بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن – رواية ” الاحتجاج ” – ج 5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سجن النساء ،ولم يبق لها من شيء سوى أصداء أصوات نساء سجينات ،تلفهن برودة المساء ،ينتظرن ليلا مقبلا بخطوات ثقيلة ،ليلّف عشرات الذكريات كتبت على جدرانه ،قبعت بركن السجن ،تسأل نفسها :” لولا محاولتي قتل المفتري ، هل كانت المحكمة ستبرئني من تهمة باطلة ؟.وهل ستحكم العدالة لي بحضانة طفلي”؟ بعد أسبوع من وجودها في السجن ،أخبرها أحد الحراس،أن المفتري لم يمت . اعتبر القضاء تصرفها اعتداء على مقام المحكمة ،وشرف العدالة ، واعتبر الناس أن تصرفها حماقة ،وراح كل منهم يفسر الأمر على مقدار معرفته . دفعت ثمنا باهظا بسب تهمة باطلة ،خسرت الكثير …ولم يبق معها إلا بضعة قروش لا تفي لشراء وجبة فطور ،أمسكت عن الكلام ، تعذبت كثيرا في سجن النساء ، لم تستطع التأقلم مع نساء ارتكبن جرائم بحق الآخرين ،وبقيت منفردة بائسة ،لا تتكلم مع أية واحده منهن ،ولا تتناول الطعام معهن ،أخذن ينظرن إليها نظرات ازدراء .اجتاحت كيانها عاصفة من الجوع والتفكير ،أغمي عليها ،فأسرعت ” حسيبة ” باستدعاء طبيب ،فلبى طلبها على جنح السرعة ،وقدم العلاج اللازم . وحين استردت قوتها ،التمست في “حسيبة ” الصدق والوفاء : – عجبا !… – جئتك بالطبيب .وهل في هذا ما يزعجك ؟. – آسفة .. – ينبغي أن تأكلين . – من أنت ؟. – اعتبريني أختك . كانت “حسيبة ” تلم بأمور كثيرة ، وبفراستها أدركت أن ” ماجدة ” بريئة من التهمة كبراءة ( الذئب من دم يوسف ) .اقتربت منها بطريقة ذكية ،قالت مبتسمة في لهجة اعتذار : – أنا متأكدة من براءتك . – بحق السماء . – مسكينة يا ماجدة . استطاعت ” حسيبة ” بلباقة أن تجعلها تستجيب لرغبتها ،فأنست لمسامرتها ،وبسرعة كسبت ثقتها ،ووجدت من يبعث فيها الأمل ،فقالت : – يا ماجدة ،من يملك المال يملك كل شيء . – أيعقل ؟. – نعم ،المرأة ناقة حلوب تذبح يوميا ألف مرة على مآدب الشرف . المرأة ضحية أخطاء الرجل ،وضحية ارتكبتها العدالة بحقها لا لشيء إلا لكونها ابنة حواء . فأصبحت “حسيبة ” صديقتها الوحيدة ،تسترسل في الحديث معها ،وتستمد منها الشجاعة والمعرفة ،تلجئ إليها عندما تعقد الأمور . قبل خروج ” ماجدة ” من السجن ،عرفت الكثير عن السجينات ،من خلال مشاركتها مشاكلهن ،والإطلاع عل جرائمهن ،والأحكام الصادرة بحق كل منهن ، مما جعلها تلم بالقانون ،وأصبحت تملك خبرة قانونية ،تضاهي خريجة كلية الحقوق بامتياز . تعلمت في السجن كيف تواجه الحياة ،كانت مصممة على قرار لا تحيد عنه،وعاهدت نفسها بأنها لن تحفل بالأخطار ، قضت أيامّها مثل أمثالها من السجينات ،لكن بفارق بسيط ، كانت تحس بظلم تلاشى مع مرور الزمن ،ومنذ دخولها السجن،ثابرت على حسن السلوك ،وأصرت أن لا يخطئ لسانها بالكلام .وكانت على وجه العموم مؤدبة ،رغم الفجيعة الأليمة ،لقد خلت بنفسها في زاوية المهجع ،بعيدة عن ضجة السجينات ،وضوضائهم . تأملت ” حسيبة ” وجه ماجدة ،وبسمة الصباح لا تزال باقية على ثغرها ،استخدمت ذكاءها بغية أن تضمد جراح صديقتها التي بقيت طيلة الليل ،وعيناها المتيقظتان ترنوان إلى النافذة ،ترصدان النجوم التي تومض من بعيد . ربتت على كتفها وسألتها : – أين ستذهبين ؟. – سأبحث عن ولدي . بشرتها بعهد جديد : – وستكونين أسعد حالا مع فادي . فخرت ساجدة عند قدميها قائلة : – لك وليمة عظيمة . كانت في حالة يرثى لها مع أنها تعرف أن مدة حكمها قد انتهت ، وغدا سوف يفك حجز حريتها ،ألهبها التفكير ،فسألت ذاتها : ” هل أذهب إلى بيتنا ،أيكون زوج أمي قد عرف الحقيقة من والدتي ،لا أبدا لو أنه صدقها لكان سمح لها أن تقوم بزيارتي ، ساعات قليلة يطلق سراحي ولم يزرني . سألتها حسيبة: – علام أنت حزينة ؟. – لا أدري …لا بد أن شيئا سيحدث . – لم يبق لك هنا سوى ساعات معدودة . هزت رأسها ولم تقل شيئا،وانهمرت الدموع على خديها رسمت خريطة من الضياع . في ظهيرة يوم تشريني ،نادى الشرطي : – ماجدة ،ش ….س … – حاضر . – أنهيت مدة الحكم . أسرعت تنزع ثياب السجن ،وارتدت ثيابها الرثة ، ذكرتها في يوم دخولها إلى السجن ،عقد ونيف ،لم يأت إنسان لزيارتها ،ودعت صديقات السجن .بكت حسيبة بكاء مرا ،كانت كريمة السريرة ،حنونة عطوفة ،ربتت ماجدة على كتفها : – سأزورك يا حسيبة . خرجت إلى فضاء الحرية ،طافت في الشوارع ،تبكي بصمت المقابر ،لا تدري أين ستودي بها الرياح ،قرعت طبول الغجر في داخلها ،سارت ببط في الأزقة ،وعادت رغبتها في اللجوء إلى دار والدتها ،تصارع رغبتها في عدم اللجوء إليه ،شعرت بالجوع والعطش اللذان أدخلها في صراع مع الطبيعة ،حاصرتها الأشياء من كافة الاتجاهات ،لم تدر كيف وصلت إلى دارهم ،شعرت بتغير كل شيء ،وراحت تتذكر بعض المعالم ،ولولا حصافتها ،لم تستطع معرفة دار رعت طفولتها ،تذكرت نصيحة حسيبة :” يوجد المال في خزائن الأغنياء ،أو في البنوك ،فكيف الحصول على المال ،وأنا المقيدة بالقوانين ،المحصنة بأعرافه ” . مع انحدار شمس إلى عالم المجهول ،أفضى بها الطريق إلى دارهم ،وقع بصرها على فانوس يرسل ضوءا كابيا ،وقفت أمام الباب ،مترددة ،تنفست بملء رئتيها ،كانت ستعود من حيث جاءت ، وكان الأمل يحدوها بالراحة والدفء ،تخيلت أمّها تأخذها بين ذراعيها لتدخل إلى فؤادها نفحات حب مصفى ،واختزنت في أعماقها صورة لأجمل أمّ ،منذ زمن تتشوق إلى الحنان ، وفجأة برز لها الظلم الاجتماعي في وجه قبيح ،كانت تعرف موقف زوج أمّها،لكنها عدلت عن فكرتها ،ظنا أن والدتها ستأخذها بين ذراعيها ،وتكون قد بذلت قصارى جهدها ،بغية أن تجعل زوجها أكثر رأفة بابنتها البريئة ،لم تكن تعرف أن أمّها قضت حزنا عليها ،وكيف تعرف وهي في سجن النساء ،كانت تعبة جدا ،قرعت الباب بيد مرتعشة وبقلب واجف ، على أمل أن تستقبلها أمّها ،وتضمها بحنان ،لكن أمنيتها تلاشت حين أطل زوج أمّها ،اندفعت إليه لتقبل يديه ،وقبل أن تقسم بشاربه أنها بريئة براءة الذئب من دم يوسف ،ثار كحيوان هائج ،وصرخ : – نسيت اسمك . يا زانية … وصفق الباب بوجهها ،سرحت في صدى عباراته ،شعرت أن شياطين الأرض تطوقها ،جلست في زقاق الضيق ، تندب حظها ،ريثما تخرج والدتها هي تعرف كم عانت من الظلم ،مرّت الدقائق ولم تخرج المنقذة ،فناجت نفسها : ” يا رب !…. أتكون أمي قد انجرت وراءهم “؟ . نهضت بتثاقل من مكانها ،شعرت بدوار في رأسها ،لاذت بالجدار كالهاربة من الزمن ،وقع بصرها على جارتهم قادمة من بداية الشارع ،وحين أصبحت أمامها ،أمسكت طرف ثوبها وبصوت أبح وسألتها : – كيف حال أمّ ماجدة يا خاله ؟. هزت المراة رأسها : – من أنت يا بنيتي ؟. – قريبتها. صمت مليا : – يا حسرتي !…ماتت قهرا على ابنتها السجينة . – ألم تخرج ماجدة من السجن ؟. – لا… جرمها كبير …كل الناس قالوا ذلك ،إلا أمّها كانت تدافع عنها وتأكد أنها مظلومة . أحست أن الدنيا أطبقت على دماغها ، وعلقت غصة في الحلق ،حثت خطاها ،لا تعرف ماذا تفعل ،أتبكي أمْ تضحك ،لكنها لم تكن تدري أنها قد جمعت بينهما ،فأخذت تضحك ،ضحكات لم تتجاوز حلقها ،كانت تعبر الأزقة هائمة ،تناجي نفسها :” ماتت والدتي ،وحذرني زوجها من الذئب وتركني بين أنيابه “!… طيلة عمر ماجدة لم تر إلا الذئاب يرتدون مسوح البشر ،تشابكت التساؤلات في مخيلتها حتى صارت أجزاؤها في منظومة تفكيرها ،رفضت فكرة استجداء شهامة الرجل …وراحت تعبر من مكان إلى آخر حتى أنهكها السير بين الأزقة ،رغم التعب لم تفترش الأرض خوفا من العقارب السامة ،فوضعت على الجرح ملحا ،وقبل أن تهوي على الأرض وقع بصرها على صندوق في أحد الزوايا ،جلست عليه والخوف والجوع يسيطران على كيانها ،وثمة خيالات تتراءى لها من زوايا البيوت ،كانت محاصرة ضعيفة ،لا مكان آمن تأوي إليه ،ولا كسرة خبز تسد رمقها ،فكيف سترتب حياتها من جديد ،لكن ليس بالإمكان أفضل مما كان ،تارة تضحك بصمت ،وطورا ترثي نفسها ،وترثي حال المرأة أيضا . أدركت أنها خسرت إنسانيتها وشرفها ووالدتها وابنها من خلال كذبة اخترعها زوجها ” علوان ” لإشباع غروره فقالت في سرّها: – ” الحل في السفر “. كان ينتابها خوف من هول الليل ،وفجأة دلفت الخفافيش من شقوق الجدران ،كانت ترى فيها صورة الشياطين فدبت الرعب في قلبها ،فكرت أن تعود إلى السجن ،لكنها عدلت عن فكرتها ،لأن المسافة بعيدة وهي لم تقو على السير ،فقالت لذاتها :” يا إلهي أهدني السبيل “…. دنا رجل منها في ساعات الليل المتأخرة ،مدّ يده على مهل ،لا تدري كيف ذهبت معه إلى منزله ،هناك طلبت منه أن يدلها على مكان المنامة ،كان ثملا هائجا انقض عليها كذئب ،حمي وطيس العراك ،وقع بصرها على سكين ،تناولتها وبلا شعور غرست النصل في أحشائه ،فجمدت أصابعها على قبضة السكين ،وقبل أن تلوذ بالفرار ،وقع بصرها على محفظة صغيرة ،تناولتها ،وخرجت إلى الشارع ،حثت خطاها في دروب لا تنتهي ،ولا تدري في أي اتجاه تهب الرياح . حجب الليل ضياء الكون ،ومازالت تفكر ،لا تدري من أين جاءتها فكرة أن الغيوم لا تستطيع أن تغيب النجوم إلا لحين ،لكن هي ذاتها لم تعد تصدق أنها بريئة ،كمن ( كذب الكذبه وصدقها )،حنقت على ذاتها ،وأدركت أن الغلبة للأكثرية ،على مبد أ ( إذا وجدت زرقاء اليمامة في مدينة العميان،غدت مثلهم عمياء ) .قررت السفر إلى المجهول ،وما أكثر المجاهل في عالم امرأة عانت من ظلام السجن . صعدت إلى جوف الحافلة ،قبعت في المقعد ،تفكر كيف سيكون موقفها أمام صاحبها ،وكيف ستبرر أنها سوف تقابله مرة أخرى وتدفع الأجرة ،ماذا ستقول له أنها خريجة السجن ،أم أنها كانت على عجلة من أمرها ونسيت المحفظة في البيت ،مرت الدقائق بطيئة سوداء ،تقاذفتها أمواج الفاقة ،أثخنتها الجراح ،تذكرت المحفظة ،بحثت عن النقود ،وجدتها خالية إلا من بطاقة شخصية ،حدقت في الصورة ،لم تصدق عينيها فتكلمت مع ذاتها : – يا إلهي !… نعم أنه أحد الشهود . قذفت المحفظة من نافذة الحافلة ، عادت بها الذاكرة إلى زوجها المفتري ،لكنها فوجئت حين تجاوزها المعاون ولم يطلب منها شيئا ،كانت في أوج تساؤلاتها ،حين وصلت الحافلة إلى المحطة في طرابلس ،وقال المعاون : – الحمد لله على السلامة . نظر المعاون إليها ،وقف أمامها ،شعرت بخوف شديد يجتاح كيانها ،لكنها هدأت حين سألها: – لحظة بقي لك خمسون ليرة . – ليس لي معك شيئا . – كيف ؟. – لم أملك نقودا ،لقد نسيت نقودي في البيت ،وسأعود غدا . – لا سامحك الله. – شكرا … – سأراك غدا . – أتعرفني ؟. – نعم . رأيتك في السجن مع حسيبة . – إذن بلغها سلامي . في منتصف الليل ،وطئت قدماها الشارع ،اجتازت المحلات ،دفعها الجوع أن تلجأ إلى نزل أمّ ” خليل ” ،التي استقبلتها بوجه بشوش ،وقفت ماجدة منكسرة ،سألت : – هل أستطيع النوم عندكم ؟. – أهلا بك . جلست معها في الصالون ،وبعد أن تعرفت عليها ،أخبرتها أن أحد الشباب من قريتهم ،بقى مدة من الزمن ينام في نزلها ،لكنها نسيت اسمه ،وراحت ماجدة تتذكر الأسماء ،فقفز اسم ” صابر ” إلى ذهنها ،لكنها نسيت ملامح وجهه ،فقالت : – أيكون صابر ؟. – نعم أتعرفينه ؟. – نعم ،ابن جارنا . – كيف أحواله ؟. – لم أره من زمن بعيد . – أيعقل ؟. – لقد هرب من القرية أيّام الانفصال . ضحكت أمّ خليل : – ما خاب ظني . اقترحت على ماجدة أن تعمل في الفندق ،فوافقت على طلبها ،لعلها تحصل المصروف .عملت خادمة لا قيمة لها. بسبب لقمة العيش والمنامة ،وذات يوم سافرت إلى بيروت وعملت في نادي ليلي ،ومع مرور الأيّام .أصبحت راقصة لا تجاريها أية راقصة. خرجت في ساعة متأخرة ،ومع يقظة نسمات البحر الرطبة ،استوقفها رجل في عقده الخامس ،طلب منها الزواج ،كان رجلا متصابيا لكثرة ماله ،ومندفعا للراحة لأنه يملك ثروة طائلة ،درست الأمر مع ذاتها : ” إذا كنت لرجل واحد ،أفضل من أن أتعرى أمام عشرات الرجال “. ثم قالت : – حسنا أنا موافقة . – إذن تعالي معي إلى البيت . – انتظرني حتى أستلم أجري وأحضر حقيبتي وملابسي . – لا داع لذلك . وما عليك إلا أن تشيري بإصبعك إلى كل ما تريدين فيأتيك على جنح السرعة . لم تدخر وقتا فالتصقت به بفعل نداء العقل ،أخلصت له ،على أمل أن يكون هذا الزواج نهاية المتاعب فقالت : – إلى جهنم يا أيام البؤس … تأبط ذراعها وأدخلها إلى البناية ،ومرت أيّام السعادة ،كانت تحلم بالإنجاب لكن الرجل عقيم ،فتبددت أمانيها وبقي ” فادي ” أملها الوحيد ، أوت إلى فراشها ،حدقت في سقف الغرفة ،تبادر لذهنها قول جدتها ،وهي تحشر رأسها تحت إبطها:”( تاجرنا بالحنى كثرت الأحزان ،وتاجرنا بالأكفان كثرت الأفراح ) . أخذتها الذكريات إلى الماضي نبشت ركامه حتى غيبها النوم ،رأت نفسها في عرض البحر على متن زورق يشق عباب الماء ،تطاير شعرها الغجري ليشكل مظلة، تستظل بظلها الأجيال ، قدمت لهم الفاكهة ،وبلح الرافدين ،شعرت بان الله عوضها بملايين الأبناء عوضا عن ولدها ،وفجأة شقت الحيتان الأمواج ، حاصرت الزورق طوقته من كل الاتجاهات ، انبرى قرش جشع من جماعة الحيتان ، فاتحا شدقيه ،بغية التهام الزورق برمته ،لكنه اكتفى أن يضرب خاصرته الشرقية ضربة كادت أن تحطم أضلاعه ،صرخت: – احمنا يا رب . إذ ليس من السهل أن يرى الإنسان نفسه بين فكي حوت جشع لعين ،يريد أن يجعل جسده كعصف مأكول :”( اجمعوا الأضلاع بالمحبة والحوار قبل أن تحل في الديار لعنة الأقدار )” . جف حلقها ومازال القرش ،يدور حول الزورق يبغي إغراقه ،حاول أن يشعل النار في خاصرته الغربية ،لكنه لم يفلح لأن الأضلاع كانت فولاذية . قرع أحدهم الباب بعنف ،نهضت مذعورة ،وعندما فتحت الباب فوجئت بشاب يقف أمامها ويخبرها عن فاجعة حلت بزوجها، بسبب حادث أليم ،بعث الرعب في صدرها ،وبدا اللهب يشتعل من حولها ،خلت بنفسها بعيدا عن الناس ومشاكلهم ،وبقيت على هذه الحال إلى يوم تأبينه ،في ذلك المساء بدا الصراع على الميراث ،كانت ثروته سببا في ظهور ذئاب من نوع جديد ،لكنها بدت لبوة تحمي نفسها ،وكيف لا تكون شجاعة،أليس هي من خبرت مسالك الغابة ،فاندفعت بكل ما تملك من فنون نحو تحقيق هدفها ،فحصلت على ثروة جعلت اسمها يحلق بين أرجاء العالم ،فكل هذه الشهرة لم تجعلها تنسى الأزقة الضيقة ،و ذلك الصندوق الذي حماها من العقارب .عادت إلى مدينة حمص التي لم تر فيها يوما أبيض . عادت إلى مدينة حمص تذكرت القرية التي رعت طفولتها ،وهي تشق عباب الليل تذكرت أمّها ،التي قضت ولم ترها ،وتذكرت زوج أمّها ورغم قسوته صفحت عنه ،لم يكن باستطاعته أن يقف غير ذلك الموقف ،لأن العرف ينطوي على كل أبناء جلدتها ،فقررت أن تزوره لعل العرف يكون قد تغير بعض الشيء ،فهي على استعداد أن تطلب منه الصفح ،ولم ،لا… أليست هي من أُخذت بافتراء رجل ناقم لعب لعبته ، وقد حقق مأربه وهرب إلى العراق مع طفلها قبل أن يبلغ الفطام ،حين وصلت إلى دارهم ،أنبأها أحدهم أن صاحب البيت باعه منذ أشهر ،و كان يردد اسم ابنته ماجدة ،بكت في سرّها كثيرا ،وحين أدركت أن جارهم لم يستطع التعرف عليها ،تأكدت أن ماضيها اندثر ،ودفنت كل مشاكلها تحت رماد الأيّام ،ورغم ذلك استخدمت كل براعتها علها تكتشف هل هناك من يعرف خريجة سجن النساء ،زارت قبر والدتها ، وكلفت أحد العمال ، لبناء القبر من رخام ،وبعد أيّام، جاءت زيارة إلى المقبرة ،وزينت القبر بالرياحين ،تعمدت أن تتحدث مع جارتهم ،التي لم تستطع التعرف عليها وللتأكد سألتها : – هذا قبر من يا خالة . اغرورقت عيناها بالدموع ،وببحة : – يا حسرتي ماتت قهرا على ابنتها التي رحلت ،ولا يعلم إلا الله أين هي الآن . شعرت بسرور كبير،همست مع نفسها:” لم يعرف أحد المرأة التي شغلت قاعات المحاكم ،ومخفر الشرطة مدة من الزمن “. حاولت شراء المنزل من أحدهم ،وأشادت بناية لائقة ، ولم تنس صديقتها التي اطمأنت لها ،كانت تحس بفراغ كبير ، وزخم الأفكار في رأسها ،ثمة حلم ستحققه من أهم من ” فادي ” يجب أن تستعيده بأي طريقة ،تذكرت قول صديقة السجن : – من يملك المال يملك كل شيء . سحرتها الفكرة ،فقالت لنفسها :” نعم الثأر سيتحقق “. دلفت إلى الشرفة نادت على ” فاديا “، لبت دعوتها بسرعة : – نعم . – أرجوك …أين النرجيلة ؟. – جاهزة .. غابت لدقائق ،وعادت تحمل النرجيلة معمرة بجمرات ملتهبة ،تناولت خرطومها ،وراحت تعبّ الدخان ،والماء تقرقر في النرجيلة ،كانت تراقب الناس ،وتفرحها حركات الأطفال ،تذكرت ” صابر ” ،كانت تعرف أنه من رواد مقهى الروضة ،أججت العصافير فرحا في داخلها ،مرّ شريط من الذكريات أمام ناظرها ،جعلها تقفز كظبية ،كانت فاديا تراقب حركاتها ،فأسرعت : – هل تحتاجين شيئا ؟. – جيء بمفتاح السيارة . ناولتها المفتاح: – تفضلي سيدتي. خرجت مسرعة ، لا تدري كيف فتحت باب السيارة ،ولجت إلى داخلها ،وانطلقت بسرعة ،وقفت أمام باب المقهى ،مرّ من أمامها رجل يبيع أوراق اليانصيب ،كان شيخا أحنت السنون ظهره ،عرفته زوج أمها لا غيره ،كيف تنسى ذلك الرجل ،وقف أمامها وبلهجة ضعيفة : – خمسة آلاف الجائزة الكبرى . سحبت من الرزمة خمس بطاقات ،حشرتها في محفظة يدها ،وناولته مئة ليرة ،نظر إلى القطعة النقدية متعجبا : – لحظة … عرفت ما رمى إليه فقالت : – لك المئة . – كريمة ابنة كريم . – كم تحصل في اليوم ؟. – خمسون ليرة تقريبا . – كم عدد أفراد أسرتك ؟. – خمسة … – يبدو أنك تأخرت في زواجك . – لا …هذا زواجي الثاني … – ما رأيك أن تعمل عندي ،كحارس للبناية وبأجر محترم . وقبل أن يبدي موافقته ناولته خمس آلاف ليرة سوريه ،وكتبت له العنوان . ( من زمن أنا وصغيري كان في صبي أجي من الحراش ألعب أنا وياه كان اسمه شادي انا وشادي غنينا سوى لعبنا على التل ركضنا بالهوى اكتبنا على الحجار قصص صغار ولوحنا الهوى ) كانت حائرة ، لا تعرف كيف استطاع “علوان ” أن يشتري الشهود الذين لا تعرفهم ،وما هو الدافع الذي دفعهم لأن يدلوا بشهادتهم أنهم مارسوا الزنا معها في سرير واحد ،وهي لا تعرف إياهم، لقد فعل كل ذلك من أجل أن يسلبها طفلها ،لا لأنه يحبه ،ولا لأنه يريده ابنا ،هذا ما تدركه بإحساسها ، بل كل ذلك من أجل أن يحرق قلبها ،فقالت في نفسها :” نعم حرق قلبي وحوله على صحن سجائر “. حين عادت تملك الثروة ،راحت تتخيل ولدها ،لا تعرف كيف يعيش مع أبيه الذي أخذه من زمن ،كانت مستعدة أن تعود إلى ” علوان “،ستضحي بكل شيء من أجل ” فادي ” عليها أن تطرق كل الأبواب ،فجأة تراجعت قائلة : – محال كيف لخائن الأمس أن يكون بطل اليوم ؟. عبرت الرصيف ،كانت معتادة على مثل هذه الأماكن ، انتحت زاوية من خلالها تستطيع رصد حركات الناس .كان المقهى يعج بلاعبي الورق ،وعلى الطاولة المجاورة ،يتبارز لاعبو النرد ،وهناك أهل السياسة يتحاورون بحدة ،وعلى جانبهم شارب النرجيلة غير مبال شارد اللب ،دنا النادل : – مري سيدتي . – من فضلك … عصير . وقبل أن ينصرف إلى عمله .سألته – هل تعرف المحامي صابر ؟. – نعم ،من لا يعرفه . – اطلبه فورا . انصرف النادل يدور من طاولة إلى أخرى ،كان معتادا على مثل هذه الحركات ،عشرون عاما وقدماه تزرع هذا المكان عشرات المرات يوميا ،طيلة الأعوام المنصرمة لم تقع عينه على امرأة تتجرأ أن تدخل إلى مقهى الرجال ،فقال لنفسه :” امرأة بهذا الجمال كيف لها أن تدخل المقهى”؟!. سمع تصفيقا من أحدهم : – يا لله جاي . شعرت بقسوة ألهبت غضبها ،حشدت كل جرأتها لطرد مشاعر الخيبة ،كيف سيكون حالها إذا أخلف ” صابر” موعده ،ماذا تفعل لو كان كاذبا ؟. جاء النادل ،ووضع الشراب على الطاولة ،ونظر إليها معجبا ،أدركت ما يدور بخاطره ،عقدت مابين حاجبيها ،جعلت عيناه تأكلان أطراف الصينية ،لا يدري كيف انسحب من أمامها ؛مناديا : – أنا قادم ،أنا قادم . انتهت من تناول الشراب ،ولم يأت ” صابر ” أشعلت سيجارة ( كنت ) سحبت الدخان إلى رئتيها،وراحت تتساءل كيف ستدبر أمرها ،إذا تخلى عن تنفيذ المهمة التي ستكلفه بها ،بلا شعور سحقت لفافة التبغ في صحن السجائر ،و فجأة وقف رجل أمام الطاولة ،فافتر ثغرها عن بسمة تشع أملا بالنصر ،قدرت عمره يناهز الخامسة والأربعون ،أسمر الوجه ،عريض المنكبين ،ووجه مثلثي ،عيناه غائرتان في عمقيهما حزن وحيرة : – مساء الخير … – أهلا …أستاذ صابر . – وبك .يا مدام ماجدة . – تفضل …لنشرب القهوة . – لا مانع . جلس أمامها ،ومع ارتشاف القهوة ،راحت تتحدث معه بأمور كثيرة ،ومن خلال الحديث ،شعر أنها مسرورة بوجوده ،وبعد أن انتهيا من شرب القهوة ،طلبت منه أن يقوما بمشوار خارج ازدحام المدينة ،فاستجاب لرغبتها ،وسار خلفها إلى السيارة ،وما إن أصبحا في داخلها،حتى أقلعت السيارة ،وأخذت الدواليب تنهب الإسفلت ،وتنعطف يمينا ويسارا في نهاية كل شارع ،إلى أن أصبحا على أطراف المدينة ،توقفت بجانب حديقة ،واختارت مكانا بعيدا عن عيون المارة ،وبعد أخذ ورد ،استطاعت أن تعقد مع ” صابر “صفقة ،كان يصغي إلى الحديث بانتباه ودقة متناهية ،فقالت : – المال لا يهم .خذ ما شئت . في بادئ الأمر ظنها كاذبة ،ومن أجل أن تقطع عليه شكوكه ،نظرت إلى وجهه ،وبجدية : – كل أموال العالم لا تساوي ظفر من أظافر فادي .حدد المبلغ الذي تريده الآن ،وإذا نفذت وعدك وجئت به …تأخذ ما تشاء أيضا . – أنا تحت أمرك …لكن أطلب منك ضمانا . – سأضع لك مبلغا في البنك . ومع ابتسامة فيها سحر : – ماذا تريد غير ذلك ؟. هل تريد عقد زواج ؟.أم لست جديرة ؟. – أنا لا أريد سواك ،حين يحوّم طائر الموت ،لم تعد تنفع الأشياء . زفرت بحدة : – لو كنت رجلا .. – ما قصدك ؟. – لا شيء ،إن عدت ظافرا نعلن زواجنا . – فهمت . – ارحموا يا ناس قلب الأمّ . – أقدر ظرفك سيدتي . – إذن راجع غدا البنك . لم يشعرا بمسافة الطريق ،عبرت ساحة الساعة الجديدة ،أخذت أقصى اليمين فرملت العجلات ، بمحاذاة حديقة رائد الفضاء ” محمد فارس ” ،دلف ” صابر ” من جوف السيارة ،لوح بيده مودعا ،حركات السيارات مستمرة في شارع القوتلي ،وقف ” صابر ” أمام واجهه من الزجاج ، قابلته صورته مدّ يده إلى ذقنه الحليقة ،تفرس وجهه فراودته نرجسية فاقعة ،ضحك حين تذكر لقاءه مع” ماجدة ” . حث خطاه وهو يضحك دون سبب ،فوجد نفسه هاربا من ذاته ،وراح يدور في الاتجاهات الأربعة ،دخل في الزحام مشتت الذهن ،تجول بين الباعة ،ابتاع بحرية تعويضا عن نقص عانى منه في حياته ،انصرم النهار ،وبقي طيلة الليل يفكر في المغامرة حتى تبلورت في ذهنه ،شق طرائق جديدة ،ومثالب لم تعبر ذكرياته ولا هواجسه .فقبع في ركن البيت ،انفرد مع نفسه ،اكتشف أن شيطانا في داخله يدفعه للترحال ،هاجمته لحظة من التردد ،دفعته الحاجة أن يفكر من جديد ،لكن بطريقة أخرى ،وبقي لدقائق يعيش الصراع بشقيه ،عربدت شياطين الأرض بداخله ،حمي وطيس الصراع ،بعد اللقاء مع ” ماجدة ” ،رتب فواصل حياته ،لعن فوضاه ،مازالت تزاحمه في كل المنعطفات ،حدث ذاته :” وسوسة النفس وصدئها تدفعاني إلى مجاري الموت. تحولت نار الذاكرة إلى وحش ،من الصعب التخلص من براثنه ،فليست الذكريات إلا إيقاعا لا نسمعه بأذنينا فقط بل بكل كياننا وطاقاتنا المحتبسة .فالذكرى موجودة في الزمان والمكان المحددان ،فنشأت رغبة دفعت الجسد والعقل والإحساس إلى الغوص في الانفعال ،كما يدفع الماء رحى الطاحونة . ضاق ذرعا ،وهو يزرع فسحة البيت ذهابا وإيابا ،تحرك في داخله شيء، يدفعه لعدم مغادرة مكانه ،وعدم تنفيذ اتفاقيته مع ” ماجدة “، كيف سيرحل عن مدينة دفن فيها كل أحبابه ،والدته ووالده ،وزوجه . سأل صابر ذاته :” ما العلاقة بين جلوي والأفاعي ؟.سؤال حير أهل القرية من بيت الجردي إلى بيت الكردي “؟. رجل يلبس قنبازا كرجال الدين ومعطفا أسود ،وعمامة لها لونين ،ويحزم كرشه المندلق إلى أسفل بشكل كروي ،ينتعل جزمة لها مهماز فارس ، لم يمتطي دابة ، وصل مضافة المختار،وقف بين الناس ،قبل احتساء الماء الملون ،نظر إلى رجل : – رقطاء سمها زعاف في بيتكم. اتسعت عينا الرجل خوفا،كأنه أصيب بدوار ،لكن صابر استدرك : – كيف عرفت ؟. – لن أقول شيئاً الماء تكذب الغطاس والتجربة أكبر برهان ،هيا لأسحبها من جحرها ،وأضع تعويذاتي ،كي لا يدخل الشر بيتكم . هدأت العبارات من خوف الرجل ،وأعادته إلى طبيعته ،انفرجت شفتا صابر حين ،قال الشيخ : – عشرة ليرات لا غير . تدخل المختار : – من حضرتك يا شيخنا ؟. التفت جلوي إليه وبنبرة الواثق : – جلوي ي يعرفني أهل الشرق والغرب ،صاحب المقامات ،سجان الأفاعي ،مدوخ العمائم في العلم الإلهي والطبيعي ،المبعوث إليكم من قبل رب العالمين ،مخلصكم من الشرور. صب المختار سائل القهوة المرة ،قدم الفنجان والحيرة تأكل لبابه : – أهلا بك . ارتشف الشيخ الشفة ،هز الفنجان ،ثم وجه كلامه للمختار : – أتحسب أن بيتكم خال من الأفاعي ؟. وانفلتت من فمه ضحكة ساخرة ،مشى الرجل ومن وراءه الشيخ ،وحشد من الناس يحتفون به ، وصل إلى البيت أبو العز ، تجمع الرجال والنساء ليشاهدوا المعجزة ،دخل أبو العز إلى الإسطبل ،أخلاه من الطيور ،والماعز ،بناء على رغبة الشيخ ،الذي راح يقرأ التعاويذ بصوت جهوري ،وحين دخل أغلق الباب خلفه .ثمة شوشرة بين الناس يعرفون أن ثمة من يمسك الأفاعي ،أحد الشباب: – لا أحد يعلم بالغيب إلا الله . أجابه رجل مسن : – كيف عرف أن في بيت أبي العز أفعى . – هذا رجل دجال . صرخ والده بوجهه : – اللعنة عليك ألا تحترم جلوي. لحظتها صرخت امرأة : – انظروا . خرج الشيخ وعلى هامته أفعى رقطاء ،وراح يداعبها ويضع خده على جلدها الأملس : – أتعرف من أين جاءت هذه المباركة ؟ جعل المشهد الناس في حيرة ،والواقع يفرض نفسه ،حيث بدأ الناس يبجلونه ، نظر في وجه أحدهم ،وأشار بإصبعه : – أفعى بيتكم من لون آخر . فطلب منه إخراجها ،وراح يتنقل من بيت إلى آخر ،استطاع القبض على ست أفاعي.قبل انحدار الشمس باتجاه البحر لتطلي الأفق بلون احمر عائدة إليه لتبدأ من جديد ،بعد أن تفترش سريرها الحريري ،ووسادتها من غيوم الصيف الباهتة ،لعلها تغازل القمر كأنها تشي برسائل العشاق ،وثمة سحب تتمدد لتنشر وشاحا .دخل أحدهم إلى المضافة عاقدا ما بين حاجبيه ،وقطرات من العرق على أرنبة أنفه تشي بالغضب لا يمكن الإفصاح عنه إلا في اللحظات المناسبة ،تفرس وجه الأستاذ في حيرة كباقي الناس المجتمعين في بيت المختار ،فاختاروه لمعرفة سر جلوي ،دعاه إلى منزله ،لينفرد به . في أثناء ذلك ،عاد ” صابر ” من اللعب ،كان شغله الشاغل العراك والركض في أزقة القرية ،شعر بألم الجوع ،تسلق الجدار وهبط بهدوء كي لا يشعر بقدومه أحد ،دخل غرفة الضيوف ،وجد الذي لم يكن يتوقعه ،حيث كان الضيف يطلق شخيرا مصحوبا بصفير من أنفه ،أشعل (بابور الكاز) ،وراح يبحث عن السكر لمست أصابعه كيسا تناوله وخرج إلى ضوء القمر فوجئ بأنه مليئا بالأفاعي ،أعد الكيس ونسي الطعام ،حاول النوم ،عبثا فعل ، فبدت الأفاعي ترتسم أمام ناظره تحت اللحاف ،وشخير الشيخ يزيد الأمر ،لا يدري من أين جاءت الفكرة ،تناول سله من القش ،وضع الأكياس في داخلها ،ليبعدها عن غرفة نومه ،خوفا من الكوابيس المرعبة ،فجأة سمع سعال والده : – ما هذا ؟. -أفاعي وجدتها في الكيس ؟. – ماذا ستفعل بها ؟. – سأبعدها عن غرفتي . – انتظر التفت : – خذها إلى المقبرة وضع السلة في المقام . هناك تخيل أشباحا ذات رؤوس تشبه رؤوس الأفاعي ،لها ذيول طويلة ملساء ،رآها تطارده ،فأخذ يستحضر ما حفظه من كل آيات الذكر الحكيم ،وجمع كل ما يملك من شجاعة ،دفع السلة من بوابة صغيرة ،و بنى حولها الأحجار .عاد مسرعا كأنه هارب من ،جحفل شياطين . – خذ فراشك ونم في غرفتي . دخل الغرفة ،لم يستطع النوم فأخذ يعد أعواد سقف البيت ،حتى غالبه النعاس ،ونام دون طعام ،راودته الأفاعي في المنام ،فنهض مذعورا رأى العصافير تنقر أبواب الفجر ،كتب وظائفه وحفظ بعض الدروس ،ثم حمل محفظته ،وهرول إلى المدرسة في الحصة الأولى قال المدرس : – من علمني حرفا صرت له عبدا . أجاب صديقه : – بلا علم بلا علاك الحرية أسمى . كان يكتب بدون رغبة مع أنه يحب مادة اللغة العربية ،لكن موضوع الأفاعي قد سيطر على كيانه ،فراح يتخيل أعيان الضيعة ،وهم يسألون النوري ويشتمونه ،وتخيل أنهم يسلخون جلده .لكن في المساء لم يجد الشيخ ،عرف أنهم طردوه ،لم يكتف بالمعلومة ،وبأسلوبه عرف أنه عند المختار ،ينتظرون مجيء الدرك هيئ له أن الدرك سيطلبونه كشاهد ،وحين وصل المضافة ,رأى الرجال ينتظرون . كان الناس يتوزعون على شكل جماعات ،يؤلفون القصص والأحاجي هذا يؤيد وذاك يكذب والجميع يدركون أن لعبة الشيخ لعبة احتيال وابتزاز ،لكن تعميم مثل هذه العبارات تقابل بالرفض عند الأغلبية .في تلك اللحظة حضر السائس الذي كلفه المختار بمراقبة الطريق لمعرفة حضور الدرك الذين سيأخذون جلوي إلى السجن ،وحين أقبل : – جاء الدرك يامختار . وقف المختار ،ودنا من السائس وراح يوشوشه ،لم يبق لدينا شعير ،وأنت تعرف العريف لا يهون عليه حصانه ،دبر الأمر . – لا يهمك . عوذل المختار وحوقل ،ودار في مكانه ،حتى وقع بصره على إوزات قرب الساقية ،فصرخ بصاحب الإوزات: – خبأهم قبل حضور العريف . – ليش يامختار ؟. – سيأخذ بعضها . خرج أحدهم وبسرعة جمع الإوز وساقهم إلى البيت ،قدم النصائح لمن حوله لاقتناء مثل إوزاته ،لأن هذه الطيور لا تكلف شيئا ،وبيضة واحدة تكفي رجل . طلت خيول الدرك من منعطف الزقاق ،ركض السايس وأمسك عنان حصان العريف .فجأة هرب أحدهم إلى بيت الجيران ،أبعده الشيخ عن أعين الدرك ،ريثما يتم اتخاذ القرار ،بيد أن العريف أمر الشرطيين بالترجل ،كانا يحملان معهما بندقيتان ذات حراب طويلة .رحب المختار بهم . رد العريف : – هيك يا منظوم تأتي إلى الناحية.لسنا قد المقام . ثم لوح بالسوط : – أين جلوي سأسلخ جلده !. دخل السايس يطمئن المختار بأنه وضع العلف للخيول . كان العريف يسند بندقيته على الجدار ، ووضع السوط بمحاذاة الفرش ،وقال مداعبا السايس : – قل يا مختار ما سّر سائس الخيل يحب الخيول المخصية ؟. أختصر السائس : – إذا خصيت الخيول تحافظ على قوتها . ضحك العريف وغمز زوجة المختار : يعني لو خصينا جلوي يبقى محافظا على قوته ؟.. أدرك السائس ما رمى إليه : – بكسر الهاء لا يستطيع أحد أن يخصي جلوي قل الله يستر . وقطع الكلام خوفا من غضب العريف ،لكن الأخير : – سأريك أن الدرك عند كلامهم .. – جلوي موجود ،وإن كنت حكومة نفذ ما قلت . أعلن العريف عن غضبه : – وأخصيك أنت أيضا . – محسوبك تم خصيه من أيّام ” العصملي ” ..وأبي وجدي أيضا أسأل الأكبر منك سنا ،والسلام . وخرج من المضافة ،يقول للناس حضرته يحسبني لا أفهم : – قسما لا يستطيع أن يفعل شيئا لا مع جلوي ولا غيره كل ما هناك يأخذونه للتحقيق .رحل زمن ” البيكوات ” ،ونحن في زمن حرب بور سعيد . صب المختار القهوة لهم ، اهتز كرش العريف من سعال يرافق ضحكاته .فقال المختار : – أراك غاضبا ،انتبه إلى رجال الله ،هؤلاء لهم كرامة ،لا تغلط مع جلوي لقد رأيناه كيف يقبض على الأفاعي ،ولو سمعت ذلك من أحد لما صدقت . ردّ أحد الحضور : – جاء جلوي إلى امرأة في المنام وفلح عليها مساحة فدان من الأرض كما يفلح المزارع على بقرته ،لمجرد أنها أساءت له ،ومازالت رقبتها مشبوكة ،ولن يحلها إلا الله ودعاء جلوي ،على المرء الانتباه. راح العريف يتلمس عنقه تارة وتارة يتلمس صدره في محاولة إخفاء خوفه فقال : – جيء به يا مختار علي أن أكتب الضبط ،وإلا المساعد سيعاقبني ،وأنت تعرفه .. فانفض الناس من المضافة ،ولم يبق سوى أعيان القرية ،وهم في حيرة من أمر جلوي ،مع أنه اعترف أمام الجميع بأنه كاذب ،وأنه انتحل هذه الصفة بغية أن يؤمن الطحين لأولاده خوفا من شتاء قارس . ___________________________
الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً