إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    أهل الندم
    يوم اغتالت الموساد الشهيد يحيى عياش في غزة بمساعدة من الأمن العرفاتي ارتفعت أصوات تبارك هذه الخطوة لتعلن بشماتة وقحة موت " الإرهاب " وموت المقاومة ودفن آخر فلول الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة؛ وشارك " عرب " الصهاينة المتصهينين فرحتهم بذلك وتوقعاتهم المبنية عليه .‏
    وطوى الحزن والصدمة خمسين يوماً من عمر الناس، وهم ينامون ويستيقظون على وعد حماس والجهاد بالانتقام للمهندس؛ واستعدادات العدو لموجهة كل الاحتمالات بالقسوة المعهودة، وضلوع أمن الحكم الذاتي في ملاحقة الشهداء المحتملين لكي يثبت استحقاقه للثقة وللمساعدات المالية من الدول المانحة التي تمسك " إسرائيل " مفاتيح خزائنها في هذه الساحة، واطمأن بيريس وأعوانه وحلفاؤه والمتواطئون معه إلى أن الضربة كانت قاضية. وفي الساعة السادسة وأربعين دقيقة من يوم الأحد 25 / 2 / 1996 ظهر تلاميذ المهندس في القدس وعسقلان في وقت واحد تقريباً ليعلنوا ولادة الجيل الثاني من صنعة الألغام والأجساد البشرية المفخخة؛ وفي لحظات كان ستة وعشرون صهيونياً عنصرياً محتلاً يرحلون عن ديارنا وثلاثة وخمسون آخرون ينتظرون قطار الرحيل. وهدأت روح المهندس التي كانت تحوم في فضاء فلسطين طالبة السُّقيا والراحة، هدأت قليلاً واطمأنت إلى أن الأبناء ساروا على طريق الآباء.‏
    وفي هذه الأثناء تعالت أصوات الاستنكار والغضب والتهديد من فلسطين المحتلة إلى واشنطن، وحلقت مناطيدها في سماء أقطار عربية عدة أبدى حكامها " الاشمئزاز " وأعلنوا إدانتهم لفعل التحرير والمقاومة ذاك؛ ووصلت الحماسة هذه المرة إلى الجامعة العربية التي خلنا أنها معصومة نظرياً من السقوط في فخ الندم على فعل التحرير والمقاومة؛ فإذا بها تستدرك ما فاتها وتبارك لاعني شهداء العرب والمسلمين، وتبدي أسفها هي الأخرى لأن روح عياش انتقلت إلى تلامذة يتقنون فن المقاومة والموت نصراً واستشهاداً وتحريراً، وأنها لم تمت ولم تغادر أرض فلسطين، وهذا يزعج الإدارة الأميركية والعرب الذين ذهبوا بعيداً في دروب التطبيع والذين أصبحوا أكثرية صاحبة صوت وقرار.‏
    ولمن يريد أن يحتج على تلك المواقف ـ القطرية والقومية؟! الرسمية ـ ملء رئتيه من نار تحرق وغبار يخنق؛ فـ " العرب " يرون أن زمن التمسك بالحق والحرية والكرامة قد ولى، وأن منطق " سلام أوسلو ووادي عربة ومحمية غزة " هو المنطق الذي ينبغي أن يسود ويقود، ولمن يخرج على ذلك مصير محتوم في يوم معلوم ؟!.‏
    وحتى لا تفقأ كل العيون وتنعدم الرؤية وتغيب حدود التمايز والتمييز وتغدو البصائر في الذخائر، نود أن نتوقف عند النقاط التالية موضحين موقفاً منها :‏
    أولاً ـ أن يحيى عياش ومن هم على شاكلته في المقاومة من الاتجاهات والفصائل كلها كانوا يخوضون مقاومة شريفة مشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، وهم الصوت الشرعي للشعب الفلسطيني، وليس المتعاونون مع قوات الاحتلال والراضون بخوازيق السلطة هم الشرعيون؛ وإذا كان عياش ومن هم على شاكلته من فلسطينيي الداخل والمنافي إرهابيين بالمعيار الأميركي ـ الصهيوني، وبمعيار من والاهم من " عرب " الانهزام؛ فإن المعيار الأميركي مختل تماماً، والأميركيون وحلفاؤهم الصهاينة هم الذين يمارسون الإرهاب فعلاً وبأشكال مختلفة ضد الآخرين، ويزوِّرون المعايير والحقائق والمفاهيم والمصطلحات والقوانين الدولية؛ ويعلنون كل من يخرج على سلطانهم الجائر خارجاً على القانون وممارساً للإرهاب؛ وهم يستخدمون هذه العصا لإخافة دول وحكام ولمحاصرة شعوب، ولا يلتفتون لحقيقة أنهم ينتهكون شرعة حقوق الإنسان في كل لحظة حتى وهم يتشدقون بالدفاع عن حقوق الإنسان.‏
    ثانياً ـ أن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كل فلسطين، هو مثل حق اللبناني في مقاومة الوجود الصهيوني في جنوب لبنان؛ كلاهما يملك الشرعية التي تقرها الشعوب في مقاومة المحتل حتى التحرير. وقوة لحد هي مثل قوة عرفات قوة متعاونة مع الاحتلال ومحمية منه ومسخرة لملاحقة المقاومة الوطنية وقوى التحرير والحرية المنبثقة من صفوف الشعب والمعبرة عن إرادته وتطلعاته وحقوقه التاريخية، مع بعض الفوارق العارضة .‏
    ثالثاً ـ أن وضع المقاومة الفلسطينية واللبنانية في موقع من لا يريد السلام ويعادي كل من يتطلع إليه، ينطوي على مغالطات كبيرة وخطيرة؛ فالسلام مطلب إنساني وفعل عادل يقوم على العدل ويستقر بالاستناد إليه؛ وليس من العدل في شيء أن تمهد أرض " للسلام " فوق أجساد ملايين الفلسطينيين ومئات ألوف اللبنانيين المبعدين عن وطنهم والمحرومين من ممارسة سيادتهم فوق أرضه بحرية و كرامة؛ وليس من السلام في شيء فرض الأمر الواقع على شعب بقوة القهر، ووصمه بمعاداة السلام إذا لم يذعن لقوة القهر، وإذا ما رفض التنازل عن وطنه للغير. إن من يريد فرض هذا الوقع الظالم على الشعوب هو عدو السلام، لأنه يؤسس للحرب المستمرة بين العدل والظلم، الغزو والدفاع ضد الغزو، الحرية والاستعمار ؟!‏
    إن قوة الضغط الأميركية، المادية والمعنوية، التي تمارس ضد شعوب المنطقة وقواها الحية الرافضة للتسليم بحق المعتدي الصهيوني في جني ثمرة عدوانه وبحقه في حيازة أرض (الغير) التي استولى عليها بالقوة؛ هي في واقع الأمر قوة ظلم وقوة معادية للسلام، لأنها مناصرة للاستعمار ومعادية لحق الشعوب في الاستقلال والسيادة في أوطانها، ومعادية أيضاً لحق تلك الشعوب في الدفاع عن نفسها وعن أوطانها، وهي قوة تناصر العدوان وتزيف العدالة وتمسخ قضايا الشعوب ومعايير القيم وتشوه روح الشرائع والقوانين. وما لم تدرك تلك القوة العالمية أن الصهيونية قوة غزو واستعمار في فلسطين كلها، فإنها ستبقى تمارس الظلم والإرهاب لتفرض دولة على حساب شعب وأمة بكاملها.‏
    رابعاً ـ إن علو أصوات بعض الحكام العرب وبعض المؤسسات العربية، ومجاهرتهم بآراء ومواقف تصب في المصلحتين الأميركية و " الإسرائيلية " لا يعني على الإطلاق أنها تعبر عن آراء أكثرية الشعب العربي. ومن المفارقات الغريبة والعجيبة عند القوى الغربية التي تأخذها الحمية في الدفاع عن الديمقراطية؛ أنها تتهم الأنظمة العربية كلها بالدكتاتورية من جهة، و من جهة أخرى ترى في هذه الأنظمة معبراً عن رأي الشعب ومصلحته عندما يتعلق الأمر بفرض صلح وتسوية لصالح " إسرائيل " حيث يقترن التغاضي عن موقف الشعب ورأيه في هذه القضية بالرضا والتقدير. وهذا يؤكد وجود الخلل الخُلُقي في المعيار الغربي، أمّا المعيار الصهيوني فهو تاريخياً معيار عنصري وغير خُلُقي و مختل لا يعتد به، وهو في حالتنا نحن العرب معيار عدو لا يؤخذ به على الإطلاق.‏
    خامساً ـ إننا نرى في يحيى عياش وفي الذين استهدفتهم وتستهدفهم قوى الاحتلال الصهيوني والمتعاونون معها شهداء ومقاومين وطنيين، يملكون دعم الشرائع والتشريعات والشعوب، وكل من تطوله قواهم المحرِّرَة من الصهاينة المحتلين مقتولاً بعدوانه على الغير وباحتلاله لأرضهم؛ لأنه قوة قهر تسطو على الأبرياء داخل بيوتهم وحقولهم ومزارعهم ومقدساتهم وتمارس عدواناً مستمراً عليهم؛ والمعتدي الذي يهاجم الناس في بيوتهم يقتل بعدوانه ويؤخذ بجرمه ولا شفقة عليه ولا رحمة له، ما لم يسلم بحق الآخرين في العيش بسلام وأمان، و يبـدِ استعداداً للكف عن العدوان ونبذ الاستعمار .‏
    إن قتلى القدس وعسقلان خلال هذا الأسبوع هم محتلون ينفذون مهامهم في أرض فلسطين، سواء أكانوا من المدنيين أم من العسكريين، فضلاً عن حقيقة أن أكثر المقتولين من العسكريين، وأن المجتمع الصهيوني كله حصن عسكري بنسائه ورجاله وإعداده واستعداده، والاستثناء لا يشكل قاعدة أبداً؛ وعلى المتباكين من عرب اتفاقيات الإذعان أن " يعدلوا " على الأقل في ذرف الدموع بين شهداء الأمة وقتلى الأعداء حتى تتبدى للغربيين الذين يطلب أولئك رضاهم بعض ملامح حسهم الإنساني الذي يساوي بين بني البشر فيُكبرون فيهم ديمقراطية من نوع ما .‏
    ويمكن أن يفكروا في هذه الحال بإمكانية أن يكون الذين يقضون نحبهم من العرب والمسلمين بشراً لهم الأحاسيس والمشاعر والعواطف والحقوق والتطلعات التي لسواهم من بني البشر، وأنهم حين يعذبون يتألمون، وحين يموتون يتركون أطفالاً وفراغاً، وتبكي عليهم أمهات وزوجات وأخوات وحبيبات؟! وأنهم ليسوا مجرد أرقام بشرية صماء، أو هياكل كالحة تبعث على " الكراهية والاشمئزاز " وتعكر صفو بعض الملوك المرهفين ؟!؟ وأنهم يمكن أن يكونوا مساوين لغيرهم من بعض الوجوه.‏
    لقد أبدى المقاتلون العرب في السنتين الأخيرتين حرصاً محموداً على إبقاء القضية حية عن طريق إمداد سراجها بالدم وقوداً، وعلى أن يرفعوا من شأن العربي في المواجهات مع العدو؛ فبينما كانت نسبة الشهداء العرب إلى القتلى اليهود في السنوات الأولى من الانتفاضة عشرة إلى واحد أو أكثر قليلاً أصبحت النسبة في السنتين الأخيرتين اثنين إلى واحد وواحداً إلى عشرة في بعض الحالات، وينبغي أن يرفع هذا من الروح المعنوية للمقاتلين العرب من جهة ووتيرة الأمل عند الشعب العربي بإمكانية النصر مستقبلاً من جهة أخرى؛ أمّا الأنظمة فعليها أن تحسب حسابات من نوع آخر؛ إنها مطالبة بأخذ احتياطاتها، في ظل مقاومة مستمرة للعدو، إذ أن جراحه قد تدفعه لشن هجمات واسعة على شعب محاصر بكل المقاييس. فما الذي تستطيع أن تقدمه في تلك الحالة لذلك الشعب؟! إن النواح والصياح وبرقيات التضامن ـ هذا إن وجدت بعد التقارب والتواد اللذين يحدثان مع العدو الصهيوني ـ كل ذلك لن يجدي نفعاً؛ ولن يرد الرصاص أو يوقف المذابح المتوقعة. ومن المسلم به أن العمليات النوعية لن تكون سلاحاً رادعاً في مثل هذه الحال، ولا يتوقع أن تقوم مواجهة متكافئة في وضع محتمل كهذا. إن علينا أن نناقش احتمالاً كهذا إذا ما قرر بيريس كسب الانتخابات القادمة بإظهار قدرته على الردع وعلى توفير الأمن " للإسرائيليين " الذين يعدهم نتنياهو بالأمن مع تكتل ليكود وبعدم الانسحاب من الجولان، وبالرد على هجمات " الانتحاريين " العرب بأسلوب ناجع؟!‏
    المعلن بعد عمليتي القدس وعسقلان أن حماس والجهاد العاملتين داخل فلسطين المحتلة لن تراعيا مطالبات عرفات بوقف العمليات وإلغاء خيار المقاومة، لأنهما مع غيرهما من المنظمات الرافضة لنهج التصفية قد أدركت جيداً أن عرفات ينفذ تماماً المخطط " الإسرائيلي " الرامي إلى تصفية الفلسطيني بيد الفلسطيني، وضرب العربي بسلاح العربي، وإقامة سد منيع من عدم الثقة بين العربي والعربي يجعله يعتمد دائماً على السند الصهيوني القريب في قتاله مع أخيه أو جاره؛ ويقوم بتصدير الصهيوني وتسويقه عربياً بأفواه وأفكار وأيد عربية، ويعمل على إقامة علاقات طبيعية بين الأنظمة العربية والعدو الصهيوني تحت قناع رفض القيام بهذا الدور، كما يفعل أعضاء كنيست عرب الآن في أقطار عربية كان آخرها اليمن .‏
    قد تؤثر هذه العمليات في شعبية بيريس وفي نجاح حزب العمل في الانتخابات القادمة / 29 أيار 1996 / وقد تأتي بنتنياهو وبتكتل الليكود وحلفائه إلى الحكم؛ وقد تذهب إلى أبعد من ذلك كما تسري الأقاويل والهواجس فتؤدي إلى اغتيال بيريس على أيدي يهود كما اغتيل رابين، لأن هذا الأخير ـ كما يروج اليمين الإسرائيلي ـ عرَّض أمن " الإسرائيليين " للخطر ووثق بالفلسطينيين، وكبل يديه بمصالحات مع العرب؟! كل هذا قد يحدث. وبالنسبة لنا نحن الذين اكتوينا بالممارسات الصهيونية لا توجد فوارق جوهرية بين العمل والليكود فكل منهما جناح لطائر واحد، يكون الوضع مختلفاً بعض الشيء بالنسبة لعرفات الذي يرى أنه وحزب العمل في مركب واحد ولكنه لن يكون مختلفاً بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني والعرب الذين يتمسكون بحقهم التاريخي في فلسطين. وينبغي أن يدفعنا هذا لمناقشة كل الاحتمالات الأخرى، والتالي إلى فحص البدائل الممكنة والردود التي قد تمليها الظروف والمعطيات الحالية، ولن يفيدنا كثيراً أن نراوح عند مقولات أهل الندم العربي لأن ما يعنيهم في المقام الأول هو الرضا الصهيوني والابتسامة الأميركية المطمئنة.‏

    دمشق في 27 / 2 / 1996‏

    الأسبوع الأدبي/ع502//29/2/1996‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      ثورة تلاميذ الانتفاضة
      العملية الأخيرة التي نفذها تلاميذ المهندس يحيى عياش في تل أبيب بعد ظهر يوم الاثنين 4 / 3 / 1996 تحمل مدلولات ومؤشرات خاصة، كما أنها تفتح أبواب حرب معلنة ذات أبعاد ومدلولات وغايات .‏
      فهي تأتي بعد عملية القدس الثانية التي نفذها الشهيد إسلام أحمد ـ إبراهيم سراحنة ـ وبعد إعلان حماس عن أنها توقفت عن القيام بعمليات ضد العدو الصهيوني مدة ثلاثة أشهر، مانحة إياه فرصة يقوم خلالها بدراسة العرض الذي قدمته له: إطلاق سراح المعتقلين في سجونه والكف عن ملاحقة عناصرها.‏
      ولأن " إسرائيل " رفضت العرض، وأوعزت إلى عرفات بأن يلاحق عناصر حماس والجهاد الإسلامي ويعلن أن الحركتين محظورتان، ويقضي على البنية التحتية لهما ـ وقد باشر عرفات ذلك بحماسة وجدية واضحتين، وباشرت قواته عمليات المداهمة والملاحقة، بعد أن أعلن الحركتين محظورتين وعناصرهما خارجين على القانون وعلى " شرعيته " وشرعية " أوسلو " ـ ولأنها قامت بدلاً من التفكير في العرض المشار إليه، بحشد قواتها و بمحاصرة مخيم الفارعة وهدم بيوت أسر الشهداء الذين قاموا بالعمليات في القدس وعسقلان، وأعلنت أنها في حالة حرب مع حماس والجهاد، وأنها ستقضي على البنية التحتية لهما بشكل مطلق؛ متعاونة في ذلك مع عملائها ومؤيديها من العرب وسواهم، داخل فلسطين المحتلة وخارجها؛ وأعطت جيشها مخابراتها حرية العمل، وأوكلت إلى رئيس مخابراتها عامي إيالون مهام التصفية والملاحقة والإبادة بلا رحمة؛ لهذا كله - فيما أقدر - استأنف المقاومون عملياتهم دفاعاً عن النفس واستمراراً في الكفاح المشروع.‏
      وهكذا لم يبق أمام عناصر حماس والجهاد إلا أن يدافعوا عن أنفسهم وعن أسرهم وممتلكاتهم؛ فجاءت عملية شارع ديزنكوف في تل أبيب لتؤكد قدرة حماس على الرد في المواقع الصهيونية الأكثر حماية والأكثر إيلاماً، ؛ولتعلن أنها مستمرة في أداء رسالتها: رسالة التحرير والدفاع عن الأرض والحق والهوية.‏
      لقد أعلنت " إسرائيل " على لسان رئيس وزرائها شمعون بيريس عن أنها أعطت لقواتها الضوء الأخضر لتصفية حماس والجهاد الإسلامي من الجذور، وأعلنت بذلك حرباً على من تسميهم " المنتحرين "، وأخذت مباركة كلنتون ووعوده بتقديم ما تريده في هذه الحرب من إمكانيات ومساعدات؛ وجاء تصريح وليم بيري وزير الدفاع الأميركي ليؤكد استعداد حليف " إسرائيل " الأول للقيام بكل ما من شأنه أن يحقق الأهداف المشتركة للطرفين الاستعماريين تحت مظلة حماية السلام، وحماية الاتفاقيات التي حققها الحليفان على حساب العرب والقضية الفلسطينية والعدل، في ظل الانسحاق العربي الرسمي أمام إرادة المحتلين والمستعمرين والمتآمرين.‏
      إن الأيام والأسابيع القادمة ستشهد حرباً فظيعة، عنصرية استعمارية، يساهم فيها متعاونون مع الاستعمار والصهيونية، ضد شرائح من شعبنا العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة؛ وستسكت أنظمة عربية سكوتاً فاضحاً لتواطئها ضد من تسميهم " الإرهابيين "، وسيتسلل بعض الحكام العرب إلى الظل بعيداً عن أضواء الدم الكشافة؛ وسيعيث جنود " يهوه" في الأرض فساداً ويريقون الدم العربي بوحشية لا مثيل لها. فما هو الرد المحتمل على ذلك، وقد هيأ الحلف المعادي وأعوانه الرأي العام العالمي والساحة الدولية في مجلس الأمن لذلك؟!‏
      من المحتمل أن تندلع نار الانتفاضة من جديد، وأن تمزق أقدامُ المتعبين المظلومين وثائقَ أوسلو؛ ومن المحتمل أن يزحف حماة وادي عربة ليطوعوا شعباً لم يطوعه عرفات كما ينبغي، وليحقق الصهاينة والأميركيون الصيغة التي طالما نادوا بها " للحل " وهي وضع الفلسطينيين تحت حكم الملك حسين، الذي يعرف كيف يطوعهم ويبعد شبح قيام دولة فلسطينية: إرادة الشعب فيها هي العليا وليس إرادة العملاء والمتحالفين مع الصهاينة .‏
      وقد تدخل القوات الصهيونية غزة ومدن الضفة الغربية لتقوم بما تريد القيام به من عمليات، برضا عرفات أو تحت وقع احتجاج شكلي منه بأنه لا يستطيع أن يقوم وحده بما عجزت " " إسرائيل " عن القيام به، احتجاج متفق عليه معه، يبقيه مظلة صهيونية فوق المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية التي لا يستبعد أبداً أن تتكرر فيها مذابح: كفر قاسم ودير ياسين وصبرا وشاتيلا والأقصى الشريف ومذبحة الحرم الإبراهيمي؛ وسوف نرى آلافاً من أمثال مائير كاهانا وباروخ غولدشتاين يذبحون المصلين أو يهددون بذبحهم في المساجد، وينتشرون بضراوة في ربوع فلسطين المحتلة يمارسون الإبادة ضد اخوتنا. وستأخذ تلك الحرب المعلنة من " " إسرائيل " " وحلفائها وعملائها والمتواطئين معها في الساحة العربية، شكل حرب " مقدسة " ضد كل من يقف في وجه التصفيات المذلة للحق العربي في فلسطين، وضد كل من لا يوافق على سلام " أوسلو ووادي عربة ".. حربٍ ضد الإسلام باسم مقاومة الإسلام السياسي الذي لا تريده " إسرائيل " ولا تريده أميركا ولا تريده معظم الأنظمة العربية.‏
      إن القادم من الأيام سيكون مراً ومشبعاً بالدم والألم والمعاناة؛ فما الذي يمكن أن نعده عملياً، لذلك القادم في عباءة الأيام الذي يبدو على جبين شروقها بوضوح؟!‏
      لقد سحبت " إسرائيل " مفاوضيها مع السوريين من " واي بلانتيشن " لأن سورية لم تدن العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال، ولأنها لم تر في المقاومة الفلسطينية واللبنانية إرهاباً وتخريباً، ولم تقل إن الاستشهاديين: هم منتحرون ويطلبون رأس عملية السلام، كما ترغب " إسرائيل " وأميركا وعرب متعاقدون معهما؛ و هذا التصرف الذي قامت به " إسرائيل "، بعد مشورة ومباركة أميركيتين، يرمي بوضوح صارخ إلى الضغط على سورية من جهة، وإلى تحميلها جانباً من المسؤولية عن استمرار ما تسميه " الإرهاب الذي تشجعه دمشق " ؟!؟ من جهة أخرى؛ كما يرمي إلى إحراج مواقفها ومصادرة تلك المواقف المتعلقة بالدفاع عن حق المقاومة في العمل ضد الاحتلال الصهيوني، وعن مشروعية ذلك الفعل وقانونيته.‏
      ـ إن وقفة شعبية عربية عارمة يمكن أن تخفف بعض الضغط عن المقاومة العربية المشروعة في فلسطين المحتلة وفي جنوب لبنان؛ وتجعل بعض الأنظمة العربية الماضية في مناصرتها للعدو الصهيوني تقلل من حماستها له على الأقل.‏
      ـ إن المناصرة المعلنة لحق شعبنا في الدفاع عن نفسه وحقوقه ووطنه وقيمه وعقيدته، هو فعل نضالي مفيد، وهو أقل ما يمكن أن يقوم به المرء في هذه الأوقات وفي مثل هذه الظروف؛ إنه أضعف الإيمان أو أقل من ذلك ولكنه لا يترك من يقدمون حياتهم ومستقبل أسرهم دفاعاً عن الأمة والعقيدة، لا يتركهم في العراء من دون مناصرة، محاصرين بالإحباط واليأس والصمت القتال.‏
      ـ إن منع تداول الصفات التي يطلقها الإعلام الصهيوني والغربي على المقاومة في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، من مثل: إرهاب ـ تخريب ـ انتحار ـ تدمير لعملية السلام؛ إن منع تداول ذلك فعل إيجابي يحقق الموضوعية وينسجم مع الشرعية الدولية وشرعة حقوق الإنسان من جهة؛ وفعل منصف للشهداء والمقاومين، وباعث على المزيد من العطاء على طريق التحرير من جهة أخرى.‏
      ـ إن القبول بالنظر إلى هذه العمليات الاستشهادية النوعية وأمثالها، على أنها عمليات إجرامية يقوم بها الإسلاميون الذين يعادون السلام، وينطلقون في أدائهم لتلك العمليات من طبيعة عدوانية " رسخها الإسلام فيهم " ـ كما يحلو لمن يقفون وراء ذلك أن يقولوا ـ أو أنهم يقدمون، بما يقومون به من عمليات ضد العدو الصهيوني المحتل لأرضهم، صورةً مشوهة عن الإسلام ... إن في ذلك الكثير من التجني عليه وعلى الحقيقة، وحرفاً للقضايا والمنطق عن المسارات السليمة والعلمية والموضوعية.‏
      فهذه أولاً وقبل كل شيء عمليات تقوم بها مقاومة وطنية ضد عدو محتل، وليست على الإطلاق عمليات يقوم بها إسلاميون بهدف فرض عقيدتهم وتوجههم السياسي على الآخرين، ولا يقومون بها عداء لعقائد الآخرين أو لوجودهم الشرعي في أرض ووطن عائدين تاريخياً لهم. وهي عمليات لا ترمي إلى قتل بقصد القتل، ,إنما هي عمليات موجهة ضد قوة احتلال مستمرة في اغتصاب حق (الغير) والعدوان عليهم وقتلهم، وتسعى إلى إبادتهم، بتصريح عن ذلك صريح ومعلن؛ وتشن حرب إبادة عليهم لأنها تريد أرضاً " نظيفة " من أهلها؟!‏
      إنها عمليات مقاومة نوعية فريدة في التاريخ النضالي في مسار هذه القضية؛ وعلى هذا الفرع من الموضوع نتساءل لماذا لا يسأل أهل السياسة والاستراتيجية والثقافة والإعلام أنفسهم سؤالا بسيطاً ساذجاً: لماذا يقوم هؤلاء الشبان بالتضحية بأنفسهم على هذا النحو؟ أليس وراء ذلك دوافع كبيرة تقوم على حق وعدل، وتستدعي من صاحبها إرادة وثقة واقتناعاً تاماً فريداً بما يقوم به، لكي يقدم على ما يقدم عليه؟! وهل يكون هذا الذي يقدم عليه هو مجرد الرغبة في إلحاق الضرر بالآخرين (الأبرياء) هكذا لمجرد الرغبة في الموت؟! أظن أن من يفسر هذه العمليات الاستشهادية النوعية على هذا النحو هو إمَّا مغفل لا صلة له بالمنطق والعقل والحياة أبداً، أو مثقل بالتحامل والكره لفئة أو شعب، ويريد أن يلحق به، بتصرفاته تلك، العار والسوء تقصداً وإغراضاً .‏
      إن الجلي المعلن بصوت عال لمن يريد أن يسمع هو أن هذا الجيل من المقاومين الوطنيين، هذا الجيل من تلاميذ الاستشهاديين النوعيين ـ يحيى عياش وسواه ـ لا يرغب في الموت كرهاً للحياة أو هرباً من تبعاتها، وإنما يقدم نفسه ومستقبل أهله دفاعاً عن قضية عادلة؛ إنه يدافع عن وطنه وعن مقدساته وعن حقوقه التاريخية، وعن حق أمة بالحياة الحرة الكريمة؛ ولا يجوز أن يقدَّم هذا الفعل- على سموه ومشروعيته و روعته، وأياً كانت نتائجه وتبعاته- على أنه فعل الإسلام، وإنما هو فعل مسلمين يمارسون حقهم المشروع في الدفاع ضد من يحتل وطنهم ويهدد وجودهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم وأمتهم، وأنه من الأعمال المشروعة إنسانياً وقانونياً وشرعياً أن يقاوم المرء، أياً كان دينه أو عرقه أو ثقافته، من يحتل وطنه ويهدد وجوده ويفرض عليه الموت والتخلف.‏
      إن عمليات حماس والجهاد وحزب الله مثلها مثل عمليات صقور فتح والشعبية والمقاومة الوطنية اللبنانية بفصائلها المختلفة، عمليات ضد الاحتلال " الإسرائيلي "؛ وهي مشروعة تماماً مثل مقاومة الفرنسيين للاحتلال النازي، ومقاومة الأميركيين للاستعمار البريطاني، والفييتناميين للاستعمار الأميركي، والكوريين للاستعمار الياباني؛ فلم هذا التجني على العربي والمسلم؟ وهل يظن من يذهب هذا المذهب في الحكم والرؤية والرأي، أن اليهود الخزر لهم حق تاريخي في فلسطين ينبغي أن يحترم، وأنهم فعلاً أصحاب الأرض ونحن العرب الغرباء؟! أم تراه يظن أن الشعب العربي سلَّم فعلاً بأن فلسطين أصبحت وطناً نهائياً لليهود بمجرد توقيع عرفات والملك حسين على اتفاقيات أوسلو ووادي عربة؛ أو بمجرد إعلان حاكم عربي هنا أو هناك بأن علاقاته غدت أو سوف تغدو طبيعية مع " إسرائيل " إرضاء لأميركا؟!‏
      إن أي تفكير على هذا النحو يغرق صاحبه في الوهم ويخرجه عن جادة الصواب، ففلسطين عربية، كانت وستبقى، وبعدها القومي في الوجدان أكبر بكثير من أن ينتهي بمجرد إقرار شخص أو مجموعة أشخاص والوا العدو على أنها أصبحت كذلك. إنها قضية أمة وليست قضية فئة أو طبقة منها، وقضية أجيال وليست قضية جيل، ومهمتنا أو بالأحرى واجبنا، أن نبقي هذه القضية حية في الذاكرة والوجدان إلى أن يحين وقت التحرير بامتلاك القدرة على تحقيقه؛ ومن الآن وإلى ذلك اليوم المنتظر، علينا ألا نكف عن سقاية نبتة الحرية والوطنية والتحرير بالدم والتضحيات لينير طريق السالكين تلك الدروب ويبقى منيراً إلى الأبد.‏
      إن رائد شرنوبي ابن قرية برقة ـ قرب نابلس ـ منفذ العملية الاستشهادية في القدس قبل عشرة أيام؛ ومجدي أبو وردة من مخيم الفوار قرب الخليل، منفذ عملية عسقلان في اليوم ذاته؛ وإبراهيم سراحنة من مخيم نبع الفوار أيضاً، منفذ عملية القدس الثانية، والشهيد الذي نفذ عصر الثلاثاء الماضي عملية شارع ديزنكوف في تل أبيب؛ هؤلاء جميعاً ومن سبقوهم في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، ومن يسير على طريقهم فيما بعد من تلاميذ، هم شهداء الأمة وأبطالها، وعلى من يتنصل منهم ومن عملياتهم أن يتنصل أولاً من انتمائه لأمته وعقيدتها وقضاياها العادلة، وألا يلوك الكلام حول النضال وشرف المقاومة المشروعة؛ وعندما يفعل ذلك لا يضير أحداً منا أن يبيعهم ويبيعه ويبيعنا ذلك الشخص ألف مرة ومرة قبل صياح الديك.‏

      دمشق في 5 / 3 / 1996‏
      الأسبوع الأدبي/ع503//7/آذار/1996‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        ماذا بعد قمة شرم الشيخ؟!
        ـ1ـ‏
        يصعب على المرء أن يستوعب بسهولة حجم انحياز الإدارة الأميركية لصالح " إسرائيل " عبر مراحل الصراع العربي الصهيوني المختلفة، وإذا كان يمكن أن يفهم المقولات الأميركية التي تحاول أن تسوغ هذا الانحياز في زمن الحرب الباردة، فليس باستطاعته أن يفهم ما تقدمه تلك الإدارة من مسوغات في أثناء " عملية السلام " التي يزعم الراعي الأميركي أنه وسيط نزيه فيها !! وربما كان منشأ الصعوبة هو تعلقنا بالوهم أو تعلقنا بالمثل، ولكن من شبه المؤكد أن العظات والمزاعم الأميركية التي نأخذها بجدية تامة هي التي تساعد على تكوين مناخ ينتشي فيه الوهم وينتعش على أرضية المثل، وأن قابليتنا لهذا النوع من الانخداع تجعلنا ندمنه على الرغم من معرفتنا به وبعواقبه الوخيمة، علينا وعلى أجيالنا وأوطاننا.‏
        فالسياسة الأميركية وأصواتها الإعلامية لا تكف عن الحديث في مواضيع تتصل بحقوق الإنسان، والممارسة الديمقراطية، و " السلام " والتعاون الدولي، وتحاول دائماً أن تقدم لنا صورة مغرية عن " عالم جديد " يسوده " نظام جديد " مع إيحاء كثيف بأن ذلك العالم سيكون أكثر عدلاً وأغزر وعوداً للبشرية، مما كان عليه أمر العالم في أثناء الحرب الباردة بمراحلها المختلفة، كما أنه سيكون أقل دموية وتكاليف !!‏
        ولكن في الوقت الذي تُعزف فيه هذه المعزوفات التبشيرية ـ على الطريقة الأميركية ـ من دون كلل أو ملل، لا يكاد يخفي أحد من الساسة والباحثين والعاملين في مجالات السياسة هناك، حقيقة أن كل ما يعارض المصالح الأميركية وكل من يعارضها سيعرض نفسه لحالة تصادم قاسية مع السياسة والقوة والإعلام والعملاء وكل أشكال الأنياب والأظافر في الدفاع عن المصالح الأميركية، التي تتربع على عرش قوائمه وزخارفه وبراقعه: المبادئ والمثل العليا والقيم التي يتم عزف ألحانها الخاصة ليلاً ونهاراً باحتفالية كبيرة، بينما تسيل الدماء من قوائم ذلك العرش، ويرتفع من حوله صوت الأنين، وتتسع بسببه دائرة المعاناة البشرية لمن يرى جيداً ولمن يريد أن يرى جيداً. ولا يجد المرء كبير عناء ليدرك بوضوح أن المبادئ والقيم والمثل المطروحة للتداول في بورصة السياسة الأميركية ما هي إلا شباك وأدوات تمويه لإغراء أسراب الطيور والإيقاع بها؛ وما هو يقين بيِّن هو أن المصالح الأميركية فوق المبادئ والناس والقيم، وأن الذرائعية منهج معتمد، وكل ما يؤدي إلى تحقيق الغايات النهائية مقبول بل مبارك ويمكن تبريره؛ وذلك كله موضوع في إطار لوحة قاسية تهيمن عليها نظرة مادية بشعة لا تبقي للروح أفقاً ولا جناحاً يخفق في سماء الله الواسعة .‏
        ولا يوجد أبداً لعبة قذرة لا يمكن ممارستها وتبرير القيام بها، من وجهة نظر البراغماتية في الإدارات الأميركية، وصولاً إلى تحقيق المزيد من الربح والنفوذ والسيطرة، ولإقصاء الخصوم والمنافسين، وتعطيل طاقة المنهوبين الفكرية والمادية والروحية وشل قدرتهم على القيام بأية مقاومة من أجل المحافظة على مصالحهم ومقومات وجودهم وحياتهم وحيوية حضورهم.‏
        ومصالح الإدارة الأميركية هي مصالح، أو بعض مصالح، حلفائها أيضاً؛ وحلفاؤها طبقات، أو هم في واقع الأمر على درجات: منهم شركاء مقربون ومعتمدون، ومنهم شركاء منافسون أو منافسون محتملون، ومنهم أدوات ومخالب تُرمى لهم بعض العظام للتلهي بها بعد إنجاز المهام الموكولة إليهم؛ ومن هؤلاء من يطلق عليهم حلفاء شكلاً ولكنهم في واقع الأمر فرائس لها هيأة الشواهين لأنه يرضيها نفسياً أن تبدو في ساحاتها كذلك، وهذا النوع يطلق عند الحاجة بعد أن يضخ في صدره وجيب القوة، فيستعمل مناقيره ومخالبه ويقبض على الصيد ويقدمه لمن أطلقه، وفي أغلب الأحيان، إن لم يكن دائماً، يصيد في مساحات أعشاشه ويفترس أحياء بيئته ويفقر تلك البيئة لصالح السيد الصاحب الحليف، ولا يعود له من جهده شيء.‏
        وتأتي " إسرائيل " في طليعة الشركاء الحلفاء الذين لهم نصيب أوفى من العائدات الأميركية التي تقوم بها سياسة، هي أقرب للقرصنة الدولية منها إلى سياسة تمد اليد بأمانة وأمان وخلق للتعاون مع الدول والشعوب، من أجل حياة أفضل في عالم يعيش الحد الأدنى من أمن من جوع وخوف.‏

        وفي إطار خدمة المصالح الذاتية ومصالح شركاء الدرجة الأولى بالنسبة لإدارة كلنتون الأميركية يتم انعقاد " مؤتمر صانعي السلام " في شرم الشيخ، وتوظف له غربان في صورة شواهين لتلتقط الفرائس؛ وهذا المؤتمر هو لخدمة " إسرائيل " تحديداً، ولتكريس رؤيتها للسلام ومشروعها العدواني الاستيطاني الذي توظف من أجله السلام، ومن المؤكد أن كل ما للصهيونية مصلحة فيه تضع الولايات المتحدة نفسها في خدمته وتزج خلفه ثقلها وتقوم بكل الضغوط الممكنة للوصول به إلى الأهداف المنشودة.‏
        إن مؤتمر شرم الشيخ يرمي بالدرجة الأولى إلى توظيف طاقة المشاركين العرب، تحت غطاء دولي ملائم، ليكونوا ضد كل أشكال المقاومة المشروعة للمحتل الصهيوني ومشروعه الاستعماري ـ الاستيطاني؛ وإذا كان للمشاركين من دول عدة رغبة حقيقية في خدمة السلام فإنهم يدخلون إلى ذلك المجال ممغنطين بالرغبة " الإسرائيلية " بإبادة من يمارسون المقاومة الوطنية المشروعة، ويتطلعون إلى تحرير أرضهم والتمسك بمشروعهم الخاص وبكرامتهم الإنسانية، وسيدور أولئك المشاركون في الفلك الذي رسم لذلك المؤتمر ليكون بصريح المطلب والعبارة والتوجه: مؤتمراً لتكريس وصم عمليات المقاومة الوطنية التي تتم ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة أو في جنوب لبنان بالإرهاب، وإلصاق الإرهاب بالإسلام، وتسخير القوى المجتمعة هناك لكي تعمل على القضاء على المقاومة ومصادرها ومنابتها ومن يتعاطف معها، ولتقر مستقبلاً، من دون استنكار، كل الممارسات والتصفيات الجسدية التي تتم بحق ذلك التيار وما ومن يتصل به؛ ولوضع من يؤكد مشروعية المقاومة ولا يوافق على وصمها بالإرهاب، في دائرة مناصرة الإرهاب ومعاداة السلام وقتله والانتماء إلى التطرف والعنف؛ والتالي محاصرته وملاحقته والضغط عليه أو محاربته ليذعن للرغبة الإسرائلوـ أميركية ـ تلك التي لا تريد رؤية رأس مرفوعة في هذه المنطقة من العالم ـ وليدخل بيت الطاعة من بابه الكبير، متخلياً عن حقوقه ومشاريعه ورؤيته السليمة للأمور وعن كرامته وحقوقه.‏
        لقد رفضت " إسرائيل " أن يكرس المؤتمر لدعم مسيرة السلام، وأرادت أن يكون مؤتمراً مكرساً لمقاومة الإرهاب، وهي لم تدخل مسارات التفاوض أصلاً وفي ذهنها السلام، بل دخلتها وفي ذهنها الحصول من العرب على اعتراف بها وبحق تاريخي لها في فلسطين، وتكليفهم بتصفية المقاومة، كل أشكال المقاومة لاحتلالها ولمشاريعها التوسعية في ظل السلام النووي الذي تفرضه وتنادي الولايات الأميركية بفرضه، تكليفهم بتصفية تلك المقاومة ـ مقاومتهم لها ـ بأيديهم.‏
        وهاهي تدعو، من خلال الإدارة الأميركية، إلى تحالف دولي جديد تحشد تحت ظله قوى الدمار والخراب والعدوان التي تملكها الولايات المتحدة الأميركية أو تستطيع تحريكها، لتفتك بمن تبقى في المنطقة من عرب ومسلمين يرفضون الانصياع للأوامر الإسرائيلية، ويعلنون تمسكهم بحقوقهم التاريخية المشروعة بأرضهم ومقدساتهم وكرامتهم. وسنرى ابتداء من هذا التاريخ، تاريخ مؤتمر شرم الشيخ 13 / 3 / 1996 / ألواناً من الممارسات العنصرية وأشكالاً من العدوان والإبادة والتنكيل بالناس وبالدول والشعوب لا عهد لنا بها في هذه المنطقة؛ وسنجد أن الأدوار التي ستسند إلى أنوع من السلوقي المدرب جيداً في هذه المنطقة تفوق قدرتنا على التوقع، وهاهي التصريحات التي أطلقت في شرم الشيخ أو في الطريق إليها تنطلق سهاماً خطاطة في الأفق تحدد ساحات المعارك المقبلة.‏
        إن هذا البلد العزيز الكريم سورية مستهدف لموقفه ورؤيته وقراره، وما يطلب إليه تنفيذه لا ينسجم مع رؤيته وتاريخه وموقعه القومي ومسيرته النضالية، وعلينا أن نتوقع ضغوطاً كثيرة، وتطورات كبيرة عليه، لا سيما بعد توظيف تركيا وبعض الأطراف العربية توظيفاً مدروساً بعناية في هذا المجال ولتحقيق هذا الغرض؛ ولكن يبدو من استقراء التاريخ القريب ومن متابعة المراحل التي مر بها القطر العربي السوري، عبر مسارات الصراع العربي الصهيوني والتدخل الأميركي الشرس والمباشر في بعض هذه المراحل، يبدو أن قدرة سورية في وحدتها الوطنية وتماسكها وتمسكها بالحق، ويبدو أن رأس سورية عزيز جداً وأكثر عزة مما يتوقع مؤتمر بيريس كلنتون، الذي قد لا ينقذهما في الانتخابات القادمة وقد لا ينقذ سلامهما الذي لا يحترم الشعوب والحقوق والعدل .‏
        فتحية لسورية وقيادتها التي رفضت الانصياع للأوامر والضغط ورفضت الالتحاق بشرم الشيخ، وبقيت على فهمها وموقفها السليمين للمقاومة المشروعة والإرهاب المدان، وتحية لها إذ تتمسك بالأرض والكرامة والقيم وتحمل شعلة العرب المنيرة في ليلهم الطويل؛ وتحية للمقاومة الوطنية في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، ولكل من يناصر الحق والحرية والكرامة واستقلال القرار وصلابة الإرادة، في عالم تريده الولايات المتحدة تابعاً وذليلاً، ومساحات مفتوحة تمارس فيها هي وحلفاؤها النهب والإفساد وإرهاب الدولة، وتسخر منظماته الدولية لخدمة أهدافها ومشاريعها الإمبريالية، والنصر والمستقبل دائماً للحق والحرية والشعوب.‏
        دمشق في 13 / 3 / 1996‏
        قراءة في قمة شرم الشيخ :‏

        ـ 2 ـ‏
        ما من شك في أن قمة شرم الشيخ قمة لخدمة الكيان الصهيوني بكل المعاني والمقاييس، وهي بداية ممارسة إمبريالية جديدة في المنطقة العربية، بأساليبها وأدواتها وتوجهاتها وتحالفاتها ووسائلها، ممارسة لنوع من الحرب والحصار والخنق يقوم به تحالف دول قوية ومتطورة بقيادة أميركية، لأداء خدمات تعود بالنفع على "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأولى، ضد دول وشعوب وحركات تحرر وتحرير تحاول أن تكون مستقلة.‏
        ويعتمد هذا النوع من الحروب على المعلوماتية المتطورة التي أصبحت تشكل أفضل أسلحة العصر وأدقها، وعلى الاستخبارات في شبكة عالمية حسنة التنسيق والتعاون، وعلى المال، والمنظمات الدولية، والقوة المسلحة؛ حرب يكون للكيان الصهيوني فيها دور قيادي مهيمن يضع قدرات الأطراف المشاركة جميعاً في خدمة مشروعه الاستعماري العنصري، ويوظف العرب الذين تراكضوا إلى شرم الشيخ بإيعاز أميركي، يضعهم تحت السيطرة التامة أكثر مما هم عليه حتى الآن، ويسخرهم لأداء استخباراتي وعملياتي متميز يجعل كل نفس يرتفع بمطلب عادل من أي نوع في القبضة الأميركية- الصهيونية.‏
        وسوف تشهد هذه المنطقة في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة حركة تصفية واسعة النطاق، وسوف تمارس "إسرائيل" خلال تلك الأشهر أبشع الممارسات وأقساها وأكثرها دموية ضد المقاومة الوطنية، سواء في فلسطين المحتلة أو في جنوب لبنان أو في مكان آخر من العالم؛ ولن تترك "إسرائيل" فرصة أو ذريعة إلا وتستغلها للقضاء على المقاومين من كل الفصائل والاتجاهات، وعلى الدول التي لا تسير في ركابها؛ لأن شرم الشيخ قدمت الغطاء الدولي المناسب للقيام بمثل هذا العمل؛ بل إنها ما عقدت في الأصل إلا لهذا الغرض.‏
        إن الحليف الجديد الذي أقيم سيوجه قواه كما وجه اتهاماته إلى بعض الدول العربية والإسلامية، ومنها بالتحديد: سورية وإيران وليبيا والسودان، لأن أميركا و"إسرائيل" تجدان هذه الدول خارج القبضة خارج مدى السيطرة. ولذلك توجه ضدها تهم تغذية "الإرهاب" وتقديم المساندة والدعم والملجأ لمن يمارسه، وتجعلانها دولاً تقف ضد مسيرة السلام وتعمل على تقويضها، وعلى ذلك تقول بحصار هذه الدول وبضرب قدراتها على استقلال القرار والإرادة، وتقوم بتهديدها لترضخ للمطالب الصهيونية والأميركية، التي تتكامل في أدائها الاستعماري والاستيطاني والعنصري.‏
        - إن سورية مستهدفة لأنها لا تقر بشروط "إسرائيل" التي تطرحها في المفاوضات الثنائية- محادثات وأي بلانتيشن- وترفض أن توقع اتفاقية إذعان كتلك التي وقعت في أوسلو ووادي عربة، كما ترفض أن تتنازل عن دورها الإقليمي ومشروعها القومي وعن مكانتها في المنطقة والوطن العربي، وتريد أن تكون للبنان مثل مالها من التحرير والحرية والإرادة، كما أنها ترفض أن تكون للمقاومة الوطنية المشروعة -فلسطينية أو لبنانية أو أية مقاومة على وجه الأرض- ضد الاحتلال وجه الإرهاب البشع، كما ترفض أن يكون دفاع الفلسطينيين، عن أرضهم ووطنهم ومقدساتهم وأنفسهم فعلاً يوصف بالإرهاب ويجرّم، لأنه بكل بساطة ووضوح فعل تحرير ومقاومة مشروعة للعدوان والاحتلال، وسورية ترفض كذلك أن تلقي الفلسطينيين الذين حرموا من وطنهم خارج حدود كل أرض ووطن لتفتك بهم الصهيونية.‏
        وبسبب من هذه المواقف توضع سورية في مركز دائرة الضغط والتصويب، وتدعى تركيا لتشكل مع "إسرائيل" والأردن طوقاً ضاغطاً يجعلها في حالتي حصار وعزلة، ويوجه إليها، من خلال ذلك التهديد والحصار، إنذاراً لترضخ لشروط السلام النووي، "الإسرائيلي" أو لتواجه نتائج رفضها؛ وفي الأشهر الثلاث القادمة؛ عندما يستكمل الحلف استعداداته، لا سيما في الأردن، سنرى من هذا الشقيق العجيب عجباً، بعد أن أخذ يسابق "إسرائيل" على توجيه تهم الإرهاب إلى سورية، ويستفز الآخرين ضدها.‏
        ولن يكون الجار التركي أقل تطرفاً وغطرسة فهو يقدم للعدو الصهيوني كل المغريات ليرفض الأخير أية مفاوضات مع سورية، لأن لتركيا حساباتها ولأنها تصر على توجيه اتهاماتها لسورية بتغذية عبد الله أوجلان على الرغم من نفي سورية المستمر لهذا الأمر.‏
        - وإيران لا تقر بأن ما تم التوصل إليه من اتفاقيات -وادي عربة وأوسلو- تبقي القدس بيد الصهاينة، وهو مما تجب مباركته؛ وهي تختار نظام حكم لا يرضي الولايات المتحدة الأميركية، وتحاول أن تمتلك سلاحاً تدافع به عن نفسها وعقيدتها واختياراتها، وقد أخرجت الثورة فيها ذلك البلد من قبضة الـ c.i. A والسافاك، ومن دائرة التبعية للغرب، وأغلقت سفارة "إسرائيل" في طهران وفتحت في مكانها سفارة لفلسطين -وربما كان هذا الأمر لا يعجب عرفات الذي يريد رأس تلك الثورة الآن ويستعدي عليها الآخرين ويتهددها من شرم الشيخ- وتحركت الثورة بإيران في اتجاه مغاير لما كان عليه الاتجاه زمن الشاه، وكل هذا لم يُرضِ الولايات المتحدة و"إسرائيل"؛ كما قدمت إيران دعماً ومساندة لمن يعانون من الاحتلال والفقر والممارسات العدوانية الإسرائيلية في جنوب لبنان، فأصبح كل ما تقوم به موضع اتهام، وقبل أن تحصل على سلاح متطور أو تصل إلى امتلاك القدرة على إنتاجه، يراد حصارها وتوجيه ضربة موجعة لها، ويبدو أنها في رأس قائمة المستهدفين، كما يستشف من قراءة هوامش قمة شرم الشيخ.‏
        - أمّا ليبيا فما زالت وستبقى تسدد فواتير مناهضتها للسياسة الأميركية في المنطقة، ورفضها لكل ما يتعلق بعملية السلام؛ ويبدو أن المطلوب من قبل الحلف الجديد هو مضاعفة أزماتها ومعاناة شعبها، الذي ذاق الأمرين جرَّاء الحصار الظالم المستمر منذ سنوات، وخلق مشكلات جديدة لها تزيدها عزلة ومعاناة.‏
        - والسودان هو الآخر على قائمة المتهمين المطلوبين في المؤتمر العتيد؛ الذي يكرس "زعامات مطلقة للعالم العربي" على حساب العرب وحقوقهم ووجودهم وقضاياهم؛ وكأنهم لم يقدموا ما يكفي بعد من دفع تكاليف الزعامات المطلقة؟؟ السودان على القائمة لأنه لا يسمح بتقسيم أرضه، ولا يترك قارنق وبقية المنشقين الذين يؤيدهم الغرب يقيمون دولة على حساب الدولة تلتحق بالغرب وتؤدي وظائف ضد العروبة والإسلام، وضد كل أشكال الوجود والتواصل العربي مع إفريقيا، لتبقى ذراع "إسرائيل" طليقة تماماً هناك، وليتم فصل إفريقيا العربية في شمال القارة عن وسطها؛ كما يدفع السودان ثمن اختيار نظامه وتوجهه الثقافي والديني، فمن غير المسموح به للدول، فيما يبدو، أن تختار إلا ما تسمح باختياره والولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" من عقائد وثقافات وأنظمة حكم وصلات وعلاقات وتبادل مصالح.‏
        ومن هذا كله نجد أن قمة شرم الشيخ تعلن حرباً على الحرية والتحرير وكل مقاومة وطنية مشروعة للاحتلال، تحت شعار "صنع السلام" ومحاربة الإرهاب، وتعلن الحرب على كل من لا ترضى "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية عن سلوكه واختياراته، من أفراد وجماعات ودول، وتسمح للإدارة الأميركية بأن تمارس دورها بوصفها شرطياً للعالم بتفويض من المؤتمر، مستخدمة القدرة المعلوماتية والاستخباراتية للدول، وهي تعلن انحيازها الكامل للعدوان وكأنه انحياز للحق، وتجد من يضربون الدفوف في موكبها ويشهرون خناجرهم وحناجرهم لخوض معاركها ومعارك حليفها الصهيوني ضد أبناء أمتهم وضد مصالح تلك الأمة.‏
        لقد بدأت "إسرائيل" بتنفيذ برنامج الإبادة المنظم ضد قوى المقاومة الوطنية الفلسطينية في فلسطين المحتلة، وهي تمارس التطهير العرقي بتدرج مدروس في ظل قرارات المؤتمر ومباركاته، من دون ضجيج إعلامي، يساعدها على تنفيذ المهمة عرفات وقواته التي تنفذ الأوامر التي تتلقاها من المحتل العنصري بكل صراحة ودقة وفخر، وتطالب بمزيد من المعلومات والأوامر للقيام بعملياتها ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذين يرفضون أوسلو، لأنهم ضد السلام، فقد أصبحت أوسلو هي السلام؟؟ وهذا هو منطق شرم الشيخ الذي يريد أن يقدم الاستسلام على أنه السلام، والمقاومة على أنها الإرهاب، والدفاع عن النفس على أنه جريمة؟؟‏
        إنه منطق الاستعمار والعنصرية، ومنطق من يرون أن الديمقراطية هي أن يفوزوا في الانتخابات حتى لو قدموا الآخرين ضحايا على مذابح أنانيتهم، وشوهوا كل المفاهيم والقضايا والشرائع والعقائد والضمائر؟؟...‏
        وهكذا ينجح مؤتمر شرم الشيخ في أن يقدم لنا الإرهابي العريق شمعون بيريس على أنه ضحية للإرهاب، وزعيم الإمبريالية العالمية الذي يمارس إرهاب الدولة المنظم ويحقق له غطاء دولياً، على أنه صانع سلام؛ ويجعل من تآمر دولي على قبضة شعب ونضاله وكفاحه المشروع ضد الاحتلال تحالفاً مقدساً من أجل السلام؟؟ والأدهى من ذلك أن ينجح المنطق العنصري الصهيوني الاستعماري في تقديم نفسه على أنه المنطق المقبول والمستضعف والمحتاج إلى دعم العالم وتحالفه معه، كما ينجح في أن يجر معظم أهل القضية ليكونوا في موكبه "مطيّباتية" لفعله وهو يهدم البيوت ويقتل الأجنة في الأرحام، ذاكراً شابين من عنصرييه قتلا على أنهما صورة الإنسانية المعذبة، متناسياً آلاف الشباب الذين قتلهم شبابه العنصريون، وغير مكترث بأطفال مازال العمر أمامهم ماتوا على المعابر الصهيونية، إريتز وكارني بين غزة وبقية فلسطين المحتلة، بانتظار أن يسمح العسكر المحتل لهم ولأهلهم بالدخول إلى أرضهم.‏
        إن قمة شرم الشيخ تحدث تبدلاً كبيراً، سياسياً وأمنياً واجتماعياً، في المنطقة؛ كما تقدم صيغة جديدة لاستخدام العلاقات الدولية والمنظمات الدولية مظلات لتحقيق برامج ومخططات استعمارية، ولفرض هيمنة قوى عنصرية على شعوب، ولشن حروب عصرية على عقائد وثقافات واختيارات أمم وشعوب لا ترضي أنظمة وحكاماً ودوائر استعمارية وثقافات استعمارية تمارس غزواً ضد الآخرين.‏
        وستكشف الأيام أنه أخطر المؤتمرات ضد حقوق الإنسان وحركات التحرر وحرية الاعتقاد وحرية التعبير والحريات العامة للمواطن، وأنه مفتاح التدخل المباشر للقوى الاستعمارية في الشؤون الداخلية للدول والشعوب؛ إنه مؤتمر يرسخ العدوان ويفتح الطريق أمامه ليمارس ما يشاء من تصفيات تحت مظلة دولية ومباركة أخلاقية تشوه كل صورة حقيقية للأخلاق وللتقدم وللعصر.‏

        دمشق في 19/3/1996‏
        الأسبوع الأدبي/ع504//14/3/1996‏
        الأسبوع الأدبي/ع505//21/3/1996‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          قراءة في تصريح كلنتون
          في مؤتمره الصحفي مع الرئيس الهراوي يوم 24 نيسان الماضي، قال الرئيس كلنتون: "فور علمي بوقوع القتال أعطيت توجيهاتي لوزير الخارجية كي يحاول فوراً وقف ذلك القتال وحماية أرواح المدنيين المعنيين، لقد فعلت ذلك فور علمي بالأمر".‏
          وقد استوقفتني العبارة الأخيرة أكثر من سواها بشكل خاص، كما استوقفتني إجابة الرئيس كلها بشكل عام، ذلك أن وزير خارجيته كريستوفر صرح في مؤتمره الصحفي مع وزيرة الخارجية الإيطالية سوزانا أنييللي في واشنطن يوم 11نيسان، أي يوم بدأ العدوان "الإسرائيلي" على جنوب لبنان، بـ "إنه على الأطراف أن تدرك أنه لكي يتم حل هذه المشكلة ينبغي وقف هجمات الكاتيوشا، وأعتقد أن جميع الأطراف تدرك وجهة نظرنا هذه. "فقد كان الوزير على علم بالأمر من جهة، وثابت الموقف من العملية التي ينبغي أن تستمر إلى أن تحقق أهدافها من جهة أخرى، وهو يحمل من يطلقون صواريخ الكاتيوشا مسؤوليتها ونتائجها.‏
          -واستمر هذا الموقف الأميركي حتى بعد قصف " إسرائيل " "لسيارة الإسعاف وقتل الأطفال فيها، وبعد قصف النبطية الفوقا وقتل أحد عشر شخصاً بينهم أسرة بكاملها ولها طفل، بين القتلى، في اليوم الرابع من العمر؛ وعبر عن ذاك الموقف بوضوح غلين ديفس الذي قال في المؤتمر الصحفي لوزارة الخارجية الأميركية يوم 15 نيسان: "إن العنف سبب هجمات حزب الله على شمال إسرائيل، ينبغي وقف هذه الهجمات لكي يتوقف العنف، وهذا هو ما نركز عليه جهودنا الآن. "وفي اليوم ذاته، وبينما كانت الجهود منصبة على عقد جلسة لمجلس الأمن "الدولي" لمناقشة الوضع، حاولت الولايات المتحدة الأميركية، بكل الوسائل، منع انعقاد المجلس، ومنع إجراء مناقشة حول الوضع المتردي في لبنان، وقال مسؤول أميركي للصحفيين: "إن مجلس الأمن بصفة عامة ليس المكان الصحيح لحل مشاكل الشرق الأوسط، وتنحو مناقشات من هذا القبيل إلى توليد مناقشة حول الأسباب الجذرية للنزاع. "ومن الواضح أن هدف الإدارة الأميركية لم يكن وقف العدوان وإنما إعطاء الوقت الكافي لـ "إسرائيل" لتنفذ أهدافه المتفق عليها مع الإدارة الأميركية اتفاقاً تاماً وشاملاً بعد قمة شرم الشيخ؛ وقد عبرت عن ذلك بجلاء مادلين أولبرايت حين قالت أمام مجلس الأمن، الذي ناقش موضوع العدوان يوم 15 نيسان: "على أولئك الذين يسمحون لمسلحي حزب الله بالعمل في لبنان من دون أن ينالهم عقاب أن يتحملوا المسؤولية والعواقب."؛ إذن هناك تصميم على خلق مشكلة كبيرة، وإنزال كارثة قاسية تؤدي إلى عواقب وخيمة يتحمل مسؤوليتها ونتائجها" الذين يسمحون لمسلحي حزب الله بالعمل في لبنان"، ومن هم أولئك يا ترى؟! وما هي حدود الكارثة المتفق على إلحاقها بهم؟؟ وما هي النتائج المرجوة أميركياً وإسرائيلياً من وراء ذلك؟؟ من الواضح أن المستهدف هو سورية من خلال لبنان، والعلاقة اللبنانية السورية، وخلق أزمة عارمة من خلال القتل والتهجير والتدمير، يضخمها الإعلام والعملاء؛ وتكبل الحكومة اللبنانية، وسيؤدي ذلك -حسب المخطط- إلى القضاء على المقاومة، وإحداث شرخ عميق في الشارع اللبناني، وفصل المسار السوري عن المسار اللبناني في المفاوضات، وفرض سلام "إسرائيلي" على لبنان، وتحشيد "عرب" مثل الملك حسين ليوقفوا العدوان باتفاق أميركي- إسرائيلي ويتقدموا الصفوف منقذين، ليقدموا فرصة "للبنان" شبيهة بـ "فرصة" عرفات والملك حسين، ظهر ذلك من خلال تنسيق الكباريتي مع بيريس، وتصريحات أردنية ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه كل التواطؤ والعذاب- وليتحقق بذلك كله عزل سورية والاستفراد بها، وتحميلها مسؤولية ما حدث، وإجبارها على الركوع، وقتل مشروعها القومي وبعدها القومي، وإفقادها كل مصداقية في الداخل والخارج.‏
          ومن المعروف أن النتائج كانت عكس ما رسم أولئك وخططوا، إلا فيما يتعلق بالكارثة فقد ألحقوها بالمدنيين وبالعمران في لبنان، ولكن روح الشعب هناك كانت أقوى بكثير من الكارثة فلم تتحقق النتائج المتوقعة، بل أدى ذلك إلى إذكاء روح شعبية وتماسك وطني عز نظيره من قبل في لبنان خلال العقدين الماضيين، ولاسيما في صفوف الشباب.‏
          ومنعت الإدارة الأميركية مجلس الأمن، باسم الفيتو والتهديد باستخدامه، من اتخاذ قرار في الجلسة 2635 تاريخ 15 نيسان، واكتفى رئيس الجلسة بتلخيص المناقشات، وتباهى ممثل الكيان الصهيوني جاد يعقوبي لدى "مجلس أولبرايت" الأميركي، بأنه "حان وقت قيامنا باتخاذ إجراء".‏
          وكانت الإدارة الأميركية في كل تلك الأيام، التي استمرت فيها الفظائع "الإسرائيلية" في جنوب لبنان، تعكف على وضع مشروع الاتفاق الذي يعيد ترتيب الأوضاع في المنطقة بعد أن يحقق العدوان أهدافه، ولم تشأ أبداً أن تكشف عن شيء من ذلك واكتفت بالحديث عن اتفاق؛ وعندما اتضح للعسكريين الصهاينة؛ الذين كانوا يتحدثون في البداية عن عملية تدوم أسبوعاً بعد الأيام الأولى من العدوان، أن أهدافه لن تتحقق بهذه السرعة، أخذوا الحديث عن تمديد العملية المشؤومة "عناقيد الحقد العنصري" إلى أكثر من أسبوع.‏
          في الثامن عشر من نيسان، وفي لحظة وصوله من طوكيو إلى موسكو، دعا الرئيس الأميركي بوضوح لوقف إطلاق النار فوراً، وذلك لأول مرة منذ بداية العدوان، أي بعد أسبوع من بدايته، وتم هذا تحت تأثير مباشر من وقع مذبحة "قانا" المروعة على الرأي العام العالمي، وما بدأت تلحقه من ضرر بسمعة "إسرائيل" وبمصالح بيريس وكلينتون الانتخابية؛ وجاء في تصريحه: ".....تبين أحداث اليوم بصورة مؤلمة أهمية إنهاء العنف الجاري حالياً في لبنان، ولكي يتحقق هذا الهدف أناشد الأطراف جميعها أن توافق على وقف فوري لإطلاق النار.‏
          قبل أن أغادر طوكيو وجهت تعليماتي إلى وزير الخارجية كريستوفر بأن يتجه إلى الشرق الأوسط للعمل على سلسلة من التفاهمات التي من شأنها أن تؤدي إلى نهاية دائمة لهذه الأزمة. وسيتجه المنسق الخاص لعملية سلام الشرق الأوسط دنيس روس إلى المنطقة قبل كريستوفر لبدء هذه العملية"‏
          وفي اليوم ذاته اتخذ مجلس الأمن "الدولي" قراراً يطالب فيه بوقف إطلاق النار، ولكنه لم يدن العدوان الإسرائيلي، ولا مذبحة "قانا" المتعمدة ضد المدنيين، تلك التي راح ضحيتها أكثر من مئة بريء احتموا بالأمم المتحدة، احتماء أهل غوراجدة وسربرنيتسا بها؛ وكان سبب عدم صدور الإدانة هو تهديد الولايات المتحدة الأميركية باستخدام حق النقض "الفيتو".‏
          وبعد هذه المراجعة السريعة لبعض الوقائع، بدا لي أن أذهب، في ضوء كلمات الرئيس كلينتون، إلى تساؤل لا أعرف له وصفاً دقيقاً، ولكنه مبنى على إجابة الرئيس كلنتون في واشنطن على سؤال الصحافة، تلك التي أشرت إليها في بداية الكلام، وهو تساؤل يقول: هل يمكن ألا تصل أخبار القتال في لبنان إلى رئيس أعظم دولة في العالم تملك أكبر قدرة معلوماتية معاصرة، إلا بعد أسبوع تقريباً؟! أم أن المعلومات حجبت عن الرئيس يا ترى؟! أم أن طريق آسيا طويل تضيع فيه الأخبار؟! أم أن هواتف طائرة الرئاسة، والأقمار المنتشرة في الفضاء المحيط برحلتها تعرضت لتشويش مقصود، ربما كان مصدره معمر القذافي الذي يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي؟!؟ أم أن أحداً من المعنيين بالأمر لم يشأ أن يزعج الرئيس بأخبار تافهة كقتل العرب وتدمير جنوب لبنان، حتى أتت حادثة قصف موقع القوات الفيجية العاملة في الأمم المتحدة في "قانا"، وهو موضوع لا يليق بالراعي الدولي تجاهله؟؟!...‏
          ولا أخفي أنني ملت إلى التفكير بأن الرئيس الأميركي كان يعلم بالقتال قبل وقوعه، ولحظة وقوعه، وأنه لم يكن دقيقاً بما فيه الكفاية حينما قدم إجابته التي أشرت إليها؛ ولكنني استدركت فوراً بأن هذا لا يجوز أن يخطر لي على بال، ولا يجوز أن يكون موضع تفكير مني، على الرغم من أنه لا توجد جريمة تسمى "جريمة تفكير؛ وتركت -وأترك- تحديد وتوصيف وتسمية فعل الرئيس كلنتون لمن يقدرون على تسميته ويرغبون في ذلك؛ حتى لا أتعرض لتهمة الإرهاب، لا سيما أنني من دولة تصنفها الولايات المتحدة الأميركية مع الدول التي ترعى الإرهاب، وعندما يحدث ذلك من يحميني من غضب المدافعين عن العدالة والسلام وحقوق الإنسان وقيم المجتمع الدولي والصهيونية العالمية وصنائعها الظاهرين والمخفيين، الذين يكون بطرهم وطربهم بما تضحك به عليهم أكثر مما يخطر على بال أحد من عباد الله الأسوياء؛ وفي حكم المؤكد أنه لن يسمع بي الرئيس الأميركي "لينصفني"، ولا أحد ممن تعنيهم حقوق الإنسان؛ ذلك لأن هذا الصنف من "الإنسان" الذي يمت إلى دول ومجتمعات ترفض الانصياع للأمر الصهيوني- الأميركي اليومي الذي تجسده "إسرائيل" ويكرسه احتلالها لبلاد عربية، وترعاه الإدارة الأميركية وتنفق عليه، لا يؤبه به ولا بألمه ولا بمصيره ولا بتفكيره.‏
          قد تتضح الرؤية الأميركية والمواقف الأميركية من العدوان على لبنان بشكل أفضل بالنظر إليها من موقعين أو حدثين هامين:‏
          - الأول خطاب وليم بيري في 23 نيسان- في أثناء العدوان وبعد مذبحة قانا - أمام جمعية الشبيبة اليهودية/ بناي بريت/ في واشنطن، الذي أكد فيه: "أن تفوق " إسرائيل " العسكري اليوم هو أقوى مما كان في أي وقت مضى" و"وأن الولايات المتحدة وإسرائيل تطوران معاً أنظمة مثل النظام المضاد للصواريخ /آرو/ Arrow Anti J Tactical Missile System وأشعة ليزر ذات الطاقة الفائقة التي تستطيع تحطيم الصواريخ وهي في الجو"، ولم يترك بيري مجالاً لأي شك في استعداد واشنطن لاستخدام القوة الساحقة للدفاع عن مصالحها وعن "إسرائيل"؛ وأكد أنه يتطلع بحماسة إلى استقبال بيريس لتوقيع اتفاقيات نوعية معه، وكان بيريس في ذلك الوقت غارقاً في الدم الساخن المتدفق من أطفال "قانا" و"النبطية" و"الفوقا".‏
          - الثاني متمم للأول ومتوج له، وهو استقبال الرئيس الأميركي لشمعون بيريس في واشنطن، وتوقيع الاتفاقيات الاستراتيجية معه، وتقديم عون مالي ومساعدات بملايين الدولارات لتطوير الأسلحة ولتغطية نفقات العدوان، ولتمكين بيريس من الاستمرار في سياسته التي تم تطويبها والاتفاق عليها في قمة شرم الشيخ وما تلاها، ولتعزيز موقفه في الانتخابات القادمة. لقد انتهت المرحلة الحالية من مراحل العدوان، في مخطط ما بعد قمة شرم الشيخ، ولم تحقق نتائجها، ولكن المخطط لم ينته ولم يتوقف، بل على العكس، سيزداد المسؤولون عن تنفيذه شراسة؛ وستقوم أطراف عربية بأدوار بشعة لتنفيذ بعض مراحله، وأرى النظام في الأردن مرشحاً للعب دور رئيس يعوض ما كان فقده من فرص في العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ إن دوره في موضوع تفتيت العراق أو إلحاقه بالركب المتصهين لم ينته، وإن كانت الظروف تقتضي إرجاء التنفيذ لبعض الوقت!! فهل ينجح تنفيذ مراحل مخطط ما بعد قمة شرم الشيخ أم يلاقي الفشل؟؟ إن ذلك منوط باللاعبين، وبالظروف العربية المتغيرة إلى الأفضل نسبياً بعد العدوان الإسرائيلي- الأميركي الأخير على الجنوب، وبدور قومي نشط تلعبه سورية بفطنة وحذر وتصميم.‏
          إن الأحداث الأخيرة لم تترك مجالاً للشك في نوايا الأميركيين نحو المنتمين العرب إلى أمتهم وقضيتهم وعقيدتهم، ولم تترك ذريعة لمن يرون في أميركا وسيطاً نزيهاً في المفاوضات العربية-الإسرائيلية، وكشفت عن سعي أميركي خبيث لتحميل سورية مسؤولية تعطيل مسيرة "السلام" لتوجيه لطمة لها، كما ظهرت أهداف إدارة كلينتون وممارساتها التي تبيت حقداً وتمييزاً عنصرياً ضد العرب، مع شطارة في قلب الأمور وخلطها خلطاً فظيعاً وشنيعاً.‏
          لقد عارضت الولايات المتحدة، في مجلس الأمن، مشروع قرار عربي يدين "إسرائيل" ومنعت اتخاذه بحجة أنه "منحاز"؟؟!! منحاز لمن؟! منحاز للبنانيين الذين ذُبحوا وشُردوا وهُدمت بيوتهم وخُربت بلادهم، ومنحاز لأنه لم يأخذ بالمنطق الأميركي الأعرج الذي يريد أن يرى في المقاومة الوطنية اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، مجموعة من الإرهابيين الذين "لجؤوا" إلى جنوب لبنان؟؟ وكأن أهل الجنوب الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني ليسوا لبنانيين، وإنما هم إرهابيون لجؤوا إلى الجنوب؟! إنهم غرباء -بنظر المتصهينين- لأنهم مقاومون، وإنهم إرهابيون لأنهم يريدون وطنهم حراً وخالياً من الوجود الصهيوني، وهم غرباء وإرهابيون ويستحقون الإبادة لأنهم يرفضون دخول عصر الذل الأميركي- الإسرائيلي، ويقولون بهوية وعقيدة وشخصية ونضال وسلوك مغاير لمن اختاروا سلام الاستسلام؟! من أين أتى هؤلاء ومن الذين يسمحون لهم بالعمل من دون عقاب. ولماذا يبقون حيث هم يقاومون، فهذا منطق لا يستقيم؟؟ فعلاً إنه منطق لا يستقيم عند من لا يعرفون المنطق الصهيوني- التلمودي وأتباعه، ذلك الذي يصدر عن نظرة عنصرية بغيضة ترى في الآخرين "الغوييم"، خدماً أنجاساً خلقوا لخدمة اليهودي، وكل أرض يملكونها أو يعيشون فيها، هي بحكم الوديعة لديهم، لأنها أرض اليهود، الذين يحق لهم استعادتها منهم متى شاؤوا، لأنهم إنما استخدموا فيها، فضلاً عن أنهم العنصر الأدنى التابع، أو الذي ينبغي أن يكون تابعاً، لمن يسميهم البابا، الأخوة العظماء، أو الكبار؛ وكأن من يحتل " إسرائيل " والولايات المتحدة الأميركية أرضه يصغر إلى الحد الذي لا يجوز له معه أن يشعر بالكرامة والانتماء للإنسانية التي منها الكبار فقط، وبالتالي لا يجوز له أن يقاوم هذا الاحتلال أو أولئك العظماء.؟؟ وإن فعل يصبح خارجاً على القانون؛ والدول التي تتفهم قضية هؤلاء وتتعاطف مع نضالهم أو يخرجون منها وينتمون إليها ويحملون شرف مواطنيتها، وترى في ما يفعلون حقاً مشروعاً، هي دول خارجة على القانون، تجب ملاحقتها ومحاصرتها وسحقها باسم مقاومة الإرهاب.‏
          فهل ترانا نستسلم كلياً إلى هذا المفهوم العنصري، وهذه المعايير الفاسدة في العصر الأميركي- الصهيوني، أم ندافع عن وجودنا وقيمنا وأنفسنا، متصدين بكل ما نملك لعجلة الإرهاب الهمجية التي ترعاها وتمولها وتقودها الولايات المتحدة الأميركية راعية الإرهاب الدولي وصنيعتها وحليفتها "إسرائيل"؟! إننا مدعوون بكل جدية وقوة وجدارة لمواجهة هذا السؤال والرد عليه والإعداد لاستحقاقاته.‏
          دمشق في 6/5/1996‏
          الأسبوع الأدبي/ع511//9/آيار/1996‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            المقاومة حق مشروع
            أخفق عدوان بيريس - كلينتون، أو بالأحرى عدوان أهل قمة الإرهاب في شرم الشيخ، على جنوب لبنان في تحقيق أهدافه:‏
            - فحزب الله لم يخسر شيئاً يذكر، وقد استأنف عملياته ضد قوات الاحتلال، من دون أن يشكل ذلك خرقاً هذه المرة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تم يوم /السبت 27 نيسان الساعة الرابعة صباحاً/.‏
            - ولم تحدث فتنة في لبنان جراء التهجير الكبير لأهل الجنوب، وتدمير بنى تحتية فيه، اقتصادية وخدمية؛ وخرج الشعب اللبناني من المحنة القاسية أكثر تماسكاً وأكثر رغبة في تحدي العدو الصهيوني، بل إن تلك المحنة هيأت له فرصة أن يكتشف قدرته على التماسك والصمود واتخاذ المبادرات الاجتماعية الخلاقة في قلب المحنة، لمواجهتها، وإحباط الفتنة.‏
            - لم ينفصل المساران التفاوضيان السوري واللبناني أحدهما عن الآخر، ولم يدخل الشك أو الوهن تلك العلاقة، بل على العكس من ذلك فقد ازدادت قوة ومتانة ووضوحاً وقدرة على رؤية دورها وتأثيرها على الصُعد المحلية والعربية والإقليمية، وتعزز تنسيق المواقف والتعاون بين البلدين الشقيقين.‏
            - لم تجر سورية إلى حرب تفرض "إسرائيل" زمانها ومكانها وظروفها، ولم يجبر العدوان لبنان وسورية على استئناف المفاوضات تحت ضغط القوة والظروف التي خلقها، ولم تجلبهما القوتان المعتديتان -"إسرائيل"- والولايات المتحدة الأميركية- قسراً إلى طاولة المفاوضات، في التوقيت الإسرائيلي الذي يخدم أهدافاً سياسية وانتخابية لكل من الشريكين في العدوان.‏
            - ولم تُعمَّق عزلة سورية عربياً وإقليمياً، كما هو مخطط لذلك، بل حدث العكس تماماً؛ فقد أدارت الأطراف المهتمة بالمفاوضات وجهها إلى سورية بعد أن كانت قد أعطتها ظهرها بعد قمة شرم الشيخ، وأتيح لسورية أن ترد على موقف "إسرائيل" التي أوقفت المفاوضات في "واي بلانتيشن" بعد عمليات حماس والجهاد الإسلامي في القدس وعسقلان وتل أبيب، بأن رفضت عرضاً "إسرائيلياً- أميركياً باستئناف تلك المفاوضات قبل الانتخابات "الإسرائيلية التي ستجري في 29 أيار الجاري، وهو ما قدمه كريستوفر في أثناء رحلاته المكوكية بين دمشق والقدس من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وما رفضه الرئيس الأسد، كما أتيح لدمشق أن تكون مركز استقطاب للسياسة الدولية في تلك الظروف، فقد اجتمع فيها وفي يوم واحد خمسة وزراء خارجية يمثلون الثقل الدولي كله في العالم تقريباً. وبعد أن خطط لتكون دمشق، بعد قمة شرم الشيخ، أرض الهجران السياسي الدولي، أصبحت أخصب تلك الأرض؛ وأكد كريستوفر بمرارة، كما أكد سواه، أنه لا يمكن مجاوزة دور دمشق في سلم هذه المنطقة وحربها.‏
            - ولم يقض العدوان على حزب الله، ولا على شعبيته بين الناس في الجنوب، ولم يجبره على هجر ساحة الجنوب، كما فعل عدوان 1982 بمنظمة التحرير الفلسطينية؛ بل على العكس مكنه من الترسُخ هناك سياسياً وعملياتياً وشعبياً، وجعله يظهر جدارته بالدفاع عن المدنيين، وقدرته على إحداث تهديد موازٍ للتهديد الذي يتعرضون له، وبالتالي من إجبار "إسرائيل" على التفكير ألف مرة بما يلحق بالمستعمرين والمستعمرات الموجودة في شمال فلسطين المحتلة من ضرر، قبل أن تُقدم على تهديد المدنيين في جنوب لبنان؛ وإجبارها على الإعلان، مداورة أو مباشرة، بأنها تطلب وقف إطلاق النار.‏
            - لم يؤدِ إلى إعطاء زخم لأداء مجموعات العمل وبرامجه المنبثقة عن قمة الإرهاب في شرم الشيخ، وعطل بعض اجتماعاتها وفعالياتها، لا سيما مؤتمر لكسمبورغ، وترك قول بيليترو الذي دافع عن القمة قائلاً: "إنني أعتقد أن الاندفاع والحماسة اللذين نجما عن قمة شرم الشيخ لا يزالان موجودين ولا يزالان موضع تركيز من قبل الأطراف"؛ تركه خواء لا ينطوي على مصداقية من أي نوع. وقد جعل العدوان بعض المشاركين في تلك القمة يتوارون عن الأنظار، ويودون لو أن شعوبهم لا ترى وجوههم، بعد أن قدموا أنفسهم لها زعماء وإنسانيين من الدرجة الأولى، وقادة لمسيرة ترفع عن الأبرياء جرائر "الإرهاب"؛ وذلك بعد أن اكتشفوا أنهم مجرد أدوات، وأنهم زجوا تماماً في عمليات إرهابية فردية من نوعها تمارسها الدولتان اللتان تواطأتا معاً على تلك القمة وأهلها وجرتا المشاركين فيها إلى ساحة المسؤولية وعن جريمة بحق الإنسانية، وهي جريمة "قانا" تلك القائمة فعلاً رغم تنكر أولئك الذين قاموا بها أو شاركوا بصمتهم وتشجيعهم فيها، والذين أداروا ظهورهم لما نتج عنها وتغاضوا عن مرتكبيها ونتائجها.‏
            - لم يؤد العدوان إلى رفع أسهم بيريس وحزبه، وبالتالي: كلنتون وحزبه، في الانتخابات المقبلة في كل من فلسطين المحتلة والولايات المتحدة الأميركية هذا العام، بل أدى إلى انخفاض تلك الأسهم في الساحتين، ربما لصالح من هم أسوأ ولكن النتيجة لم تأتِ لصالح من نفذوا العدوان ليحققوا أهدافاً معينة من ورائه، وجعل ذلك العرب الذين يهمهم العم بيريس يتراكضون إلى "قمم" تدعم موقف حليفهم- حاميهم؛ فقد دعا الملك حسين بعد توقف العدوان الصهيوني على الجنوب، وقبل أن تجف دماء ضحايا مذبحة "قانا"، التي ارتكبها بيريس، دعا إلى قمة تعقد في القاهرة ويحضرها بيريس دعماً لموقفه الانتخابي وتغطية على كل ما حدث، وعطلت مصر هذا الاقتراح لأنها لم تستنسبه؛ والمؤسف غاية الأسف أن البيان الذي صدر عن القمة الأخيرة/ قمة حسين مبارك عرفات في مصر 12 أيار 1996/ تجنب كلياً أية إشارة إلى تحميل "إسرائيل" أية مسؤولية عن عدوانها على جنوب لبنان، كما تجنب إدانتها على ارتكابها لمجزرة "قانا": ولا يقل هذا عن فضيحة على المستويين القومي والخُلُقي؛ لا سيما إذا لاحظنا أن البيان أكد في الوقت ذاته على التصدي لمن يسميهم أعداء السلام، وهم رجال المقاومة في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان حسب التسمية الصهيونية - الأميركية لهم!؟!.....‏
            - لم يتوصل مدبرو العدوان على الجنوب إلى إلحاق الهزيمة أو الأذى بالسياسة السورية ولا إلى إضعاف موقفها، داخلياً ولبنانياً وعربياً، فقد تفهم الجميع موقفها وقدر الجميع قدرتها على إدارة الصراع في وقت المحنة، على الرغم من قسوة الظروف وقوة اللاعبين.‏
            ولأن العدوان لم يحقق أهدافه، وغرق في دم الأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين اللبنانيين؛ فقد أخذ ينعكس سلبياً على الذين خططوا له ومارسوه، وتجلى ذلك أكثر ما تجلى في فضح موقف "إسرائيل" دولياً، وفي ما لحق بمواقف الولايات المتحدة، التي كانت أشد المتواطئين تشنجاً وحقداً وغباء سياسياً، فقد وضعها موقفها من العدوان، ومن مذبحة "قانا" بالذات، ومن مناقشات مجلس الأمن حول الموضوعين، وموقفها في الأمم المتحدة من القضية ككل، وموقفها من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول القصف المتعمد لموقع القوات الفيجية الذي احتمى به المدنيون من القصف الوحشي الصهيوني، وضعها كل ذلك في موقع مخجل لمن يراعي العدل والموضوعية في النزاعات الدولية.‏
            ولمن يدافع عن حقوق الإنسان من دون تمييز عنصري يتحكم برؤيته وبمعاييره، ولمن يزعم أنه يرعى مفاوضات للسلام على المستوى الدولي، ويقوم بوساطة نزيهة بين الأطراف المعنية بتلك المفاوضات؟! ولكن إدارة كلينتون لا يخجلها ذلك ولا يعنيها فعلاً، وإنما الذي يعنيها جيداً فيما يبدو أن تظهر التزامها بمصلحة "إسرائيل" وأن تساعد شمعون بيريس على ممارسة طبيعته العنصرية وإرواء نهمه للدم العربي، بأمان من التجريم والعقاب، كما تناصره في معركته الانتخابية، التي هي معركة كلنتون الانتخابية في نهاية المطاف؛ ولا يعنيها في شيء أن يقتل مزيد من العرب لأن ذلك - حسب النظرة العنصرية الصهيونية التلمودية- يعني التخلص من الحشرات والكائنات المؤذية.‏
            لم يحقق العدوان الهمجي الصهيوني على جنوب لبنان أهدافه، وأكد الطبيعة العنصرية للصهيونية، والإفلاس الخُلُقي والبؤس الروحي التامين لمن يزعمون أنهم يتمسكون بسلام عادل ودائم مع العرب ويدعون إليه، لأنه لم يؤكد إلا حقيقة مشروعهم التوسعي العدواني الذي يفرض مراحله على العرب باسم السلام، وبشائر النظام العالمي الجديد، والشرق الأوسط الجديد. وتقودنا هذه النتائج التي أسفر عنها العدوان، والروح الذي رافقه، والمواقف التي عبر عنها، والسياسات التي أنتجها، يقودنا كل ذلك إلى التذكير بأفكار الرئيس الأميركي الذي تبنى العدوان ودافع عنه، والتوقف عند بعض الأفكار والمواقف والآراء التي كان الرئيس الأميركي بيل كلنتون قد عبر عنها في مناسبات عديدة، ومنها خطابه في تشرين الأول / أكتوبر/ 1995/ في جامعة كونيتيكت بمناسبة افتتاح مركز توم دود المدعي العام في محاكمات نورمبرغ، إذ قال الرئيس في ذلك الخطاب:‏
            - "يتحمل جيلنا مسؤولية الوفاء بوعده: أن يطبق المبدأ القائل أنه ينبغي دعوة الذين ينتهكون حقوق الإنسان العامة إلى تحمل نتيجة ذلك".‏
            - وقال: ".... وسوف لا يثبت السلام طويلاً من دون عدالة، فالعدالة وحدها هي التي تستطيع أخيراً كسر حلقة العنف والعقاب التي تشعل نار الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية".‏
            - وقال أيضاً: "إننا سوف نستمر في الدفاع عن القيم التي نعتقد أنها تجعل الحياة تستحق أن تعاش؛ وسوف نواصل الدفاع عن الافتراض بأن كل الشعوب، بغض النظر عن جنسياتها وأصولها العرقية والإثنية ودينها وجنسها، يجب أن تسنح لها الفرصة كي تعيش بحرية، وأن تسنح لها الفرصة بأن تستغل كل الإمكانات التي منحها الله لها.".‏
            نتوقف عند هذه الأقوال لنسأله:‏
            - هل يعتبر الذين قتلوا جراء القصف "الإسرائيلي المتعمَّد" -وهو يعرف جيداً في أعماقه كإنسان أن ذلك القصف كان متعمداً- لمخيم قوات الأمم المتحدة في "قانا" هم من البشر، ولهم من الحقوق ما لبني البشر، وبالتالي تنطبق عليهم شرعة حقوق الإنسان؟! وعليه فهل يرى أن مذبحة "قانا" انتهاك لحقوق الإنسان العامة، وأنها تستوجب دعوة المسؤولين عنها إلى أن يتحملوا نتيجة عملهم ومسؤوليته؟! وهل يرى أن "إسرائيل مسؤولة عن تلك المذبحة، وأن بيريس هو رأس تلك المسؤولية؟؟ أم أنه سيصر على النكتة الثقيلة التي تتهم حزب الله بذلك؟؟‏
            - هل يرى في أنموذج سلام الاستسلام الذي تفرضه "إسرائيل" على بعض العرب، ويساهم هو ودولته العظمى بفرضه عليهم بكل الوسائل، هل يرى في ذلك عدلاً يحمي السلام، أو سلاماً يقوم على العدل ويستطيع أن يستقر ويستمر؟! وهل بقاء شعب خارج أرضه التاريخية، وخارج وطنه الذي لا وطن له سواه، واحتلال أرض "الغير" بالقوة، والاستمرار في سياسة العدوان والتوسع العنصري والاستيطان، وفرض الأمر الواقع على الآخرين بقوة القهر، وشراء صور بشرية باسم ممثلين لشعوبها ومسخ حقوق تلك الشعوب وأحلامها وصورتها على أيدي تلك الصور؛ هل يرى أن ذلك يحقق عدالة أو يقيم سلاماً، أو يمكنه أن يقهر تلك الشعوب ويلغي إرادتها إلى الأبد؟! وهل بقهر الشعوب يؤسس الرئيس كلنتون للسلام، أم بقهر العرب من بين الشعوب لصالح "إسرائيل" ابنة الرب وحبيبته ووكيله على الأرض والخلق؟!؟ و"المختار شعبها"، من خلقه ليكون أفراده هم البشر، ولتمثل هي كل حقوق الإنسان وتحتكرها كما تحتكر تفسيرها؟! إذا كان ذلك كذلك فالرئيس مخطئ، والسلام الحق لن تقوم له قائمة؟! ذلك لأن تقديمه للسلام العادل وللعدالة التي تقيم سلاماً وتحميه ينطبق علينا قبل سوانا.‏
            - هل القيم التي يؤكد الرئيس تمسكه بالدفاع عنها، ويدعو إلى التمسك بها، والافتراض الذي يقدمه -ولا أدري لم يكون ذلك مجرد افتراض- بأن كل الشعوب يجب أن تسنح لها الفرصة كي تعيش بحرية، هل ذلك هو الذي يدفعه ويدفع إدارته إلى محاصرة العرب، واتهام من لا يخضع لإرادته ولإدارة "إسرائيل" بالإرهاب وبالخروج على القانون، وبتخريب السلام، وبالقضاء على كل فرصه الممكنة؟! ألا يحق لهذا النوع من البشر أن يكون له رأي وقيم وموقف ورؤية، وحرية وكرامة ووطن؟؟ ثم ألا يجوز له أن يتمسك بذلك ويدافع عنه بكل الوسائل من دون أن يتعرض للإبادة المادية أو الروحية، ولأنواع الحصار والتجويع والضغط والحرمان؟!...‏
            إنها أسئلة متوحشة سيدي الرئيس لا تمت إلى "المجتمع الدولي" والقيم "الحضارية"، والتقاليد الديمقراطية بصلة؛ لكنها أيضاً لا تمت إلى أسلوب القرصنة وأنموذج رعاية البقر بأية صلة، إنها مجرد طفح على جلد محروق بالقنابل الفسفورية والعنقودية والفراغية التي تفجر فينا دفاعاً عن حقوق الإنسان التي تلخصها بجدارة جملة واحدة مفيدة جداً هي: المصالح الأميركية- الصهيونية!! هي مجرد طفح نووي سيدي الرئيس تسرّب إلى دم شرقي وجلده من بقايا هيروشيما وناغازاكي، وربما من تشرنوبل وديمونا أيضاً؟! فعذراً عذراً... إننا لا نملك أقنعة واقعية من الغاز السام، ولا ما يحمينا من الإشعاع النووي، ولا ما يرد الطائرات الأميركية و"الإسرائيلية"، التي تقضم حريتنا وأمننا باطمئنان وأمان وهي تجوب سماءنا الزرقاء الصافية، وعذراً إذا كان يزعجكم ارتفاع أصوات أطفالنا ونسائنا بالنحيب، وصراخنا الذي يعبر عن احتجاجنا وتقززنا من هذا السلوك "الحضاري"؟! الذي يؤذي إنسانيتنا التي يعترف التاريخ بأنها بدأت أولى خطوات الحضارة الإنسانية منذ عشرة آلاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح، وأوجدت الكتابة والأبجدية، وقدمت للبشرية التاريخ والديانات السماوية، تلك التي "لا تضاهي" الجاز والجينز والهمبرغر البقري فيما نقدِّر!؟ عذراً إذا لم نعدكم بالسكوت والاستسلام، وبالتنازل عن كرامتنا وأرضنا وحقوقنا، وبترك الاحتلال يرتع في أرضنا ويدنس مقدساتنا من دون مقاومة منا، عذراً فلم نعتد بعد -رغم كل الجلد والمرارة والمذابح والحصار والسلب والنهب الذي تلحقونه بنا- لم نعتد على احترام الطغاة ومجرمي الحروب والعنصريين والقراصنة؛ ومازلنا نقول: النصر للشعوب وللمقاومة العربية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، تلك التي خرجت أكثر قوة من كل عدوان، بعد كل عدوان، والمجد للشهداء الذين نحتقر تسميتكم لهم "إرهابيين"، والسلام لمن يفهمون إنسانية السلام التي ينبغي أن يتمتع بها كل خلق الله على أرضية الحق والعدل والحرية والمساواة والاحترام، وكل خلقه مختار وقريب منه إذا أحسن فهم حكمته وقدرته وشمول رحمته الخلق كافة.‏

            دمشق في 15/5/1996.‏
            الأسبوع الأدبي/ع512//16/آيار/1996‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              تركيا الشرق الأوسط
              الجسر الذي يمر فوق البوسفور يجسد رغبة تركية عريقة بانتماء مزدوج لم ترغب في التوقف أبداً عند أبعاد حدوده الجغرافية، بل حرصت منذ كمال أتاتورك على أن تكون لها ملامح ومصالح وانتماءات أوربية ومنفعة آسيوية، إنها من آسيا ومن دول المؤتمر الإسلامي، وتمتد في العمق التاريخي للشرق، ولكن ذلك الكعب الأوربي القلق الذي يغرق في مياه البوسفور ويتطلع إلى أن يقفز إلى الجهة الأخرى من الشط أرادته رأساً لها، ورأت فيه انتماءً إلى الغرب ومبرراً لذلك الانتماء .‏
              ومذ أعطت ظهرها للعرب وحمَّلتهم مسؤولية هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وانتزعت من جغرافية سورية ما انتزعت بتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي، وهي تزداد بعداً عن محيطها التاريخي وارتماء في أحضان الغرب، وتقرباً ممن يعادي الدول العربية المجاورة لها، لا سيما سورية ؛ فقد كانت من أولى الدول التي اعترفت بإسرائيل، واختارت الشراكة في حلف الأطلسي وأن تكون جندي الخندق الأول في مواجهة السوفييت الذين اقتربت مصالحهم من بعض العرب قليلاً، وهي تسعى منذ سنوات عديدة إلى الدخول في السوق الأوربية المشتركة ولكن أوربا لا ترى فيها شريكاً أوربياً ملائماً، فهي من الشرق ذاكرة وامتداداً، وفي نسيج تكوينها الثقافي الشرقي يدخل الإسلام على الرغم من علمانيتها، وهي تمتد بعيداً في روح الشرق على الرغم من القبعة التي تعتمرها والحرف اللاتيني الذي تكتب به ؛ ولكن كل هذا الجفاء الأوربي لم يزد تركيا الآسيوية إلا تعلقاً وولعاً بأورباويتها وبالغرب الذي تطلب رضاه عنها وقبوله لها، وأن يمنحها هوية حضارية بأبعاد اقتصادية شرعية ولكنه يضن عليها بذلك خوفاً مما يراه حقيقتها التاريخية . تجارتها مع العرب كبيرة وكذلك صلاتها ومصالحها ولكن شيئاً في أعماق سياستها وتوجهها الثقافي يشدها خارج دائرة حميمة تجمعها بهم ، وسورية من بين العرب تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامها السلبي وحذرها الاستراتيجي، لماذا؟! الجواب يمتد من جزيرة الحمام قرب خليج السويدية حتى مرسين، ومن اسكندر ون حتى جبال طوروس وقمة جبل الجودي حيث رست سفينة نوح كما تقول الحكاية، الجواب في كيليكيا واسكندرون / هيتاي .‏
              منذ نشأ الصراع العربي الصهيوني اختارت تركيا الجانب الصهيوني، واعترفت مبكراً بإسرائيل، وحرصت على أن تؤدي الدور الذي يرضي الغرب ويقربها إليه زلفى ؛ وكانت كلما اشتدت الأزمات في المنطقة، ولاح طيف تضامن عربي في الأفق، وقويت صلات العرب مع السوفييت، أو بدت رغبة غربية ـ إسرائيلية بالضغط على سورية، استنفرت جيوشها وحشدتها على الجبهة السورية في الشمال، فعلت ذلك في أكثر من مناسبة منذ أيام حلف بغداد القديم حتى اليوم؛ وهي تعتبر أن أمنها أو أمن حلفائها يتطلب ذلك، ولا تتردد أبداً في تقديم أية خدمة لأولئك الحلفاء، أو في القيام بلفتات طيبة نحوهم من قبيل تهديد سورية أو مضايقتها أو توتير الأجواء معها، ولو عن طريق منع مياه الفرات من التدفق في سرير النهر العربي العظيم ؛ودائماً كان ذلك على حساب جيرانها الذين تجمعهم وإياها جذور تاريخية وثقافية عميقة. ولكنها كانت، إلى ما قبل مؤتمر مدريد تراعي بعض التوازنات والحسابات الدقيقة في علاقاتها مع الدول العربية، وتخفي حذرها الشديد من سورية، إلى ما بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، ودعوة إسرائيل الجادة إلى الشرق أوسطية، إذ سارعت إلى تغيير أسلوب العمل، واتخذت مواقف أكثر حدة في الاختيار وانحازت إلى شراكة استراتيجية مع إسرائيل برعاية وتشجيع أميركيين ؛ ولنا أن نسأل لماذا؟ ولكن هل هناك أبسط وأقرب من الجواب الذي يكتسح كل الساحات ويعربد في فضاء العالم اليوم : مادام العرب قد قبلوا بإسرائيل وأقبلوا على تطبيع علاقاتهم معها، وعلى تحالف استراتيجي يؤكد قيادتها للمنطقة، فلم التردد في الاقتحام وترك الفرصة السانحة تضيع ؟؟ وما دام وجه المنطقة يتغير إلى صيغة من التحالفات لا تترك للعرب حضوراً أو هيمنة على شؤونها وشؤونهم، وما دام اللاعب الرئيس في العالم غدا الحليف الأميركي، وما دام الخطر السوفييتي قد تلاشى، وهناك فرصة بل فرص تسمح بأن يكون لها حظ أوفر ودور أكبر ونصيب أعظم في المنطقة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وجعل العرب عامة، وسورية والعراق من بين العرب خاصة، تحت السيطرة، وخلق معادلات أمنية واقتصادية جديدة يدخل فيها حتى احتمال بيع الماء للعرب كما يبيع العرب النفط، فلم لا تبادر وتكون السباقة إلى دور رئيس؟؟ ولم تترك دولة مثل الأردن مثلاً تحتل مكانة بارزة في هذا المضمار وهي الدولة الأضخم منها ؟؟‏

              إن العرب يمكن أن يخضعوا لمنطق القوة، ويمكن أن يستسلموا ـ وهم يستسلمون للقوة التي قهرتهم ويقبلون عليهاـ فلم الخشية والتردد، ولم لا تتخذ مبادرات منحازة إلى جانب الفائز والشريك والحليف القديم : الولايات المتحدة وإسرائيل ؟؟ لا سيما مع وجود إغراء ودفع باتجاه هذا القيام بهذا الدور من قبل الشركاء الغربيين ؟؟ وليس هذا وحسب، فهناك معطيات جديدة وحساسة في المنطقة كلها وهي تستدعي العمل في هذا المنحى نظراً لدخول مستجدات هامة تلعب دوراً رئيساً في حسم الخيارات والمواقف؟ ؟ ومن هذه المستجدات : حربها المفتوحة مع الأكراد، وانتعاش التيار الإسلامي الذي ينمو ويهدد باستلام السلطة ديموقراطياً في تركيا / حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان / وهناك من يخشى نمو هذا التيار الأخير وسيطرته، ويدفع بسخاء لمقاومته؟ ؟‏
              لقد حُسبت الأوراق التركية بدقة من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر التيار الحاكم المسيطر، والعسكريين الذين ترتبط مصالحهم وإمكانيات حضورهم في الحكم واستمرارهم فيه على نحو ما بالمصالح الأميركية والإسرائيلية، وكانت الكلمة السحرية الملهمة والمثيرة للحماسة هي : " مقاومة الإرهاب " تلك التي غزت بها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية معظم الأنظمة العربية والإسلامية، ومنها تركية، مذكية حالة من التنافس والشك مع إيران، خالطة خلطاً عجيباً مقصوداً بين المقاومة المشروعة ضد الاحتلال ـ كما في جنوب لبنان وفلسطين المحتلة ـ وبين العنف السياسي أياً كانت أهدافه ومبرراته والجهات التي تمارسه .‏
              بعد اتفاقي أوسلو ووادي عربة أخذت ملامح المشروع الشرق أوسطي تتضح أكثر ، وبدأت الإدارة الأميركية بإعادة ترتيب المنطقة بقيادة إسرائيل بعد أن وضعت تحت إبطهما بعض العرب، وقررتا ممارسة ضغط متزايد على سورية لإجبارها على القبول بسلام حسب المواصفات والشروط الإسرائيلية، وحرمانها من دور مستقبلي في المنطقة، ومواجهة تطلعها إلى دور فيها يعيد شيئاً من الحياة لأي طموح عربي، قومي أو تحريري، وحرمانها من كل الطموح إذا ما أصرت على استعادة كل الأرض، وتجريدها من مشروع خاص ومن دور متميز في الشرق الأوسط الجديد، وضغط حجمها إلى الحدود الدنيا ؛ ومواجهة احتمالات ما بعد السلام الممكن مع إسرائيل، لاسيما فيما يتعلق بسورية من وجهة النظر التركية ـ الإسرائيلية ؛ إذ تم التركيز على إثارة المخاوف التركية وإذكائها بخبث ومثابرة صهيونيين، لاحتواء سورية وأحلامها ومحاصرتها بالحلف الجديد، حلف بغداد دون بغداد .‏
              رتبت تانسو شيلر مع إسحاق رابين اتفاقية تركية ـ إسرائيلية برعاية أميركية في عام 1995، وتم تلميح عابر إلى ذلك، وبقيت لمسات استكملت على نار هادئة بانتظار اللحظة الملائمة للإعلان، التي واتت بعد قمة شرم الشيخ وفي إطارها، حيث قام الرئيس التركي سليمان ديمريل بهذه الخطوة : توقيع اتفاق مع إسرائيل يسمح بموجبه للطيران الحربي الإسرائيلي باستخدام الأجواء والقواعد التركية للتدريب؟! وقال وزير الدفاع التركي أولتان سنغورلو: " إن اتفاق التعاون هذا يقضي بتدريب طيارين إسرائيليين على استخدام الأجواء والقواعد التركية. " ومن المفيد التدقيق في العبارة جيداً : " على استخدام الأجواء والقواعد التركية " ولنا أن نسأل : استخدامها لأي غرض؟ ؟ واستخدامها ضد من ؟؟ لماذا الآن؟ ؟هل كان الأفق مغلقاً أو محدوداً أمام الطيران الحربي الإسرائيلي في يوم من الأيام، وفي ظروف الحروب العدوانية التي خاضها ضد العرب، ليسمح له اليوم بمساحة للتدريب كان يفتقدها ؟؟ وأين ذهب الأفق الغربي الممتد بعيداً، والسماء العربية المفتوحة، تلك التي لم تخل من عربدة صهيونية في الأجواء ؟؟ الأمر الذي يؤكد أننا لسنا بصدد مساحة بريئة للتدريب، وإنما بعمليات محتملة يقوم بها ذلك التحالف ضد آخرين في المنطقة ؟؟ ومن هم أولئك الآخرون؟ ؟ إنهم معروفون جيداً لكل الأطراف.‏
              في العاشر من شهر نيسان 1996 قال عمر إقبال الناطق باسم الخارجية التركية : " إن الطائرات الإسرائيلية بدأت إجراء تدريبات في الأجواء التركية " وأضاف : " إن تركيا أقدمت بعد عملية السلام في الشرق الأوسط على تطوير علاقتها بإسرائيل في كثير من المجالات. " وجاء في التعليقات السياسية على ذلك الاتفاق : " إنه اختراق دبلوماسي ذو ميزة بعيدة الأثر. " و " إنها المرة الأولى التي يمنح فيها سلاح الجو الإسرائيلي خيار التدريب في دولة أخرى في الشرق الأوسط والتعاون بطريقة حقيقية مع قوة أخرى لدولة شرق أوسطية عضو في الناتو. " ؛ وإذا عرفنا أن هذا الاتفاق " مرتبط باتفاق تبلغ قيمته /600 / مليون دولار تقوم إسرائيل بموجبه بتحديث طائرات حربية تركية. "وأنه لا يتوقف عند حدود التعاون بين القوى الجوية وإنما يشمل تعاون القوى البحرية بين تركيا والكيان الصهيوني، الذي أكدته زيارة قائد القوات البحرية التركية للقواعد البحرية الإسرائيلية في حيفا، تلك التي عملت الولايات المتحدة الأميركية عل تطويرها بشكل كبير منذ حرب الخليج الثانية، وربطنا بين هذا الاتفاق وبين الاتفاق الموازي الذي تم بين الأردن وإسرائيل برعاية أميركية أيضاً، ذاك الذي اشتمل أيضاً على تحديث الطائرات الأردنية في إسرائيل وتدريب الطيارين الأردنيين من قبل الطيارين الإسرائيليين، والمناورات الجوية الأردنية ـ الأميركية التي تمت في الأردن في الثامن عشر من نيسان، ولم تكن إسرائيل بعيدة عنها إلا من حيث الإعلان عن مشاركتها الفعلية، إذا فعلنا ذلك أدركنا أن التحالف الجديد أوسع مما يظهر من قمة جبل الجليد الطافية فوق الماء منه، وأنه يرمي إلى تحقيق أهداف استراتيجية أميركية ـ إسرائيلية بعيدة المدى منها :‏
              1ـ استكمال حلقة الحلف ـ حلف بغداد الجديد ـ لتشمل العراق، سواء بتغيير نظامه أو بدعم تقسيمه وإعلان ذلك التقسيم .‏
              2ـ وضع سورية في حالة حصار وتهديد وعزلة، قبل إنجاز عملية السلام، ومن أجل إنجازها على الوجه الذي ترغب فيه إسرائيل، وبعد إنجاز هذه العملية التي من شأنها أن تطرح السؤال الإسرائيلي الخبيث : ماذا ستفعل القوات السورية بعد إتمام عملية السلام، والسوريون لا يوافقون على تقليصها، وهو ما طلبته إسرائيل سابقاً في المفاوضات الثنائية ورفضه المفاوض السوري.‏
              3ـ توجيه ضربة لإيران، التي تتهمها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وما يسمى " المجتمع الدولي "، بمساندة الإرهاب، وبالخروج على القانون، هي ودول أخرى منها : سورية وليبيا والسودان ...الخ، لأنها :‏
              * تناصر المقاومة الوطنية في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان في استخدام حقها المشروع والعمل ضد قوى الاحتلال الصهيوني، وصولاً إلى التحرير وتطبيق القرارات الدولية القاضية بانسحاب المحتل.‏
              * تسعى إلى امتلاك أسلحة تدافع بها عن نفسها وعن حقوقها ومصالحها ومستقبل شعوبها .‏
              4 ـ تدمير المفاعل النووي الإيراني الصغير المكرس للأغراض السلمية، خوفاً من أن تمتلك إيران مستقبلاً سلاحاً نووياً. فهذا محرم على أهل المنطقة من عرب ومسلمين، محلل على الدولة الصهيونية العنصرية وحدها، لأنها تجيد استخدامه ضد الـ " أرابوشيم ".‏

              5 ـ ضمان احتواء كل من إيران والعراق مستقبلاً، حسب نظرية الاحتواء المزدوج الأميركية التي لم تلغ بعد، وذلك في حال بقاء العراق ـ لأغراض ولأسباب معينة ـ بلداً غير مقسم، وخارج حدود الحصار الذي لا يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية.‏
              6 ـ السيطرة التامة على التحولات في آسيا الوسطى، وشل دور إيران والتيارات الإسلامية التي يمكن أن تنشأ أو أن تعمل هناك ؛ ضماناً لوصول تلك البلدان إلى حالة من الاستيعاب السياسي والاقتصادي الملائم ـ أميركياً على الخصوص ـ بعد خروجها النسبي من القبضة الروسية المباشرة، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي.‏
              إن تركيا تختار الشركة الساخنة أو الحميمة إن شئت، في صوغ هوية المنطقة من جديد، وفي رسم مستقبلها ؛ وتختار أن تكون لاعباً نشطاً في الملعب بدلاً من الفرجة على اللاعبين، وهي تقرر أن تلعب أولاً ضد جيرانها العرب وإلى جانب عدوهم التاريخي الذي يروق له جداً هذا التطور العلني، وهذا الدخول من الباب الواسع إلى علاقات جديدة وصولاً إلى تحقيق أهداف جديدة.‏
              يقول الجنرال المتقاعد من سلاح الجو التركي شادي إرغوفنتش، في محاولة لرسم صورة المستقبل : " بينما بدأ الصراع العربي ـ الإسرائيلي مسيرة هبوطه من سلَّم أولويات الأمن في الشرق الأوسط، أصبحت المشكلات الكامنة في المنطقة : ( الصراع على الأرض بسبب حدود تم رسمها عشوائياً، والأصولية الإسلامية والقومية، واختلاف طبيعة الأنظمة السياسية والتوزيع الجائر لموارد الثروة، والنمو الكبير للسكان، والتململ الجماهيري والإرهاب) تنال اعترافاً متزايداً بكونها أسباباً ممكنة للنزاع. وهذه هي القضايا التي سنعالجها، ليس اليوم وغداً، بل في الأعوام المقبلة أيضاً. وحتى الآن برهنت القومية العربية والإسلام الشمولي عن فشلهما، كما أن الالتفاف العربي حول هاتين العقيدتين وحول القضية العربية ضد إسرائيل أصيب بالشلل على ما يبدو. هل يمكن أن نقول إذاً، وفي هذه الآونة، إن الذي سيسيطر في المنطقة هو على الأرجح المصالح والآمال الوطنية المنفردة " ؟؟‏
              يعرف الجنرال جيداً أن التحالف الذي تدخله تركيا سوف يخدم مصالحها ويمكنها من تصفية حسابات معلقة ، ومن التخلص من أشباح قديمة مقلقة، ولكنها ستدفع ثمن ذلك تبعية، ربما كانت تتوق إليها من باب تحقق الحلم القديم بالالتحاق بالغرب من خلال تضخم الكعب الأوربي ليصبح رأساً وجسداً في آن معاً، كما يعرف ونعرف أن الغرب سوف يبقى ينظر إلى تركية على أنها دولة شرقية ومسلمة وذات تاريخ سابق يملي استحقاقات لاحقة ؛ وهذا يستوجب طرح السؤال : هل تكسب تركيا أكثر مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية؟؟ أم أنها ستبقى غريبة وخاسرة إلى أن تعود إلى حوضها الآسيوي ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ؟؟‏
              إننا نتمنى أن تقوم بيننا وبين تركيا دائماً علاقات حسن الجوار والثقة المتبادلة، والشراكة التي يمليها تاريخ مشترك طويل وثقافة وعقيدة تأصلتا في النفوس، ولا نرى أن في مصلحتها أو في مصلحتنا، أن تنضم إلى تحالفات تؤثر سلباً على توازنات المنطقة ومصالح أهلها ونسيجها العام، وتغرقها من بعد في التبعية والدماء والآلام، ولا تتوقف عند هذه الحدود، لأنها ستطال الهوية والتكوين الروحي ؛ فهل نحن على استعداد جميعاً في هذه المنطقة إلى تقديم هذه التنازلات التي تطال هويتنا في سبيل أن نكون تبعاً يرضى عنهم المتبوع؟! لأنه كما يقول الجنرال إرغوفنتش أيضاً :‏
              " المسيرة ستكون طويلة وشاقة، وفي نهاية الأمر سيكون السلام مرتبطاً ربما بتطور هوية شرق أوسطية مقبولة لدى الجميع ـ من وجهة نظره ـ وهذه الهوية يجب أن تتطور على أساس معايير وأخلاق مشتركة وحول مصالح أمنية مشتركة. إن إمكان تطور مثل هذه الهوية سيشغل بال الذين يهتمون بعلم المستقبل، فهي حالة جديرة بالاهتمام ولكنها متعبة للفكر. "‏
              إننا نتمنى من أعماق قلوبنا أن تعيد تركيا النظر ـ إن كانت تستطيع فعل ذلك بحرية ـ في اتفاقها مع إسرائيل، وأن يُبذل جهد عربي وإسلامي مخلص لتطويق هذه المشكلة التي أراها تنذر بصراعات مريرة، وتحيي خلافات مقيتة، وتؤسس عملياً لتدمير كل تواصل عربي وإسلامي بناء، يبقي لهذه الأمة بعض الوجود والأمن والثقة ؛ ولا يسمح بتحقيق أغراض الاستعمار الغربي، والنزوع التوسعي العنصري الصهيوني بأيدي أبناء المنطقة. وعلينا أن نستذكر ما رفعه بعض ساسة الغرب والصهاينة من أهداف بعد نهاية حرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، إذ قال قائلهم : " إنه كما شهد القرن الحالي انهيار الشيوعية والماركسية سوف يشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام. " وكيف يتم ذلك لهم إذا لم تكن أيدي أبناء العروبة والإسلام هي التي تدمر وتقتتل ويفني بعضها بعضاً؟ فلنحذر كل الحذر أطماع الأميركي التي لا تعرف الحدود، وأحقاد العنصريين الصهاينة التي لا تلجمها إلا القوة ووحدة الموقف والوعي العميق، الذي يقيم بوجهها أفضل السدود.‏

              والله من وراء القصد.‏

              دمشق في 22 / 5 / 1996‏
              الأسبوع الأدبي/ع513//23/آيار/1996.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                من الجنوب إلـى الوطن
                في مساحة لا تزيد على أربعين متراً مربعاً تجمَّع معظم الذين حصدتهم الهمجية الصهيونية في " قانا " الجليل، وفي موقعين متجاورين سقطت الصواريخ الضخمة الأميركية الصنع، تلك التي رُكزت ووجهت بعناية ودراية فائقتين، لتسقط على رؤوس المدنيين الذين احتموا بقوات الأمم المتحدة، التي اتخذت من القرية المنكوبة مركزاً لها؛ ودون أن تصل الشظايا إلى المباني الأخرى لتلك القوات، استقرت سقر بحممها في المساحة الرمادية من الأرض، وأخذت تحرق اللحم والدم، ولا يحتاج المرء إلى حاسة شم قوية ليستاف ملء رئتيه، بعد أيام من وقوع الكارثة، رائحة الحريق.‏
                لقد زرت معسكر " أوشفيتس "، ورأيت بعيني الموقد البشع الذي كانت تحرق فيه جثث، يقول الصهاينة إن معظمها كان جثث يهود؛ وأنا لا أصدق الصهاينة بل أصدق روجيه غارودي وأمثاله، من بعد ومن قبل، الذين يقولون بتضخيم اليهود لعدد ضحاياهم بغية الابتزاز باسم المحرقة؛ ولكن هناك في " أوشفيتس" كانت تحرق النازية جثة ميت، بينما في " قانا " أحرقت النازية الجديدة ـ الصهيونية الأطفال ودمهم ينز من جروحهم، وأُحرق الدم البشري الهارب من المحرقة ذاته، حتى لترى رماده الملتصق ببقايا الجدران الملطخة بنقاط الفحم المرشوشة عليها، وهي تلك التي كأنها الدم.‏
                محدثنا من أهل القرية المنكوبة جفت ينابيع الدمع فيه، بل جفت ينابيع روحه، لسانه يتحرك بجفاف في مناخ صحراء عربية تلفه من كل جانب، لا يشعرك بأنه فقد شيئاً هو روح الحياة والكلمات والمعاني، وما تبقى منه وفيه يشير ببساطة متناهية إلى أنه كانت هنا في هذا الكيان حياة؛ إنه يردد بآلية تعبر عن جفاف ينابيع جمة في أعماقه :‏
                " ماتت أمي وأبي وأخي وابن عمي، ومات كثير من أهلي وأصدقائي، فقد كانوا جميعاً هنا في هذا الموقع تحت سقف " الأترنيت " الذي لا يمكن أن يحمي أحداً حتى من حر الشمس؛ تطايرت أشلاء أهل " قانا " من موقع القوات الفيجية إلى هذه الساحة، التي أصبحت مقبرة مكشوفة لهم، فحولناها إلى مقبرة تخفي جثثهم، وهذه قبورهم جميعاً؛ بعض القبور تحتوي على أطراف مجمَّعة، فلم نعرف لمن تعود تلك الأطراف، ومازلنا حتى الآن نجد في بعض الأماكن وعلى بعض الأسطحة والجدران قطعاً من اللحم البشري المتناثر، وقعت الصواريخ علينا في الساعة الثانية وعشر دقائق، كنت قريباً من هذا الموقع ولم أصب ".‏
                بعض الأكاليل الذابلة كانت تنتشر هناك فوق القبور، الأصفر والأسود والرمادي المغبَر كانت سادة الألوان في ذلك المكان، وهناك بعض الكلمات والصور والشعارات والآيات الكريمة؛ لوحة العرض المستندة إلى الجدار قرب القبور التي تقدم المجزرة بواقعية شرسة إلى أبعد الحدود، تفتك بقلبك وتقودك من أنفك ولسانك معاً إلى حيث تمرغ إنسانيتك في الوحل والذل، أمّا انتماؤك القومي والنضالي فهو مضحك هناك إلى حد التقزز، إذ من أنت ولحمك في الشوارع!؟ ومن هو ذلك النفَّاج المتعالى الذي يصخب بكبريائه على أرض لم يستطع أن يحمى فيها طفلاً أو قيمة أو شجرة؟! كل الموت يسعى إلى معاقل الأعماق ليعري بقسوة مدمرة " الـ " أنا" والـ " نحن " الذات والآخر أيضاً؛ الإنسانية عارية تماماً في قانا، إلا أولئك الذين لا يشعرون بانتماء إليها بحكم التعالي عليها والعداء المستحكم لها في نفوسهم.‏
                ذابل عرس " قانا " ويابس لسان الناس فيها، والحزن وشاح فضفاض جداً وجذوة في اتقاد، تعسًُ عساً في الأعماق، تشعر بها وهي تتكاثف في العيون التي يفترس الذعر طيبتها وتأبى أن ترسل فيها المطر لتريحها، الدمع يريح أحياناً ولكن لا دمع ولا راحة في عيون أهلنا في " قانا "، سماء داكنة من دخان، لا أنس يقتحم فضاءها ولا جان، وحده المقهور يحمل قهره هناك، وحده المبتور يستشعر بتره، ولا يقول شيئاً لذويه ولمن يظن أنه يواسيه، لا ينطق إلا بما يريح " الأكابر " وعيونه تنشدُّ إلى الداكن من زوايا النفس، لا قريب يفتح له القلب، فمن هو القريب في ليل المأساة وكيف تميزه!؟ ومن يفتح إليه القلب ليس بقريب؛ الذي يأتيك حاملاً كلمات لا يختلف في النتيجة عن الذي فارقك بالممات، كلاهما لا يدفع عنك ولا يخفف عليك، وقد تشعر بثقل ظله من دون أن تتمكن من أن تقول له ذلك، فتحمل في قلبك المزيد من الألم والكآبة والجراح، وتزداد الخناجر في أضلاعك وخزاً.‏
                لم يكن في " قانا " الجليل فرح، بل كان الموت واشتعال الحزن، وشعاع من إرادة حياة يشق طريقه نحو السماء الصافية، من بين القبور وأشلاء الدموع التي ترتسم على الوجوه.‏
                المسيح لم يكن هناك، ولا حتى آثار المسرَّة في الناس، الحاضر الأكبر كان الألم، والظل القاسي لمن قاتل المسيح وصلب الفرح في العيون، والحاضر الأكبر الأسوأ كان في عيوني شبحاً يكاد يسد أفق البحر والقبلة معاً، كان شبح من يناصر المجرمين الصهاينة قتلة الأنبياء، ممن يزعمون أنهم من أتباع المسيح، ويصلون في واشنطن لينتصر يهوذا الأسخريوطي في القدس، وهم يعتقدون أنهم ينصرون بذلك الحق والمسيح؟! ولكنهم لا يسألون أنفسهم السؤال البسيط الساذج: هل يكون المسيح حيث الحقد والظلم والبؤس وحرق الأطفال؟؟ يا من تسمع صوتي قل لسيد البيت الأبيض الملطخ بدماء أطفال " قانا " إن السيد المسيح بما هو الفرح والمسرة والمحبة لم يكن هناك، وأعيننا ترى المسيح، الذي خرج من أرضنا، بأوضح مما تراه عيون من يبيدون الشعوب الأصلية باسم المدنية والديمقراطية، لأنها تعرفه أكثر وتفهم رسالته أفضل.‏
                في " قانا " رافقتنا الكارثة في الطرقات، ظلالها تحجب نور الشمس المترامي بكثافة على الخضرة المنتشرة فوق الهضاب، والبحر الذي يلوِّح من بعيد بزرقته التي تتمطى لتبلغ السماء كان يذكِّر بالسفن الحربية الصهيونية التي شاركت في القصف وصنع الكارثة.‏
                وفي الطريق من " قانا " إلى صور كان يتراءى لي أنني أرى " حيرام " يلطم خده ندماً، والمسيح يهجر مغارة المعجزة وخمر المسرة على ردائه، وخيل الله، التي نشرت في هذه الأرض الهداية والعدل، شراذم في الأودية والوِهاد، بعضها يزحف على بقايا ركبه بعد أن " عَرْقَبَها " فرسانها من الفزع والطمع، وبعضها تائه تسوطه الغربة عن الهدف والوسيلة، وبعضها يحمل من يحمل رايات وينطلق إلى مواقع المقاومة والشهادة في الجنوب وهم المهتدون، وبعضها يصهل ويلوك اللُّجُمَ غيضاً وحسرة من قلة " الوالي " الذي يشدها للطراد؟!‏
                وبين العرَق والأرق كان يتناوبني الوهن والشجن، فأحبس وهج روحي لكي لا يتسرب من قروحي؛ وأنا أرى العائدين إلى بيوتهم بعد التشرد الذي تقصد إحداثه همج القرن العشرين الذين تعمدوا بكل المقاييس إيقاع المذبحة المروعة بأهل " قانا "، فأتذكر المرأة قُرْم البلاَّن، إسعاف زهوة، وهي تقول لي بين جمع من المشردين عن ديارهم في الجنوب، نساء ورجالاً: نريد أن نعود إلى أرضنا ولكن من دون أن نكون مهددين بالخروج منها مرة أخرى، أو بتدميرها فوق رؤوسنا، نحن لا نرتاح هنا بل في بيوتنا. وحين أرى الواقفين على أشلاء بيوتهم أسأل نفسي: هل يشعر كل عربي بالمشكلة فعلاً؟؟ لو كان يقف أمام بيته مدمراً، وأمام جثث أولاده أو زوجه لأدرك عمق المأساة وأبعاد الخطر وحقيقة العدو، وما ينبغي أن يمليه الواجب وحق الحياة بأمان في وطن حر وبيت آمن، من فعل وفكر وموقف!؟ كيف يمكن أن تصل صورة المأساة والإحساس بها إلى الوجدان الغافي في ظلال الكذب والخداع، والبعد، والشرنقة القطرية، وأكاذيب الإعلام، وتضليل بعض الحكام في هذا الوطن العربي الحزين؟؟ أين الأمل، بل أين من يزرع الأمل؟؟ هل كله يقبع في ظلال " الكاتيوشا" التي أثبتت القدرة على التحدي؟؟ ولكن " الكاتيوشا " لا تحمي من العدوان المدجج بأحدث أسلحة التدمير، وبمباركة أولئك الذين يرون في " الاستسلام " مخرجاً ونجاة؟! يقولون لك بوجه المتآمر والشامت الجبان الذي يفيض حقداً: اتبعنا تسلم؛ وعندما تفكر بـ " اتبعنا " تلك تجدها عظْمة لعقتها الكلاب، لا يفضي لَوْكُها إلا إلى الذل والعبودية والموت البطيء، موت الروح والوجدان والعقيدة والكرامة، موت الحس الذي يفضي بك إلى حالة من البهيمية تفقد معها كل صلة بالإنسان الذي كرمه الله فيك، وبالرسالة السماوية التي هداك إلى الخير وسر الحياة بها، وبالأمة التي فطرت، كما فطر، أبناؤها على الحرية والكرامة؟؟ وتجدك منساقاً إلى التساؤل: من أنت، ومن هؤلاء الذين ينادونك إلى ما هم فيه، ويرون سُحْتَهم والحمأ الذي يغرقون فيه إلى الأذقان نعيماً مقيما؟؟ هل هم منك وأنت منهم هؤلاء؟ وكيف تحولوا إلى ما هم فيه من حال؟ وكيف السبيل إلى الوصول وإياهم إلى رؤية سليمة، تنقذ، وتصون ما تبقى من المشترك في كل مجال من مجالات الحياة؟؟‏
                في دار جمعية التضامن الثقافية في صور استعدت شيئاً من الوهج والاطمئنان، تسرب إلى شيء من ذلك من وجوه وقامات وكلمات وابتسامات، كان الحضور من شرائح المجتمع كله في صور، أو وهو يمثل شرائح المجتمع كله تقريباً في الجنوب، ولسان حاله، الذي استدرجته الكلمات إلى الإفصاح كان يقول: نحن هنا منذ ما قبل " حيرام " بآلاف السنين، نحمل هويتنا وسيوفنا التي تحمي حقيقتنا، وسنبقى هنا وننتصر على الهمجية الصهيونية، وعلى العنصرية التلمودية، وعلى إمبراطورية الشر الأميركية التي تشوه وجه العدل والحرية والإنسان، وتنطق بلسانين، وتكيل بمكيالين، وتقتلنا بيد وترفع " وساطة محايدة " بيننا وبين عدونا باليد الأخرى.‏
                نحن هنا أبناء الجنوب، أبناء الأمة العربية التي تعتز بإخاء المسيحية والإسلام، وبتسامحها الديني والثقافي عبر التاريخ، وبأنها أول من قدم للبشرية الأبجدية والأسطورة والعقيدة والشعر والحكمة والقانون والممارسة المدنية، باحترام لحق الإنسان وبيته وكرامته؛ نحن هنا نستأنف الحياة والبناء والجهاد، أخوة وشركاء في اللقمة والمصير، هكذا كنا في أثناء العدوان الهمجي الصهيوني الأخير علينا، وهكذا سنبقى، وندعو بثقة إلى ممارسة المقاومة المشروعة دفاعاً عن النفس والوطن والعقيدة ضد الاحتلال الصهيوني، وضد كل احتلال، ونميز بين العدوان والدفاع المشروع عن النفس، بين الإرهاب والمقاومة، بين إرهاب الدولة الذي يمارس القهر والابتزاز في ظل الإبادة الوحشية، وبين تناصر الضعفاء من أهل الحق والأرض ضد العدوان والإرهاب؛ وننادي أولئك الذين لا يميزون وهم يحيون: أتعيش أرواحهم في أجسادهم التي تسعى على الأرض أم تراهم من الأموات، نناديهم ليكونوا معنا.. مع أنفسهم.. مع أمتهم.. ومع حقهم في الحياة والحرية والكرامة نقول لهم: يا أخوتنا.. يا عرب اليوم: " يعيش المرء حياة واحدة، ويموت ميتة واحدة لابد منها، فليكن عيشه وموته بكرامة؛ وليسقط جنح غراب يلفِّع الحياة، ورأس تحمل الذل وتتباهى به، ولنتخلص من رعب ينحرنا كل يوم، ويسيطر على مصيرنا كل يوم، ويشكل كابوساً فوق رؤوسنا كل يوم هو " " إسرائيل " "؛ لا يغرنَّكم يمينها أو يسارها، ولا تنشغلُنّ بمن يأتي من حكامها وحكوماتها، " ليكودها أم معراخها "، الكل صهيوني عنصري همجي متعطش لدمكم ويتحين الفرص بكم، الكل يريدكم تحت قدميه وطوع يديه، والكل يخدم الحلم الصهيوني والمشروع الصهيوني اللذين لا يكون وجودهما وبقاؤهما وازدهارهما إلا على حساب مشروعكم ووجودكم وبقائكم ورخائكم، فهلَّا ارعويتم وسلكتم الطريق المفضية إلى الحياة العز والعز الحياة، أم تراكم ستبقون في كثرتكم كالعهن المنفوش، وفي غيكم تعمهون كالكباش في الغنم، إلى يوم تقع فيه الواقعة، ولاتَ حين مندم أو مناص ؟؟‏
                مع أهل صور، أهل الجنوب، وقفت على تصميم " فرسان " الكاتيوشا " على المقاومة، وعلى على ثقتهم بالله والحق والنفس والمستقبل. هناك تنفست بعمق وارتياح، وقبلت صورة الدم البريء المهَراق على خضرة الوطن، قرأت الفاتحة، وتركت دمعة تسيل بارتياح، وسمعت حكايات الأطفال الذين يتبرعون بثمن الألعاب والحلوى لشراء " الكاتيوشا " فقط، وأيقنت أننا سننتصر مهما قدمنا من تضحيات، وأن أرواح شهداء " قانا " الجليل وأرواح رواد الشهادة النوعية في الجنوب وفي فلسطين المحتلة منارات على دروبنا، أحياء يرتادون لنا، وينيرون طريق الحرية والتحرير، وأن المستقبل لنا إذا عملنا بعلم وإيمان وإخلاص، وتمسكنا بأهداف الشهداء ونهجهم.‏
                وفي طريق العودة من الجنوب إلى دمشق كان طريقي طريق الشمس وهي تولد على قمم جبالنا ونفوسنا العالية من رحم الليل، وكنت أحلم فيأتي الحلم كفلق الصبح؛ فتحية للشهداء وللمقاومة الوطنية في جنوب لبنان وفلسطين، وإننا لعلى موعد مع غد مشرق ونصر مبين.‏

                دمشق في: 20 / 5 / 1996‏
                الأسبوع الأدبي/ع514//30/حزيران/1996‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  تعزيز الصهيونية
                  جاء بنيامين نتنياهو إلى رئاسة وزارة الكيان الصهيوني بأغلبية 55% تقريباً من أصوات اليهود في فلسطين المحتلة، وهذا هو ثقل اليمين والتيار المتدين معاً، وليس ثقل الصهيونية، لأنها بكل بساطة أكبر من ذلك بكثير، فأنصارها في صفوف حزب العمل لا يقلُّون عنهم في صفوف الليكود، فالصهيونية؛ ومعنى هذا عملياً أن التيار الذي يأخذ بمبدئية " تعزيز الصهيونية " هو التيار الساحق الآن، وسواء كانت صهيونية سياسية على مذهب هر تسل أو صهيونية دينية على مذهب أحاد ها عام فكلها تعمل لمشروع واحد باجتهادات مختلفة؛ وكل من المذهبين يكمل الآخر لأنهما يرتكزان على الوهم الديني والمشروع الاستعماري اللذين تكاملا وقدما معاً المشروع الصهيوني الذي لم يكتمل بعد.‏
                  وإذا كان توماس برايتمان الأنجليكاني / 1562 ـ 1607 / وكروميل رئيس الكمونولث البيوريتاني / 1649 ـ 1658 / قد أسسا فعلياً ـ دينياً وسياسياً ـ لنشوء فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين العربية قبل المؤتمر الصهيوني الأول / بازل 1897 / وقبل وعد بلفور بما يقارب ثلاثمئة سنة، فإن المرجعيات الدينية والسياسية الاستعمارية العليا في كل من أوربا والولايات المتحدة الأميركية ما زالت تتبنى هذا المشروع وتباركه وتدفعه إلى التحقق والتوسع والنمو، بكل القوة والإمكانات والحماسة الواجبة لمشروع ذي صبغة دينية وسياسية ـ أي صليبية بالمعنى التاريخي للكلمة ـ واقتصادية وثقافية، في إطار الاستعمار الجديد ومنافعه وخططه للسيطرة على العالم ونهب الشعوب وإخضاعها.‏
                  ومن هذا المنطلق أقول: إن نتنياهو الذي لخص توجهه السياسي ـ الديني ـ الاستيطاني، أي استراتيجية الليكود الشاملة في هذه المرحلة، وهي استراتيجية الأكثرية التي صوتت له من اليهود، بأنه توجه يتركز في " تعزيز الصهيونية " كما قال نتنياهو بالمعنى العميق والدقيق والشامل للكلمة. إن نتنياهو سوف يلقى دعماً من المرجعيات السياسية والدينية في الكيان الصهيوني وأوربا والولايات المتحدة الأميركية، لأنه بكل بساطة يمثل مشروعاً مقراً تاريخياً من كل هذه المرجعيات، ومدعماً بكل ما يحتاج إليه منها عند الضرورة، وهذا يعني عملياً فيما أرى: استمرار الدعم الشامل وغير المحدود، واستمرار الانحياز غير المحدود، من قبل الولايات المتحدة الأميركية ـ القائد الأعلى لتلك المرجعيات حالياً ـ للكيان الصهيوني في كل ما يتخذه من سياسات وممارسات؛ وكما كانت هناك مباركة أميركية لمذبحة " قانا "ولتدمير الجنوب، على أيدي قوة العدوان الصهيونية الهمجية المؤتمرة بأمر شمعون بيريس، وكما كان هناك دفاع عن ممارساتها ومنع لإدانتها في مجلس الأمن، سيكون هناك إيحاء بمذابح ينفذها جنود مشبعون بروح العنصرية الصهيونية والعدوان، يقومون بفعلهم بأمر من نتنياهو، وسيتم تبرير لتلك المذابح وصمت ودفاع عنها، لأنها تتم في إطار تحقيق الحلم الصهيوني المقر غربياً، وضد " البرابرة " الذين قامت الصهيونية سداً بينهم وبين المدنية الغربية، أو " الصراصير " العرب الذين ينبغي وضعهم في قارورة على حد تعبير الصهيوني رفائيل ايتان، وأكاد أشم رائحة دماء تلك الضحايا ورائحة الحرائق تنبعث من أي موقع محتمل يكون مسرحاً للكوارث في لبنان أو فلسطين المحتلة، ابتداء من الخليل وانتهاء ببعلبك؛ وسوف يسكت الأميركي عن ذلك ويباركه لأنه شريك في الحلم والمصلحة والمنفعة والمشروع، هذا ما فعله في حصار بيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 حين كان شارون يعربد بأمر من بيغن وحزب الليكود، وهذا ما فعله في " قانا " وجنوب لبنان عام 1996حين كان ايهود باراك يعربد بأمر من شمعون بيريس وحزب العمل، وهذا ما سيفعله دائما، إذ لا فرق لا فرق.. فهم طينة واحدة وعقيدة واحدة ومصلحة واحدة، هم شركاء وحلفاء، تتنامى شراكتهم وتحالفاتهم على حساب المنطقة وشعوبها ومصالح أهلها.‏
                  وإذا تساءل المستوطن الصهيوني إثر مذبحة صبرا وشاتيلا في ظل حكم حزب الليكود: " هل تستطيع أن تقول إن قتل خمسمئة عربي مذبحة "؟؟ كما سجل عاموس عوز عام 1982 فإن الجنود الذين نفذوا مذبحة " قانا " عمداً وبأعصاب باردة تماماً قالوا في شوارع القدس ساخرين: " إننا قمنا بواجبنا.. إننا ممتازون، وإن الأمر لا يتعلق بأكثر من عرابوشيم ـ أي: "عرب قذرون "؛ إنها العقلية العنصرية ذاتها، ولكن المطلوب تعزيزها في المرحلة القادمة، كما يبشر بذلك نتنياهو اليوم، زاعماً أن شمعون بيريس أضعفها ؟!؟‏
                  و" تعزيز الصهيونية " يترجم إلى أداء متشدد، ظاهر التشدد، حسب حزب الليكود، ولم يكن مفرطاً بالحلم الصهيوني والمشروع الاستيطاني الصهيونيين أبداً حسب حزب العمل؛ فكل من الحزبين كان وما زال يعزز الصهيونية روحاً وممارسة على طريقته وبأسلوبه، وكل يتمثل " بالقيم التي له " والقيم الإنسانية والخُلُقية والحضارية الحقيقية أول شهيد وأول ضحية للطرفين اللذين يحكمهما الحقد العنصري على الآخرين، لا سيما العرب، وهو الحقد النابع من اعتقاد راسخ " بالتفويض والتفضيل الإلهيين " وامتلاك القوة، ومن تربية عنصرية وتغذية استعمارية مستمرة منذ قرون من الزمن :‏
                  فقد استطاع محور رابين ـ بيرس أن ينهي منظمة التحرير الفلسطينية، التي أنهت بدورها الانتفاضة التي أقلقت العدو وأيقظت الأمة نسبياً وأوصلت الصوت الفلسطيني إلى العالم على أفضل وجه، وذلك بعد أن أنهت المنظمة البعد القومي للقضية الفلسطينية وجعلتها نشيداً عرفاتياً يردد: " يا وحدنا " لينفذ منه إلى الروح الفلسطينية ويزرع فيها اليأس من الأمة، ويغرس الشقاق بينها وبين الفصائل الثابتة على العهد والمبدأ والموقف والنضال. كما استطاع ذلك المحور، محور رابين ـ بيريس، أن ينفذ في الجسم العربي بسهولة ويسر ويدمر معاقل التضامن العربي في السياسات العربية معقلاً معقلاً، ليصبح هو محور العمل العربي المستقبلي، وليصبح الشريك في تحالفات ومستقبل ومصير لبعض الأنظمة والحكام في وطن الأمة الذي يختطفه الحكام، وليضع حداً عملياً للمقاطعة العربية التي ما زالت تتلطَّى في المكاتب والعواصم وكأنما هي خجولة من نفسها وتاريخها وماضيها، يطالب البعض بدفنها وتتأبى هي على الدفن بانتظار حضور أكبر قدر ممكن من المشيعين في موكب رسمي لائق ؟!؟‏
                  لقد دمر حزب العمل وإدارة كلنتون معاً، في تعاونهما وتحالفهما الإستراتيجي في المنطقة، كل فرص العرب في الرؤية القومية السليمة للمستقبل والمصلحة والوجود، بَلْهَ فرصهم في النهوض ومواجهة الأخطار والتحديات المحدقة بهم؛ وأصبح مسرح تنقل بيريس من الرباط إلى عمان ومضيق هرمز، وقنصلياته المنظورة في نواكشوط وتونس والدوحة ومسقط والرباط، عدا سفاراته المعلنة في القاهرة وعمَّان، وقنصلياته غير المنظورة في أقطار عربية أخرى، وأخذ يتمدد نحو الجامعة العربية بسم قتال ونحو المواقع الإستراتيجية للأمة بأحلاف حاقدة؛ وبعد أن وضع الفلسطيني في مواجهة الفلسطيني، أخذ يعد العدة ليضرب العربي بالعربي، وبلع الطعم كثيرون، ممن ما زالوا تحت وقع النشيج على راعي نعمتهم وأمنهم المقتول إسحاق رابين، ومن تأخذهم الدهشة غير مصدقين سقوط بيريس الذي أراده كلنتون أن يكون رئيساً صهيونياً فلم يكن! فكيف يحدث ذلك وكل ما يريده كلنتون عندهم يكون؟! وإلى أين تذهب بهم مصائرهم بعد أن قدم بعضهم ملايين الدولارات ليدعم " الأخ " شمعون في حملته الانتخابية؟!‏
                  ويبدو أن هذه المرحلة من المشروع الصهيوني ينبغي أن تتوقف، حسب المرجعيات الغربية والصهيونية، ليستكمل صهيوني بلا أقنعة المرحلة التالية التي بدأها الصهيوني الأول؛ تلك التي تتمسك بالأرض، وتحول الصهيونية إلى ترجمة مادية صارخة في صرامتها، وهي التي يلخصها رأي الحاخام الأميركي إسحاق برنستاين القائد الروحي في الحي اليهودي في مانهاتن: " طالما أن الحرب التي تم بمقتضاها الاستيلاء على الأراضي كانت مخططاً لها من قبل الحكومة الإسرائيلية والتي طبقاً للشريعة اليهودية لها قوة " الملك في الإنجيل " فإن كل الأراضي التي احتلت نتيجة لهذه الأرض هي ملك خاص لإسرائيل " / ـ عن تشومسكي ـ / وعلى ذلك فإن نتنياهو يتمسك بالأرض ليعزز الصهيونية، ويعزز الصهيونية ليتمسك بالأرض، عائداً إلى مبدئية تلمودية أو عائذاً بها، وهي مبدئية ملزمة لمن يشاطرونه اعتقاده من الغربيين وعلى رأسهم مسؤولي الإدارات الأميركية بمن فيهم الرئيس كلنتون ومن قد يأتي بعده، مبدئية تقول: " سوف أعطيكم ميراثاً إلى الأبد، ربما تحاجون بقولكم: ليس لدي ما أعطيكم سوى ما يخص الغير، ومن المؤكد أنها ليست ملككم، بل هي من نصيب سام بن نوح، وأنتم أبناء سام بينما هم ـ يعني الكنعانيين الذين سميت الأرض باسمهم ـ من نسل حام. ولو سألتم: ماذا يفعلون هناك إذن؟! أجيب: إنهم يحرسون المكان إلى حين مجيئكم "، ولأنها " وعد الرب " وهم يحتلونها " فاحتلالهم لها يساوي استيلاء الرب عليها " ومن يملك أن يجلي الرب عن أرض احتلها؟! لكي يجمع " شعبه المختار " فيها وتصبح أرض " إسرائيل "!؟ ومن يملك أن يعترض ويرفض، لا سيما عندما يتداخل الرب واليهودي ويصبحان عاشقاً ومعشوقاً؟! و " من يتجاسر على رمي ردائه بين أسد ولبوة عند جماعهما " كما يقول الرابي يوحنان في سفر سنهدرين عن ذلك الرب وشعبه؟! وحسب الحاخام ليرمان: " لا يجوز لغير اليهودي أن يستحصل على أملاك في أرض إسرائيل. "‏
                  فهذه المبدئيات المرجعية الملزمة سياسياً ودينياً لكل المتصهينين في الغرب، ولمن رعوا المشروع الصهيوني الاستيطاني وتناوبوا على دعمه ورعايته، هي التي تشجع نتنياهو على القول بأنه لن ينسحب من الجولان لأن الأرض عامل إستراتيجي لا تعادله في الأهمية الصواريخ ولان هذه المواقع لا تقدر بالذهب، وأنه لن ينسحب من الخليل ولا من أي شبر من القدس، وسوف يستأنف بناء المستوطنات ـ وبناؤها لم يتوقف أصلاً ـ وأنه سيمُنُّ على العرب بالسلام مقابل السلام، فهو أحرص منهم على السلام، وعلى مصالح الرب ـ الأميركي الوجه ـ في المنطقة، وعلى أرض الرب التي أعطاه إياها بقوة السلاح وقوة الخرافة وقوة الوعد!؟ وخلف نتنياهو يموء الحقد بوجه أصفر: إسحاق شامير، ثم أريل شارون، ثم رافائيل ايتان، ثم.. وثم.. وثم.. وآخر الركب عرفات يسوط الفلسطينيين ليصلُح راعياً أميناً لغنم صهيون، والملك حسين بكوفية جدنا يرفع لصهيون راية إخاء رابيني على أكوام الجثث ومناقع الدم، في هذا الوطن العربي المنكوب.‏
                  الصهاينة يريدون " تعزيز الصهيونية " أي تعزيز القبضة على الأرض وممارسة مزيد من الإبادة والحقد، وهم يقرؤون صفحة الواقع العربي جيداً، بما فيه من تخاذل وفرقة وضعف، فهل يكون لهم ما يشاؤون؟! إنه سؤال ملقى علينا نحن العرب جميعاً، وعلينا أن نواجهه جميعاً؛ولا أشك لحظة واحدة في إمكانية مجاوزتنا لما نحن فيه من ضعف وعجز إذا نحن قررنا مواجهة التحدي بصدق بوصفنا أمة واحدة مصيرها مشترك، ووجودها القومي فوق قطرياتها القتالة في ضيق أفقها وأنانية أنظمتها، واعتمادها حتى على العدو فيما يخص أمنها وتقدمها وأسس عيشها، " ذلك لأنه: أن تريد " إسرائيل " وأن تحقق ما تريد، يعني بالقدر نفسه أن نريد نحن أو لا نريد "، وأن نحسن التعبير عن إرادتنا بلغة العصر وأسلحة العصر ومنطق العصر. إن تعزيز الصهيونية المستمر والمتجدد على يد الليكود اليوم وعلى يدي العمل أمس، يطرح على أمتنا العربية أن تجدد حقها وتضامنها وموقفها القومي وأن ترى إلى نفسها وخطابها من منظور جديد، حتى " لا نغفل أو نستغفل " كما قال الرئيس الأسد، وأن تقوم بذلك في إطار رؤية تأخذ التجارب والممارسات السابقة في الاعتبار، ليكون وئام ووفاق وتكامل بين " الروح والجسد " العروبة والإسلام، بين الوطن والمواطن، بين القول والعمل، بين الأمن والأمان والحرية ورغيف الخبز والعيش الرضي بمداه الواسع، الذي يمكن المواطن من أن يستشعر الوطن والتاريخ والحرية ومعنى الحياة والكرامة في كيانه وهو يعمل، ويسير في الشارع، ويقف على خط المواجهة مع العدو. فهل نحن فاعلون؟!‏

                  الأسبوع الأدبي/ع515//6/حزيران/1996‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    قمة الحد الأدنى
                    عملاً بقرار القمة الثلاثية التي عقدت في دمشق يومي / 7 / و / 8 / حزيران 1996 وضمَّت سورية ومصر والعربية السعودية؛ دعا الرئيس حسني مبارك إلى عقد قمة عربية موسعة في القاهرة بين / 21 و 23 / حزيران الجاري، للوصول إلى حد أدنى من التضامن العربي بمواجهة التطرف الصهيوني، الذي تجسد في وصول بنيامين نتنياهو وحزب الليكود والأحزاب المتدينة الشديدة التعصب والتطرف إلى السلطة في الكيان الصهيوني؛ وعبر عنه رئيس الوزراء المنتخب في برنامجه الأولي، الذي يتنكر عملياً لمرجعية مؤتمر مدريد ـ التي قامت عليها المفاوضات الرامية إلى إنجاز العملية السلمية ـ ويأخذ بالمشروع الصهيوني التوسعي، مرحلة " إسرائيل الكبرى " ـ ضم الجولان والقدس والسيطرة على جغرافية الضفة كلها، وتسيير أمور الأمن فيها، واعتبار حدود " إسرائيل " الأمنية والسيطرة الفعلية التي " لإسرائيل " على تلك الحدود، تمتد من البحر إلى النهر؛ واستعداده لأن يقدم للعرب سلاماً مقابل السلام، بعد أن سرقت الدولة العنصرية الغازية منهم أرضهم ومزقت صفوفهم، وجعلتهم يفدون إلى أبوابها زرافات ووحدانا، باسم السلام وتحت رايته وطلباً له، وبرهنة منهم على أنهم يريدونه، وأنهم أهل له!؟‏
                    وقد صرح الرئيس المصري، الذي يستضيف القمة في القاهرة، بأن هدف هذه القمة لا يخرج عما حققته ودعت إليه وأعلنته قمة دمشق الثلاثية؛ التي جاء في بيانها: " أكد القادة الثلاثة أن الطريق الوحيد لتحقيق السلام يقتضي انسحاب " إسرائيل " من جميع الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان، إلى خط الرابع من حزيران 1967 وجنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة وفي مقدمتها القدس العربية، تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن 242 و 338 و 425 ومبدأ الأرض مقابل السلام، كما يقتضي أيضاً تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني."‏
                    وعلى الرغم من الضغط الأميركي الذي بدأ يمارس على الأطراف العربية، والنصائح والإرشادات " الكريستوفرية " التي تترى في وسائل الإعلام، فإن القمة ستنعقد وانعقادها في هذه الظروف هو بحد ذاته هدف هام، وسيأتي ذلك الانعقاد محققاً دعماً عربياً غير مباشر لسورية وموقفها وخطها الذي انتهجته منذ بداية المفاوضات الثنائية على أرضية مرجعية مؤتمر مدريد؛ وربما أكد دعوتها إلى انعقاد مؤتمر مدريد من جديد لتصحيح مسارات ابتعدت عنه كثيراً، فلا شك إذن في إيجابية الحدث وأهميته، ولكن السؤال هو: ما الذي يمكن تحقيقه في القمة، وما الذي نتطلع إلى أن يحدث فعلاً؟!‏
                    تأتي هذه القمة بعد حرب الخليج الثانية وما أسفرت عنه من نتائج وما خلقته من علاقات وظروف وما قدمته من معطيات؛ وتأتي أيضاً بعد كل ما جرى بعد مدريد وما كشفت عنه الأنظمة العربية من سياسات وتوجهات ومصالح ونظرة قطرية ضيقة، وما تكشف من علاقات مستورة كانت لقادة عرب مع العدو عندما كان الصراع في ذروته، وكانوا ينكرونها ويستنكرون " ترويجها " وأصبحوا اليوم يتفاخرون بها وبقدمها، وكأنهم روَّادنا إلى الفضاء؟! وتأتي هذه القمة في ظروف تقوم فيها تحالفات عربية ـ إسرائيلية بإشراف ومباركة ودعم أميركي، أحلاف من أهدافها إعادة ترتيب المنطقة العربية، وخلق واقع جديد فيها يتماشى مع ما يسمى " النظام العالمي الجديد " و " السلام الإسرائيلي ـ النووي " المفروض على المنطقة، ولا تستطيع معظم الدول العربية نقضه أو رفضه وهي لا تريد ذلك أصلاً، كما لا تستطيع التريث في الالتحاق به؛ وكل هذه معطيات جديدة في الساحة العربية تدخل دار القمة مع الوفود، بل هي تسبقها لتحدد لون مقاعدها في تلك الدار، ولا يمكن مجاوزة هذا الواقع الجديد وانعكاساته على المناخ العام والمداولات واللقاءات والقرارات؛ وعلى الذين يتطلعون إلى مناخ مثالي يأخذ المستجدات الخطيرة بالاعتبار وينطلق منها، ومنها فقط، قافزاً فوق الخلافات، بحرص كامل على المصلحة العربية العليا، وبنظرة مستقبلية متفوقة في تجاوزها، عليهم أن يكونوا أكثر واقعية وأن يتذكروا أن الرؤساء والملوك العرب ليسوا ملائكة، ولا يسمح لهم بأن يكونوا على شاكلتها حتى لو أرادوا ذلك، فسيد البيت الأبيض جالس على كثير من المقاعد وهو أكثر الغائبين حضوراً، وأكثر الحاضرين ارتفاع أسهم في صنع القرار، كما أن روح الإرهابي رابين ترافق أصدقاءه، وتحالفات شرم الشيخ أهم من أرواح الجنوبيين ودماء أطفال " قانا ".‏
                    على هذه الأرضية ندخل بتواضع شديد إلى صرح الأمنيات القومية، على الرغم من تأكيد روبيرت بلليترو مساعد وزير الخارجية الأميركية في 8 / 5 / 1996 على أن القومية العربية " فقدت موثوقيَّتها "، لأننا ما زلنا نعتقد بإمكانية تعزيز تلك الموثوقية عبر مراجعة جريئة للذات تأخذ بالاعتبار دروس الماضي وتجاربه.‏
                    1 ـ القمة العربية الجديدة تعقد لتعزيز مسيرة السلام وللتذكير بأسسها، ولتأكيد مرجعية مدريد، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ولتظهر العرب صفاً واحداً مع السلام وما أسفر عنه من نتائج، وعزمهم على السير في ذلك النهج للوصول به إلى الغاية المرجوة منه؛ وهذا يستدعي طرح الأسئلة التالية:‏
                    ـ أي سلام يريد العرب مع الكيان الصهيوني؟! أهو ذلك الذي حققه بعضهم مع شمعون بيريس ـ سلام أوسلو ووادي عربة ـ مع ما رافق ذلك ونتج عنه من اختراقات وتطبيع وشراكة استراتيجية لأنظمة عربية مع العدو، الذي ما زال يغوص بدم العرب ويرتب الأحلاف ضدهم؟! هل يريدون " سلامه النووي " وهيمنته الواضحة، ومشروعه التوسعي المستمر، أم ستكون لهم وقفة مراجعة لما تحقق، ويرون ضرورة وأهمية أن يقيموا مشروعاً عربياً بمواجهة المشروع الصهيوني المستمر في ظل الحرب كما في ظل " السلام "؟! وإن فكروا بفعل ذلك فهل سيكون مباحاً لهم، وهو يعني الاستقلال المؤدي إلى قرارات قد لا توافق المصلحة الأميركية التي تتماهى مع المصلحة " الإسرائيلية "، وهما تتعارضان مع المصلحة العربية، فهل هم على استعداد للذهاب إلى هذا الحد، حد الاستقلال ومراعاة المصالح العربية العليا التي لا بد من أن تتضارب مع مصالح الآخرين؟! إنني لا أرى أن الأنظمة العربية ترمي إلى عقد قمة لتلبية هذا الطموح؛ وحتى لا نذهب بعيداً لا يبدو أن العرب يتوجهون في هذا المنحى.‏
                    ـ هل سيبارك المجتمعون كل ما نشأ منذ مدريد ويعتبرونه مكاسب قومية، ونجاحا للسلام بالمفهوم العادل والشامل والدائم للسلام: أي هل سيباركون " جميعاً " أوسلو ووادي عربة وما بني عليهما ونتج عنهما، وفي سياق ذلك ما أسفرت عنه قمة شرم الشيخ وما رتبته وما ترتبه على الملتزمين بها، وهي قمة عقدت لدعم " إسرائيل " الإرهابية في وجه المقاومة التي سميت إرهاباً؟ أم سيكون لهم مواقف مختلفة من ذلك تؤدي إلى حوار فغضب فنِفار فعراك!؟ أم أن ذلك كله مما ران عليه الماء ولا يجوز الغوص لانتشال ما ران عليه الماء، حتى لو أدى الأمر إلى أن يفسد الماء مع الزمن بفعل ما فيه؟!‏
                    ـ هل سيدعون إلى تنسيق عربي بين الأطراف المعنية بالمفاوضات الثنائية، لا سيما أن طرفين رئيسين من تلك الأطراف لم يحققا أية خطوة تذكر على طريق التفاهم والاتفاق مع الكيان الصهيوني، وهما سورية ولبنان؟ وهل يمكن أن يقوم أصلاً تنسيق وثقة بين الأطراف بعدما شهدناه من بعضها من عبث واختراقات وصفقات ترتب خلف الكواليس مع العدو على حساب القضية والأطراف الأخرى، ثم يتم التفاخر بالغدر ـ الشطارة ـ الذي أدى إلى تحقيق ما تحقق، وهو في جوهرة سم ونقمة، وكأن ذلك السم والنقمة انتصارات باهرة؟!‏
                    ـ هل سيتم تراجع عما تم من تطبيع مع العدو، أم سينحسر ذلك التطبيع، أم ستتوقف الهرولة العربية باتجاهه؟؟ وسيبقى ما كان بين أقطار عربية والكيان الصهيوني على ما كان عليه؟ أم سيلجم بعض العرب خيلهم الرامحة إلى أبواب العدو رافعة رايات الصلح والتطبيع، معبرة عن الصداقة والرغبة الصادقة في التعاون معه؟!‏
                    في تقديري لن يتم أي تراجع عن أية خطوة من الخطوات المتخذة على تلك الطريق، وربما تم المزيد من التطبيع لكن في ظل عدم الإعلان عن ذلك؛ وسوف يستمر التسابق لكسب ود العدو الصهيوني لأنه لا يوجد بين العرب الذين يهرولون باتجاه " إسرائيل " من يفكر مجرد تفكير برفض رغبة أميركية ـ وتلك أكثر من رغبة أميركية ـ فكيف بهم يعصون أمراً مشدداً يعرفون تكاليف عصيانه؟!‏
                    2 ـ القمة العربية تعقد لتعزز موقف كل من سورية ولبنان في وجه رفض " إسرائيل " المعلن للانسحاب من الجولان، واستمرارها باحتلال جزء من جنوب لبنان، ولتؤكد موقفها من رفض العدو الانسحاب من الخليل، وإصراره على أن القدس الموحدة هي " عاصمته " الأبدية، ورفضه قيام دولة فلسطينية في الأراضي التي يحكمها عرفات حكماً ذاتياً؛ أو هي، أي القمة، تريد أن تعلن موقفاً مناصراً للمفاوضين الذين ما زالوا يقفون على الشاطئ، ولأولئك الذين يغوصون إلى ما فوق أعناقهم في ماء مستنقع السلام الآسن الذي تزيده " إسرائيل " كل يوم أسناً فساداً، وتود أن تناصر تلك الأطراف قبل البدء في المرحلة التالية من المفاوضات، من أجل الوصول إلى نتيجة مقبولة؛ في الوقت الذي يقول فيه حكام " إسرائيل ": إنهم سيرفضون كل المطالب التي من هذا القبيل، وسيعودون عما كان غيرهم من الحكام قد " فرطوا " فيه. ولنا أن نسأل في الوقت الضائع بعض الأسئلة ننثرها على هذا الهامش الرحب:‏
                    ـ هل الدول العربية الماضية في التطبيع، التي تعلن صراحة أو مداورة، أن بحث مثل هذه الأمور ينبغي ألا يتم في القمة العتيدة، هي على استعداد لعدم التوسع في التطبيع مع العدو إلى أن تصل سورية ويصل لبنان إلى استعادة أراضيهما المحتلة، وإلى أن يحسم أمر القدس والعودة ـ ومن يتحدث اليوم عن العودة؟! بل هل تلك الدول على استعداد لتأخير استقبال القناصل الإسرائيليين في أثناء القصف الوحشي الذي يمكن أن تقوم به دولة الإرهاب العنصري الصهيوني ضد جنوب لبنان والمتوقع في أية لحظة، كما فعلت في نيسان الماضي؟! أم أنها على استعداد فقط لمناصرة كلامية ليس لها مرتسمات على أرض الواقع؟؟‏
                    ـ هل يفرض أهل القمة على العدو وحليفه الأميركي، رؤية لمستقبل المنطقة، تجسد موقفاً مبدئياً من كل ما تتعرض له هويتها ومصالح أبنائها وقيمها وعقيدتها وصلات أقطارها بعضها ببعض، من تهديد وتآكل وتفتيت، خدمة للمشروع الصهيوني النقيض لكل حلم وأمل ومشروع عربي، ذلك المشروع الذي يتمدد ويتشعب، ويُحْقَن في العروق العربية صباح مساء؟ هل يمكن أن يقول أهل القمة العربية للعابثين بالحياة العربية والعلاقات العربية ـ العربية والمصير العبري والمصالح العربية، كفى إننا هنا نرى ونسمع ولا نرضى عما يجري، ولن نسمح باستمرار ذلك، وسوف يكون تضامننا مبدئياً وعملياً حول هذه المواضيع؟! أم ترانا ندخل القمة ونخرج منها ويبقى العبث بنا، وعبث بعضنا بما هو ملك لنا جميعاً، وبما هو مؤثر فينا جميعاً، كما هو من دون ردع ودون توقف؟!‏
                    3 ـ إن القمة العربية تنعقد بعد ظهور نتائج الانتخابات " الإسرائيلية " الأخيرة، أي بعد سقوط بيريس، الذي كان معظم الرسميين العرب يتمنون أن ينجح ويعملون لكي ينجح، على الرغم من خوضه حتى الركب في دم ذويهم في " قانا " وغير " قانا " من مناطق لبنان. وبعد الإعلان عن خطط اليمين العنصري في الكيان الصهيوني وأهدافه وتوجهاته، والقمة لا تريد أن تقول إن ذلك الأمر هو السبب الأول وراء انعقادها؛ أو هي تقول ربما كان هذا أحد الأسباب الملحة ولكنه ليس السبب الوحيد، وذلك السبب يستدعي، في تقديري، أن نقف عنده قليلاً، لنتساءل:‏
                    ـ هل يمكن أن تغير القمة العربية ببيان مشكوك في مدى الالتزام به، ما تعرف " إسرائيل " أنها تقوم عليه ولا يمكن أن تقوم بسواه من استراتيجية تفكير وتدبير وعمل، ومن مبدأ استخدام القوة وفرض الأمر الواقع بالقوة، وجعل الآخرين ينصاعون، يسلمون به أو يستسلمون له لا فرق؟! وهل يمكن أن تغير القمة العربية فعلاً في أساليب تعاون أقطارها وفي نظرتها للأمور الحيوية التي تهمها، وفي كيفية خدمة منظومات مصالحها وأهدافها المشتركة وحماية تلك المصالح والأهداف من عبث العابثين وطمع الطامعين؟!‏
                    ـ هل يمكن أن تغير لائحة إعلان مواقف، أو بيان نوايا يؤكد الرغبة في الإبقاء على باب السلام مفتوحاً ودعوة العدو إلى تركه كذلك؛ هل يمكن أن يؤثر ذلك في الأحزاب الدينية " الإسرائيلية " التي تعمل على التحالف مع الليكود، الذي يقاربها تعصباً وتطرفاً وتشدداً، ويعمل مثلها لوضع حد لما يسمونه " التفريط بأرض " إسرائيل " " وبأمنها؟ وهل يواجه العرب بتلك اللائحة قوة عسكرية وتقنية، وأحلافاً تقام من حولهم للنيل منهم وبتواطؤ مكشوف من بعضهم، وهل تكون تلك اللائحة سلاحاً، أم أنها تلوح بسلاح؟! وحبذا حتى التلويح بمنديل دام، على أرضية الغضب للكرامة والمكانة، في هذا الزمن العربي الرديء !! ولكن علينا أن نتذكر دائماً أنه: لا يقلى البيض بالماء، ولا تحجب الكف السماء؛ وإذا ما أراد العرب تغييراً فعلياً لما هم فيه، فلابد لهم أولاً من تغيير ما بأنفسهم حيال بعضهم بعضاً، وإقامة جسور الثقة فيما بينهم، واختيار أدوات ووسائل وأساليب مواجهة تأخذ القوة، كل مناحي القوة، بالاعتبار، لأن هذا وحده ما تفهمه وتحسب حساباً له دولة الإرهاب الصهيوني، وهذا وحده ما يمكن أن يبني وينقذ ويحرر ويردع؛ ولا أرى أن هذه القمة مؤهلة لفعل ذلك، ولكنها على أية حال قمة قد تذيب بعض الجليد الذي طال تراكمه فوق الجسم والقلب العربيين.‏
                    إن هذه القمة التي أتت في وقت عصيب بالنسبة للأمة العربية، ليس هدفها فقط تحديد موقف من حكومة جاء بها التطرف الصهيوني، ولكنها مطلب عربي يُسعى إليه منذ بدأ تدمير العلاقات العربية ـ العربية بعد حرب الخليج الثانية؛ وإذا ما استطاعت أن تخرج العرب من النفق المظلم الذي أدخلتهم فيه تلك الحرب وما تلاها من أحداث ومؤتمرات ـ مؤامرات، فإنني لا أشك في أنها تستحق العناء الذي يبذل من أجلها.‏
                    سوف يلتقي في هذه القمة الملوك والرؤساء من بعد طول مرارة ومكابدة وغياب، وهذا شيء حسن؛ وقد يكون لبعض الخبراء منهم في ذرف الدموع فرصة لذرف دمعة حنين في لقاء عربي ـ عربي ولو على أطلال التضامن وأشلاء الأحلام العربية المجهضة، وربما دفع ذلك إلى حنين دامع، شبيه بالحنين بذلك الذي كان للبعض منهم على رابين، ولم لا أفلا تستحق أشلاؤنا ودماؤنا وأحلامنا القومية الشهيدة دمعة وفاء.. في القمة ؟!‏
                    لا أشك مطلقاً بجدوى عقد هذه القمة، ولكنني أشك في قدرتها على اتخاذ قرارات الحد الأدنى المطلوبة من قمة الحد الأدنى العربية التي تواجه، أو يفترض فيها أن تواجه، تعزيزاً وتجديدا معلنين للصهيونية، بكل المعاني والأبعاد والمعطيات والتوجهات والإمكانيات التي لذينك التعزيز والتجديد؛ وتبقى بعد ذلك كله وقبل ذلك كله قمة عربية عتيدة، مطلوبة ومنشودة ومرتجاة، فيا ربنا لا تخيب رجاءنا بها، إنك على كل شيء قدير.‏

                    دمشق في 12 / 6 / 1996‏
                    الأسبوع الأدبي/ع516//12/حزيران/1996‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      قراءة في قمة العرب
                      أهم ما في القمة العربية أنها عقدت، وأهم ما في انعقادها أنها أذابت بعض الجليد الذي سكن مناطق من حدود الأقطار العربية، وأحاط قلوباً وآمالاً بصقيعه المميت؛ ولا يذهبن بنا التفاؤل إلى حدود القول بأن الاجتماعات الثنائية التي تمَّت بين بعض القادة العرب أزالت ما في القلوب والنفوس من شكوك وضغائن وما نمًّاه وزرعه الأعداء من تلك الشكوك والضغائن، فليس الأمر كذلك فيما أقدر، إذ هناك ما يبقى في النفوس لأنه من طبع تلك النفوس، ولأن ما وصل إليه بعض الحكام العرب من التنسيق والتعاون مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية أكبر بكثير من كل القمم والقيم العربية ومن الجسور التي تقيمها ـ وهو أكبر عند قلة قليلة جداً منهم من انتمائهم العربي ذاته ـ ولأن ما حمله بعض من حضروا القمة كان رسائل صريحة تمثل رأي كلنتون ونتنياهو أكثر مما تمثل موقفاً عربياً أو مصلحة عربية؛ وكانوا في أدائهم استفزازيين إلى الحد الذي تستشعر معه أنهم يستهدفون القمة ذاتها، فهم يتهمون بعض القادة والأقطار بالعمل على تخريب " السلام في المنطقة "، " وهو سلام " إسرائيل " النووي " المفروض على المنطقة؛ ويحملونهم ـ أو يحملونها ـ مسؤولية انهيار الأمن فيها، ومسؤولية ما يسميه العدو الصهيوني وحماته " الإرهاب " وهم يعنون المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال، تلك التي يقوم بها استشهاديون نوعيُّون ضد العدو في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، وعقدت من أجل القضاء عليها قمة شرم الشيخ التي جاء العاهل الأردني ليطلب ـ كما أوصاه وكلفه كلنتون ـ الالتزام بها أو الالتحاق بها بالنسبة لمن لم يحضرها ولم يوافق عليها، وهي القمة التي أعطت المتردي بإثمه، شمعون بيريس، ضوءاً اخضر للقيام بتفجير عناقيد حقده العنصري في جنوب لبنان، وليخوض هو وعنصريوه في دم أطفال " قانا ".‏
                      أهم ما في القمة العربية أنها عُقدت، وكان في عقدها جرأة وتحد لقوى لم تشأ لها أن تنعقد، لأن تلك القوى لا تريد للعرب أن يلتقوا، ولا تريد لهم إطلالة جديدة من أي نوع على أي شكل من أشكال التضامن أو حتى الحوار العربيين؛ لقد كانت قمة القاهرة قمة عربية خالصة في قرار الدعوة إلى عقدها، وقمة عربية خالصة في التوجه الذي رمى إلى تحقيقه الذين بادروا إلى الدعوة إليها؛ ومن الإنصاف هنا توجيه التحية لمصر وسورية والسعودية، لأنها الأقطار التي استشعرت الحاجة الملحة للقمة، والأقطار التي اتخذت قراراً في قمة دمشق الثلاثية بالدعوة إليها، ولأنها تصدت للصعوبات والضغط الذي نتج عن تلك الدعوة ـ المبادرة حتى تمكنت من عقدها وإنجاحها.‏
                      صحيح أن التدخل الخارجي والضغط والتصريحات المحبذة لاتخاذ توجه سياسي عربي عام مرن ومتساهل قد أثرت نسبياً في مسار القمة وأدت إلى تخفيف من الحدود التي كانت أدنى المطالب القومية منها، ولكن ما أسفرت عنه القمة، التي أتت بعد ست سنوات عجاف من الأداء السياسي العربي المعتل، على المستوى القومي، كان مقبولاً، إذا ما أخذ في ظرفه والمناخ العربي والدولي الذي تحقق فيه؛ ولمن يود معرفة الفارق بين تطلع أهل المبادرة ونتائج أهل القمة أن يقارن بين صيغة بيان قمة دمشق وبيان القمة الموسعة في القاهرة؛ وبذلك يقف على النتائج التي أسفر عنها الضغط الأميركي والدور الذي لعبه " اللوبي العربي" الذي يعمل متعاوناً مع الكيان الصهيوني ومحققاً لأغراضه ولمصالح أصبحت مشتركة بينه وبين العدو.‏
                      لقد نجحت قمة القاهرة في تركيز الانتباه على مرجعية مدريد، وعلى رغبة العرب في السلام، وعلى اختيارهم له بثبات مبدئي، وأكدت بوضوح على الأهداف النهائية التي يرمي إليها السعي العربي للسلام، تلك التي من دونها لا يكون سلام ولا يكون ثبات على ما تحقق حتى الآن من خطوات عملية تحت " مظلة السلام "؛ ولا يهم أبداً موقف حكومة الليكود من ذلك، بل المهم ثبات العرب على ما اتخذوه من قرارات، وما أعلنوه في بيانهم.‏
                      ويهمني أن أتوقف عند الفقرة التالية من بيان القمة، لما لصياغتها الدقيقة من مدلول، إذا دعمه الفعل السياسي العربي بجدية فسيشكل ذلك موقفاً ومؤشراً في آن معاً: موقفاً عربياً موحداً بعد أن افتقدنا المواقف طويلاً، ومؤشراً على مدى جدية العرب في إعطاء ما يقولون طعم الواقع والفعل.‏
                      جاء في بيان القمة: " يؤكد القادة العرب أن أي إخلال من جانب " إسرائيل" بهذه المبادئ والأسس التي قامت عليها عملية السلام أو تراجع عن الالتزامات والتعهدات والاتفاقات التي تم التوصل إليها في إطار هذه المسيرة، أو المماطلة في تنفيذها، من شأنه أن يؤدي إلى انتكاسة عملية السلام بكل ما يحمله ذلك من مخاطر وتداعيات تعود بالمنطقة إلى دوامة التوتر يضطر الدول العربية كافة إلى إعادة النظر في الخطوات المتخذة تجاه " إسرائيل " في إطار عملية السلام، الأمر الذي تتحمل الحكومة الإسرائيلية وحدها المسؤولية الكاملة عنه. " وجاء في البيان تأكيد على الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967 في كل الجبهات، وهو ما تتضمنه وتعنيه عملياً الإشارة إلى القرارات 242، 338، 425 بما في ذلك القدس، كما جاء تأكيد على حق العودة، وعلى أن الصراع العربي " الإسرائيلي " هو جوهر القضية.‏
                      هذا الوضوح لا يترك الثغرات التي شكلتها اتفاقيات أوسلو ووادي عربة من دون موقف ورأي ـ وإن كان للأسف قد باركها مباشرة أو مداورة ـ كما أنه لا يترك العرب " كافة " من دون مسؤولية عند عدم التزام العدو بتنفيذ ما طالبوا بتنفيذه، لا بوصفه شروطاً سابقة كما يحب العنصري المستجد نتنياهو أن يقول، بل بوصفه المرجعية والمبادئ التي انعقد على أساسها مؤتمر مدريد وقامت عل أرضيتها مفاوضات، وقد استهلكت جهداً مضنياً حتى استقر الرأي عليها عربياً وصهيونياً ودولياً؛ هذا إذا استبعدنا صيغ التملص والذرائع التي قد يلجأ إليها من يودون التملص من التزاماتهم تلك لسبب أو لآخر، سواء كانوا صهاينة أم عرباً، وقد عودتنا سياسات أنظمة عربية على فعل ذلك، وبأسلوب لا يخلو من البراعة في بعض الحالات؛ أمّا العدو الصهيوني فلا نعرف له وجهاً سوى ذلك الذي يزيف الحقائق والوقائع ويتنكر لكل اتفاق ويتملص من كل التزام لا يخدم مشروعه الصهيوني الاستيطاني التوسعي الذي يحلق باستمرار في أفق الأسطورة والوعد التوراتي الذي يكمن فيه رصيد العنصرية المكللة بالعقيدة " الربانية " ؟!.‏
                      لقد انعقدت قمة عربية أخيراً، وفي هذا انتصار لمن يعلقون على التضامن العربي أهمية استراتيجية، ولمن يريدون أن يعطوا للعمل العربي المشترك انطلاقة حقيقية، ولا يرون خلاصاً للأمة من دون ذلك؛ فهل يتمكن هذا التيار في السياسة العربية من الاستمرار في نهجه، ومن الإمساك بأولئك الذين يتفلَّتون من كل التزام عربي، ويلقون خلف ظهورهم بكل مسؤولية قومية، ويهرولون باتجاه العدو، ويقيمون معه الأحلاف العسكرية والسياسية ضد مصالح أمتهم وضد السياسيين العرب الآخرين والأقطار العربية الأخرى؟؟ إن هذا هو الامتحان الصعب الذي يخوضه هذا الفريق من السياسيين العرب، وهذا هو موضوع تبصر وأمل كثيرين من العرب في الوقت ذاته.‏
                      إن العدو الصهيوني وحليفه الأميركي سيحاولان إسقاط كل إيجابيات القمة العربية واحتواء ما قد تفضي إليه من تنسيق وتعاون عربيين؛ وهذا أمر طبيعي فمن ينتظر من أعداء الأمة العربية غير ذلك يكن غارقاً في الوهم، ولكن ليس المهم ما سيقوم به العدو في هذا المجال بل المهم هو ما سنقوم به نحن العرب، وما سنتمسك به وندافع عنه بصلابة وشجاعة، وما نعتبره حدوداً حيوية لمصالحنا القومية لا يجوز تخطيها.‏
                      إن الأشهر القادمة ستكون حاسمة، وربما توجًّب على العرب أن ينتظروا إلى ما بعد تشرين الأول القادم وهو شهر الانتخابات الأميركية، التي لا أقدر أن شيئاً عملياً مهماً سيحدث قبل ظهور نتائجها، ولكن من هذا التاريخ إلى ما بعدها فإن المناورات ستكون كثيرة وخطيرة وقاسية، وما ستسعى " إسرائيل " إلى الحصول عليه من رئيس أميركي منتظر سيكون كبيراً، وما سيمارس على العرب من ضغوط سيكون ضخماً؛ فهل تثبت قمة العرب أنها قمة الوعي والاحتمال والمواجهة، وهل تراها تقوى على تحمل تبعات إعادة ترتيب البيت العربي الذي يحتاج إلى كثير من الترتيب؟ وهل يتمكن القادة العرب من ضبط انسياب المياه السياسية العربية في الأرض الشديدة الانحدار باتجاه الحاخام وحليفه العم سام؟! إن تلك مراهنات صعبة ولكن النجاح فيها ليس مستحيلاً، وما نود أن نتطلع إليه هو الإيجابي والصحيح والواضح والمبدئي والخُلُقي في العمل العربي ـ العربي وفي الحياة العربية بكل أبعادها ومستوياتها؛ فهل يتاح يا ترى لظلال ابتسامة تتراقص على شفاه العرب أن تتحول إلى ابتسامة، ولو لبرهة عابرة من هذا الزمن الصعب؟! فلقد طال كثيراً استغراق وجوهنا في كآبة العبوس وبؤس الحزن المخيم على النفوس، في وطن يهَراق فيه دمنا وكرامتنا في آن معاً، ويتفرج منا على ذلك من يتفرج، ويشمت بسببه من يشمت، ويبكي من يبكي، من دون أن تنفتح جنبات القلب العربي الواحد على أمل مشرق في صبح فعل عربي واحد منقذ ومؤسس لمرحلة جديدة كلياً في الحياة العربية؛ وإننا لفي أمس الحاجة إلى بداية تلك المرحلة والإحساس بها بعمق وجدية وجرأة، فهل يستعصي علينا تحقيق هذا الأمل، آمل من كل قلبي ألا تخيب آمالنا من جديد .‏
                      دمشق في 25 / 6 / 1996‏
                      الأسبوع الأدبي/ع518//27/حزيران/1996.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        الصراع في المستقبل القريب
                        الانقلاب العسكري الذي حققه رجال الحرب الصهاينة بأسلوب سلمي ـ ديمقراطي، قدَّم اليمين الصهيوني مدعماً بشراسة الأحزاب الدينية وخرافاتها وتعصبها الأعمى إلى الواجهة، ووضع في مقدمته صِلاً رضع من ثدي الإرهاب في مدرسة بيغن ـ شامير ـ شارون، وتدرب في الـ c.i.a ـ ربما عندما كان أميركياً يحمل اسم بنيامين سوليفان ـ ليكون رجل الأمن الذي يريد ـ وإرادته واجهة للإرادة العسكرية التوسعية التي ترغب في الاحتفاظ بالأرض العربية المحتلة كلها، وفي فرض " السلام النووي الصهيوني " على العرب بقوة السلاح والاستيطان والأمر الوقع والدعم غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة " لإسرائيل "، أياَ كان قرارها وتطلُّعها وطمعها وممارساتها. وسوف يحصل الحكم الليكودي الجديد على كل ما يريده من إدارة كلنتون، التي تنافس الآن زعامة المرشح بوب دول على الرئاسة الأميركية القادمة، وفي مقدمة مستلزمات ذلك التنافس التسابق على تقديم كل ما يرضي الصهاينة ويعزز الاستيطان والهيمنة والأحلاف والمصالح التي تقيمها " إسرائيل " في المنطقة العربية.‏
                        لقد خلق هذا الانقلاب وضعاً جديداً في المنطقة بالنسبة لبعض العرب الذين تفاوضوا من وراء ظهر الأمة واستقووا بالعدو على أبناء أمتهم وأقطارها ـ ويلمحون بخبث لمن يحتمي بأمته، وكأن في ذلك عيباً، ولا يرون في احتمائهم بالعدو التاريخي لأمتهم وتحالفهم معه ضد أمتهم العيب كل العيب ـ وقدموا مصالحهم القطرية وغير القطرية على المصلحة العربية العليا، فبعض أولئك يقدمه العهد الصهيوني الجديد والبعض يهدده بالاستبعاد إلا إذا لهث أكثر وراء سراب الجزَرَة المرفوع في فضاء صحراء العرب، والهدف زعزعة صف الموالين أكثر فأكثر سعياً وراء مزيد من الهرولة والموالين في كل الجبهات، مما يبقي المكاسب الصهيونية في حالة نمو والانهيارات العربية في حالة نمو أيضاً.‏
                        وجاءت القمة العربية الأخيرة لتقدم مشروع موقف عربي في مواجهة محتملة مع الموقف الصهيوني المعلن في برنامج حكومة نتنياهو، الذي يأخذ طريقه إلى التنفيذ بين تحذيرات العرب وتوقعات الأمل في الانتظار المعول عليه غربياً.‏
                        نتنياهو قدم لاءاته الثلاث، والقمة العربية أكدت مرجعية مدريد ورغبتها في السلام، الذي أصبح خياراً استراتيجياً لها؛ ولا يهم الآن على الإطلاق استعادة مخزون الذاكرة للوقوف على النقلة الضخمة بين لاءات قمة الخرطوم ومنظور الحد الأدنى والأقصى الذي يغلف قمة القاهرة، كما لا يهم عقد مقارنة بين رصيد لاءات حكومة نتنياهو ورصيد لاءات قمة الخرطوم، وما آلت إليه الأمور سابقاً وما يمكن أن تؤول إليه مستقبلاً بعد قمة القاهرة مع وجود ما نعرف من رصيد؛ المهم الآن هو معطيات المرحلة التي وصل إليها ما يطيب لي أن أسميه: الصراع العربي الصهيوني، ولو كره الذين ينفون كلياً وجود هذا الصراع اليوم، ويقولون بدرجة القرب والبعد " بيننا " وبين " إسرائيل " والمدى الذي بلغه انهيار الحاجز النفسي الذي كان يروق للمرحوم السادات الحديث عنه مع كامب ديفيد، فأنا من القائلين بكون ما بيننا وبين العدو الصهيوني هو صراع وجود، وسوف يستمر إلى أن يصل مرحلة الحسم النهائي التي ستكون لصلح العرب مهما طال الزمن ودالت الدول.‏
                        ومن المعطيات التي تقدم مؤشرات على مستقبل الصراع في المرحلة الحالية التي وصل إليها، وهي مؤشرات ذات طبيعة آنية محكومة بالمتغيرات السريعة التي يمكن أن تحدث، أذكر:‏
                        ـ موقف مصر العربية قبل قمة القاهرة وفي أثنائها وبعدها، وعودة الوعي فيها إلى حقيقة أنه لا يوجد حلول لمشاكل مصر خارج أمتها العربية، ولا يوجد حلول للعرب في صراعهم مع عدوهم لا تكون فيها مصر طرفاً رئيساً، وتأسيساً على:‏

                        * الموقف القومي العربي لمصر الآن.‏
                        * وعلى اختيار مصر الحر الذي نشأ على أرضية من المعطيات، امتدت من الاتفاقية العالمية للأسلحة النووية،التي بقيت " إسرائيل " خارجها، إلى التحالف الأردني ـ الإسرائيلي ـ التركي، بإشراف أميركي، ومحاولة الأردن التطاول على دور مصر العربي، وعلى دورها في المنطقة من منظور أميركي ـ إسرائيلي لها، لا سيما بعد أوسلو ووادي عربة وقمة شرم الشيخ.‏
                        * وعلى الحملة الوقحة التي يشنها الصهاينة على مصر من مواقع متعددة منها الكونغرس الأميركي، والتي تتذرع بذرائع مختلفة منها شراء مصر صواريخ سكود، وكأنه لا يجوز لمصر أن تدافع عن نفسها عند الضرورة، بينما يحق " لإسرائيل أن تتسلح بكل أنواع الأسلحة المحظورة دولياً وغير المحظورة في كل وقت، وتهدد الآخرين في كل وقت، وأهل الحملة يهددون مصر الآن بقطع المعونة الأميركية السنوية عنها.‏
                        ـ موقف سورية ومصر الآن، وفي ظل التهديد الصهيوني الشرس لسورية، والخطوات التي تتخذ بتنسيق بينهما لاستعادة التضامن العربي والقرار العربي والمبادرة العربية، والعمل العربي المشترك.‏
                        ـ التغيرات السياسية في تركيا، ودخول حزب الرفاه، بزعامة نجم الدين أربكان، الحلبة السياسية التركية، ووعوده السابقة التي قطعها بتعامل أفضل مع الجوار، وموقفه وموقف حزبه من الاتفاقية المعقودة مع " إسرائيل "، وهي التي لا يعرف البرلمان التركي عنها شيئاً لأنها لم تعرض عليه أصلاً ـ وهذا من مفارقات الديمقراطية تحت الرعاية الأميركية ـ وما يمكن أن تقدمه تلك المتغيرات من معطيات جديدة مؤثرة في المناخ السياسي العام في المنطقة كلها.‏
                        ـ الوضع داخل المجتمع اليهودي في فلسطين المحتلة، حيث يبدو بوضوح تنازع خفي له أبعاده التي يمكن أن تغدو مؤثرة سلبياً على البنية السياسية والاجتماعية هناك، وعلى المستقبل البعيد كله.‏
                        ـ حملة الانتخابات الأميركية وما يمكن أن تقدمه من معطيات، وتأثيرها الذي يشل بدرجة أو بأخرى الحركة الجدية على محاور التفاوض بين أطراف مؤتمر مدريد.‏
                        ـ ما ستخلقه حكومة الليكود من واقع جديد على الأرض في الأشهر القادمة، بالاستيطان، والاستيلاء على الأرض، والإجراءات السياسية، وغير ذلك من برامج معتمدة أو ملمح إليها في خطة تلك الحكومة، أو مستنتجة منطقياً من احتمالات تنفيذ برامجها ومستلزمات تنفيذها.‏
                        ـ ما يمكن أن تقوم به المقاومة الوطنية العربية والإسلامية في أماكن عملها ضد الاحتلال، وما يسفر عنه ذلك الفعل من ردَّات فعل؛ وكذلك ما يتوقع أن يؤدي إليه الوضع العام في مدينة الخليل على وجه التحديد، التي سينفذ فيها العدو سلسلة من الإجراءات الأمنية والاستيطانية، لربط " كريات أربع " بوسط الخليل مروراً بالحرم الإبراهيمي؛ وردة فعل أهلها، الذين يفقدون أرضهم وأمنهم ووحدة مدينتهم جراء تنفيذ ذلك البرنامج.‏
                        إن هذه المعطيات جميعاً بتفاعلاتها من جهة، وموقف أهل القمة منها، وأسلوب تعاملهم معها من منطلق قومي وموقف عربي مبدئي موحد ـ إذا حصل ـ كل ذلك يؤثر في رسم صورة المستقبل الذي سيكون لمرحلة دخلناها من مراحل الصراع العربي الصهيوني على أرضية من الوعي أو عودة الوعي، بأهمية أن نكون معاً، وأن نكون أمة ذات موقف مبدئي، وقرار قومي يعرف طريقه إلى التنفيذ، لنأخذ طريقنا إلى الحضور باحترام بين أمم الأرض.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع519//4/تموز/1996.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          معادلات العقل الصهيوني
                          معادلات العقل الصهيوني تقوم على تركيب المغالطات وإكسابها قوة الانتشار، ثم تصديق تلك المغالطات وتثبيتها وإكسابها قوة الحق، وإلزام المنطق بها كبدهيات، بعد إلزام العالم بها بوصفها وقائع.‏
                          ولأن هذا العقل يستند إلى معطى عنصري ـ تلمودي من جهة وإلى تاريخ في ممارسة التحريف أدى إلى وجود تاريخ مزيف يستند إليه مؤرخون وساسة، ويقوم عليه تاريخ، فإنه يسوغ دائماً معادلاته وتطلعاته ويصوغها كما يريد، غير آبه بالعقل والمنطق والحقائق والوقائع، ويقدم ذلك للآخرين من دون تهيّب ودون احترام، وبوثوقية مثيرة للعجب من شدة الاجتراء على الحق والعقل والناس.‏
                          على هذا الرصيد الضخم يقيم مسؤولو الليكود في الكيان الصهيوني المحتل هذه الأيام سياستهم، ويقدمون على توجيه حملتهم على سورية متهمين إياها بممارسة الإرهاب ودعمه ويذهبون إلى حدود القول الوقح بأنها وراء التفجير الذي حدث في مدينة "الخُبَر'" في المملكة العربية السعودية، بهدف واضح يرمي إلى تسميم العلاقات العربية ـ العربية.‏
                          وفي الوقت الذي يسندون فيه مهام أكبر وزارة مستحدثة للإرهابي العريق أرئيل شارون المسؤول عن تنفيذ اجتياح لبنان وحصار بيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا 1982 ويكلفونه بامتياز بعمليات استيطانية واسعة وبالإمساك بورقة التفاوض على المياه، وبتكثيف الوجود الصهيوني في الجولان في هذا الوقت يقولون برغبتهم في "السلام" ويذهبون في شخص نتنياهو إلى الولايات الأميركية، ليقدموا من هناك، وفي ظل أجواء الانتخابات الأميركية الضاغطة التي تجعل كل مرشح للرئاسة يتسابق مع الآخر لتقديم الدعم غير المحدود "لإسرائيل" من أجل كسب أصوات اليهود، ليقدموا معادلات:‏
                          ـ "السلام مقابل السلام".‏
                          ـ الأمن مقابل السلام".‏
                          وليحرضوا الكونغرس على فرض حصار اقتصادي على سورية بوصفها "دولة إرهابية وخارجة على القانون" شأنها في ذلك شأن الدول التي تتهمها الولايات المتحدة بدعم الإرهاب، وبتقويض الأمن القومي الأميركي، وبتهديد عملية السلام.‏
                          ينبغي ألا نفاجأ إذا ما حصل نتنياهو، في هذه الظروف خاصة، على دعم مادي ومعنوي جديدين غير محدودين من إدارة كلنتون ومن مجلس الكونغرس في آن معاً، لتثبت المعادلات التي صاغتها وتقدمها سياسة "إسرائيلية" استيطانية ـ إرهابية، ترفض السلام وتعطله وتريد أن تحمل مسؤولية ذلك لسورية، انطلاقاً من دائرة القرار شبه العالمي، ومن مدار الإعلام الذي صفق لتلك السياسة ومهَّد لاتهاماتها ومعادلاتها، وينبغي ألا نفاجأ إذا ما استيقظنا على عشرات المستوطنات تُبنى في الجولان، وعشرات أخرى في الضفة الغربية، وعلى توسيع غير منتظر، ولم يتوقف أصلاً لأحياء في القدس ولمستوطنات أخرى قائمة في فلسطين المحتلة، فهذا هو نهج الوزير الأكثر صلاحية، والممثل الأبرز لسياسة اليمين/أرئيل شارون/.‏
                          وينبغي ألا نفاجأ إذا وجدنا نيرون الصهيوني ذا الوجهين /العسكري والمدني/ يشعل النار في المنطقة، ويتهم غيره بإشعال النار، وإذا ما اندلعت ألسنة اللهب فيما يسمونه "عملية السلام" التي أشارت سورية إلى أنها ستموت حتماً إذا وافق الأميركيون (إدارة وكونغرس) على فهم نتنياهو لها.‏
                          لكن علينا أن نشعر بصدمة المفاجأة وبالحسرة والبؤس الناتجين عنها إذا ما وجدنا الأنظمة العربية، أو معظمها ـ تلك التي خرجت لتوها من قمة القاهرة بموقف واضح معلن تضمنه بيان القمة، تجعل تنفيذ هذا البيان متوقفاً على موقف الحكومة "الإسرائيلية" الجديدة من "عملية السلام" ويحمِّلها مسؤولية اتخاذه ما ينتج عنه ـ علينا أن نشعر بصدمة المفاجأة وعظيمها إذا ما وجدنا تلك الأنظمة أو معظمها، تلتمس المسوغات للمعادلات السياسية ـ الاستيطانية ـ الإرهابية الجديدة التي صاغتها حكومة نتنياهو وقدمتها عبر المنبر والمباركة الأميركيين، وتأخذ بتقديم الاجتهادات لاستساغة ذلك وتسويقه والقبول به والإقبال عليه، ومتابعة الهرولة نحو العتبات "الإسرائيلية" على أرضيته.‏
                          وسبب المفاجأة هنا ليس عدم وجود السابقة، فلذلك تاريخ في التاريخ العربي، وليس عدم وجود ذوي الاستعداد لممارسة النكث بالوعد، فهناك من لهم تاريخ أبي لهب وأهدافه وأساليبه في التسويغ والاستساغة. ولكن سببها هو إدراك معظم الحكام والأنظمة في الوطن العربي، قبيل قمة القاهرة وفي أثنائها وبعد تلاوة بيانها ونشره، أن الخطر الناجم عن توجهات حكومة اليمين "الإسرائيلي" الجديدة على اتفاقيات أوسلو ووادي عربة التي روجوا لها واعتبروها "سلاماً عادلاً"?!! سيهدد صورتهم ومعادلاتهم ومصالحهم وتجارتهم ولو بشكل نسبي، إذا ما أشعل نيرون الصهيوني النار في هشيم المنطقة وادعى أن عرب القمة هم الذين أشعلوها باتباعهم "لإرهابيي" العرب الذين ينادون بالمقاومة، التي لا يمكن أن ترى فيها الصهيونية والمتصهينون في الوسط السياسي والإعلامي والاقتصادي العالمي، إلا إرهاباً يهدد "استعادتهم لأرض الرب"، ذلك الذي يرون فيه وكيلاً عقارياً في السماء يتعهد لهم وحدهم من بين الخلق، بتمليكهم الأرض التي يريدون ويشاركهم في ممارسة "النصب " ـ جل شأن الله الحق عن ذلك وعلا ـ على الأمم من أجل إبلاغ موكليه المختارين غاياتهم وأهدافهم المريضة.‏

                          الأسبوع الأدبي/ع520//11/تموز/1996.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            معادلاتنا الصعبة
                            لم يصنع الإعلام العالمي، والعربي ضمناً، صورة أكبر، ولا شهرة أوسع، ولا انتشاراً أعظم للأفكار والأخبار، مما صنعه للصهيوني بنيامين نتنياهو، في فترة زمنية قياسية، فخلال الخمسين يوماً الماضية غطت أخبار هذا المهووس العنصري وسائل الإعلام، وتصدرت نشرات الأخبار والصحف ومجالات الاهتمام، وكأن المقصود رفع هذا النوع من الأداء والآراء والمعطيات السياسية إلى مستوى يصبح التعامل معها فيه مصحوباً بهالة لها قوة "القدر" وصلابة الأمر الواقع، وتأثير أكبر أكاذيب العصر المؤثرة في السياسة أكثر من كل حقائقه وأشدّها نصوعاً.‏
                            وإذا كان احتمال أن تنفجر هذه الفقاعة من كثرة النفخ فيها وارداً، فإن احتمال أن تغدو مدهشة ومثيرة وخطيرة وارد أيضاً.‏
                            ولا أظن أن من يقفون وراء ذلك التلميع والتوزيع العالميين يجهلون شيئاً مما يفعلون، بل على العكس من ذلك، أرى أنهم يعملون بجدٍ واجتهاد لخلق مناخ دولي لأفكار وآراء ومخططات ترمي في النهاية إلى إعادة طرح التفسيرات والتوجهات الصهيونية للقرارات الدولية التي تشكل مرجعية "مدريد" وتحكم تلك المرجعية إذا ما تعذر اعتبارها شروطاً مسبقة لا يجوز التفاوض مع فرضها من طرف على طرف، وهو ما كان بداية للتحرك الليكودي في هذا المسار.‏
                            وتبدو الحالة التي فرضها اليمين الصهيوني في فلسطين المحتلة، وفي دوائر القرار الأميركية، لا سيما في مجلس الكونغرس حالة متحركة ومتنامية تفرض نفسها بوصفها معطى التداول، وموضوع اللقاءات والمحادثات الثنائية بين السياسيين المعنيين بعملية السلام، وسوف يجد كل من يفلح من أولئك، بإقناع رأس الأفعى الصهيونية بالتراجع قليلاً عن المفاهيم والشروط والتفسيرات والمطالب الجديدة المطروحة، وعن الممارسات التي تتم على الأرض في فلسطين المحتلة، والأخذ بشيء رئيس مما جاء في اتفاقيات "أوسلو" و"وادي عربة" ـ وهي التنازلات الخاسرة من بعض العرب ـ أنه حقق إنجازاً يسجله له تاريخ العمل السياسي في عصر الغلو الصهيوني ولن يكون قاسياً على بعض العرب، في ظل هذا المناخ، والتشدد اليهودي ـ الأميركي الذي يحكمه، أن يتراجعوا عما سبق وقرروا أنه الحدّ الأدنى المقبول الذي لا يمكن التراجع عنه، أو القبول بأدنى منه، فقد تعودت رؤوس على أن تتطاحن، واعتادت خدود على أن تُصْفَع، حتى أصبحت تفتقد ذلك إذا غاب... وتحن إليه !!.‏
                            والسؤال ينصب، في مثل هذه الأوضاع على قدرة قرارات القمم، والمحاور العربية على الصمود، وقدرة الأقطار التي تتعرض للضغط على المقاومة!! الأمر الذي يطرح بجدية، أو يعيد طرح أسئلة قديمة جديدة، تتعلق بحرية القرار السياسي العربي وقدرة أهله على اتخاذه، هو رهن بقدرة الاقتصاد العربي، حامل هذا القرار، وبحريته، وبتوافر القوة التي تحمي ذلك القرار، وتدفع الأذى عنه عند الضرورة، وتقيم قوامه بفعل قادر صادر عن الأمة أو عن أقطار روافع لشأنها وقرارها، يمكنها من أن تتحرك بثقة ودون خوف من نتائج التحرك وارتكاساته وانعكاساته.‏
                            إن الوضع العربي الآن يستعيد بعض العافية بعد قمة القاهرة ومؤتمر وزراء خارجية إعلان دمشق، وبعد الإشارات المتبادلة بين العواصم والقيادات السياسية، والوضع اليهودي في فلسطين المحتلة، بالمقابل، يدخل دائرة واضحة من المعرض نتيجة الصراع على السلطة، والصراع بين اتجاهات دينية متشددة وغير متشددة.‏
                            وأرى أن استثمار ذلك لصالح قضيتنا واستنهاضنا من وضعنا الذي نحن فيه مطلوب، ويمكن أن يتم ذلك في بعض المحاور منها:‏
                            ـ تقوية التضامن العربي، والتأكيد على الالتزام بقرارات قمة الحد الأدنى، وإيجاد مرتسمات عملية لبعض القرارات العربية، وتبادل المنافع والمصالح بين عواصم العرب وفئات الشعب في الوطن العربي، وتسهيل قيام ذلك بمسؤولية وطنية وقومية، وبإحساس عصري بمدى تواصل العالم من حولنا وسقوط القيود والمعوقات فيه.‏
                            ـ دراسة الأوضاع المستجدة في الكيان الصهيوني بعمق هادف على أسس علمية، والتفكير باستثمار ذلك في حقول الصراع القائمة التي ستبقى قائمة مهما امتد الزمن وتلونت الرؤى، وكتبت على الورق اتفاقيات ومعاهدات إلى أن يتم الحسم النهائي لهذا الصراع المرير الطويل لصالح العرب وحقهم الناصع.‏
                            ـ تحريك دائرة الحوار واللقاء والاتصال الراكدة من حولنا مع الدول الإسلامية ودول آسيا وأفريقيا، ومع أوروبا التي ينتعش فيها كلام وتنتعش مواقف تراعي استقلال أوروبا وتخلصها من التبعية للقرار الأميركي، والتركيز على المصالح المتبادلة مع الفرنسيين أمر محبذ في هذا الوقت لما تبديه فرنسا من رغبة في سلوك طريق مغايرة نسبياً للسائد في الغرب.‏
                            ـ دفع الجامعة العربية في مسارات العمل العربي، واستثمار اندفاعها في هذه المسارات وتشجيعها، وصولاً إلى حدٍ أدنى من تماسك الإطار الذي ما زال يجمع العرب، على ما فيه من ضعف وتآكل.‏
                            وإذا كان للعرب أن يستيقظوا بعد طوال نوم على حقيقة أن القوة على المدى البعيد لا يمكن أن تملك ولا أن تعزز الثقة بالنفس وتحمي الحق ما لم تكن مقوماتها وأدواتها ذاتية كلياً أو في معظم الأجزاء والمراحل والمعطيات، وأن القوة في هذا العصر أساسها امتلاك العلم والتقانة، وتحويل ذلك إلى إنتاج متقدم في المجالين العسكري والمدني. ولن يحقق ذلك إلا الإنسان الواعي لذاته وواجباته ومسؤولياته ولما يحيط به من أخطار، ولا يصنع الإنسان القادر في هذا الزمن إلاّ تنمية تقوم على التربية، وعلى وعي ثقافي دقيق عميق مسؤول، يمارس الحرية باحترام لها وللآخر الذي يستحقها، ويدرك معنى أن تكون للفرد والمجتمع قي أخلاقية واجتماعية ووطنية وقومية مرعية الاحترام، وأن يكون للوطن قوانين فوق الجميع، لا يعلو رأس مهما على فوق سقفها ويتساوى أمامها الناس جميعاً كأسنان المشط.‏
                            وأن يكون مجال التواصل والتنمية والتربية والفعل الثقافي في هذا الوطن شاملاً لأخطاره، متنامياً في تلك الأقطار، يأخذ المشترك التاريخي والاعتقادي بالاعتبار، ويأخذ المسؤوليات والتبعات التي ترتبها تلك المسؤوليات على العربي الذي ينشد التقدم والتحرر والتحرير ستكون قومية لأنه لا وجود ولا تأثير ولا تقدم ولا تحرر ولا مصالح للتجمعات الصغيرة الضعيفة المتخلفة في عالم الغد، كما في عالم اليوم.‏
                            إننا مدعوون في كل مجالات المواجهة والعمل إلى إدراك حقائق ومعطيات جديدة والتعامل معها والانطلاق منها نحو بناء الذات والمجتمعات والمستقبل، في الوقت الذي نستشعر فيه العجز عن مواجهة أمور بسيطة، وتلك أولى معادلاتنا الصعبة التي ينبغي أن نصوغها ونوجد الحلول لها، ومدعوون في الوقت ذاته إلى امتلاك العلم بالتنمية، واستخدام التنمية بعلم ونحن بأمس الحاجة إلى أبسط مقومات ذلك ونعاني من تراجع مستويات التربية والتعليم والبحث العلمي، وتلك هي المعادلة الصعبة الثانية التي علينا أيضاً أن نصوغها، وأن نوجد الحلول الملائمة لها.‏
                            أما المعادلة التي تحكم المعادلتين السابقتين، وكل ما يمكن التفكير به وصوغه وتركيبه من معادلات، فهي تلك التي تضعنا على طريق الشعور بالزمن واستثماره واستشعار الخطر الناجم عن كونه يمر بسرعة قصوى من دون أن نستشعر ذلك، ودون أن يهزنا من الأعماق ونحن على مشارف الخطر المهلك جراء الجمود والعجز عن اللحاق بعرباته المتسارعة.‏
                            فهل يتاح لنا أن نصوغ تلك المعادلة وأن نضعها في مركز التحرك النظري والعملي من معادلاتنا وحياتنا؟؟‍‍‍‍‍!‏
                            أرجو ذلك وآمل أن نبادر جميعاً، كل من موقعه وحسب استطاعته وإمكاناته، للقيام بذلك، ولكن قبل فوات الأوان.‏

                            الأسبوع الأدبي/ع521//18/تموز/1996.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              نرفض نعم... لكن لماذا ؟؟
                              الرَّفْض: التَّرْك، ورفَضْت الشيء لغةً: تركته وفرَّقْته، ويأتي الرفْض أيضاً بمعنى الكسر والتحطيم، ورَفَضَ الشيء جانَبَه؛ ومن يرفض إذن يترك ويعمل على تحطيم ما يترك، لأنه يثور عليه؛ والروافض هم الذين يتركون أمر سيدهم ويَرْفَضُّون عنه، وسُمي جنود زيد بن علي، الذين تركوه يوم لم يوافقهم على طلبهم إليه التنكر للشيخين: الروافض، وقد يكون الرفض إيجابي المردود أو سلبيَّه.‏
                              والرفض اليوم مصطلح وفعل وموقف، في السياسة والإدارة والتنظيم والعمل والفكر والثقافة، وله في كل مناحي استخدامه وتجلياته تلك تاريخ.‏
                              كثيرة هي أوجه الرفض، كثيرة أسبابه وأساليب التعبير عنه، وكبيرة نتائجه أحياناً على المستويين الفردي والجماعي؛ ولكنه فعل يبني فعلاً ويفرِّع أفعالاً ويؤدي إلى ردود فعل، وبالتالي يقود إلى الصراع ويصنعه ويصعِّده؛ ويرتب الرفض التزامات على صاحبه وعلى من يعنيهم موضوعه أو ينعكس عليهم ذلك الموضوع ـ أي فعل الرفض ورفض الفعل ـ بشكل من الأشكال.‏
                              وأن ترفُضَ يعني أن تعي جيداً ما ترفض وما تفعل ولماذا تتخذ موقفاً وتقوم بفعل، وأن تدرك نتائج فعلك ولو بشكل تقريبي، ويعني كذلك أن تُجري حسابات دقيقة في الوقت المناسب؛ والحسابات التي يفترض أن تجريها لها وجهان أو بعدان، أحدهما شخصي والآخر عام، واللُّحمة بين الشخصي والعام في هذا المجال قائمة وقد تكون شديدة، وإذا ما انحدر بك الشخصي إلى وهدة الأنانية المَرَضِيَّة والتعصب المقيت فلا مخرج لك منها ولا سمو معها؛ ولا رفعة لموقف الرفض الذي تمارسه في هذه الحالة، لأنه يتحول بك إلى صيغة من صيغ التكسُّب أو الابتزاز أو النفاق، فيجعلك تتلفَّع ببراقع شفيفة تكشف الحال أكثر مما تغطيه وتفضحه أكثر مما تستره أو تخفيه، وتنحدر تلك الحالة بصاحبها حتى تعرِّيه تماماً، ولا ترتفع به إلى مقام ولا تدثِّره بشيء، وتتركه غير مرضي عنه إلا من نفسه حيث يعشش الغرور وتنمو فطور الوهم في دِمَن النفْس. وكلما اشتد موقف الرافض على هذه الأرضية كلما أوغل في مساحة العناد المقيت والمكابرة المكلفة وربما الصفاقة التي تذهب بالعقل والهيبة، وتجعله يدخل شرنقة تعزله وتقضي عليه رويداً رويداً ويُدْخل من هم معه فيها.‏
                              والرفض يكون لتحقيق غايات وأهداف كبيرة أو يمهِّد تمهيداً واعياً ومسؤولاً لذلك، وتلك إما أن تكون أنانية ضيقة أو غيريَّة عامة، تخص فئة من المجتمع أو تتصل بشرائح واسعة من الناس، تنعكس على وطن وأمة أو تشمل الإنسانية كلها؛ وفي الأحوال جميعاً فإن الرفض يبدأ من أفراد وبأفراد وينتهي بتنظيمات أو مؤسسات وبلدان؛ وناره سريعة الانتشار، وشرره متوثِّب تدفعه الريح في اتجاهات شتى، وغالباً ما يكوِّن وسطاً قابلاً لنمو طفيليات وحالات من الابتزاز والاستحواذ؛ قانونه بيده، وقد يأخذ القانون بيده، ويمارَس أحياناً باسم القانون ومن أجل سيادته وحمايته واحترامه.‏
                              ويعتمد الرفض على معطيات معرفية أو خُلُقية أو قيمية أو اعتقادية أكثر من اعتماده على منطق مستقر وعقلانية مسترخية ومستسلمة لقانونها، وقد يتوثب باسم الحق والمنطق والعقل والحرية فيلهب الوجدان الجمعي والوطني والقومي، لا سيما حين يتصل أمره بمقاومة الاستبداد والاستعمار والطغيان وأشكال الفساد، وينهض دعوة إيجابية باسم الحق التاريخي لأمة من الأمم أو باسم الحرية وقيم العدل لمقاومة الاحتلال والقوانين العنصرية والاستلاب والنهب المنظمين لأوطان وطبقات وشعوب، من قبَل قوى بطش غاشمة تتحالف وتتعاون لكي تسحق أمماً وأوطاناً وشعوباً، مثلما هو حال العرب مع الصهيونية والإمبريالية الأميركية اليوم.‏
                              الرفض عدلاً يكون، وقد يكون تمرداً مجَّانيَّاً ومجانباً للعدل، قد ينشد تحرراً أو تأسيساً للعدل، وقد يكون قبراً للعدل والحرية معاً؛ سمة الخارجين على النظام يكون في حالات وترسيخاً للنظام العادل أو سعياً لذلك في أخرى، فأين نحن من هذا، ومن نكون في ميدانه حين نرفض؟!‏
                              ماذا نرفض؟! ولماذا نرفض؟! وكيف نرفض وباسم من، وتحقيقاً لأية أغراض أو أهداف؟! وبأية أدوات وأساليب ومواصفات نمارس ذلك الرفض ونعِّبر عنه؟؟ وهل رفضنا خاص أو عام، من أجل الخاص أم من أجل العام؟؟ تلك أسئلة أرى أن يتوقف عندها المتأمل قليلاً، قبل أن ينساق مع أنساق الكلام المنداح في سطور ومساحات، انسياحاً عشوائياً من دون ضوابط ودون حدود.‏

                              ـ نحن نرفض ما تَوافَق عليه بعض ساسة العرب من إضعاف مقصود للروابط القومية، وإنعاش مقصود أيضاً للانعزالية القطرية وللتفرد القطري في القرار الذي بلغ حد التقديس من جهة ونفي الآخر الشريك نفياً تاماً من جهة أخرى؛ كما نرفض إلغاءهم للمسؤولية الجماعية عن القضايا العربية، ونزع كل صفة " مصيرية " عن أية قضية قومية، وتَوافقهم على ترك كل بلد عربي يلعق جراحه وينتزع أشواكه ويعالج قضاياه بالطريقة الخاصة التي يراها ملائمة له، حتى لو جاء ذلك العلاج على حساب القطر العربي الآخر أو على حساب القيم والمصالح العليا للأمة العربية.‏
                              ونرفض التصفية المدروسة للبعد القومي للقضية الفلسطينية بشكل خاص، تمهيداً لتصفية تلك القضية بالتحلل من التزاماتها وتبعاتها، وتوجهاً منهم لإنهاء الصراع الذي نشأ بسببها، أي الصراع العربي الصهيوني، على حساب العرب ولصالح العدو؛ فلماذا نرفض ذلك؟؟‏
                              نرفضه لأنه يجافي الحقيقة، فالعرب أمة واحدة وجسم واحد ومصلحة عليا واحدة تتكامل بتكامل الوعي وتوسيع أفق الرؤية؛ ولأن فلسطين وطن العرب التاريخي وهمهم القومي وقضيتهم المركزية في هذا القرن، مثلما الجزيرة العربية أو مصر أو ليبيا أو العراق وطنهم، فهي جزء من سورية دار أجدادنا العرب الآموريين، ودار الكنعانيين أعداء الصهاينة التاريخيين؛ وهي مستقر عيسى ومسرى محمَّد " ص "، مفتاح أرض الشام؛ وغمد سيف ابن الجراح، وعهدة ابن الخطاب، وبيت فقه ابن إدريس الشافعي؛ مصطاف بني أمية ومشتاهم، وساحة فخر صلاح الدين وجهاده، وضريح القسَّام، والميدان الذي سالت في ربوعه كلها ومن حول ربوعه كلها وباسم ربوعه كلها دماء العرب المصريين والسوريين واللبنانيين والأردنيين والمغاربة والجزائريين والعراقيين في العقود الخمس الأخيرة المنصرمة من هذا القرن العشرين، في الحروب التي دارت من أجل تحرير فلسطين؛ حسب مسميات الجغرافية السياسية الحديثة، جغرافية سايكس / بيكو، التي رسمها الاستعمار الغربي للوطن العربي، وورثها الساسة العرب وكرَّسوها واحتموا بها واستماتوا في دفاعهم عنها؛ ففلسطين لم تكن مسؤولية الساكنين فيها من العرب وحدهم إلا في الوقت الذي بدأت فيه خطوات التصفية المدروسة لما نشأ بسبب احتلالها من قضية كانت قضية قومية مركزية بالنسبة للعرب، وقد تم ذلك بتواطؤ غربي مع بعض العرب، وبتنطُّع فردي من بعض قادة السياسة الفلسطينية، تنفيذاً لخطط مدروسة ومتفق عليها مع جهات من خارج الوطن.‏
                              وحين نعيد القول بقومية القضية الفلسطينية ومركزيتها الآن فإنما نقول عملياً بضرورة عودة الوعي القومي والمسؤولية القومية والبعد القومي لكل قضية عربية، وبرفض الانطوائية القطرية التي تؤسس لأشدِّ حالات الضعف والمرض والهزيمة عربياً، في هذا الزمان وفي كل زمان.‏
                              إن المطالبة بالتمسك بالبعد القومي للقضية الفلسطينية، وبالبعد القومي والمسؤولية القومية للصراع الناشئ عنها وبسببها، تعني بالنسبة لنا عودة إلى حقائق التاريخ وأصالة الانتماء وشمولية المسؤولية ومنطق الواقعية ـ نعم الواقعية ـ من جهة، ورفض لكل ما عشش في الرؤوس ونما في الوجدان من " حسنات القطرية ومنطقها وأوهامها "، ولما أسسه الاستعمار وكرَّسه الساسة المرتبطون به، أو الذين أُلزموا بالمحافظة على تركته بشكل أو بآخر؛ وهي دعوة صريحة لعودة الوعي القومي والالتزام القومي والعمل القومي، عودة ذلك إلى الوجدان والفكر والسياسة والشارع في الوطن العربي في هذا الوقت بالذات، حيث تبدو فيه مثل هذه الدعوة نوعاً من الطوباوية والتحليق خارج السرب والتكلم بلغة ليست لغة العصر؛ فأنا أرفض صراحة أن أتكلم لغة ترسمها لنا وسائل الإعلام الصهيونية والأميركية والغربية، ومنطقاً تفرضه القوة الغاشمة وتمليه علينا وتروِّج له سياسات عربية متخاذلة ونظرة يراد لها أن تكون محدودة وقاصرة ومحكومة بالمصلحة القطرية، مصلحة حاكم أو نظام، نظرة لا ترى وجودها النوعي وحضورها الحضاري في وجود نوعي وحضاري للأمة بكاملها؛ إنها دعوة لذلك كله في هذا الوقت بالذات، الوقت الذي يتمخض عن مراجعة منطقية واقعية، أو يستدعيها بشدة ويستشعر أهله ضرورتها بقوة، لعلاقة بناءة بين العروبة والإسلام، القومية والدين، العرب والعالم، الإسلام والغرب؛ عودة واعية لأهدافها ولكل ما يستدعيها ويوجبها، عودة تقوم على الإدراك الجلي لما يجري في العالم من تغيرات تقتضي، بل تفرض، أن تقوم كتلة عربية ـ إسلامية تحمي نفسها وثقافتها ومصالحها، وتقدم فهماً سليماً وصورة صحيحة لعقيدتها وهويتها وتوجهاتها وأهدافها، وتؤسس لتعاون فيما بينها يحقق تقدماً لها، ويتيح تعاوناً موضوعياً بينها وبين القوى والثقافات والتكتلات الاقتصادية والسياسية التي تتكون من حولها وتنمو وتسعى لاستخدام بعض قوتها ضدها ليتم إفناء لقوتها من الداخل، كما تسعى تلك القوى والتكتلات لابتلاع الآخرين ونفيهم ولاكتساح السوق العالمية بشكل عام.‏
                              ليست القضية الفلسطينية، من منظورنا القومي التاريخي،إلا قضية عربية عامة؛ وهي ليست ملكاً لأهل أوسلو إلا بالقدر الذي تريده لهم الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية ـ راعية الاستعمار الحديث ومنفذة الأساطير الصهيونية في هذا الزمن العربي الرديء ـ ولو لم ينفذ عرفات دوراً يخدم " إسرائيل " ويرضي الولايات المتحدة الأميركية ويحقق مصالحهما، دوراً يحقق إلغاء تاماً للبعد القومي للقضية الفلسطينية، وحصراً للمسؤولية عنها في شريحة فلسطينية محددة لا تملك إلا شغفها بالسلطة ورغبتها في دور ما وأشياء أخرى، ويؤدي وظيفة حيوية في حماية أمن " إسرائيل " وملاحقة المقاومة الوطنية الفلسطينية وعملياتها النوعية ضد العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة وقمع الانتفاضة ومنعها، لو لم يؤد ذلك لما اعتُرف به مفاوضاً ولا ممثلاً للشعب الفلسطيني من قبل الولايات المتحدة الأميركية وممثلي الاحتلال العنصري ـ الاستيطاني ـ اليهودي لفلسطين العربية.‏
                              ونحن ندرك جيداً كما يدرك عرفات ومن معه جيداً، أنه إذا تلكأ لحظة واحدة في ملاحقة الفلسطينيين الرافضين لنهجه، نهج التصفية والاعتراف بحق تاريخي وشرعي " لإسرائيل " في الوجود والبقاء والتفوق والهيمنة والسيادة والقيادة في هذه المنطقة، لما بقي " رئيساً " ولما وصف إلا بالإرهابي، ولما وطئت قدمه أرضاً أميركية، بَلْهَ البيت الأبيض ومقابلة رئيس الولايات المتحدة فيه؛ وأنه حين يظهر عجزه عن القيام بهذا الدور، أو حين يأتي من يقوم به بأفضل مما يقوم هو به، فسوف يستبدل غير مأسوف عليه.‏
                              نحن لا نرفض أن يكون للفلسطينيين رئيس كما لكل قطر من أقطار التجزئة العربية ودول " فقس " الاستعمار وتفريخه رئيس، ولكننا نرفض أن يكون لأي رئيس دولة عربية ـ وفي مقدمة أولئك أي رئيس لدولة فلسطين ـ حق إلغاء البعد القومي لأية قضية مصيرية تمس حقاً قومياً يتصل بالأرض والمصير والحقوق التاريخية للأمة العربية، باسم سيادته القطرية، تلك التي لا تترسخ إلا بتدمير الروابط والمسؤوليات والمصالح القومية؛ ونرفض أن يكون لأي رئيس عربي حق تصفية قضايا قومية دفعت أجيال عربية عبر التاريخ دماء وتضحيات جساماً على طريقها، بوصفها قضية قومية عامة.‏
                              إن داء القطرية الذي يستفحل في هذا الزمن العربي الرديء، ويبيح ـ بحكم الأمر الواقع والوضع الراهن ـ لأي حاكم عربي أن يتحالف مع الشيطان ليحمي نفسه وظلمه ونظامه وأوهامه ومصالحه، ولو دمر بذلك الأمة والوطن والمصالح العليا لأجيال عربية بكاملها، إن ذلك الداء سيفتك بكل المقومات القليلة الباقية للوجود والانتماء العربيين، وسيؤدي إلى تحالفات ذات نتائج كارثية على الأمة العربية ومصالحها وهويتها وثقافتها ومستقبل أبنائها.‏
                              وحتى لا يستمر التردي والانهيار، اللذين يسارعان خطا السائرين في هذه التوجهات والدروب ويقدمان للسائرين فيها الذرائع والحوافز والمغريات ليَغِذُّوا السير فيها، يتوجب علينا أن نرفع الصوت عالياً برفض التصرف القطري والشخصي بقضايا الأمة المصيرية، تلك التي اكتسبت بالنضال والدم والتضحيات، وبمعطاها التاريخي المستمر، بعداً قومياً وصفة مصيرية.‏

                              دمشق في 25 / 7 / 1996‏
                              الأسبوع الأدبي/ع522//25/تموز/1996.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                روجيه غارودي ..أهلاً :
                                ـ1ـ‏
                                البحث عن الحقيقة مهمة شاقة، ومهنة خطرة في كل الأوساط والأزمان والأمكنة، ومن يتعلق بذلك النوع من المهام والمهن يكلف نفسه رهقاً، وحين يضطر لمواجهة كهنة متمرسين في تقديم أنفسهم على أنهم حراس الحقيقة الذين اختارهم " الرب " لهذه المهمة وكلفهم بها، ويقدمون رؤاهم وعقائدهم وإيديولوجياتهم ومصالحهم للناس على أنها نهائية القداسة والصحة والكمال والعصمة، ويعطون لوسائلهم مشروعية خُلُقية، مهما كانت متدنية في سلَّم الأخلاق، لأنها ـ من وجهة نظرهم ـ تشكل دفاعاً عن المقدَّس والخُلُقي والإنساني، وتكتسب مشروعيتها وسموَّها من ارتباطها بأهداف " سامية " ومن سعيها لتحقيق تلك الأهداف ؛ حين يفعل ذلك فإنه يدخل معتركاً خطراً، يشهر فيه " صنَّاع الحقيقة وسدنتها "؟! على كل من يدخل تلك الساحة، خناجرهم والمحرَّم من الأسلحة، ويقتلون دون رحمة وهم محاطون بجمهرة من الأتباع والمريدين المهووسين بهذا النمط من " الأنبياء المعاصرين "، وبأساليبهم في الأداء، يرفعون لهم آيات التقديس التي تزداد سمواً كلما ازدادت درجة الفظاعة والقسوة في الإبادة ؛ وتقديس باروخ غولد شتاين ومئير كاهانا في فلسطين المحتلة أنموذج لذلك.‏
                                روجيه غارودي الباحث عن الحقيقة، الناذر نفسه وقلمه للغوص خلف دقائقها، ومن لم يتوقف قلقه النبيل وعقله المتفتِّح عن التبصُّر والتدبُّر والصيرورة، منذ وضع الإنجيل تحت إبطه الأيمن ورأس المال لماركس تحت إبطه الأيسر إلى أن تخلى عن الشيوعية واعتنق الإسلام ـ الذي رأى ويرى فيه دين المستقبل بالنسبة للبشرية ـ روجيه غارودي وضع يده في عش الدبابير " المقدس " مرتين، مرة حين خرج على الشيوعية ولم ير في الاتحاد السوفييتي السابق بلداً اشتراكياً ولا ماركسياً لينينياً، ومرة أخرى حين أنشب مخالبه في عش دبابير أكثر تمرساً بالفتك وأكثر " قداسة"، بتعرضه للأساطير المؤسسة للصهيونية وتجرئه على اقتحام التابو بفتح ملف المحرقة، وبتسجيله اعتراضاً منطقياً علمياً على استمرار الأباطيل والانصياع لمنطق الكذبة المزورين، ودعوته إلى قراءة موضوعية متأنية، على هدي المنطق والعقل والعلم، لتاريخ ووقائع ومعطيات شكلت مواقف وقاعدة لإصدار أحكام وأرضية لتربية في كثير من بلدان العالم، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، قراءة تتم في ظل من الهدوء والمسؤولية الخُلُقية والعلمية والأمن والأمان من جوع وخوف ؛ وقد فاز بالدراسة الرصينة والحجة المنطقية وإعلان الدعوة، وخسر الأمن والأمان، ولاحقته الدبابير الصهيونية والمأخوذون بوهج همجيتها وإرهابها ؛ وروجيه غارودي، المفكر الفرنسي الكبير، بيننا اليوم في دمشق وفي اتحاد الكتاب العرب.‏
                                وأنني أرحب بهذا الباحث عن الحقيقة، الناذر نفسه لنورها ونارها، وهو ابن الثمانين الذي لم يعرف عوده اليباس ولا أصاب عقله ومنطقه التحجر، ولم يمنعه الإرهاب الصهيوني من التعلق بالحقيقة والبحث عنها، أرحب به في بلد يعرف هو جيداً عراقته ودوره الحضاري وفضله مثلما نعرف ويعرف انتماءه ومواقفه الثابتة في الدفاع عن الحق والمبدأ والأرض والسلام الحق ؛ ويتعرض جراء تلك المبادئ والمواقف لأشكال من تشويه الصورة وتحريف الغرض وإلقاء التهم، ومنها تهمة الإرهاب ،لا سيما من قبل أولئك الذين عانت البشرية من إرهابهم، ولفظتهم أوربا أكثر من مرة لممارساتهم العنصرية، وغدوا أصحاب الاختصاص الأعلى في التزوير والتزييف والإرهاب وقلب الحقائق وتشويه الوقائع، أولئك الذين يقومون بتصنيع الأكاذيب الكبيرة وحراستها، وبنشر الأساطير القتالة للحقائق وتنميتها، ويستمرون في تغذية الحقد والاستعمار والتوسُّع والنهب، ويغلفون حقدهم العنصري على الشعوب بتعال متغطرس يردُّون مصدره " لربٍ " ,, تعاقد معهم ,, ؟؟ على كره بقية الخلق واحتقارهم واستعبادهم وإباحتهم وما يملكون لهم؟! لقد عانى ويعاني منهم المفكر غارودي معاناة مرة طويلة ومستمرة، ويعرف قدرتهم على التزييف والتحريف والابتزاز، أعني بهم الصهاينة والوحش الفظيع الذي يساندهم ويروُّج لأكاذيبهم، ويصنِّع حقائق العصر ويصدّرها ويجبر الآخرين على تصديقها والعمل بموجبها : الولايات المتحدة الأميركية، أكبر ممارس لإرهاب الدولة، وأول من مارس الإبادة بأسلحة الدمار الشامل في هيروشيما وناغازاكي .‏
                                لقد بذل السيد غارودي جهداً علمياً يستحق التقدير لكشف أساطير تعيش عليها الصهيونية، وتبتز باسمها، وتعمل على غرسها بوصفها حقائق في وجدان البشر وذاكرتهم، وتكرِّسها وتنمي تأثيرها من خلال كتب التاريخ وفنون الأدب والإنتاج السينمائي والإعلامي؛ ويبدو أن هذا يشكل فعلاً أكبر سلاح للفتك في الشعوب والدول والأفراد، وأكبر استثمار توظَّف فيه رؤوس الأموال ووسائل المعرفة والاتصال، وأدوات التوصيل والتواصل الإنسانية في العصر الحديث توظيفاً شريراً، كما يشكل أقوى وسائل الإرهاب التي تُمارس على الفكر والسياسة والفن ومجالات الثقافة وميادينها الأخرى، على أرضية مزيَّفة من المعطيات والقيم الحضارية والإنسانية.‏
                                وإليكم الصهيونية : الأنموذج الذي يجسِّد هذا النوع من أنواع الاستثمار وينمِّيه ويستغله أبشع استغلال، إنه استثمار يقوم على صنع الأكاذيب الكبيرة وإحاطتها بكتلة من التعاطف الإنساني على أرضية أخلاقية زائفة، ثم تقديمها، بكل الأساليب والوسائل، كحقائق مذهلة لا يرقى إليها الشك، والدخول على أجنحتها إلى كل مجال ممكن من المجالات الحيوية. فبأساطير التوراة والتلمود والمحرقة وإبادة الجنس والملايين الستة من ضحايا النازية المزعومين؛ استطاعت الصهيونية أن تكوِّن تعاطفاً وقوة تسرق بهما وطننا فلسطين، وأن تروِّج في العالم كذْبَة تقول : إن السمسار العقاري الموجود في السماء ـ تعالى الله وجل شأنه عن ذلك ـ قد تعاقد معها وباع لها أرض العرب، وأن تقدِّم للعالم الغربي كذبة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " وتقنعه بها، وتتواطؤ معه على تنفيذها ؛ كما استطاعت أن تأخذ من ألمانيا ـ باسم الضحايا الذين لا يبدو أن في تاريخ الحرب العالمية الثانية الممتلئ بالبؤس ضحايا سواهم؟! ـ استطاعت أن تبتز منها ما يزيد على أحد عشر مليار دولار أميركي، كانت بالنسبة لها مشروع مارشال في الخمسينات، مكَّنها من إقامة القاعدة الصناعية الأساسية والتأسيس للصناعات النووية ؛ بينما لم يقدم مشروع مارشال لأوربا كلها، المدمرة بفعل الحرب العالمية الثانية، سوى عشرين ملياراً من الدولارات؛ واستطاعت " إسرائيل " أن تأخذ أيضاً خلال النصف الثاني من هذا القرن ما يزيد على سبعة وستين مليار دولار على شكل مساعدات من الولايات المتحدة الأميركية، عدا أشكال الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي الأخرى، وذلك لتحقيق منافع متبادلة، ولابتزاز العرب وإرهابهم ونهب نفطهم وبقية ثرواتهم، وتعطيل نهضتهم؛ وتمكَّنت قبل ذلك كله وفوق ذلك كله من تشويه الحقائق والوقائع، وتخويف الناس، بل إرهاب كل من يحاول تصحيح تلك الحقائق والوقائع وإلقاء الضوء عليها، إرهابه وترويعه وملاحقته وإبادته، روحياً أو روحياً وجسدياً.‏
                                وهاهو ملاحقٌ فذٌ أمامنا، يعاني في بلد الحرية والنور، الذي تملك فيه الصهيونية، أو تتحكَّم بما نسبته 80% من الصحافة، يعاني من قانون جائر ـ هو قانون غايسوـ فابيوس الصادر في باريس 13 حزيران 1990، وهو قانون أدخل على قانون الصحافة مادة تحرِّم تصحيح الوقائع وتقديم الحقائق فيما يتعلق بمذابح اليهود ـ جرائم ضد الإنسانية ـ ها هو يلاحَق هو وكتابه وتفكيره وضميره : إنه روجيه غارودي الذي نعتز بمواقفه، ونناصره في كل ما يتعرض له من ظلم وأذى على أيدي الصهاينة ومؤيديهم ووسائل إعلامهم وإرهابهم.‏
                                سيد غارودي إننا نعلن وقوفنا إلى جانب موقفك المشرِّف، ونكبر فيك تضحيتك ودأبك وجرأتك في البحث والتصدي، ونعتز بك عقلاً نيِّراً، وموقفاً أخلاقياً مبدئياً، وقدرة على الأداء، وتحيُّزاً للحقيقة المكلفة.‏
                                أيها المفكر الذي يرسِّخ شرف الفكر الحر وتقاليده، وروح حرية التعبير وآفاقها وحقيقة كون بحرها بلا ضفاف، ويعيش حالة توق متجدد لحقيقة بلا أقنعة، وحرية بلا ضفاف، وعدالة تنصف الإنسان وترضي الله، وديمقراطية سليمة فيها روح المساواة واحترام الحرية، لا يشوهها الاستعباد، ولا يحكم سدَّتها ويسد أفقها أمام الفقراء والضعفاء قانون الملكية وحجمها، وحد السيف وسلطة القمع، مرحباً بك في سورية مهد الأبجدية، مرحباً بك في اتحاد الكتاب العرب، وتحية لك من كتِّابنا ومثقفينا ومن شعبنا الذي يعرف وجه الصهيونية العنصرية البغيض، ويعاني من ممارسات أولئك النازيين الجدد، الذين يقومون بالمذابح البشعة لترسيخ حضور العدوان والشر والأساطير السوداء في هذه الربوع، ويشوِّهون الرسالات وأرضها، ويتعرضون بالإساءة إلى مقدسات المؤمنين ومشاعرهم، ولا يشعرون برضا " يهوة " عنهم إلا إذا ولغوا في دماء الأمم " الغوييم "، وآخر دماء " غوييم " ولَغوا فيها بكفاءة إجرامية عالية، ووعي كامل لفعل الإجرام وإصرار على فعله، بل باعتزاز بذلك، كانت دماء أهل " قانا ـ لبنان ".‏
                                روجيه غارودي.. أيها المفكر الذي يعزز مكانة المنطق في الفكر، ومكانة الفكر في الحياة، وموقع الثقافة في التربية والسياسة، ويُعمِل العقل والنقد فيما استقر وران عليه الماء من وقائع ومسلمات، أهلاً بك في دمشق العريقة، ويسرنا أنك عضو في اتحاد الكتاب العرب تساهم، منذ اليوم، في صلابة موقفة وفي تصديه للعنصرية والتضليل والأساطير المؤسسة لدولة عدوان واستيطان عنصري بغيض، دولة هي حربٌ على السلام وقيم الإسلام، في أرض المقدسات العربية والإسلامية، أرض الديانات السماوية التي بدأت بالموحِّد الأول إبراهيم الخليل، ونشرت رسالة أبنائه ورسل ربه موسى وعيسى ومحمَّد ـ صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ـ روجيه غارودي : المنبر الحر لك مع التحية وكل التقدير والاحترام.‏

                                دمشق في 28 / 7 /1996‏
                                ـ 2 ـ‏

                                روجيه غارودي نحن معك :‏
                                يتسلل السؤال عبر محطات الوعي بخشونة بالغة، رافعاً أشواكه لتملأ الحلق، وتجعل الصوت مشوباً بالاختناق: "هل فرنسا هي التي حاكمت روجيه غارودي، ابن الخامسة والثمانين عاماً، على تفكيره وتعبيره، على إعماله العقل وفق منهج علمي وموضوعية بحث في معطيات ووقائع تاريخية وتوظيفها سياسياً لخدمة عنصرية طغيانيَّة تحترف تزييف التاريخ!؟ أم أن فرنسا وتاريخها في مجال حرية التعبير ومفكريها ممثلين بروجيه غارودي اليوم هي التي تُحاكمَ من قبل الحركة الصهيونية التي فرضت قانون: غايسور- فابيوس في 13/تموز/1990 على الفرنسيين، وهو قانون "يعيد إلى الحياة جريمة الرأي"، ويشيع مناخاً من الإرهاب الفكري في الساحة الفرنسية، و"يعزز عمليات القمع ضد حرية التعبير، جاعلاً من محكمة نورنبرغ معياراً للحقيقة التاريخية " ؛ ‍وهي محكمة عسكرية عقدها المنتصرون لمحاكمة المهزومين!؟!‏
                                السؤال المطروح تثيره القضية التي رُفعت على روجيه غارودي أمام القضاء الفرنسي وحُكم عليه من أجلها بغرامة مقدارها عشرون ألف دولار أميركي، وذلك بسبب ما جاء في كتابه: " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " من تعرية " لإسرائيل " وتجارتها بالأكاذيب والأساطير.‏
                                و" جريمة " غارودي التي أثارت الحركة الصهيونية وأقامت قيامتها ولما تهدأ بعد تتلخص بتشكيكه في الرقم التجاري لضحايا " المحرقة " التي تدرُّ ذهباً على "إسرائيل" وتُستخدم سلاحاً رادعاً ضد كل من يفكر بمعارضة سياستها وإدانة إرهابها والإشارة إلى عدوانها واحتلالها وممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، لا سيما في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان والجولان.‏
                                لقد ناقش الرجل بمنطق علمي موضوع غرف الغاز وعدد " الملايين الستة" من اليهود الذين تزعم الصهيونية أنهم قد أبيدوا على يد النازيين، ودعا إلى تصحيح الرقم وتنزيله إلى مليون أو يزيد قليلاً حسب قراءة الوثائق وإعمال المنطق والعلم في المعطيات المادية، وحسب المراجعات التي أخذ بها المسؤولون عن معسكر " أوشفيتز " ذاته وغيروا بناء عليها اللوحة التي تشير إلى عدد الضحايا ؛ ويسلط الضوء على الاستغلال السياسي " للمحرقة " من قِبَل الصهيونية ليصبح ضحايا الحرب العالمية من اليهود هم كل ضحاياها في المحصلة الإعلامية لدى الرأي العام، وليبقى أولئك وحدهم في الذاكرة وفي وسائل الإعلام ويمحى كل من عداهم، ولتتكون من ذلك بالإلحاح والتضخيم أسطورة مرعبة تبتز "إسرائيل" بواسطتها دعماً مالياً وعسكرياً وسياسياً غير محدود، وتستخدمها مع تهمة " معاداة السامية " ضد كل من لا يفكر ويتصرف بما يرضي الصهيونية، وتضفي على احتلالها وممارساتها النازية في فلسطين المحتلة مشروعية تحت مظلة " الكارثة ".‏
                                لقد بلغ عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية ما يقرب من خمسين مليوناً ينتمون إلى قوميات وبلدان مختلفة، معظمهم من الروس ؛ وتعرَّض ملايين البشر للاضطهاد النازي من قوميات وبلدان مختلفة أيضاً، كما تعرَّض ألمانً للاضطهاد وحتى للإبادة ـ قصف هامبورغ ودريسدن وتسميم الآلاف من خلال تسميم الخبز وهو فعل قام به اليهود ضد الألمان ـ ولكن ذلك كله ضاع في زحمة استغلال الإعلام الصهيوني لموضوع المحرقة وتركيزه على ما يهمه منه، وتجييره كل ذلك لمصلحته ولخدمة مشروعه الاستيطاني، وقيامه بتصنيع "الأسطورة- الكذبة" وتضخيمها إلى درجة أضحى معها كل ما تم من جرائم نازية وغير نازية بحق الآخرين منسياً والحاضر فقط هو "المحرقة اليهودية" والرقم التجاري : أي " الملايين الستة " من ضحايا اليهود!؟‍‏
                                واستطاعت الصهيونية أن تفرض، منذ ذلك الوقت، حالة من الإرهاب الفكري الفظيع على كل من يحاول إعادة قراءة التاريخ وتصحيح وقائعه ونبش الوثائق السابقة وإعادة قراءتها ثم إعادة كتابة التاريخ استناداً إليها، لاسيما تلك الوثائق والوقائع التي تمت في ظل محاكمة عسكرية قام بها منتصرون : الحلفاء ضد مهزومين : الألمان، وشُكِّلت من عسكريين بعد يومين من انتهاء الحرب، وقامت بعملها ذاك في ظل أجواء مشحونة بأجواء الحرب وبالحقد والانفعال، وتحت تأثير خمرة النصر ونشوته، واستناداً إلى معطيات ومعلومات غير مدققة تماماً، وبناء على اعترافات انتزعت تحت التعذيب، وفي غياب معلومات مؤكدة وحقائق وشهود.‏
                                إن غارودي، الذي عانى من النازية، لم ينف ما تعرض له يهود من تعذيب وإبادة، ولا ما قامت به النازية من ممارسات وحشية ضد الآخرين، ولكنه أراد أن يساوي بين عذاب البشر، وأن يفحص المصير الإنساني في ظل الشرط الإنساني الذي ينبغي أن يحكم البشر كافة ويطبق عليهم في إطار من المساواة ؛ وقد دقق في حجم الخسائر البشرية من اليهود، وفحص شهادات وملفات واستفاد من جهد من قام بفحصها على أسس علمية، وراجع أرقاماً ووقائع وتوصل إلى استنتاجات في ضوء العقل والمنطق والعلم، وقام بمقاربة أو مقارنة بين ما جرى لليهود وما قام به النازيون من ممارسات وحشية ضد الآخرين من جهة، وبين ما يقوم به الوحش الصهيوني اليوم من ممارسات عنصرية وعدوان أسود ضد الفلسطينيين جهة أخرى، وما ارتكبه ويرتكبه الصهاينة من مذابح وجرائم ضد الإنسانية ـ دير ياسين، كفر قاسم، قبية، اللد، القدس والمسجد الأقصى، صبرا وشاتيلا، الحرم الإبراهيمي في الخليل، قانا ... إلخ ـ وما تقوم به إسرائيل والحركة الصهيونية، اللتان تجسدان ذلك الوحش العنصري، من إرهاب للآخرين يرعاه الولايات المتحدة الأميركية وتموله وتسكت عليه وتدافع عنه باسم عذاب اليهود!؟‏
                                ولأنه فعل ذلك، ومسَّ أسطورة من الأساطير المؤسسة لسياسة الاستعمار والابتزاز والاضطهاد، توجب عليه أن يدفع الثمن تحت اسم معاداة السامية، والتشكيك بالمحرقة!؟‏
                                إن هذا الوضع يستدعي وقفة مسؤولة مع ما يجري في المجتمعات الغربية سواء في أوربا أو في الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي تصهينت أو سيطرت على مفاتيح الرأي العام فيها الحركة الصهيونية ورؤوس الأموال التي تملكها، ووسائل الإعلام التي تحركها. وأصبحت تهمة "معاداة السامية" أفظع أداة إرهاب في عالم اليوم في المجتمعات الغربية، ووصلت الصهيونية إلى سن قوانين تلزم المجتمعات الغربية بتشويه صورة الحرية والعقل والفكر وحقوق الإنسان حين يتعلق الأمر باليهود وبأساطيرهم الممتدة من "الوعد الإلهي"‏
                                إلى "المحرقة " ومن يشوع بن نون إلى باروخ غولد شتاين.‏
                                وهذا هو قانون "غايسور- فابيوس"، الذي أوحت به واقترحته أصلاً " إيباك " ـ منظمة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأميركية ـ وهو القانون اليوم في فرنسا، خير دليل على ذلك، حيث يحاكم كل من يقوم، ولو على أرضية العلم والمنطق، بمراجعة للتاريخ والوقائع والحقائق والاستنتاجات المتصلة باليهود والحركة الصهيونية، وكل من يفكر بمس ممارساتها وإعلان موقف من تلك إنساني الممارسات.‏
                                لقد دفع الألمان لإسرائيل أكثر من أحد عشر مليار دولار أميركي تعويضاً عما أصاب اليهود، وتم ذلك في الخمسينيات من هذا القرن، وهو المبلغ الذي بنى مؤسسات "إسرائيل" الضخمة وترسانتها النووية وصناعاتها العسكرية، التي تجني اليوم ثمرات إقامتها: قوة ومالاً وتفوقاً تقنياً، وكان هذا المبلغ قريباً من المبلغ الذي خصصته الولايات المتحدة لمشروع (مارشال) بعد الحرب العالمية الأولى لإعادة بناء أوربا المدمرة جراء الحرب ـ عشرون مليون دولارً أميركي ـ ولم يكن ما حصلت عليه إسرائيل من ألمانيا الغربية آنذاك هو المبلغ الأخير والابتزاز الأخير.. فسلاح "المحرقة" وسلاح "الملايين الستة" والترحيل، ومعاداة السامية، والجرائم "ضد الإنسانية" ما زالت هي المسلطة على رقاب الألمان والشعوب الأوربية في ظل غياب الوعي أو تغييبه، وفي ظل السيطرة الصهيونية على تكوين الذاكرة والوجدان في تلك المجتمعات بأشكال مختلفة. وما علينا إلا أن نتذكر ابتزاز الصهيونية للبنوك السويسرية وللحكومة الإيطالية اليوم التي ستدفع أكثر من مليار دولار لإسرائيل تعويضات عن تأمينات " كانت " لليهود، والدور قادم على مؤسسات التأمين الأوربية.‏
                                لقد هز غارودي عدوانُ "إسرائيل" على لبنان عام 1982 وأصدر مع آخرين بيان إدانة له، ومنذ ذلك الوقت وحتى يوم الناس هذا وهو ملاحق من الصهيونية بأشكال مختلفة، ومطلوبة حياته وكرامته وحريته اليوم فهل يصمد وحده، أو هل يصمد من يقفون وحدهم ضد الصهيونية وأدواتها والتنظيمات الرديفة التي كانت وما زالت في خدمتها، وهي اليوم ازدياد واتساع نفوذ؟‍‍!‏
                                إن هذا الوضع يستدعي موقفاً جماعياً من قبل مثقفين ومؤسسات مسؤولة عن حقوق الإنسان وحرية التعبير في العالم أجمع، لتضع حداً لتزييف الحقائق والوقائع، ولتشويه الحقوق والقوانين والحريات العامة، ولتضع حداً لملاحقة من يصدعون برأي حر في مجتمعات مسلوبة الحرية أو مشوهة الأداء في أجواء حرية شكلية يصنعها المرابون والإرهابيون، الذين يحسنون تغطية أنفسهم وتمويه مخالبهم المغروسة في قلب الحقيقة وقلب الحرية وقلب الإنسان.‏
                                لقد تعرضنا نحن العرب للكثير الكثير من العنت والتقريع والاضطهاد والملاحقة والابتزاز على يد الصهاينة والمتصهينين من الغربيين وأتباع أولئك وأدواتهم أو مخالبهم من أبناء أمتنا، المتغربين أو المتصهينين!!‏
                                وقد كان الغرب وما زال يتهمنا بالإرهاب حين نقوم بحقنا المشروع في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وحين نقف في وجه أطماع الاستعمار ومخططاته ؛ وتنفتح في وجوهنا براكين جهنم حين نعمل على حماية قيم مجتمعنا وهويتنا القومية وثقافتنا وأصالة عقيدتنا وأصولها ؛ ولا يسمح لنا أبداً بأن ندافع عن أنفسنا في وجه الوحش الصهيوني الذي يجلله الغرب بمسوح البراءة الملائكية ويسبغ عليه عطفاً مستقى من "المحرقة" والترحيل والتربية التلمودية ؛ وهو لا يكتفي بإجهاض دفاعنا أو منعه وإنما يذهب إلى اتهامنا وتشويه صورتنا وانتزاع حقوقنا، تحقيقاً لأهداف مشتركة يلتقي فيها مع الصهيونية وخوفاً من أن تتهمه الصهيونية بالتقصير في دعمها، أو تواطؤاً معها، أو تنفيذاً لخطة استعمارية مشتركة ترمي إلى القضاء على وجودنا الحي واستلاب إرادتنا وقرارنا ونهب أوطاننا.‏
                                ومعظم معاركه ضدنا تخاض على اسم " الديمقراطية " والتقدم وحقوق الإنسان واحترام الحقوق والحريات..الخ ولنا أن نسأل اليوم أين هي في العمق: الديمقراطية الغربية التي أقرت قانون: غايسور- فابيوس، الفرنسي أو قانون (داماتو) الأميركي؛ وأين هي حرية التعبير التي لا تسمح لمفكر بحجم غارودي بمراجعة علمية لوقائع تاريخية وخرافات صهيونية، وتمنعه من ذلك بإرهاب مقونَن تحت عنوان "معاداة السامية- والجرائم ضد الإنسانية"، بينما تسمح لسلمان رشدي ومن هم على شاكلته بتشويه صورة عقيدة ونبي ومجتمعات يعد أفرادها بمئات الملايين؟! أين هو المنطق والعقل العلمي والموضوعية واحترام الحقوق، والديموقراطية، في موضوع مثل موضوع روجيه غارودي مثلاً وفي فيض من المواضيع التي أقام الغرب المتصهين الدنيا علينا ولم يقعدها بحجة الدفاع عن حرية من يريدون تخريب قيمنا ومجتمعاتنا وتزوير تاريخنا واتهام ذلك التاريخ كله، وإظهار حضارتنا بمظهر زائف ومشوه؟!‏
                                إن الغرب في قفص الاتهام على نحو ما، وكل تلك الشكليات التي تطفو في الإعلام من آن لآخر لا تعبر عن حقيقة ما يحكم الغرب من صهينة وخرافات وأساطير ومواقف مسبقة وحقد تاريخي ضدنا الأمة العربية والإسلام بشكل خاص، وضد كل يقظة من أي نوع في هذا الاتجاه.‏
                                إن البيت الحضاري الذي تبنيه الصهيونية أو تشرف على إدارته سواء كان: أبيض أو أحمر أو ما بينهما سيبقى يحمل لون الصهيونية بالدرجة الأولى ـ كان رئيس وزراء روسيا الاتحادية الأخير كيرينكو يهودياً يحمل جواز سفر إسرائيلي ويمارس ازدواجية الانتماء وهذا هو شأن مسؤولي الإدارات الأميركية المتعاقبة تقريباً وشأن رجال الكونغرس ـ وهو لون الحقد العنصري والدم الذي يروي "يهوه" رب الجنود ولا يرويه سواه، ذاك الذي يتشمم دم الغوييم في أرجاء الأرض، ولا تريحه إلا المذابح التي يجسدها أتباعه العصريون: بن غوريون- وبيغن- وشامير- وشارون ـ وباروخ غولد شتاين الذي يسمونه "باروخ البطل" في نصب على مدخل "كريات أربع" قرب الخليل- وكاهانا حي- وصاحب "قانا" شمعون بيريس- والعنصري التاريخي نتنياهو.‏
                                إن محنة غارودي اليوم هي محنة فرنسا الأنموذج والفرنسي الحر، وهي محنة الألمان الذين يحتاجون إلى معالجة نفسية شاملة من عقدة الذنب، التي عقدت ألسنتهم وشلت عقولهم حيال كل ما يتصل "بإسرائيل" والصهيونية وجعلتهم يقدمون الهدايا المتصلة من الغواصات النووية إلى ملايين الدولارات على مدى عقود من الزمن، من دون أن يُغفر لهم!؟ إنها محنة عصر تسيطر فيه الصهيونية على مفاتيح إعلام وسياسات واقتصاد ومصارف، وتمارس فيه أساليب النازية المكروهة ذاتها مع فارق أساس في النظرة والحكم والنتيجة، فالأولى يُحكم عليها والثانية يُحكم لها. والتماثل قائم إلى درجة المطابقة المذهلة بين النازية والصهيونية مع فارق رئيس هو: تاريخية العنصرية في الصهيونية، وحقدها المستمد من عقدة تلمودية ثابتة أصبحت عقيدة مقدسة، حيث لا يبدو ما تمارسه معبراً عن مرحلة أو حالة استثنائية أو قرابة مرَضيَّة، وإنما عن اعتقاد وثقافة وتاريخ ممتد من مذبحة أريحا إلى مذبحة قانا، مع استمرار مستقبلي يرتبط باستشعار التفوق العرقي- العنصري، والأهلية الممنوحة لهم "إلهياً" باحتقار الآخرين واستباحة دمهم وحقوقهم وأراضيهم وأعراضهم.‏
                                يقول مؤرخ يهودي هو زيمرمان" ثمة قطاع كامل من السكان اليهود لا أتردد في تعريفه على أنه نسخة من النازيين الألمان.. انظروا إلى أولاد المستوطنين اليهود في الخليل.." وإذا كان زيمرمان لم ير إلا هذه العينة الشاذة ليعبر من خلالها عن "موضوعية" مستحبَّة فإن عليه أن ينظر إلى نسبة 56 % من الناخبين الذين قدموا للعالم نتنياهو، وإلى رحبعام زئيفي الذي يقول بطرد جميع الفلسطينيين وترحليهم متيمناً بأساتذته النازيين الذين رتب معهم الصهاينة موضوع "ترحيل اليهود" ليصلوا إلى فلسطين العربية مستعمرين، وكان من بين الصهاينة الذين نسقوا مع النازية وتعاونوا معها في كل شيء : رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق الإرهابي اسحق شامير، وهو الإرهابي المحكوم دولياً بممارسة الإرهاب مع مناحيم بيغن، وكل منهما أصبح رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني، وكل منهما زار الولايات المتحدة الأميركية التي تزعم أنها تكافح الإرهاب، ولقي هناك ترحيباً ودعما لإرهابه وممارساته الإرهابية بلا حدود!؟!.‏
                                إن قضية غارودي تطرح موضوع العنصرية الصهيونية وسيطرتها، وموضوع التصهين الغربي ومخاطره؛ إنها قضية سلامة مجتمعات وقوانين وقيم وتوجهات تسعى الصهيونية لتخريبها وتلغيمها خدمة لمصالحها، وعلى من تعنيهم سلامة المجتمعات وسلامة القيم الإنسانية والقوانين أن يعالجوا هذا الموضوع بشكل جذري من خلال موقف مشرِّف مسؤول مع غارودي الفرنسي، أو فرنسا الغارودية.‏
                                إننا حين نناصر هذا الرجل روجيه غارودي وقضيته ومواقفه، فإنما نفعل ذلك لنعبر عن تقديرنا له ولفكره وشجاعته الأدبية ومنزلته الثقافية العالمية، ولنعلن وقوفنا إلى جانبه وشجبنا للعدوان الذي يتم على حرية التفكير والتعبير من خلاله ؛ ولنعلن إدانتنا للصهيونية وعنصريتها ،ولقانون فابيوس ـ غايسور الفرنسي الذي كانت الصهيونية وراء إصداره وتطبيقه.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع523//1/اب/1996.‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X