها تلك المواجهات في ساحات عربية، كما أنه لا بد من الاستعداد التام للعديد من المفاجآت في كثير من المواجهات على هذا الصعيد .‏
                  وهذا يتطلب استعداداً نفسياً وروحياً ومادياً له، كما يتطلب استخلاصاً مسبقاً للعبر المستقاة من ذلك، واستعدادات مسبقة أيضاً لكل الاحتمالات والنتائج.‏
                  6ـ أن التطبيع الذي أخذ يعصف بساحات عربية كثيرة، وبدأ يجتاح المداخل المؤدية إلى حصن الثقافة ذاته ـ وهو القلعة الأخيرة للدفاع عن الحقوق والثوابت العربية ـ سوف يطرح فكر العدو ورأيه وثقافته، من خلال نوافذ ورموز تطبيع عربية، وسوف يستدعي ذلك رداً، أي تفاعلاً، من نوع ما مع ذلك الفكر وتلك "الثقافة"؛ فكيف سيكون رد فعلنا على ذلك، وما هو موقفنا من مروجي التطبيع الذين يدخلون مداخل المثاقفة الضرورية لنا لمعرفة الآخر وإغناء الحضارة الإنسانية، تحت شعارات مختلفة ؟! هل سنكتفي برفض ذلك وعدم التعامل معه ونتركه يكبر ويستشري، أم نرد عليه ونتعامل معه فندخل من حيث لم نُرِدْ مداخل التطبيع بالتعامل مع الآخر سلباً أو إيجاباً ؟؟‏
                  من المسلم به أن معرفة العدو بهدف مقاومته شيء، والتعرف عليه بهدف مصادقته شيء آخر، مختلف تماماً، ومن المسلم به أيضاً أن الصراع الذي يخاض ضد العدو على أرضية الحرب شيء، والخلاف الذي يكون معه على أرضية السلم شيء مغاير تماماً؛ فكيف سنواجه قضية قادمة من هذا النوع، يحملها إلينا بعض العرب من أهل بيتنا ويستنبتونها في عقول أبنائنا وضمائرهم، وفي مناهجهم التربوية والتعليمية، وفي ثقافتهم وإعلامهم ؟! وكيف سنتصدى لاتهاماتهم ونعوتهم عندما سيلقون في وجهنا صفات: التحجر، والبعد عن العصر، والشوفينية، وهي صفات اعتدنا على سماعها ممن ألحقت بهم الصهيونية مؤخراً ضربات مدمرة جعلتهم يستيقظون ولكن ... ألف ولكن !!؟‏
                  ـ هل سيكون ردنا منطقياً هادئاً أم انفعالياً متشنجاً ؟ وهل سيخرجنا أولئك من دائرة الانتماء للوطن والأمة ومحبة السلام والآخر، بمساندة بعض السلطات العربية، كما فعل سواهم من قبل، أم أننا سنجد علاقة موضوعية تحمينا، وتحفظ لنا في الوقت ذاته، قدرة على العمل والمواجهة بإيجابية تليق بحقنا، ونملك أسلحة العصر ومنطقه، أياً كان حكمنا على أسلحته ومنطقه ؟!؟‏
                  إنها أسئلة من الضروري أن نطرحها على أنفسنا بكل الجدية والشجاعة لكي نواجه، حين نواجه، بقدرة وحزم واقتدار؛ ولكي نرد، حين يستدعي الأمر الرد، بكل القوة التي تليق بأمتنا وبحقنا المغتصَب، وبموقفنا الذي نريد له أن يكون نظيفاً وقوياً وسليماً .‏
                  فهل نُقْبِل على ذلك التحدي ونَقْبَله قبل فوات الأوان، أم ترانا ننتظر، كعادتنا، إلى أن يفوتنا الركب فنغرق في الحسرة على ما فاتنا ؟؟‏
                  إنه سؤال من الأسئلة المطروحة علينا أيضاً، وما أكثر الأسئلة التي تنتظر أجوبة على أبوابنا، في عصر لا ينتظر قطاره النائمين !!!‏

                  الأسبوع الأدبي/ع425//18/آب/1994‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #69
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    القيمة في الموقف
                    شكراً لسيدة الباكستان بنازير بوتو على مبادرتها الموقف، وموقفها إلى قيمة، اللذين عرّت بهما-عن قصد سياسي أو دون قصد- كلاً من رابين وعرفات وجوهر اتفاقيات: أوسلو والقاهرة و" إريتز " الأخير، كما عرّت معسكر أعداء العروبة والإسلام والمتحالفين معه من عرب ومسلمين.‏
                    فقد قررت هذه السيدة المناضلة، التي تتمتع بشجاعة أدبية وأخلاق لا يعرف قيمها اسحق رابين، أن تزور غزة التي يحكمها عرفات، والتي تمثل مركز الحكم الذاتي الذي احتفل بولادته في حديقة البيت الأبيض، وجاء قرارها دعماً لموقف فلسطينيين في مسيرة السلام، تثبيتاً لموقف باكستان من القضية الفلسطينية حيث دعمتها في مراحل الصراع الساخن والبارد، وفي مراحل التفاوض، ولم تعترف بالكيان الدخيل على وطن العرب وبلاد المسلمين مثلما فعلت الدول الإسلامية والعربية، سابقاً ولاحقاً.‏
                    وهدفت بوتو-الباكستان من وراء زيارتها إلى تعزيز موقع عرفات وحكومته و "دولة فلسطين" التي يقول إنها بدأت خطواتها الفعلية على الأرض الفلسطينية بعد طول احتلال للأرض ونفي للشعب، ومحاولات إلغاء للكيان والوجود والحضور الحي. وبوتو صادقة في دعمها وعزمها وموقفها، وهي سياسياً وعاطفياً مع راية فلسطين وعدالة قضية شعبها ومع استعادة تاريخها في هذا العصر وفي هذا الزمن بالذات.‏
                    واتخذت السيدة بوتو الخطوة التي يقتضيها ادعاء الأطراف المعنية بوجود حكم ذاتي له سلطة وعلم ووزراء وحضور، ويعترف به ويدعمه الغرب الذي أنشأه إنشاء صهيونياً في حلة عربية في إنشائية: غزة وأريحا أولاً فاتصلت الباكستان-بوتو بالسلطة العرفاتية لترتيب الزيارة وأرسلت دبلوماسيين رسميين للقيام بذلك.‏

                    ولكن عرفات وحكومته لم يفلحا في إقناع رابين وجنوده بدخول بوتو إلى غزة، وطلب رابين إعلاناً من بوتو بأن الباكستان تعترف بـ " إسرائيل " حتى تسمح لها الأخيرة بدخول مناطق تشملها سيادتها، وهنا مركز الفضيحة وبؤرة التعرية تماماً لعرفات وحكمه، وللغرب وادعاءاته ولبعض العرب الذين باركوا تلك الادعاءات وصدقوها، وللكيان الصهيوني الذي يلعب أمام العالم كله بعرفات الدمية المصمودة في عربة الحكم الذاتي الفلسطيني، ويحاول أن يبتز العالم من خلالها بعلاقات وعوائد مالية وتجارة وسياحة ومساعدات على أرضية أنه صنع السلام، وحل القضية الفلسطينية وأنهى الصراع العربي الصهيوني، وأرضى العرب الذين أخذوا يتهافتون على أبوابه للاعتراف به والتعامل معه.‏
                    هنا مركز الفضيحة لادعاءاته أولئك كلها ولصفقة الوهم التي يحاول عرفات وبعض الحكام العرب أن يصدروها للجماهير العربية. هنا مركز الفضيحة لأولئك وليس ذلك كارثة دبلوماسية لباكستان كما يسميها الغرب-الصهيوني، وكما يريد أن يصورها ويصدرها للعالم وان يثبتها بوصفها: عجزاً باكستانياً، سياسياً ودبلوماسياً، و" قلة أدب " تمارسها تلك السيدة القادمة من باكستان: بنازير بوتو، التي تحتاج من وجهة نظر الكذاب الأشر، والأوقح الأشر، اسحق رابين وكما يقول: إلى "دروس لتتعلم قليلاً من الأدب". (؟؟؟).‏
                    مركز الفضيحة هو انكشاف حقيقة العلاقة بين عرفات ورابين، وحقيقة الحكم الذاتي بالممارسة والتطبيق بعد أن كان مكشوفاً في الاتفاقيات المكتوبة التي يجري التشويش على حقيقة محتوياتها.‏
                    فالواقع أن عرفات رئيس مخفر أريحا أو رئيس بلدية غزة في أحسن الأحوال. وهو يأتمر بأمر رابين ويقوم بما يطلب إليه القيام به، أو بما يسمح بالقيام به من أفعال في أفضل الأحوال. ولا يستطيع أن يدعي سيادة على الأرض أو قيادة حقيقية للشعب، أن وظيفته الأولى أو مهمته الأولى التي أوكلت إليه بموجب اتفاقات " أوسلو والقاهرة وإريتز" هي أن يصادر إرادة الشعب الفلسطيني وقراره وانتفاضته وجهاده ليرهن كل ذلك عند قادة العنصرية الصهيونية ليرضوا عنه، وان يكون قوة أمنية في غزة من الفلسطينيين تعمل على تصفية حماس، ولجم الانتفاضة وإنهاء ما أخذ يسميه أشكال التمرد والشغب والفوضى، في محاولة لتجنب استخدام الصفتين المحببتين لقادة الكيان الصهيوني العنصري، وللإعلام الغربي، اللتين تطلقان على كل من يقاوم الاحتلال الصهيوني من الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً وهما الإرهاب والتخريب.‏
                    إن نجاح عرفات بالنسبة لأميركا والكيان الصهيوني والعرب المتحالفين معهما هو نجاحه في تصفية حماس والجهاد الإسلامي ومظاهر الانتفاضة، والإمساك بزمام الأمور أمنياً ليفرض استكانة على الفلسطينيين في الداخل، وليقوم من خلال: التربية والثقافة والسياحة وغير ذلك من شؤون أوكلت إليه بتدجين المناضلين ليقبلوا بحكمه المحكوم من قبل قادة الصهاينة والموجه منهم.‏
                    ربما وقع اضطراب "دبلوماسي" في الضفة الباكستانية قياساً على "أعراف الدبلوماسية السائدة ولكنها وقعت زلزلة في الأوساط المتواطئة على تصفية القضية الفلسطينية، تلك التي تسعى إلى تقديم الحكم الذاتي العرفاتي على أنه سيادة ودولة وتحرير بوسائل غير قتالية.‏
                    إن السيدة القادمة من الباكستان مزقت أردية حريرية وأقنعة ملونة زاهية كان يستقر تحتها لون من التبعية التآمرية لرموز الحكم الذاتي في غزة وأريحا للكيان الصهيوني وقادته، أو أنها كشفت ستراً كان يرجو رموز اتفاقيات: "أوسلو-القاهرة-إريتز" وما تبع ذلك من اتفاقيات عربية بتغطيات أميركية ألا ينكشف أبداً.‏
                    وبعد مباشرة بوتو الشجاعة، أو موقفها القيمة، لن يجرؤ الحكم الذاتي العرفاتي على ادعاء السيادة ولن يضطر رابين وبيريس وسواهما من قادة الصهاينة عن إخفاء سرورهم باختفاء ذلك الادعاء الذي كان يرفرف في فضاء الإعلام فشكراً لتلك السيدة المؤدبة جداً والخُلُقيَّة جداً، القادمة من باكستان التي ما زالت ترفض "إسرائيل" وترفض إقامة علاقات معها، شكراً لبنازير بوتو لأنها- سواء قصدت أم لم تقصد- وضعت أمام الجماهير العربية والعالم حقيقة الحكم الذاتي في غزة وأريحا حسب اتفاقيات: أوسلو-القاهرة-إريتز- وحقيقة العلاقة القائمة على التبعية المطلقة من عرفات لرابين الذي بين بتصريحاته حول هذه القضية "الدبلوماسية" كم هو بحاجة إلى "دروس في الأدب والأخلاق" وكم هو عنصري دخيل على المنطقة، وكم هو بعيد عن أن يصبح مقبولاً في النسيج العام الشامل للمنطقة العربية-الإسلامية، وكم هو ابتزازي يريد أ يفرض على الآخرين اعترافاً بكيانه ليسمح لهم بزيارة لأرض أعلن أنها أعيدت للفلسطينيين؟؟‏
                    وشكراً لبوتو لأنها سجلت موقفاً-قيمة في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى مواقف نضالية وقيم خُلُقية ورؤى سياسية بعيدة الأمد، أصيلة المنبع، تعبر عن وجدان الشعب، وتتلاءم مع حقائق التاريخ الذي يصنعه الشهداء وتصنعه التضحيات.‏
                    وأؤكد هنا أهمية أن يقدم هذا الموقف من منظور الالتزام المبدئي والخُلُقي ضد عدو عنصري محتل مرفوض من أبناء المنطقة جميعاً، ولا يقدم على أنه قضية "دبلوماسية" تتعلق بأصول التعامل بين دول واللياقات الدبلوماسية المتبعة والأصول المعمول بها. وذلك لسبب بسيط هو: أن الكيان الصهيوني ليس دولة شرعية في النسيج التاريخي للمنطقة العربية، وليس جهة وصائية على الفلسطينيين في أرضهم، وليس قوة خير وسلام وحضارة إنسانية في المنطقة تستحق شيئاً من الاحترام، بل هو عنصرية بغيضة مازلنا نعاني من جرائمها منذ أكثر من نصف قرن. وأن الكيان الصهيوني قوة قهر واحتلال وفدت من خارج المنطقة وزرعت فيها وما زالت تساند من قبل الغرب الاستعماري لأنها رأس جسر له ضد ثقافتنا وعقيدتنا واستقلالنا ومصالحنا.‏
                    ولأن الكيان الصهيوني ما زال يحتل بالقوة أرض العرب، ويشرد الشعب الفلسطيني، ويمارس الإرهاب والإبادة الجماعية، تحت نظر القوى الإمبريالية المسيطرة على العالم.‏
                    وهو بهذه المقومات والصفات والأهداف والممارسات لا يستحق اعترافاً أو احتراماً أو مهادنة، و لا يجوز النظر إليه تحت ظرف من الظروف على أنه مصدر حقيقة أو قيمة أو أمن أو استقرار؛ ولا على أنه يمثل أي قدر من الخُلُقيَّة تسمح له بإصدار أحكام على الأشخاص والدول والممارسات.‏
                    وتحية للموقف-القيمة الذي اتخذته الباكستان والذي يجب أن يقدم ويظهر وينمو، على حقيقته، وبوصفه، موقفاً قيمة والتزاماً نضالياً ومبدئياً وأخلاقياً وليس غلطة بقضية عادلة هي قضية الشعب الفلسطيني وليس غلطة سياسية، أو عدم لباقة دبلوماسية تستحق الاستهجان أو التوبيخ لا سيما من قبل من يرافقهم في كل تاريخهم وممارساتهم الاحتقار والاستهجان والتوبيخ من قادة الصهيونية-العنصرية-النازية عبر التاريخ.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع427//11/أيلول/1994‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #70
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      منطقان على الأقل
                      منذ مؤتمر مديد بدأ تركيز الجهد الصهيوني - الغربي لتفتيت صف المفاوضين العرب، وهدم كل ما يمكن أن يشكل نقاط إسناد ودعم، عربية وإسلامية، له. وبدأ في الوقت ذاته صراخ العرب من أجل إقامة تنسيق متين فيما بين مفاوضيهم أو المتفاوضين منهم من جهة، وفيما بين أولئك والأنظمة العربية الأخرى من جهة أخرى. وكان كل طرف في المفاوضات العامة، وكل فريق من المتفاوضين العرب يدرك جيداً معنى التنسيق والتضامن العربيين، وتأثير ذلك في مسار المفاوضات ومسارات السلام التي قد تنتج عنها، وتأثيره أيضاً على مركز الثقل في ذلك كله وهو: القضية الفلسطينية والأرض والشعب العربي في أقطاره. ويبدو من النتائج التي آل إليها أمر المفاوضين العرب، سواء في الثنائية أو المتعددة الأطراف، أنهم لم يتوصلوا في لحظة من اللحظات إلى تنسيق متين يقوم على الثقة المتبادلة والمصلحة المشتركة والتعاون الراسخ الأركان .‏
                      كما يبدو بوضوح من تلك النتائج ذاتها، أن صفهم كان مخترقاً من قبل أن تبدأ مسيرتهم تلك، مثلما كان ذلك الصف مخترقاً منذ خاضوا صراعهم مع الصهيونية والاستعمار. وليست اتفاقيات: أوسلو - والقاهرة - وإريتز التي عقدها عرفات، واتفاقيات الملك حسين التي تمتد جذورها إلى قبور أجداده الأقربين، وإعلان الملك الحسن الثاني عن إقامة علاقات مع " إسرائيل "، وكل التعاون الثنائي الذي يسبق التبادل الديبلوماسي بين بعض الأقطار العربية والكيان الصهيوني، ليس إلاّ دلائل ومؤشرات وشهادات على ذلك كله. وبعد أن وصلت الأمور الآن إلى ما وصلت إليه ، ولم يبق من التنسيق العربي - العربي في مجال المفاوضات - ثنائية ومتعددة - ولا حتى من التضامن العربي بشكل عام، إلاّ مواقف مشتركة ثابتة لكل من سورية ولبنان، البلدين اللذين يناديان بحل شامل وباحترام للمقاومة التي تحرر أرضاً وشعباً، وبإعلاءٍ لشأن الشهادة والتضحية على تلك الطريق، ويعدَّان نفسيهما لكل الاحتمالات، ويوجهان في الوقت ذاته لوما للمفرطين بالتنسيق والتضامن العربيين وبحقوق ومصالح قومية وقطرية، كان يمكن أن يحفظ شيئا منها تنسيقٌ وتضامنٌ عربيان فاعلان، كما يلوكان عتباً مراً من دون أن يعلنا جرباً على تلك التصرفات والتحركات، تضاف إلى الحروب العربية - العربية؛ تاركين معابر الطرق سالكة في كل الاتجاهات. أقول بعد أن وصلت الأمور إلى ذلك، وأقبلنا على مرحلة استحقاقات " السلام " على جبهة المفاوضات " السورية اللبنانية - الإسرائيلية "، ما الذي يترتب علينا أن نواجهه ونعد أنفسنا له ؟!.‏
                      إن الانسحاب الشامل من الجولان وجنوب لبنان، وهو مطلب سوري - لبناني ثابت راسخ لا رجعة عنه ولا تفريط فيه، سوف يُقَابل - في حال حدوثه وقبول العدو الصهيوني به ـ بسلام كامل ندرك متطلباته الموضوعية. وهو يعني حسب المفهوم " الإسرائيلي " والأميركي :‏
                      ـ اعترافاً تاماً بـ " إسرائيل ".‏
                      ـ فتح الحدود معها، بكل ما يعنيه فتح الحدود من تواصل وتعامل .‏
                      ـ تبادل التمثيل الديبلوماسي.‏
                      - تطبيع العلاقات على الصُّعُد والمستويات جميعاً. ومن المسلم به أن يتم ذلك على أرضية إلغاء حالة الحرب، وأشكال العداء.‏
                      ـ العمل على رفع القيود والمحظورات المفروضة على التعاون مع " إسرائيل "، وعلى أشكال التعامل معها، وإزالة المعوقات القائمة في وجه ذلك؛ وفي المقدمة منها - عربياً - إلغاء المقاطعة، وتنسيق الجهود لتبادل المصالح والمنافع، وإقامة التعاون في كل المجالات التي تتصل بحاضر المنطقة ومستقبلها.‏
                      وهذا المفهوم للسلام الشامل، الذي يوازي الانسحاب الكامل ويتساوى معه، إذا ما تم التوصل إليه ، لا تكتفي " إسرائيل "، منه بمجرد الإعلان عنه وإبداء الاستعداد الرسمي لتنفيذه، وإنما تريد أن تبرمج التقدم في مجالاته جميعاً، وتحقيق أداء خطواته ومراحله ليكون متزامناً مع الانسحاب، الذي تريده على مراحل وضمن مدة زمنية اختبارية، كما تسميها؛ وتجادل فوق ذلك حول إبقاء منطقتي بانياس والحمة السوريَّتين تحت سيطرتها .‏
                      وكل ذلك يرتب علينا - في الجبهة الثقافية خصوصاً وفي امتدادات تأثيرها الجماهيري عربياً بشكل عام، إذا صح أن تسمى جبهة ونحن نشهد خلال هذا الأسبوع زيارة /73/ مفكراً عربياً من مصر وتونس والمغرب ل" إسرائيل" واجتماعهم بيريس منظر الشرق أوسطية وعرابها - يرتب علينا مواجهة استحقاقات محددة، بمواقف وآراء وتوجهات وبرامج عمل واضحة محددة أيضاً.‏
                      ولا أريد أن أُعيد آراء مكررة، ولا أن أُلحَّ على دعوة منشورة، لمن يرون لزاماً عليهم اتخاذ مواقف واضحة من قضايا مركزية، في ظروف قد تكون حرجة ومحرجة لهم. ولكنني أود تأكيد ثوابت مبدئية: قومية وخُلُقية وتاريخية وإنسانية، يهمنا أن ترسخ في الأذهان وألاّ تغيب من الوجدان، وان يعرفها الناس ويعرفوا موقفنا منها، لا سيما في هذه الظروف بالذات، وعند عتبة استحقاقات السلام ومتطلباته الموضوعية، منها :‏
                      ـ أن حقنا نحن العرب في فلسطين لا يلغيه اعتراف بعض العرب بحق لـ " إسرائيل " فيها، وليس من حقنا ولا من حق أحد من القادة والساسة أن يصادر حق الأجيال المقبلة في التحرير، ولا حقنا في بناء أجيال على عقيدة التحرير الشامل للأرض العربية المحتلة من قبل الصهاينة أو سواهم.‏
                      - أننا لن نعترف بـ " إسرائيل "، وسنقاوم كل اعتراف بها، لأنها غرس استعماري عنصري استيطاني، تم في ظل حكم الاستعمار وفي ظل القهر والقوة الغاشمة؛ وسنعمل على بناء قوانا الذاتية التي تمكننا من امتلاك قدرة على التحرير، ولكن في ظل الرفض الشامل لـ " إسرائيل " ولأي حق لها في الوجود والبقاء في أرضنا .‏
                      - أننا نرفض التطبيع مع العدو الصهيوني بكل أشكاله ومستوياته، وسنقاوم مظاهر التطبيع وصوره ورموزه والمؤيدين له والداعين إليه ، ومروجي بضائعه المادية والمعنوية. ورفضنا هذا يأتي نتيجة منطقية لعدم اعترافنا بالعدو من جهة ولتمسكنا بالاستعداد والإعداد لجيل وقدرات علمية وتقنية ومادية وروحية، تمكننا من استعادة حقوقنا وحضورنا وكرامتنا.‏
                      - أننا ننظر إلى استعادة الأرض العربية المحتلة، في أيَّة رقعة منها؛ سواء أتم ذلك بقوة السلاح أو بقوة الإرادة والمنطق والحق والتفاوض، على أنه تحرير للأرض من الاحتلال بالوسائل المتاحة وليس مقايضة من أي نوع؛ وعلى أنه خطوة على طريق عودة الأمور إلى نصابها التاريخي في هذه المنطقة، التي لم تكن يوماً إلاّ بحراً عربياً، قد تمر فيه بعض الزوارق أو الأساطيل ولكنها لا تغير حقيقته ووحدة مياهه ولونها وطعمها وانتسابها للأمة العربية. وسوف ننظر إلى كل جهد يبذل من أجل التحرير بتقدير، وسوف يكون معيار الحكم على التصرف والموقف بمقدار ما يبقى وفياً للثوابت القومية والتاريخية والخُلُقيَّة للأمة العربية، ولأهدافها، وإلى المناضلين من أجل تحقيق تلك الأهداف‏
                      -أن موقفنا من الذين يحملون الراية " الإسرائيلية " ويصيحون بها في الوطن العربي، من مسؤولين ومثقفين، مروجين للتطبيع، هو موقف الرفض والإدانة؛ ولا يمكن أن نقبل منطق مروجي العدو ومسوغي انتمائه الكلي للمنطقة، التي عليها أن تغير هويتها ـ حسب رأيهم ـ ليليق بها الانتماء إليه ويليق به الانتماء إليها؟؟ ولا يمكن أن ننظر إلى منطق أولئك على أنه منطق واقعية - عقلانية، حريصة على بناة الأمَّة وحضارتها، لأنه بكل البساطة منطق يرمي إلى فرض انهزامٍ على الإرادة العربية والروح والعقل والوعي معاً، بعد أن نجحت رموز وقوى أخرى في فرض هزيمة أو شبه هزيمة " عسكرية "، على أرضية المتغيرات والمعطيات العربية والدولية.‏
                      إننا نتطلع إلى أن تقوم جبهة ثقافية على أرضية ميثاق المثقفين العرب، وان تمارس دوراً مسؤولاً وواعياً في هذه الظروف بالذات، وأن يكون لها حضور في ساحة القرار السياسي العربي، وحضور أشمل في وجدان الجماهير والأجيال القادمة؛ وأن تحمل منطقاً مغايراً لمنطق أولئك الذين يزرعون العدو ويزرعون الانهزامية في الواقع والنفوس، لينشأ في أرضنا على الأقل منطقان في ظل تعددية مشروعة ومطلوبة. فهل يتحقق ذلك ؟ !‏

                      الأسبوع الأدبي/ع429//15/أيلول/1994‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #71
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        مسؤوليات فردية وجماعية
                        نحن على أعتاب المرحلة الأصعب من مراحل الاستحقاقات المؤلمة التي نتجت عن مسيرة مدريد، تلك التي هيا العرب أنفسهم لها منذ قمة فاس في السبعينات من هذا القرن.‏
                        وحين تدق ساعة مواجهة الحقيقة المرة سوف يتلفت كل منا حوله ليرى ما يمكن أن يقوم به مع الآخرين، وقد لا يجد إلى جانبه حتى ظله، وقد يغرق في قرارة يأس مكين.‏
                        وقبل أن يأزف ذلك الوقت، وتحين ساعة لابد آتية، نود أن نتلمس ما حولنا ونتحسس أطرافنا ومكامن قلوبنا لنحقق مما هو موجود وممكن، ومن قدرتنا على تطوير ذلك الوجود بما يكفل قيام مواجهة مجدية على أرضية الثوابت التي ننادي بها، ونتغنى بقدرتنا على الدفاع عنها.‏
                        ولا أظن أن موقفاً عاماً ناجحاً وفعالاً يمكن أن يُبنى إلا على مواقف واعية وثابتة وفعالة لأفراد يدركون مواقعهم وقدراتهم ودورهم في تنفيذ الأهداف العامة، وشرائح اجتماعية متماسكة الشخصية والحضور، واضحة الأهداف والرؤى، جيدة الأداء، تملك استعداداً للتضحية والعمل، وقدرة على التنظيم من أجل بلوغ غايتها.‏
                        ولن يكون ذلك إلا من خلال التركيز على القيم الخُلُقيَّة والوطنية والقومية، ومقاومة أشكال الفساد التي أخذت تنخر تلك القيم، وتحيل شرائح عريضة وكبيرة من المجتمع، وأفراداً ذوي فعالية ومسؤوليته في بنيته وأنشطته، على المستويات كلها، إلى أدوات الفساد ومجالات لتفاعلاته وانتشاره، الأمر الذي يراكم هذا الداء ويحيل الناس إلى وقود له حيث يفقدون مقومات القوة الروحية والصلابة الشخصية، ويتحولون إلى كتل لحمية رخوة، أو إلى أنواع من الرخويات الاجتماعية لا تحسم صراعاً، ولا تقيم للأمة والحق والكرامة قواماً.‏
                        إن قراراً إدارياً أو توجيهاً رسمياً، لن يكونا قادرين على اجتثاث ما تجذَّر في نفوس وعرش فيها من ذلك الداء، ولن يكونا فعالين في إيقاف الانهيار الذي يسببه ذلك، لأن الأوامر الإدارية أخذت تصطدم "بقيم ومعايير جديدة" سائدة هي قيم "الشطارة.... والقدرة على الوصول إلى المراد الشخصي والنفع الخاص دون الالتفات إلى أي معيار، و" حملني لا حملك، واسكت علي لأسكت عليك"، وهذا كله أصبح جزءاً من مناخ عام يفتك بالمجتمع وقواه الروحية والخُلُقيَّة الفعالة ويؤخر انطلاقته البناءة.‏
                        وإذ نقر بأن الأخلاق والمواقف المبدئية لا تنشأ بقرار أو أمر إداري أو توجيه، فإننا لا نلغي على الإطلاق قيمة عمليات الضبط والربط التي تنظمها قرارات وأوامر وتوجيهات في التأسيس لأرضية صالحة لنمو القيم والمبادرة والمواقف القومية والخُلُقيَّة الإيجابية.‏
                        وانطلاقاً من ذلك فإن تعاوناً تاماً، أساسه المؤسسات المدنية، والجهات المعنية والأفراد يمكنه أن يغير معطيات الواقع ليصبح هناك أساس لمناخ جديد تنمو فيه القيم ويتوقف فيه نمو الفساد والإفساد.‏
                        ولا أظن أن أيَّة جهة أو شريحة اجتماعية أو مؤسسة رسمية أو شعبية، أو حزب أو منظمة قادرة على التقدم الفعلي، حضارياً وتقنياً واقتصادياً، من دون تحقيق تقدم أساس وفعلي في البنية الرئيسة للقيم والمعايير الخُلُقيَّة والقومية، لدى الأفراد والمؤسسات، يرعاها القانون والمجتمع، ويرعاها بالدرجة الأولى مخفر داخلي في كل نفس يأخذ بالاعتبار ما يجوز ومالا يجوز ما هو صحيح وما هو خطأ، ما هو خير وما هو شر، لدى كل فرد اعتماداً على حيوية ضميره ورسوخ عقيدته وصدق انتمائه القومي.‏
                        وإذا كنا نصل في كل محاولة للبحث عن قوة ومرجع احتكام وطاقة تنفيذ، إذا كنا نصل دائماً إلى الفرد وقواه الروحية وبنيته الداخلية- المعرفية والعقيدية، فإننا لا بد أن نراعي حقيقة أن كل تقدم اجتماعي منوط بتقدم الفرد الذي هو نواة الخلية الاجتماعية الأولى، أي الأسرة ‎، ونواة التقدم العام.‏
                        وهذا الفرد لا بد من التوجه إليه والتوجه به في آنٍ معاً لهدم ما ينبغي أن يهدم وتشييد ما ينبغي أن يشيَّد، سواء في المجال التكويني-البنيوي للذات، كياناً جسدياً وروحياً ومعرفياً عاماً، أم في المجال الاجتماعي العام وما يتطلبه ذلك من بنى ومقومات وقيم وأسس ومعايير.‏
                        والتوجه للفرد والتوجه به، جدلية معرفية واجتماعية، روحية ومادية، لابد من مراعاة أطرافها ومقوماتها في آنٍ معاً، وخلق شروط مناخ يتم فيه تفاعلها الإيجابي، وتطور ذلك التفاعل وتقدمه في مجالات العمل والبناء على الصعيدين الفردي والجمعي، الرسمي والشعبي.‏
                        وهذا يتطلب إيماناً فردياً عميقاً بضرورة المبادرة من أجل التغيير، وإرادة قادرة على تحمل التضحيات ومواجهة الصعوبات ومقاومة أشكال الضغوط والإحباط، وأنواع الحملات الإعلامية، وانعكاسات السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، القومية والقطرية، على الأشخاص والبُنى والأعمال ومستويات الإنتاج والأداء... ويتطلب جماعياً/رسمياً وشعبياً/ أداء موظفاً بوعي وتنظيم، يستهدف خلق مناخ يساعد على الإصلاح ووقف مظاهر الانهيار الروحي والمادي لدى الأفراد وفي الأوساط التي يستشري فيها فساد وتتم فيها انهيارات.‏
                        وتلك مسؤولية كبيرة يحاسب عليها التاريخ ويسأل عنها الشعب، وتحرسها الثقافة والمؤسسات المعنية بالتقويم والتصحيح على كل الصُّعُد والمستويات.‏
                        وتتركز بؤرة هذا في مواقع المسؤولية الرسمية والاجتماعية والثقافية والروحية في المجتمع والأمة. فهل نبادر، كل من موقعه وحسب استطاعته إلى القيام بعمل فعال في هذا المجال قبل فوات الأوان، وقبل استحقاقات المراحل الأخيرة في مسيرة مدريد، لكي نكون جبهة تحرص على الثوابت المبدئية، القومية والوطنية، وتقاوم من أجل تحقيق أهداف سياسية وبعيدة الأمد، انطلاقاً من أرضية صلبة أو رؤية واضحة، ومسؤولية تاريخية ومعرفية وخُلُقية واعية لدورها وأهدافها وتأثيرها هام!‏
                        إن الزمن يستدعي أن نسرع في هذا الاتجاه من أجل إيقاف الانهيار، والشروع في البناء، تحقيقاً للمشروع الهندسي الكبير، مشروع أمة عربية تقي ذاتها ومسؤولياتها التاريخية، وتواجه مواجهات ناجحة في عصر تتقدم فيه أمم بسرعة فائقة، ومازلنا فيه نحاول أن نوقف الانهيارات.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع431//29/أيلول/1994‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #72
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          استحقاقات ومراجعات
                          وزير خارجية " النظام العالمي الجديد " في دمشق اليوم، ليتابع صنع "السلام الإسرائيلي" في هذه المنطقة، ويمرره بالأساليب الأميركية المعروفة، ويأتي الوزير الخطير هذه المرة على خلفية تذكرنا بصهيل الأحصنة الأميركية في الساحات العربية منذ أربع سنوات، حين هيأ لها بعض حمقى العرب فرصاً لتحقيق أغراضها وأغراض حلفائها الصهاينة، وقدموا لـ " إسرائيل " الفرصة التاريخية التي كانت تسعى إليها لتحقيق تسوية لقضية العرب الأولى، أو تصفية لها، على حساب الحق العربي والوجود الفاعل للأمة العربية.‏
                          وقد سبقت كريستوفر ورافقته بعض المؤشرات ذات الدلالة، ومن شان ذلك أن يؤكد استجابة لعزم إدارة كلنتون على أن تنجز شيئاً هاماً على المسار السوري ـ " الإسرائيلي " للمفاوضات الثنائية، قبل نهاية العام الحالي، لأن في ذلك:‏
                          ـ حماية لما تحقق من " تقدم" على المسارين الفلسطيني والأردني.‏
                          ـ دفعاً لدول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى لاستكمال خطوات ومراحل إسقاط المقاطعة العربية لـ " إسرائيل " ودفنها تماماً.‏
                          ـ تثبيتاً لمواقف دول عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع " إسرائيل " قبل أن تتحرك قواتها خارج المناطق العربية المحتلة مثل المغرب وتونس.‏
                          ـ خلق مناخ يساعد الدول العربية الأخرى التي تنتظر " في الصف " لتعترف بـ " إسرائيل " وتطبع العلاقات معها، وتتوغل في تلك العلاقات إلى المدى الذي لم تشهده علاقة قطرين عربيين من قبل.‏
                          ولا يخفى على أحد سبب الحرص الأميركي الخاص على تحقيق تقدم في المسار السوري ـ " الإسرائيلي " من وجهة نظر المصلحة "الإسرائيلية" ـ الأميركية، قبل نهاية العام الحالي.‏
                          فإدارة كلنتون تريد أن ترفع أسهمها الداخلية لا سيما عند الحركة الصهيونية التي تتحكم بمستقبل الرئاسات الأميركية لا سيما في سنوات الانتخاب، كما تتحكم بالقرارات التي تحرص الرئاسات الأميركية على تمريرها في مجلسي الكونغرس، حيث عمل أصدقاء " إسرائيل " يغدو مؤثراً.‏
                          وإدارة كلنتون تريد أيضاً أن تنقل للعرب أهم ذرائعها ونصائحها وأسبابها التي " توجب " تحقيق تقدم في المفاوضات مع حكومة رابين قبل أن تحل فترة الإعداد والاستعداد للانتخابات الإسرائيلية القادمة، بحجة أن ما يمكن أن يحققه حزب العمل لن يحققه الليكود، وما قد يقبل به رابين لا يمكن أن يقبل به نتنياهو.‏
                          إن التركيز الآن ينصب في مسارين:‏
                          1 ـ تقريب وجهات النظر حول تفاصيل دقيقة وليس حول أمور جوهرية. فقضية الانسحاب من الجولان، كل الجولان، ليست موضوع مساومة ولا موضوع جدل، بمقدار ما هي مماحكات " إسرائيلية " ظاهرة للحصول غلى مكاسب أخرى (مثلا).‏
                          2 ـ تهيئة الرأي العام العالمي لقبول الاتفاق والإقبال عليه، وما التنغيم الإعلامي إلا بداية العزف المنفرد على أوتار حساسة، لإعداد الآذان لسماع مثل هذه الألحان.‏
                          إن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تحقق لـ "إسرائيل"، بكل الوسائل الممكنة، حقلاً اقتصادياً خصباً وحانياً عليها، يمِدها بكل ما تحتاج إليه من مال ونفوذ لتتمكن من تنفيذ مشاريعها وخططها، ولتتخلص من ديونها التي تجاوزت /12/ مليار دولار، ولكي تـتحرر هي، أي أميركا، من جزء من الأعباء التي يرتبها عليها وجود " إسرائيل " ككيان مرفوض من العرب ومفروض عليهم بالقوة، ويحتاج من أجل ذلك إلى كم كبير من المساعدات والدعم العسكري؛ لا سيما بعد أن تكشفت لبعض المتنورين الأميركيين حقيقة أن " إسرائيل " ليست القوة الوحيدة التي يمكن أن تحمي مصالح أميركا في المنطقة، بل إنها ربما كانت أحد أسباب الحاجة إلى حماية تلك المصالح أصلا.‏
                          إن " إسرائيل " بدأت تتكلم عن منطقة منزوعة السلاح لا تتجاوز مئات الأمتار فيما تسميه " أراضيها " لتتحقق منطقة منزوعة السلاح بين الطرفين بعد الانسحاب الشامل من الجولان.‏
                          و " إسرائيل " بدأت تهيئ " مستوطنيها " للانتقال من الجولان والتوطن في مناطق أخرى، وأخذت تضع اعتمادات لمساعدة أولئك.‏
                          ومن المعروف أن كل الاعتمادات المالية هي في النهاية مدفوعة عن طريق أميركا من العرب الذين تبتزهم أميركا بطرق مختلفة، ومن بيع السلاح، وبيع الأمن والاطمئنان، وتقديم قوات مرتزقة مرتفعة التكاليف، وكل ذلك تتم تهيئة الظروف والشروط الملائمة له، لا سيما من قبل "مسؤولين " عرب عميت منهم الأبصار والبصائر، وأصبحوا جزءاً رئيساً من برنامج الابتزاز الصهيوني الأميركي الذي ينفذ ضد الأمَّة العربية كلما استدعت الضرورة ذلك، والذين أخذوا يتحركون كالدمى كلما استدعت المصلحة الإسرائيلية تحركهم.‏
                          وعلى عتبة هذه الاستحقاقات والوقائع والمعطيات، ما الذي نستطيع أن نحققه فعلياً لتتحول مقاومتـنا للتطبيع مع العدو ورفضنا الاعتراف به، ورغبتنا في استمرار المقاومة لوجوده واحتلاله وكيانه الدخيل، المفروض علينا بقوة القهر وبتواطؤ الغرب الاستعماري، لتتحول تلك المقاومة من دوامات الكلام إلى أفعال ناجزة ؟!‏
                          إنه سؤال طالما لُكْنا الأجوبة عليه، وكثر ترديدنا للكلام في مداراته، وبقي أن ندقق في أمر على جانب من الأهمية هو:‏
                          هل هناك استعداد فعلي لتحويل الكلام إلى فعل مواجهة، وهل هناك مواقف مزدوجة في صفوف أصحاب الكلام الإيجابي المتعلق برفض الاعتراف والتطبيع، وهل هناك إمكانية للخلاص من ازدواجية الوجه والقناع ؟! وهل يتخذ الواقفون بانتظار أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ليسيروا في المسار " الرابح أو المربح "، هل يتخذ أولئك موقفا مغايراً ينتمي إلى المبدئية ؟!.‏
                          أم أن التغيير شمل حتى المبدئيات والثوابت والحقوق والنظر إلى الأرض، وأصبحت كل القيم والأفعال، حتى المرفوض والمدان منها، تعبر عن وجهة نظر، أو تتغير الأحكام عليها حسب وجهة النظر السائدة ؟!‏
                          إن أخطر ما نواجه في هذه الظروف الصعبة هو المخاطر التي يتعرض لها سلم القيم والمعايير الاجتماعية والقومية والنضالية والخلقية، وهو ما يلخص في نهاية المطاف قوام الإنسان وقوام الأمة.‏
                          وإن الدعوة قائمة لمراجعة شجاعة وأصيلة ودقيقة للذات في ضوء المعطيات التي تراكمت حتى الآن، وتلك التي يشف عنها حجاب شفيف يكاد لا يكون حجاباً أصلاً!! وفي ضوء الاستحقاقات الكبيرة التي تقرع أبواب بيوتنا وضمائرنا ووطننا. فهل نحن فاعلون؟! وفي أي اتجاه يكون المسار يا ترى لأكثرية من يعنـيهم الموقف والمبدأ والوطن والحق ومعنى أن تكون الثقافة رائدة وفاعلة ومعبرة عن الحضور الإنساني في الظروف التاريخية الصعبة ؟!‏

                          الأسبوع الأدبي/ع433//13/ت1/1994‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #73
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            هل سوى طريق النضال من طريق ؟!
                            اليوم، وبعد مرور سنة وشهر على اتفاق " أوسلو "، وتوقيع اتفاقية اعتراف ياسر عرفات بـ " إسرائيل "؛ يبدو بجلاء أن الصهاينة وحلفاءهم من الغربيين والعرب قد نجحوا في شق المجتمع الفلسطيني إلى قسمين. قسم شبه " رسمي " متعاون مع " إسرائيل " تلاحق شرطتُه من يلاحق أعداء الشعب الفلسطيني ومحتلي أرضه ومضطهِديه، (؟!! )، وقسم شعبي يتمسك بالمقاومة طريقاً للتحرير، وبالثوابت القومية، وبالميثاق الوطني الفلسطيني وبتاريخ النضال. وإذا كان التعاون أو قل التواطؤ، بين عرفات ورابين ضد مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي وأطفال الحجارة، بقي موضع أخذ ورد، تشوبه من آن لآخر رغبة في استخدام ورقة التوت ليقوَى موقعُ عرفات وموقفُه؛ فإن قضية الجندي الصهيوني المحتل، الذي قُتِل مع آخرين في " بير نبالة " كشفت البعد الذي وصل إليه التعاون بين الشريكين في " نوبل " الملطخة أيديهما بالدماء. فكل الدلائل والتصريحات والأفكار تشير إلى أن سلطة الحكم الذاتي في غزة، التي احتجزت أفراد حماس والصحفي العامل في وكالة رويتر - شقيق أحد الشهداء الفلسطينيين الذين اشتركوا في عملية " بير نبالة " - هي التي قدَّمت المعلومات إلى " إسرائيل " قبل وقت قصير جداً من انتهاء المهلة التي حددها مقاتلو حماس لتنفيذ وعودهم، إذا لم يطلق سراح معتقليهم. ويبدو من هذا التعاون بصيغته الراهنة أن عرفات قرر أمرين:‏
                            1 ـ أن يعلن على الملأ أنه لا يتمتع بأي نوع من أنواع الاستقلال، وأنه يتلقَّى أوامر من رابين، وأن كل تأخر في تنفيذه لما يطلب إليه تنفيذه يعرِّض غزةَ للحصار، ويعرضه هو لمزيد من الاختبارات والامتحانات، ويقرِّب من فرص وضعه في قفصٍ، تدور به حوَّامةٌ " إسرائيلية " على قرى ومدن فلسطين المحتلة، ليعرض على الناس بوصفه غنيمةَ رابين.‏
                            2 ـ أن يسرع إلى كسب الرهان على أنه أفضل من اعتمدت عليهم "إسرائيل"، ومن يمكن أن تعتمد عليهم لإنجاز مخططاتها ومشاريعها، وأنه أفضل الشركاء في عملية تصفية الانتفاضة، والمعارضة الفلسطينية المسلحة، ومن يعترضون على صيغ الاستسلام والتسوية، ومن يتمسكون بالميثاق الوطني الفلسطيني وبالثوابت القومية والتاريخية للأمة العربية؛ ومن ثمة فإن اختياره حليفاً من المرتبة الممتازة " لـ " إسرائيل " " هو اختيار صائب، وأنه أحق من الملك حسين بهذه الخطوة ـ الحظوة، وأقدر منه على مواجهة الفلسطينيين؛ إذ أنه كما يقول المثل: " الشجرة لا يحنيها إلاَّ غصنٌ منها، وهو الفلسطيني القادر على أن يحني رأس فلسطين؟!!‏
                            لقد ثبت في عملية " بير نبالة " أن إسحق رابين اختار أن يعود إلى طبيعته وحقيقته بوصفه رجلاً دموياً عنصرياً يتشهَّى الدم، وأنه لا يمتُّ إلى روح السلام بصلة؛ وجاء اختياره هذا ليكلل بالعار من منحوه جائزة نوبل للسلام. إنه لم يختر الحياة " لنخشون فاكمسان " والحرية للشيخ أحمد ياسين، والحوار مع سلطة عرفات، وإنما اختار الموت لعريفه الأسير، والسجنَ والظلم للشيخ المعتدَى عليه والمختطف من رحاب أمانه واطمئنانه؛ واختار القمع والإرهاب والإنذار لتابعه عرفات. وهو باختياراته تلك لا يوضِّح طبيعته العنصرية الصهيونية ويؤكدها فقط، وإنما يعلن عن أساليبه وخططه، التي ينتهجها ليحقق مشاريع " إسرائيل الكبرى "، وليقدم نوعَ السلام الذي ينادي به إلى العرب، ووجهَ المستقبل الذي يراه لشرق أوسط بيريس شريكه في الإرهاب وفي جائزة نوبل معاً.‏
                            إن رابين يطلب من عرفات تصفية حماس، ويذكره بأنه لم يأت إلى غزة إلاَّ لتنفيذ هذه المهمة الوطنية التي هي جوهر تصفية الانتفاضة والمقاومة والميثاق الوطني الفلسطيني، ومن ثمة القضية برمتها. ورابين يعلن لكل من يعنيهم أن يسمعوه في المنطقة، أنه سوف يتابع المعادلة التي تنطوي على تناقض لا يريد أن يزيله، فهو يريد أن يلاحق الفلسطينيين ملاحقة لا هوادة فيها وكأنه لا يقيم معهم سلاماً من أي نوع، ويريد أن يبتز فريقاً منهم ليساعده على تنفيذ السلام ضد أعدائه من الفلسطينيين، ليثبت أنه شريك في عملية السلام. وهو في الحالين من هذه المعادلة يفتِك بالفلسطينيين بيديه وبيدي من يتعاون معه منهم. وهذا يقدم للمشروع الصهيوني فرصاً أوسع للتحقق لأنه:‏
                            ـ يمزق الشعب الفلسطيني المستهدَف، ويضرب قواه بعضها ببعض.‏
                            ـ يعرِّي الشعب الفلسطيني أمام " إسرائيل " من كل قوة شقيقة أو صديقة. لأن العرب دخلوا في سلام " عرفات - رابين "، ويريدون لهذا " السلام أن يستمر ويستقر ". والنتيجة لا يريدون الالتفات إلى أيِّ صراخ واستنجاد يأتي من ساحل المتوسط.‏
                            ـ يعطي للعالم الانطباع بأن ما يجري في فلسطين ما هو إلاَّ ترسيخ للسلام، واجتثاث لمن يعادونه. وهذه أمور تبدو طبيعية في منطقة عرفت عقوداً من الحرب وعدم الاستقرار!؟‏
                            ـ أن يستشهد الأعداء العنصريون بأصوات مسؤولين عرب على عدائية بعض العرب لهم وعدوانيتهم، وأن يستفتوا بعض المسلمين في شأن الإسلام والمسلمين، فيفتكوا بهم بعد أن يشوهوا صورتهم، التي يحرص الغرب والصهيونية على تشويهها، كما يحرص بعض العرب علي ذلك. وتأتي أفعال غير مقبولة أحياناً لتؤكد هذا الوجه غير المستحب، الذي تقدمه للناس بعضُ الممارسات.‏
                            إننا أما الامتحان الصعب، وأمام كتلة التزييف الكبرى التي تتدحرج فوق صدورنا فتكبر وهي تخنقنا. فها نحن نرى أن الإرهابيين الخلَّص هم الذين يصموننا بالإرهاب؟! ونرى أن المحتلين لأرضنا، والمضطهدين لشعبنا، هم الذين يصدرون أحكاماً وأوامر في كل ما يخصنا، ونراهم يقيمون العالم ولا يقعدونه من أجل جندي عنصري أميركي جاء ليقتل الفلسطينيين ويحتل أرضهم ويدنس مقدساتهم، فيتحوَّل إلى قضية تقوم لها المنظمات الدولية والدول وحتى شيوخ المساجد؛ في حين تفتك " إسرائيل " بالأبرياء في كل لحظة وتقتلهم، وتشرِّد أهل " كفرحونة " وأهل " حولا " في لبنان، وتختطف شيوخ المساجد، وتهاجم البيوت فتهدمها على رؤوس ساكنيها، وتعتقل من تعتقل؛ من دون أن يرتفع صوت احتجاج أو تتحرك دولة، أو تحتج وسيلة إعلام؛ وكأن هذا العالم متواطئ معها أو مملوك لها، أو عاجز لا يتحرك إلاّ إذا حملته هي على عصا!؟.‏
                            إنه البؤس ويزيد كثيراً، وإنه العجز ويسيل سيلاً خطيراً، في أرض العرب وفي دنيا لا يصلها صوت العرب. وأخطر من هذا وذاك التعاون والتواطؤ اللذين يتمان بين الأعداء ومسؤولين أو شرائح من أبناء أمتنا ضد من يرفض العدو والاحتلال والانسحاق؛ وهم يقومون بذلك تحت مظلة " السلام " وباسم احترام اتفاقيات ومعاهدات ليست جديرة بالاحترام. وحين نصل إلى عنق الزجاجة هذا، نسأل أين طريق الخلاص، وكيف الوصول إلى مسارها النظيف؟؟ إن عملية حماس في " بير نبالة" منار يضيء في نهاية نفق من الظلام والظلم اللذين يخيمان على الأنام، ولقد هزت هذه العملية البطولية " إسرائيل " وأكدت هشاشة كيانها، وأدت إلى تكبيدها خسائر بشرية كان من الصعب الوصول إلى مثلها بغير تلك العملية وأمثالها.‏
                            لقد كنا ندفع عشرة في مقابل واحد، وفي هذه العملية دفعنا ثلاثة في مقابل اثنين وأحد عشر من الجرحى، وخلقنا بلبلة في صفوف " إسرائيل ".‏
                            إن هذه العملية وأمثالها مما يساعد على استعادة الثقة والمبادرة وإرهاق جيش العدو، وكشف العملاء وتعرية الوجوه الشائهة التي تتآمر على شعبها وقضاياها. وفي السير على طريق هؤلاء الأبطال الشهداء الذين قضوا في " بير نبالة " يمكن أن نؤكد مساراً ناجحاً لإسقاط الاتفاقيات الجائرة، ونعري التواطؤ المعلن ضد شعبنا وقضايانا، ونسترد ثقتنا بأنفسنا وبحقنا في الاختيارات السليمة التي نختارها، لنبقي شعلة الوطن متقدة، وطريق التحرير مطروقة، وشجرة الخير والشهادة مثمرة في أرضنا، التي عرفت - عبر تاريخها - كيف يروي أبناؤها تربة الحقيقة فيها بالدم، وكيف ينتزعون حقوقهم بالقوة واستمرار النضال مهما طال الزمن.‏
                            تحية لشهداء " بير نبالة "، ولعنة سخط على الصهاينة القتلة والآمرين بالقتل، وعلى المتواطئين معهم؛ أولئك الذين لا يرون إلاّ بأعين صهيونية، ولا يحركهم إلاّ عواء الذئاب وهي تلغ في دماء الأبرياء .‏
                            وإن الغد لمن يعرف كيف يصنعه، وآمل أن نتعلم كيف نصنع غدنا الذي نحمي فيه أطفالنا وأوطاننا وحقوقنا وعقيدتنا وقوميتنا وقضايانا. وهل سوى طريق الكفاح والتضحية والحرية والوعي العلمي والمعرفي، هل سوى طريق الإيمان والديمقراطية والنضال من طريق توصلنا إلى ذلك؟!! إنني لا أرى سوى طريق النضال من طريق.‏

                            الأسبوع الأدبي/ع434//20/ت1/1994‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #74
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              على مدخل عصر الشيكل و العوزي
                              الأردن الرسمي احتفل في وادي عربة بتوقيع اتفاقية صلح منفرد آخر، في سلسلة الاتفاقيات العربية المنفردة التي تعقد مع "إسرائيل"، تنهي حالة الحرب،وتقيم العلاقات السلمية، وتؤسس عملياً وبسرعة فائقة، للحلف الجديد الذي يقوم بين "إسرائيل" والأردن بتمويل ودعم من الإدارة الأميركية، وبعض الأنظمة العربية.‏
                              والأردن الرسمي يشعر بأنه حقق نصراً ما بعده نصر في ذلك الذي سار فيه، وحجته أنه استعاد أرضه ومياهه وسيطرته غير المباشرة على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، وتخلص أولاً وقبل كل شيء من كابوس كان يلاحق كبار المسؤولين فيه هو كابوس (الوطن البديل) أو(وطن الفلسطينيين)، الذي كانت تقول به الأوساط السياسية الصهيونية وتطرحه في مشاريعها المقدمة لحل القضية الفلسطينية، وتهدد به في كل الأزمات.‏
                              ونحن لا نقلل من أهمية التخلص من هذا الكابوس الذي طالما أرَّق الأردن الرسمي، ونتفهم ـ بعكس الوزير كريستوفر ـ معنى أن يعلن الملك حسين أنه الآن يشعر بالأمان والاطمئنان، وأنه استعاد لأول مرة هدوءاً على أرضية الحدود الواضحة والمحددة والمعترف بها منذ تأسيس المملكة؛ نتفهم ذلك لأن الأردن الرسمي كان يعاني من هذه الهواجس في ظل حضور فلسطيني كثيف فيه، وضغط " إسرائيلي " شديد عليه، وتنمية مستمرة للهواجس والمخاوف كانت تتم جراء ذلك، حتى من قيادات فلسطينية وعربية، فأيلول الأسود ماثل في أذهان الجميع.‏
                              ولكن أيا كانت المبررات والدوافع التي يراها الأردن الرسمي مشروعة لاتخاذ خطواته تلك، فإنها من منطلق قومي ونظرة واقعية واستشراف مستقبلي، ليست مقبولة ولا مبررة.‏
                              فالأردن الذي يدخل (عالم السلام الإسرائيلي) على أرضية اتفاقية وادي عربة يدخله في ظل الحقائق والوقائع التالية:‏
                              1 ـ خلافه الموضوع على نار حامية بينه وبين الفلسطينيين حول القدس، وهو يمتد ويتسع وتزداد هوامشه وقد يغدو، بفضل التغذية الإسرائيلية المدروسة لهذا الخلاف، حرباً من أنواع الحروب التي لا تقدم استقراراً للوطن العربي كله وللأقطار المتنازعة وسياستها، ولا تترك نوعاً من أنواع الازدهار يقوم بين الناس، على أرضية الصراع العربي ـ العربي يراد به أن يصبح البديل العملي للصراع العربي ـ الصهيوني.‏
                              2 ـ خروج على مبدأ التنسيق والتضامن مع ما كان يسمى (دول الطوق). والانفراد بحلول واتفاقيات سيكون لها تأثيرها السلبي مع تلك الدول، مما يجعل كل دولة تواجه منفردة، أي تواجه وهي ضعيفة تماماً.‏
                              3 ـ تأجير للأرض يبرر استمرار الاحتلال، ويقدم سوابق خطيرة في الوطن العربي تجعل "إسرائيل" مهيمنة على الجغرافية التي لا بد لها منها التصنيع تاريخاً لها في المنطقة.‏
                              4 ـ تحكم تام بمستقبله الاقتصادي من خلال الممول الرئيس وهو الإدارة الأميركية، التي وعدت بتقديم أربعة مليارات دولار موزعة على عشر سنوات، ولكن قرار " إسرائيلي " بالدرجة الأولى، وكما هو الحال مع عرفات في (محمية غزة) سوف يبقى يلهث ويصرخ ويقدم الدليل تلو الدليل على حسن النية والانصياع لكي يقبض ما يسد الرمق. وسوف تؤدي هذه المساعدات شيئاً فشيئاً إلى اعتماد الاقتصاد الأردني على اقتصاد الغير، ومن ثمة امتلاك الغير للقرار الأردني الرسمي.‏
                              5 ـ اكتفاء مطلق بمفهوم ضيق للوطنية والإخلاص لقيمها يلغي كل ارتباط قومي وكل مصلحة وقومية عليا، ويضيق النظرة والصلة إلى أبعد مدى، ويترك المقبلين على التحالف مع "إسرائيل" في حالة خيار بين أمرين:‏
                              أ ـ نبذ كل صلة بأمتهم وقضاياها، وشن حملات على أقطارها تؤدي إلى حروب عليها وعلى مصالحها ليستمر التحالف مع " إسرائيل" في ظل الراعي الأميركي، ليستمر الرضا والتمويل والتعاون " الإسرائيلي " ـ الأردني الرسمي.‏
                              ب ـ نبذ للتحالف أو تقصير في أداء الالتزامات المترتبة عليه، وهذا يؤدي إلى عودة إلى حالة القلق والأرق الملكيين، وإلى حصار اقتصادي وربما عدوان، وعودة، غير محمودة النتائج، للعرب الذين قد يرضون وقد لا يرضون وقد يتعاونون وقد يرفضون، وتبقى العلاقة فيما بينهم قائمة على الشك مما يضعف الموقف حيال العدو.‏
                              وفي كل من الحالتين يبدو أن " إسرائيل" هي التي ستكسب لأنها في الحالة الأولى تقاتل العربي بالعربي، وفي الحالة الثانية تترك العرب يتقاتلون وتفتح أمامهم سوق التزود بالسلاح، وسيكون ذلك هو المناخ الذي تخلقه في الحالتين لترويج السلاح؛ فأكبر ما تقدمه " إسرائيل" للسوق (الشرق أوسطية) التي يراها الغرب وينادي بها بيريس والتي تعقد مؤتمراً عربياً ـ "إسرائيلياً" يقيمها على أرضية من ثبات ونبات، أكبر ما تقدمه " إسرائيل " لتلك السوق من منتجاتها المباشرة، التي ستترك العرب يحتاجون إليها أيما حاجة، هو (العوزي) وبقية أنواع السلاح من الدبابة إلى الطائرة، وهذا يجعلها ترتفع إلى مجالات تصنيع أعلى وأرقى، وتبقى على تفوقها وخصوصيتها المقرة غربياً بامتلاك السلاح النووي وتطويره، وأخذ الأموال من العرب لضمان استمرار برامجها التسليحية، واستراتيجيتها الصهيونية التي تريد الآن، ولمرحلة زمنية قادمة، امتلاك قوة اقتصادية وهيمنة أمنية تمهيداً للتوسع الجغرافي تحقيقاً لمشروع " إسرائيل الكبرى"، فـ " إسرائيل " التوراتية؛ وهو المشروع المستمر والذي يؤكده الصهاينة باستمرار.‏
                              إن اتفاقيتي أوسلو ـ ووادي عربة مهدتا بالفعل الطريق أمام " إسرائيل "، لا ليُعتَرَف بها ويجري تطبيع العلاقات عربياً معها فقط، وإنما لتتحكم بصنع المستقبل من حيث كونها جزءاً رئيساً في تمويل المشاريع الاقتصادية والأسواق التجارية، ومن حيث كونها المحرك للصراعات الجديدة والمتحكم باستمرارها، وبمناطق إثارتها. فهل ندخل على أرضية الاتفاقيات التي فرضتها اتفاقية (كامب ديفيد) عصر (الشيكل) الذي يعرينا وينتهك حرماتنا ويفسد ما بقي من قيمنا وتكويننا، وعصر (العوزي) الذي يوضع باليد العربية لتزهق به الأرواح العربية، على أرضية إحلال الصراع العربي ـ العربي في مكان الصراع العربي ـ الصهيوني؟! إن تلك تساؤلات مقلقة مرهقة مطروحة على من يهمهم أمر العرب، وأمر المستقبل في وطن العرب، ووطن المستقبل في بلادهم .‏

                              الأسبوع الأدبي/ع436//3/ت2/1994‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #75
                                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                سلة الإرهاب الأميركية
                                أكَّد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ربما للمرة الرابعة، استعداد إدارته لمواجهة من سماهم "الإرهابيين" الذين يتهمهم بمعاداة (السلام) وقتل الأبرياء، وجدد التزام إدارته النابع من التزامات أميركية، رئاسية ونيابية، سابقة، بدعم حلفائه من تصديهم لأولئك الذين " لا يجوز أن ينجحوا ويجب ألا ينجحوا ولن ينجحوا في تحقيق أهدافهم".‏
                                وأعاد الوزير كريستوفر، في قمة الدار البيضاء، التي عقدت لصالح "إسرائيل" وبتخطيط بعيد المدى منها، أكد مقولات رئيسه وإنذاراته واستعداداته؛ وحدد، كما حدد رئيسه، أولئك الذين يطالهم التهديد، وبالأحرى يوجه إليهم، بأنهم، كما قال بالحرف: " قوى التطرف التي تلجأ إلى الدين والقومية لتعليل عنفها وإرهابها".‏
                                وهذه التأكيدات المتتالية التي ازداد زخمها وتصاعدت وتائر أدائها انطلاقاً من " وادي عربة " تأتي بعد استكمال الترتيبات والاستعدادات التي تقوم بها القوى الإسرائيلية والعربية، التي جمعتها شراكة المصلحة والمصير" برعاية أميركية سامية.‏
                                ويحق لنا أن نتساءل: تُرى من هم المعنيون بالتهديد الأميركي ـ الإسرائيلي؟ وما هي الأدوات والوسائل والجهات التي تتولى تنفيذ ذلك التهديد؟؟‏
                                حين يحدد الرئيس كلنتون ويؤكد وزيره كريستوفر ما ذهب إليه كل من رابين وبيريس، وحين يبدأ عرفات والملك حسين عمليات التهديد والتنفيذ، على أرضية ذلك التحديد والتهديد، فإنها تحدد مدارات العمل خلال مراحل قادمة، أمّا المقصودون بذلك العمل فهم حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، وحزب الله والتيارات الإسلامية والقومية في لبنان وفلسطين / الداخل والخارج/ وفي الأردن وسورية؛ تلك التي تتمسك بتحرير المحتل من الأرض، وتطالب باستعادة الحقوق العربية الثابتة، وتعارض اتفاقيات " أوسلو " والقاهرة ووادي عربة، ونتائج القمة الاقتصادية في الدار البيضاء وأغراضها البعيدة، وصولاً إلى حدود دنيا من الحق والبقاء، وإلى حالة أفضل من الإعداد والاستعداد لمواجهة استحقاقات المراحل الصعبة التي تمر بها منطقتهم ومتطلبات العقد القادم وتحدياته.‏
                                وهذه الفئات التي تجمعها أهداف مشتركة، وثوابت مبدئية ونضالية واحدة، ليست موحدة الصفوف، ولا يقوم بينها حوار حقيقي للوصول إلى ذلك، على الرغم من استشعارها للمخاطر التي تحيق بها؛ وهي بحاجة إلى تجاوز رواسب من مراحل ومواجهات سابقة زرعت بينها الشك كما، إنها بحاجة إلى مراجعات مشجّعة تجعلها تقف على حقيقة ما فرَّق قواها وزرع الشقاق والتنازع فيما بينها، على الرغم من انتمائها لشجرة لا تنقسم وتبقى محافظة على حياتها وعطائها، وهي لحمة العروبة والإسلام.‏
                                إن تحديد التحالف الأميركي ـ " الإسرائيلي " ـ العربي الجديد لأعدائه الذين يسميهم "إرهابيين وأعداء للسلام" بالقوميين والإسلاميين، واتهامه إياهم بالعنف والتطرف والإرهاب، وإعلأنه الحرب عليهم؛ يعني بكل الوضوح بداية لمعركة معلنة ضد العروبة والإسلام معاً، ضد القومية والدين، لأن الذي يتحالف مع "إسرائيل" في شركة " مصلحة ومصير" ضد أمته وقضيته ليس ممثلاً للعروبة التي تحمل روح الإسلام، ولا للإسلام الذي يستند إلى سنديانة العروبة ويغذّيها؛ وقد يكون منهما في مقام أبي لهب وأبي جهل والأسود اعبسي ومسيلمة الكذاب، ولكنه لن يكون المنقذ والمؤتمن والمحرر.‏
                                وحين يحدد "الأسياد الأميرو ـ إسرائيليين" لأتباعهم ساحة المواجهة والأعداء والتوقيت، ويقدمون لهم كل أشكال الدعم، ويعلنون على الملأ أنهم لهم حماة؛ فيجب ألاّ نستغرب تغيُّر لهجة الأتباع وتغيُّر أسلوبهم، ومباشرتهم أداء المهام بالعنف والحقد اللذين يثبتان لأولئك الأسياد أهلية الإتباع واقتدارهم.‏
                                ولكن اللغم الموقوت الذي يعرف كل فريق من الأتباع وجوده، ويعرف أنه سوف ينفجر في لحظة ما، ويسير قدماً وهو يدعو، أن ينفجر اللغم، بالتابع الآخر الذي يشاركه المهمة، متوكلاً على وعد سيده له بالسلامة والأمن والبقاء؛ ذلك اللغم سوف ينفجر، مما يمكن أن يسفر عن حرب بين فلسطينيين وفلسطينيين، وحرب بين أردنيين وفلسطينيين، وصراعات لا نهاية لدمويتها، بين عرب وعرب، تغذيه أميركا " بالدولار" و " إسرائيل" "بالعوزي"، ويدفع ثمنها العرب؛ حيث يتحقق على أرضيتها حلم الصهيونية العنصرية، والصليبية الإمبريالية المستمرة العداء للعروبة والإسلام معاً؛ تلك التي لا تفرق بين عربي مسلم وعربي مسيحي في عدائها، وتريد أن تجعل العربي وقوداً للعربي. وهي معادية للقومية والدين في هذه الأرض بشكل صريح، زاعمة أنها تحب "السلام" وتحرص عليه، في حين أنها تحب التجارة والاستغلال والمال ولا تحرص إلاّ عليها، وهذا ما أكده كريستوفر بصوت مرتفع في الدار البيضاء حين أعلن " أن الشرق الأوسط مفتوح للأعمال التجارية ولا عودة للماضي". وقوى الماضي، والماضي ذاته عند "إسرائيل" والإدارة الأميركية هو الحضور القومي، واستمرار الصراع العربي " الإسرائيلي " على أرضية ثوابت الحق والشعب والتاريخ..‏
                                إن معسكر أعداء الأمَّة يريد أن يستبدل صراعاً بصراع، ولا يهمه أبدا أن يوقّينا المشكلات والأزمات، ويريد أن يجعلنا دائما ندفع الثمن، ويريد أن يطفئ كل شعلة تضيء الطريق أمام أبناء الأمَّة وأجيالها، ولا تهمه الوسائل، ولا يحرص إطلاقاً على دم وحرية وعدل وحق من أي نوع لأمة العرب ولمن يعتنق الإسلام ؛ فكل من يعارض مشاريع ذلك المعسكر ومصالحه هو بنظره عدو للمجتمع الدولي، وخارج على القانون، وليست له حقوق من أي نوع.‏
                                فهل تُرانا نقوم بما يحتِّمه الوعي والمصير والعدل وحق الشعب علينا من واجبات بإجراء مراجعة شجاعة من شأنها أن تجعلنا أكثر تماسكاً واقتداراً على المواجهة، وأكثر قدرة على الصمود، وأكثر اقتداراً على إحباط مخططات "إسرائيل" وأميركا؛ حيث نحتكم إلى ثوابتنا وضمائرنا وقيمنا، ونمنع الأدوات التي يستخدمها أعداؤنا ـ وهي من بيننا ومن صنع بعضنا ـ من أن نفتك بقلوبنا!؟‏
                                إن "شرق أوسط" بيريس ورابين وكلنتون وكريستوفر هو النقيض لهوية وطن العرب ولثوابت أهله، ولانتمائه لتاريخ وجغرافية عبر التاريخ، وهو محاولة مكشوفة لإحباط كل مشروع نهضوي وتحريري عربي، وتزوير وتزييف النضال والشهادة والتضحيات التي قدمها العرب طوال هذا القرن من أجل التحرر والتحرير والخلاص من أشكال الاستعمار؛ وهو بالدرجة الأولى المسمار الأخير في " نعش" الدعوة للوحدة والتضامن العربي، ولأي شكل من أشكال العمل العربي المشترك، الذي يعلي مصلحة عربية عليا مشتركة .‏
                                وهو في معيار المصلحة: مشروع استثماري استعماري‏
                                أميركي ـ صهيوني ـ لا يرمي إلى السيطرة على اقتصاد المنطقة وقرارها السياسي وأمنها فقط، وإنما يرمي إلى أبعاد اجتماعية أخرى في مقدمتها إفساد شبابنا وقيمنا، وجعل الكثير من أولئك الشباب يسقطون في مهاوي الانحلال والاهتمامات السطحية، ويُسحقون تحت وطأة مجتمع استهلاكي، ويصبح قيدهم في يد من يقدم لهم أشكال المتع العابرة. وحين يتم ذلك تحت وطأة التهديد المكشوف للقومية والدين، وتحت إغراء مكشوف "برفاهية" تجارية ـ سياحية تقوم على ازدهار أندية العري والقمار والدعارة في الأماكن التي يزعم أنها سوف تصبح أسواقاً مشتركة " للمُطَبِّعين الجدد"، فإن تنبُّه المعنيين بالأمة ومستقبلها وقيمها يصبح أكثر من ضرورة وواجب؛ وان عدم التنبه يصبح كفراً مثلث الشعب: كفر بالله والوطن والأمة، بالحق والعدل والحرية، بالشعب والشهادة والنضال.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع437//10/ت2/1994‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X