مكة تكتب “تاريخ الخط العربي وآدابه” قبل 77 سنة
أ.حسن محمد شعيب
كان لدراسة الكردي في الأزهر الشريف بمصر – عام 1340هـ لمدة سبع سنين – أثرُها عليه حين التحق بمدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية ؛ فبرع وتخرّج منها خطاطاً معتمداً في الخط العربي والزخرفة والتذهيب ، واتصل خلال دراسته هناك بكبار الخطاطين المصريين والأتراك ، واطلع على عظيم مؤلفاتهم مما ندر وجوده لدى غيره ؛ فكان أن اجتهد في وضع كتابٍ يؤرّخ فيه للخط العربي استغرق إعداده والرجوع إلى مصادره – العربية والتركية النادرة – ثلاث سنوات أنتجت هذا المصنّف الضخم الفخم شاهداً على عَرَاقةِ هذا الفنّ وعلى تمكّن المؤلف معرفةً وفناً ؛ حيث كانتْ عناوينُ المباحث والموضوعات بخطّ يدِه وبعض اللوحات من إنشائه بكل أنواع الخطوط التي أبدعَ فيها أيّما إبداع .
يتكوّن الكتاب من مجموعة من المباحث فلم يقسّمه المؤلف إلى أبواب وفصول ، ولكنها مع ذلك جاءت جامعةً مانعةً كما يعرّف بها في أولى صفحاته بخطه الجميل إذ يقول : “كتابٌ يبحث عن تاريخ الخط العربي قبل الإسلام وبعده ، وانتشاره بين الأمم ، وعن اللغات التي تكتب به ، وعن دخول الخط في الحرمين الشريفين ، وعن أطواره وتدرّجه في التحسين ، وعن أسماء الخطوط القديمة والحديثة ، وعن واضع كل نوع منها ، وعن علة تسمية الأقلام ، ومقاساتها ، وعن ما يوجد من الخطوط والآثار القديمة ، وعن أسماء من يعرف الكتابة على الحُبُوب ، وعن أسماء الخطاطين وطبقاتهم من أهل الحجاز الأفاضل وغيرهم من بَدْءِ الإسلام إلى يومنا هذا ، وعن سلسلة الخطاطين وسَنَدِهم ، وعن تاريخ ظهور تشكيل الحروف وتنقيطها ، إلى غير ذلك من المباحث والفوائد القيمة”.
تبلغ صفحات الكتاب في طبعته الثانية 552 صفحة بزيادة أكثر من 80 صفحة عن الطبعة الأولى كان معظمها تراجم أضافها المؤلف ؛ فنصْفُ الكتابِ أصلاً تراجمُ للخطاطين بصُورهم الفوتوغرافية ونماذج من خطوطهم ، وقد اجتهد فيه المؤلفُ اجتهاداً عظيماً جعل كل من كتب في تاريخ الخط العربي بعدَهُ عَالَةً على كتابه .
حوى الكتابُ مَباحثَ كثيرةً حول الكتابة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وتاريخ التشكيل والنقط ، والورق والأقلام ، وأنواع الخطوط العربية بشكل مفصّل بالصور ، والكراريس العربية في الخط العربي ومشاهير خطاطيها ، ولعل من أعجب المباحث مبحثٌ بعنوان ( فلسفة الخط وأسراره ) تعرّضَ فيه المؤلفُ لبعض ما يُعرف الآن بعلم الجرافولوجي ( تحليل الشخصية عبر خط اليد ) بشكل بدائي مبسّط في مباحث مثل : تأثّر الكتابةِ بتأثّر الكاتِب ، اختصاصُ الخطّ بالرجالِ دُونَ النّساء ، ارتباطُ سُرُورِ النّفْسِ بجَمَالِ الخَط ، عدمُ وُجود شخصيْن تتشابَهُ خطوطُهما في جميعِ الحُرُوف .
وتناول أيضاً مباحثَ أخرى في إبداعِ اللغةِ العربيةِ في جمالِ خطّ حُرُوفها ، والعناية بكتابةِ المُصْحَفِ الشَريفِ عبْرَ التاريخ ، وتاريخِ كتابتِهِ ، واستعراضِ الخطوط المكتوبةِ على الآثارِ الحَجَريّة القديمة .
ولعل أهم المباحث بالكتاب ( سلسلةُ الخطاطين وسَنَدُهم ) الذي تناول المؤلفُ فيهِ السَّنَد التّركي والسَّنَد المِصْري في الخط فقط ؛ حيث أثبتَ لتعلّمِ الخط العربي مَشائِخَهُ الذين يُؤخَذُ عنهُمْ بالسند المتصل بأهلِهِ كاتباً عن كاتبٍ عَبْر سِلْسلةٍ من كِبَارِ الخطاطين والكَتَبَة حتى عهد التابعينَ والصَّحَابةِ الكِرام رضوان الله عليهم ، ولمّا كان المؤلفُ مُتَّصِلَ السَّنَدِ في هذا الفن ؛ فتجده يثبتُه هنا عبر مشائخه فيه ؛ فيذكرُ في سنده التركي أخذَهُ عن شيخهِ الخطاط التركي محمد عبد العزيز الرّفاعي ، والذي أخذ عن شيخه الخطاط الحاج أحمد العارف الغلبوي .. وهكذا حتى ينتهي السند – بعد ذِكْر 37 شيخاً خطاطاً – إلى سيدنا علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) عن بشر بن عبد الملك وحرب بن أمية اللذين ينتهي عندهما سَنَدُ الكَتَبَة الخطاطين ، وقد ذُكر الكرديُّ في هذا السَنَد من الخطاطين المشهورين : ياقوت المستعصمي ، وعلي ابنُ البواب ، والوزير ابنُ مقلة وغيرُهم من أعمدة الخط العربي المعروفين ، وفي السند المصري يأخذُ الكرديُّ عن الخطاط محمد أفندي إبراهيم ، عن عن .. حتى ينتهي إلى ما ذكر سابقاً من مشائخ السَنَدِ التركي .
وتحتلّ التراجمُ نِصْفَ صَفَحَاتِ الكِتاب ؛ حيثُ سَرَدَ أسماءَ الخَطّاطينَ بمِيلادهم ووفيّاتهم – قدر الإمكان – منذُ بَدْءِ الإسلامِ إلى عَصْرِ المُؤلِّف ، مُصَنِّفاً لهُم إلى ثلاثةِ أقسامٍ : الخطاطينَ من السلاطين والوزراء والباشوات ، الخطاطين من العلماء ، النساء الخطاطات ، ثم يسرد بقية الخطاطين – والخطاطات أحياناً – مُرَتّبين على حروف الهجاء ؛ ليجاوزوا مُجْتمِعينَ 1000 خطاطٍ ، تَرْجَمَ منهُم لنَحْوِ 341 خطاطاً وخطاطةً ، منهُم 13 خطاطاً من الحجاز ( ترجم المؤلفُ لنفسِهِ مَعهم ) ، إضافةً إلى 36 من مشاهير الخطاطين المعاصرين من مشائخهِ ، ثم أضاف 14 ترجمةً أخرى لخطاطين لم يُذكروا بالطبعة
الأولى للكتاب ، واستكتبَ فيهم المؤلفُ مَنْ يَعْرفُ مِنْ خطاطي العراق ومصر والشام المعاصرين له ، فبعثوا بأسماءِ قَوائِمَ خطاطيهم وبعض تراجمهم التي كتبها بعضُهُم بقَلَمِه .
وكانتْ خَاتِمَةُ الكِتابِ في عِدّةِ مَباحثَ عَنْوَنَ لها المُؤلفُ بفَوَائِدَ عَامَة ذَكَرَ مِنْهَا : علامات التَرقيم ، إرشادات لمُتعلِّمي الخط ، وآثار أدبيّة في تعلِيمهَ ، ووَصْفٌ للكتابة وأدواتِها ، وآدابُ كتابةِ القرآنِ الكريمِ ، وعِدّةُ مَا كُتِبَ مِنَ المَصَاحِف .
* مِن آخِرِ السّطْر :
هذا الكِتَابُ الرّائِدُ تُحْفةٌ فَنيّة وثقافية في مَوضُوعِه ، ومَفْخَرَةٌ لخَطّاطِي مكة المكرمة والمملكة عامةً ، فبَعْدَ مُرُورِ أكثرِ مِنْ 33 سنةَ على طَبْعَتِهِ الثانية ونَفَادِ نُسَخِها بل نُدْرَتِها ؛ ألا يَستحِقُّ إعادَةَ طَبْعِهِ طِبَاعَةً فاخرةً تَلِيقُ بهِ ؟! تَسَاؤُلٌ ورَجَاءٌ أضَعُهُ أمَامَ وزارة الثقافةِ والإعلامِ ، والجمعيّةِ العلميّةِ السعوديةِ للخطّ العربيّ بجَامعةِ أمِّ القُرَى .
وكتبه في 21 رجب 1435هـ