Category: فنون الأدب

  • قصيدة / تلميذَةُ عِشْق / –  للشاعر المحامي منير العباس ..

    قصيدة / تلميذَةُ عِشْق / – للشاعر المحامي منير العباس ..

      الشاعر المحامي منير العباس

    تلميذَةُ عِشْق

    أَتَتْنِيْ تَبْتَغِيْ بِالْعلْم بَابَا

    فَأَعْلَنَ خَافِقِيْ فِيْهَا ارْتِيَابَا

    فَما فَتَحَتْ كِتاباً مِنْ عُلُوْمٍ

    ولكِنْ خَطَّ مَبْسَمُها كِتاباً

    عَبَرْتُ قِلاعَ فِتْنَتِها بِعَيْنِيْ

    غَزَتْ قَلْبِيْ وَما حَمَلَتْ حِرَابا

    فَرَوَّضْتُ الْجَمَالَ بِمُقْلَتَيْها

    تَمَلَّكَ خَافِقِيْ مِنْها الرِّكَابا

    غَدَا مُهْرِيْ عَلى الْخَدَّيْنِ يَعْدُو

    أَصَابَ الْمُهْرُ مِنْها مَا أَصَابا

    بَعَثْتُ إِلَيْها مِنْ رُوْحِيْ سَفِيْرَاً

    فَقَبَّلَ ثَغْرَهَا عَنِّيْ وَنَابَا

    وَقُلْتُ لَدَيْكِ قَدْ أَوْلَمْتُ صَيْدِي

    وَفِيْ عَيْنَيْكِ أَدْمَنْتُ الشَّرَابَا

    فَغُوْصِيْ فِيْ بُحُوْرِيْ فَجِّرِيْهَا

    وَضُمِّيْ مِنْ عُصَارَتِهَا الْعُبَابَا

    خُذِيْنِيْ فِيْ ذِرَاعَيْكِ ازْرَعِيْنِيْ

    سِوَاراً إنَّنِيْ أَرْجُو الْحِبَابَا

    خُذِيْنِيْ فِيْ ذِرَاعَيْكِ ازْرَعِيْنِيْ

    سِوَاراً (بِتُّ أَعْشَقُكِ اقْتِرَابا)

    رَوَتْ وَجْدِيْ بِشَهْدٍ مِنْ لَمَاهَا

    جَنَيْتُ الشَّهْدَ طَوْعَاً لا غِلابَا

    سَبَتْ عُمْرِيْ وَمَا أَبْدَيْتُ آهَاً

    سَفَحْتُ عَلى مَفَاتِنِها الشَّبَابَا

    تَوَالَتْ تَحْتَفِي النَّسَمَاتُ فِيْنَا

    وَتُوْقِدُ فِيْ لَيَالِيْنا الشِّهَابَا

    إلى أَنْ حَلَّ فِيْ كَرْمَيْنَا ذِئْبٌ

    وَأَهْدَى زَهْرَةَ الْعُنْقُوْدِ نَابَا

    فَأَضْحَى كُلُّ حُسَّادِيْ سِبَاعَاً

    وأضْحَى كُلُّ مَنْ حَوْلِيْ كِلابَا

    وَلَمْ تَصْدُقْ مَشَاعِرُهُمْ بِحَقِّيْ

    فَكُلٌّ مِنْهُمُ يَبْغِي الْحِسَابَا

    فَرَاغُوا بَلْ تَمَادَوْا فِي نِفَاقٍ

    وَقَالُوا كُلُّنَا يَخْشى الذِّئَابا

    غَدَتْ بِنْتُ الرَّبِيْعِ خَرِيْفَ ثَأرٍ

    أُغَازِلُها فَتَرْشُقُنِيْ سُبَابَا

    لَكَمْ نَثَرَتْ رَبِيْعاً فِيْ خَرِيْفِيْ

    فَبَاتَ الْعُمْرُ مِنْ هَجْرٍ يَبَابا

    فَعُذْراً قارِئِيْ ثَمِلَتْ هُمُوْمِيْ

    وأَضْحَى هَجْرُ فَاتِنَتِيْ مُصَابَا

    عَلى مَضَضٍ مَضَغْتُ فَرَاغَ رُوْحِيْ

    وَصَبْرِيْ بَاتَ يَرْتَشِفُ السَّرابَا

    فَقُوْلوا لِلَّتِيْ نَكَأَتْ جُرُوْحيْ

    إذا لَمَسَتْ نَجِيْعَ الرُّوْحِ رَابَا

    ــــــــــــــــــــ

                المحامي منير العباس

                 0947613808 

    alakhtalalhomsy@hotmail.com

    أرشفة : فريد ظفور

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    http://www.almooftah.com/vb

    http://www.almoofta7.com/vb/

     

     

  • من – رواية ” الاحتجاج ” ج7 –  بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    من – رواية ” الاحتجاج ” ج7 – بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
    نبيه اسكندر الحس

    الاحتجاج
    رواية
    ( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
    وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )

    ………………………..
    قبل أن تتوسد الشمس قبة السماء . طلب ” فادي ” من قرينه ” فايد ” أن يذهبا إلى الإبل ، أدرك صابر أن فادي يهرب من منظر قطع ساق والده ، فانطلق مع صاحبه إلى غابة النخيل ، عله يزيل شيئا من الآلام ، و هناك تسلق ” فايد ” شجرة النخيل . قطف عنقودا  من البلح ، و ألقى
    به إلى فادي ثم هبط إلى الأرض ، ثم اتجه ليعتلي الذلول ، و راح يقلد الحادي بغنائه الطروب .
    انصرف ” صابر” إلى الأولاد :
    – كنت أحب العراك .
    فايد :
    – أنا أعارك رفاقي و أغلبهم .
    صابر :
    – و أنت يا فادي ؟ …
    نظر فادي بشيء من الانكسار ، فأدرك “صابر ” أن الصبي لم يعرف طعم الطفولة … سلبت منه تلك المرحلة الجميلة .
    كان ” فادي ” هادئا  وقورا يميل إلى كثير من التحفظات و عدم البوح عن رغباته ، و كل ما في داخله ، يدل على أن طفولته ، قد تعرضت إلى حجر لا حدود له ، و كيف لا … إذا كان قد غادر أمه منذ الفطام ، و ظل ينتقل من مكان إلى آخر مع أبيه ، فلم يعرف الصداقات مع أقرانه
    ، و لا يعرف اللعب . كل ما في الأمر ، عاش في كنف أبيه يرافقه كظله ليس إلا .
    استعجل ” صابر ” الرحيل ،لأسباب عديدة ، حاجة أبو ” فادي ” للدواء ،ومن أين سيحصل عليه ، لقد بات الدواء سلعة نادرة ،وهناك الشعب العراقي فهو الأولى بالدواء .
    نظر ” مهدي ” على صابر عرف ما يدور بخاطره ،تحدث في نفسه : ” شعور نبيل منه “.
    ورغم ذلك أصر ” مهدي ” على إبقائهم بضيافته ،بدافع الجانب الإنساني ،قدر ” صابر ” موقفه ،وقد استطاع  الفوز بإقناعه بعد حوار طويل .
    انفرد ” مهدي ” مع نفسه ، و اتكأ على عمود الخيمة ،نظر إلى الإبل ، ظهرت كأنها أشباح وسط عتمة الغروب ، و تحركت رياح تنبئ خريف قاس .
    كان ” صابر” مسترسلا بأفكاره ، ونظراته مشوبة بقلق و حيرة ، تخترق الليل و الريح ، تلملم الأتربة و الرمال . و القمر يغطي المكان بضوئه الساحر هادئا لا يعكر صفوه سوى طائرات جاءت من خلف البحار ، تخترق جدار الصوت تندفع من بحر مجاور لفلسطين و تركيا ، و أرض
    مجاورة للسعودية ، كأنها الخفافيش قد وجدت وليمة في الليل .
    و ثمة غيمات بيضاء ترفل من جهة حمص تحمل برودة طرية تجعل المرء يبحث عن الدفء و خاصة في تلك المساءات   الراعفات   بقطرات الندى . أينعت الذكريات .
    عزم على تنفيذ المهمة ، حمل البنادق و الذخيرة على ظهر الذلول ، و انطلق برحلة طويلة خطرة ، يسير في الليل و يختبئ في النهار خوفا من سقوطه بأيادي ” الهجانة ” حرس البادية ، أيام الأحلاف العسكرية ، ذلك الزمن محير ، ولكنه واضح ، ترى وضوحه على أجنحة الطير ، و
    تهدج الإبل ، و في وجوه الصبية ، و عيون العذارى ، لم يكن أحد يهش على القطيع بعصاه ، فقال في نفسه : ” قاعدة الكراسي جماجم ، تارة يجتمعون بالدين ، و تارة بالعلم على الدين ” .
    تذكر موت الحجاج فقال في نفسه : ” أيام زمان ، كان المواطن يستطيع أن يفعل شيئا  حيال الأخطار . أما اليوم بات عاجز ” .
    و راح يتساءل :
    – هل الآن الحاكم أقام المحارق ، أم لأن المحارق باتت تطال الشعب و الحاكم ؟؟ ..
    و لكن لماذا ؟ …

    31
    كان أبو ” فايد ” متكئاً على عمود الخيمة ، و الذكريات غيمة ماطرة تدفعها رياح هوج نحو صندوق الذاكرة ، ذلك المخزون المعمر على جسد قوي ، و عناد عجيب ، جعله يسترجع الماضي ، يعريه يفرد حوادثاً ، يضعها جانباً ، استعداداً لنسيانها أو تناسيها ، تذكر سيدة سألته في
    شبابه :
    – هل أنا جميلة ؟ ..
    – مثل عشتار …
    – علام أنفك شامخا ، هل أنت انكيدو … أم جلجامش ؟ …
    – ربما كنتما معا ..
    – أحدهما شاعر .
    – و أنا أقول الشعر أيضا .
    – حقا” ؟ … لكنه كتب ملحمة ..
    – نعم ، كتب ملحمة .
    – الأيدي تتجمع ، و الأرض واسعة .
    – لنجرب …
    اقتربت منه .. مدت يدها إلى صدره ، داعبت أصابعها اخضرار قصب الزل .. عباراتها توقظ الكمون في جسد الإنسان ، تسري النعومة في الشرايين ، تشعل الدماء تفيض الأنهر تندفع المياه غزيرة إلى السد .
    فتحت في جسده شقوقا تغلغلت فيه المياه ، انسربت من جحور عطشى … و ثمة صوت :                     ( هذا هو أيتها الغي
    فاكشفي عن نهديك
    اكشفي عن عورتك
    لينال من مفاتن جسدك
    لا تحتجبي ، بل راوديه
    و ابعثي فيه الهيام ) .
    تشابكت الأصابع ، ثم انفكت ، طوقت خصرها ، تمايلت ، فانسدل الليل على كتفيها … انتقل قسم من على ذراعيه و اندفعا إلى جرف عميق ليباركهما الفرات ، هناك عرف مهدي قول الصياد :
    – ( علمي الوحش الغر وظيفة المرأة ) .
    حين خرجا من الجرف ، كانت مياسة ، وكان منتشيا  كالسبع …. حين غادرت ملوحة بيدها … شيعها بنظره ، وهي تمضي بين سنابل القمح ، و توارت بين أشجار النخيل نظر إلى يديه فسأل نفسه : ” و الآن يا مهدي ” .
    بدت المواجهة كحد فاصل بين عالمين ، الماضي و الحاضر بكل ثقله ، و ثمة فسحة يقطعها الراحل ، فلا يستطيع رؤية البداية إلى أن يحط الرحال في النهاية .

    باح بعشقه لفتاة صادقة ميالة للجزم ، لا تتنكر ، و لا تتقنع ، لكن ضاع الحب ، رغم عدم المخاطرة به ، فالذي لم يقع عليه البصر ، هي الحقيقة التي ستظهر ، عند النهاية ، فالحقيقة نزاع دائر بين الذات الحقيقية و الذات المثالية ، الأولى يغذيها الواقع و الثانية تغذيها
    الأحلام ، .
    نظر إلى الأعلى و أحب فتاة ، لم يكن يعرف أن والدها نائب ، كل الذي يعرفه أن الحب لا يعرف المحال . تعرف عليها بعد أن حصلت على الثانوية في بغداد ، حيث العلم يختصر على أولاد الأغنياء ، يومها سجلا معا  في جامعة بغداد ، لم يكن يعرفها مسبقا ، لكن القدر جمعه بها ،
    حين جاءت مع والدها الذي جاء إلى بيت والده الفلاح ، خوفا من حكومة ” نور السعيد ” . عاش عندهم عشرة أشهر ، علمه والدها أشياء و أشياء … و ذات يوم قال مهدي :
    – الفرد لا يساوي شيئا  إلا مع الجماعة .
    – المجتمع فاعل .
    – ثمة طليعة لكل مجتمع .
    تذكر مهدي رحيل صابر فاندفع نحو الإبل يقود جملا  و حوارا … عقلها أمام الخيام ، كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل ، و ثمة نجوم تومض من بعيد ، و نجوم الميزان تدله على الطريق ، فمن خلالها حدد جهة المسير ، و لم تنس أم فايد أن تحضر الزاد لأربعة أشخاص أما
    طعام الجمال فكان من اختصاصه .
    جرى كل شيء بحرفية و إتقان لقد أنهى عمله ، أشعل لفافته عب منها ، ثم دخل مسرعا ، أخرج بندقيته ، وضعها في قتب الجمل , صنعه خصيصا لمثل هذا الغرض .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    اعتلى ” صابر ” ظهر الذلول قبيل الفجر ،رأى أبا ” فايد ” يقود الذلول والقتب تأرجح كأنه مثبت على نوابض ،تعجب مما رأى ،وخصوصا من المخلوق الذي سماه السلف سفينة الصحراء ،لقد عرف ذلك من خلال أستاذ التاريخ ،الذي أشعل شموعا كثيرة ،أمام الأجيال ,لم يكن يعرف أن
    الظروف ستقوده إلى هذه الصحراء ،ويركب على ظهر هذا المخلوق ،اجتازوا مسافة ليس قليلة ؟،حيث تلاحقهم شمس الصباح ،كان أبو فايد يغني الحداء ،فأرهف صابر سمعه ،وأبو فادي يشنف أذنيه عند نهاية كل مقطع ،وحين يتوقف الحداء ،كانا يسمعان خبب الدلول فتبدو كإيقاع الشعر
    ،وبين الفينة والفينة ،ينظرون إلى مؤنسهم الفرات ،الذي يجعلهم يحسون بأمان سيرهم الصحيح ،وحين يغيب الفرات بسبب التعرجات يشعرون بالملل .
    وكان الحداء يتغير تبعا لحركة الريح ،تلك الريح المحملة بالرطوبة ،وأحيانا بالقسوة ،وحين يشتد القيظ في المنخفضات ، كان الصوت يصل إليهم على ألسنة من لهب ، ثم يخبو ، و يرتفع تدريجيا مع رنين حنجرة لا تعرف الجفاف، حتى إذا ما دخلوا سهل الفيض وجه أبو فايد جمله نحو
    تل  عال ، مد الجمل عنقه على شكل التراب ، ثم هبط ليرفع عنقه على شكل انحناءة ، و هناك عند الهضبتين قفز أبو”  فايد ” عن ظهر البعير ، وقف أمام الذلول المندفع كمركبة فقدت فراملها ، و شيئا فشيئا أخذ الدلول يخفف من اندفاعه ، ملبيا إرادة صاحبه ، الذي يقبض على
    لجامه ، ثم يأمره بلغة ، فانصاع لأوامره و مد عنقه طاويا قائمتيه الأماميتين رافعا ذيله ، وهو يبرك مطلقا رغاء مصحوبا بالزبد من مشفره ، فأخذ أبو “فايد ” يمسد رأسه و عنقه ، جلل العرق أصابعه ، و برك الجمل الأكبر ، دون أي إشارة ، قفز فادي و اتجه إلى صابر :
    – سبقناكم .
    فجأة عبرت طائرات الحلفاء ، اخترقت جدار الصوت ، فاندفع فادي إلى فايد يحتمي به ، ربت على كتفه :
    – لا تخاف يا بني .
    فأسرعوا بإنزال الحمولة ، و أدخلوا الأمتعة إلى مغارة بين الهضبتين ، يعرفها أبو ” فايد ” منذ زمن بعيد . فسأل صابر :
    – هل ستبقى طويلا ؟ ..
    عقل أبو ”  فايد ” جمله من ساقه اليسرى و ترك الدلول ، فأخذ الجمل يسير على ثلاثة قوائم و هو يرعى الشوك ، فأسرع ” صابر “يعد الطعام ، و أبو ” فادي ” أخذ يمسد ساقه ، وينظر إلى صابر نظرات لا تخلو من حيرة .
    لازم ” فادي “قرينه “مهدي ” يتحرك معه كيفما يتحرك ، أخذ أبو ” فايد ” حفنة تراب من كوم  صنعها الخلد ، ووقف يزروها ببطء ، فقال :
    – ليس الجو على ما يرام .
    و دخل إلى جوف الغارة ، تحسبا من كل طارئ . كان الصبي يقف أمام الكهف بجانب خاصرة الذلول .
    فجأة أعلن المذيع استخدم الطيران أسلحة جرثومية . صرخ أبو ” فادي ” :
    – الله أكبر … فليصمدوا الأعداء إذن .
    ضحك صابر :
    – انتبه يا أبو فادي ترانا سنموت خنقا .
    – بعد العرض و الأرض ما نفع الحياة .
    – لا تصدق … و لا تكن ساذجا .
    سأل الصبي صابر :
    – صحيح أن تحت كل قصر قاعدة صاروخية .
    أجاب أبو فايد :
    – نعم دعاية تبرر بناء القصور .
    قال صابر :
    – اسمع كيف تحلل الظواهر … بطريقة علمية .
    قال أبو فادي :
    – يعني أنا لا أفهم العلم .
    – أنتم معارفكم جاهزة .
    – أراك تهاجمني كثيرا .
    – يا أخي الدين هو الدين . أما أن أعترف بأن معارفنا جاهزة شيء آخر .
    – الاتهامات . أنا مسلم متنور ، أختلف مع الآخرين بوجهات نظر .
    جمع أبو فادي جذوة أفكار حزمها كجملة مطلقة :
    – وجهة نظر كافر .
    – ترى من نصبك أميرا ؟ .
    عاد الصبي ينظر إلى العواصف و تمنى أن يتحول إلى طائر يحلق فوق هاتيك الأمواج ، ليرى أية يد عملاقة تحركها ، و تذكر حين كان على ظهر الجمل ، فقال لنفسه : ” يا إلهي ! .. كأنه برج متحرك ” .
    قبل ساعة كان الجو صحوا إلا من نسمات رطبة فواحة برائحة العشب ، و ما أن وطأت أقدامهم واحات الخور ، حتى انفتحت الواحة عن اتساع مخيف ، فتعجب من نبوءة أبي فايد و كيف عرف الطقس .
    أشعل أبو فايد النار و جاء بأبي فادي و أجلسه لينعم بالدفء ، وطلب صابر من فادي أن يبقى بجانب أبيه لعله يحتاج شيئا .
    جلس الصبي بقرب أبيه و عشرات الأسئلة تعصف برأسه .
    مع الدفء تشابكت الأحاديث تارة في السياسة ، و طورا في أمور أبي فادي و أحياناً تخرج الأفكار عن إطار الكهف و تعود القهقرى إلى مرحلة الشباب و الطفولة ، و إلى الجمل و الصحراء ، و الشعر و البادية ، و فجأة قفز الصبي ليشاهد إذا هدأت العاصفة :
    – السماء سوداء .
    أسدل الليل جناحه ، و انعدمت الرؤيا ، فعاد إليهم يصغي إلى أحاديثهم ، و جمرات النار تتقد و تشع فينعكس وهجها بلون الوجوه ، فتتحول إلى صور عجيبة ، راقه المشهد . نظر إلى وجه أبيه ، رآه يتطاول في العرض ، و يمتد إلى الأمام ، و في زاوية الرؤيا يؤلف دائرة ينبت
    وسطها أنف طويل ضخم ، أما صابر فقد رآه محطوط العنق يمد وجه نحو الأمام ، كوجه بقرة هولندية ، فضحك من أعماقه ، فسأل صابر : – ما وراءك ؟ ..
    – تغيرت وجوهكم .
    – كيف ؟ ..
    ضحك من جديد و حشر رأسه تحت إبط أبيه ، أدرك مهدي ما يجول بخاطر الصبي فقال :
    – شوه إشعاع الجمر صورنا .
    قال أبو فادي :
    – أكيد سيصبح قردا . لأنه تأثر بكما .
    – ثمة خطأ ؟ .
    – نعم ، أفكاركما عجيبة … شيطانية … كافرة … أما الصبي تعلق بكما … لم أدر ما سر هذا التعلق ؟.
    قال صابر :
    – حظه قوي … و لو بقي مثلك لكنت ظلمته ..
    بعصبية :
    – أنا ظلمته ؟ …
    – اسأله …
    نظر أبو فادي إلى ابنه :
    – تكلم يا ولد؟ …
    – نعم لأنك أبعدتني عن أمي و مرة لأنك تريدني مثلك .
    طأطأ أبو فادي رأسه :
    – ( أولادكم و أموالكم عدوا لكم فاحذروهم ) .
    متحفظا” :
    صرخ صابر :
    – عدوا ؟ … أولادنا … هكذا تفهم القراءة . تدخل فايد :
    – المعنى غير ذلك .. المهم فادي يحب أبيه .
    و نظر إلى فادي سأله :
    – أليس كذلك ؟ …
    – بلى … أحبكم جميعا .
    قال صابر : و نحن نحبك أكثر من أبيك .
    لم يكن فايد ميال إلى هذا السجال الذي لا طائل له فحسم الأمر :
    – هيا إلى النوم … أمامنا ساعتين و تكون هدأت العاصفة .

    وضع أبو”  فايد ” إبريقا من الماء فوق الجمر و راح يدخن ، و تمدد أبو”فادي “،وبجانبه ولده ، وبعيدا عنهما صابر فسأله :
    – ألا تنام ؟ ..
    – كيف … المكان بحاجة حراسة ؟ …
    لم يرد صابر أغمض عينيه في محاولة أن يخلد للنوم ، حلم أنه يقف على نهر العاصي ، وثمة امرأة تبكي وليدها ، تضرب على صدرها ، تطاير شعرها على أرجاء القلعة ، ومن حولها جمهرة من النساء ، يهدأن بالها ، و انبرت من بين الجمع جدة بزيها الشعبي ، تقدمت من أم فادي :
    – لا تخافي سيعود ولدك .
    و مسكت خصلة شعر تدلت على فودها .
    فجأة أحس ” صابر ” بيد تلكزه ، و همسات فيها بحة قرب رأسه .. نهض مذعورا” ، ولكن بصمت . فرأى أبا فايد يتناول البندقية ، حرك آليتها بهدوء … ثم وشوشه :
    – اتبعني …
    وقف ” صابر ” بجانب أبو فايد ، مد فوهة بندقية صوب اليمين و أشار إلى صابر أن يبقى في مكانه ، حدد الهدف و أطلق عيارا ناريا ، ارتفع عاليا و سقط على الأرض ، يعر عريرا  فاندفع أبو ”  فايد ” ينظر إلى الأسفل كانت أنثى الضبع تتجه صوب المغارة ، يبدو أن الدماء تحظر
    آكلة اللحوم ، فأسرع صابر ينبه أبا فايد خوفا أن تأخذه على حين غرة .
    فاستيقظ أبو ”  فادي ” ، و لكز ابنه الذي استيقظ من حلمه ، فرأى أبو فايد يقرع على الدف ، و هو في وسط الناس يرقص و بيده سيفا طويلا، و على امتداد البصر رأى جردا  يأكل الأخضر و اليابس ، فجأة يتحول المنظر إلى جثث مكفنة بالبياض ، و حين توقف الإيقاع ، هدأ الرقص ،
    وفجأة قابله تمساح كبير فاتحا  شدقيه يريد التهامه ، فأخذ يصرخ ، ويبحث عن ” صابر ” لينقذه من التمساح ، و راح يستغيث ، لكن لا من عجيب ، و حين أصبح بين فكي التمساح فأيقن أنه هالك لا محالة . انبرى صابر و غرس سيفه في حلق التمساح ، الذي لفظه بعيدا ، فراح يرقص
    بعنف ، كانت يد أبيه توقظه فصرخ :
    – أين العم صابر ؟ …
    رد والده :
    – لا تشغل بالك …
    اندفع الصبي إلى خارج الكهف ، رآهما يجلسان خلف صخرة و عيونهم إلى الأسفل ، ترصدان شيئاً ما . نادى عليهما :
    – أين أنتما ؟ …
    فعاد أبو ”  فايد ” و من وراءه ” صابر ” ألقى البندقية جانباً :
    – الضباع كثر …
    ردّ الولد :
    – و التماسيح أيضاً .

    كانت الحوامات تجوب الأفق ، انفردت واحدة عن السرب ، هبطت وراء التل ، قال أبو ” فايد ” :
    – ساعة و نبدأ الرحيل .
    صابر :
    – ما رأيك الآن ؟ ….
    لم أفهم .
    – نحن في نهاية الشهر .
    افتعل صابر سجالا مع أبي فادي :
    – ما العمل لو دهمنا جنود الأمريكان ؟ .
    ضحك أبو فادي :
    – لا يستطيعون رؤيتنا .
    – أنا قلت لو …
    – أهلاً بهم .
    – ألا تخاف الموت ؟ ..
    – من لا يخاف الملك القابع خلف أذن المرء ، لكن الأعمار بيد الله . يتربص و يختار فله نهاية ، و أنه يا صديقي صابر مخيف جدا ، إني لا أستطيع إلا أن أفكر به ، حين أشعر بالأسى ، أو المرض كحالتي هذه تنتابني أفكار عجيبة ،فأشعر بالوحدة مع أنني معكم ،و أعرف أنكم لن
    تتخلوا عني ، لكن فكرة الموت تأخذني إلى الماضي إلى كل ذنوبي السابقة سامحوني … و بلغوا أم فادي سلامي علها تسامحني ، لقد ظلمتها … وظلمت ابنها الوحيد ، الذي حرم من العلم ، أقول ذلك ليس بغاية التوبة ، و لكنها اكتشاف أمام محكمة الذات . كان علي أن لا أسير
    خلف ذلك الرجل … المفروض أن أكون طيبا رقيقا معها و لكنني غبي … نعم غبي لدرجة أنني ارتكبت تلك الحماقة ، التي لا أستطيع التكفير عنها على الأقل أمام نفسي ،إلا بالموت الذي أخافه .
    و غرق في بكاء مرير …
    نهض صابر :
    – ما بك يا صديقي ؟ … كنت أمزح … تقطع أبو فادي في داخله … تشنج ، تدخل أبو فايد :
    – لا .. ليس لنا البكاء . يجب أن نتقدم خطوة نحو الحياة .
    اندفع ” فادي ” إلى أبيه ، قبله ، مدّ والده يده ، و أخذ يمسح على شعره :
    – لا تترك صابر …
    – سمعا ..
    – كن مخلصا له .
    فتحركت مشاعر الخجل ، و الصبي غارق بصمت البكاء على صدر أبيه .

    ذهب ” صابر”  إلى فراشه مقهوراً مسحوق الفؤاد ، بشعور الرحمة ..فرأى “مهدي ” يحمل القتيب على ظهر الجمل بهدوء . دونما ضجيج ، حيث النجوم تضيء زبالتها الناعسة ، جهجة الضوء ، و ظهرت الواحات تمتد متشابه ، ترسل النظرات الآدمية بتلويح العتاب ، و هي تستقبل الصباح
    بضحكات ساخرة … وحدها الإبل كانت تلوح ذيولها ، كأنها اشتاقت لغناء الطبيعة و الحداء ، ما زال صابر مكتئبا و الصغير يبدو أنه نسي ليلته ، وعاد إلى حركته السابقة و بدا أبو فادي فرحا أكثر من اليوم الماضي .. وقف على رجل واحدة ،يحجل باتجاه باب المغارة ، جلس على
    صخرة ، يراقبهم و السعادة تغمر قلبه ، هيأوا كل شيء للسفر ، قفز أبو “فادي ” على رجل واحدة إلى ظهر الذلول ، استعدادا  لرحلة جديدة .
    فقال مهدي :
    –  أتمنى لك صحة جيدة .
    – دعوني … اللياقة تحتاج إلى بعض الوقت .
    شقت الجمال طريقها باتجاه الحدود السورية . بدت الشمس عروسا تكلل الأفق بوجه رائع … و الفرات يضيء مجد البادية ،بخط يلمع تحت الشعاع . عزفت لحن الديمومة ، تذكر البشر بالحب و الحياة .
    تفاعل أبو ”  فادي ” مع اللحن ، و أخذ يغني ، فأثار صابر :
    – ما بالك يا أبا فادي … أراك تحرك أصابعك ، كأنك تحك قدمك ،مع عدم وجودها .
    – أحسبها معلقة .
    كان الحداء يأخذهم بعيداً ، يرحل كل منهما إلى ذاته ، يؤنبها أحيانا , و أحيانا يلوذ إليها ، زادت سرعة الذلول ، بازدياد سرعة الجمل … الذي مد عنقه حتى تساوى مع انسياب جسده ،مشكلا  رسما  لسفينة فينيقية ، في بحر هادئ .
    فسأل صابر :
    – ما هذه القرية ؟ ..
    – كركوك .
    – يتجنبها  أبو فايد .
    أبو فادي :
    – أهل مكة أخبر بشعابها .
    – لديك حق .
    مرت ساعة أو ساعتين . قطعت الشمس شوطا  طويلا ، في سماء بدت مغبشه بغيوم متقطعة ، وقد مال الطقس إلى البرودة . فتوقف الجمل ، و من وراءه الذلول ، و مط الصبي رأسه ضاحكا ، و قال أبو ” فايد “:
    – إنها الحدود .
    – إنها الحدود سنمضي ليلتنا هنا ، ثمة مغارة على ما أذكر ،وسوف نأوي إليها بعيدا عن حرس الحدود ، و غدا سنفترق ،هذه الليلة ليلة الوداع . هللت الوجوه ببشاشة ، و اندفع الجمل إلى شعاب جديدة ، لا يعرف الشيطان أسرا رها .

    ظل لحظة صامتا ،وكان عليه أن يهيئ نفسه لأن يعقل الجمال ، و يفرشون أمتعتهم بعد تنظيف الأرض ، ثم يجلسون ، كان لدى أبو ” فادي ” كلاما كثيرا ، و اعترافات كثيرة …الدقائق تتمطى ،وتنفخ كإعصار، أشعل ” صابر”  النار و هيأ القدر لصنع الحساء ، و كان أبو فايد يطعم
    الجمال ، أما الصبي ، فقد انزوى كقط شريد ، يراقب كل شيء عن كثب .من حوله زهور متفتحة قبل الأوان ، وبدت شمس سورية ،ما يشبه انفجار ضوء ، جعله منظرها أن يتخيل صورة أمه، حاول استنباطها من ذاكرته، فتوقف عند صورة لامرأة جميلة ترتاح لها النفس … و في كل مرة يصل
    إلى إحباط لا يستطيع أرشفتها في ذاكرته ، و فجأة ارتسمت أمامه أمه بوجه جميل ، أنفها المستقيم الدقيق فوق ثغر كفلقة جلنار ، و عينان واسعتان فوقهما قوسان ، و شعر داكن يأخذ سواد الليل . و كمن لسعه عقرب ، قفز إلى أبيه :
    – أرجوك أن تنصف أمي .
    سؤال الابن أربك الأب و صابر ،ضحك مهدي و انتظر جواب أبو فادي ليرى هل هو صادق في مشاعره . لكنه سرّ في نفسه:”ينبغي على المرء ألا يكون عجولا “.
    ارتبك صابر ، وقف دهشا ،راودته الأفكار ،أعاد بناءها من جديد ،خيل إليه أنه لمس ذروة سعادته ، ارتجفت يده كاد ينزلق الصحن على الأرض ،  حدق في وجه أبي فادي،يحسب أنه يحسن صنعا ، فأجاب :
    – تشبه القمر … و إن غضبت تبدو كالعريف حميد جارنا ، ألا تذكره حين يغضب .
    وأخذت عيناه تبرقان ، وهو يصفها .
    صرخ فادي :
    – يا إلهي ! .. أتخيلها …
    صابر :
    – هل صفحت ؟ ..
    – نعم .
    – أتحبها ؟ …
    – نعم .
    – لماذا وصفتها بصفتين . الأولى سعيدة ، و الثانية غاضبة . و شبهتها بالعريف حميد لقد أفصحت عن حالة قرار نفسك .
    قال أبو فادي موجها” كلامه لأبي فايد :
    – أخونا نفساني و لا ندري .
    – لا يقول غير الصواب .
    ردّ أبو فادي :
    – صحيح …. صحيح ..
    صابر :
    – كنت تخاف العريف حميد ؟ .
    – بلى .. وجارتنا أيضا .
    ربت على كتف الصبي :
    – كيف تخيلت أمك ؟ .
    – ملاك …
    الدقائق تتدافع في غير انتظام ،جلجل دوي ضوء احمر خرج من الظلام ، اندفع ” فادي ” إلى باب الكهف يراقب . وقع بصره على طائرات تحوم ، و ارتسمت ظلالا على الأرض بحجم كبير ، أثارت فضول ” فادي ” ليركبها و لكنه ما إن قفز نحو الأرض المستوية حتى هربت الظلال ، و ظهرت
    من جهة الشرق حوامة . صرخ :
    – حطت طائرة هناك .
    قفز أبو ” فايد ” و مدّ يده داخل القتيب تناول البندقية،نظر بهيئة عابسة  :
    – ربما نتعرض للهجوم …
    أسرع ” صابر ” و اندفع صوب الحدود ،ومن خلفه فادي كان عليه أن يحذو حذوه  ، صرخ أبو ” فايد ” :
    – بسرعة لا مجال لإضاعة الوقت .

    عاد أبو ” فايد ” ووقف في باب الكهف ،أوقع فراق ” صابر ” به أشد الآلام  ،فتهيا  إلى العودة  ،أدار أبو ” فادي ” إبرة المذياع ،فصدح غناء :
    ( كان الوداعُ ابتسامات مبللةً …
    بالدمع حينا وبلتذكار أحيانا
    حتى الهدايا وكانت كل ثروتنا
    ليل الوداع نسيناها هدايانا )
    ذهب أبو ” فايد ” يضرب في الصحراء ،كان يعرف ما آلت إليه كثبان الرمل ، وحين رأى ( الحوامة ) جلس  بين الصخور .ارتسمت أمام ناظره صورا خرافية ،لم يتوقعها ،نظر إليها عن كثب قال : لقد فات الأوان .
    و ظل أبو ” فادي ” في المغارة ، تسيطر عليه مشاعر خوف و خيبة ، وقف على رجل واحدة ، يسحب بساطا من الوبر إلى آخر الكهف ، فاراً من أية مفاجأة ، تمكنه من المقاومة و هو الأعزل ، جلس في العتمة ، يتذكر كيف طلق زوجه و رحيله ، مع صابر أحس بشيء من البهجة التي تناسب
    الرجال قبيل العراك ، لكن إحساسه بالارتباك كان الأقوى ، كان يحس بالعجز من أي اشتباك ، مع أي مخلوق ، فقال لنفسه : ” لا ربما أنا أحمل عقلية مختلفة و غاية مختلفة ” .
    فجأة دخل أحد الجنود ، تراجع خائفاً أن يكون قد وقع في الخديعة ، فاجتمع الجند تغلي في نفوسهم شهوة الدماء .كان أبو”  فادي ” يؤدي الفرض ، و كانت الصور تمرح في ذاكرته صور لأصدقائه وقع بصره على بعض الجند يدخلون المغارة ببطء فقال أحدهم :هذه الآثار لها علاقة
    بإنسان ، أو ابن آوى شحط فريسته .كان مرهقا تحت عبء المسؤولية ،لم يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل ، يراقب الإجراءات البطيئة لمحاصريه ،و نمت بداخله نزعة مبهمة للقيام بشيء ما ، شيء يجعله راض عن نفسه ،يتخبط وسط طقوس أخترعها بنفسه ، وقف على قدم واحدة ، فأحس الجندي
    بالحركة ،تراجع خطوة نحو الوراء و يده على الزناد .
    ظهر أبو ” فادي ” على ساق واحدة مما جعل الجند يستلقون على ظهورهم من الضحك ، تقدم أحدهم ، ليفتشه ، و أمرهم رئيسهم :
    –  أننقلوه إلى (الحوامة ).وأردف :
    – و مغادرة المكان فوراً .

    لونت الشمس قمم الجبال ،تأمل ” صابر ” المنظر  في إعجاب ،وكان ” فادي ” جالسا على حجر وضعا قدميه في الماء ،يبدو أنه منحرف المزاج ،فسأله :
    – ما رأيك أن نستحم ؟.
    – لست متحمسا لذلك .
    تأمله في إعجاب :
    – ينبغي على المرء أن ينظف نفسه من الأدران .
    – انتظر قليلا .
    فخلع صابر ثيابه ،و قفز إلى النهر ، و فعل فادي مثله ، ليتعمدان بمياه الفرات العذبة ،فأرهفا الآذان إلى اصطخاب الأمواج ، و لما خرجا غسلا ثيابهما ، علقاها على أغصان الشجر ، و جلسا بوجه شمس مكللة بالبهاء ، فقال الصبي وهو ينظر إليه بهيئة عابسة  :
    – أين يكون أبي ؟ …
    ولد السؤال في قلبه بحيرات من التفكير ،فأجاب وفي عينيه القلق :
    – حيث الأقوياء الذين نصبوا من أنفسهم آلهة على البشر .
    – آلهة ! ..
    – نعم … ستعرف من أمك ، أن كل كلمة سمعتها أثناء الرحلة ، هي مرموز تعزفه النهايات في كل المنعطفات الماضية .
    – لم أفهم .
    – ستفهم … لا بد ستفهم .
    دخل صابر و الغلام مدينة البوكمال عند الصباح . فاتجها إلى مطعم ، و طلبا بعض المأكولات . كانت رزمة من مجلات قديمة أمام البائع ، يستخدمها للف “السندويش ”
    سحب ” صابر” أحد المجلات القديمة ،لا أثر لعنوان لها أو مرجع فقرأ :
    – دعني أراك .
    – لا أعتبر نفسي نابليون .
    – بالله عليك اصمت .
    رحل ” صابر” مع مداد الكلمات ، حتى كاد ينسى نفسه، لكن صوت صاحب المطعم :
    – حمص بحمض .
    – نعم .
    و تذكر أن عليه أن يتصل بأمّ ” فادي ” سأله :
    – هل لديكم هاتف .
    – تفضل …
    تلقت أمّ  ” فادي ” مكالمة من ” صابر ” ، أحست بفرح كبير ،طلبت السائق ،جاء على جنح السرعة ،رأى تعبير السرور على وجهها ،ودون أن يستفسر السبب سألها :
    – مري سيدتي .
    – كم الوقت التي تستغرقه السيارة من حمص إلى البوكمال ؟.
    – خمس ساعات تقريبا .
    – إذن هيا بنا ..
    – حاضر …
    جلست بجانبه ،ضغط برجله على دعسة البنزين ،وراح ينعطف من شارع إلى آخر إلى أن أصبح خارج المدينة ،وقف على اليمين بجانب مستديرة تدمر ،تفقد الدواليب ،وبعد أن اطمأن  من سلامتها ،عاد وحشر نفسه أمام المقود ،واندفعت السيارة تشق عباب الهواء ، انطوت الأزمنة ، و قصرت
    المسافة ، لكن التمني و الرغبة ، غير الواقع و الحقيقة ، بينهما مفارقات تضيع فيها العقول ، و تنتفي الأحلام ، تنزوي أو تتموضع على رفوف الآتي فلربما تتحول إلى حقيقة .فطلبت :
    – أرجوك …. بسرعة .
    ابتسم متمنعا حريصا على شرف المهنة … كانت السيارة تسبح كمركب بحري في بادية لا حدود لها .
    أدار إبرة المذياع . فأعلن المذيع عن رحلات مكوكية ، للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل .
    كان ” صابر ” يعيش أحلاما ،لفتت حركاته صاحب المطعم ،فسأله :
    – يبدو عليك من أهالي الحضر .
    – نعم .وأنا في غاية التعب .
    – لا وجود للفنادق في بلدتنا .
    – أرجوك …أريد بيتا   للإيجار و لو لأسبوع .
    أرسل صاحب المطعم صانعه مع ” صابر ” إلى أحد المكاتب العقارية في  البلدة ،و هناك تعرف على صاحب المكتب ،اصطحبه إلى أحد البيوت ،قرع على الباب ،بعد دقائق ظهرت امرأة ترتدي خمارا ،سألها  عن حميد ،فأجابت :
    – نعم موجود .
    التفت إلى صابر :
    – حظك كبير .
    قالت المرأة :
    – تفضلا …
    عبر الرجل الممر ومن خلفه ” صابر” ،ولما أصبحا في وسط البيت،نادى الرجل :
    – يا أهل البيت .
    ردّ حميد :
    – أهلا …تفضل عطوان .
    ولج عطوان البيت ومن وراءه صابر . كان حميد يرتدي عباءة تتخللها خيوط  ذهبية ،يعتمر كوفية ،بلغ عقده السادس ونيف ،يجلس أمام كانون ،اصطفت الدلال النحاسية على أطرافه ،وانتشرت الفناجين حول الدلال بانتظام ،يحرك الجمرات بملقط حديدي .
    عاد إلى جلسته بعد المصافحة ،وأشار لهما أن يجلسا في الجانب المقابل ،دون أن يفوه بحرف وبإشارة سريعة لم تلحظها إلا العين الخبيرة ،فهمت ذات الخمار مغزاها ،ودون أن يحرك جذعه …صب لهما السادة ،انتهز عطوان الفرصة :
    – شيخ العشيرة .
    ردّ صابر :
    – تشرفنا .
    تابع حميد حديثه عن المستأجرين  ،روى قصصا عنهم ،فبدا عليه كأنه يعرف البلدة بيتا بيتا ،وأسماء سكانها ،وأسماء القابلات  ،وتاريخ مواليد أهل البلدة ،ومع بسمة من تحت شاربين كثين :
    – اسمع يا عطوان .
    – تفضل …
    – تعرف تاريخ ميلادك .
    – لا …
    – يوم طقع سعود .
    ضحك “عطوان ” واحمر وجهه خجلا من ” صابر ” ،ولأنه كان ثرثرا ،فلم يعلق على صاحبه ،فاخذ يتكلم بعبرات حفظها عن ظهر قلب ،وكعادته أخذ يرواغ تارة مع المؤجر ،وتارة مع المستأجر ،هذا سر المهنة ،ويعمل قصارى جهده حتى يستطيع إقناع الطرفين ،ولم يبق عليه سوى أن يكتب
    العقد ،ثم يأخذ عمولته وينصرف إلى شأنه .
    كان فادي يلعب في فسحة البيت ،فاستأذن صابر بعد أن أخذ المفتاح ،وخرج إلى فادي رآه يلعب مع الدجاجات ،أخذه من يده وقصدا المأجور،فهما بحاجة للراحة   ،دخل إلى الحمام ،وراح ينعم بالماء الساخن ،ورغوة الصابون ،وعندما أزال الأدران العالقة على جسده ،أحس أنه بحاجة
    للنوم ،استلقى على السرير،حدق في سقف الغرفة ،ومسح بنظره الأخشاب عدّها مرات ومرات ،حتى غالبه النعاس ،وبقي فادي يلعب في البيت ،ومن خلال شخير صابر وحركاته أدرك أنه يعيش حلما ،كان صابر يحلم  أن  عدد الأخشاب  اثنان وعشرون خشبة ،عشرون   منها جاءها السوس ولم تبق
    سوى واحد في حالة جيدة ،وأخرى لم تزل في حالة الوسط ،يا إلهي !… يجب أن أرحل قبل انهيار السقف ،ومن ثم أبحث عن حل لهذه المشكلة مع أصحاب البيت لعلهم يستجيبون للأمر ،ويقومون بترميمه ،ولو كلفني ذلك أن أبني مدرسة على نفقتي الخاصة ،وانفق  الأموال التي سأقبضها من
    أم فادي في سبيل ذلك ،هذه الأموال لم تكن بالحسبان ، فجأة هيمن الصمت ،نظر إلى السماء ثمة طيور غريبة تحلق فوق خيام أبا ” فايد ” جاءت من خلف البحار ،تعلق الملايين من عيون  القطعان  في هذه الطيور ،كانت العيون تنتظر المعجزة بصمت ،فقال :
    – لم تحصل المعجزة .
    سأل الصبي :
    – علام يا عم صابر ؟.
    – لأنها  وهم .
    عاد الصمت من جديد ،ابتلع التساؤلات وتحركت الحشود ، غطت الطيور على بغداد وراحت تبني أعشاشا  في أوابدها ،تحرك الطفل في مكانه فزعت الطيور فاحترزت ،ثمة طير بشع كاد أن يلقي على رأس الطفل حجرا كبيرا ،فصرخ آخر لا تقتلوه أريده حيا ،لعله فكر أن وراءه جوقات من
    العصافير ،فانقض عليه بأظافر قوية ،كاد أن يخطفه ،فصرخ :
    – أين أنت يا عماه ؟.
    لم يرد عليه لأنه كان يجاهد الريح ،لكن الطير الكبير سأله :
    – لأي عصافير تنتمي ؟.
    – الآن بمفردي .
    – أفصح ؟.
    – غدا جميع عصافير الرافدين ستكون معي .
    – الم تخف ؟.
    – أبدا الموت والحياة عند العصافير سيان .
    – من أي الفرخ أنت ؟.
    – فرخ قطا ،عقاب ،نسر ،حمام لا فرق .
    – سأمزق جسدك .
    – أعرف …لا محال سيقتل أحدنا الآخر .
    – أنت ضعيف أمام أظافري القوية .
    – أنا أقوى منك .
    – لم أفهم ..
    – أنا أملك قراري . وأنت قرارك من أسيادك ،ألست من المرتزقة ؟.
    صمت مليا :
    – حسنا سأطلق سراحك .وعليك أن تجتاز الحدود قبل أن تحمر أظافري .
    وقبل أن يبعد العصفور أنقض عليه بأظافره فهوى على كثبان الرمل ليرسم بدمه رافدين موحد .
    اقترب فادي من السرير ،دنا من صابر ،وأخذ يوشوش في أذنه :
    – يا عم صابر …يا عم صابر .
    نهض صابر مرتبكا ،فرك عينيه ،ونظر من نافذة البيت ،رأى نجمة المساء تومض من بعيد .لكنه كان بحاجة للنوم ،فتركه الصبي وعاد إلى اللعب .. طار صواب حمدان , و أخذه احمرار التراب , و مجرى الماء الذي شكل شريانا” يشق طريقه إلى واد لا يعرف أحد أين يلقي برأسه التعب .
    لم يدر إلا و هو يقرع باب صاحب الأرض , أنقده مبلغا” و ذهبا معا: إلى الدائرة العقارية , تأبط الملكية خوفا” من عاديات الأيام .
    جلس في البيت و شرد بخياله بعيدا” , يفكر كيف سيتأبط صك الزواج , و اشترط على نفسه أن تكون رؤوفة بالحيوان , و خصبة كهذه التربة الحمراء . فجأة غالبه النعاس , و تعاقبت الفصول , اشرأبت الأشجار و أثمرت و أغدقت الخيرات عليه , و زقزقة العصافير و رقصت أيام الإخصاب
    , دخل عليه مالك الأرض السابق , و حين حدثه عن المحاصيل و نوعية الثمار , وخصوصا” ثمار الكرمة و عصيرها اللذيذ , رأى الحسد يشع من عينيه . انقض ليمسك بتلابيبه , فاستيقظ مذعورا” , فقال لنفسه :”” حلم جميل لولا الرجل التعس ” .
    اصطحب عددا” من عمال البناء إلى أرضه و شيد غرفتين للسكن و على مسافة بنى زريبة , و خم للدجاج , و لم ينس برج الحمام , و بعد أن سور الأرض بأسلاك شائكة , غرس أشجارا” من اللوزيات و الزيتون و عدد من أشجار التين و العنب , و ابتاع من المدينة ثلاث بقرات , و ست
    دجاجات , و ذات العدد من الإوز , و قبل غروب الشمس اطمأن على الحيوانات و عاد إلى البيت ليأخذ قسطا” من الراحة , في دبيب العتمة تراءت له خيالات من خلال النافذة , و خوفا” من هجمات اللصوص , فكر أن يبتاع بندقية , لكنه تراجع خوفا” أن تعرضه للمساءلة , و بقي يفكر
    حتى طلع الصباح , فسافر إلى البادية و بعد لأي صادف أحد الرعاة . ابتاع منه كلبا” مدربا” على حماية القطيع . أنيابه حادة , و ابتاع مؤنه للحيوانات , وطعاما” خاصا” للكلب . راودته فكرة الإنجاب , فأخذ يستعرض وجوه الصبايا , لكنه تراجع حين سمع خوار البقرة , فأسرع
    ليستطلع الأمر , فاستقبله الكلب يهز ذيله , دنا منه و مسح على رأسه :
    – لك عروسا” تليق بك .
    تكور الكلب بجانب الزريبة , فاستقبلته البقرة بالخوار , فتعهد لها بثور قوي , و لم ينس الدجاجات , تناول الدفتر و كتب , أنثى من الكلاب , و ثور قوي , و ديك فصيح .
    و نسي نفسه , و عاد أدراجه إلى البيت , و أخذ يسترجع الأسماء , فتذكر نفسه :
    – اللعنة …
    تذكر إحداهن فقال :
    – هي لا غيرها !..
    لكنه تراجع عن فكرته , لأنه شاهدها , تضرب شاة بقسوة فقال :
    – لا…. لن أقترن بفتاة لا ترأف بالحيوان , كل من لا يحترم الخصب , غير جدير بالإنجاب .لمع الأفق , و دوى الرعد …وزرفت السماء دموعها , انتعش قلبه بالأمل , حين استقبلت الأرض دموع الرحمة , أشعل الفوانيس , و أوصد النوافذ , كانت أرباب السماء تعقد اجتماعا”
    نوعيا” , فانضمت السحب المبعثرة فتحولت إلى جزر باكية , و فجأة دخلت الفتاة القاسية , و أدت أمامه القسم :
    – أقلعت عن عادتي ….
    – حسنا .
    ردت :
    –  فأنا راغبة في الإنجاب .
    دوت القذائف في قبة السماء , سمع عواء الكلب تحت سياط المطر , و خارت إحدى البقرات أشعل النار , و أخذت الفتاة تساعد البقرة فاندفعت عجلة ولدت لتوها غير أن أمها فقدت أثداءها مؤكدة ولادة جديدة .
    وصلت أم فادي إلى بلدة البوكمال ومن خلال السؤال استدلت على  صاحب المطعم.فسألته عن صابر ،رحب بها :
    – نعم أعرفه .
    ضحكت :
    – خذني إليه فورا .
    – هيا بنا .
    ركب معها في السيارة ،وانطلقوا إلى المكتب العقاري ،فاستقبلها ” عطوان”  إيما استقبال وذهبوا إلى  حيث يقيم صابر ،دلها ” عطوان ” على البيت ،وعاد من حيث أتى ،قرعت الباب ، لكن سلطان النوم أقوى ، ، فتح فادي الباب ، دخلت أمه ، صوتها أيقظ صابر ، وهي تقول :
    – ها أنت عدت يا حبيبي ، عدت إلى ساعدي سأضعك في قلبي … نعم سأقفله عليك .
    وقف صابر :
    – الحمد لله على سلامتك .
    فتح ” فادي ” عينيه ، رأى جمهرة تحيط بالسرير و شاهد امرأة ، أدرك أنها أمه ، وقف ” صابر ” يلقي نظرة أخيرة ،غرق في اليأس ،لم يملك الجرأة للنظر إليهم ،كان حائرا لا يدري ما يفعل ،استحوذت عليه قضايا المهنة ،كان  خائفا من أمّ فادي أن تقدم المبلغ المتفق عليه أمام
    الصبي ،  فخرج من غير أن ينبس بحرف و اتجه إلى النهر ،ونهشت الجراح قلبه ، اندفع فادي وراءه يصرخ :
    – أين أنت يا عماه .
    غرق في المبهم من الأشياء ،حين طرق سمعه نداء ” فادي “،سبح صوت الصبي مع الموج الناعم ،عبارات تنفذ فوق نسيج المشاعر ،التفت  فرأى الصبي يركض صوبه، و أمّه تلحق به ،و السائق ،و صاحب المنزل . و الشمس الآفلة ترسم عند الغروب لوحة من دماء .
    أهداء
    إلى الوطن

    إلى براعم الوطن
    إلى أمهات غزة
    إلى أبناء العراق الشرفاء
    الأديب نبيه إسكندر الحسن يكتب القصة منذ مطلع الثمانينيات
    صدر له  الهدية – سوريا الأم – أحلام  مشتتة – دليل الأم – آلهة الطحالب مخطوط – سنابل في رحم الصخور .
    نعم القصة هي تلك الدروس التي تلقيناها،وأصبحت في مخزون الذاكرة سلاحا نشهره حين الحاجة إليه ،دون أن ندفع ثمنه غير ذلك الانقطاع عن العالم والناس والأشياء ،هذه الخسارة غير الملحوظة  التي عرفتنا على النفس النبيلة والنفس المنحطة الذليلة والتجار والشاري والشاري
    ورأينا الكاذب والمنافق كما في رواية ” الأنفس الميتة لغوغول .
    إلى أي حد وصلت القصة القصيرة ،وفي أي أرشيف دخلت …؟ وهل ثمة كاتب استطاع إقناعنا بوجهة نظره الابداعيه  أو عرضه …او انه جعلنا نركض وراء وضعه السحري .
    صدر للمؤلف :
    – رواية غضب النورس .جمعية التعاونية دمشق 1989
    – = الفدية .دار المعارف 1990 ط 1 دار إنانا دمشق ط 2/ 2000
    – = محراب العشق .دار المعارف 1994ط1 / دار إنانا ط2 /2000
    – = بحرية الملح خمسة أجزاء .دار التوحيدي 2004 ط1
    – = عاشق أخرس .دار إنانا 2005 ط1 دمشق
    – = رياح العنف .=    =      =     =
    – = مطر الملح . =    =      =     =
    – =  قيم وثعالب .=    =      =     =
    – قصص الهدية . جمعية التعاونية للطباعة دمشق 1989 ط1
    – = سوريا الأم .دار المعارف حمص 1990 ط 1 دار إنانا 2000 ط2
    – = أحلام مشتتة .دار المعارف 1994 ط 1 دار إنانا 2000 ط 2
    – = دليل الأم .دار المعارف 1989 ط1
    – = آلهة طحالب .قيد الطباعة .
    – = سنابل في رحم الصخور .
    – = موال العاشق مخطوط .

    ==================================
    سوريا حمص – ص – ب -/ 5121 / جوال 0966326100

    ___________________________الى اللقاء في أعمال قادمة …للقاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

  • من – رواية ” الاحتجاج ” ج 6 – بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن ..

    من – رواية ” الاحتجاج ” ج 6 – بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن ..

    رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
    نبيه اسكندر الحس

    الاحتجاج
    رواية
    ( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
    وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )

    بدا النزل كحمام قطع ماؤه ، و بدا دخان السجائر كدوائر يشكل سحابات ضبابية بين أرجاء الصالون ، ، فرأى نفسه واقفاً أمام أبي ” صابر ” يتوسل له أن يعود لكن توسلاته لم تجد نفعا لحمله على الإياب ، و بروعة الحلم جاءه أستاذه :”  ينبغي أن تكون الاستثناء . أمك في
    قبرها حزينة ، ومجللة بالتراب ، و أحذرك من بنات الهوى ، قريبا سترقص الغجرية احتفاء بعودتك “.
    سحرته الكلمات تساقطت أمامه كالثلج ، فأحس بأن البذور تنمو، لتجعل الثلج ملونا بالأخضر ، وهناك شريان أحمر يشق هضبتين ،و من على القمة تلوح أمّ صابر بمنديلها ، وبجانبها جماعات من الغجر ،فأخذت إحداهن  ترقص ، حتى جعلت النجوم تبادلها الوميض . فسأل نفسه : ” يا
    ترى هل سأجد مهدي ؟ … و أين سأجده مساحة العراق واسعة ” .
    من كان يظن أن ” صابرا” سيذهب إلى بغداد ، في مثل هذه الظروف ، كان يدرك أنه يندفع إلى أتون النهاية ، بدا كفراشة وسط اللهب .لكن يترتب عليه أن يكسب الوقت .
    ساد الصمت بضعة لحظات ،قبل  أن يلتقي مع أمّ ” فادي ” كان يستسهل الأمر ، ربما لأن الكلام مجرد كلام فقط ، و ربما يكون بدافع اليأس … و ربما رغبة منه أن يمسك بطرف خيط القضية ، قضية تصفعه بسياطها . نظر إلى النافذة ، شق ستارها عن سماء صافية ،فيها قمر غارق بين
    النجوم ، بدت كمصابيح ، لكن الحافلة استطاعت أن تسرق متعة التأمل ،حيث غيرت وجهتها مع تعرجات الطريق ،كان يرغب بالسفر إلى العراق ،ولو ترتب على ذلك أن يصل في الليل ،والبحث عن الصبي ،ولو كانت الرحلة تشتمل على بعض المخاطر . وقع بصره على خيام الغجر، رأى الغجريات
    يرقصن تحت أضواء القمر ، و فجأة عرض التلفاز فيلما ، عن مجموعة من جيش الأمريكان ، تهاجم معسكرا في فيتنام ، قتلت قادته ، وقد  أسرت بعض الجنود ، و منهم  من تعاطف مع الأمريكان فقال لنفسه : ” هذه هي عادتهم ، قبل أن يبدأ الهجوم العسكري ، يبدأ الهجوم الإعلامي ،
    بمساعدة  العملاء ، و فجأة يقومون بتنفيذ ما خططوه  ، ترى علام يضع سائق الحافلة مثل هذا الفلم ،  وبهذا الظرف بالذات ” ؟ ! …
    جعله الفلم يسخر من نفسه و من السائق ، و شتم كل شيء … ثم عاد يفكر أين سيجد ” مهدي ” لعله يرتاد مقهى الهافانا ، اقتربت الحافلة من العاصمة ، و بادر بعض الركاب بالتأهب لمغادرتها ، نزل في محطة الركاب، فلم يذهب إلى الفندق ، أحب التجوال في شوارع دمشق ، جلس في
    مقهى الحجاز … بعد تناول القهوة ، ولج إلى أحد المطاعم ، تناول وجبة الفطور ، عاد إلى الفندق ، سأل عن ” مهدي ” بلغه أحد العراقين أنه سافر إلى العراق .
    قال :
    – سأسافر إلى بغداد ..
    أجابه العراقي :
    – لن تجده … لأنه اختار العيش في البوادي .
    – أمره غريب ، ماذا يفعل في البادية ، أتراه عاد إلى الرعي … أم باع كل ما لديه ، و أخذ أهله ليعيش معهم , كما عاش أجداده قبل دخول الإنكليز؟ …
    فكر في المغامرة :
    – ماذا لو بدأت الحرب و قتل الطفل ؟ و أكيد سوف تستخدم أمريكا بعض الأسلحة المحرمة دولياً ؟ وهل من الضروري أن يظهر أمام الجيش و الشرطة ؟.
    صمت هنيهة و سرّ لذاته : ” أكيد ستفتح الحدود أمام السوريين على الأقل ، و في هذه الحالة سيأتي أبو فادي ، وولده بدون أي جهد ، و ربما تعرف أم فادي و تستبق الأحداث أنها امرأة غير عادية ، سوف تتلاعب مع أبي فادي ، مثلها مثل الأمريكان في البداية ،لقد تلاعبت مع
    الزعماء العرب ، ثم بدأت بتنفيذ خططها  .
    ولج مقهى الحجاز ،سند ذقنه على مرفقيه ،غيبه النوم ، أشار إلى سيارة أجرة نقلته إلى المقبرة ، بحث عن قبر زوجته ، جلس قرب الشاهدة أخرج بقايا من قطع البخور ، أشعلها و وضع باقة من الورد . و راح يسألها :
    – علام رحلت ، أنت تدركين أنني لا أسقط بسهولة ، و إن سقطت فسيكون سقوطي على رأسي ، كي لا أقف مرة ثانية . أنت تدرين أنني سقطت عشرات المرات . و قال الناس :
    – قضى الأستاذ نحبه …
    لكنني مثل طائر ” الفينيق ” أسقط و أعود ، و لا أعلن التوبة ،  أنا أعرف لو أنني أعلنت التوبة مرة واحدة لنأت عني المصائب . و لكن المصاب يدوس على ذاكرتي لكي أنسى و ما نسيت ، حتى ابتعدت المسافات بين رجرجة الفجر ، و خيوط الشمس هي المسافة بين التباسات العشق و
    نور النهار .
    جاء حارس المقبرة ، كانت تربطاهما أواصر صداقة :
    – هل استيقظت ليلاك يا قيس ؟
    – لا لكنها تسمعني … تعال … ضع أذنيك على حافة القبر .
    – يا مجنون .. لم يعد مثل هذا الحب موجودا .
    – لا أبداً أنه موجود .
    – إن شاء الله أكون الأخير …
    – لا قدر الله أن يوجد أمثالك … أيها المعتوه .
    و اندفع حارس المقبرة بين القبور يكلم نفسه : ” الشيطان فقط يعرف كلامه ” .

    دفعت ماجدة  له جواز السفر ،وقدمت له كل المعلومات ،وصورتها مع علوان يوم الزفاف ،وصورتها وهي حامل ،وصورة  فادي على صدرها،كما زودته بمبلغ كبير :
    – المكافأة عندما تعود مع فادي .
    ودعها وسط الشارع ،ومضى وهي تشيعه حتى غيبه المنعطف ،وفجأة بدأت تستعيد ملامحه ،تمعن في التخيل ،تذكرت صابر قرينها .لكن بعد فوات الوقت ،ضربت على صدرها :” يا إلهي !..كيف أعميت بصيرتي “؟.
    سكن اللحن في خلايا دماغ ” صابر ” يردده سكون الليل ، وقفت الغجرية على ضفاف الفرات , و خيوط البوح تلملم أطرافها ، خلعت ثيابها ، جمعته بطريقة عشوائية قذفتها بعيداً ، و كان القمر يلون شعرها الأسود ، تأبطت ذراعه و قذفت الحذاء كلاعب كرة قدم ، و بدأت تتصاعد
    موسيقى جنائزية ، لا يعرف مؤلفها . كانت عروس النهر تقابلها و تتلوى فتتكسر صورتها مع التيار ، فجأة بدت أنثى من عهد الأمومة ، فاستيقظ على إيقاع صاخب ، فقال :
    – يا إلهي ! …. مرّ أسبوع ، و لم تطأ قدماي شوارع بغداد .
    سافر مع أحد السائقين ، على أساس أنه معاون له ،سأله في الطريق عن رجل يدعى أبو فادي يرافق طفلا :
    – لن أنسى فضلك .
    – سأدلك على موقف قوافل السيارات. المحملة بالبضائع، فأبو ” فادي ” يأتي المكان حين تخلو المنطقة من الدوريات… فتلتقي به بين الساعة الخامسة و السابعة صباحاً أشار السائق إلى طريق يتلوى بين كثبان الرمل ، قائلا :
    – هناك ضالتك .
    ترجل ” صابر ” من السيارة ، و هام على وجهه في البراري يبحث عن مأوى يأوي إليه حتى يطلع الفجر .كان مغمورا في تلك المغامرة ،فأخذ يسترجع تلك المقابلة التي رسخت في ذاكرته ،سأل ذاته ” حقا أنني أندفع من أجل المكافأة التي ستغير حياتي ،أم أن المرأة لها في أعماقي
    سيطرة ،هل خطر لي أن أنظر إلى وجهها نظرة رجل إلى امرأة جميلة ،أو أفكر بأموالها ،وهل كان علي أن انسحب في اللحظة التي حددت فيها الفواصل ،ماذا كانت تريد عندما قالت :
    – يا صابر لن أنسى ما تفعله لأجلي ،لهذا انس كل شيء المال وتوابعه ،أنس انك تقوم بهذه المغامرة ، لأجل المال ،هذا يجعل القلب أسودا ،يجعل الرجولة تتراجع ،اعتبر فادي ولدك ،آه لو كنت تعرفت عليك في  ذلك الزمن ،ولكن يبدو أننا لا نستطيع فعل شيء أمام الأقدار .
    غصت بالبكاء ،وارتمى رأسها على صدره ،ماذا كان يستطيع أن يفعل غير الذي فعله ؟.تأملها واصطنع ابتسامة ،لم يفكر بشيء غير أن يجفف دمعها بمنديل نظيف ،ولم يحاول أن يستغل ضعفها ولم يخطر بباله أن يقبلها بالرغم من صراخ حواسه( هاهي بين يديك حقلا للبذار ) .
    فلم يكن يدري أنه حقل من البور ،تمنى لو تحول إلى طائر ليصل منزله ،ويدخل إلى غرفته الوحيدة على السطوح ،ويجلس أمام طاولته ،ليكتب أي شيء ،أي كلام ،ربما تكون الكتابة جزء من التراجع الداخلي ،وربما تكون ترويحا عن النفس ،أو  تعويضا عن حالة ما ،أو نقص ما في الأنا
    التي راحت تتضخم في داخله .

    أطفئت الفوانيس ، وهجعت البراري إلا من عواء ذئاب ، ازدادت الجذوة اشتعالاً في داخله ، تذكر ماجدة حين ودعته ، رغم المال الطائل ، كان يخيم الحزن على كيانها . لم يدر كيف غيبه النوم بين خوف و طوفان من الخوف ،  رأى نفسه في صحراء شاسعة ، فجأة شق ” ديناصور ” كثبان
    الرمال . و راح ينفث اللهب . شعر بالنار تجتاح جسده حاول أن يولي الأدبار :
    – النجدة ، النجدة .
    فتح صابر عينيه كان الليل يفرد وشاحه على المكان ،فوجد نفسه داخل الأرض العراقية على مقربة من الحدود السورية التركية ،حث خطاه صوب الماء ،ناداه أحد البحارة :
    – أتريد أن تقطع إلى الجانب الآخر .
    – أجل …
    أطفأ المركب ضوء فانوسه ،وعبر النهر ،وحين انبلج الفجر ،كان قد توغل في الأراضي العراقية ،وراح ينتقل من مكان إلى آخر حتى وصل أطراف مدينة بغداد ،وراح يسأل عن موقف السيارات حسب المعطيات الواردة في المخطط .
    وقع بصره على سيارات شحن تأخذ رتلا طويلا ، فسر في نفسه : ” هذا ما أكده السائق ” .
    حث خطاه صوب السيارات ، شاهد عددا من السائقين يشكلون حلقة . و من بينهم أبي ” فادي ” يتناولون الفطور . استقبلوه مرحبين ، جلس بينهم و شاركهم الطعام ، و راح أبو فادي يعطي أوامره :
    – قم يا ولد .
    يقف الولد :
    مر …
    – احضر الماء ، وصب على يد عمك  .
    قال صابر :
    – دع الولد.. الخدمة ذاتية.
    وقعت العبارة على رأس أبي فادي كصاعقة ، جحظت عيناه ، رمى ” صابر ” بنظرة ذات معنى . ثم هرب بنظراته ، و أشعل لفافة التبغ .
    سأله أحد السائقين بعد الفطور :
    – ما حاجتك ؟ .
    – لا شيء . سوى الذهاب إلى الحدود السورية . و من لي غير الشباب الطيبين .
    – سافر بطريقة نظامية .
    – فقدت جواز سفري .
    ردّ السائق ذاته ،و نصب نفسه شخصية في المسرحية التي افتعلها ” صابر “:
    – إيه … يا أبا فادي، يا لك من محظوظ . جاء رفيق دون حساب .
    نظر أبو” فادي ” إلى ” صابر “:
    – إن وجدت طريقة لا تنسانا.
    وضحك ساخراً:
    – أنتم كثر ؟ .
    – لا .. أنا و ابني فادي .
    قال السائق الأول :
    -الأفضل أن تسلموا أنفسكم للشرطة .
    يقف أبو فادي :
    – سامحك الله ، أتعرف نتائج ذلك ؟ .
    ردّ صابر :
    – أنا أفكر بذلك .
    أبو فادي :
    – يعني …
    وأشار إلى عنقه .
    صرخ صابر :
    – معقول .
    سائق آخر :
    – ليس ملكنا هذه السيارات ، هي أمانة في أعناقنا ، من يضحي بالملايين ، من أجل الفارين ، الله يعلم ما جرمهم ؟ ..
    قدم أحد السائقين كأساً من الشاي :
    – تفضل يا أخ العرب .
    تناول صابر الكأس ، و راح يرتشف الماء الملون ، بصمت و هو ينظر إلى الولد الذي تكور تحت إبط أبيه ، فقال صابر : فصل جديد من المسرحية التي شارك فيها الجميع :
    –  الحل عندي إذا وافق الأخ .
    جعل صابر ” أبا فادي ” يتوسم خيراً ، و غمزه ، ووقف جميع السائقين بعيداً عن رتل السيارات ، جلس صابر وعينيه على الولد فقال :
    – نرحل مشياً على الأقدام .
    و نظر إلى أبي فادي :
    – ما رأيك ؟ .
    – كنت أنتظر رفيق الدرب .
    ابتسم صابر ، و أدرك أن أبا فادي وقع في التباس اللعبة :
    – فكرة منطقية  . و لكننا لا نعرف الطريق .
    قال أبو فادي : نسير بمحاذاة الطريق العام .
    – الدوريات كثيرة .
    – نسير بعيداً عن ” الاوتستراد ”  مسافة تحمينا من التعرض للدوريات … لنا الله يا أخي .
    – من أين نؤمن الطعام و الشراب ؟ .
    أبو فادي :
    – لو كان لدينا نقودا . لكان الأمر في غاية السهولة .
    – لدي نقوداً كثيرة ، هيا لنبتاع الزاد .
    – و لم لا …
    – خذ … سأترك ولدي معك … و سأحضر لوازم الطريق .
    – لا تتأخر .
    وجد ” صابر ” نفسه مرغماً على العيش مع رجل غبي متغطرس وولد ضعيف  … سلبته الغربة كل شيء ، و هو مضطر أن يعيش دون أمّ ، و دون معطيات الحرية ، و تبين أن أبا فادي غير أهل لأخذ المواقف ، و لم تأخذ أحاديثهم أهميتها إلا بعد ابتعادهم عن الطريق . و من شدة التعب ،
    عرجوا إلى كهف صغير بعيداً عن أعين الدوريات ، و المراقبين و المتطفلين .

    غمر المكان ضوء الشمس ، و ازدادت الجذوة اشتعالاً في داخل صابر ، فتعهد بإعداد الطعام ، و أخذ أبو ” فادي ” يفتش عن المذياع الصغير ، الذي أصبح صديقه في الحل و الترحال ، فقال :
    – هل تعلم كم عمر هذا المذياع ؟ ؟؟؟
    – لا ….
    – منذ جئت إلى العراق …
    – ما هي الجهة الصانعة ؟ .
    – بلد أجنبي … و هل لدينا صناعة ؟ .. اشتريته من حمص .
    صابر يسأل :
    – هل لك تنظيم سياسي ؟ .
    – الطريق طويل ..ستعرف كل شيء . ( الصديق قبل الطريق ) . يبدو أن الظروف وفرت لي الصديق ، و الطريق معاً .
    – أجمل ما فيك يا أبا فادي صدق مشاعرك .
    بخبث قال صابر ذلك ، و مد يده إلى رأس فادي ، ومسد شعره السبل ذو اللون الأسود ..
    أجاب أبو فادي :
    – لولا صدقي لما رأيتني هنا .. طول عمري أكره الكذب ، و لكنني وقعت في أكبر كذبة عرفها إنسان .
    – كيف ؟ .
    – عرض علي أحدهم ، أن ألتحق بدورة تدريبية ، بعد أن تركت فادي برعاية أحد العائلات ، و حين انتهت الدورة ، علمت أنهم سوف يرسلوني إلى سوريا ، تحت جنح الليل .
    – علام ؟ .
    – من أجل … قتل ابنة الحرام .
    – من تكون ؟ .
    دنا من أذن ” صابر ” ووشوشه ، كي لا يسمع فادي :
    – قتل ماجدة أمّ فادي .
    – هل نفذت الأمر ؟ .
    – لا .. رحلت إلى لبنان .
    و هزّ طرف ثوبه ببراءة ما ذكر .
    كان ” صابر ” يلتزم الصمت فسرّ في نفسه : ” ما زالت المدينة قريبة ،والمسافة غير كافية للمفاجأة ،( تسمح لأبي فادي ، اللجوء إليها مع فادي ) ، هذا ما جعل ” صابر يتريث … و في قرار نفسه كان يزداد فهماً لشخصية أبا فادي , و بقدر ما  اكتشف من حقيقة ، يكيل اللعنات
    .
    قال أبو فادي :
    – نعم …
    شرد بخياله بعيداً ، تذكر أنه كان يقرأ القرآن و يحفظ الأحاديث النبوية عن ظهر قلب على يد رجل مؤمن أحب الله و رسوله ، و إذا جاء الرجل إلى بيته ، يراه غير مخالف لتعليماته ، نفذ طلباته ، فطلب من أمّ فادي أن تلبس الحجاب ، فلم تنصاع ، و بعد جدل طلبت الطلاق .
    وحين صحا من  شروده :
    – هل سمعت أن امرأة تطلب الطلاق من زوجها . لذا قررت أن أحرق قلبها ، فأخذت الولد … أليس من حقي أن أحميه ، ماذا كانت ستعلمه سوى قلة الشرف .
    دفعته الأوقات السحرية من غسق الفجر ، إلى رؤية ما وراء الحقيقة ، فعثر عليه يعيش في دياجير مسكونة بالضلالات ، فأخذ على عاتقه أن ينبش الأزمنة السحيقة ، و الأعمال التي قام بها الإنسان ،وكلم نفسه: ” يجب أن أعريه من براثن تخمر أفكاره ،و إعادة بنائه، لكن اللبنات
    متفسخة لا يمكن إعادتها إلى جدارها الأول” ؟ .
    اهتز وميض نجمة الصبح ، و تحركت النسمات ، لترسم على جدار الذاكرة ، رونقاً بديعاً ، لا يدري كيف سقط نظره على نخلة تتدلى منها عناقيد البلح ، تفسح مجالاً لعبور حبال الشمس الناعسة ، يظهر خيال امرأة أمام ناظره ، تنزع ثيابها ، هرب بنظره إلى أبي” فادي ” الذي كان
    قد انتهى من إعداد الطعام ، و فجأة تعالى صوت المذيع :
    – أطلقت الصواريخ العراقية على إسرائيل .
    ما إن وقع الخبر على مسمع أبي فادي ، حتى انبرى يرقص في جوف الكهف ، و يهلل طرباً .
    قال صابر :
    – لا تفرح يا صاح .
    – علام ؟.
    – دائما” البدايات لها شأن عظيم .
    – الذي يبدو واضحاً الآن قد  يعتم غداً .
    – ما قصدك ؟ .. ألست عربياً ؟ ..
    – نعم وطنيا” ..
    – لم أفهم عليك ؟ . ..
    – كشف صاحبك كل الأسلحة التي من شأنها التصدي لهجمات إسرائيل .
    – كيف ؟ ..
    ابتسم :
    – ببساطة سوف تبني إسرائيل شبكة من صواريخ مضادة .
    هز رأسه :
    – أرجوك .. لا تقل أنك خدمت في الجيش ، و أنك أكثر فهماً من الذي يقف في رأس الهرم . لماذا تظن نفسك عالماً ؟ .. و لماذا … ؟
    – إذاً كلانا جاهلان ؟ .
    – لا … قد أكون أكثر منك معرفة ، علام تصادر رأي ؟ . تحلقوا حول المائدة ، في جو مشحون بالقلق و الخوف و الحذر ، فأخذ ” صابر ” فسر في نفسه : ” يا إلهي ! … من يكون هذا الرجل ” ..
    كان أبو فادي يرتجل نقاشاً لا فائدة منه يأكل و عيناه ترصدان ” صابر ” الذي بدا كعدو أمامه . فسأل نفسه :
    –      ” علام  لا ينطق البسملة على الطعام ، ولا يصلي أيضا”.
    صمت مليا :
    –  جعله خواء المعدة يصمت على حرقة.

    رسمت حبال الشمس على الرمال ، رسم امرأة تقرأ الطالع ، و على الطرف الآخر رسمت الرطوبة ظلالا لسرب من القطا ، يبحث عن مكان آمن ليخلد إلى النوم . فتذكر ” صابر ” مجنون ليلى حين طلب من القطاة أن تعيره جناحيها ، فهو بحاجة أجنحة تحمله إلى ” ماجدة ” . فقال :
    – هيا بنا …
    حمل حوائجه و من خلفه صاحبيه ، يمّم وجهه شطر الحدود السورية ، و من خلال نجمة المساء ، أدرك ” صابر ” وجهة السير الصحيحة ، كان يراقب تشعب الدروب الموحشة ، و بعد مسير بين خوف و اطمئنان ، ظهرت أجسام ذات ابر مشعثة دكناء ، أمسك فادي بطرف ثوب ” صابر ” خوفاَ من
    عواء الذئاب ، و انفرجت البادية عن أرض شاسعة  تربد بسكون  إلا من حركة طير هنا ، و عيون ثعالب هناك ، جعلتهم المواقف أكثر حذراً  و توثباً ، و ما زال أبو فادي يحدثهم عن بطولاته . بدءاً من صفوف المدرسة ، إلى أن دخل العراق ، بصفة مجاهد في سبيل الله …. فأدرك ”
    صابر ” أنه يتحدث من وحي الخيال ، متخذاَ الجانب الذي يراه محط اهتمام الآخرين . بغية السيطرة عليهم . لكنه وقع مع ” صابر ” فلم يستطع فهمه جيداً .
    فجأة ظهرت الأحجار على مرمى البصر ، يضيئها نور القمر ، فبدت كحيوانات مفترسة ، تتربص بفرائسها ، و من شدة الحذر ، تهيأ لهم أن أصداء خطاهم خطوات حيوانات مفترسة تقتفي إثرهم ، على أثر ذلك صمت أبو ” فادي ” و لم ينبس بحرف عن بطولة الخيالية ، سر ” صابر ” كثيرا لكن
    السرور لم يدم إلا دقائق ، و همسات الولد تتأتى لسمع صابر ، كأنها صادرة عن خطوات تتخفى وراء الآكام ، فازداد توثباً ، و سارعت عيناه تجوبان كل الاتجاهات ، و فجأة أدرك أن الهمسات صادرة عن الولد ” فادي ” يعلن خوفه ، فسأله :
    – ما بك ؟ ..
    – أبي …
    – ما به ؟ .
    – سقط خلفنا ….
    رسم النبأ في مخيلة صابر آلاف الصور و الاحتمالات عاد مسرعاً ، يسيطر عليه الهلع ، وجد أبا فادي مدداً على الأرض ، يبكي من ألمه ، محتضناً ساقه الأيمن ، فسأله :
    – ما أصابك ؟ ..
    يتلعثم :
    – قفزت فوقعت ساقي تحتي … ربما كسرت .
    حمله ” صابر ” على ظهره ، و انتحى مكاناً بعيداً عن الطريق خوفاً من عتمة تزجهم في كمائن التيه ، وجد صخرة كبيرة ترتكز على قاعدتها ، قمتها مندفعة إلى الأمام كجناح طائر النعام ، جلس القرفصاء بظل  الصخرة ، و بهدوء مدده على الرمل ، و راح يتلمس الساق ، عله يعرف
    هل كسرت ساق أبي ” فادي ” أم  مجرد تشجن , ثمة قافلة عسكرية تتقدم باتجاه بغداد ، أضواء الآليات تشق العتمة ، و خوفاً من حزم الضوء ، لاذوا بحفرة  ، كان يدرك إذا سقطوا بين أيادي الجيش سوف يتهموا باتهامات تودي بهم إلى الإعدام ، لكن القافلة مضت دون أن يراهم أحد
    .
    مضى على مسيرهم أسبوعاً ، فلم يتجاوزا سوى بضع كيلو مترات بعدد أصابع اليد ، هذه المسافة القصيرة بعثت في داخل صابر الهم ، ومن أين له أن يعرف ما يدور في داخل أبي فادي ، الذي يجر ساقه المكسورة مكابراً ، و لكن عبثاً فالمخبوء بضعف الجناحين ولا يفيد الطير عند
    مقاومة الريح . تجربة مخاض المسير عرت أبا “فادي ” كرجل ادعى من اللحظة الأولى ، القوة و الصبر ، ولما وصلوا مشارف منطقة الهيت ، سبقه ” صابر ” ومن خلفه ” فادي “، فصرخ أبو فادي صرخة ،رددت صداها الفيافي . وقف صابر هيئ له أن صاحب الصوت وقع بين براثن وحش مفترس ،
    فعاد مسرعاً ، ليستطلع الأمر ، كشف عن صديقه ، رأى ما لا يصدق ، منظر تقشعر له الأبدان ، غدت الساق تأخذ لونا أحمر يخالطه السواد ، من بداية القدم و حتى نهاية الركبة ، وقف صابر حائراً ، حدث نفسه : ” حالته صعبة ، فمن أين لي بطبيب في مكان لا تسكنه إلا بنات آوى و
    قشعم الطير ” ؟ …
    تمدد فادي بمحاذاة أبيه ، و راح صابر يفكر ، أ يكون القدر الذي لم يؤمن به يوماً ، قد فعل فعله ، و زجه في لعبة يعجز عن فعل أي شيء أمامها . و إذا امتثل لفاجعة وقعت مع رفيقه ، فكاد يصرخ صرخة أشد و أقسى من صرخة أبي فادي لكنه استطاع تمالك أعصابه مبدياً التجلد و
    الصبر ، و راح يبحث عن حل ، لكن الخيبة كالغول الفاتح شدقيه عندما أتت لحظات النهاية . ومضت أحلام بناها بالانكسارات ، جعلته يشعر بعجز ،لكنه بقي يسكن نفسه ، منتظراً هدوء عاصفة تكيلهم بوابل من حبات الرمل المتدفق ، لا يدري كيف لفتت هضبة أنظاره ، فحمل رفيقه ، و
    انصرف إلى الكهف ، علهم يقضوا الليل في جوفها ، خوفاً أن تجعلهم الرمال في بطنها ، ساعدته الريح فأسرع و من خلفه الولد ، اندفع إلى المغارة ، وضع أبا فادي جانباً ، و راح يتفقد إذا ما كانت خالية من الوحوش ، و بعد تدقيق رجل حصيف أدرك أنها عبارة عن صخرة عملاقة
    جاثمة على أرض فارغة ، و في جانبها انهيارات  ، فأدرك أنها أكثر أماناً من العراء . فأسرع و جاء بأبي ” فادي ” وولده . و قبعوا في أحد الزوايا .
    بدت حركاتهم بطيئة ، و تمضي الدقائق سريعة سوداء ، فأسرع ” صابر ” يعد القهوة على نار القش ، فالقهوة تنعش داخله ، كرجل أنهكه التعب ، واليأس و العذاب و الحيرة ، أخذت المواقف تمتص اندفاعه ، رغم ما في النفس من نزعات فاضت على سطح المعرفة ، متحدية إصراره ، و فجأة
    انتشرت رائحة الهيل مدعمة بروائح الشيح و البلان و سعف النخل ، صب الفنجان الأول قدمه لأبي فادي ، و تناول الآخر ، وهو يمج دخان لفافة التبغ التي لم تنطفئ جذوتها منذ أن دخل الكهف .
    كانت السماء  مائلة للاصفرار ، و راح يبحث عن قمر ضائع .

    بدت المغارة كحمام ، تصفر بين أرجائها الريح ، تعطر أنوفهم رائحة الشيح ، و رائحة مشبعة برطوبة الملح . ذكرته الرائحة بأيام الطفولة حين كان يحشر رأسه تحت إبط جدته ، و هي تقص عليه حكاية عن الضياع و مكرها ، و رائحتهم الكرهية أيقظه سؤال أبا  فادي :
    – ترى ماذا حل ببغداد ؟ ..
    – فكر في وجعك أولاً …
    – إذن افتح على نشرة الأخبار .
    تفقد أبو ” فادي ” جيوبه فلم يعثر على المذياع ؟ ..
    بحث صابر بين حوائجهم ، و بعد لأي قال :
    – لا بد ظل هناك … أكيد ستبلعه الرمال .
    قال أبو فادي :
    – كيف سقط ؟ ..
    – اللعنة …المذياع وحده يضعنا في حقيقة هذا العالم المجنون .
    تحركت مشاعر فادي ، واشتعلت شرارة في مخيلته دفعته لأن يظهر مهارته ، فانسل من بينهما ، و اندفع وسط صخب العاصفة ، و موسيقى الرمال الجنائزية ، التي لا يعرف مؤلفها ، و حين أدرك صابر أن الولد ولج العاصفة ، تبادر لذهنه أن العاصفة ، ستحمل الولد و تقذف به إلى
    المستنقعات المجاورة ،أو إلى النهر ، فتهيأ للمغامرة بنفسه في سبيل إنقاذ الولد ، و فجأة وقع بصره على كتلة تتقدم على قوائم أربعة ، ظنها في بداية الأمر ، من فصيلة الوحوش ، فاحترز للمجابهة ، عاد إلى هدوءه حين غابت عن ناظره ، وقف صابر يعيش الصراع مع ذاته ، و
    راح يقارن بمن سيضحي بالولد أم بالأب ، و راح يعيش جانبي الصراع ، صراع يدفعه إلى الجانب الإنساني ، و جانب يدفعه كيف سيقف أمام أم فادي التي تنتظر عودة ابنها ، ألم يؤكد لها أنه لن يعود إذا لم يكن معه ” فادي ” . لقد أفلح فادي و عثر على المذياع ، و قفل أدراجه
    يعاند الريح حاملاً المذياع بيده ، والفرحة تغمر قلبه ، دفعته الريح إلى فوهة الكهف ، اندفع صابر صوبه ، و راح يشجعه :
    – سيكون لك شأن .
    وقف الولد أمامهم سعيداً ،وكاد تأنيب والده يحطم معنوياته . لكن مغامرة الولد كانت بداية تأسيس ذاته ، كانت الرحلة تعني ” لصابر ” استراحة المقاتل ،الذي يعشق الحياة و الحرية ، و تعني لأبي فادي هروبه من ثوبه .
    حركات أبو فادي تلفت النظر ، فأدرك أنه يؤدي احتفالاً خاصاً ، وعند انتهاء وليمة الأخبار ،لم يتفوه بحرف ، و راحت الأسئلة تحرك ذاكرة ” صابر ” فجأة أخذ قراراً لا رجعة فيه ، فسر في ذاته : ” يجب التخلص من أبي فادي مع الحفاظ على الولد ” .
    انتبه صابر على شرود أبي فادي الذي كان يفكر أن يحافظ على نفسه بطريقة ما . فغدا الولد ” فادي ” رهن الحالتين ، يرفض وصية أبيه ، و لا يقبل مساعدة ” صابر ” كان مصراً أن يعتمد على نفسه ، لكن الأقدار لها دور في المواجهة معهم . وغدت الرحلة طرف في الصراع .

    جلست أمّ ” فادي ” قلقة ، فهي خبيرة بالرحيل … و أمور الرحالة ، لكنها لا تعرف ملابسات الرحلة ، لأنها لم تثق بكل ما خططته . بدا كل شيء أمامها ضبابياً ، لم تكن رؤية واضحة . حين تعلن الحرب ، تعلن أم ” فادي ” انكفاؤها في المنزل ، و تبحث عن محطات أكثر مهارة في
    الانخراط بالحياة السياسية و الإعلامية . و منذ الصباح الباكر ، تبتاع الصحف و المجلات ، تعود إلى البيت تقرأ ما بين السطور ، ثم تقرأ صفحة الأبراج ، فيرسم الخط صورة يومها ، وعلى أساسه تبدأ يومها برحلة متشائمة ، أو متفائلة .
    و ما إن تخلد إلى النوم ، حتى تبدأ رحلة الكوابيس و الأحلام الصادرة عن اللاشعور ، هكذا يمضي الليل ، و ما أن يطلع الفجر ، حتى تبدأ معه رحلة جديدة ، على تداعيات ما خطته قارئة أبراج الحظ .

    حاول صابر اكتشاف الحقيقة ، لعله يعيد اللحظات الحالمة ، دبت الروح بالصلصال ، وفرت الأحلام ، و تركته الظلمة يتذكر الهجران ، وراح يراقب قمر السماء ، ثم نظر إلى أبي فادي و سأله :
    – هل تستطيع السير … و لو كيلو متراً ؟ ..
    – و ماذا بعد …. هل نسيت أن البوكمال تبعد أربعمائة كيلو متراً .
    و راح صابر يبحث عن فكرة تصل به إلى حل . و يبقى على هذه الحال حتى بدت الكواكب الفضية تتدحرج في عليائها ترسل إشعاعات لاهبة ، شعر كأنها استهلالات لقصيدة تأتيه مع الفجر ، تذكره بزوجه ، وهما يعودان في آخر الليل محملا بآمال يظن أنه سيعلن التوبة أمام قمر اكتملت
    دائرته ، تذكر اتفاقه مع أم فادي فقال لنفسه : ” و كيف لا .. و اسمها ملأ الآفاق على صناديق البضائع التي وصلت إلى ما وراء البحار ، لتعود إليها بالملايين ” .
    كان يرثي لحال أبي ” فادي ” و يلعنه في قرارة نفسه ، تساءل عما أوصله إلى هذا الحال ، فأدرك أن أبا فادي كان ضحية ، فسرّ لنفسه : ” و أنا و فادي و من لف لفنا ، ليس إلا بيادق في لعبة غير دقيقة للاعب ، أخذ يضحي بهم دون هدف ” .
    تنهد ” صابر ” بألم ، ونظر إلى قمر ابتعد في رحلته ، و هدأت الريح ، و ما زال يبحث عن مكامن ضعفه ، وشيئاً فشيئاً ، ينحدر مع نفسه إلى درك سحيق ، وصف نفسه بالجبان و الدونية ، و تمنى لو أنه يمتلك الشجاعة ليبوح عما يختلج في داخله ، لكنه عندما ينظر إلى أبي ” فادي
    ” يجده قد ارتقى أعلى درجات الدونية ، فأخذ يلعن عقله و قلبه ، و فجأة انتفض في مكانه ، ونظر إلى كثبان الرمال و هي تستحم بضوء القمر ، خرج إلى باب الكهف ، بسط  يداه و شدهما كطائر يتهيأ للطيران ، ثم عاد إلى جوف الكهف ، ونظر إلى الصبي الذي أسلم جفنيه للنوم ،
    كان وجهه مكلل بالطهر ، كأي طفل محروم ، تظهر عليه آثار طفولة محرومة ، أنهك جسده التفكير ، فتوسد الأرض و غط بالنوم .
    فاستيقظ مذعوراً على هذيان أبي ” فادي ” الذي أخذ يتكلم في نومه ، كأنه يعيش تداعيات أيام الماضي مع أم ” فادي ” فخيل لصابر ، عندما ترجم العبارات أنه يقف أمام فيلم يروي قصة عشق بطلته أم فادي . و هي ترتدي ثوباً فاضحاً عن صدر بارز يحوي قمتين .فقال كل هذا لصابر
    النائم ،أجابه :
    – يبدو الفكر الغيبي غيبك يا صاح .

    فجأة ارتجت الأرض ، أحس صابر أنه اقتلع من مكانه ، و امتلأت المغارة غباراً ، فأسرع إلى انتشال أبي فادي . وأسرع إلى فوهة المغارة ، رأى بريقاً من شهب تنطلق من الأرض ، ثم تتلاشى في الفراغ ، و ثمة تفجيرات تدوي متلاحقة ، تأكد أن المعركة تدور رحاها ، و ثمة مضادات
    تتصدى للطيران ، هذه الأحداث ، دفعته إلى إخلاء المكان ، كان يترتب عليه أن يحمل أبا فادي ، و أشار إلى الصبي أن يحمل الأغراض ، و ابتعدوا عن المنطقة قدر المستطاع ، لا مصلحة لهم أن يبقوا في مكان موبوء .
    سكنت التساؤلات في داخله أمام صخب المكان ، لكن الصخب قد انتشر مبدداً الحركات ، فافترش الرمال ، قائلاً :
    – ليحدث ما يحدث .
    جلس الولد يبكي بصمت .
    فسأل أبو فادي الذي نزل عن كتف صابر لتوه ، غير آبه بما يجري :
    – هل بدأت الحرب ؟ .
    – نعم .
    – إذن سنموت هنا و لن يقبرنا أحد .
    – لا … عليك القذيفة تدفنك في أعماق الأرض .
    اجتاح الخوف كيان أبا فادي ، فقد كان بحاجة إلى طبيب يعالجه ، أو قل ليقطع ساقه ، لكن من أين سيأتي الطبيب ، الجبال و الوديان ، أعلنت عن سرائرها ، و الكهوف أيضا . أعلنت البراءة ، فهل يطلب من ولده الرحمة ، لأنه بلغ الحلم ، أم يطلب المغفرة من صابر الذي بلغ حد
    اليأس ، فهل يواسيه ، أم يبكي معه .
    أدار كل من أبي فادي و صابر ظهريهما ، وهما في بكاء مرير ، و ارتحل كل منهما إلى أعماقه في تداعيات لا حصر لها …. يحاول كل منهما ، إحضارها من غياهب الماضي .
    كان الصبي جالساً في وسطيهما ، ينظر إلى أبيه الذي تبلل وجهه بالدموع ، ثم ينظر إلى صابر ، يراه يطوق صدغيه بكفيه . سأل الصبي :
    – هل النجاة في بقائنا هنا ؟ …
    صحح صابر جلسته ، تغزوه أفكار عديدة ، تذكر حين كان يؤكد لأعضاء الحزب أن يرفدوا الكوادر بدماء جديدة . هؤلاء ولدوا لمجابهة المصائب . فأجاب على سؤال الصبي :
    – هل تستطيع حمل أبيك أربعمائة كيلو متراً ؟ …
    – لا …. مستحيل .
    رد أبو فادي :
    – دعوني هنا .
    سأله صابر :
    – علام ؟ …
    – ليس من الفضيلة أن تموتا من أجلي ، و أنا لا أستطيع أن أفعل لأحكم شيئاً .
    صرخ صابر :
    – لا … نموت معا ، أو نعيش .
    رد أبو فادي :
    – ما أمرنا الله بذلك .
    – و لم يأمرنا بقتلك .
    – إذاً نعود إلى الكهف .
    و صمت أبو فادي ، و ثمة نسمات راحت تندفع شيئاً فشيئاً ، تحمل بين طياتها حبات الرمال . فأخذ حفنة من التراب و قذفها في الهواء .

    أسرع صابر و من خلفه الصبي إلى الكهف ، و أخذا يوسعان مكاناً للنوم ، و عاد صابر ليحضر أبي فادي و لم يمض إلا  قليلاً من الوقت ، حتى شعروا بالراحة ، و جلسوا يراقبون الأتربة التي تملأ المكان بفعل الريح ، لتنتهي هناك في الوهاد ، حيث المستنقعات و نباتها من قصب و
    بردي و غيرها .
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    استسلم الصبي للنوم ، و تمدد والده قربه ، و حمل ساقه ليستطيع النوم على جانبه الأيمن ، و ظل صابر مستيقظاً يفكر بطريقة تنقذهم من حالة يرثى لها ، و خاف أن يسرقه سلطان النوم ، فتباغتهم الوحوش على حين غرة ، لذلك خرج إلى الأرض ليجمع الحطب ، فوق سطح الكهف تتراكم
    جذوع أشجار قديمة يابسة ، قلعها بيديه ، و ألقى بها أمام باب المغارة ، و لما جمع كفايته ، هبط إلى فوهة الكهف ، وقع بصره على أثر روث حيوانات ، جعله الأثر ، يستطلع المكان عله يعثر على خيام للبدو ، لكن الليل منعه أن يحظى بضالته ، أوقد النار في أكثر من مكان بين
    أرجاء الكهف ، و راح ينتظر جمراتها ، التي بدت تلمع في الظلام .
    سكنت التساؤلات في داخله ، وفسح مجالاً للرغبات بالانطلاق ، تسري مثل ماء في أرض عطشى ، فالشيء لا يظهر إلا  بضده ، حضر طيف امرأة في ذاكرته ، بتفاصيل مغرية ، فاتحة صدرها لتتعرض للقاء ، هذه اللحظات تضخم الأعصاب و تصعد النار إلى صلب الإنسان ، تبدو النار صاعدة
    من القلب ، وتهبط من الرأس ، فيهتز البنيان إثر اندفاعات تبعث في داخله آلاف الصور ، أبعدته المرحلة عنها .
    تطاولت ألسنة اللهب ، في مغارة موحشة ، كيف سيتصرف صابر مربي الأجيال و رجل القانون الذي لم ينحن إلا لطفل ، أو كتاب ، فضحك لتبديد الرغبات بهجوم مضاد من سكينة ،اتخذها  طريقة لطرد الوساوس ، و دفع حيوان الجسد إلى إيقاظ فادي بغية الرحيل … فسأل نفسه : ” من يكون
    أبا فادي … ألم يختر طريقة بنفسه ” ؟ …
    وقف كالرمح و سأل نفسه ذات السؤال : ” من أكون أنا ” .
    فوجد أن مجيء أبو فادي بغية الحصول على المال ، بدون شك هو ليس بأفضل منه ، ألم يأت هو لذات الغاية .
    تساؤلات ، راحت تسهل طرقات وعرة في نفسه ، فلم يدر كيف ركع أمام قمر أضاء بدائرته الفضية كثعبان الرمال ، فأقسم أن يكون مخلصاً لنفسه ، و لهذا الطفل الذي سيعود إلى أمه و ينعم معها بالحياة ، و أن يكون مخلصاً لأبي فادي حتى اللحظة الأخيرة التي تفصله عنه باعتبارها
    حتمية لكل صراع تتأرجح ، وقع بصره على بشر قادم نحوهم ،فأحس بأن الفرج اقترب ،عاد ليوقظ الصبي و أباه .
    انطلق صابر صوب النار ، وجد نفسه يقف أمام خيام البدو ، تبعثرت ماشيتهم في كل اتجاه ، خبت الجمال باتجاه الشرق ، تركض ثلة من الشبان وراءها ، و أحد الرجال تقنع بكوفية حمراء ، يعتلي صهوة جواده0 عله يسبق النوق ، ليردها إلى المضارب  ، و اندفعت الأغنام نحو الهضبة
    تشكل قطيعاً متلاحماً ، و ثمة نساء يركضن ترافقهن الكلاب ، تنبح على القطيع و تجمعه ، فاندفع صابر لمساعدتهم ، يفكر :
    – ننادي بالتلاحم دون أن ندرك أن التلاحم غايته تجمع القطعان بسبب الخوف ، الأكياس القوية تلجأ إلى الوسط و المواشي الضعاف يتلقون الصدمات القوية ، لأن الذئاب تمزقهم أولاً . نجح الشبان و الفارس في إعادة النوق إلى المضارب بعد لأي ، و تفقدوا عددها ، و إذا كان
    هناك بعض الإصابات ، اقترب الفارس الملثم متسائلا :
    – من أنت ؟ .
    – عابر سبيل .
    تقدم صابر باتجاه ملثم ، يتمنطق بسلاح حربي رمى السلام ، التحية نوع من المعاهدة الشفوية ، وضعت أسسها الأعراف ، و تعاملت بها الشعوب ، عبر التاريخ ، رد الفارس على السلام ، و ترجل عن صهوة جواده :
    – سألتك من أنت و لم تجب .
    – أنا في المغارة من ليلة أمس .
    – هربتم من الحرب .
    – لا … نحن من سوريا .
    شرح صابر سبب وجودهم ، و ما آلوا إليه من وحشة المكان .. قذف الفارس سلاحه و كشف وجهه ، و اندفع يصافح صابر بسرعة ، وضع صابر صديقه في حقيقة الأمر . فأمر الشبان أن يحضروا أبا فادي حملاً على الأكتاف ، و ما زالت يد الفارس تشد بحزم على يد صابر .
    كان يدرك أن البناء حامل و محمول ، إلا الخيام هي محمولة غير حاملة ، تهب الريح و تسكن سكون الأفق لحظات هدوء قائظ ، تصنع النسمة الجذلة فتوقظ في النفوس العطاء و الشعرية ، و تبدو الخيمة كالأفق الملتاع بشفافية الضباب المتساقط من سماء تغلفها مزنة مضيئة ، فقال
    صابر لنفسه : ” المشيمة تعيش مع الوليد حتى الولادة تنفصل عنه إلى العدم ” .
    إذا خفقت الخيام في مكان ملئت   بحكايات سكانها تنتقل معهم في ترحالهم ، و تخلق في الأذهان طرائق و قواعد ، و أعراف ، تتحول إلى تراث ، الابتعاد عنه مذلة ، و التمسك به تكريسا  للقيم حتى تنشأ قواعد و حكايات جديدة .
    حين جاء الرجال بأبي فادي وولده اندفع البدوي يساعده على الجلوس في صدارة الخيمة ، أما صاحبة البيت ، فقد احتضنت الصبي ، و أخذته يحنو الأمومة إلى الخيمة المجاورة .
    رحب البدوي بالضيوف ، قدم لهم الماء و اللبن و حين انتهوا من الشراب ، تقدم من أبي فادي يتفحص ساقه :
    – سنحضر الطبيب .
    قال صابر :
    – حدثتك بصدق ، لا نريد أن يكون الطبيب مطباً لنا .
    قرأ الرجل قلقه ثم أجاب :
    –  أنت ضيف مهدي أبو فايد .. هل نسيت الهافانا ؟ ..
    – أ و  ه … أنت ؟ ! . ..
    – نعم آني .
    ردّ أبو فايد بطريقة بدوية … و تذكر صابر قول مهدي :
    – ( ماكو   وطن ) .
    فاندفعا يتعانقان من جديد ، تعجب أبو فادي من وقع المصادفة ، و راح يرقبهما و هما يكفكفان الدمع ، و حين جلسا . نادى ” مهدي ” ، على أمّ ” فايد ” تضع يدها على كتف ” فادي ” الذي خرج لتوه من حمام صغير خلف الخيم ، و أشرفت أمّ ” فايد ” بنفسها عليه و صبت الماء
    الفاتر على جسده ، فبدا وجهه جميلاً كالقمر ، فأومأ له ” مهدي ” . عرف قصيدة ، فجلس في صدر المضافة متكئاً على مرفقه ، كمن يعلم مقامه كغريب ( الوافد من بعيد غريب ، و القاطنين بالنسبة للوافد غرباء ) كان ” فادي ” منزوياًّ كهر صغير يراقب كل شيء بحيادية من يريد
    أن يتعلم من تجربة الحياة بشقيها الحلو و المر . يوصوص بعينيه الجوالتين الباحثتين عن كل شيء بخوف وحذر .
    اعتذر ” مهدي ” لبعض الوقت :
    – أنتم أصحاب البيت .
    ظن صابر أنه هرب من دموعه ، في الوقت الذي بقي فيه صابر يجفف دموعه بطرف المنديل .
    أسرع ” مهدي ” اعتلى صهوة جواده ، ولكزه برجله فأخذ يشق عباب الصحراء ، و تولت صبية في عقدها الثاني و شاب لم يبلغ الحلم ، و اجب الضيافة ، و أوقدت أم فايد النار ، وضعت القدور فوق النار ، لم يدم طويلاً من الوقت حتى عبقت رائحة اللحم المسلوق ، و ما زالت الصبية
    تقدم القهوة المرة مع حبات التمر .
    أدرك صابر أنها مقدمة لوجبة دسمة . فبدت الحياة كتاباً مغلقاً مليئاً بأسرار مخبوءة ، و عندما يفتحه المرء و يكشف رموزه لم يعد سراً .
    دخلت أمْ  فايد رمت التحية :
    – الله بالخير ..
    تقدمت من الضيوف سلمت عليهم باليد ، وحين وصلت إلى أبي فادي حاول الوقوف ، لكنها أقسمت :
    – بالله عليك خليك جالس .
    الإحساس بالعجز أمام المرأة ، رآه صابر في عيني صاحبه ، و قرأ في وجهها الحذر و التوجس ، حين نظرت إلى وجه صابر سألت نفسها : ” من يكون هذا الشخص الذي أبكى زوجها ” ؟ …
    تشابكت العيون فأحست بدفء عينيه ، و أحس صابر برعشة اختطاف الومض حيث للأمل ، في ميزان النفوس ثقل معادن فولاذية، فما من حد لتماثل النشوة المغلفة باكتشاف الوفاء . تتلاشى في مثل هذه اللحظة ، تظهر الغربة في كينونتها و تحفر حروفها في لوح الذاكرة ، تتفجر في لحظة
    تداخل عناصرها ، فتتوحد بالانصهار لتتحول إلى أفعال للحماية الأبية .
    قدمت أمّ فايد الطعام مع آيات الترحيب الصادرة عن جميع أهل البيت ، و خصوصاً أمّ فايد :
    – يا هلا بك يا صابر … و الله شرفت البيت …
    نظر إليها و أشار بطرف عينه فهمت ما رمى إليه ، فاتجهت إلى أبي فادي :
    – يا هلا … و الله جبرت على نفسك يا خوي .
    أشارت إلى فادي أن يتبعها إلى خيام أخرى … و قالت بفرح :
    – ها … وصل أبو فايد .
    ترجل أبو فايد عن جواده و من خلفه رجل يعتلي صهوة الذلول ، أمر الدول أن يبرك بطريقته ..
    دخل رجل في عقده الخامس ، يحمل حقيبة تحوي أدوات طبيب جراح ، تقدم من أبي فادي تفحص ساقه ، فأجل كلامه إلى انتهاء وجبة الطعام .
    سأل أبو فادي الطبيب :
    – ما قولك يا أخي ؟ .
    و أشار إلى ساقه .
    رد الطبيب :
    – بعد الطعام .
    أدرك صابر قصد الطبيب ، الحديث يطول و زمن الطعام قصير فقال :
    – لا تستعجل .
    تكلم الطبيب بدقة ، صمت أبو فادي و لم يقل شيئاً ، لكن عينيه أخذت تأكلان السجادة ،ويرحل بهما بعيداً ، حتى يحسب المرء  أن  سوادهما يذوبا في النقوش ، ثم اتجه إلى الطبيب ، وبشجاعة مغلفة بالمزاح :
    – أعرف أن ساقي خشبة تالفة! ..
    – لا عليك … أنت بحاجة لغذاء و راحة .
    بدت أوداج أبا فادي منفوخة ، بعيدة عن قول الطبيب ، حاضرة في ميسم المفاجأة … يدرك أن الطبيب وحده ، يكتشف الخوف الذي يسيطر على مريضه ، فأخذ يتصنع الابتسامة  ، في مثل هذه الأوقات تتباين الأحاسيس ، و ثمة يقيناً يلملم الإيقاعات المجهولة ليوضح مصير كل فرد .
    خرج الطبيب و دعا الجميع ، مبعداً الالتباسات التي من شأنها إثارة التساؤلات ، فلم تعد تعنيه التقاليد ، ففي مثل هذه الحالة تتشابه عنده المواقف ، يحس بأنها تنطلق منه و إليه ، هكذا تبدأ خيوط شبكة من الأعراف لا حدود لها . فقال لنفسه : ” يجب الدخول في صميم
    المشكلة ” .
    يدرك أن الشيء المنصهر في عقله ، لا يمكن التعبير عنه بالكلام ، أو الإشارات فسر في نفسه :” ربما السبب طبعه العملي ” .
    حياة الإنسان غاية ليس فيها شيء من المقدمات .. المقدمات مسألة صورية ، إنها تعبير عن أحكام  وجدانية ، لكن الممارسة فعل في اللحظة . فقال :
    – أنت تحتاج إلى طبيب . و إذا دخلت المشفى سيقطعون ساقك .
    رد أبو فادي :
    – هذا مستحيل ! …
    خفقت الخيام بالريح …. الإبل هادئة ترعى الأشواك و تجتر ، لا يعنيها الأمر ، تندفع خبباً إلى المستنقعات ، تظل ترعى حتى المساء ، فإذا استخدموها لعمل ما … رحلت بترادف وراء حمار أبله ، و إذا هاج أحد الجمال ، يذبح و يقدم على الموائد وجبات شهية ، و هناك تجتر
    الأغنام ، و تعطي الألبان دون إرادة وحده الحمار سعيداً ، لأنه يبقى في مقدمة القطيع ، فجأة جلجل رعد ، قطع الصمت و التداعيات ، انكشفت أمام العيون أسراباً من طائرات أمريكا و أصدقاءها تشق الفضاء ، تقابلها شهباً ترسم خيوطاً وهمية ، فقال صابر في نفسه : ” كل
    الدروب تؤدي إلى الطرق ، إلا طريق المجرة ، لا يؤدي إلا إلى السقوط ” .
    كان صابر ينظر أمامه تارة ، و إلى السماء تارة ، و حين عاد سرب الطيران على ارتفاع منخفض ناقة واحدة مدت عنقها .

    استلقى على الفراش منهاراً ، حاول أن يتخلص من القلق ، وقع بصره على عينين تحدقان به كجهاز إسقاط تحركت عروة الخيمة شدها بقوة ، دخلا حزم الشمس لتمحو ما هيئ له ، سمع نقرات خفيفة ، فأدرك أن الأمر ، ليس مجرد حلم ، حاول اكتشاف الحقيقة ، لم يقع على شيء ، كان يدرك
    أن الخيال حقيقة ، انبرى إلى الفسحة ، رأى الأطفال فرحين ، باستثناء فادي . يقف و يراقب بحذر ، جلس صابر يضيء الرواق يدخن دنا منه فايد متسائلاً :
    – حقاً ستدخل سورية التحالف ضد العراق ؟ …
    رد صابر :
    – تحاربون إخوانكم ؟ …
    – سياسة تأتي نتاجها فيما بعد .
    مسد أبو فادي لحيته :
    – السياسة ( أن تقاتل أخوك في الدين ).
    أجاب أبو فايد :
    – لا … معاوية قاتل علياً ، و يزيد قتل الحسين . و احتلت تركيا الوطن العربي .
    أبو فادي :
    – مجرد فتوحات .
    ضحك صابر … فصرخ أبو فادي :
    – لم يعجبك حديثي …
    – نعم ، حديثك عن الساسة مثل لعب الميسر ، إذا وقعت ورقة البنت الثالثة أمام اللاعب  ، يسعى لامتلاك الرابعة .
    أبو فادي :
    – لعب الميسر شطارة و قليلا من الحظ .
    أجابه صابر :
    – لا … لعب الميسر انحراف في الأخلاق . أما السياسة فهي علم .
    أبو فايد :
    – نعم ، وبرأي السياسة امتلاك مصالح .
    مسد أبو فادي لحيته :
    – ما مصلحة سوريا ، إذا دخلت التحالف ؟ .
    صابر :
    – لتبعد الحرب عن أرضها .
    انبرت ابنة أبو فايد :
    – استقراء القادم … يعني المستقبل ، علم يسعى لإيجاد الممكن و الأقوى . و يجب أن لا ننسى أن السياسة فن الممكن .
    صابر :
    – غدت أمريكا قوية بعد سقوط السوفييت ،لهذا إبعاد الحرب أفضل من الغطرسة .
    انسحبت ابنة أبو فايد و قال صابر بهدوء و تعقل :
    – تضرب أمريكا البنى التحتية ، دون تواجد على الأرض . تهيئ الظروف لمعركة نهائية .
    صمت قليلا :
    – المهم ساق أبا فادي … دعونا من تقييم سلوك أمريكا …
    قال أبو فادي ببرودة أعصاب :
    – أنا موافق على بتر ساقي .
    أسرع الطبيب و تناول أدواته الجراحية .

    ___________________________الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

  • من – رواية ” الاحتجاج ” ج5  – بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    من – رواية ” الاحتجاج ” ج5 – بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

    حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
    نبيه اسكندر الحس
    الاحتجاج
    رواية
    ( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
    وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )
    13

    عاد ” صابر ” إلى البيت خوفا أن يصاب بأذى المطر ،دخل على زوجه ،وجدها طريحة الفراش تعاني من مرض مفاجئ ،ومازالت في ريعان الشباب ، كان يحبها كثيرا ،قبل أن يسعفها إلى المشفى سألته :
    – كيف حصلت على المال ؟.
    – أرجوك …أنت بحاجة للراحة …
    – ولكن …
    – لا تشغلين بالك .
    تعرف أنه لم يملك شيئا من المال ،يومذاك جمع من رفاق العمل بعض المال ،كجمعية يأخذها كل واحد  حسب ترتيبه بالقرعة ،أيعقل أن يعترف لها بالحقيقة ،تمنع الكرامة أن يبوح الرجل لزوجه بكل شيء.وخصوصا في وأوقات المرض .
    اسند رأسها على كتفه ،وطوقها بذراعيه ،وهما في جوف سيارة الإسعاف ،ما إن وصلت السيارة إلى المشفى ،حتى أسرعت الممرضة ونقلتها إلى غرفة الإنعاش ،وقف صابر ينتظر على أحر من الجمر ،فجأة خرجت الممرضة ،تسأل :
    – من صابر ؟.
    – نعم .
    – زوجتك في حالة مخاض ،وعليك مقابلة المدير .
    ولج غرفة المدير ،لم يكن يدري أن المدير يخفي شيئا ،وراء بشاشة وجهه فقال :
    – الأمر بسيط …نريد موافقتك على إجراء العمل الجراحي .
    وقع بصره على عبارة احتشاء في عضلة القلب ،لم يدر من هو المقصود، الجنين أم الأمّ ،وجد نفسه محاطا بكل أتون الخيارات ،كتب اسمه على الأوراق ووقع عليها ،على مبدأ الطبيب يعرف واجبه ،وقبل أن يغادر الغرفة طلب المدير:
    – أجرة العمل الجراحي مبلغ كذا …
    – أليس المبلغ كبيرا ؟.
    – خذها إلى مشفى عام .

    أختزل طلب الطبيب مساحة عمر تجمعه ورقة فضفاضة ، تلقى في سلة مهملات ،دفع كل ما بحوزته من مال ، ولم يبق لديه إلا بضع قطع معدنية لا تفي بشيء ،وعليه أن يتدبر أمره على جنح السرعة ،خرج من غرفة المدير.كانت الممرضات يركضن في البهو ،ألقى نظرة سريعة على غرفة
    العمليات ،تخيل أشباحا في داخلها ،لمح أمامه جسد ممدد ،لم يدرك أنه جسد زوجه ،فغض الطرف عن ساق عار ، انبرى إلى الشارع ،يبحث عن مكتب عقاري ،حس بفرح حين وجد ضالته ،فلم يساوم على السعر ،رهن بيته مقابل مبلغا لا يتعدى ثمن أرض زراعية غير معدة للبناء ،عاد أدراجه
    إلى المشفى ،دفع المبلغ للمدير ،وفجأة وجد نفسه يغوص بالفاجعة .
    كان الطبيب يرصد حركاته وموجات الكآبة ،وبدت عروقه بارزة  تلتف حول جبينه العالي ،بدت كخرائط بلدان يضمر الأعداء على تقسيمها ،وقد سموها الشرق الأوسط الجديد دنا الطبيب منه :
    – هون عليك …الموت قانون الحياة ،وليس إلا حالة تعيدنا إلى السكينة والإيمان بالله .
    – هل نعتبر فساد الأخلاق إيمان .؟..
    تركه الطبيب وأغلق باب غرفته ،تجمع الناس وعمال المشفى على صراخه واحتجاجه .قال أحدهم :
    – جنّ الرجل !….
    اخترقت كلماته جدران الزمن ،اندفعت كشلالات ،تحرك الأشياء الهاجعة ،وترصد دوائر مكتب المدير ،الذي يرغب بامتصاص كل شيء ،قبل بروزه للعيان ،ليحوله إلى أطياف ماضية في أتون ،تحوله الأصابع إلى ذكرى .
    فجأة خرج شرطيان من مكتب المدير ،وضعا الجامعة بيد ” صابر ” دفعاه بقوة إلى جوف السيارة ،فأحس أنه خرج من داخل إسفنجه ماصة للكلمات ، وثمة تساؤلات في عيني الشرطي ، لم يعرفها ” صابر ” طيلة عمره .

    بدأ رحلته مع نفسه بشفافية ليل رطب و ريح ندية، تعرت الطفولة ،و تجردت الروح عن الثوابت ، خرج من سجن المخفر، بعد ساعات حيث أحضرت الشرطة سيارة الإسعاف و نقلت الزوجة إلى مثواها الأخير .
    مشى مع الجمع وراء الجنازة و من أمامهم الشيخ الذي سمعه يكفر لكنه صمت حتى نهاية التلاوة فتقدم صابر لينقده أجرته سحب يده حوقل و عوذل و قال :
    – أيها المارقون .
    نظر إلى عيني صابر ، رأى بحارا و أمواجا ، و ثمة طيور ستهاجمه و تغرس مخالبها في وجهه و عينيه ، فبرقت في نفسه لوثة الخوف ، فأخذ المبلغ دسه في جيبه و طلب للمرحومة متسعا من الجنة .
    بعد حديث و حوار بين الناس ، قال صابر :
    – نعطيه مالنا و يتكبر علينا .
    ضحك ضحكة حزينة ، فاستاء بعضهم من حديثه و انسحبوا واحد تلو الآخر ، و هناك قرب الحديقة تجمعوا بغية قسطا من الراحة ،و راحت ألسنتهم تسوط صابر و تقطعه إرباً .
    لكن أحد الأصدقاء أدرك ما يجتاحه من حزن و ألم ، جلس بجانبه و بكل محبة  :
    – اسمع يا صاحبي أنت لست الناصري ..
    – لكن …
    ضحك :
    – لا تستطيع أن تصلح العالم و لو أنك تدفع من دمك ثمن ذلك .
    – هذه ليست مشكلة .
    – أرجو … أن تحافظ على هدوئك .. و انتبه لنفسك و إلا خسرناك .
    دس مبلغا في جيب صابر . اغرورقت عيناه بالدموع وحصلت مشاجرة بين النفس اللوامة و بين النفس المتمردة في داخله ، فاعتذر من صديقه و تركه ينصرف إلى شأنه ،و انزوى وحيدا غريبا بائسا في عقله زخم الأفكار و آلاف الأسئلة  ، تتسلق أفكاره سقف الغرفة ، حيث بدا الوقت قطار
    يصفر دون توقف ،إلا في المحطة فآن له الالتحاق به ، كان صفيره يعلن الوصول إلى محطة سيبدأ منها الرحيل ، و كانت اللفافة تحترق بين إصبعيه  .
    تحركت المشاعر كتيار جاري ،اشتعلت شرارة في مخيلته لتستطلع حالة التأهب للأهوال في ليلة زفافه ، ازدحم المنزل بالناس وضجيج  الموسيقا يلف  أرجاء المنزل فلم يمض شهر العسل حتى أضحى فارغ اليدين وتعالت السحب الداكنة تزحف إلى القبة الفيروزية تعلن أن الشتاء على قاب
    قوسين لذا يترتب عليه أن يحضر نفسه لشتاء عاصف فكر أن يبتاع مدفأة و كمية من المازوت و مؤنه، فهو بحاجة أشياء كثيرة و لا باليد حيلة و بعد تفكير طويل قفزت فكرة إلى ذهنه فقصد جاره صاحب المنزل القريب من بيته
    ليقترض مبلغا  يفي حاجته حتى نهاية الشهر و بعد جدل مع ذاته حشد كل قوته و قرع  الباب استقبله الجار مرحبا  و انفرجت شفتاه عن أسنان مطوقة برقائق ذهبية فتذكر أحدهم حين قال بكبرياء :
    – أعمل عند متعهد و أكسب مالا  كثيرا.
    – ما عملك ؟ .
    – فقط أقوم بجمع عظام الموتى من المدفن ، و قبل ترحيلها إلى مكان آخر أتفقد أسنان الموتى و أصابعهم و لن أنسى الأضراس أيضا ، فكلما وقع بصري على خاتم أو سن ذهبي أقلعه و أحتفظ به .
    جعلته الذكرى يشرد بخياله بعيدا  و لم يصح حتى سأله جاره :
    – إيه .. نصف الألف خمسمائة . أهلا  بك يا جار الرضا ، ماذا سنشرب ؟ .
    – أرجوك …. في الحقيقة لست ضيفا  بل صاحب حاجة . ( لك أم للديب ) ؟ .
    – تفضل …
    – يلزمني بعض المال .
    أجاب صاحب الأسنان الذهبية ، ارهن مصاغ زوجك ، شعر صابر بطعنة من جاره .. لم يدرك الجار أن زوجة صابر لا تعرف الذهب لا من قريب و لا من بعيد ، فصمت صابر هنيهة فداخلته لحظات نسختها أرواح الكتب على روحه و تحكمت بانطباعاته الحديثة فلا تخرج من رفعتها إلا كما تشاء
    ممزوجة بالكبرياء ، فرجفت يده و رجف كأس الشاي بين أصابعه ، فارتشف منه رشفة بغير لذة ، و راح ينظر إلى نصف الكأس الفارغ و النصف الملآن ، فلا يجد إلا فراغا مخيفا وراء شفافية الزجاج و أخذ يبحث في نفسه عن شبيه لصاحب الأسنان المذهبة فلم يجد شبيها إلا في أحد
    الكتب المنسية على الرف فلم يأخذ منه سوى الجانب المضحك ، فضحك ساخرا .
    سأله :
    – أراك تضحك ؟ .
    فلم يرد عليه ، و دارت قصص البخلاء دورتها في رأسه :
    -رأيت كلبا أبرشا .
    – أين .. لا وجود للكلاب في حينا .
    حدق بوجه جاره جامعا جذوة عينيه :
    – نعم ، يشبهك يا جار .
    صمت الجار على حرقه و راح يستحضر جوابا فبلع لعابه :
    – و لو .. لم أتوقع هذه الإهانة من مثقف مثلك .
    نهض من مكانه بزهو مازجه فخر ينبع من أخدود عميق في النفس و وقف بمحاذاة الباب و يده على قبضة الإغلاق :
    – اسمع.. الكلب حيوان وفي للإنسان ، يبدو أني ظلمته ، وربما تحتج جميع الكلاب على وصفك بأحدهم .

    فقر مدقع
    تذكر فقرهم المدقع ، و قرعت العبارات أذنيه ، نحن نموت جوعا و أنت تعاند و تكتب ما نفع ما تكتبه و طلبك لم يوافق عليه ، الناس الأقل موهبة نالوا الحظوة و أكثرهم لم يكن لديهم أكثر من بيضة الديك ، ضحك صابر :
    – و هل للديك بيضة ؟ .
    – لا …. لكن يستعير بيضة من دجاجة و تنسب إليه .
    – الأيام تحكم .تجاوزت البيضات أصابع اليد ، لكن لي قصة مع أولاد … أعرفهم بالأسماء رغم أنهم يبدون كل احترام ..
    و راح يسترجع الأسماء أمام ( المحظية ) ، بعثت نظراتها في داخله قلقا ، و بخبث أسدلت جفنا و رفعت آخر قائلة :
    – ما حاجتك ؟ .
    – الأستاذ .
    – إياهم ؟ .
    – ما شاء الله كم أستاذ عندكم ؟ .
    قال متعجبا :
    – تنهدت بحدة :
    – الإناث عشرة ، و الذكور حدث و لا حرج …
    – يا إلهي ! ….إذن عددهم بعدد أيام السنة .
    – و أكثر .
    فاخترع اسماً من بنات أفكاره :
    – الأستاذ نحس،الذي يتذرع أنه جاء بعرش بلقيس إلى سليمان عوضا عن الجني .
    – باسم الله ، ما هو طلبك ؟.
    – أنت تعرفينه، ربما يدرأ عني العوز في عاديات الزمان .
    نظرت إلى جيبه الخاوية و يديه الفارغتين:
    – يا فارغ اللب ، أين الهدية ؟ . نحن لا نبيع الخيار .
    ضحك حين وقع اسم الخيار على مسمعه :
    – يقولون عندكم خيار و فقوس .
    – أيعقل ؟ … أنت تقول هذا .
    –  معاذ الله … أبيع نفسي و لا أصفكم بهذه الأوصاف يا مدام .
    – تجاوزت حدك ، أنا عذراء.
    – ما صلة القرابة مع الأستاذ نحس ؟ .
    – ماذا يعني إذا كنت خادمته ؟ أنت ظنون و أبله ، أين الديك البلدي و الخروف و سلة البيض الملقحة ؟ ..
    – أقسم أن كل البيض لدينا ملقح بجدارة ، تشهد على ذلك (بحيرة الملح) القابعة بهدوء على تخوم البادية ،فتغنى الشعراء بفطرتها ،والفدية ( الذبح  العظيم )،  جاء به جبريل إلى سيدنا إبراهيم ، و فك إسماعيل من ذبح محتم ، و هل تتوقعين (غضب النورس )تصوري رغم وداعته ،
    إذا غضب غضبت لغضبه كل أمواج البحر ، و أكيد سيصيبك الهول من (مطر الملح ) الذي يشفي قروح الأدمغة التي أصيبت بالأدران ،و لأنك عذراء ستقابلين (عاشق أخرس ) يدلك إلى الصراط ،و ستتوقفين بهدوء أمام ( محراب العشق )،فيذكرك بمعبد ” عشتار “، و أكيد سيصيبك التباس
    عندما تقرئين ( أحلاما مشتتة ) ،التي نوهت إلى سرقة أثار بابل ،ردا على ثأر قديم ، و عندما يهاجمك العدو تدركين أنك بحماية ( سورية الأم )،فتؤكد لك  أن الأرض هي العرض ، و ( الهدية ) تشد أزر أطفال الحجارة ، ستنال موافقتك ولو كانت البيضة الأولى،لكن مذاقها شهيا .
    فجأة تغير لون وجهها و بتلعثم قالت :
    –   تفضل .
    عبر الممر و هو يتلو أسماء الأنبياء و الرسل و لم ينس الصالحين و الصالحات الأحياء منهم و الأموات ، و راح يردد أسماء الله الحسنى ، و يطلب من السموات السبع ،أن يفرج عن طلبه المعتقل منذ نصف عقد ،و أن يوافق الأستاذ عليه ،هذا الأستاذ الذي يدعي أنه جاء بعرش بلقيس
    إلى ” سليمان بن داوود” ، ولج المكتب و جلس على طرف الكرسي ،كمن يجلس على كرسي الاعتراف أمام الكاهن ، فتذكر حلم ليلة أمس حين صرخت جدته :
    –  اترك الديوك يا صابر .
    وقد نسي باقي الحلم عندما أقبل الأستاذ بقامة طويلة و جسم هزيل تؤطر  وجهه المثلثي لحية سوداء كثة ، فبدا كناسك من النساك على غرار ذلك الناسك الذي صادف أحد الفقراء ، فسأله :
    -علام تكفر .
    – خرجت لأطلب من ربي أن يرزقني .
    وراح يضحك بجنون ،مما أثار فضول الناسك فسأله :
    – وهل استجاب لطلبك ؟.
    – لا … جاءت زوجي و أخبرتني أن الذئب افترس شاتنا اليتيمة فأخذت أكفر عوضا عن الدعاء .
    فقال له :
    -لا عليك ، سوف أجعلك تدفن الفقر و إلى الأبد .
    تعجب الرجل:
    – اتركني و شأني .
    أجابه الناسك :
    – أستطيع  بلمح البصر أن أتحول إلى طاووس لا يضاهيه طاووس في الجمال، و ما عليك إلا أن تأخذني إلى الوالي ،و تقبض ثمني أكياسا من الدراهم ،و تنصرف إلى شأنك .
    وبلمح البصر تحول الناسك إلى طاووس لا يضاهيه طائر بالجمال .
    سرّ في نفسه :” تدفعك الحاجة أن تتعامل مع أبالسة ،يلبسون مسوح النساك ،لكنهم يجهلون أنك تعرفهم ،ولأنك لا تحب النميمة تقطع لسانك على  حرقة ،وهؤلاء ليس في وجوههم حياء يظنون أنك رعديد “.
    صمت مليا ،فتذكر بيتا من الشعر قتل صاحبه .كان سيلقيه بصوته الجهوري لولا ،أن وقع بصره على الأستاذ الذي جاء بعرش بلقيس ،وقبل أن يجلس على الكرسي الوثير سأله :
    – أنت صابر ؟.
    مع حفظ الألقاب :
    – حضرتك من جاء بعرش بلقيس..
    – نعم ،طلبك سرق ،ضاع والله اعلم ،لكن كيف تسأل عن حقك ،ولم تسأل نفسك أين الديك ؟.
    – هل لديكم دجاج ؟.
    – نعم ،و إوز  . ولدينا حمارة وخادمة أيضا
    – دون يمين الديك موجود ،ومعه ذكر من الإوز .وحضرتنا الخادم ،و زوج جارتنا لحمارتكم ) .
    وانبرى إلى عرض الشارع ،يشير إلى البناء …ولم يعط فرحته لأحد .

    عبر الشارع الطويل ، تزدحم الأفكار في مخيلته ،تذكر ذلك اليوم حين غادر الحافلة ،وفي داخله عشرات الصور ،لم يشعر بمسافة الطريق ،وحين دخل البيت ،كانت جالسه تعد الدقائق بانتظار عودته ،تألقت لملكوت التوحد ،فأخذها على ذراعيه ،مقلدا البجع الأبيض ،ارتقى معها هضاب
    التيه ،وقبل أن يصلا الذروة وشوشته :
    – الحر شديد .
    برر لها لظى الدفء :
    – البقاء في النار أفضل ….
    – أحب البحر …
    – ألسنا في خضمه .
    كانت مشغولة بأشياء عابرة ,كلم نفسه : ” يا إلهي !…انتهى العمر ولم ارتو من ارتشاف كأسي ” .
    لم يكن يدري ،أنه شرب الكأس من اللحظة الأولى ،وربما لم يحسن الارتشاف ،حركت الأسئلة شعلة الذاكرة ،وفجأة ابتعدت الأسئلة ،ككل سنوات عمره ،فلم يبخل بالعطاء ،ولكنها طوت كل الأزمنة ،وانزلقت كالزئبق  .
    قطع أبو زايد انسيابه مع الذكرى حين استوقفه ،وأقسم بالثلاثة :
    – ألسنا أصدقاء يا أستاذ ؟.
    – نعم .
    – ستشرب الشاي بضيافتنا .
    – أنت في القلب .
    – كنت مع أبي الأسنان الذهبية .
    – نعم .
    – أراك مشغولا ؟.
    – حقيقة الأمر ،أركض وراء الحياة ولم الحق بها .
    هزّ أبو زايد رأسه :
    – غيرك الحياة تركض خلفه .
    صمت أبو زايد مليا ،ثم نادى على زوجه ،وطلب منها أن تعد وجبة غداء لضيفهم العزيز ،وقفت تسترق السمع من خلف الباب ،سأله أبو زايد  :
    – هل انتهت المشاكل معهم ؟.
    – أي مشاكل ؟.
    – سمعت أنهم أحالوك إلى دائرة ما .
    لم يرد على السؤال .
    وتابع أبو زايد :
    – ترى أستاذ مثلك ما نفعه في غير اختصاصه . مع عدم المؤاخذة أنت لم تعرف غير فك الحرف ؟.
    حديث أبو زايد ذكره بمثل لجدته : ( إذا جارت عليك الأيام فدونك أولاد الدلال ).
    ضحك صابر :
    – يا أخ …فك الحرف يتضمن تعليم الأخلاق ،وتعليم حب الوطن .خلق  الإنسان بلا وطن .
    –  وأنتم تبنون له وطنا .
    ابتسم صابر :
    –  نعم ،لكن الوطن ليس سروالا تحيكه أمّ زايد على مقاسك .
    – تعني الوطن كلمة تكتب بجريدة ،يلقيها متعلم ؟.
    – لا …لا تقولني كلاما لم أقله .
    – إيه …حيرتني !…
    – يا أخي …الوطن يعني المتعلم والجاهل والصانع ،وكل الناس خير وبركة .
    – أنا وأختك أمّ زايد وطننا هذا الدكان فيه خبز …بندوره…خس …فجل وغيره ،وعندما يكون الخبز مفقودا .والله العظيم يصبح الوطن سرابا .
    – ولكن …
    قاطعه أبو زايد :
    – قال المسيح  ( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) .
    – يتغير الزمن و نحن أيضاً .
    – سألتك عن أمورك … و لم أسألك عن الأنبياء و الصالحين .
    شرد بخياله بعيدا ، يحاكم الأمور ، لقد غلب من أول معركة ، و أمام من ؟ شخص مثل أبي زايد ، الذي جعله يقف على رجل واحدة مثل دجاجة كسرت ساقها .كل ذلك سببه رفض الطلب ترك في نفسه أثر كبير، وقد نال حصته من نظرات الأدنى منه ،فجعله الرفض أن يبدأ مشواره بين اندفاع و
    تراجع ، لقد باع كل ما تركه والده من ثروة في القرية ليبني ذلك البيت الصغير ،و يتزوج كغيره من الشباب ، و لكن القدر كان أقوى منه ، فقد أخذ زوجه بعد أن رهن البيت و لم يبقى شيئا مما جنته يداه ، غير مكتبة عامرة بأمهات الكتب ، فجرت الأحرف بدمه مع الكريات الحمر،
    فهو من شجع بعضهم على الكتابة ،و عندما تبوؤا منصبا في مؤسسات ثقافية تنكروا له ،فقد أغرتهم الكراسي ،و ما زال يوثق قراءاته و كتاباته على حساب لقمة العيش و شراء القميص ،ضخمت القراءات عقله و يبست عروقه حتى تحول إلى هيكل عظمي و رغم ذلك بقي محافظا على رشاقته .

    اختزن ” صابر ” اللوحات الجميلة في ذاكرته ،تذكر  أحد،الأصدقاء،يدعوه  إلى حضور معرض لأحد الرسامين في المركز الثقافي بدمشق، في أثناء صعوده إلى جوف الحافلة ، شعر اضطرابا، جلس في المقعد يحمل في داخله نفحات حب نقي ، ومن خلال النافذة تأمل الأفق ، وارتسمت غيوم
    معلقة بأهداب شروق الشمس ، رحل المنظر به إلى ذلك اليوم ،لقد تخيل رتلاً من النساء، جئن ليودعن عشاقهن ، و في قلب كل منهن لوعة فراق لا لقاء بعده ، فتذكر زوجه عندما قبلت أطراف بنانها و قذفت قبلة عبر الأثير فقال لنفسه : ” رغم الفاقة منحتني أجمل ما في الحياة ” .
    بكى بصمت ،و هو يتخيل وجهها بين أرجاء الضباب ، أصبحت الدقائق عناكبا أمام ناظره  ،وارتدت الثواني ثياب اليعاسيب ،و تحولت كل الأشياء من حوله إلى نقاط و إشارات تعجب .
    لم يشعر بمسافة الطريق ، ولج المركز الثقافي ، طاف بين اللوحات ، صادف أحد الشبان ، تعرف عليه و هما يطوفان بين اللوحات في المعرض ،أدرك ” صابر ” أن صديقه ليس من الرجال الذين تخور عزائمهم ،كان “صابر ” واقفا أمام إحدى  اللوحات ،حين سأله ” مهدي “:
    – هيّا بنا إلى  الفندق …
    فسأله وهو يتفرس فيه تفرس من يقرأ ما بذهنه :
    – بكل سرور .لكن أين ؟.
    – فندق ابن الوليد .
    كان ” صابر ” يتنبأ بأسئلة يلقيها عليه ” مهدي “و من هناك ذهبا معا إلى فندق ابن الوليد ، ظلا  مستيقظين حتى لونت الشمس زجاج النافذة ، و قبل أن يغادرا الفندق بدقائق قدم النادل الأبكم لهما إبريقا  من الشاي ، ضحك مهدي :
    – يجب أن نقطع لسانينا .
    هز صابر رأسه ، و ارتبطت فكرة قطع اللسان ، مع قصة الدمشقي هشام بن عبد الملك فسأل مهدي :
    – ما الحل يا أخوي ؟ .
    – يكمن الحل في نضوج البطيخة .
    قال مهدي :
    – ما أدراك … أن تجد السكين ؟ …
    – وضعت الشاي على نار هادئة .
    أشعل لفافة تبغ مجّ الدخان ، رسم حلقات ضبابية في الغرفة على شكل سحابات حلزونية فقال :
    – ماذا لو هاجمنا التنين ؟ .
    – سندافع عن أرضنا .
    – هل نحن أكفاء … لحماية الأوطان ؟ .
    – ربما …
    انتهى من شرب الشاي ، و ظل الشك قائما .
    سكبت الشمس حبالا حمراء على الستائر الزرقاء ، فعبر مهدي عن مشاعره :
    – منظر و لا أجمل …
    قال صابر مازحا . بغية أن يلمس جانب اللاشعور عند ه :
    – نعم ، ينسحب على رومانسية ، فاقعة من نوع مثالي ، ذاتي .
    ردّ مهدي ساخرا :
    – أتقصد على طريقة النشمي؟ .
    – هل لديه مرتزقة ؟ .
    – نعم ، لقد عمل بنظرية تعدد الأنماط السياسية .و أعتقد هذا الأبكم أحد الجواسيس .
    انتصف الليل من ليالي عام 1989 ، انسل كليهما إلى فراشه و قال صابر :
    – عمت صباحا على فكرة جديدة ، لا علاقة لها بالبكم .
    كان” صابر ” يعيش حلما ، رأى طيورا ذات أجنحة معدنية ، تجوب الآفاق تنفث حمما تحرق واحات النخيل ، حطت على أرض الرافدين ، و أخذت تطأ بأرجلها كل شيء ، حتى ورد القداح لم يسلم من أظافر أصابعها ، و كانت جدته تلوح بمنديلها :
    – ماكو خير يا مهدي . أين النشامة ؟ .
    ردّ مهدي :
    – لا عليك …. سنبدد ظلمة الليل .
    – كن كفؤا … أرى الأغصان تتفرق .
    – اطمئني ….. الأغصان ستلد من جذع النخلة الأمّ . يا ما عبثت الزوابع بها، ولكن بقيت الأرض ،و بقي الفرات يشق طريقه بين الحصى .
    استيقظ ” مهدي ” على حركة داخل الغرفة ،فأيقظ  صابر وسأله :
    – لم تنم يا صديقي .
    – نعم أغمضت عيني فقط …. أما أنت نمت كطفل لعب لدرجة الإرهاق .
    – أين تشرب القهوة ؟ …
    ردّ صابر :
    – أصبت … لا أعرف ،لكن هاجسي التعرف على ذلك المقهى .
    فتح صابر دفتره و كتب عليه بعد غد سيكون عيد رمضان لعام 1989 .
    قال مهدي :
    – ماكو بيت ماكو عيد .
    تلقى صابر كلمة ( ماكو ) بيت ( ماكو ) عيد ، بمساحات جسده ، دارت مع الكريات الحمر دورتها بدت مؤلمة حادة ، كنصل أنغرس في القلب ، فاستدرك :
    – بيتي بيتك ،و بلدك سوريا .
    كادت تسقط دمعة من عيني ” مهدي ” ، دمعة أبية تجمدت في ساحة العين، و بدأ بكاءه صامتا ، أدرك ” صابر ” ما يدور بداخل صديقه ،فهو يعد رجلا واسع المعرفة ،وكان ارتياب الرجل يزداد مع نبضات القلب ،  أشاح ” صابر”  بوجهه ، و سبقه بخطوات ، فلا مجال في مثل هذه الحالة
    لأي تردد ،عبر رصيف المشاة  و من خلفه ” مهدي ” ،كان الناس في حركة دائمة ذهابا و إيابا ، هياكل متحركة ، فقال مهدي :
    – ما شفاعة المعابد بدون وطن . بالأمس ، نوهت  سوريا عن مؤامرة .
    هز رأسه :
    – من يعلم ما هو المخبوء ؟ .
    قفل حاجبيه ، حدق بالأرض ،كأنه وجد ضالته ، أيقظه صابر من رحلة ضيعته :
    – أين شردت ؟ .
    تأمل مهدي وجه صابر ،وقد استرد أنفاسه بكثير من المشقة ،فجمع جذوة عينيه :
    – لا تفاجأ يا صاح …إذا دخل أحدهم شاهرا  مسدسه  و أطلق النار ! …
    ضحك صابر :
    – إن هذا عمل مجنون ! …
    – مهلك هناك من يفعلها …
    – اطمئن كل الاطمئنان … أنت في سوريا .
    – ما قصدك ؟.
    – دولة المؤسسات .
    – عندنا أفعال لا تخضع لسلطان العقل .
    سأله صابر :
    – كيف نرى الأشياء بتجلياتها ؟ … في الحقيقة تحاصرنا المفاهيم ، و جميع الأبواب مفتوحة نصف فتحة ، و نحن نعيش على النصف في كل شيء .
    و انتهى الحوار ، لأن ثمة من جلس على الطاولة المجاورة ، يشنف أذنيه فقال صابر:
    – لنذهب إلى طاولة أخرى .
    -علام ؟.
    حين انتبه مهدي ضحك:
    – انتبه لنفسك .
    شعر بدهشة :
    -” فهمت “.
    – حسنا .
    وساد الصمت .

    ___________________________الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

  • توفي خوان غيلمان الشاعر الارجنتيني الكبير عن عمر يناهز 83 عاما في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي.

    توفي خوان غيلمان الشاعر الارجنتيني الكبير عن عمر يناهز 83 عاما في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي.

    وفاة الشاعر والمقاتل الأرجنتيني السابق خوان غيلما
    أقام غيلمان في المكسيك 20 عاما
    توفي الشاعر الارجنتيني الكبير خوان غيلمان عن عمر يناهز 83 عاما في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي.
    وكان غيلمان من أهم الكتاب والشعراء باللغة الإسبانية وحصل عام 2007 على جائزة سيرفانتس الشهيرة.
    وكان غيلمان في فترة شبابه ناشطا يساريا وشارك في ميليشيا مسلحة في الأرجنتين خلال حقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
    وعاش غيلمان في الأرجنتين خلال الاعوام العشرين الماضية كما كتب ما يقرب من 20 مؤلفا وأعمدة دورية في بعض الصحف.
    وكان ابن غيلمان وزوجته الحامل قد قتلا بعدما خطفتهما القوات التابعة للحكومة العسكرية الأرجنتينية التى حكمت البلاد في حقبة السبعينات.
    وتوضح الإحصاءات الحكومية الأرجنتينية أن ما يقرب من 20 ألف شخص قد اختفوا خلال فترة الحكم العسكري للأرجنتين بين عامي 1976 و 1983 لكن جمعيات أهلية ونشطاء يؤكدون أن الرقم يصل إلى 30 ألف شخص.
    وفي عام 1990 تمكن غيلمان من التعرف على جثة نجله الذي قتل ودفن في منطقة مهجورة لكنه لم يعثر على جثة زوجة ابنه.
    وفي عام 2000 تمكن غيلمان من العثور على فتاة يفترض أن تكون حفيدته التى أنجبتها زوجة ابنة على الأرجح قبل مقتلها وكانت الفتاة تقيم مع أسرة تبنتها في الأوروغواي.

     

     

     

  • بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن – رواية ” الاحتجاج ” – ج4 –

    بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن – رواية ” الاحتجاج ” – ج4 –

    بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن – رواية ” الاحتجاج ” – ج 4
    – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100 نبيه اسكندر الحس
    الاحتجاج رواية ( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح ) ظهر الغضب على وجهها ،رحلت مع الأحلام في إرهاصات اللذة ،مستسلمة لرغبة أحالتها إلى شحرورة ،خلخلت سكينة هاجعة ،وزحف الضوء باندفاع الوقت حتى إذا ما وصل نهديها ،يستيقظ الزمن المتواطئ مع شعاع يمارس زحفه فوق تضاريس جسد ،لا يعرف الوصال .منذ زمن بعيد ،كانت تدور حول نفسها على إيقاع طبل غجري ،وإذ ما انتشر الضوء ،يملأ أركان الغرفة ، ينفث آخر قبس من نغمة الصباح ، فاجأتها صاعقة لطيف رجل يهيج روحها من كمد الاغتراب ،فتناديه والصبوة تنفلت من زمامها، آتية على اللحظات ،يؤكد ذلك كله ذبول واستسلام لجسد عطش ،وقبل التئام الحلم ،يحدث شرخ في الموقف ،تشعر كأن طيرا سري بجناحين فضيتين ،يضرب على زجاج النافذة ،فقالت : – هل لديك فكرة عن مكان تواجد علوان ؟. – نعم . – هيا لنذهب إليه الآن . قفزت عن السرير ،وهي تقبض على صدرها ،فأسرعت تحضر نفسها للقاء رجل لا تعرفه،حاولت أن تتصل مع الماضي . تذكرت مدرساتها اللواتي تنبئن لها بمستقبل رفيع المستوى إن بقيت مثابرة على تفوقها ،وحين نالت الشهادة الثانوية ،تقدم “علوان ” وطلب يدها من زوج أمّها الذي وافق على زواجها دون أي تردد .ولعبت الأقدار دورا كبيرا في ذلك .قبل أن يأخذ طفلها الرضيع ،كانت تعيش بلا غاية ،تتأمله في إعجاب ، لم يكن متحمسا لذلك ،لكنه استطاع على إغوائها ،وخانتها خطاها فضلت الطريق ،وتجرعت كأس الألم . كان يوما من أيّام الثلج البارد ،كانت المحكمة تزدحم بالمراجعين ،لاحت نظرة خوف على محياها ، تقف في قفص الاتهام ،ناجت خيالها ،جاءها ” صابر” يرتدي ثوبا أسود ، يتطلع بنظرات لا تخلو من اللباقة ،همست له ببضع كلمات قالت : – من الكرم أن تدافع عني بدون مقابل . – أمن الممكن أن نتحدث بصراحة ؟. – نعم ،أنا مستعدة . – تفضلي … – قسما لا أعرف غير علوان . – هذا رائع . كانت بنيتها تضفي عليها مسحة من النضج والصدق ،فرأى الإعجاب يلمع في عينيها،حدثها بلهجة مرحة ،جعلتها تضع النقاط على الحروف ، روت له كل ما حدث بصدق ،منذ أن هجرها “علوان ” في أيّام الشدة ،وتركها عند زوج أمّها في قريتهم دون أن تذكر اسم القرية ،لم يقم “علوان ” أي اعتبار للجنين الذي تحرك في أحشائها ،كان الجنين يركلها في خاصرتها اليسرى . انتعش صدرها بالأمل ،حين تهلل وجهه بالفرح ،ربما لأنه سيدافع عن متهمة أحس أنها بريئة ،أدركت أنه مخلص وثاقب الرأي ،أحست أن قلبه مليئا بحب المغامرة ،كانت مرهقة تحت عبء قضية ظالمة ،حين أخذت عيناه تبرقان ،وهي في قفص الاتهام ،أثار دفاعه ضجة أمام القضاة ،أجهد نفسه ليخفف عنها مدة الحكم ، لكن ” علوان ” قد حبك التهمة بدهاء ،قرنها بشهود ،فصرخت : – يا لآلام بني البشر . – اعذريني . طرق سمعها أنين خافت ،أعادها إلى صوابها ،أسرعت إلى سيارتها الفارهة ،اندفعت بسرعة هائلة إلى جوف المدينة ،غدت كمن يبحث عن شيء ضاع في بحر ،وجدت نفسها في شارع مكتظ بالباعة والمشردين،فكلمت ذاتها :” أليس الأمر مؤلم “؟!. اتجه الناس إلى محطة حافلات تشعبت مسالكها ،كتشعب حبال الضوء في العتمة ،طالعت الوجوه الصامتة ،تجمد ما يجول بخاطرها ، لم تتوقف ،لقد اجتازت مبنى نقابات العمال ،سرحت في صدى الذكريات قال زوجها الثري : – لك ثروتي . – وورثتك ؟. – أعطي كل ذي حق حقه . توقفت قرب سوق الدواجن ،ترجلت من السيارة ،راحت تشق حشود الناس ،وقع بصرها على صبي يبيع الدخان ،نظرت إليه ،قرأت في ملامحه أشياء وأشياء ،ثمة عينان في وجه يشبه هالة القمر ،ملطخ بنقاط سود ،يرتدي ثيابا رثة ، لم يعرف وجهه الماء منذ الشتاء المنصرم ، ذكرها بطفلها ” فادي ” وقف أمامها : – كرمى لله . دفع إليها علبة الدخان .ناولته قطعة نقدية ،نظرت إليه بعطف ،رأت في وجهه أسرارا ذكرتها بوجه ولدها الذي غاب عنها ولم تره منذ أن لفق زوجها لها تهمة ما أنزل الله بها من سلطان ، كادت تنسى ملامحه ،هزّت رأسها بحزن : – هل يمكنني رؤيتك ثانية ؟. – لا سأذهب إلى أمي . – أين هي ؟. – في البيوت البائسة . – جئني بها . – مريضة . – ما هو مرضها ؟. – لا أدري . – ألم تذهب إلى الطبيب؟. – نحن لا نعرف الأكابر . – خذني إلى بيتكم . – إن شاء لله . – غدا .. حشر الصبي القطعة النقدية في جيبه بعد أن تفحصها ،وراح يشيعها بناظريه ،عندما عبرت من أمامه ،أحست أن وجوه الباعة الصغار كوجه ولدها ،اكتشفت سرّ ميولها لهذه الطفولة المعذبة ،راحت تعيد صورة بعيدة في ذاكرتها ،فأسرعت إلى سيارتها ،جلست أمام المقود ،تناولت الحقيبة ،أخرجت بعض الصور ،ثمة صورة لرضيعها على صدرها ،تفرست في الصورة تفرس من سينقش الملامح في وعاء الذاكرة ،وصورة ثانية كان الطفل يلتهم حلمة ثديها.ركزت عيناها في وجهه كمن ينبش الذكريات من الركام ، خيم الصمت ،وانحدرت الدموع ،فانهالت على رأسها شلالات من ألم الفراق ،تذكرت ذلك اليوم المشؤوم ،لقد تركها “علوان ” تعاني من الحاجة في قرية تقع على خط المطر .ومازال الجنين في أحشائها يجهز نفسه لرؤية النور .أدارت إبرة المذياع : ( يا صاحب الوعد خلي الوعد نسيانا ). كانت الجدران ترجع صدى صوت ” فادي “،يبدو لم يعرف الطفولة ،هكذا أخبرها قلبها ،ويؤكد عقلها ذلك ،ينبغي عليها أن تعيده إلى حضنها مهما كان الثمن ،جعل الأمل وجهها يشع في المدارات ،ستعمل قصارى جهدها لتستعيد طفلا ابتلعه الضباب . من بين الوجوه تخيلت وجه أمّها التي قضت قهرا على فراقها ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا من أجل براءتها ،ومرّ طيف زوج أمّها من أمام ناظرها ،ليذكرها يوم جاءت تعتذر عن جرم لم تقم به ،صفق الباب بوجهها قائلا : – نسيت إن كان لي بنتا اسمها ماجدة . راحت تسترجع أيّاما ،غدت أسود من الليل ،لكن ثمة سجينة اتخذتها صديقة ،قدمت النصائح دون حساب ،ومازالت تذكر حين قالت : – اسمعي يا ماجدة من يملك المال يملك كل شيء . – كيف ؟. – كنت أعمل في منزل يقع ضمن حديقة متشابكة الأشجار ،تشبه المظلات ،وكانت صاحبة البيت قبيحة الوجه ، أظهر زوجها إعجابه بأمانتي ، اعتبرني كابنته لأنني يتيمة ،مما أثار غيرتها فهمت الأمر خطأ ،لفقت لي تهمة السرقة ،ولأنها ذات نفوذ من خلال ثروتها ،استطاعت أن تنفذ حقدها ،وكنت الضحية . ( لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدبِ ورحتُ أحضنها بالخافق التعبِ أيد تلوح من غيب وتغمرني بالدفء والضوء بالأقمار بالشهب مال العصافير ترنو ثم تسألني أهملت شعرك راحت عقدة القصب ) نظرت في المرآة ،لمحت في عمقها وجها ينظر إليها بهيئة عابسة ،تحرت الأشياء من حولها ،ندبت سوء طالعها ،فكرت أن السماء تعاقبها ،أظهرت شيئا من عدم الرضا عن النفس ،كانت في غاية الارتباك ،وراحت تحسب الدقائق ،حين تساقط الثلج في الليل ،فكرت بالمستقبل ،ومازال كل شيء غامضا ،ذرعت فسحة البيت ذهابا وإيابا ،كان المغص يجتاح أمعاءها ،نادت على أمّها ،لبت نداءها ،أحضرت “قابلة ” تملك شجاعة خارقة ،وصاحبة خبرة قديمة في مثل هذه الحالات ، قامت بالواجب ،قدمت شرابا يخفف شيئا من الألم ، فحصتها بعناية ،أدركت وضع الجنين : – رأس المولود إلى الأعلى . أكدت أن وضعه بخير . سألتها أمّ ماجدة : – ما العمل ؟. – كالعادة .لا تنقصك المعرفة . كانت الأمّ في غاية الارتباك ،عيناها المتيقظتان ترنوان إلى ابنتها بين الفينة والفينة ،أدركت أنها ترزح تحت وقع الفاقة ومهام الأمومة ، تحملت الألم بقوة وصبر ، فأسرعت تصنع مرق الزنجبيل ،هذا المرق يحمي بيت الرحم .تقدم النصح بعدم الحركة ،والالتزام بتعليمات ” القابلة ” لأنها خبيرة بمثل هذه الأمور . فلم تدخر جهدا ، تدرك أن الأمر يستحق الاهتمام ،بقيت ترقب ابنتها حتى غالبها النعاس . وراحت تحسب الدقائق ،لا تضيع منها دقيقة واحدة ،دون تنهيدة تذمر ،قالت لنفسها وهي تتأمل وجه ابنتها البكر :” حالتها غير طبيعية ، ينبغي أن نكون على حذر “. وقفت قرب السرير ،تأملت وجهها ، كانت ” ماجدة “ت رأت في الحلم طيرا كبيرا أسود اللون ينقض من الفضاء بلمح البرق يغرس أظافره الحادة في أحشائها ،يسحب الجنين ،ويطلق جناحيه للريح ،اندفعت تقتفي أثره ، تصرخ وتصرخ إلى أن اجتاز النهرين . شعرت الأمّ بهبوب العاصفة ،أيقظتها من رقادها وقطعت عليها الحلم ، تألمت من لسعات سوط يهوي على ظهرها ،يتكسر مع شهقة حادة . وقعت الشهقة على مسمعي أمّها ،بعد صيحة ألم ،استردت زمام أعصابها فأسرعت خائفة ،ربتت على كتفها : – اجلسي …كما جلست ليلة الزفاف .. كانت صاحبة خبرة وتجربة ،استجمعت قواها،حين تجاوز الوقت منتصف الليل ،ورسم التعب خطوطه القاسية على وجهها ،انفجرت قائلة لزوجها : – أحضر القابلة فورا . خرج ساخطا مهتاجا يكاد أن يفقد عقله مع صرخات تكاد لا تنقطع في ليلة باردة ،فقال لذاته :” والله لئحطمن رأس ابن العاهرة “. كان في غاية الارتباك ،فانطلق الصراخ في داخله من كل الجهات ،فجأة لم يبق سوى سكون تلفه ريح باردة ، وخطوات ليل مترجرجة يلف البيوت بظلام عميق .قرع الباب بيد مرتجفة ،انتظر قليلا ، فتح الباب، وقف أمام القابلة ،كانت قسمات وجهه تعبر عن ألم كبير . نظرت إليه ،كانت مستعدة لتلبية طلبه ،يرتسم على قسمات وجهها الحزم والثبات فسألته بلهجة تلونها الدهشة : – كدت تخيفني . – أسرعي ماجدة في حالة المخاض . قفل أدراجه ومن خلفه القابلة، وحين أصبحت أمام ماجدة ،لاحظت بكثير من الانتباه شهقات تصحبها سياط شرسة ،تلف الحوض برمته ،يتفصد العرق أنحاء الجسد في محاولة لإطفاء اللهب. انفجرت بالبكاء ،قرأت نبأ لم تكن تتوقعه ، وبدت الحقيقة واضحة أمام عينيها ،قدمت لها قطعة من القماش : – ضعيها في فمك ،وشدي عليها بأسنانك . كانت في أوج ألمها ،كادت أن تفرغ جذوة النفس في حمى الألم،عبقت رائحة الدم بين أرجاء الغرفة ،و تحولت قطعة القماش إلى ذبالة فانوس تمتص اللعاب ،وتحرض على فرز المزيد منه ،وراحت تشهق بعد احتباس نفسها ،حسب وصية القابلة . كانت أمّها ترقب المشهد فانقبض قلبها ،عادت بالذاكرة إلى ذلك اليوم ،حين ولدت ” ماجدة “.. أطل المولود دون صراخ .لم يكن بوسعها أن تفعل شيئا ، سألت نفسها :” ليس الأمر صعبا على الله ،أن يرزقني بحفيد “. كانت ” ماجدة ” تصر على تنفيذ وصية القابلة ،تتحرق لهفة لرؤية الطفل ، خلفت الأمومة في نفسها شعورا بالاطمئنان ،ولاحت على وجهها إمارات انشغال ،بسبب عدم صراخ المولود فحدثت نفسها:” أيعقل أنه أخرس …أو ربما فارق الحياة؟! ” . جلجل صوت القادم ،فأدركت أنه خرج إلى النور ،كانت القابلة تقف في وسط البيت ،أدركت ما يدور بخلد ” ماجدة “،ضحكت لتخفف عنها شيئا من تفكير ،ربما يؤذيها : – ( اسم الله …(قل أعوذ برب الفلق )… ( ومن شر النفاثات في العقد ) . بلغت ماجدة ذروة السخط حين تدفق الدم ،كان ارتيابها يزداد مع تداخل آيات من الذكر الحكيم ،أحست بخوف حين رأت المولود داخل كيس يأخذ لون الزمرد ،تحيطه يدا القابلة ،فسرّت لنفسها :” لا يمكن أن ينتهي الأمر على خير “. جاءت الأمّ تحمل الماء البارد ،قدمته للقابلة سكبته فوق الغلاف الذي تشقق ،صرخ المولود على حين غرة ،تأملته : – يا فرحي …ضناي حيّ . – اطمئني. دهشت ” ماجدة ” ، حاولت أن تبتسم حين صرخ الصرخة الثالثة ،كأنه يستقبل العالم بشديد من الاحتجاج ،أجهشت بالبكاء ، فقالت للقابلة مظهرة احتراما كبيرا : – أسترد أنفاسي بكثير من المشقة . – لا عليك … – تعبت معنا . – لقد تعودت على مثل هذه الولادات ؟ ودفعت المولود إلى حضنها ،وربتت على كتفها : – إنه كامل الخلق …ككل الولادات . – حقا ؟. – نعم. قل هو الله أحد . استردت ” ماجدة ” هدوءها ، ضمت المولود إلى صدرها العاري ،بدافع الفطرة بحث الطفل عن حلمة الثدي ،فدفعت الحلمة إلى فمه ،قدرت ذلك متفائلة ،فخلف التفاؤل في نفسها شعورا بالتوازن ،وأخذ الطفل يمص حلمة الثدي ،فسال اللبن على وجهه ،وانزلق على سرتها . خفق قلب القابلة بشدة ،قبل أن تغلق الباب خلفها ،كانت تسير بتمهل ،تلوح على وجهها إمارات انشغال ، لأنها وجدت أن الولادة متعبة ،فلم يكن بمقدورها التقاعس كونها مسؤولة عن كافة ولادات البلدة . وقبل أن تدلف من البيت دوى انفجار عنيف ،هزّ المباني وتصدعت جدران …وأيقظ وحوش الأرض ،لتخرج من أوجارها . صرخت أمّ ماجدة : – يا إلهي !… – الله أكبر فعلوها أولاد …الله يسترنا من شرهم . تناولت الطفل ،وراحت تهدئ من روعها ،وتطيب خاطرها : – ماذا ستسميه ؟. – فادي . استولى على الأمّ إحساس غريب ،لاحت الأسماء : – ( خير الأسماء ما حمد وعبد ). توغلت ” ماجدة ” في الأسماء ،مضت الأحرف في ذاكرتها ،كانت شغوفة باسم ” فادي ” فقالت : – فادي كل الأسماء . ازدادت الجذوة اشتعالا في روح أمّها ،أخذت تنعم النظر في وجه المولود، أسرعت لإحضار وعاء من الماء ،وضعت الطفل في وسطه ،غسلت جسده ، غنت سموك فادي ،سنرقص لأجلك ،مادمت حيا ونشبع جلدك بالملح ) . استرسلت بتلذذ كبير بعبارات الأغنية ، صبت الماء على جسده ، كانت عيناه تنظران إلى اللانهاية ،فأخذ يظهر شيئا من الاحتجاج ،مما جعل أعصابها ترتجف ،و لم تهدأ حتى لفته بحزام من قماش القطن ،وبهدوء وضعته بجانب أمّه ،وأسرعت تقدم لها شرابا خاصا يقدم للمرأة في حالة النفاس : – هنيئا ( أمس انتهينا فلا كنا ولا كان يا صاحب الوعد خل الوعد نسيانا طاف النعاس على ماضيك وارتحل حدائق العمر بكين فاهدأ الآن كان الوداع ابتسامات مبللة بالدمع حينا وبالتذكار أحيانا حتى الهدايا وكانت كل ثروتنا ليل الوداع نسيناها هدايانا ) هدأت نفسها من ذكرى أليمة ،في جو يسوده الضباب ،ترك في نفسها أسوأ انطباع ،رأت الأشياء ،وكل الموجودات ،كانت عقارب الساعة تزحف إلى موعد اللقاء.اتخذت لنفسها مبدأ ( أنها جاءت لذات الأمر ) . ليست من النساء اللواتي تخور عزيمتهن ،ولم يتح الوقت للانتظار ، ارتمت أمام مقود السيارة ،حزينة مجللة بالسواد ،قررت أن تذهب إلى مقهى الروضة ،بغية أن تقابل المحامي ” صابر “الذي وكلته النيابة للدفاع عنها يوم أطلقت النار على زوجها ، يومذاك حجزتها المحكمة في سجن النساء ،كانت ما تزال في شرخ الصبا،وقد تربت في بيت زوج أمّها ،فكانت تشاركهما الأفراح والأحزان ،إلى حين عصفت ريح الخريف في داخلها . فأحس “صابر ” بشيء يحفزه إلى التعاطف معها فلم يبح بسرّه :” أليس حرام أن يعرض هذا الجمال لمباضع الجزارين “؟. منذ أن غادر القرية لم تعد تعرف عنه شيئا .انطلقت السيارة تشق ضباب الشارع ،وطيلة المسافة تستحضر العبارات ،تدخرها إلى تلك المقابلة ،تحدثت في نفسها : ” يا إلهي !… لم أحضر إلى هنا إلا لأطلب ولدي …هل هذا ضرب من المستحيل،لقد قضى والدي أيّام ولادتي ” ؟. جعلتها الذكرى تفقد صوابها ،فغدت كمن تنبش الذكريات من الركام ،شعرت أنها تدفع ” صابر ” إلى مغامرة ربما تودي بحياته ،بادئ ذي بدء أنبها ضميرها ،فصمتت مليا ،فركت كفيها بإطار المقود ،شعرت بالضيق ، أدركت أنه ليس هناك من يستطيع إحضار ولدها غيره ،قالت بهدوء : – نعم ،لا غيره … كانت عل استعداد أن تضحي بكل ما تملك من ثروة ، ،مقابل عودة ولدها فلذة كبدها ، وكيف لم تبحث عنه ،وتثأر لنفسها ممن جعلها مضغة على الأفواه ،وجعلها تعيش الفاقة بكل معانيها ،وكيف وهي اليوم غير الماضي ،الآن يحسب لها ألف حساب ،و تعد امرأة واسعة الثراء ، أليس هي من دفعت سمعتها ثمنا لحريتها ،تزاحمت في نفسها معايير الحقيقة فسألت ذاتها : ” ترى حريتي أمْ ولدي “؟. كانت المقارنة صعبة ،انتفضت من الركام ( كالفينيق )، فحرك حزنها حجارة السنين ،كانت في المدى المنظور كالموتى ترتدي قميصا أبيض سابحة في فضاء فيروزي ،وراحت تناجي ذاتها :” ليموت ألف ولد …وتبقى الحرية ” . فهي لا تنسى أن وظيفة المرأة الإنجاب : – هل من يقاوم قوانين الطبيعة ؟. عادت إلى سيارتها لا تدري كيف مسحت الحمرة وراحت تستحضر الكلمات البيضاء وتمنت لو اتيحت لها الفرصة كلي تهدم سياج البعد الذي صنعه القدر ،منذ ذلك اليوم بدأ العالم بالزوال أمام ناظرها ،والمدن خلت من سكانها وتحولت في ذاتها الدقائق إلى عناكب تقفز بين السطور والفواصل ترتدي ثوب اليعاسيب وتطير ،أما الأشجار المترامية من بعيد غدت أرقاما لعدد صرير السريرعلى غدائر اللهاث ،لكن السيارة تحركت كنحلة تبحث عن القطر في شوارع حمص ،وغدت الأمنيات تسكن أبراجها كالحمائم وكان عليها أن تحظى بصابر الذي دافع عنها أمام المحكمة دون أجر فقالت : – سأجده . شعرت بحيرة كادت تشل لسانها ،ووجدت نفسها تندفع بسيارتها بسرعة كبيرة . تثاقلت أهدابها من الدفء ،وغالبها النعاس ،رحلت بعيدا مع الأحلام ،مضت على ضفة النهر ،مستغرقة ضجرة ،كان النهر يزدحم بالطيور ، برزت أصوات الحيوانات ،وامتلأ سواد الليل المتقهقر بخوار البقر وثغاء الماشية ،و غناء الفلاحين ،ورقص المناجل على إيقاع النور الآخذ بالتيقظ ،وبدت واحات النخيل موشحة بالغسق ،فاختلط الأمر في ذهنها ،وبسخاء أمرت للأطيار بالقمح ،فأخبرتها الطيور عن كل الطقوس ،وقد توصلت إليها بعقلية من يبحث عن الحقيقة ،وفجأة وقف رجل بجانبها ،نظرت إليه بصمت ،كان ذكيا ،يمتاز بوجه جميل فقال : – هل وجدت ضالتك ؟. – لا … – يسرني خدمتك . – حسنا أريد فادى … – لا ما نع .. صرخت : – استحلفك بنخيل العراق ،من أنت ؟. وقبل أن يرد الجواب وجدت نفسها تنهض من النوم ،فأخذت تطوف بين أرجاء البيت ،وراحت تستعيد أحلامها ،كانت مستعدة للأخذ بالثأر ،بدا في عقلها رغبة في حب الاستطلاع ،تذكرت ذلك اليوم ،حين طلقها زوجها ثلاثا ،واقسم أن ينفذ فعله ،ويحرمها من ولدها ،وقد نفذ رغبته ،حين رفع بحقها دعوى طلاق بجرم الزنا،وقد دعمها بشهود بعدد أصابع اليدين ،أقسموا اليمين بهتانا وزورا أمام القاضي ،فلم تتمالك أعصابها ،تناولت مسدسا من صدرها ،وأطلقت النار على المفتري ،فهوى على الأرض ،يتخبط بدمه كالذبحية ،قبضوا عليها ،ووضع أحدهم القيد بيديها ،وهناك بين الجدران البائسة ،ألبسوها ثياب المجرمين ، وأودعوها ـ
     الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن
  • الكاتبة مارلين روبنسون وقلادة باراك أوباما ( Marilynne Robinson ) (مواليد 26 نوفمبر 1943) روائية أمريكية .. ومن أشهرأعمالها:( التدبير المنزلي ) – (جلعاد) – (البلد الأم) – (وفاة آدم)  ..

    الكاتبة مارلين روبنسون وقلادة باراك أوباما ( Marilynne Robinson ) (مواليد 26 نوفمبر 1943) روائية أمريكية .. ومن أشهرأعمالها:( التدبير المنزلي ) – (جلعاد) – (البلد الأم) – (وفاة آدم) ..

     

    مارلين روبنسون
    من ويكيبيديا،
    مارلين روبنسون (بالإنجليزية: Marilynne Robinson) (مواليد 26 نوفمبر 1943) روائية أمريكية. حازت روايتها “التدبير المنزلي” Housekeeping في 1980 على جائزة بين الأدبية من مؤسسة همنغواي “Hemingway Foundation/PEN Award” كأول رواية أولى. كما رشحت لجائزة بلتزر للأدب القصصي. روايتها الثانية “جلعاد” Gilead والتي نشرت في 2004 فازت بجائزة بلتزر في الأدب القصصي في 2005 إضافةً إلى جائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية “NBCC” في 2004 بالولايات المتحدة وكذلك جائزة أمباسدور للكتاب في 2005.
    روايتها الثالثة “هوم” أو “بيتنا” أو “في منزلنا” Home التي صدرت في 2008 حازت على احدى جوائز جريدة لوس أنجليس تايمز للكتاب في 2008،[1] إضافةً لجائزة أورانج للأداب في 2009.[2] وكانت من أبرز المرشحين النهائيين لنيل جائزة الكتاب القومي “National Book Award” في أمريكا[3]. قامت بالقاء مجموعة من محاضرات تيري في جامعة يايل شملت سلسلة من النقاشات تحت عنوان: “غياب العقل:من باطن تبديد أسطورة الحديث عن الذات” (بالإنجليزية: Absence of Mind: The Dispelling of Inwardness from the Modern Myth of the Self.)

    الروائية مارلين روبنسون وقلادة باراك أوباما
    بقلم :  عبدالواحد محمد  – مصر
    تجربة الروائية الأمريكية مارلين روبنسون ربما تبدو تجربة شخصية لكنها أيضا تجربة عامة من خلال عملها الأدبي بجامعة أيوا بكل إنعكاساتها الاجتماعية التي بلورتها إبداعا في اعمالها الروائية المتعددة ومنها روايتها المعروفة ( التدبير المنزلي ) والتي جسدت كثيرا من ملامح أمريكية ؟!   وتنظم مؤسسة سلطان ين علي العويس الثقافية في مطلع العام الميلادي الجديد 2014 م لقاءاً أدبياً مفتوحاً مع الروائية الأميركية مارلين روبنسون حيث ستتحدث روبنسون عن تجربتها الشخصية والروائية في الكتابة وذلك في الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء 15 يناير 2014 في قاعة الندوات بمؤسسة العويس الثقافية بدبي. ومارلين روبنسون روائية أميركية . من مؤلفاتها روايات:  (التدبير المنزلي) عام 1981 , و (جلعاد) عام 2004 , بالإضافة للكتب غير الروائية مثل (البلد الأم) عام 1989 ، و (وفاة آدم) عام 1998.
    بدأت روبنسون عملها كأستاذة لمادة الكتابة الإبداعية في ورش عمل الكتاب بجامعة أيوا الأمريكية , والتي ما زالت تدرس بها حتى اليوم. ولدت روبنسون عام 1943 بمدينة ساندبوينت في ولاية أيداهو الأمريكية.
    بعد حصولها على الشهادة الثانوية من مدرستها بمدينة ساندبوينت , التحقت روبنسون بجامعة بروان وتخرجت منها في عام 1966 , ثم التحقت بعد ذلك ببرنامج الدراسات العليا – تخصص لغة إنجليزية – في جامعة واشنطن . وقد بدأت في تلك الفترة كتابة روايتها (التدبير المنزلي) , وذلك في عام 1981, وهي الرواية التي حصلت على جائزة “بين” الأدبية لأفضل رواية أولى من مؤسسة هيمنغواي وتم ترشيحها أيضا لجائزة بولتزر للأدب القصصي. إضافة إلى ذلك تم إدراج نفس الرواية في قائمة جريدة “نيويورك تايمز” لأفضل الكتب في القرن العشرين , كما تم اختيارها كواحدة من أعظم مائة رواية على الإطلاق من قبل جريدة يوكاي غارديان أوبسرفر . بعد صدور رواية  (التدبير المنزلي) , بدأت روبنسون في كتابة  المقالات وتحليلات الكتب في عدد من الدوريات و المجلات الأدبية مثل  (هاربرز) و(باريس ريفيو) و نيويورك تايمز بوك ريفيو. ثم عملت ككاتبة مقيمة و أستاذ زائر في العديد من الكليات و الجامعات , مثل جامعة كنت بالمملكة المتحدة و كلية أمهيرست وجامعة ماساتشوستس . وقد نجح كتابها الثاني (البلد الأم : بريطانيا ـ دولة الرفاهة و التلوث النووي ) في تسليط الضوء على الأضرار البيئية الجسيمة التي أحدثها مصنع إعادة تصنيع الوقود النووي في مدينة سيلافيلد البريطانية (1988) .
    وفي عام 2004, أصدرت روبنسون روايتها الثانية تحت عنوان (جلعاد) , وذلك بعد مرور 23 عاما على إصدار روايتها الأولى  (التدبير المنزلي). وتقع أحداث رواية( جلعاد) في بلدة وهمية في ولاية أيوا . و تأتي الرواية في صورة سلسلة من الرسائل يكتبها بطل الرواية القس جون أيمز لولده ذو الأعوام السبعة , وهو يواجه حتمية الموت . وقد حازت روبنسون عن هذه الرواية على جائزة بولتزر للأدب القصصي و أصبحت أشهر أعمالها . وبعد مرور أربعة أعوام , أصدرت روبنسون روايتها  (المنزل) وذلك في عام 2008, وهي الجزء الثاني من رواية (جلعاد) .
    وقد قلد الرئيس الأمريكي باراك أوباما الكاتبة مارلين روبنسون قلادة العلوم الإنسانية الوطنية تقديرا “لجمال وذكاء أسلوبها في الكتابة” . وقد أثنت الجائزة على كتابات روبنسون وذلك لتميزها من حيث ” الشجاعة الأخلاقية و جماليات الكتابة”, و أضاف بيان الجائزة : “إن مؤلفات د. روبنسون الروائية و غير الروائية نجحت في اقتفاء أثر الروابط الأخلاقية التي تجمعنا بالآخرين , إضافة إلى استكشاف العالم الذي نسكنه وتعريف الحقائق الكونية عن الإنسان .
    عبدالواحد محمد – كاتب وروائي عربي من مصر..


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    روبنسون تتحدث عن تجربتها الأدبية في «العويس الثقافية»
    المصدر: دبي ـــ وام
    أوباما منح مارلين روبنسون قلادة العلوم الإنسانية
    تنظم مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، مساء بعد غد، بقاعة الندوات في المؤسسة بدبي، لقاء أدبيا مفتوحاً مع الروائية الأميركية مارلين روبنسون، التي ستتحدث عن تجربتها الشخصية والروائية في الكتابة.


    «جلعاد»
    أصدرت روبنسون روايتها الثانية «جلعاد»، بعد مرور 23 عاماً على إصدار روايتها الأولى. وتقع أحداث «جلعاد» في بلدة وهمية بولاية أيوا، وتأتي في صورة سلسلة من الرسائل، التي يكتبها بطل الرواية لولده ذي الأعوام السبعة، وهو يواجه حتمية الموت.
    وحازت روبنسون ـــ عن هذه الرواية ـــ جائزة «بولتزر»، وأصبحت أشهر أعمالها.
    ومن مؤلفات روبنسون رواية «التدبير المنزلي» عام 1981، إضافة إلى الكتب غير الروائية، مثل «البلد الأم» عام 1989، و«وفاة آدم» عام 1998.
    وبدأت روبنسون عملها أستاذة لمادة الكتابة الإبداعية في ورش عمل الكتاب بجامعة أيوا الأميركية، ولاتزال تدرس بها.
    ولدت روبنسون عام 1943، بمدينة ساندبوينت في ولاية أيداهو الأميركية، وبعد حصولها على الشهادة الثانوية من مدرستها بمدينة ساندبوينت التحقت بالجامعة، وتخرجت فيها عام 1966، ثم التحقت بعد ذلك ببرنامج الدراسات العليا ـــ تخصص لغة إنجليزية ـــ في جامعة واشنطن، وبدأت في تلك الفترة كتابة روايتها «التدبير المنزلي»، وهي الرواية التي حصلت على جائزة «بين» الأدبية لأفضل رواية أولى من مؤسسة هيمنغواي، وتم ترشيحها أيضا لجائزة بولتزر للأدب القصصي، إضافة إلى ذلك تم إدراج الرواية نفسها في قائمة جريدة «نيويورك تايمز» لأفضل الكتب في القرن الـ20، كما تم اختيارها كواحدة من أعظم 100 رواية على الإطلاق من قبل جريدة «يوكاي غارديان أوبسرفر».
    بعد صدور «التدبير المنزلي»، بدأت روبنسون في كتابة المقالات، وتحليلات الكتب في عدد من الدوريات والمجلات الأدبية، مثل «هاربرز»، و«باريس ريفيو»، و«نيويورك تايمز بوك ريفيو». وعملت كاتبة مقيمة وأستاذاً زائراً في العديد من الكليات والجامعات، مثل جامعة كنت بالمملكة المتحدة، وجامعة ماساتشوستس.

    ومنح الرئيس الأميركي باراك أوباما الكاتبة مارلين روبنسون قلادة العلوم الإنسانية الوطنية، تقديراً «لجمال وذكاء أسلوبها في الكتابة»، وأثنت الجائزة على كتابات روبنسون لتميزها.

     

     

  • بقلم : علي الصيرفي – مدخل في ادبيات القاص والروائي السوري : نبيه اسكندر الحسن .. بمجموعته ( أحلام مشتتة ) ..

    بقلم : علي الصيرفي – مدخل في ادبيات القاص والروائي السوري : نبيه اسكندر الحسن .. بمجموعته ( أحلام مشتتة ) ..

    مدخل في ادبيات القاص والروائي السوري : نبيه اسكندر الحسن ..
    بقلم : علي الصيرفي – سوريا

    (أحلام مشتتة) تأتي هذه المجموعة بعد مجموعات الأديب السابقة” الهدية” دليل الأمّ “و” سوريا الأمّ ” .قوة الفعل القصي في بناء الحدث عند الأديب القاص والروائي نبيه اسكندرالحسن..القص آلية تمثل الوعي الذي يعبر عن فكرنا الكتابي
    إن الحديث الذي سنسوقه عن القص يمكننا من التعرف على ما يكتب ، وما يصدر عن الأدباء في الوقت الحالي ، فالكتابة إمكان من نوع فريد ، وهي تعني كل الممكنات ، ولها طابعها الفريد إلى حد تسميتها الرائدة في كل المجالات ، ويكون من الخطأ الظن بأن القص يفلت من المستوى الممتاز للأعمال الكتابية ، فالقص كالشعر يحب التربع في المقام الأول ، إذا هنالك صيغ جديدة لظهور القص وتقدمه على طريق التمرد والاندفاع نحو الأمام ، عندما يتخلص الكاتب من محبطاته وتمسكه بما لديه من أدوات وأحداث ملقياً بها في محيط قصه ، وهذا ما فعله الأديب القاص نبيه إسكندر الحسن ، عندما انطلق يبحث في بيئته، وبين جدران الغرف البائسة في عالمه وفي وجوه الصغار والكبار وفي انتفاخات بطون أصحاب الأموال فكان يجمع ويضم إلى باقات قصه تلك الأحلام المشتتة التي كتبها حقاً إنها أحلام مشتتة في زمن يحمل كل التشتت والتقطع ، والانحلال .
    فالقص في هذه الآلية لا يعتبر تنازلاً بل يمثل الوعي الذي يشد إليه البيان الأول من فكرنا الواعي ، فالكاتب لا يبغي إلا أن تبرز الكتابة إلى النور فمن الصعب تجاهل النشاط الواعي الذي نجده في قص الكاتب ، والإدراك لكل ما يدور حوله فمجموعة (أحلام مشتتة ) جاءت لتبرهن أن الكاتب على علاقة مميزة مع محيطه وشخوصه ، وهو لا يقبع خارج محيطه وأنظاره تتجه إلى الخلف بل هو يقف دائماً على مقربة مما يدور ويحصل ، كما أنه لا يترك ما يحمله الوعي القصصي إليه أن يفلت منه بل يمسك به ، ويأخذ على عاتقه أن ينقل الحالة التي تتشكل فيها الجمل المثقلة بالأحداث .
    رحلت إلى رمال الشاطئ منتصف الليل ، رحت أمشي الهوينا على الرمل ساقت الريح غيوماً سوداء كحلت وجه القمر ، أردت أن أسكن روعي ، فأخذت أبحث عن ماهية الأشياء ومن خلال جولاتي رأيت أناسا ًدون مأوى شيعت بناظري مدينة هاجعة تشع من عماراتها أضواء خابية ،خصصت لليالي الحمراء )ص9القص يدخل كل المناطق المحرمة ويرفع يده عالياً فوق رؤوسنا
    1ـ إن تمزق المفهوم المألوف في الكتابة ، وظهور ما يقوم به القص من مساحات تشكيلية جديدة تحمل بنائية تعمل من خلال أدوات ظهرت فيها روح الجدية والتعمق، واعتبار الفكر هو القدرة على لقط الحدث وصياغته بالشكل الفني الذي يخدم القارئ ويدخله في حلبة القص وجمالياته، فالحلبة تدل على القوة ، والجماليات هي الروعة في انتقاء التشكيل والبناء وفي هذين المضمارين تمكن الأديب القاص نبيه إسكندر الحسن أن يفعل الكثير ، فقد نفذ من خلال وعيه إلى قلب الأحداث وعقول شخوصه ، حاورهم قرأ لغة عيونهم ، استمع إلى أساطيرهم ونجواهم فكر في كلماتهم ، وحمّلها معاني أكثر كما يجب ، وظل سارداً لكل ما تلقطه عيناه من حادثات ،فاختلط مع الموج القادم، وحمل رذاذ المطر ، وشرب من الكؤوس التي مرت عليها شفاه العطاش ، حاول أن يدخل في قدسية الأماكن التي تخرج منها الكتابة ، فكانت موضوعاته تمتزج بروح الناس وأفكارهم، حتى صارت الحقيقة التي يكتبها فراشات تطير في كل الحقول، وتحمل معها سمفونيات يستمع لها كل المنشغلين في الهم المرسوم ، فهل نجح الأديب فيما أراد .
    إن القص يذهب إلى أبعد المناطق ،وأعمق الأحاسيس ، ويدخل في كل المحرمات ويرفع يده عالياً فوق رؤوسنا وسبابته مصوبة ، تحدد كل الأشياء الموجودة في المجتمع ، إن تشابكات الأحداث تشكل نوعاً من الرؤية الواضحة للقص تتجسد في لغة الأديب لتقوده على دروب المحكي ، وكلها تشير إلى مصدر القص وإلى المناطق العليا التي يحس إنه قادر على الوصول إليها بفضل قوته الذاتية .
    (هربت إلى بيارات البرتقال البليلة بندى الصباح البكر، تتشبث بالأرض و تشرش في أعماق التربة ، أدركت أنها المعجزة ، حين تأكدت أن الطوفان قادم لا ريب، اليم يؤكد الهيجان والأمواج ترغي وتزبد ، ومن الزبد نبقت أفروديت ومن عرض البحار اصطحبت أثينا (أوليس )فأثلجت قلب بنلوب )ص14الحدث بقسوته هو الخط الأساسي لأفعال القص.2 ـ ليس في وسع الأديب أن يهرب من الصراع القائم بين الإنسان والواقع لأنه سيكون مدفوعاً نحوه يسقط كل امكاناته لتحليل هذا الواقع ، والقاص ينغلق في كثير من الاتجاهات في حدث ينتقيه ليجد فيه ضالته الكتابية فيدفع فيه قوته الفكرية ، ويؤكد قدرة الوعي وحركة العقل في كل ما يريد قصه من خلال الأفعال التي يستخدمها الأديب، فالقص كما هو كتابة ، هو وعي وإدراك وقدرة على تحويل العادي إلى مهم ومتداول ، وهذا ما يفعله القاص ، حين يدرك أن عمله مختلف عن الكتابات العادية ، فالقص عندما يناقش تناهي الحدث يصل إلى موضوع الزمان والمكان ويعمل على أن الإنسان هو مخلوق في هذا الدهر ، والزمن يعمل به في كل محطات حياته فالأحداث بحزنها وقسوتها وروائعها ، تظل هي الخطوط الأساسية التي يتعامل معها القص ، فتدخل
    أفعال القص في بنائية الحدث ، وتصنع بنيويته في كل مراحل الخلق وفي ولادة الفعل والفكرة والجمال أيضاً.(وثبت عيني في البعيد ، مسحت الغوطة الممتدة في الخضرة على مدى العين تجلى فيّ ما كان خافياً تحدثت مع ذاتي-يا إلهي حقاً هي العينان علماء البصريات جاؤوا بكل ما هو فائدة للناس . ).ص-15
    ومع أن الانشغال في القص هو نوع من الاضطراب في المنظر العام عند القاص إلا أن الكاتب نبيه الحسن يبدأ عمله من وعي مكثف للموقف القائم فعلاً مما يؤدي إلى تواصل مع الإرادة المنطلقة من وعيه وتفكيره فالموقف عنده يحدث قلقاً حاداً يحول دون الهروب من اتخاذ قرارات يحاول فيها التغيير والتجديد وتلك ميزة عند الأديب تمثل الجرأة والإقدام ، فهو يقتحم المستقبل محاولاً العثور على الأمان في أساطير الماضي ، وقد يكون هذا الموقف من المواقف التي يشعر فيها بوطأة القهر وعدم شق هذه الحجب التي تتبلد في سماء شخوصه إذ يظهر كل شيء أمامه بدون أمل فيندفع الكاتب إلى اختلاق فعل قسري من خلال الحس الغريزي أو أي دافع مماثل يُقطع أمام الفشل .
    3- كما أن هناك لا توازن بين الحاضر وما هو واقع وربما تكون هذه الحالة أكثر الحالات انتقاءً لدى الأديب ، فالتيه الذي يمتد أمام عينيه مساحاته شاسعة يدفع إلى الضياع في طريقة التعامل الإنساني فتتحول الأمور إلى تصرفات غرائزية حيوانية ، فالافتراس والاندفاع نحو التشفي والتهام الأشياء تحت عنوة السيطرة ، تدفع الأديب إلى إظهار الإرادة وأفعالها ، حيث أن فكرة اللاتوازن في الحياة بين الأنظمة والموجودات ، تدفع إلى رفض الكثير إلى التجاذبات والتطلع إلى إضاءات يمكن أن تحول هذا التقزم والقرف إلى نور ومستقبل ، فمن دموع المسحوقين وبكاء الصغار وأحلام العشاق ، وسفر النوارس وإبحار الأشرعة ، تصاغ الحكايات التي تقذف الأفكار و تصيغ القص ليكون هو الحلم والصورة .
    ( ولولت الزوابع ، كاد يفقد توازنه ، فانطلق كالهارب من الأيام وبدا اليأس مكتوباً على سحنته ، وثمة سناجب تمد رؤوسها من أوجارها وسرعان ما تختفي تحسباً،وقف حمدان خوفاً من أنياب مفترسة طالعة ، الجدل كان بالنسبة إليه خمر يرتوي من دنانه المعتقة ، هاجت في داخله رياح هزت مشاعره أثارت حماسته فسأله أين عروسك)ص47ومن خلال ذلك سيلاحظ القارئ أن ما قمنا به هو مقاربة لحدود العمل الذي ابتغاه الكاتب وأولاه معظم همه وجهده ، ومع ذلك فإن أي قرار يتعلق برسالة الكاتب في حياته ينطوي على إرهاصات تجعله في نفس الوقت يرفض ممكنات كثيرة يجد فيها الظلم والسيطرة والإجهاض قد هيمن على روح المحبة والتقدم فالقص من الناحية الجمعية الفكرية عند الكاتب هو الطريقة للمشاركة في بناء عالمه وفي الوقت نفسه البؤرة التي ينظر منها ويحدد ردود أفعاله بموجبها فالحياة هي ذاتها من أهداف القص عند الأديب ، ومن خلال حركتها الدائمة يتلاقى العمل الكتابي بين الأديب والمعطى حيث يغوص الكاتب في عمق العلاقات ويتحدث مع كائناته بشكل حميمي حتى أنه يبكي معهم ويفرح لانتصاراتهم ، فالإنسان لديه هو موجود فاعل ، وهو موضوع قصي يدخل في أساس العمل الكتابي بما لديه من مشكلات تتنامى وتتجمع في فكر الكاتب ، لتنتثر فوق السطور ، وتخلق الهيكلية الكتابية لكل خيالاته ، فالقص مناجم لمعادن مختلفة يعمل القاص على إخراج فلذاتها ، وتنقيتها بتقنياته التي يتعامل معها لذلك أدرك القاص نبيه الحسن بأن الاستخدام الأمثل للقص هو القص حيث يجد أن الخط الجامع للأدوات ودفعها في بناء قصصي كتابي هي الأفعال الحدثية التي ينتقيها ويجيد استعمالها ،
    (ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء خطفت بصري شجرة سنديان تأوي عصافير غريدة خامرني إحساس أن الخيط الأبيض يلاحق جحافل الليل،اعتراني الملل فقلت يالعنة الجحيم أين العصافير؟- لقد شردها الخريف أطرقت ملياً، عزيف الريح نائحة ثكلى ، استولى عليّ إحساس أن أحذر من اللصوص وأشير إلى مواضع الخراب ، دعتني الفكرة أن أنقب عن الحقيقة في أمهات المعاجم) ص72
    عمل الأديب نبيه اسكندر الحسن على ضخ كل الرؤى التي تََصَوَّرها مجتمعه وبين ما يريده شخوصه من خلال النجوى والمنعكسات الداخلية التي تتدفق من الداخل المجرح ، فهو يعلم أن القوى الغادرة تتجمع باستمرار لتخرب كل ما يحلم به البائسون ، فالرحى التي تطحن لا تقف بل لا تشبع لأنها تمزق حتى الأجنة في أرحام النساء ، ومع كل هذا الظلم والعنف لم ييأس الأديب من المضي إلى منارة الحياة وإلى عين الخلود التي شرب منها انكيدو وحصل على الحياة ، إنه كطائر الفينيق يحب أن ينبعث من الرماد وفي كل مرة ليكتب شيئاً جديداً ينير الطريق.
    الناقد علي الصيرفي

  • على جائزة “البوكر العربية” يتنافس 16 روائيا عربيا واختيرت من بين 156 رواية ينتمي كتابها إلى 18 دولة عربية.

    على جائزة “البوكر العربية” يتنافس 16 روائيا عربيا واختيرت من بين 156 رواية ينتمي كتابها إلى 18 دولة عربية.

    16 روائيا عربيا يتنافسون على البوكر

    16 روائيا عربيا يتنافسون على البوكر16 روائيا عربيا يتنافسون على البوكر

    سكاى نيوز عربية 

    يخوض 16 روائيا عربيا المنافسة الأولية على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2014 في دورتها السابعة، التي تعرف بجائزة “البوكر العربية”. وكان القائمون على الجائزة أعلنوا في أبوظبي عن القائمة الطويلة للروايات المرشحة لنيل الجائزة، على أن يكشف عن القائمة الصغيرة في فبراير.

    وتضم 16 القائمة الطويلة رواية لكتاب من تسع دول عربية، واختيرت من بين 156 رواية ينتمي كتابها إلى 18 دولة عربية.

    وقالت إدارة الجائزة في بيان إن القائمة الطويلة تضم ثلاث روايات من العراق، “ليل علي بابا الحزين” لعبد الخالق الركابي و”طشاري” لإنعام كجه جي و”فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي. كما تضم ثلاث روايات من مصر، هي “الإسكندرية في غيمة” لإبراهيم عبد المجيد، و”منافي الرب” لأشرف الخمايسي و”الفيل الأزرق” لأحمد مراد.

    أما من المغرب، فتخوض المنافسات “تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية” لعبد الرحيم الحبيبي إلى جانب “طائر أزرق نادر يحلق معي” ليوسف فاضل و”موسم صيد الزنجور” لإسماعيل غزولي.

    ومن بين الروايات المرشحة الأخرى، “في حضرة العنقاء والخل الوفي” للكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، و”رماد الشرق: الذئب الذي نبت في البراري” للجزائري واسيني الأعرج. ومن بين الأسماء المرشحة أيضا، السعودية بدرية البشر عن رواية “غراميات شارع الأعشى”، والسوري خالد خليفة عن “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”.

    وعن لبنان، ينافس أنطون الدويهي من خلال رواية “حامل الوردة الأرجوانية”، بالإضافة للسوداني أمير تاج السر عن “336” والفلسطيني إبراهيم نصر الله عن “شرفات الهاوية”.

    وجرى اختيار الروايات من قبل لجنة مكونة من خمسة محكمين، سيتم الإعلان عن أسمائهم في عمان في العاشر من فبراير المقبل، وهو تاريخ الإعلان عن القائمة القصيرة التي تضم ستة أعمال.

    وتهدف الجائزة إلى إيصال الصوت الروائي العربي إلى العالمية، عبر ترجمة الأعمال الفائزة إلى اللغة الإنكليزية. وقد تمت حتى الآن ترجمة أعمال كل من بهاء طاهر (2008)، ويوسف زيدان (2009)، وعبده خال (2010) ومحمد الأشعري ورجاء عالم (2011).

    وحدد المنظمون يوم الثلاثاء 29 أبريل 2014 للإعلان عن اسم الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية في احتفال يقام في أبوظبي عشية افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب. ويحصل كل من المرشحين الستة في القائمة القصيرة على عشرة آلاف دولار، كما يحصل الفائز بالجائزة على خمسين ألف دولار أميركي إضافية.

  • مسيرة الكاتب زكريا تامر الروائي والقاص السوري.. نماذج من أعماله..

    مسيرة الكاتب زكريا تامر الروائي والقاص السوري.. نماذج من أعماله..

    الكاتب زكريا تامر

    بطاقة تعريف الكاتب
    ولد زكريا تامر بدمشق عام 1931، واضطر الى ترك الدراسة عام 1944، وبدأ كتابة القصة عام 1958، وكتب ايضاً المقالة القصيرة الانتقادية وقصص الاطفال، ويقيم في بريطانيا منذ عام 1981.تولى مناصب عدة منها على سبيل المثال رئيس تحرير لمجلة الموقف الادبي السورية، ومدير تحرير لمجلة الدستور بلندن، ومدير تحرير لمجلة الناقد، اضافة الى عمله كمحرر ثقافي لدى شركة رياض الريس للكتب والنشر بلندن. صدرت اولى مجموعاته عام 1960 وكانت بعنوان «صهيل الجواد الابيض». وتعتبر مجموعة النمور في اليوم العاشر من العلامات الكبرى في مسيرته القصصيةوقد اعدت عن قصصه دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه في العديد من الجامعات العربية والاوروبية.

    كما ترجمت اعماله الى اللغة الفرنسية والروسية والانجليزية والالمانية والايطالية والبلغارية، والاسبانية «كتابان» والصربية (ثلاثة كتب). كتب 27 قصة للاطفال تشرف في كتيبات مصورة وفي عام 1985 كان يعد صفحتين اسبوعيتين للاطفال في جريدة «القبس» الكويتية، وكذلك كان يقوم بالاشراف على صفحات الاطفال لمدة سنتين بجريدة «الاخبار» الاردنية، فضلا عن الزوايا الاسبوعية واليومية والشهرية في عدد من المجلات السورية والعربية بشكل عام.

    ولقد ساهم زكريا تامر في تأسيس اتحاد الكتاب بسوريا في اواخر عام 1969 وكان رئيسا للجنة سيناريوهات افلام القطاع الخاص في مؤسسة السينما في سوريا. شارك في مؤتمرات وندوات عقدت في بقاع شتى من العالم. وكان رئيسا للجنة التحكيم في المسابقة القصصية التي اجرتها جريدة «تشرين» السورية عام 1981، والمسابقة التي اجرتها جامعة اللاذقية عام 1979، وكان عضوا بلجنة المسابقة القصصية بمجلة «التضامن» بلندن واخيرا صدر له في الشهر الماضي مجموعة قصصية جديدة بعنوان «تكسير ركب».

    ـ الوظائف التي عمل بها خلال حياته:
    ـ عمل في مهن يدوية عديدة.
    ـ عمل في مديرية التأليف والنشر في وزارة الثقافة السورية.
    ـ عمل رئيس تحرير الجريدة الاسبوعية (الموقف العربي) السورية.
    ـ كاتب نصوص في تلفزيون جدة في السعودية.
    ـ عمل في وزارة الاعلام السورية.
    ـ رئيس تحرير مجلة (رافع) للاطفال السورية.
    ـ رئيس تحرير مجلة (الموقف الادبي) السورية.
    ـ رئيس تحرير مجلة (اسامة) للاطفال السورية.
    ـ مدير تحرير مجلة (الدستور) لندن.
    ـ محرر ثقافي في مجلة (التضامن) بلندن.
    ـ مدير تحرير مجلة (الناقد) ومحرر ثقافي لدى شركة رياض الريس للكتب والنشر بلندن.

    اهم المؤلفات
    ـ صهيل الجواد الابيض: (قصص) 1960م.
    ـ ربيع في الرماد (قصص) 1963م.
    ـ الرعد: (قصص) 1970م.
    ـ دمشق الحرائق: (قصص) 1973م.
    ـ لماذا سكت النهر: (53 قصة للاطفال) 1973م.
    ـ النمور في اليوم العاشر: (قصص) 1978م.
    ـ قالت الوردة للسنونو: (18 قصة للاطفال) 1978م.
    ـ نداء نوح: (قصص) 1994م.
    ـ سنضحك: (قصص) 1998م.
    ـ أف! : (مختارات قصصية) 1998م.
    ـ الحصرم: (قصص) 2000م.
    ـ 37 قصة للاطفال نشرت في كتيبات مصورة 2000م.

    ـ اعدت عن قصصه دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه في العديد من الجامعات العربية والاوروبية، وترجمت قصصه ونشرت في كتب باللغات الفرنسية والروسية والانجليزية والالمانية والايطالية والبلغارية والاسبانية والصربية.
    ـ كاتب زوايا في العديد من الصحف العربية.
    ـ واشرف على تحرير صفحات ثقافية في عدد من الصحف العربية.
    ـ اعد واشرف على تحرير صفحات الاطفال في صحف عربية عديدة.
    ـ كان عضوا في جمعية الادباء العرب في سوريا، وساهم في تأسيس اتحاد الكتاب في سوريا في اواخر عام 1969م، وانتخب عضوا في مكتبه التنفيذي مسئولا عن دائرة النشر والمطبوعات، ثم صار نائبا للرئيس مدة اربع سنوات.
    ـ كان رئيسا للجنة سيناريوهات افلام القطاع الخاص في مؤسسة السينما في سوريا.
    ـ شارك في مؤتمرات وندوات ادبية عقدت في سوريا ولبنان ومصر وتونس وليبيا والمغرب والعراق والكويت وقطر والامارات العربية المتحدة والسعودية وروسيا والمانيا وبلغاريا وايران.
    ـ كان رئيسا للجنة التحكيم في المسابقة القصصية التي اجرتها جريدة (تشرين) السورية عام 1981م، ورئيسا للجنة التحكيم في المسابقة التي اجرتها جامعة اللاذقية عام 1979م.
    ـ وعضوا في لجنة المسابقة القصصية لمجلة (التضامن) بلندن، وعضوا في لجنة التحكيم في مسابقتين من المسابقة الروائية التي اجرتها مجلة (الناقد) بلندن.

    نماذج من أعمال الكاتب
    الصفقة
    قبو خاو
    نبوءة كافور الإخشيدي
    يوم أشهب
    الأغصان
    الطائر الأخضر
    سنضحك كثيرا
    انتظار امرأة
    النمور في اليوم العاشر

    الصفقة

    بلغ الجنين من العمر تسعة أشهر، وحان وقت خروجه من بطن أمه إلى العالم كي يظفر باسم وحارة ومدينة ووطن وأهل وأصدقاء، ولكنه لم يصدر عنه ما ينم عن عزمه على مغادرة بطن أمه الذي يقيم به، فقالت له أمه متسائلة بغيظ وسخرية: “إلى متى ستبقى في بطني؟ هل تنتظر حتى تصبح رجلاً ذا شاربين؟ ينبغي لك أن تشفق علي فقد صرت ثقيل الوزن الى حد أني بت لا أستطيع المشي”.
    قال الجنين: “أنا لا أحب السير في الظلام، ولن أغادر بطنك إلا إذا عرفت أولاً أي نوع من الحياة ينتظرني في العالم الذي سأصبح واحداً من أفراده”.
    فكرت الأم قليلاً، ثم قالت لجنينها: “أتريد كذباً يخدعك ويسعدك أم تريد صدقاً يقول لك الحقيقية ويشقيك؟ ”
    قال الجنين فوراً: “أريد الصدق وحده ولا سيما أن الصدق ينجي والكذب يردي”.
    قالت الأم: ” إذن أنصت لما سأقوله”.
    قال الجنين: “قولي ما تشائين، فكلي آذان صاغية”.
    قالت الأم: ” العالم الذي ستحيا فيه معتوه فظ قاس لا يرحم ولا يشفق”.
    قال الجنين: “ما من قوي إلا وفوقه من هو أقوى منه، وما من قاتل نجا من قاتل آخر أهرق دمه”.
    قالت الأم: “ستزرع الورد ولكنك لن تقطف سوى الشوك وحده”.
    قال الجنين:”لن أزرع إلا الشوك كي أقطف الورد”.
    قالت الأم: ” من السهل أن تحزن والمن الصعب أن تفرح”.
    قال الجنين: ” لن أحزن ولن أفرح”.
    قالت الأم: “ستحلم وتتمنى وتحب، فلا تحصد إلا الخيبات وموت الأحلام والآمال”.
    قال الجنين: “سأعرف متى أتكلم ومتى اصمت، وسيندم غيري”.
    قالت الأم: ” الشجرة ذات الثمار الطيبة محكوم عليها بالهلاك بسبب طيب ثمرها”.
    قال الجنين: ” لن أكون شجرة بل سأكون فأساً”.
    قالت الأم : ” الأنهار تظل عذبة الماء حتى تصب في البحار المالحة، والأنهار أقلية والبحار أغلبية”.
    قال الجنين: “بحر كبير مالح خير من نهر صغير عذب المياه”.
    قالت الأم: ” العلم في الصغر كالنقش في الحجر”.
    قال الجنين: ” لا فائدة في العلم، لا في الصغر ولا في الكبر”.
    قالت الأم: ” واجب العاقل إصلاح عيوب نفسه قبل انتقاد عيوب الآخرين”.
    قال الجنين:” عيوبي محاسن يليق بها الثناء، وفضائل الآخرين عيوب شائنة”.
    قالت الأم: ” قد تضطر في أحيان كثيرة إلى أن تغضب، والغضب من شيم الحمقى”.
    قال الجنين:” أن أغضب ويقال عليّ إني أحمق أفضل من أصبح طعاماً لكل الأفواه”.
    قالت الأم: ” من افتقر قلبه لم ينفعه غناه”.
    قالت الجنين:” هذا كلام لا يؤبه له، وأزدري قائله الذي لا بد من أنه كان فقيراً يوشك أن يموت جوعاً، ويده قصيرة وعينه بصيرة”.
    قالت الأم:” ستلتقي أناساً يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة”.
    قال الجنين:” الكلب إذا أكل وشبع كثر نباحه”.
    قالت الأم: “وقد تفقد أصدقاءك صديقاً بعد صديق، ولا غم يشابه غم فقد الأصدقاء”.
    قال الجنين: ” الأصدقاء هم أصدقاء في أيام الرخاء وأعداء في أيام البلاء”.
    قالت الأم:”اللئام كثيرون، واللئيم كالحية لا يوجد عندها إلا السم”.
    قال الجنين:” لن أكون كالطبيب الذي يشرب السم اتكالاً على ما لديه من أدوية”.
    قالت الأم: ” تنبه الى أن الغالب بالشر مغلوب”.
    قال الجنين:” الماء مهما سخن يطفئ النار إذا صب عليها”.
    قالت الأم: “لا نفع في لؤلؤ لا يخرج من بحره”.
    قال الجنين:”من طمع في امتلاك اللؤلؤ، فليدفع الثمن للبحر”.
    قالت الأم:”سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده”.
    قال الجنين:”سعادة المرء أن يكون رزقه من غير تعب”.
    فصاحت الأم بنزق:”إذا كانت لك هذه الآراء، فما مبرر بقائك في بطني؟”
    قال الجنين:”أنا أنتظر أن تطلقي أبي الفقير وتتزوجي من آخر ذي ثراء وجاه ونفوذ”.
    فركضت الأم إلى أقرب مستشفى مشمئزة مستغيثة.
    – من كتاب “نداء نوح”، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة أولى 1994.
    أضيفت في 05/05/2005/ خاص القصة السورية / موقع جسور

    الأغصان

    ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث. ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
    فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
    واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
    ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
    فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
    فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
    فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
    فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
    فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا .

    يوم أشهب

    تمرّن شكري المبيض مع زملائه في السجن تمارين رياضية لا تخلو من العنف، غايتها الحفاظ على سلامة صحته، فأدت إلى إصابة جسمه بالكثير من الرضوض والكدمات والجروح. ومارس شكري المبيض هوايته في شي الكستناء، الفاكهة المفضلة لديه، فأحرقت النار أصابع يديه وقدميه وظهره وصدره وبطنه. وحاول شكري المبيض حلاقة ذقنه صباحًا بينما كان منهمكًا في الاستماع إلى ما يقدمه مذياعه من نشرات أخبار وأغان، فأخطأت يده اليمنى الممسكة بموسى الحلاقة، ولم تخلص جلد الوجه من شعر لا لزوم له، وذبحت بحركة طائشة العنق من الوريد إلى الوريد، فنُقل شكري المبيض توّا إلى أفضل مستشفى، وهناك حاول الأطباء إصلاحه، فعجزوا، ووضعت جثته في كيس من قماش متين، وسلمت إلى سيارة توزع الموتى يوميا على بيوت أهاليهم. ولم يواجه سائقها أي مشقة في الاهتداء إلى بيت أهل شكري المبيض في حارة قويق، ولكنه بوغت به خاليا منذ شهور. فأبوه مقبوض عليه بتهمة التشرد والتسول، وأخوه يحاكم لسطوه على أموال الدولة، وأمه مسجونة لاعتدائها الشفوي على أعراض نساء محترمات، وأخته معتقلة لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها.
    وسأل سائق السيارة الجيران عن أقرباء شكري المبيض، فأخبروه أن عمه هاجر إلى أميركا، وخاله وأبناءه وبناته إلى كندا، وابن خالته إلى أستراليا، وخالته تعمل خادمة بدبي. فسأل السائق عن عناوين أصدقائه، ولكن كل الذين قيل عليهم إنهم من أصدقاء شكري المبيض أقسموا شاحبي الوجوه أنهم ليسوا بأصدقائه، ولم يتبادلوا معه كلمة واحدة، ولو رأوه اليوم مصادفة لما عرفوه. فخجل شكري المبيض من السائق، وانتهز فرصة انشغاله بشراء خضراوات وفاكهة طلبتها زوجته، ولاذ بالفرار، واختبأ في بيت أهله منتظرًا عودتهم ليدفنوه مطلقين الزغاريد ابتهاجًا بخروجه من السجن

    نبوءة كافور الإخشيدي

    صاح كافور الإخشيدي بأعوانه: (قبل ثلاثة أيام دخل البلاد رجل غريب اسمه المتنبي، وآمركم بإحضاره إلي فورًا حيا أو ميتًا).
    وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.
    وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
    قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
    فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
    قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
    ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.

    كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا).
    المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة).
    المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع).
    كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم).
    المتنبي: (لن أتكلم).
    كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك).
    المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي).
    كافور: (ماذا تشتغل).
    المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
    كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
    المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
    كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
    المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
    كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
    المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
    كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
    المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
    كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).

    المتنبي:
    يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
    أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
    ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
    أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم

    كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
    المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
    كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
    المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
    كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
    المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
    فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
    تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
    وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
    ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
    كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
    المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
    كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
    وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
    وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
    وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
    المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
    كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
    حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
    فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
    وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
    وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا .

    قبر خاو

    كان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا. وحاول في إحدى الليالي أن يستسلم للنوم، فأخفق، وأحس بقوة غامضة تجتاح كل جسده، فقفز من سريره، وتمطى أمام المرآة وهو ينظر إليها مليا، فرأى أنّه قد صار ضبعًا ذا مهابة مغطى بشعر كثيف، واستحالت أظفار يديه إلى مخالب وأسنانه وأضراسه إلى أنياب. فاستمتع بتبدله، ودهمه جوع لا يقاوم، فانقض على عنق زوجته التي كانت نائمة، وقتلها قبل أن تصحو، ولكنه لم يستسغ لحمها المترهل القاسي، فتركها مشمئزًا، ووثب على ابنها الرضيع المبتسم إبان نومه، وأُعجب بلحمه الطازج الغض.
    وكان أحد حراس الجنرال واقفا خارج غرفة النوم مشدود القامة وإصبعه على زناد بندقيته تأهبًا لأي حدث طارئ، فبوغت بضبع يخرج من الغرفة ملطخًا بالدماء، فبادر إلى إطلاق النار عليه، وأرداه قتيلاً، فتراكض بقية الحراس مضطربين متصايحين، وعثروا على بقايا الزوجة وابنها، ولم يعثروا على الجنرال، فساد اعتقاد بأنّ الضبع أكله بأكمله، ولم يترك منه ما يحتاج إلى قبر.

    الطائر الأخضر

    أحرق أبو حيان التوحيدي كل كلماته المكتوبة على الورق، ورمق رمادها بتشف متنهدًا بارتياح. وأحسّ بالجوع، ولم يجد في بيته ما يصلح لأن يأكله، فمسح فمه بظهر يده، وحمد الله. ووقف أمام المرآة، فلم يعجب بما رأى، وتحوّل خروفًا تحوّل هرّا تحوّل ذئبًا تحوّل طائرًا أخضر الريش، وخرج من النافذة المفتوحة، وطار فوق البيوت، وحطّ على غصن شجرة، وراقب بفضول رجلاً يجلس في حديقة قصره محاطًا بالكثير من ندمائه وخدمه وحراسه، وقد تطلع الرجل حوله، فرأى كل شيء جميلاً، فالعشب أخضر، والأشجار خضر مثقلة أغصانها بالثمر الناضج، والسماء زرقاء، والشمس مشرقة، والورد متنوع الأشكال والألوان، وتساءل الرجل بصوت مرتفع منتش: (هل هناك رجل في العالم أسعد مني?).
    فتنافس جميع الذين كانوا متحلقين حوله على التأكيد له أنّه أسعد رجل وأقوى رجل وأرحم رجل وأغنى رجل وأسخى رجل. فاغتاظ الطائر الأخضر، وتحوّل غرابًا أسود، ونعب نعيبًا أجش أزعج الرجل، ودفعه إلى أن يأمر حراسه بطرد الغراب من حديقة قصره، فحاولوا وأخفقوا، وحنوا رؤوسهم خجلين بينما ظل الغراب يطير من شجرة إلى شجرة مواظبًا على إطلاق نعيبه. فاضطر الرجل إلى ترك الحديقة غاضبًا، فاغتبط الغراب، وطار مبتعدًا عن الحديقة بأقصى سرعة حتى بلغ أحد الأزقة، وحطّ على سلك كهربائي، ونظر إلى أطفال يلعبون بمرح صاخبين، فزال عنه حنقه، وتحوّل عصفورًا مغردًا، فلم يتنبه الأطفال إليه، واستمروا يلعبون ضاحكين. فطار العصفور، ورأى في أثناء طيرانه معركة ضارية بين جيشين، فتحوّل طائرة حربية ألقت قنابلها فوق الجيشين، وأبادتهما أجمعين. وطارت الطائرة بعيدًا عن أشلاء الجثث الممزقة، وحلقت فوق ساحة سجن يضرب حراسه سجناءهم بالعصي الغليظة، وقذفت بناءه بقنابلها وهدمته. فبادر السجناء توّا إلى بناء سجن جديد ذي أسوار شاهقة. ورأت الطائرة سفينة تمخر البحر، ويظن ركابها أنّ الطوفان يجتاح الأرض بكاملها، فتحوّلت الطائرة حمامة بيضاء طارت وعادت بعد حين إلى السفينة تحمل في منقارها غصنًا أخضر يقطر دمًا أو حبرًا أحمر .

    سنضحك.. سنضحك كثيرًا

    في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين.
    وفي يوم من الأيام، كانت السماء زرقاء لا تعبرها أي غيمة، فقصدنا أحد البساتين، فإذا رجال الشرطة يدهمون البستان بعد دقائق طامحين إلى الإمساك بنا، ولكنهم لم يوفقوا لأنّي تحوّلت غرابًا أسود اللون، دائم النعيب، وتحوّلت زوجتي شجرة خضراء، غزيرة الأغصان. وضحكنا كثيرًا من إخفاقهم.
    وفي يوم من الأيام، تذمرت زوجتي من عملها في المطبخ، فذهبنا إلى أحد المطاعم، وما إن بدأنا نأكل حتى طوّق رجال الشرطة المطعم، واقتحموه عابسي الوجوه، وفتشوا عنّا تفتيشًا دقيقًا، ولم يجدونا لأنّي تحوّلت سكينًا، وتحوّلت زوجتي كأسًا من زجاج ملأى بالماء. وضحكنا كثيرًا لحظة غادروا المطعم قانطين.
    وفي يوم من الأيام، كنّا نسير الهوينى في شارع عريض مزدحم بالناس والسيارات، نتفرج على ما في واجهات الدكاكين من سلع، فإذا رجال الشرطة يحتلّون الشارع، ويعتقلون المئات من الرجال والنساء، ولكنّهم لم يستطيعوا اعتقالنا لأنّي تحوّلت حائطًا، وتحوّلت زوجتي إعلانًا ملوّنًا ملصقًا بحائط. وضحكنا كثيرًا من غباوتهم.
    وفي يوم من الأيام، ذهبنا إلى المقبرة لزيارة أمّي، فهاجم رجال الشرطة المقبرة، وقبضوا على أمّي، ولم ينجحوا في القبض علينا لأنّي تحوّلت كلمات رثاء مكتوبة بحبر أسود على شاهد قبر، وتحوّلت زوجتي باقة من الورد الذابل. وضحكنا كثيرًا من سذاجتهم.
    وفي يوم من الأيام، هرعنا إلى المستشفى متلهفين، فزوجتي حامل في شهرها التاسع، وآن لها أن تلد. وما إن دنا فم طفلنا من ثدي أمه الطافح بالحليب حتى انقضّ رجال الشرطة على المستشفى، ولكنّهم عجزوا عن الاهتداء إلينا لأني تحوّلت رداءً أبيض وسخًا، وتحوّلت زوجتي مرآة خزانة خشبية ملأى بالثياب، وتحوّل طفلنا بوقًا لسيارة إسعاف مسرعة. وضحكنا كثيرًا من بلاهتهم، وسنظلّ نضحك .
    أضيفت في 14/04/2005/ * خاص القصة السورية عن كتاب في جريدة

    النمور في اليوم العاشر

    رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانه، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد.
    انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا.
    فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض.
    فابتسم المروض مبتهجا، ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة: كيف حال ضيفنا العزيز؟ قال النمر: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.
    فقال المروض بدهشة مصطنعة: أتأمرني وأنت سجيني؟ يالك من نمر مضحك!! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر. قال النمر: لا أحد يأمر النمور.
    قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً.
    أنت في الغابات نمر.
    وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء.
    قال النمر بنزق: لن أكون عبداً لأحد.
    قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.
    قال النمر: لا أريد طعامك.
    قال المروض: إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.
    وأضاف مخاطباً تلاميذه: سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.
    وجاع النمر، وتذكر بأسى أيامًا كان فيها ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.
    وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم.. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.
    ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: افعل ما أقول ولا تكن أحمق.
    اعترف بأنك جائع فتشبع فوراً.
    قال النمر: أنا جائع.
    فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.
    وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.
    وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.
    قال النمر: لن أطيعك.
    قال المروض: لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً .
    أنت الآن تحوم في قفصك، وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.
    قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.
    وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: قف.
    فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح: أحسنت.
    فسر النمر، وأكل بنهم، بينما كان المروض يقول لتلاميذه: سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.
    وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: أنا جائع فاطلب مني أن أقف.
    فقال المروض لتلاميذه: ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.
    ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.
    وقلد مواء القطط، فعبس المروض، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.
    هل تعد الزمجرة مواء. فقلد النمر ثانية مواء القطط، ولكن المروض ظل متهجم الوجه، وقال بازدراء: اسكت.. اسكت.. تقليدك ما زال فاشلاً.
    سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغداً سأمتحنك.
    فإذا نجحت أكلت أما إذا لم تنجح فلن تأكل. وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.
    ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.
    وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.
    قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: عظيم! أنت تموء كقط في شباط.
    ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.
    وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين، فقال النمر: ها أنا قد قلدت مواء القطط.
    قال المروض: قلد نهيق الحمار.
    قال النمر باستياء: أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!
    فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.
    وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟
    قال النمر: أُريد أن آكل.
    قال المروض: اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام.
    فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.
    وفي اليوم الثامن، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.
    قال النمر: سأصفق.
    فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال: “أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر” .
    قال النمر: لم أفهم ما قلت.
    قال المروض: عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.
    قال النمر: سامحني أنا جاهل أُميٌّ وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي.
    وصفق النمر فقال المروض: أنا لا أحب النفاق والمنافقين ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك. وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم.
    قال المروض: منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش.
    ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.
    وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.
    زكريا تامر 25/11/2002

    انتظار امرأة
    قصة قصيرة جداً
    ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى.
    ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر.
    ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره .