“ملكة الصحراء”: (الخاتون) مس بيل تظهر في برلين
BBC Arabic

لقد طال انتظار فيلم يجسد شخصية غروترود بيل، الرحالة والمستكشفة البريطانية والدبلوماسية لاحقا واحدى ابرز الشخصيات البريطانية التي شكلت تاريخ الشرق الأوسط الحديث ورسمت حدوده المعاصرة وصنعت ملوك بعض بلدانه، منذ أن قدم المخرج ديفيد لين تحفته السينمائية عن زميلها وصنوها في التأثير تي إي لورانس “لورانس العرب” عام 1962.
وحين أعلن المخرج الألماني فيرنر هيرزوغ عن تصدية لمثل هذه المهمة بفيلم ضخم رصدت له ميزانية جيدة ارتفع سقف التوقعات بالحصول على تحفة سينمائية تضاف الى سجل هذا المخرج الحافل وما عرف عنه من خوض غمار المصاعب لتصوير رحلات في أجواء غرائبية او بيئات صعبة، وابطال ذوي احلام مستحيلة، تتجسد في الغالب في حكايات عن صراع الانسان مع الطبيعة في افلامه الروائية والوثائقية العديدة ومن ابرزها “فيتزجيرالدو” و”أغويرا او غضب الرب”. بيد أن العرض العالمي الأول لفيلم “ملكة الصحراء” في مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرلينالة)، شكل خيبة أمل كبيرة بالمقارنة مع حجم التوقعات الذي رسم له، فجاءت النتيجة على الشاشة في النهاية فيلما هوليوديا تقليديا يتناول قصة حب رومانسية ورحلات في الصحراء العربية، ويصعب أن نصدق أنه فيلم يحمل توقيع هيرزوغ نفسه مقارنة بافلامة ومغامراته السابقة. لم يستطع المخرج أن يقارب الغنى والتعقيد الكبيرين الذين ميزا شخصية مثل مس بيل، الرحالة والمستكشفة والآثارية والمستشرقة المهتمة بدراسة اللغات والتاريخ القديم والمختصة بشؤون العشائر العربية فضلا عن ضابطة الاستخبارات لاحقا والسكرتيرة الشرقية والمستشارة للمعتمد السامي البريطاني في العراق، والتي كان العراقيون يلقبونها بـ “الخاتون” لحجم تأثيرها في سياسة بلدهم، ويلقبها البعض بصانعة الملوك، بل سماها البعض مماحكا بـ “أم المؤمنين”، كما كتبت في احدى رسائلها إلى والدها. ويضاف الى ذلك غنى الحقبة التاريخية التي عاشت فيها وساهمت في صنع خياراتها في عالم قديم يتقوض ونشوء عالم جديد وتوزيع جديد للنفوذ في العالم بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. الحب والسياسة وعلى الرغم من المخرج اختار ان يفتتح فيلمه باجتماع شهير حضره ونستون تشرشل، وزير المستعمرات أنذاك (أدى دوره الممثل كريستوفر فلفورد) لتقاسم النفوذ في مناطق الامبراطورية العثمانية (الرجل المريض) بعد الحرب العالمية الاولى، الا انه لم ينشغل بتعقيدات السياسة وجعل هذه الاحداث مجرد خلفية لمغامرة بطلته في الصحراء أو قصص حبها الفاشلة. فبدت الشخصيات السياسة مفرغة من تأثيرها الاساسي بل وأقرب إلى الشخصيات الكاريكاتيرية، كما هي الحال مع شخصية لورانس التي جسدها روبرت باتنسون، وقد اثار ضحكات جمهور المشاهدين عند ظهوره بزيه العربي، لاسيما وان الكثيرين يتذكرون الاداء المميز للممثل القدير بيتر أوتول لهذه الشخصية في “لورانس العرب”. وكذلك الحال مع تشرشل وهو يقف لالتقاط صورة له او يحاول امتطاء جمل أمام الاهرام. قال هيرزوغ في المؤتمر الصحفي الذي اعقب عرض الفيلم “ينبغي أن ينظر الى الفيلم كقصة وليس درسا في التاريخ يناقش الحدود في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى”. من هنا جاء خياره لاغفال السنوات العشر الأخيرة في حياة بيل وتحديدا عملها في العراق، ودورها في صناعة سياسة هذا البلد وحدوده واختيار ملكه بل وما حكم مساره المستقبلي. وهي في الواقع السنوات الأغنى والأكثر اهمية في حياة مس بيل وتطور شخصيتها، كما تمتلك غنى دراميا عاليا يبلغ ذروته مع موتها التراجيدي بعد تناولها جرعة كبيرة من الحبوب المنومة في عام 1926، الذي لم يظهره الفيلم. وعلى العكس مما قاله هيرزوغ في مؤتمره الصحفي إنه اهمل “التعقيدات السياسية” لمصلحة تجسيد غنى “حياتها الداخلية”، نرى أنه في واقع الحال أنه لم يسبر أغوار عالم هذه الشخصية المعقدة الغني، وانتهى إلى تقديم صورة مبتسرة ومسطحة لعاشقة رومانتيكية تداري خيبتها العاطفية برحلات الى الصحراء تبتعد فيها عن ذكرياتها المؤلمة. مع ان غرترود بل تركت تراثا غنيا من الرسائل وثق أدق تفاصيل حياتها اليومية وانطباعاتها عن الناس والواقع السياسي المحيط بها> اذ كانت درجت على كتابة يومياتها وتوثيقها في رسائلها إلى عائلتها على مدى عقود طويلة، فضلا عن عدد من الكتب والتقارير التي وثقت بعض رحلاتها ومشاركاتها في التنقيبات الأثرية أمثال كتابها عن سوريا الصادر عام 1907 الذي وثقت فيه رحلتها الاولى في فلسطين والشام مرورا بمناطق الدروز وكتابها المشترك مع الاثاري وليم رامزي “الف كنيسة وكنيسة”، فضلا عن رحلتها من حلب مع مجرى نهر الفرات الى قصر الاخيضر في العراق التي وثقتها في كتابها الصادر عام 1909 ثم عودتها عام 1911 الى قصر الاخيضر واصدارها كتاب ضخم عنه صدر عام 1914. لقد أهمل السيناريو الذي كتبه هيرزوغ نفسه هذا الغنى التوثيقي الكبير في حياة بيل، واستند على ما يبدو على جزء من السيرة التي كتبتها مطلع الستينيات اليزابيث بورغوين في جزئين بالاستناد إلى رسائلها التي اعادت نشر بعضها كاملة بعد ان كانت تعرضت لرقابة وحذف الكثير من التفاصيل في طبعتها الاولى عام 1927. على سبيل المثال لا الحصر رحلة الاخيضر وتلك التنقيبات في مواقع اثرية مختلفة لم نرها في الفيلم على الرغم من وقوعها في المرحلة الزمنية التي تناولها ومن أهميتها في تشكيل خيارات مس بيل في حياتها اللاحقة، ولم نر سوى الرحلة في الشام ومشهد استقبال زعيم الدروز الذي بدا مثقفا ويجيد الفرنسية في مشهد حفل بالرقص الشرقي بحضور زعماء الطائفة الدينيين!! ثم رحلتها الى الطائف لاحقا. سيناريو مرتبك وهكذا بدت بيل في فيلم هيرزوغ فتاة ارستقراطية انجليزية ورومانتيكية تعشق المغامرة والسفر وذكية تخرجت من اكسفورد بمرتبة شرف تقنع والدها بارسالها في رحلة الى طهران حيث يقيم قريب العائلة الدبلوماسي السير فرانك لاسلز وزوجته، وهناك تقع في حب دبلوماسي شاب يدعى هنري كادوغان (الممثل جيمس فرانكو) يعلمها الفارسية ويشتركان في حب الشعر (لبيل ترجمة معروفة لديوان الشاعر الفارسي حافظ صدرت عام 1897) ويقرران اعلان خطوبتهما لكنهما يواجهان معارضة والديها اللذين ينصحانها بالتريث لسمعة كادوغان كمقامر مثقل بالديون، واثناء عودتها الى بريطانيا لاقناع والديها يتوفى كادوغان بمرض غامض. فتظل مخلصة لحبها هذا وتلقب نفسها بالارملة وتحاول العودة الى الشرق وخوض رحلات في الصحراء بعد تلك التجربة. وفي قونية تتعرف مس بيل على كابتن في الجيش البريطاني يدعى تشارلز دوتي- وايلي (الممثل داميان لويس)، وتخوض تحربة حب جديدة معه، لكنه كان متزوجا وعندما يفاتحها بتطليق زوجته والزواج منها ترفض ان تكون سعادتها على حساب تعاسة امرأة اخرى وتدمير عائلتها وتهرب من هذا الحب في رحلة جديدة تقرر فيها استكشاف صحراء الجزيرة العربية. وهي رحلة محفوفة بالمخاطر بسبب الصراع بين القبائل المتنافسة، حيث تنتهي باحتجازها لدى قبائل شمر حائل حتى عودة أميرها الذي كان غائبا في رحلة، وسط جو من التوتر والقتال بين اتباعه واتباع امير نجد عبد العزيز ال سعود، وهنا يشير الفيلم الى ادراك مس بيل لنفوذ ابن سعود المتزايد في الجزيرة العربية واضمحلال نفوذ منافسية. وتتواصل جذوة حبها الجديد بالتأجج والخفوت عبر رسائل أو لقاءات متفرقة في الشرق الأوسط او لندن، قبل ان تنتهي هذه القصة نهاية مأساوية بمقتل الكابتن دوتي- وايلي في الحرب العالمية الاولى بعد التحاقه بجبهة الدردنيل. ويكتفي هيرزوغ في نهاية فيلمه بتلميح بسيط الى دور مس بيل اللاحق في العراق، عبر مشهد لقائها بالأميرين الهاشميين عبد الله واخيه فيصل (ملكا العراق والاردن لاحقا). لقد ترك هذا السيناريو المرتبك أثارة في مختلف الجوانب الأخرى والعناصر الفنية المختلفة للفيلم، فنجد ممثلة مُجيدة مثل نيكول كيدمان تجاهد في اداء الشخصية في حدود المشاهد المرسومة لها، بين الفتاة الحالمة والمرأة القوية حادة الذكاء والمغامرة. وإذا استثنينا شخصية فتوح مرافق مس بيل ودليلها في كل رحلاتها، التي أداها بنجاح الممثل السوري الاصل غاي أبدو، بدت الشخصيات العربية الأخرى شاحبة الحضور وغير متقنة الأداء كما هي الحال مع صور الأميرين فيصل وعبد الله أو أمير حائل، على الرغم من حرص المخرج على تجنب تقديم صورة نمطية مشوهة للشخصية العربية اعتدنا ان نراها في الكثير من أفلام هوليود التي تظهر فيها شخصيات عربية، وحرص على تقديمها من منظور إيجابي استنادا إلى منظور مس بيل نفسها. وبقي ظل تحفة ديفيد لين “لورانس العرب” مهيمنا على العديد من العناصر التعبيرية والفنية الاخرى في الفيلم كما هي الحال مع الموسيقى التصويرية التي كتبها كلاوس باديلت ترسمت كثيرا خطى موسيقى موريس جار في الفيلم المذكور في محاولة استثمار وايقاعات وعناصر موسيقية محلية لكنه وقع في خلط كبير في التعامل مع موسيقى المنطقة ككل واحد، فنجده يستخدم صوت غناء ينتمي الى مقامات الغناء الايراني وآسيا الوسطى في مشاهد الصحراء مع وجود كلمات عربية فيه، ربما بدا مثل هذا الاستخدام مبررا في مشاهد طهران لكنه لا يتناسب مع ايقاعات الصحراء العربية المختلفة. وانسحب ذلك ايضا على اللهجات المستخدمة في الفيلم، حيث نجد أن البعض كان يتكلم العربية بلكنة مغاربية مختلفة عن المشرق العربي، (صور الفيلم في ثلاث بلدان هي بريطانيا والمغرب والاردن). لم يخل الفيلم من مشاهد جمالية للصحراء او للريف الانجليزي قدمتها كاميرا بيتر زيتلينغر، لاسيما مشاهد قوافل الجمال في الصحراء، لكنها تظل دون المشاهد الجمالية العالية للصحراء التي قدمها فريدي يونغ عبر تصويره بنظام (سوبر بانفشن 70 ملم) في لورانس العرب. يحلو للبعض من النقاد وصف فيلم “ملكة الصحراء”بأنه النسخة النسوية من “لورانس العرب”، وهذه هي ….

من almooftah

اترك تعليقاً